البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حديث الغدير و سريّة اليمن - القسم الثاني -

الباحث :  أ.د. الشيخ محمّد شقير
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  25
السنة :  خريف 2022م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 3 / 2022
عدد زيارات البحث :  981
تحميل  ( 1.122 MB )
الملخّص
إستكمالاً للملاحظات النقدية التي أوردناها في القسم الأول من البحث، نذكر في هذا القسم ‏الثاني بقية الملاحظات الواردة على فرضية الوصل ما بين حديث الغدير من جهة، ‏وشكوى سريّة اليمن وردّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عليها من جهة أخرى، حيث سنعالج الموضوع من ‏حيثية مخاطُب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأسباب حديث الغدير وشكوى سريّة اليمن، والمقارنة بين ‏الواقعتين بلحاظ الأحداث والعناصر، وفهم من تلقّى خطبة الغدير وتعبيره عن فهمه هذا، ‏وافتقاد خطبة الغدير وواقعتها إلى القرائن التي قد يُستند إليها للوصل مع شكوى سريّة ‏اليمن، والمقارنة بين مفردات وعناصر كل من نصّ الغدير ونصّ الشكوى، والإلفات إلى ‏أن العبرة بظهور اللفظ وليس سبب الواقعة (شكوى سريّة اليمن)، وصولاً إلى البحث في ‏لوازم المحبة على فرض كونها مدلول حديث الغدير؛ كلّ هذه الملاحظات وغيرها مما ‏ورد في القسم الأول من البحث، يجعل من غير المقبول الركون إلى فرضية الوصل ما ‏بين حديث الغدير وشكوى سريّة اليمن، ومطلوبية الذهاب تالياً إلى الاعتقاد بكونهما ‏واقعتين منفصلتين عن بعضهما البعض، وعدم الصلة بينهما.‏

الكلمات المفتاحية
{ الإمام علي(عليه السلام)، تطابق،حديث الغدير، شكوى سرية اليمن، فرضية الوصل، الملاحظات النقدية}


The covert of Yemen, Hadith Ghadir, and the matter of connection Comparative analysis
‎2nd section‎

Dr. Mohammed Shaker
Lebanese University
Abstracts

‎ To complete the critical notes that we reported in the first section of the study, we ‎mention in the second section the rest of the presented notes on the link assumption ‎between Hadith Ghadir from one side and the complaining of the covert of Yemen ‎and the response of the prophet (God's blessing him, and his family) on it from ‎another side, which we are going to address the matter from the circumstance of the ‎prophet talking and the reasons of Hadith Ghadir and the complaining of the covert of ‎Yemen, and the comparison between the two incidents, and understand who received ‎the talk of Ghadir and his interpretation about his understanding, and the absence of ‎Hadith Ghadir and its reality to the evidence which support it to connect to the covert ‎of Yemen, and the comparison between terms and elements all of the text of Hadith ‎Ghader, and the text of the complaining, and notify the lesson to show the term and ‎not the reason of the incident. Leading to investigate the evidence of loving, assuming ‎that sense of Hadith Ghadir, all those notes and the others in the first section of the ‎study make it unacceptable to agree to the assumption of the link between Hadith ‎Ghadir and the complaining of the covert of Yemen, and the need to believe that they ‎are separated incidents from each other, and there is no connection between them.‎

keywords: Imam Ail (p) - Hadith Ghadir- the complaining of the covert of Yemen-the critical ‎notes- the assumption of a connection

سادسًا: مخاطَب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بمعنى الفئة الّتي توجّه إليها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بخطابه، والّتي شكَت عليًّا(عليه السلام) إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فردّ عليها بجوابه الآنف الذِّكر؛ فمن هي هذه الفئة؟ ومن هم هؤلاء الأفراد؟ حيث إنّ مبرّر طرح هذا السّؤال، هو أنّه عندما نعلم من هم الّذين اشتكوا عليًّا(عليه السلام)، نستطيع عندها أن نحدّد من هم الّذين توجّه إليهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بخطابه، والّذين يُكتفى بتحقيق هدف الخطاب (أي خطاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) بالرّد عليهم، فإن كانوا عموم المسلمين الّذين كانوا في حِجّة الوداع؛ فيمكن عندها أن نتعقّل فرضيّة أن يكون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد توجّه بخطابه إلى عموم المسلمين ونرتضي بها، وأمّا إن كانوا فئة محدّدة من المسلمين، فعندها سيكون فرضيّة مقبولة -بهذا الّلحاظ- أن يتوجّه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بخطابه إلى تلك الفئة بخصوصها.

إنّ المُستَفاد من النّصوص التّاريخيّة أنّ الّذين شكوا عليًّا(عليه السلام) إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، هم أفراد تلك السّريّة (الجيش) -أو جملة منهم- الّتي كان عليّ بن طالب(عليه السلام) أميرًا عليها، والّتي رجعت من اليمن إلى مكّة المكرّمة في حجّة الوداع، حيث عبّرت تلك النّصوص عن أولئك الشّاكين مرّة بالنّاس: «إشتكى النّاس عليًّا[1]»، وأخرى بالجيش: «وأظهر الجّيش شكواه[2]»، وثالثةً بأصحاب عليّ(عليه السلام): «ما لأصحابك يشكونك؟[3]».

وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما ذكره الواقدي، مِن أنّ عدد أفراد السّريّة كان ثلاثمائة فارس، «فخرج [أي عليّ(عليه السلام)] في ثلاثمائة فارس[4]»، وأنّ الإمام عليّ(عليه السلام) قد جرّد بعض أفراد تلك السّريّة من ثوبيه: «فأبى عليّ(عليه السلام) أن يفعل ذلك، حتّى جرّد بعضهم من ثوبيه[5]»، مِمّا قد يُفهم منه إمّا أنّ بعض أفراد السّريّة فقط قد خالف أمر الإمام عليّ(عليه السلام)، أو أنّ الإمام(عليه السلام) قد جرّد البعض دون الآخر، وهذا الاحتمال الثّاني مستبعد جدًّا، فيُرجّح الاحتمال الأوّل، أنّ بعض أفراد السّريّة فقط هو الّذي خالف أمر الإمام عليّ(عليه السلام) بعدم التّصرّف بالحُلل -أو الإبل أيضًا-؛ مِمّا قد يشكّل قرينة إضافيّة على عدم صوابيّة دعوى من حاول تبرير عملية الوصل بين الشّكوى وخطبة الغدير، بكون الشّكوى قد كثرت وفشت بين النّاس؛ إذ إنّ ما يُستَفاد من تلك الأدلّة التّاريخيّة أنّ تلك الشّكوى قد كانت محدودة ومحصورة في عدد محدّد، وأنّها كانت قضيّة موضعيّة، عالجها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بخطبته تلك الّتي خطبها في مكّة على إثر الشّكوى، وانتهى الأمر عند هذا الحدّ.

إنّ ما نريد قوله، هو إنّ الشّكوى عندما تكون مرتبطة بتلك السّريّة على وجه الخصوص، أو بذاك البعض الّذي جرّده الإمام عليّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من ثوبيه على وجه التّحديد؛ فهذا يعني أنّ الفئة الّتي تقتضي طبيعة الأمور أن تكون هي المستهدفة بخطاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ هي تلك السّريّة، أو جملة أفرادها -فيما لو فرضنا أنّ بعضًا منهم لم يستمع مباشرةً إلى خطاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)- حيث من المفترض أن يصل ذلك الخطاب إلى كثيرٍ من النّاس، بل إلى مجملهم، عندما يستمع إليه المئات من أفراد تلك السّريّة، وغيرهم أيضًا مِمّن شهد تلك الخطبة، لأنّه من البعيد أن يكون في موسم الحجّ ذاك في مكّة المكرّمة أكثر من مائة ألف من المسلمين مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يشهد بعضهم خطبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الّتي ردّ فيها على شكوى سريّة اليمن، ويستمع إليها؛ وهو ما يعني أنّ كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الردّ على تلك الشّكوى ينبغي أن يكون قد سمعه المئات، أو ربّما الآلاف مِمّن كان حاضرًا يومها مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ التّعبير الّذي استُخدِمَ في نقل جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الخطبة: «فقام فينا خطيبًا». والخطبة تكون في ملأ وجمعٍ من النّاس؛ وهو ما يعني أنّ جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك قد وصل إلى مجمل من يعنيه الأمر، بل أكثر، حيث يُفتَرَض بهؤلاء أن ينتهي الالتباس لديهم فيما فعله الإمام عليّ(عليه السلام)؛ فلماذا تكثر الشّكوى بعد هذا؟ ولماذا يكون لها تلك المضاعفات الّتي يذكرها أولئك؟ وكيف يدّعى كثرة القيل والقال في عليّ(عليه السلام) بعد خطبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تلك، مع أنّ دعوى أنّه قد استمرّت الشّكوى وكثرت بين النّاس؛ لا يوجد أيّ دليل عليها على الإطلاق، وكل ما ذكره أولئك هو مجرّد دعوى باطلة، لا دليل عليها، ولا شاهد يسعفها.

وحتّى لو بنينا على كون بعض الشّكاوى من بعض الأفراد، قد حصل لاحقًا بعد حجّة الوداع في المدينة -كشكوى أبي سعيد الخدري، بحسب ما أخرجه البيهقي[6]-؛ فإنّ هذا أيضًا لا ينفع أصحاب تلك الدّعوى:

أوّلًا: لأنّ ما ينفعهم في دعواهم أنّ الشّكوى قد كثرت وفشت قبل واقعة الغدير، حتّى تكون خطبة الغدير ردًّا على ذلك، أمّا أن تكون هناك شكوى أو أخرى بعد واقعة الغدير، فهذا لا يفيدهم في دعواهم تلك، إذ لا يُعقل أن تكون الخطبة ردًّا على أمرٍ قد حصل بعدها.
ثانيًا: لأنّ حصول شكوى من فردٍ -أو أفراد- ليس دليلًا على أنّ الشّكوى قد كثرت وفشت، بمستوى يستدعي من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخطب في عشرات الآلاف من المسلمين يومها، كما حصل في غدير خُمّ، وفي ظرفٍ تاريخي مفصلي، يتطلّب منه بيانًا أو أكثر في قضايا أخرى غاية في الأهمية والخطورة.

وهذا الفهم -أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد توجّه بخطابه إلى تلك السّريّة- هو الّذي تدلّ عليها النّصوص التّاريخيّة ذات الصِّلة- إذ ينقل ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري، قال: «اشتكى النّاس عليًّا رضوان الله عليه، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فينا خطيبًا»، حيث إنّ المُستَفاد من قوله «فينا»، هو تلك السّريّة -بمعزلٍ عن أن يكون أحدٌ آخر أيضًا- لأنّ أبا سعيد الخدري قد كان أحد أفراد تلك السّريّة، بحسب ما يذكر البيهقي. أمّا ابن الأثير، فيقول: «... فشكاه الجّيش إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبًا...[7]»؛ مِمّا يُشعر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد توجّه بخطابه -بالحدّ الأدنى- إلى ذاك الجّيش (السّريّة).

وهو أمر جدًّا عقلائي، وينسجم مع ما تقتضيه طبيعة هكذا مواقف، عندما يكون هناك التباسٌ لدى فئة ما (الجّيش)، يفضي إلى تقديم شكوى؛ أن يبادر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مخاطبة تلك الفئة بخصوصها، وأن يغتنم فرصة حضورها مجتمعة قبل أن تتفرّق، حتّى يصل الجّواب إلى جميع أفراد تلك السّريّة ومن قد وصلته الشّكوى، لأنّ هذا هو الّذي يسهم في إزالة الالتباس من أذهان أفراد السّريّة، الّذين حصل لديهم ذاك الالتباس، فيما فعله الإمام عليّ(عليه السلام) في ذاك المورد؛ فضلًا عمّا ذكرناه سابقًا من مطلوبية المبادرة من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى معالجة الموقف مباشرة دون أيّ تأخّر، حتّى لا تتفاقم الأمور ويشيع الالتباس، وهو ما يقتضي أن يتوجّه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب إلى تلك السّريّة مباشرةً، وإلى مجمل أفرادها. وهو الّذي حصل بحسب تلك المصادر التّاريخيّة.

وعليه، إذا كانت تلك الأدلّة التّاريخيّة تذكر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ردّ على شكوى سريّة اليمن بخطاب إلى السّريّة نفسها، -أو ربّما أيضًا من كان حاضرًا يومها من غيرها- فعندها سيكون السّؤال مشروعًا حول ذاك الوصل، الّذي سعى البعض إلى إبرازه، بين شكوى سريّة اليمن، وبين خطبة الغدير؛ فإن كان قصده أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ردّ على شكوى سريّة اليمن، بخطبة استهدف بها جموع المسلمين في غدير خُمّ؛ فليس هذا المُستَفاد من النّصوص التّاريخيّة، فضلًا عن السّؤال عن الدّاعي الّذي يتطلّب من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن تشتكي لديه تلك الفئة، بناءً على التباس لديها، فلا يجيبها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يردّ على شكواها، وإنّما يجيب عموم المسلمين، مع أنّ مقتضي هكذا مواقف، تتطلّب أن يتوجّه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهلها بجوابه، ويستهدفها هي بخطابه.

وإن كان المقصود أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أعاد الرّد مجدّدًا في غدير خُمّ، عندما توجّه إلى عموم المسلمين بخطبة الغدير، فهذا ما لا يُستَفاد من كلام مدّعي الوصل ذاك. وإن كان هذا ما يقصدونه، فسيبقى السّؤال مشروعًا عن الدّاعي الّذي يتطلّب أن يعاود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّه على تلك الشّكوى مجدّدًا، بعد أن توجّه بالرّد إلى تلك السّريّة الّتي اشتكت، وأجابها بما يجب أن تسمعه من جواب، وأوفاها بما يجب أن يصل إليها من خطاب. فلماذا يبادر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خطاب عموم المسلمين، ويوسّع من دائرة جوابه إلى عشرات الآلاف من الحجيج، بل ربّما ما يفوق المائة ألف منهم، بعد أن كان الأمر مقتصرًا على ثلاثمائة من أفراد السّريّة دون غيرهم؛ فإن كان هؤلاء هم المعنيون بالخطاب، ومن يجب أن يتوجّه إليهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالبيان، فلماذا إذن التّوجّه إلى غيرهم، وشمول الخطاب لأضعاف أضعافهم؟ بل لماذا يترك النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك الالتباس يشيع ويفشي بين النّاس، ليصل إلى ما وصل إليه بحسب دعوى أولئك؟! فليس هذا من حكمة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا هذه هي طريقته في التّعامل مع تلك الشّكوى. وخصوصًا عندما نأخذ بالحسبان أنّ خطبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسريّة -وأيضًا غيرها مِمّن كان حاضرًا يومها- تعني حضور المئات، بل ربّما الآلاف، وشهودهم تلك الخطبة، ما يعني أنّ هذه الخطبة سوف يتمّ تناقلها بين جموع المسلمين، ومجمل من كان في موسم الحجّ يومها، ما ينفي أي مبرّر لإعادة الخطبة في الموضوع نفسه.

هذا فضلًا عن أنّ المُستَفاد من تلك النّصوص التّاريخيّة ذات الصِّلة -وهذا الّذي نرتكز عليه في مقام المناقشة هذه، في حين أنّ التّحليل الّذي نبرزه في هذا المورد ليس إلّا بمثابة مؤيّد لما يستفاد من الأدلّة التّاريخيّة في المقام- أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ردّ على شكوى السّريّة بخطاب إلى السريّة نفسها، وانتهى الأمر عند هذا الحدّ، وأنّه لم يستأنف خطابًا جديدًا في الموضوع نفسه، يتوجّه به إلى فئة أخرى، أو إلى عموم المسلمين، ومن كان في حِجّة الوداع يومها.

وعليه، لا بدّ من القول إنّ دعوى البعض أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد استمع للشّكوى من سريّة اليمن -أو جملة من أفرادها- فلم يردّ على تلك السّرية بخطاب موجّه إليها، وإنّما ردّ عليها بخطاب استهدف عموم المسلمين الّذين كانوا معه في غدير خُمّ، فهذا مِمّا لا تساعد عليه حقيقة ما يجب أن تكون عليه مجريات الأمور في هكذا مواقف؛ والأهم من ذلك، لا تدلّ عليه تلك النّصوص التّاريخيّة الّتي تحدّثت عن الفئة المستهدفة بجواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وردّه على الشّكوى، وهي السّريّة الّتي تقدّمت بالشّكوى إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسها دون سواها.

وبناءً عليه، إذا نظرنا إلى تلك الدّعوى من جهة حيثية الفئة المستهدفة بخطاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وردّه؛ لن تكون تلك الدّعوى دعوى صحيحة، بل هي مجرّد تخرّص، ومحاولة التفاف على حديث الغدير، لصرفه عن دلالته على الخلافة؛ محاولةٌ لا تسعفها الأدلّة، بل هي تقوم على خلافها، وتفضي إلى بطلانها.

سابعًا: في أسباب نصيّ الغدير وشكوى اليمن: إنّ معاينة سبب كلٍّ من نصيّ الغدير وشكوى اليمن، يمكن أن تشكّل قرينة إضافية -عدا عمّا ذكرنا من قرائن- على الفصل بين الواقعتين -واقعة الغدير وواقعة شكوى اليّمن- ونصّيهما، وعلى عدم صحّة الدّمج بينهما، بالطّريقة الّتي يفعل أصحاب دعوى الوصل.

من الواضح أنّ قضية شكوى سريّة اليّمن تتّصل بما حصل في موضوع الحُلَل الّتي انتزعها الإمام علي(عليه السلام) من أفراد السّريّة، الّذين لبسوا تلك الحُلَل خلافًا لأمره (وقد يُضاف إليها قضية ركوب الإبل أيضًا)، كما صرّحت بذلك مجمل المصادر التّاريخيّة الّتي نقلت هذه الواقعة، مِمّا أدّى إلى حصول ذلك الالتباس لدى بعض -أو جملة- أفراد تلك السّريّة، فشكوا ذلك إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فردّ عليهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بذاك الكلام الآنف الذِّكر.

أمّا واقعة الغدير، فهي تتّصل بأسبابٍ أخرى، لا صِلة لها بأسباب شكوى سريّة اليمن، حيث لن نذهب بعيدًا في بيان هذه الأسباب وتحليلها، إنّما سنكتفي بما ذكره كلٌّ من ابن كثير في (البداية والنّهاية)، والألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، و(تخريج الحديث النّبوي الشّريف)، والحاكم النيسابوري في (المُستدرك على الصّحيحين)؛ مِن أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد صدّر خطبته بقوله: «كأنّي قد دعيت فأجبت»، أي هو يتحدّث عن وفاته ورحيله عن هذه الدّنيا، مع ما سوف يُحدِثه هذا الرّحيل من فراغ في موقع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيادته لهذه الأمّة، وهدايته لها.

ثمّ يتابع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كلامه ليبيّن لهم كيف يتصرّفون في حال حصل ذلك الفراغ في القيادة والهداية من بعده، ولمن يرجعون بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فيقول(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تاركٌ فيكم الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض...[8]».
وبعد أنّ يبيّن لهم لمن يرجعون إليه بشكل عام بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم) -أي كتاب الله وعترتي أهل بيتي-؛ فإنّه يعقّب ببيان من يرجعون إليه من أهل بيته بشكلٍ خاص، بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ دفعًا لأيّ التباس، ولتشخيص تلك المرجعيّة بشكل واضح؛ فيأخذ بيدِ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، ويقول(صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه، فعليّ مولاه»[9]، أي من كنت (النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) أولى به من نفسه في إدارة شؤونه الدّينيّة والسّياسيّة، فإنّ علّيًّا سيكون أولى به من نفسه في إدارة تلك الشّؤون، وهو سيتوّلى الموقع والدّور نفسه -عدا النّبوة- الّذي كنت أتوّلاه، وبالتّالي هو -أي عليّ(عليه السلام)- من سيملأ ذاك الفراغ القيادي من بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في شؤون الدّين والدّنيا.

وعليه، من الواضح المفارقة بين واقعة شكوى اليمن وواقعة الغدير، الأولى يرتبط البيان فيها بقضية جزئيّة ومحدودة الأهمّية، وهي قضية لبس تلك الحُلَل من أفراد السّرية ونزعها منهم؛ بينما تتّصل الثّانية بقضية مفصلية وغاية في الأهمّية والخطورة، وهي قضية وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما سوف تحدثُه في الأمّة من فراغٍ قياديّ كبيرٍ وخطيرٍ جدًّا، ليبيّن للأمّة من يجب أن ترجع إليه لدى حصول ذلك الفراغ، وصولًا إلى قضية الخلافة. الأولى ترتبط بأمرٍ قد حدث وانتهى (الشّكوى والرّد عليها)، والثّانية تتّصل بأمرٍ سوف يحدث، ولم تبدأ إلى ذلك الوقت (وقت واقعة الغدير) تداعياته ومضاعفاته. الأولى ترتبط بشكوى من شخص (الإمام عليّ(عليه السلام)) وجوابها، بينما تتّصل الثّانية بواقع الأمّة، ومساراتها القادمة، وتحدّياتها الّتي ستواجه.

الأولى ترتبط بمسألة موضعية (الحُلَل وركوب الإبل)، ينتهي مداها وأثرها ببيان حكمها من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما تتّصل الثّانية بمستقبل الأمّة، وقضية القيادة والهداية لديها، من دينية وسياسية. الأولى ترتبط بأفراد من سريّة اليمن تلك، هم -أي الّذين اشتكوا- بالعشرات أو المئات، بينما تتّصل الثّانية بالأمّة كلّ الأمّة، ومئات ملايينها، من ذاك الزّمان إلى يوم القيامة، في دنياها وأخراها.

وهنا، هل يصحّ لعاقل أن يخلط بين الواقعتين؟ وهل يمكن لمنصف أن يدمج بين النّصين؟
إنّ من يتجرّد من الأهواء والعصبيّات، ويكون قصده فقط وفقط تبيّن الحقائق، ستّتضح له هذه المفارقة بقليل تأمّل. ومن استطاع أن يتحرّر من النّظرة القداسوية إلى التّاريخ ومن كتب فيه، وخصوصًا أولئك الّذين عملوا في ركاب مشروع السّلطة الأمويّة واستهدافه لأهل البيت(عليهم السلام)، بإنزالهم عن مراتبهم الّتي أنزلهم الله تعالى فيها؛ يستطيع أن يتبيّن مدى الزيغ والخلط الّذي ارتكبه البعض، وأوقع فيه الكثيرين.

ثامنًا: في واقعتي الغدير وشكوى سريّة اليمن: في هذا المورد نريد المقارنة بين الواقعتين، بلحاظ كون كلٍّ منهما واقعة لها أحداثها وعناصرها، بمعزلٍ عن المعطى الّلفظي فيهما، وما قاله النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في كلٍّ من الواقعتين.

تتضمّن واقعة سريّة اليّمن العناصر التّالية: عودة سريّة اليمن إلى مكّة بعد أن سبقهم الإمام عليّ(عليه السلام) إليها ليدرك الحجّ مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعدها خروج الإمام عليّ(عليه السلام) ليلتقي السّرية لدى وصولها إلى مكّة في الأيام الأولى من شهر ذي الحِجّة، ليجد أنّ جملة أفراد السّرية -أو البعض منهم- قد خالف أمره بعدم ارتداء الحُلَل الّتي كانت معهم -ولربما أيضًا ركوب الإبل- فيجرّد بعضهم من الحُلَل الّتي ارتدوها، فيبادر هؤلاء -أو العديد منهم- إلى شكاية عليّ(عليه السلام) لدى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيرّد عليهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامه الآنف الذِّكر.
أمّا واقعة الغدير[10]، فتتضمّن العناصر التّالية: وصول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غدير خُمّ في وادي الجحفة في اليوم الثامن عشر من ذي الحِجّة، بعد أن أنهى حجّه في مكّة، حيث قطع مسافة حوالي 160 كلم، ليصل إلى ذلك الوادي الواقع على الطّريق بين مكّة والمدينة، فيتمّ اختيار عدد من الدّوحات (الأشجار الكبيرة)، ليُقمّ (يُنظّف) ما تحتهنّ، ليجتمع أكبر عدد ممكن من المسلمين الّذين كانوا معه يومها في ذاك المحفل، حيث أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بردّ من كان قد تجاوز ذلك المكان، والإبقاء على من كان موجودًا، وانتظار من لم يصل بعد، ثمّ ليُصنع له منبر من أقتاب الإبل، ثمّ ليَصعد عليه، ويُصعِد معه عليًّا، ثمّ يلقي خطبته تلك، ويأخذ بيد عليّ(عليه السلام)، ويقول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله المعروف: «من كنت مولاه، فعلي مولاه...»، وليُتوّج بعدها عليًّا عمامته «السّحاب[11]»، ثمّ تبدأ مراسم التّهنئة للإمام علي(عليه السلام) بولايته[12].

وهنا عندما نقارن أحداث وعناصر كلٍّ من الواقعتين، لا بدّ أن يُسأل؛ هل يصحّ أن تتماهى عناصر واقعة الغدير مع عناصر واقعة سريّة اليّمن من حيث الأهمّية، وطبيعة كلّ منهما؟ أي إنّ من يعاين أحداث واقعة الغدير من ذاك التّحضير لمسرح الخطبة، إلى تلك الحشود الكبيرة (عشرات الآلاف، أو ما قد يتجاوز المائة ألف)، إلى ذاك الحرص على إسماع الخطبة لمجمل المسلمين الّذين رافقوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يومها، إلى إصعاد عليّ(عليه السلام) معه على المنبر وأخذه بيده، إلى إلقاء خطبة طويلة تضمّنت مضامين عالية، ومعانٍ بعيدة الأثر، وقرائن ذات دلالة، إلى تتويج الإمام عليّ(عليه السلام) بعمامة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المعروفة بـ»السّحاب» من قبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، إلى تهنئة الإمام عليّ(عليه السلام) من قبل جميع المسلمين، حيث بقيت مراسم التّهنئة تلك لوقتٍ طويل؛ هل يصل إلى هذه النّتيجة، أنّ طبيعة هذه العناصر من حيث الأهمّية والدّلالة، تنسجم مع قضية شكوى ترتبط بلبس بعض الحُلَل من قِبل بعض أفراد السّريّة -أو جملتهم- ونزعها منهم؛ أم إنّ طبيعة تلك المراسم والإجراءات والعناصر تشي بقضيةٍ أخطر بمستوياتٍ كبيرةٍ جدًّا، وموضوع يحمل دلالات أشدّ أهمية، ويوحي بمعانٍ على قدرٍ عالٍ من الخطورة والأهمية؟

أي هل يمكن أن يُردّ على قضيةٍ محدودة وجزئية كقضية الشّكوى تلك، بإجراءات وتدابير ومراسم وأحداث، من طبيعة ما حصل في غدير خُمّ وبمستواها، ومستوى دلالاتها ومعانيها؟ أم إنّ هذه الإجراءات والتّدابير والمراسم والعناصر، تأخذنا إلى دلالاتٍ ومعانٍ أخرى، بعيدةٍ كلّ البعد عمّا حصل في قضية الشّكوى تلك؟

أعتقد أنّ الجواب ينبغي أن يكون على قدرٍ عالٍ من الوضوح، أنّ هذه العناصر والمراسم والإجراءات من حيث طبيعتها، ودلالاتها الاجتماعية والسّياسيّة والتّاريخيّة والمستقبليّة؛ لا تنسجم البتّة مع قضية الشّكوى تلك، ومحدودية خطرها، وما تتضمّنه من دلالة؛ وإنّما تحكي مجتمعة عن قضيّة شديدة الأهمّية والخطر، وذات دلالات أبعد بكثير من قضيّة الشّكوى، وفي ظروف مفصليّة واستثنائيّة جدًّا على المستوى التّاريخي، دلالات تتّصل بالخلافة، ومستقبل الأمّة ومساراتها، ومسألة انتقال السّلطة ومراسمها، ومجمل ما يتّصل بها.

تاسعًا: لو كانت خطبة الغدير ردًّا على شكوى سريّة اليمن، لكان من سمعها من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد فهم ذلك: لو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أراد من خطبة الغدير الردّ على شكوى سريّة اليّمن، لكان الّذين سمعوا تلك الخطبة قد فهموا منه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّها -أي الخطبة- ردٌّ على تلك الشّكوى، ولكان عندها من المفروض أن يذكروا هذا الأمر لدى نقلهم لها، مثلما فعل مجمل أولئك الّذين رووا لنا ردود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على مجمل تلك الشّكاوى، الّتي كانوا يتقدّمون بها إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في أي مسألةٍ كانت تخصّ الإمام عليّ(عليه السلام)، حيث إنّهم وقبل روايتهم لجواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وردّه على الشّكوى، كانوا يتحدّثون بإسهاب عن تلك الشّكوى وظروفها وحيثيّاتها، والسّياق الّذي حصلت فيه..، ثمّ ينقلون بعدها جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على تلك الشّكوى.
وهذا واضح في شكوى بريدة[13]، وشكوى سريّة اليمن تلك[14]، وشكوى أبي سعيد الخدري، وشكوى الصّحابة الأربعة[15]، وشكوى عمرو بن شاس الأسلمي[16]؛ لكن عندما نأتي إلى خطبة الغدير، لا نجد أيّ حديث عن أيّة شكوى على الإطلاق، ولا عن أي ربط بين الخطبة وأيّة شكوى، ولا عن أيّ ظروفٍ أو سياقٍ أو حيثيّاتٍ لأيّة شكوى، مِمّا يدلّ على أنّ جميع الّذين سمعوا خطبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خُمّ، لم يفهموا منها أنّها ردٌّ على تلك الشّكوى.

وإذا كان أولئك الّذين كانوا مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خُمّ، وعايشوا تلك الأحداث بتفاصيلها؛ لم يفهموا من خطبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خُمّ، أنّها ردٌّ على شكوى سريّة اليمن تلك؛ فمعنى ذلك أنّ تلك الخطبة لم تكن ردًّا على شكوى سريّة اليمن، وإنّما كانت في سياقٍ آخر، ولأسبابٍ وأهدافٍ أخرى.

ولو فرضنا أنّ البعض مِمّن كان في غدير خُمّ قد غفل عن كونها ردًّا على شكوى سريّة اليمن -بناءً على فرضية كونها كذلك-، لكن لا يصحّ في هكذا حالات أن يغفل جميع الّذين نقلوا حديث الغدير عن هذه الإشارة، إلى كونها ردًّا على شكوى سريّة اليمن تلك.
وعليه، لا بدّ من القول: إنّ معنى ألّا يذكر أحدٌ من الّذين سمع خطبة الغدير ورواها، أنّها ردٌّ على شكوى سريّة اليمن تلك؛ هو أنّها لم تكن ردًّا على تلك الشّكوى، وإلّا لَذَكر بعضهم -على الأقلّ- أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أراد من تلك الخطبة الرّد على تلك الشّكوى.

إنّ التّدقيق فيما حصل في واقعة شكوى سريّة اليمن تلك -وفي ما سواها أيضًا- يدلّ على تلك النّتيجة الّتي ذكرنا، حيث إنّ الّذين سمعوا كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وخطبته الّتي خطبها في سياق الرّد على تلك الشّكوى، قد فهموا من كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه ردّ على تلك الشّكوى؛ ولذلك عندّما عمدوا إلى رواية تلك الخطبة (وكلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم))، فقد رووها في هذا السّياق، ونقلوها مع حيثيّاتها وظروفها وسياقها، بما يُستفاد منه بشكل واضح لا ريب فيه، أنّ تلك الخطبة هي ردّ على تلك الشّكوى، بحيث أنّ أي قارىء لرواياتهم تلك، سوف يستفيد منها -دون أي لبس- أنّ تلك الخطبة قد جاءت كردٍّ على تلك الشّكوى.

لكن عندما نأتي إلى خطبة الغدير، فإنّنا لا نجد هذا الأمر على الإطلاق، حيث تمّ نقل واقعة الغدير كواقعةٍ مستقلّة. ورُويَت خطبة الغدير كخطبةٍ غير متّصلة بأيّة شكوى، أو سياقها، أو ظروفها، أو ملابساتها. ومن سمع خطبة الغدير رواها كخطبةٍ منفصلة عن أيّ حدثٍ آخر له علاقة بتلك الشّكوى -أو أيّ قضيةٍ أخرى مشابهة، عَمَدَ البعض إلى إلصاقها بنصّ الغدير، بهدف حرفه عن معناه ودلالته-، ولم يُشِر أحدٌ من هؤلاء إلى علاقة تلك الخطبة -لا من قريبٍ، ولا من بعيد- بتلك الشّكوى.
فهنا كيف أمكن للبيهقي (ت. 458 هـ) -مثلًا- الّذي أتى بعد ما يقرب من أربعمائة عامٍ على واقعة الغدير وخطبته؛ أن يفهم منها ما لم يفهمه أحدٌ من أولئك الّذين سمعوا من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرةً، ورووا خطبته تلك؟

أم هل يُعقل أنّ الّذين كانوا في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه، وشهدوا تلك الواقعة، وعاينوا جميع قرائنها وأحداثها، وسمعوا تلك الخطبة وما يتّصل بها؛ لم يفهموا ذلك الوصل بينها وبين شكوى سريّة اليمن تلك -أو أيّة شكوى أخرى-؛ ليأتي بعد مئات من السّنين البيهقي (ت. 458 هـ) أو ابن كثير (ت. 774 هـ) أو غيرهما، ليفهموا منها ذلك الفهم، الّذي غاب عن كل من سمعها، ونقلها إلينا؟!

وهذه مصادر: التّاريخ الكبير للبخاري، وسنن التّرمذي، وسنن ابن ماجة، والمستدرك على الصّحيحين للنيسابوري، والسّنن الكبرى للنسائي، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، وتخريج الحديث النّبوي الشّريف للألباني، وفضائل الصّحابة لأحمد بن حنبل، والمصنّف لابن أبي شيبة، وصحيح ابن حبان، وسير أعلام النّبلاء للذهبي، وذخائر العقبى للطّبري، وغيرها الكثير من المصادر[17]؛ حيث لم يُذكَر في أيّ منها أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال خطبته تلك ليرّد بها على شكوى سريّة اليمن مورد البحث؛ فمن أين أتى البيهقي بهذا الاستنتاج؟ وكيف لم يلتفت إلى أنّ أحدًا مِمّن روى خطبة الغدير، لم يذكر أنّها ردٌّ على تلك الشّكوى؟ وكيف لم يتوقّف عند هذه المفارقة؟ وكيف لم يسائل نفسه هذا السّؤال؟ وكيف له أن يُهمل هذه المعطيات الواضحة في هذا الشّأن؟ أم إنّ العصبيّات والأهواء تدفع بالكثير إلى تجاوز المعالجات العلمية، إلى وصلٍ وخلطٍ وإسقاط، لا يرتبط بالصّناعة العلميّة بصلة.

عاشرًا: القرينة المفقودة في خطبة الغدير: وترتكز هذه الملاحظة على جملة الملاحظات السّابقة، من ذلك الفارق الزّماني (حدود العشرة أيام)، والفارق المكاني (موطن الشّكوى مكّة، وموطن خطبة الغدير وادي الجّحفة على بعد حدود 160 كلم)، والفارق في الفئة المستهدفة في الخطاب (في الشّكوى مجمل سريّة اليّمن تلك أو أكثر منها، وفي خطبة الغدير مجمل المسلمين الّذين رافقوه في طريق عودته من حِجّة الوداع)، وهذا يعني أنّ بعض من يستمع إلى خطبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خُمّ بعد ذلك الفارق الزّماني والمكاني، قد لا يكون واضحًا بالنّسبة إليه ما الّذي يقصده النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه، فعليّ مولاه...»، هذا بناءً على قول المستشكِل أنّ لفظ الولاية هنا مجمل، وغير ظاهر في الإمرة والخلافة، وأنّه يحتاج إلى قرينة تصرف دلالته إلى إحدى معانيه، وهي المحبّة وعدم البغض، بناءً على دعوى قرينة شكوى سريّة اليمن؛ وهذا القول غير صحيح على الإطلاق، وخصوصًا بعد أن ردّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على شكوى سريّة اليّمن في مكّة ردًّا وافيًا، وكافيًا، وصريحًا فيها، ومتناسبًا معها، وانتهت تلك القضيّة وتداعياتها عند ذلك الحدّ.

وعليه، قد يحتاج بعض من كان حاضرًا يومها في غدير خُمّ -فيما لو كان مقصود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الرّدّ على شكوى سريّة اليمن تلك- إلى أن يلفت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نظره إلى أنّ تلك الخطبة، هي بمثابة ردٍّ على الشّكوى، حتّى يزيل أيّ التباس قد يحصل لديه، وحتّى يكون هناك قرينة على الوصل بينهما بين يديه؛ ولكن عندما نرجع إلى نصّ الخطبة، نجد أنّها خلت من أيّة قرينة في هذا السّياق. أي إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر أنّه يريد من خطبته الرّد على الشّكوى، ولم يَرِد في كلامه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيّة إشارة إلى تلك الشّكوى، مع أنّ طبيعة الموقف وجميع مفارقاته ذات الصِّلة؛ تقتضي -فيما لو كان الهدف من الخطبة الردّ على الشّكوى- أن يبيّن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)هدفه هذا، ولو بإشارةٍ منه، أو قرينةٍ من قريبٍ أو بعيد، توضح للمستمع ما الّذي يريده النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبته تلك؛ وهو ما يُستفاد منه أنّ الخطبة لم تكن في سياق الرّد على شكوى سريّة اليمن تلك، وإنّما كانت لهدفٍ آخر، لا يقلّ عن قضيّة الخلافة والإمرة، ومستقبل الدّين والأمّة، وخصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار جميع القرائن الّتي يُستفاد منها خطورة ذلك الموقف وأهميّته.

الحادي عشر: عناصر النّص ومقارنتها: أي عناصر كلّ من نصّ شكوى سريّة اليّمن، ونصّ خطبة الغدير، حتّى نقارن بين هذه العناصر، تمهيدًا لاستخلاص النتائج.

والهدف من هذه المقارنة معرفة إن كان هناك نوع من التّطابق والتّماهي بين النّصين أم لا؛ لأنّه إن وجدنا أنّ هناك نوعًا من ذلك التّطابق والتّماهي، فهو ما قد يكون مؤشّرًا إلى أنّ خطبة الغدير هي بمثابة ردٍّ على تلك الشّكوى. وإن لم نجد من تطابقٍ أو محاكاةٍ بين تلك العناصر، فهو ما قد يكون مؤشّرًا إضافيًّا إلى أنّ خطبة الغدير ليست ردًّا عليها.

فمثلًا عندما ينقل ابن إسحاق قضية شكوى سريّة اليّمن تلك؛ فإنّه يعرضها كما يلي: «إشتكى النّاس عليًّا رضوان الله عليه»، ثمّ عندما يأتي إلى ردّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نجده يذكر قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تشكوا عليًّا، فوالله إنّه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله من أن يُشكَى..»؛ فمن الواضح هنا هذا التّطابق بين عناصر نصّ الشّكوى ومفرداتها وموضوعاتها، وبين عناصر نصّ جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه، فيما لو كان هناك نقاشٌ ما، حول كون جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك، هو على تلك الشّكوى أم لا، وأردنا تتبّع القرائن الّتي تساعد على حسم النّقاش؛ فسنجد أنّ التّطابق بين العناصر تلك في الشّكوى وردّها (إشتكى النّاس عليًّا / جواب النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تشكوا عليًّا..»)؛ يشكّل نوع قرينة في المقام، تساعد على القول بأنّ ذاك الرّد هو على تلك الشّكوى.

وهنا، عندما نأتي إلى خطبة الغدير وعناصرها من جهة، وإلى نصّ شكوى سريّة اليّمن وعناصرها من جهة أخرى -وبمعزلٍ عن جميع المفارقات الأخرى الّتي ذكرناها في هذا البحث-؛ فسنجد أن لا تطابق، ولا محاكاة بينهما. فعندما نأتي إلى نصّ الخطبة بناءً على نقل ابن كثير لها، نجد العناصر التّالية: رجوع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع، نزوله في غدير خُمّ، أمره بتقميم (تنظيف) ما تحت بعض الأشجار الكبيرة لتهيئة المكان للصّلاة واستماع الخطبة، ثمّ لينعى نفسه بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «كأنّي قد دعيت فأجبت»؛ بعدها يبيّن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قد ترك في المسلمين الثّقلين: كتاب الله وأهل البيت(عليهم السلام)؛ وليسألهم بعدها: «كيف تخلفوني فيهما؟» -في مصادر أخرى يطلب من المسلمين أن يتّبعوهما[18]، أو يأخذوا بهما[19]- لأنّها لن يفترقا (فمن أراد القرآن أراد أهل البيت(عليهم السلام)، ومن أراد أهل البيت(عليهم السلام) أراد القرآن)، ثمّ يتحدّث عن ولاية الله تعالى، وأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وليّ كلّ مؤمن، ليأخذ بيد عليّ(عليه السلام)، فيقول: «من كنت مولاه فهذا وليّه، الّلهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه»، ثمّ يذكر سؤال أبي الطّفيل لزيد بن أرقم (راوي الخطبة)، كأنّه في مقام التّشكيك بها، فيقول (أي أبو الطّفيل لزيد بن أرقم): «سمعتَه [أي حديث الغدير] من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال [زيد بن أرقم، في جواب أبي الطّفيل]: ما كان في الدّوحات أحدٌ إلّا رآه بعينيه، وسمعه بأذنيه»[20].

وعندما نأتي إلى رواية البيهقي عن أبي سعيد الخدري لشكوى سريّة اليّمن تلك، نجد العناصر التّالية: بَعْثُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) إلى اليمن، وخروج أبي سعيد معه. وعندما يأخذ الإمام عليّ(عليه السلام) من إبل الصّدقة، يُسأل مِمّن كان معه أن يسمح لهم بركوب تلك الإبل، ورفض الإمام عليّ(عليه السلام) لذلك الطّلب وتبرير ذلك الرفض، ثمّ رجوع الإمام(عليه السلام) من اليمن مسرعًا حتّى يدرك مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حجّه في حجّة الوداع، وتأمير الإمام(عليه السلام) لأحد أصحابه على السّريّة، ثمّ عندما ينتهي الإمام(عليه السلام) من حجّته (حجّ العمرة)؛ يطلب منه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرجع إلى أصحابه حتّى يتقدّم عليهم لدى دخولهم مكّة، ووصولهم إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم). يصل الإمام(عليه السلام) إلى أصحابه، فيجد أنّ إبل الصّدقة قد رُكِبت، وأنّ من أمّره على السّريّة قد سمح لهم بركوبها خلافًا لأمره، فيلوم الإمام(عليه السلام) ذاك الرّجل الّذي أمّره، ليذكر بعدها أبو سعيد الخدري أنّه إن قَدِمَ (المدينة) سيذكر للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما لقوه من التّضييق -بحسب نظره- من الإمام عليّ(عليه السلام) في خصوص إبل الصّدقة، ثمّ يذكر قدومه المدينة -مِمّا يعني أنّ هذه الشّكوى قد حصلت في المدينة بعد حِجّة الوداع وليس في مكّة-، وغدوّه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وملاقاته أبي بكر خارجًا من عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وطلب أبي بكر الإذن له بالدّخول من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ثمّ دخوله وسلامه على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسؤال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) له عن جملة أحواله، ليذكر بعدها ما قاله للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك الشّكوى من عليّ(عليه السلام)، وما «لقينا من عليّ من الغلظة وسوء الصّحبة والتّضييق»، وتعداده ما لقوا من عليّ(عليه السلام)، ليذكر بعدها ردّة فعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سواءً منها الجسدية أو الّلفظيّة على تلك الشّكوى، من أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انتبذ (أي ابتعد)، ولم يتركه يكمل كلامه، بل ضربه على فخذه وهو في وسط كلامه، ليذكر بعدها ردّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عليه، ومدحَه عليًّا[21].

فهنا -وبمعزل عن القرينة الواضحة في هذا النّص، من أنّ الشّكوى قد حصلت في المدينة بعد حجّة الوداع، وبالتّالي لا تصلح أبدًا أن تكون سببًا لخطبة الغدير، لكون هذه الخطبة قد حصلت قبل الشّكوى، في طريق العودة من مكّة إلى المدينة-؛ يُطرَح السّؤال التّالي: هل من تطابق بين عناصر خطبة الغدير، وعناصر رواية الشّكوى تلك؟ أم إنّ التّدقيق في تلك العناصر، والمقارنة بينها؟ يجعلانا أشدّ يقينًا أن لا علاقة لتلك الشّكوى -هذا واضحٌ فيها لكونها حصلت في المدينة بعد حجّة الوداع- ولا لغيرها من الشّكاوى -كتلك الّتي حصلت في مكّة- بسياق خطبة الغدير وأسبابها، لأنّه لا يوجد من تطابقٍ أو تماهٍ بين مفردات الخطبة وموضوعاتها، وبين نصّ الشّكوى تلك وموضوعاتها. ولا يوجد في مفردات خطبة الغدير وموضوعاتها ما يشعرنا أنّها في مقام الرّد على هذه الشّكوى أو تلك، بل إنّ من يقرأ تلك الخطبة، ويعمد إلى تحليلها؛ يجد أنّها في سياقٍ مغاير تمامًا لقضية الشّكوى تلك، وأنّها لا تحاكيها، ولا تتماهى معها في أيّ من عناصرها.

ولذا، واستنادًا إلى هذه الملاحظة النّقدية أيضًا، لا يصحّ على الإطلاق أن يتمّ الارتكاز على قضية الشّكوى تلك، بهدف صرف دلالة حديث الغدير عن معناه الظّاهر فيه، وإلّا سوف يكون من التّعسف الّذي لا تسعفه أيّة قرينة ذات صِلة.

الثّانية عشر: محل البحث؛ سبب الواقعة، أم ظهور الّلفظ: حتّى لو سلّمنا أنّ خطبة الغدير كانت بمثابة ردٍّ على قضية الشّكوى تلك، فلنا أن نسأل هنا: هل العبرة بالّلفظ وظهوره -بمعزلٍ عن أيّ سببٍ له- أم إنّ العِبرة هي بخصوص السّبب؟ أي إنّ فهمنا لحديث الغدير، وما أراد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بيانَه منه، يدور مدار السّبب -على فرض كانت الشّكوى هي السّبب له-، أم يدور مدار لفظ ذلك الحديث وظهوره في هذا المعنى أو ذاك؟ إذ إنّ المعروف -وهو الصّحيح- أنّ العبرة بالّلفظ ودلالته، وليس بالسّبب وخصوصيّته، لأنّه قد يكون هناك سببٌ ما استدعى بيانًا ما، في حين يأتي البيان مغايرًا للسبب من جهة أو أكثر، كأن يكون السّبب مرتبطًا بواقعة محدّدة، في حين يأتي البيان شاملًا لهذه الواقعة وغيرها، أو قد يكون لدينا سببٌ مباشرٌ للبيان، لكن يأتي البيان في قضية -أو قضايا- ترتبط بموضوعات أشدّ أهمية، أو مختلفة في جوهرها وطبيعتها عن خصوص ذاك السّبب، وإن كان بين ذاك البيان وذاك السّبب نوع رابطٍ يجمعهما، حيث يؤول السّبب هنا إلى أن يكون مجرّد داعٍ إلى ذاك البيان، وإن لم يكن هو الدّاعي الوحيد، بل قد تكون هناك دواعٍ أخرى، وغايات متعدّدة، تشكّل -أو يشكّل بعضها- سببًا كافيًا بنفسه لذاك البيان؟

فمثلًا، قد يُقال -لو سلّمنا بفرضية الشّكوى بالطّريقة الّتي يذكرها أولئك، وصلتها بالحديث- إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا رأى أنّ الشّكوى قد فشى أمرها، ولم تنفع خطبته(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة المكرّمة في لجمها -وهو ما لا دليل عليه في المصادر التّاريخيّة- مع ما يمكن أن يكون لها من نتائج وآثار؛ فأراد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلّغ عموم المسلمين أنّ الإمام عليّ(عليه السلام) له منزلته من حيث الولاية عليهم، وأنّه خليفته، ومن يتولّى الأمر بعده..؛ حتّى يكون هذا البيان بمثابة مقتضٍ يحول دون ترتّب تلك الآثار على تلك الشّكوى، وحتّى يحثّهم على معاملة الإمام علي(عليه السلام) كما يعاملونه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن كان للإمام علي(عليه السلام) منزلة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث الخلافة والولاية عليهم، فهو ما يستدعي منهم أن ينزلوا عليًّا منزلة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث الطّاعة والاتّباع والمحبّة... وأن يتجنّبوا مخالفته وعصيانه وبغضه... فيكون بيان النّبي لقضية الخلافة والولاية شاملًا -ولو بالملازمة والتَّبع- لمسألة المحبّة وعدم البغض، من جهة أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يقول لجميع المسلمين بأنّ ما كان لي من منزلة وولاية عليكم- أولويّة بالتّصرف، مع ما تستلزمه هذه المنزلة والأولوية من طاعة واتّباع ومحبّة...- فهو لعلي بن أبي طالب(عليه السلام)؛ فهو ما يستدعي منهم المحبّة وعدم البغض، فيكون بيان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أفصح عن قضية الخلافة والإمامة وما يرتبط بالإمرة على الأمّة ومستقبلها، ويكون ضمنًا وبالتّبع قد عالج مسألة المحبّة وعدم البغض، وأجاب عليها.

وعليه، -وبناءً على تسليمنا بفرضية الشّكوى بالطّريقة الّتي يذكرها أولئك- يكون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قد بلّغ في خطبة الغدير أنّ عليًّا(عليه السلام) هو الخليفة، ومن يتولّى الأمر بعده، لما ينبغي أن يكون لهذا البلاغ من أثرٍ في نفوس من قد يختلط عليهم الأمر، حيث إنّ من يعلم من هؤلاء مكانة عليّ(عليه السلام) من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّه الخليفة بعده، ومن يتولّى أمورهم بأمرٍ من الله تعالى؛ ينبغي أن تزول من نفسه دواعي البغض لعليّ(عليه السلام)، وأن تحلّ محلّها دواعي المحبّة والتّعظيم. إن لم يكن هناك من دواعٍ أخرى تتّصل بالحسد، أو عداوة قريش له ولأهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبني هاشم، أو الطّمع بالسّلطة، أو غيرها من الدّواعي الأخرى.

أو أن يُقال إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد لاحظ أنّ جملة تلك الشّكاوى -أو البعض منها- تعبّر عن ظاهرةٍ ذات دواعٍ سياسيّة، تتّصل بمستقبل السّلطة وخلافة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّها لم تكن -في مجملها- حالة بريئة وساذجة؛ فأراد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبة الغدير أن يردّ على تلك الظّاهرة -أو جملة تلك الشّكاوى- بما يناسبها، وذلك ببيان مقام الإمام عليّ(عليه السلام)، وأنّه خليفته، ومن يتولّى الأمر بعده، ليُظهِر ما يجب أن يظهره في عليّ(عليه السلام) من جهة، ومن جهةٍ أخرى ليقطع الطّريق على تلك المحاولات الّتي كانت تستهدف عليًّا(عليه السلام) بالإسقاط من عين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إسقاطُه حتّى لا يبقى -بنظر هؤلاء- ذلك (المرشّح) المتقدّم عليهم لخلافة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، عسى أن تؤتي محاولاتهم ثمرةً لها في هذا الشّأن؛ فكان أن ردّ عليهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بما يفيدهم أنّ محاولاتهم هذه لن تنجح في هدفها، ولن تصل إلى مُرادها، ولن تُثنيه عن بيان ما يجب بيانه في عليّ(عليه السلام)، ولن تفضي إلى الحؤول دون إعلان عليًّا(عليه السلام) خليفة عليهم من بعده، بناءً على تلك الشّكاوى الّتي حصلت قبل خطبة الغدير، أو التّراجع عن ذاك الإعلان، بناءً على كون بعض تلك الشّكاوى قد حصل بعد خطبة الغدير، وخصوصًا إذا لاحظنا جملة من الأمور:

-1 إتّساع ظاهرة الشّكوى تلك في ظروف وأوقات حسّاسة في أواخر عمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (قبل وبعد حجّة الوداع)، وفي المراحل الأخيرة من مسيرته السياسيّة والاجتماعيّة.
-2 كونها مرعيّة من قبل بعض الصّحابة، الّذين كانوا يرون في عليّ(عليه السلام) أنّه المنافس الجدّي لهم على خلافة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ فرصتهم في الوصول إلى الخلافة هي فرصة معدومة، مع تلك المنزلة الّتي كانت للإمام علي(عليه السلام) في نفس النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
لقد كان هناك تشجيع من بعض الصّحابة على الشّكوى من عليّ(عليه السلام)، أو نوع إعانةٍ عليها: «... فقال له [أي لبريدة] عمر: إمضِ لما جئت له، فإنّه [أي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)] سيغضب لابنته مِمّا صنع علي(عليه السلام)[22]»، وأيضًا: «... فلقيت [أبو سعيد الخدري] أبا بكر خارجًا من عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)... وسألني وسألته... فرجع معي إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخل، فقال: هذا سعد بن مالك بن الشهيد [أي إنّ أبا بكر قد طلب الإذن له بالدخول على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)]، قال [أي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)]: إئذن له...»[23]؛ بل كان هناك تصريحٌ من بعض الصّحابة بأنّ هدفهم إسقاط عليّ(عليه السلام) من عين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، «... وناسٌ من أصحابه [النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)] على بابه... قالوا: أخبره [أي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)]، فإنّه [أي الخبر] يُسقطه [أي يسقط عليًّا] من عين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)[24]»، وأيضًا: «... تعاقد أربعة من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إذا لقينا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أخبرناه بما صنع عليّ(عليه السلام)[25]»؛ ليُسأَل هنا: لماذا أرادوا إسقاط عليّ(عليه السلام) من عين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف يمكن لبعض الصّحابة أن يأخذوا هذا الدّور في التّحريض على الإمام عليّ(عليه السلام) لدى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بهدف إسقاطه، وتحطيم مكانته؟ وماذا كان هدفهم من تلك المحاولات المتكرّرة؟ أليس قضية الخلافة ومستقبل السّلطة؟
-3 ردّة الفِعل القوية من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على بعض تلك الشّكاوى، بل جملتها، والّتي منها شكوى بريدة تلك، حيث إنّ ما ذكرته المصادر عن شكوى بريدة هو: «... فرأيت الغضب في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)[26]»، «... فإذا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد احمّر وجهه[27]»، «.. فخرج [أي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)] مغضبًا[28]».
وأمّا ما ذكرته المصادر من ردّة فعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على شكوى أربعة من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تعاقدوا فيما بينهم على شكوى عليّ(عليه السلام)، فهو: «.. فأقبل إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف في وجهه الغضب[29]»؛ والّتي -أي ردّة الفعل القوية تلك- توحي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد كان على دراية بخلفية جملة أولئك الصّحابة وهدفهم من شكوى عليّ(عليه السلام)، وهو ما استلزم منه هذا المستوى من ردّة الفعل، وإظهار هذا القدر من الغضب.
-4 البيان القوي من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مدح الإمام عليّ(عليه السلام) والدّفاع عنه، وصولًا إلى قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في عليّ(عليه السلام): «... أنّه وليّكم من بعدي[30]»، أو: «.. من كنت وليّه، فعليّ وليّه[31]»، أو: «.. وعليّ وليّ كلّ مؤمن بعدي[32]»، والّتي هي ظاهرة في الخلافة والإمرة، بقرينة السِّنخيّة والتّماهي بين ولاية عليّ(عليه السلام) وولاية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والّتي -أي القرينة- تُفهم من ذاك التّرتّب والتّوالي بين ولاية عليّ(عليه السلام) وولاية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت وليّه، فعليّ وليّه»، وبقرينة قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) «بعدي[33]»، لأنّه لا معنى بأن يطلب منهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) محبّة الإمام عليّ(عليه السلام) وعدم بغضه بعد وفاته، أمّا في حياته فلا يطلب منهم هذا الأمر، ويكون متاحًا لهم بغض الإمام عليّ(عليه السلام) وعدم محبّته في حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ حيث لا فرق في مطلوبية محبّة الإمام عليّ(عليه السلام) وعدم بغضه بين حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته.

وعليه، حتّى لو فرضنا ما ذكره البعض صحيحًا -وهو ليس بصحيح- من كون خطبة الغدير ردًّا على هذه الشّكوى أو تلك؛ فإنّ هذا لا يعني على الإطلاق حبس دلالة خطبة الغدير في هذا السّبب أو ذاك، لأنّ العِبرة هي بظهور الّلفظ، لا بخصوصية المورد؛ أي العِبرة بما يظهر من ألفاظ وعبارات تلك الخطبة، بمعزلٍ عن هذا السّبب أو ذاك، لأنّ سببًا أو آخر قد يكون مجرّد داعٍ مباشر إلى تلك الخطبة، من جملة دواعٍ أخرى لها، قد تكون هي الأسباب الرّئيسيّة لها، والأهداف الأرقى منها.

وهذا ما صرّح به القاضي عبد الجبّار (ت. 415 هـ)، حيث قال: «والمعتمد في معنى الخبر (أي حديث الغدير) على ما قدّمناه، لأنّ كل ذلك [ما ذكره من أسباب مختلفة لصدور الحديث] -لو صحّ-، وكان الخبر خارجًا عليه؛ لم يمنع من التّعلق بظاهره وما يقتضيه، فيجب أن يكون الكلام في ذلك، دون بيان السّبب، الّذي وجوده كعدمه، في أنّ وجه الاستدلال بالخبر لا يتغيّر[34]»، حيث إنّ ما يُستَفاد من كلامه هو مطلوبية التّمسك بظاهر حديث الغدير، وما يقتضيه هذا الظّاهر، بمعزلٍ عن هذا السّبب أو ذاك، وإن كان هذا المطلب على قدرٍ من الوضوح، ما يغنينا عن الاستعانة بأي مؤيّد له، سواءً من القاضي عبد الجّبّار، أو من غيره، سوى أنّه أردنا الإشارة إلى بعض الآراء، الّتي يظهر منها الحرص على مراعاة الصّواب والموضوعيّة، بمعزلٍ عن أيّ اعتبارٍ كلامي أو مذهبي في المقام.

مع الإلفات إلى أنّ قوله (لو صحّ)، هو بمثابة إشارة إلى أنّ مجمل تلك الأسباب الّتي ادُّعي صلتها بحديث الغدير، وأنّها سببٌ له؛ لا يمكن الرّكون إلى سببيّتها له، أو القبول بذاك الوصل بينها وبينه، وخصوصًا إذا لاحظنا ذلك التّضارب والاختلاف في تلك الأسباب، وفي تلك الدّعاوى، الّتي كانت تتبنّى هذا السّبب أو ذاك، من أجل حبس دلالة حديث الغدير فيه، وحرفه عن ظهوره ودلالته، بين من ذهب إلى أنّ سببه هو شكوى سريّة اليمن في السّنة العاشرة[35]، وبين من رأى أنّ الحديث أتى ردًّا على من تكلّم في عليّ(عليه السلام)، وذكر على وجه الخصوص شكوى بريدة[36]، وبين من رأى أنّه كان ردًّا من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على كلام لزيد بن حارثة، أو على كلام لأسامة بن زيد[37]... مِمّا يسهم -بالإضافة إلى ما ذكرناه- في توهين تلك الدّعاوى، وإفراغها من أيّة قيمة علميّة أو مصداقيّة، وخصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ذلك الجّهد الكبير الّذي كان يُبذَل لمواجهة حديث الغدير وإسقاطه(عليه السلام)، وأنّ هذا الحديث كان يمثّل عقبة كأداء في طريق مشروعية السّلطة بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

الثّالث عشر: حتّى مع التّسليم بإرادة المحبّة يثبت المطلوب: إنّ ما نريد قوله في هذه الملاحظة، هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقصد معنى المحبّة في كلامه، لمجمل ما ذكرناه سابقًا، ولأنّ مطلوبيّة محبّة أهل البيت(عليهم السلام) عامّة، والإمام عليّ(عليه السلام) خاصّة؛ كان قد بيّنها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سابقًا في موارد كثيرة جدًّا، بحيث ينبغي أن يضحى واضحًا لدى مجمل المسلمين مطلوبيّة محبّة الإمام عليّ(عليه السلام) وأهمّيتها، وبالتّالي قد لا يبقى مطلوبًا أن يبيّن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أهمّية هذه المحبّة وفضلها في محتشد من النّاس -كما في غدير خمّ-؛ هذا فضلًا عن الأخذ بعين الاعتبار جميع المراسم والتّدابير في غدير خمّ وغيرها من الحيثيّات ذات الصِّلة، والّتي تجعل من البعيد جدًّا أن يكون كل ذلك لبيان مطلوبيّة المحبّة...

لكن بمعزلٍ عن كل ما ذُكِر، وإذا سلّمنا بهذه الفرضيّة، وما ذهب إليه أصحاب هذه الدّعوى من إرادة المحبّة من حديث الغدير؛ مع ذلك ينبغي أن يُقال بأنّ هذا لا يساعد على ما ادّعاه أولئك، من القول بأنّ الإمامة والخلافة ليست هي ما أرادها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ الأمر كان مقتصرًا على مطلوبيّة إبداء بعض العواطف تجاه الإمام عليّ(عليه السلام)، لا أكثر ولا أقل، وذلك لما يلي:

1- إنّ مطلوبيّة الاتّباع القلبيّ للإمام عليّ(عليه السلام)، إنّما هي لتكون أساسًا وجدانيًّا للاتّباع العملي، والاتّباع الدّيني، والاتّباع العام في شتّى المجالات، والّذي يشمل الشّأن السّياسي والاجتماعي وغيره -لأن هذا الاتّباع الوجداني، إذا لم يتمظهر في الاتّباع الميداني والعملي؛ لن يكون له من جدوى ومن فائدة- وهو ما يعني أنّ الإمام عليّ(عليه السلام) يمثّل مرجعيّة عامّة سياسيّة ودينيّة حتّى يصحّ هذا الاتّباع، أي إنّ الإمام عليّ(عليه السلام) هو الخليفة، ومن يجب أن تكون له الإمامة.

وبتعبيرٍ آخر: إنّ هذا المستوى الكبير من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في التأكيد على محبة الإمام علي(عليه السلام)، ليكون ذلك أساساً صلباً لمستوى متقدّم من الاتّباع العام للإمام علي(عليه السلام)، والذي يشمل جميع المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية. لأنّ الاتّباع العام والعملي، كلما كان أوسع مدى، وأبعد في ميادينه ومستوياته؛ كلما احتاج إلى تأسيسٍ أشدّ صلابة، وأقوى حضوراً في البعد الوجداني والقلبي؛ وهذا ما قام به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)  في هذا المجال، عندما أكّد على هذا المستوى الكبير جداً من مطلوبية محبة الإمام علي(عليه السلام).

2 - إنّ القرآن الكريم يربط ما بين الحبّ، وبين الاتّباع: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِ...﴾[38]، حيث لا فصل بنظر القرآن الكريم بين الحبّ وبين الاتّباع.

أي إنّ ما لدينا نظرتين للحبّ: الأولى هي النّظرة «الرومانسية» العقيمة وغير الهادفة، الّتي تفصل بين الحبّ وبين الاتّباع، والّتي تتصوّر «الحبّ» في المفهوم الديني مشاعرَ وجدانيّة غير مثمرة، لا أهداف لها، ولا غايات تسعى إليها؛ الثّانية وهي النّظرة القرآنيّة، الّتي ترى في الحبّ دافعًا وجدانيًّا للاتّباع، وأساساً قلبياً للعمل، وأنّه لا يمكن الفصل بينهما، وأنّ معنى وجوب اتّباع الإمام عليّ(عليه السلام) أنّه الأحق أن يُتَّبَع، وأن يُوتّم به. أي إنّه الإمام في شؤون الدّين والدّنيا.

إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يأمر بحبّ أحدٍ ما، فمعنى ذلك أنّه أهلٌ لأن يُحَبّ، أي إنّه يَتوفّر فيه من المواصفات ما يجعله محلًّا لتلك المحبّة. وهنا عندما نجد هذا المستوى الكبير جدًّا من التّأكيد على هذا المدى البعيد من محبّة الإمام عليّ(عليه السلام)؛ فهذا ما يُستَفاد منه أنّ الإمام عليّ(عليه السلام) هو الأفضل من حيث مجمل المواصفات الدّينيّة والعلميّة والعمليّة، حتّى أصبح موردًا لهذا المستوى الكبير جدًّا من مطلوبيّة المحبّة. وإنّ من يكون بهذا المستوى من الأفضليّة في مجمل تلك المواصفات؛ فهو ما يعني أنّه من يستحق أن يتولّى شؤون الإمامة، وأن تكون له الخلافة.

وإنّ ما ذكرناه يصبح أشدّ وضوحًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة ذلك الجمع (الحشد) الّذي كان في غدير خمّ، والظّرف التّاريخي، ومجمل الإجراءات والمراسم والتّدابير، والّتي تُنبئ عن أمرٍ خطيرٍ وذي بال، فحتّى لو سلّمنا بإرادة المحبّة، فإنّ مجمل تلك القرائن تفصح عن أن هذا التأكيد الشديد على محبة الإمام علي(عليه السلام) في ذاك المحفل الاستثنائي، والحشد الكبير، والظرف التاريخي الخاص؛ إنما ليكون ذلك أساسًا للاتّباع والطّاعة، لمن له الإمامة والخلافة.

تلخيص واستنتاج:
لا بدّ من الإلفات هنا -قبل الذّهاب إلى تلخيص المطالب السّابقة- إلى أنّ من يدّعي حبس دلالة حديث الغدير في هذه الواقعة -شكوى سريّة اليمن- أو تلك، عليه أن يثبت ثلاثة قضايا معًا، بحيث إن لم تثبت واحدةٌ منها على الأقلّ، لا يمكن لذلك المدّعي أن يصل إلى غايته.
حصول تلك الواقعة (شكوى سريّة اليمن تلك)، والجزم بحصولها؛ وإلّا على فرض عدم الجزم بحصولها لا يمكن ترتيب ذلك الأثر.
كون حديث الغدير ناظرًا إلى هذه الواقعة (شكوى سريّة اليمن) بعينها، وإلّا مع عدم العِلم بكونه ناظرًا إليها، فلا يمكن ترتيب ذلك الأثر أيضًا.

إنّ هذه الواقعة تشكّل قرينة تصرف ظهور حديث الغدير إلى خصوص تلك الدّعوى الّتي يذكرون، وتحبس دلالته فيها دون غيرها، وإلّا يأتي كل ذاك الكلام الّذي ذكرناه في هذا المورد.
وهنا نقول إنّه مع التّسليم بالقضية الأولى، لا نسلّم بالقضيتين الثّانية والثّالثة، ومجرّد الادّعاء وتقديم الدّعوى، لا يغني عن ضرورة إظهار الدّليل الّذي يفي هذه الدّعوى حقّها. ومع عدم تقديم الأدلّة الوافية، أو دفع الإشكالات على هذه الدّعاوى، لا يمكن الأخذ بهاتين القضيتين. وبالتّالي، لا يمكن ترتيب الأثر على تلك الدّعاوى من صرف حديث الغدير عن دلالته ومعناه الظّاهر فيه، من ولاية عليّ(عليه السلام) وخلافته لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكونه(عليه السلام) من كان لديه المشروعية الدّينية والسّياسيّة لتولّي الأمر من بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وعليه، لا بدّ من التّصريح بأنّ الّذين ادّعوا الوصل بين واقعة سريّة اليمن وبين حديث الغدير، إمّا أنّهم وقعوا في أكثر من خلطٍ شنيع، أو أنّهم مارسوا تدليسًا لا ينبغي لهم أن يمارسوه، وذلك عندما ادّعوا الوصل بين الموارد التّالية: 1- حديث الغدير، وقول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه: «.. من كنت مولاه، فعليّ مولاه»، 2- الشّكوى من عليّ(عليه السلام) وشيوعها.

وهنا ينبغي أن نقول ما يلي: إن كانوا يتحدّثون عن شكوى سريّة اليّمن في حجّة الوداع في مكّة المكرّمة، فقد ذكرنا جملة الرّدود على هذه الدّعوى؛ وإن كانوا يتحدّثون عن شكوى سريّة اليمن الّتي كانت قبل ذلك الزّمان في المدينة، فهنا يصبح الأمر أصعب على أصحاب هذه الدّعوى، لأنّه إن كانت هذه السّرية -الّتي كان فيها بريدة وخالد بن الوليد- في السّنة الثّامنة للهجرة، أم في أيّ وقتٍ آخر قبل ذهاب النّبيt إلى مكّة المكرّمة في حجّة الوداع؛ فلا شكّ في أنّ فاصلة زمنية غير قصيرة -سنتان، أو ربّما أقلّ من ذلك- تفصل بينها وبين حديث الغدير، وهو ما يجعل من المستحيل عادة في مثل هكذا مواقف أن يكون الحديث ردًّا على تلك الشّكوى[39].
لكن يبدو أنّ أصحاب الدّعوى تلك قد وقّعوا في أكثر من خلط: الأوّل أنّهم خلطوا بين شكاية سريّة اليمن، في حجّة الوداع السّنة العاشرة في مكّة، وبين شكاية سريّة اليمن قبل تلك السّرية الآنفة الذِّكر، والّتي كثر فيها القيل والقال بحقّ عليّ(عليه السلام). فهذا ابن كثير يصرّح بأنّ حديث الغدير ردّ على شكوى سريّة اليمن في حجّة الوداع في مكّة[40]، لكن عندما نأتي إلى كلٍّ من ابن حجر والدّلهوي، فإنّهم يربطون ما بين الحديث، وما بين شكوى سريّة اليمن في المدينة ما قبل حجّة الوداع، مع أنّه يوجد أكثر من فارق بين السّريتين والشِّكايتين -بناءً على جملة تلك النّصوص التّاريخيّة الّتي عرضناها في الموضوع- وهو ما يؤثّر بالتّالي على دعوى الوصل مع حديث الغدير.

الخلط الثّاني -بل السّقطة الكبيرة- الّذي وقع فيه هؤلاء، لإيهام النّاس بالوصل بين شكوى سريّة اليّمن وبين حديث الغدير، هو أنّهم دمجوا بين جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على شكوى بريدة وغيره من الأصحاب في المدينة -في السّنة الثّامنة للهجرة، بناءً على ما ذهب إليه البعض، أو -بالحدّ الأدنى- قبل سفره إلى مكّة المكرّمة في حجّة الوداع، والّتي أجاب فيها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بريدة، وأولئك الأصحاب، بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم)في عليّ(عليه السلام): «هو وليّ كلّ مؤمن بعدي»؛ وبين قول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في السّنة العاشرة للهجرة في غدير خُمّ، ومن ضمن خطبةٍ طويلة: «.. من كنت مولاه، فعليّ مولاه»، لإيهام القارىء أنّ هذا الكلام واحد، وفي واقعةٍ مترابطة، مع أنّ جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك لبريدة وغيره من الصّحابة، لم يكن في غدير خُمّ، وإنّما كان في المدينة قبل حجّة الوداع؛ أمّا خطبة الغدير فقد كانت في غدير خُمّ، في وادي الجّحفة، بين مكّة والمدينة، وبعد حجّة الوداع.

وبالتّالي لا يصحّ -بل من المعيب- الدّمج بين واقعة الشّكوى تلك وبين واقعة الغدير، للإيهام بأنّ كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واحد، وأنّه أتى ردًّا على تلك الشّكوى، إذ إنّ جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لبريدة وغيره من الصّحابة في المدينة مستقلٌّ تمامًا عن كلامه(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة الغدير في غدير خُمّ، ولا ترابط بين الواقعتين، لمجمل الأسباب الّتي ذكرنا في واقعة سريّة اليمن وشكواها في مكّة في حجّة الوداع، بل إنّ بعض تلك الأسباب ينطبق على شكوى بريدة -وغيره من الصّحابة- في المدينة بشكل أشدّ، وذلك نتيجة الفاصل الزّمني الأطول عن واقعة الغدير والّذي يجعل -بالإضافة إلى غيره من الأسباب- من غير المعقول إدّعاء الصِّلة بين الواقعتين، فقط وفقط لممارسة التّلبيس على القارئ، استجابة لأهواء وعصبيّات، تُخرِج من الصّواب، وتُبعد عن الحقيقة.

تلخيص:
لقد ناقشنا في هذا البحث فرضيّة الوصل ما بين خطبة الغدير من جهة، وقضيّة سريّة اليمن من جهة أخرى، والتي تهدف إلى القول إنّ تلك الخطبة تدلّ على المحبة وليس الخلافة ؛ لنتبيَّن قوّة هذه الفرضيّة من ضعفها، عندما يُعمل عليها تحليلًا ونقدًا، حيث ذكرنا جملة من الملاحظات (13 ملاحظة)، والتي هي:

أوّلًا: لو كان مراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك الخطبة المحبّة لصرَّح بذلك، كما كان يفعل عادةً عندما كان يقصد معنى المحبّة، فيستخدم الألفاظ الصريحة للدلالة عليه.

ثانيًا: إنّ هذه الفرضيّة هي مجرّد دعوى دون دليل؛ أي إنّ القول إنّ خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغدير هي بمثابة ردٍّ على شكوى سرّية اليمن؛ يحتاج إلى دليل يثبته، وطالما لا دليل، فلا يمكن إثبات هذا الوصل.

ثالثًا: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أجاب على تلك الشكوى في خطبة وافية كافية، في ذاك المحلّ الذي حصلت فيه في مكّة المكرّمة، وبشكل مباشر، وانتهى الأمر عند هذا الحدّ؛ فكيف يصحّ القول -والحال هذا- إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ردَّ على شكوى حصلت في مكّة المكرّمة بخطبةٍ خطبها في مكانٍ يبعد عن مكّة أكثر من مائة وخمسين كيلومترًا في الجحفة؟! فضلًا عن أنّ ما يستفاد من النصوص التاريخيّة هو وحدة المكان ما بين محلّ الشكوى، ومحلّ ردّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها؛ أي في مكّة المكرّمة.

وأمّا القول إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أعاد الردّ مجدّدًا في الغدير، بعد ردّه في مكّة المكرّمة؛ فهذا أيضًا لا دليل عليه، بل إنّ الأدلّة تثبت خلافه.

رابعًا: إنّ ما يستفاد من النصوص التاريخيّة، التي نقلت لنا تلك الشكوى وردّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها، هو أنّ هذا الردّ قد حصل مباشرة على الشكوى، دون أيّ فاصلٍ زمنيّ، وهو ما تقتضيه عادةً طبيعة هكذا قضايا، أن يكون الردّ فوريًّا، دون إبطاء أو إمهال؛ فكيف يصحّ القول -والحال هذا- إن الردّ قد حصل على الشكوى بعد حوالى العشرة أيّام، أو أكثر من ذلك؟!  إنّ هذا القول لا دليل عليه، بل الدليل التاريخيّ قائمٌ على خلافه، وهو لا ينسجم -عادةً – مع طبيعة جريان هكذا قضايا وسيرها.

خامسًا: إنّ مراجعة المصادر التاريخية ذات الصلة تفيدنا أنّ خطبة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الردّ على الشكوى قد حصلت في مكّة المكرّمة، في حين أنّ خطبة الغدير قد حصلت في وادي الجحفة في الغدير على بعد ما يقرب من 160 كلم من مكّة المكرّمة؛ وهو قرينة إضافية في المقام على عدم الوصل، لأنه من البعيد وغير الاعتيادي أن تطرح قضية في مكّة مثلاً، فيردّ عليها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكان يبعد كثيراّ عنها، إذ إنّ المتعارف في هكذا قضايا هو وحدة المكان عرفاّ بين القضية وجواب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)  عليها، ما يجعل من البعيد وغير المقبول أن تكون خطبة الغدير جواباً على شكوى سريّة اليمن.

سادسًا: إنّ ما يستفاد من النصوص التاريخيّة أنّ مخاطب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو تلك الفئة التي شكت الإمام عليّ (عليه السلام) في مكّة المكرّمة. أي إنّ سريّة اليمن - أو بعض أفرادها – قد شكت عليًّا (عليه السلام)، فبادر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خطاب هذه السريّة والردّ عليها، وانتهى الأمر هنا؛ فكيف يصحّ القول إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك مخاطبة هذه السريّة والردّ عليها؛ ليؤجّل الردّ إلى ما بعد حوالى العشرة أيّام، في مكانٍ يبعد عن مكّة المكرّمة أكثر من 150 كيلومترًا ؛ ليكون مخاطبَه عشرات الآلاف – بل مئات الآلاف – من المسلمين الذين كانوا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يومها في حجّته؟! إنّ هذا لا يسعفه الدليل؛ بل هو على خلافه.

سابعًا: إنّ من يسعى إلى تبيّن أسباب وحيثيّات نصّي الغدير وشكوى سريّة اليمن؛ يصل إلى هذه النتيجة، أنّه لا يوجد ترابط بينهما من حيث تلك الأسباب والحيثيّات، وأنّ سياق كلّ منهما يختلف عن سياق الآخر، وهو قرينة إضافيّة على الفصل وعدم الوصل في المقام.

ثامنًا: عندما نقارن بين الطبيعة العامّة لواقعة الغدير وأحداثها، وبين الطبيعة العامّة لواقعة سريّة اليمن وأحداثها؛ فإنّنا لا نعثر على أيّ تشابه أو تماهٍ بينهما، سواءٌ من حيث الأهميّة، أو الإجراءات، أو المراسم، أو مجمل التدابير والسياقات ذات الصّلة؛ ما يعني أن لا ارتباط بين الواقعتين.

تاسعًا: لو أنّ خطبة الغدير كانت ردًّا على شكوى سريّة اليمن؛ لفَهم من سمع الخطبة هذا الأمر، ولعبَّر عن فهمه هذا، ولوصل إلينا هذا الفهم– ولو في بعض موارده– بشكلٍ أو بآخر، لكن كلّ هذا لم يحصل، ولا نجد أيّ أثر لشيء من هذا الفهم في نقل واقعة الغدير.

عاشرًا: بناءً على مجمل ما ذكر، من الفارق الزمانيّ والمكانيّ وفي المخاطب... كان ينبغي – لو كانت خطبة الغدير ردًّا على شكوى سريّة اليمن – أن يُلفت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نظرَ من يستمع إليه إلى هذا الوصل بينهما؛ لكنّه لا نجد شيئاً من هذا. أي لا توجد أيّة قرينة في كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يمكن الاستناد إليها للقول إنّ خطبة الغدير هي بمثابة ردّ على تلك الشكوى.
حادي عشر: عندما نقارن بين عناصر خطبة الغدير من جهة، وعناصر شكوى سريّة اليمن من جهة أخرى، فسنلاحظ أنّه لا يوجد تطابق ومحاكاة بين عناصر الأولى وعناصر الثانية، ما يعني أن لا صلة بينهما، وأنّ الأولى – أي خطبة الغدير – ليست جوابًا على الثانية – أي شكوى سريّة الثمن -.

ثاني عشر: إنّ محلّ البحث ليس سبب خطبة الغدير، بمقدار ما هو ظهور هذه الخطبة ودلالاتها، حيث قد يكون السبب -على فرض التسليم بكون الشكوى هي السبب- أحد دواعي تلك الخطبة؛ بل قد يكون أقلّها أهميّة، في حين تكون مرامي الخطبة ودلالاتها أبعد بكثير من أن تُحبس في خصوص ذاك السبب وخصوصيّته.

ثالث عشر: حتّى لو سلّمنا بإرادة المحبّة حصرًا من حديث الغدير، مع ذلك يثبت المطلوب، لأنّ محبّة أهل البيت (عليهم السلام) عامّة، وعليّ (عليه السلام) خاصّة؛ هي محبّة اتّباع، وموالاة، والتزام، وطاعة. فالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)  – بناءً على تسليمنا هذا – لا يتحدّث هنا عن معطى وجدانيّ مبتورٍ عن غاياته، ومنفصلٍ عن مقاصده ولوازمه. وهذه اللّوازم والمقاصد تتناسب مع كون عليّ (عليه السلام) هاديًا يُتَّبَع، وواليًا يُوالى، وخليفةً يُطاع.
هذا فضلاً عن نقدٍ آخر لفرضيّة الوصل تلك، مفاده أنّ إثبات دلالة خطبة الغدير على الإمامة والخلافة (بأدلةٍ أخرى)، يُفضي بالتلازم إلى بطلان فرضيّة المحبّة.
وبناءً على جميع ما تقدّم، سيكون واضحًا لنا أنّ فرضيّة الوصل تلك بين خطبة الغدير من جهة، وبين شكوى سريّة اليمن من جهة أخرى؛ هي فرضيّة باطلة وغير صحيحة، وأنّها لم تكن سوى إحدى إفرازات التراث السلطانيّ، الذي أُريدَ له أن يُسقط المشروعيّة الدينيّة والسياسيّة لأهل البيت (عليهم السلام) عامّة، والإمام عليّ (عليه السلام) خاصّة، لصالح مشروعيّات أخرى، يتبيّن عدم صحّتها مع ثبوت دلالة خطبة الغدير على الإمامة والخلافة لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

في الاستنتاج
قد يكون لدينا الكثير من النتائج التي تترتّب على هذه المعالجة النقديّة التحليليّة لفرضيّة الوصل ما بين خطبة الغدير، وشكوى سريّة اليمن؛ لكن يمكن الإلفات إلى اثنتين منها بشكل أساس، وهما:

الأولى: يُظهِر ما سلف من فرضية الوصل تلك، وذلك السعي الحثيث إلى اختلاق مصداقيّة معرفيّة لها؛ ذاك الدور الخطير الذي قام به التراث السلطاني (فقهاء السلطان) في مواجهة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والسعي إلى النيل من مشروعيّتهم الدينيّة والسياسيّة على مدى قرون متطاولة من الزمن. وهو ما أدّى إلى تشويه الكثير من الحقائق، وتحريف الكثير من المسائل، حتّى ليمكن الاستنتاج أنّه لن يكون سهلًا حتّى على الباحث ذي المراس، أن يتبيَّن جميع وجوه التحريف بيسرٍ وسهولة؛ وهو ما يترتّب عليه الكثير من المسؤوليّات، ويتطلّب الكثير من الجهود التي تُبذل لتفكيك ذلك التراث، وكشف تلبيسه، والإضاءة على أكثر من خللٍ وعَورٍ ألمَّ به.
الثانية: إنّ من أهمّ الأسباب التي أوجدت ديناميّات مستديمة لتطوير الفكر الإسلاميّ الشيعيّ، وتحفيز استيلاده المعرفيّ والعلميّ؛ هو هذا الهجوم الدائم على هذا الفكر ومختلف قضاياه العقديّة وغيرها. وهذا يظهر مدى حافزيّة هذا الفكر، وثقته المعرفيّة، وقدرته على تحقيق الاستجابة المطلوبة، وإمكانيّاته في تحويل أيّ تهديد معرفيّ أو فكريّ، إلى فرصة خلّاقة لتحقيق المزيد من الإنتاج الفكريّ الهادف، حتّى ليمكن القول -ودون مبالغة- إنّ هذا الاستهداف الفكريّ للفكر الإسلامي الشيعيّ -والذي لم يتوقّف على مدى التاريخ- قد خدم هذا الفكر، أكثر ممّا أضرَّ به؛ لأنّه ساهم بقوّة في تحفيزه، وفي استخراج مضامينه، وفي وضعه أمام تحدّيات، كانت تفرض عليه المزيد من الإنتاج، والتجديد، والاجتهاد في أكثر من مجال علميّ وفكريّ.
ومن هنا، ينبغي القول إنّه وعلى الرغم من أنّ كثيرًا ممّا نتعرّض له من تشنيع وتشويه فكريّين؛ هو ذو أسبابٍ تاريخيّة وعنصريّة، تفتقد إلى الموضوعيّة، والمعرفة الصحيحة بالفكر الإسلاميّ الشيعي؛ لكنّه لا يضيرنا، ولا ينتقص من هويّتنا وفكرنا؛ لأنّه سيتحوّل إلى سببٍ إضافيّ لبيان مضامين هذا الفكر، وخلّاقيّـته، وعلميّته، وقدرته على تحقيق الاستجابات المطلوبة والهادفة، في ما يواجهه من هجوم وتشويه وتحدّيات.

لائحة المصادر والمراجع
ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف، تحقيق وتعليق سعيد اللحام، ط1، بيروت – لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1409هـ - 1989م.
ابن الصبّاغ، علي بن محمد أحمد المالكي، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة (عليهم السلام)، تحقيق سامي الغريري، ط1، لا. م، دار الحديث للطباعة والنشر، 1422هـ.
ابن حجر العسقلانيّ، المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، ط1، دار العاصمة للنشر والتوزيع ودار الغيث للنشر والتوزيع، لا منطقة، 1419هـ- 1998.
ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، لا طبعة، دار صادر، لا منطقة، لا تاريخ.
ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال، بيروت، ج 4، ص 149؛
ابن عقدة الكوفي، فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، تجميع عبد الرزاق محمد حسين فيض الدين، لا طبعة، لا دار، لا منطقة، لا تاريخ.
ابن قدامه، عبد الله، المغني، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، طبعة جديدة بالأوفست، لبنان - بيروت، لا تاريخ.
ابن كثير، جامع المسانيد والسنن، ط2، دار خضر للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، 1419هـ- 1998م.
ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، ط1، بيروت- لبنان، دار إحياء التراث العربي، 1408هـ - 1988م.
ابن هشام، سيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ط، مكتبة محمّد علي صبيح وأولاده، مصر، لا ت.
أبو جعفر أحمد (المحب الطبري)، الرياض النضرة في مناقب العشرة، لا طبعة، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، لا تاريخ.
الأصبهاني، أبو نعيم، معرفة الصحابة، ط1، دار الوطن للنشر، الرياض، 1419هـ- 1998م.
الألباني، أبو عبد الرحمن محمّد ناصر الدين، تخريج الحديث النّبوي الشّريف، لا طبعة، لا دار، لا منطقة، لا تاريخ.
الألباني، أبو عبد الرحمن محمّد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصّحيحة، ط1، دار المعارف – الرياض، 1412هـ- 1992.
البغوي، عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز، معجم الصحابة، المحقق محمّد الأمين بن محمّد بن محمود أحمد الجكني الشنقيطي، لا طبعة، مكتبة دار البيان – الكويت، لا تاريخ.
البيهقي، أبو بكر، دلائل النبوّة، توثيق وتخريج وتعليق: د. عبد المعطي قلعجي، ط2، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2002م
البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، لا طبعة، دار الفكر، لبنان - بيروت، لا.ت.
الجويني الخراساني، إبراهيم، فرائد السمطين، ط1، مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر، 1398هـ- 1978م.
الذهبي، ميزان الاعتدال، علي محمد البجاوي، ط1، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1382 - 1963م.
الزرقاني، محمّد عبد الباقي، شرح المواهب اللّدنية بالمنح المحمّدية، ط1، دار الكتب العلميّة، 1417هـ- 1996م.
الزرندي الحنفي، جمال الدين، نظم درر السمطين، ط1، لا دار، لا منطقة، 1377هـ- 1958م.
السيوطي، جلال الدين، الحبائك في أخبار الملائك، دار التقريب، القاهرة، ص 131؛
شهاب الدين أحمد، توضيح الدلائل (مخطوط).
الشيرازي، جمال الدين، الأربعين (مخطوط).
الطبراني، أبو القاسم، المعجم الأوسط، تحقيق: قسم التحقيق بدار الحرمين، لا ط، دار الحرمين للطباعة والنشر، لا ت.
الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق وتخريج حمدي عبد المجيد السلفي، ط2، دار إحياء التراث العربي، لا منطقة، لا تاريخ.
الطيالسي، سليمان بن داود، مسند أبي داود الطيالسي، لا طبعة، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا تاريخ.
عبيد، علاء، فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، ط1، مركز رحمة العالمين، القاهرة، 2014م.
القادري المدني، محمود، الصراط السوي (مخطوط).
القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد، دراسة وتحقيق الدكتور خضر محمّد نبها، لا طبعة، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، 2011م.
القشاشي، أحمد ، السمط المجيد، تحقيق: عاصم إبراهيم الكيالي، ط1، دار الكتب العلمية، لا منطقة، 2013م.
اللكهنوي، حامد حسين، عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار، لا طبعة، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، لا تاريخ.
المتقي الهندي، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، لا طبعة، مؤسسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1989م.
المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، ط2، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م.
المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض القدير شرح الجامع الصغير، تصحيح أحمد عبد السلام، ط1، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1415هـ - 1994م.
الميلانيّ، علي الحسيني، نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار، ط1، لا منطقة، لا دار، لا تاريخ.
النسائي، السنن الكبرى، تحقيق عبد الغفار سليمان البنداري، سيد كسروي حسن، ط1، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1411هـ - 1991م.
النيسابوري، أبو عبد الله الحاكم، المستدرك على الصحيحين، إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي، لا طبعة، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا تاريخ.
هاشم الميلاني، الغدير، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 2017 م، ط 1، صص 224-226.
الهيتمي، ابن حجر، الصواعق المحرقة، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي، ط1، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1997م.
الواقدي، محمّد بن عمر، المغازي، تحقيق: د. مارسدن جونس، ط3، دار الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1989م.

---------------------------------------------------
[1]- إبن هشام، سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ج 4، ص 1022.
[2]- م. ن، ص 1021.
[3]- الواقدي، المغازي، ج 2، ص 1081.
[4]- م. ن، ص 1079.
[5]- م. ن، ص 1081.
[6]- دلائل النبوّة، م. س، ج 5، ص 399.
[7]- إبن هشام، سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ج 4، ص 1022.
[8]- الألباني، سلسلة الأحاديث الصّحيحة، ج 4، ص 330، ح 1750؛ وأيضًا: الألباني، تخريج الحديث النّبوي الشّريف، ح 1750؛ إبن كثير، البداية والنّهاية، ج 5، ص 228؛ النيسابوري، المستدرك على الصّحيحين، كتاب معرفة الصّحابة (من مناقب أمير المؤمنين علي(عليه السلام))، ح 4576؛ ويوجد نص آخر في المستدرك على الصحيحين، ذكر فيه بدل عبارة: «... فانظروا كيف تخلفوني فيهما»، عبارة أخرى، وهي: «... لن تضلّوا إن اتبعتوهما» (م. ن، ح 4577).
[9]- م. ن.
[10]- لمعرفة مصادر أهل السنّة الّتي نقلت حديث الغدير، أنظر: علاء عبيد، فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، م. س، صص 174-179.
[11]-  المتقي، كنز العمال، ج 15، ص 482، ح 41909؛ محب الدين الطبري، الرياض النضرة، بيروت، ج 2، ص 289؛ شهاب الدين أحمد، توضيح الدلائل (مخطوط)؛ الجويني، فرائد السمطين، مؤسسة المحمودي، ج 1، ص 75، ح 41، وص 76، ح 43؛ جمال الدين الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، ص 112؛ إبن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، ص 42؛ جمال الدين الشيرازي، الأربعين (مخطوط)؛ محمود القادري المدني، الصراط السوي (مخطوط)؛ أحمد القشاشي، السمط المجيد، ص 99؛ مسند أبي داوود الطيالسي، دار المعرفة، ص 23، ح 154؛ البغوي، معجم الصحابة، ج 4، ص 175، ح 1678؛ البيهقي، السنن الكبرى، ج 15، ص 14؛ جلال الدين السيوطي، الحبائك في أخبار الملائك، دار التقريب، القاهرة، ص 131؛ وقد روى أيضاً حديث تعميم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) ابن أبي شيبة العبسي، وجمال الدين عطاء الله بن فضل الله المحدّث، ومحمود بن علي الشيخاني القادري. عن: حامد حسين اللكهنوي، عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، ج 9، صص 234-237. 
راجع أيضاً في هذا الموضوع: إبن كثير، جامع المسانيد والسنن، ج 7، ص 240، ح 5068؛ أبو نعيم الأصبهاني، معرفة الصحابة، ج 1، ص 301؛ الزرقاني، شرح المواهب اللّدنية، ج 5، ص 10؛ الذهبي، ميزان الاعتدال، القاهرة، ج 2، ص 25؛ إبن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال، بيروت، ج 4، ص 149؛ محمد بن سليمان الكوفي، مناقب الإمام أمير المؤمنين، ج 2، ص 42، ح 529، و ص 389، ح 864؛ المناوي، شرح الجامع الصغير، ص 292.
[12]- راجع في هذا الموضوع: علاء عبيد، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، م. س، صص 172-174.
[13]- الطبراني، المعجم الأوسط، ج 6، ص163.
[14]- إبن هشام، سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ج 4، ص 1021.
[15]- إبن أبي شيبة، المصنّف، ج 7، ص 504.
[16]- أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 3، ص 483.
[17]- راجع جميع ما تقدّم: علاء عبيد، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، م. س، صص 160-171؛ وللإطّلاع على مجمل المصادر ذات الصّلة، راجع: م. ن، صص 174-179.
[18]- النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، كتاب معرفة الصحابة، من مناقب أمير المؤمنين(عليه السلام)، ح 4577؛ عن علاء عبيد، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، م. س، ص 162.
[19]- إبن حجر، المطالب العالية، كتاب المناقب، باب مناقب علي(عليه السلام)؛ عن علاء عبيد، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، م. س، ص 170.
[20]- البداية والنّهاية، ج 5، ص 228.
[21]- دلائل النبوة، م. س، ج 5، ص 398-399.
[22]- المفيد، الإرشاد، ج 1، ص 160.
[23]- البيهقي، دلائل النبوّة، م. س، ص 399.
[24]- الطبراني، المعجم الأوسط، ج 6، ص 163.
[25]- إبن أبي شيبة، المصنّف، ج 7، ص 504.
[26]- النسائي، السنن الكبرى، ج 5، ص 133.
[27]- أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ص 350.
[28]- الطبراني، المعجم الأوسط، ج 6، ص 163.
[29]- إبن أبي شيبة، المصنف، ج 7، ص 504.
[30]- الطبراني، المعجم الأوسط، ج 6، ص 163.
[31]- أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ص 350.
[32]- الطبراني، المعجم الكبير، ج 18، ص 128.
[33]- إنّ هذا التّعبير بكلمة «بعدي»، أو «من بعدي»، والّذي يشكّل قرينة واضحة على إرادة الإمامة والخلافة؛ قد ورد في المصادر التّالية: سنن التّرمذي، السّنن الكبرى للنسائي، صحيح ابن حبان، مسند أبي يعلى الموصلي، مسند الرّوياني، مسند أبي داوود الطيالسي، فضائل الصّحابة لأحمد بن حنبل، حلية الأولياء لأبي نعيم، تاريخ الإسلام للذهبي، تاريخ دمشق لابن عساكر؛ لمراجعة النّصوص راجع: علاء عبيد، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، م. س، صص 152-158.
[34]- المغني (كتاب الإمامة)، ج 1، ص 154.
[35]- إبن كثير، البداية والنهاية، ج 5، ص 122.
[36]- إبن حجر،الصواعق المحرقة،م.س،ج1، ص109؛الدهلوي،نفحات الأزهار،ج9،ص292.
[37]- القاضي عبد الجبار، المغني، ج 1، ص 153-154؛ وللمزيد حول شكوى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد؛ راجع: هاشم الميلاني، الغدير، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 2017 م، ط 1، صص 224-226.
[38]- سورة آل عمران، الآية: 31.
[39]- إنّ ذهابنا إلى هذا التّفصيل بين الاحتمالات والفرضيّات التّاليّة: 1- شكوى سريّة اليمن في حجّة الوداع في مكّة المكرّمة، 2- شكوى سريّة اليمن قبل حجّة الوداع في المدينة، 3- شكوى سريّة اليمن بعد حجّة الوداع في المدينة؛ إنّما هو من باب المراعاة لمجمل الآراء، ولما يمكن أن يُفهَم من الرّوايات والنّصوص التّاريخيّة في المقام، بغضّ النّظر عن كون جميع الشّكاوى -مورد البحث- قد حصل في السّنة العاشرة للهجرة في مكّة المكرّمة؛ أو أنّ بعضها قد حصل في مكّة المكرّمة في السّنة العاشرة للهجرة، والبعض الآخر قد حصل قبل ذلك في المدينة؛ أو أنّ بعضها قد حصل في مكّة المكرّمة في السّنة العاشرة للهجرة، في حين أنّ بعضًا منها قد حصل قبل ذلك في المدينة، وبعضًا آخر قد حصل بعد ذلك في المدينة؛ أو لربّما غير ذلك من الاحتمالات؛ وذلك لأنّ هذه الشّكاوى -في مجملها- الّتي نقلتها مجمل المصادر التّاريخيّة والرّوائيّة ذات الصّلة، يمكن تصنيفها إلى الأقسام التّاليّة:
الأوّل: الشّكاوى الّتي حصلت في مكّة المكرّمة في حجّة الوداع: وهي الّتي كانت الموضوع الأساس للبحث، والملاحظات النّقديّة الّتي أوردناها في مقامنا هذا؛ وقد بيّنا عجز هذه الشّكاوى عن حبس دلالة خطبة الغدير في الشّكوى، وتعطيل دلالتها على الخلافة.
الثّاني: الشّكاوى الّتي حصلت -أو قد تكون حصلت- قبل حجّة الوداع في المدينة المنوّرة: وهذه الشّكاوى تنطبق عليها جميع الملاحظات النّقديّة الّتي أوردناها في القسم الأوّل، بل إنّ بعض تلك الملاحظات هناك تصبح هنا أشدّ حضورًا، وذلك نتيجةً للفاصلة الزّمنيّة الأبعد عن حادثة الغدير، ولغيرها من المفارقات الأخرى ذات الصّلة (مكانيّة..)؛ وتاليًّا يصبح الأمر أصعب على أصحاب دعوى الوصل بين حديث الغدير وقضيّة الشّكوى تلك، من حيث عجز دعوى الشّكوى عن حبس دلالة حديث الغدير فيها، وتعطيل ظهورها في الخلافة للإمام علي(عليه السلام).
الثّالث: الشّكاوى الّتي حصلت -أو قد تكون حصلت- في المدينة بعد حجّة الوداع: وهذا القسم من الشّكاوى -على فرض حصوله- لا يمكن أن يكون على الإطلاق سببًا لحديث الغدير، لأنّه -على فرض حصوله- قد وقع بعدها، فلا يمكن أن يكون سببًا لها، هذا فضلًا عن أنّ مجمل الملاحظات النّقديّة الّتي أوردناها ينطبق أيضًا على هذا القسم.
وما ينبغي قوله هو: إنّه وإن جارينا البحث التّاريخي في بعض مواضع بحثنا هذا، لكن حقيقة الأمر أنّ مجمل الملاحظات النّقديّة الّتي أوردناها في المقام لا يتغيّر بين قولنا إنّ الشّكوى قد حصلت في حجّة الوداع أو قبلها أو بعدها، أو كانت هناك أكثر من شكوى (في حجّة الوداع وقبلها؛ فيها وقبلها وبعدها...)؛ وذلك لأنّ جوهر الملاحظات ينصب على أصل الشّكوى ودعواها، بمعزل عن تلك التّفاصيل التّاريخية. وجوهر هذه الملاحظات وجملتها كفيل بإبطال تلك الدّعوى، وكشف عجزها عن حبس دلالة حديث الغدير، وتعطيل ظهوره في خلافة الإمام(عليه السلام) عليّ للنّبيt.
وعليه، سنكتفي بهذا المستوى من مجاراة القوم في بحثهم التّاريخي في تاريخيّة الشّكوى أو الشّكاوى، وزمان ومكان كلٍّ منها، لأنّ هدف البحث وضوابطه المنهجيّة ذات الصّلة يدفعانا إلى تجاوز هذا التّفصيل لصالح المعالجة المنهجيّة الهادفة، الّتي تتمحور حول بطلان دعوى الوصل بين شكوى سريّة اليمن تلك -بمعزلٍ عن جملة تفاصيلها التّاريخيّة- وبين حديث الغدير، وهو -أي بطلان الدّعوى- ما يَثبت ويتحقّق بمعزلٍ عن الدّخول في جملة تلك البحوث التّاريخيّة.
[40]- البداية والنّهاية، ج 5، ص 122.