محتويات العدد
■ التوحيد الذاتيّ من وجهة نظر المتكلّمين المسلمين
د. جابر موسوي راد
■ التوحید الصفاتي من وجهة نظر المتکلّمین المسلمين
د. بهروز محمدي منفرد ، الشيخ حسين رستمي
■ التوحيد الأفعالي من وجهة نظر المتكلّمين المسلمين
الشيخ حسن تركاشوند
■ الدعوة إلى الله "دراسة في الأساليب والنتائج"
د. محمد كاظم الفتلاوي
الدراسات و التحقيق
■ شبهات ديفيد هيوم وإيمانوئيل كانط حول براهين إثبات وجود واجب الوجود
د. حميد رضا
■ دراسـة فـي النبــوّة
د. حاتم كريم الجياشي
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتاحية العدد
تنزيه الذات الإلهيّة سبيل للتوحيد الخالص
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[1]
يمثّل التوحيد الإلهيّ حصيلة جملةٍ من المطالب التي تهدف إلى إثبات غرضين، الأول: تفرّد الله تعالى بكلّ كمالٍ وجمال ٍعلى نحو الإطلاق والدوام، والثاني تنزيه الذات الإلهيّة عن الشريك والقبائح وما لا يليق. فإنّ الاختلافات الكلاميّة نشأ معظمها من رفض صفات الثبوت، فاضطرّ البحث الكلامي إلى توسيع البحث في صفات السلب، وعلى وفق هذا التصنيف نعقد برهان ذلك في هذه الورقة لغرض الوصول في البحث إلى التوحيد الخالص.
قسّم العلماء جهات النظر إلى توحيد الواجب الحقّ على ثلاثة أنظار: الذات، والصفات، والأفعال، وجميعها تهدف الى إثبات الكمال، وتنزيهه تعالى عن الكثرة وتعدّد القدماء، وإجلاله عن القبح، فتنزيهه أولًا: عن الشريك والمثيل اقتضى امتناع الكثرة والعدد في مرتبة الذات، وخلاصتها تنزيه من الاشتراك معه (عزّ وجل) في العمل والتدبير والخلق، وغير ذلك ممّا يقتضيه تعدّد الآلهة؛ ليكون وحده تعالى من يستحقّ العبادة والامتثال، ويتحقّق التوحيد المحض.
وتنزيهه ثانيًا: عن التركيب من الأجزاء العقليّة والماديّة؛ لأنّه ذاتٌ بسيطةٌ لا تكثّر فيها، ولا تقبل التقسيم لا في الذهن، ولا في الخارج؛ «لأنّه لا ماهية له، وما لا ماهية له ليس له أجزاء عقلية والّتي هي الجنس والفصل”[2]. فضلًا عن الأجزاء الماديّة، فليس مركّبًا من الأجزاء الخارجيّة والمقدارية، إنّه سبحانه منزّهٌ عن الجسم والمادّة.
وقد أطلق المتكلّمون على الأول التوحيد الواحدي، أي لا ثانيَ له، وعلى الثاني التوحيد الأحدي، أي لا جزء له[3]، في ذاته تعالى فوجوده ليس زائد عن ذاته، وفي صفاته فصفاته ليست زائدةً عن ذاته؛ إذ الصفات عين الذات. فعن الإمام الباقر8 « إنّه (تعالى) واحدٌ أحدٌ صمدٌ أحديّ المعنى، وليس بمعانٍ كثيرة مختلفة »[4]. فحاصل التنزيه في التوحيد نفي الكثرة في مرتبة الذات؛ لأنّ الحقّ عين ذاته، ونفي الكثرة بعد الذات لأنّ الصفات عين الذات.
إذًا التوحيد الذاتي يمتنع معه التعدّد والتركيب، وإنّ جميع الأنبياء دعوا الى توحيد الله (عزّ وجلّ)، ونفي ما سواه من الآلهة.
فلو أمكن الشريك والتعدّد لتمّ إرسال من يمثّلهم، ولبان أثرهم، ولتعدّد الأثر، وأختلف في الواقع، خلافًا لما نراه من وحدة النظم الكونيّة، ووحدة نسق عالم الوجود؛ فإنّ وحدة النظام الكوني وجريانه على نسقٍ واحدٍ منّظمٍ دليل التوحيد الذاتي للخالق الموجود المدبّر المُحكِّم.
وقد تمّ الاستدلال لإثبات التوحيد الذاتي بطائفةٍ من الأدلة النقليّة مثل سورة التوحيد، والأدلّة العقليّة سواء المستمدة من النصوص الدينية؛ مثل برهان التمانع (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [5]، أو المستمدة من الأدلة الصرفة التي قدّمها المتكلّمون؛ مثل بساطة الذات، أو كونه صرف الوجود.
أمّا التوحيد الصفاتي وهو اتصاف الله بصفات الكمال المطلق، مثل العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام، فلقد عرضت فيه مجموعة من النظريات القائمة على تنزيه تعالى عن زيادة الصفة عن الذات؛ لاستلزام الزيادة الكثرة والتركيب، وتعدّد القدماء والافتقار، ولا خلاص من محذور هذه السوالب إلّا بالقول بالنظريّة الأساس، وهي عينيّة الصفات الإلهيّة للذات، ورد النظريّات الأخرى لاستلزامها النقص المتقدّم.
انقسم المتكلّمون في بيان علاقة الصفات بالذات الإلهيّة على قسمين، القسم الأول القائلون: بعينيّة الصفات للذات الإلهيّة، والقسم الثاني القائلون: بزيادتها على الذات؛ بلحاظ إنّ الذات لا تمتلك هذه الصفات على نحو الحقيقة، سواء بنيابتها عنها أم تلبّس الذات بأحوالٍ خاصّةٍ تقوم مقام الصفة.
أمّا عينيّة الصفات للذات فلأن الذات بسيطةٌ لا تركيب فيها ولا تكثّر، فقد اتّحدت واقعيّة الصفة وواقعيّة الذات بوجودٍ واحدٍ بسيطٍ، ومصداقٍ واحدٍ لكلا المفهومين، وذلك ما يوجب غناه عمّا وراء ذاته [6]؛ ولأنّ الصفة ضروريةٌ لها، ولا يمكن أنْ تنفك عنها، فهي متحدةٌ بالذات ولا تغايرها، إذ المصداق الخارجي واحدٌ وانْ اختلف المفهوم وأعطى معنى الاثنينيّة [7]؛ ولعلّ هذا هو محلّ اشتباه بعض الفرق الإسلاميّة في عينيّة الصفات للذات، فإنّها تعنى بالتغاير على نحو المفهوم الذهني بين الذات والصفات، وليس المصداق الواقعي، أي إنّ التغاير والتعدد راجعٌ إلى عالم المفهوم، أمّا العينيّة فهي راجعة إلى مقام الواقع العيني. وإنّ البحث قائم حول الزيادة الحقيقيّة بين الذات والصفة، وليس الذهنيّة المفهوميّة. على أنّ وحدة الذات والصفة لا تؤثّر في بساطة الذات؛ لأنّها غير مركّبةٍ من الصفات، ولا الصفات جزء منها [8].
يقول الإمام الصادق8 في عينيّة الصفات الإلهيّة للذات: «لم يزل اللهُ (جلّ وعزّ) ربُّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور»[9].
إذ القول بعدم عينيّة الصفات آيل إلى أمورٍ ثلاثة: خلو أصل الذات الإلهية من الصفات الكماليّة، واثنينيّة الذات بتركّبها مع الصفات؛ لأنّها حينها متباينة عن ذاته زائدة عليه، ممّا يستلزم الكثرة والتركيب، والثالث افتقاره (عزّ وجلّ) إلى موجد لهذه الصفات خارج عن ذاته؛ يفيض عليه الكمال، والواجب منزّه عن الاحتياج لغير ذاته [10].
ويعلّل المتكلّمون ذلك بأنّ الافتقار دليل الإمكان، إذ قسّموا الموجود إلى واجبٍ وممكنٍ «فواجب الوجود هو الذي لا يفتقر في وجوده إلىٰ غيره، ولا يجوز عليه العدم، وهو الله تعالىٰ. وممكن الوجود هو الذي يفتقر في وجوده إلىٰ غيره، ويجوز عليه العدم، وهو ما سوى الله تعالىٰ، وهو العالَم. فلو كان البارئ تعالىٰ ممكن الوجود لافتقر إلىٰ مؤثِّر، والمفتقر ممكن»[11]
ومن خشية الوقوع في نتيجة ذلك تأتي ضرورة القول بعينيّة الصفات، وأنّها عين الذات كالعلم والقدرة؛ ليضع ذلك في حقل التوحيد، وهو ما أطلق عليه بالتوحيد الصفاتي، الذي اختارته مدرسة أهل البيت %، والحكماء، وجمهور متكلّمي الإمامية والمعتزلة.
هذه النظرية تدحض بدورها جميع الآراء في التوحيد الصفاتي التي يختلّ فيها ميزان التنزيه وإنْ ادّعته. وجميع ما سوى ذلك يدلّ على زيادة الصفة على الذات، وهذه الزيادة نوعان:
النوع الأول: الزيادة الصريحة [12]: حاصلها أنّ الصفة مباينة للذات؛ لأنّ أصل الصفة يلزم أنْ تكون مغايرةً للموصوف، وهذا يستلزم الكثرة والتركيب والحاجة وتعدّد القدماء، وهو باطل بعينه.
النوع الثاني: الزيادة الضمنيّة: مثل نيابة الذات عن الصفة [13]، أو ثبوت الصفة للذات لطرو أحوالٍ خاصّةٍ على الذات، فتفتقر الذات إلى حقيقة الصفة. فلو لم تتخذ الذات هذا الحال فلا صفة لها، فالصفة معلولةٌ للذات، وحال الذات علةٌ للصفة؛ إذًا الصفة لا موجودة ذاتًا ولا معدومة [14]. ومرد هذه النظرية إلى أنّ قدماء المعتزلة قد حاولوا التخلّص من شبهة التعدّد في القدماء، ووجود إلهين في مسألة الصفة والذات؛ فقالوا بنيابة الذات عن الصفة في عملها وآثارها [15]. بأنّ الذات عالمةٌ بلا صفة علم، وقادرةٌ بلا صفة قدرة، أي لا تنسب إليه الصفة [16]، وهذه مغالطةٌ ظاهرة الضعف؛ إذ كيف يتّصف بشيءٍ دون أصل صفته؟! إذًا هو فرضٌ تخيّلي مجازي، لا حقيقي.
المؤاخذات على القول بزيادة الصفات على الذات
والمؤاخذ على الزيادة بكلّ أطيافها أنّ فرض المغايرة بين الصفة والموصوف متصوّرٌ في الممكنات؛ لأنّ الصفة عارضةٌ عليها، أمّا في الذات الإلهيّة فالصفة قائمةٌ بذاته لا عارضة؛ لأنّها عين الذات[17]؛ إذ الزيادة تقتضي حاجة الواجب إلى غيره، بل افتقار الواجب لفعل الصفة؛ فعلم الذات الإلهيّة مثلًا بسبب أثر صفة العلم فيها، وليست ذاتيًّا لها، وقدرة الذات بسبب أثر صفة القدرة، وليست ذاتيّة فيها؛ لهذا تكون زائدةً على حقيقة الذات، وإنْ كانت قديمةً بقدمها ولا تنفكّ عنها[18]؛ وذلك ما يستلزم تعدّد القدماء، والتركّب من الذات والصفة.
وممّا تقدم نستظهر أنّ الإمامية ترفض هذه النظريّة للأسباب الآتية:
السبب الأول: تنزيه الذات الإلهيّة عن النقص والافتقار بخلوها من الصفات الكماليّة [19]؛ إذ إنّها ستخلو منها قبل الاتصاف، فالعلم والقدرة والحياة لا تتصف بها الذات قبل حلول الصفة، فمثلًا علم الله لا يتحقّق قبل الاتصاف بصفة العلم؛ فيلزم أنّه – تعالى عن ذلك- لم يكن عالمًا قبلها! ناهيك عن حاجته ـ تعالى عن ذلك علو ًا كبيرًا ـ الى الوساطة لإيجاد الصفة، وهذا يعني أنّ الذات الإلهيّة تكتمل بغيرها! فينتفي بذلك الكمال الذاتي[20]. فإمكان سلب حقيقة الصفة عن الذات يلزم منه أنْ يكون اتصاف الذات بها غير حقيقي، وإذا أمكن السلب استلزم الضد، فبدل العلم يكون الجهل، وتعالى الله عن ذلك.
السبب الثاني: تنزيهه تعالى عن الشريك في القدم، وتعدّد الواجب بذاته؛ لأنّ ذلك يستلزم بطلان القدم ولزوم التسلسل [21]؛ لأنّ « هاهنا موجودًا بالضرورة، فهو إمَّا واجب أو ممكن، فإن كان الأوَّل فهو المطلوب، وإنْ كان الثاني فلا بدَّ له من مؤثِّر، فإمَّا أنْ يدور أو يتسلسل وهما باطلان، أو ينتهي إلىٰ الواجب[22]... وللمتكلِّمين طريقة أُخرىٰ قويَّة، هي أنَّ الأجسام محدَثة، فلا بدَّ لها من محدِث، فإنْ كان ذلك المحدِث قديمًا فهو المطلوب، وإلَّا لزم تسلسل الحوادث وهو محال؛ لأنَّ حادثًا ما إنْ كان أزليًا لزم التناقض، وإلَّا فالكلُّ حادث»[23].
وأمّا جهة النظر إلى النوع الثالث من التوحيد وهو التوحيد الأفعالي فحاصله تأثير الفعل الإلهي في الوجود، وعدم استقلال الموجودات بأفعالها ولا استغنائها عن الواجب[24]، على هذا يمكن القول « إنّ فاعلية الحقّ (جل وعلا) تقع في طول فاعلية الموجودات الأخرى. وما قوله تعالى ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾[25]. إلّا للإشارة إلى تلك العلاقة الطوليّة بين الرمي الإلهي والرمي البشري»[26]، فلا استقلال في الفعل البشري، وإنّما هو تابع ومشفوع بالإذن الإلهي الذي يمنحه القدرة للقيام بالأفعال ﴿... وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾[27] فيربط الفعل الإنساني بالفعل الإلهي ويعلّقه به، وينفي عنه الاستقلال، إذ العلاقة طوليةٌ بينهما؛ إذ ليس الإنسان مفوّضًا كما ذهبت المعتزلة، ولا مجبورًا كما ذهبت الأشاعرة؛ بل هو بينهما، فلا جبر ولا تفويض، ولكنْ أمرٌ بين الأمرين، كما قال أئمّة أهل البيت%.
فالمعتزلة ينسبون الفعل للفاعل الممكن المباشر مطلقًا، ولا يرون تأثير الواجب فيه؛ لذا قالوا بالتفويض، والأشاعرة ينسبون الفعل للواجب وليس للعبد إلّا أن يكون محلًّا له، مجبرًا عليه؛ لذا قالوا بالجبر؛ وإنّما اختار المعتزلة التفويض هروبًا من الجبر وحفظًا للعدل الإلهي، واختار الأشاعرة الجبرَ حفظًا للتوحيد الأفعالي، وهذا عائدٌ أيضًا إلى فهم نظام العلل في الوجود وأثرها؛ إذ نفى الأشاعرة علاقة العلّية بين الموجودات، وجعلوها قائمةً على أساس العادة والاتفاق الدائم، وأثبت المعتزلة علاقة العليّة؛ فنفوا إمكان انتساب فعلٍ واحدٍ إلى فاعلين.
والحقّ كما يرى الإمامية بأنّ الإرادة الإلهيّة اقتضت السماح للإنسان أنْ يفعل أو يترك بإرادةٍ إنسانيةٍ حرّة، لكنّها غير خارجة عن قدرة الله، وإرادته، بل نسب القرآن للأسباب الطبيعية الماديّة كثيرًا من الأفعال التي خلقها الله في عالم المادة، مثل: (وَتَرَى الأرضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيْجٍ)[28]، فنسب الإنبات إلى الأرض. ومن هنا لا مانع من أنْ تنسب أفعال الإنسان إلى إرادته، كما لا ضير من نسبتها إلى الإرادة الإلهيّة، فيثبت التوحيد الأفعالي، دون أنْ يلزم القول بالجبر، أو ينثلم الإيمان بالعدل الإلهي[29] ؛ فإنّ «السببيّة الإمكانيّة (أعمّ من الطبيعيّة وغيرها) ليست في عرض السببيّة الإلهيّة، بل المقصود أنّ هناك نظامًا ثابتًا في عالم الكون تجري من خلاله الآثار الطبيعيّة والأفعال البشريّة، فلكلّ شيءٍ أثرٌ تكوينيّ خاصّ، كما أنّ لكلّ أثرٍ وفعل مبدًأ فاعليًّا خاصًّا، فليس كلّ فاعلٍ مبدأً لكلّ فعل، كما ليس كلّ فعلٍ وأثرٍ صادرًا من كلّ مبدأ فاعلي، كلّ ذلك بإذن منه سبحانه، فهو الّذي أعطى السببيّة للنّار كما أعطى لها الوجود، فهي تؤثّر بإذنٍ وتقديرٍ منه سبحانه، هذا هو قانون العلّية العامّ الجاري في النظام الكوني الّذي يؤيّده الحسّ والتجربة، وتبتني عليه حياة الإنسان في ناحية العلم والعمل»[30].
ومن ثم إنّ التوحيد الأفعالي لا يعني إنكار العلل الطبيعية، بل يعني الاعتراف بأنّ للعلل كالشمس والنار والسيف دورًا في ظهور آثارها، وأنّ هذه الآثار هي من خواصّ هذه العلل، ومع هذا الاعتراف لا بدّ من الإذعان بأنّه لا مؤثّر حقيقة في صفحة الوجود إلاّ اللّه، وأنّ تأثيره سبحانه على نحو الاستقلال، وأمّا تأثير ما سواه من المؤثّرات إنّما هو في ظلّ قدرته تعالى، فمنه تكتسب الشمس القدرة على الإشراق والإضاءة، ومنه تكتسب النار خاصيّة الإحراق والحرارة، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص، وأعطاها هذه الآثار، كما منحها وجودها قبل ذلك[31].
ولكلّ فعلٍ جهتان من النظر (جهة أصل وجود الفعل، وجهة الفاعل المباشر)، وحسن الفعل وقبحه يستند إلى الفعل المباشر. أما أصل وجود الفعل فهو يرجع إلى الله؛ ولأنّ وجود الفعل تابعٌ للوجود، وكلّ وجودٍ حسن، فأصل وجود الفعل متصفٌ بالحسن والجمال، ولا يتّصف بالقبح؛ لأنّه وجود، والوجود حسنٌ بذاته.
ووفقًا لهذا فالأفعال تستند إلى الأسباب المباشرة، وتنتسب إليه تعالى طوليًّا في وقت حدوثها؛ لأنّه منشأ العلل، فالمعلول ينتسب إليه وإلى الطبيعة في وقتٍ واحد؛ إذ إنّ العلل الطبيعية دورها الإعداد للمعلول(الفعل)، أما الواجب فهو العلّة الحقيقية التي تفيض الوجود على المعلول.
ووفقًا لما تقدّم فالتوحيد الأفعالي حاصله إسناد جميع الأفعال لله تعالى - من غير شريكٍ أو معينٍ لأنّه غني عن الغير-، سواء في الخلق فحتى أفعال الإنسان من دون جبر[32] ، أم في الربوبية فهو وحده مدبّر عالم الممكنات الغيبيّة والطبيعيّة، وهو المقنّن المشرّع[33]، وفي المالكية فهو المالك المطلق، ولا مانع من اتصاف الإنسان بالمالكيّة الخاصّة بإذنه تعالى سواء مالكية طبيعيّة أم تشريعيّة[34]، وفي الحاكميّة فهو صاحب الولاية التكوينيّة والتشريعيّة للكون والأنسان، وله الأمر والحكم في شتى الجوانب، ولا مانع من حكم الإنسان بلا استقلال عنه؛ وإنّما بالتبع له تعالى، سواء لعامة الإنسان أم الأولياء والأنبياء[35].
وعلى هذا تنحصر الفاعليّة المستقلّة فيه (عزّ وجلّ)، فأيّ فعلٍ يصدر من غيره فهو بتفويضٍ منه له بلا استقلال عنه؛ وإنّما بإذنه وإرادته وتفويضه، وتكون أفعال غيره سلسلةً تنتهي بالعلة الموجدة، أي واجب الوجود وموجده، فهي تنسب إليه بوصفه مسبّب الأسباب [36].
في بحوث التوحيد التي يستعرضها هذا العدد من مجلة العقيدة مطالب ناظرةٌ إلى ما تقدّم هنا، وفيها تفصيلاتٌ واستدلالاتٌ اعتنت ببحث التوحيد، لاسيّما التوحيد الأفعالي، وفي العدد أبحاثٌ كلاميةٌ أخرى ناظرةٌ إلى الإيمان، ويطالع القارئ في حقل الدراسات بحثين في ردّ شبهاتٍ عن التوحيد، وبحثًا حول النبوّة وأنواعها.
نأمل أنْ تُقدّم أبحاث هذا العدد منفعةً معرفيّةً للقرّاء الكرام وعقيدتهم.
--------------------------------------------------------
[1]الأنبياء، 25.
[2] الربّاني الگلپايگاني، علي، محاضرات في الإلهيّات ،36-37. والوجه في انتفاء الماهية عنه تعالى بهذا المعنى هو أنّ الماهيّة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن غيرها، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، فكلّ ماهيّة من حيث هي، تكون ممكنة، فما ليس بممكن، لا ماهيّة له، واللّه تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات، لا يكون ممكنًا بالذات فلا ماهيّة له. م.ن.37.
[3] السبحاني، جعفر، الإلهيّات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل، 2/11.
[4] الصدوق، التوحيد، تحقيق هاشم الحسيني، جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، ص144.ح 9 باب صفات الذات، وصفات الأفعال.
[5]الأنبياء: 22.
[6] ظ: السبحاني، جعفر، الإلهيّات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل، 2/37-38.
[7] العلامة الحلي، شرح تجريد الاعتقاد، 296.
[8] ظ: الرباني الگلپايگاني، علي، محاضرات في الإلهيات، 44.
[9] الشيخ الصدوق، التوحيد، مصدر سابق، ص139. ح1 باب صفات الذات وصفات الأفعال
[10] يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوفٍ أنّه غير الصفة فمن وصفه .......جهله» الصدوق، التوحيد، الباب، 8/29. وهذا متعارضٌ مع معنى واجب الوجود لذاته الذي يقتضي الغنى وعدم الحاجة فهو غني وكامل بذاته.
[11] الشيخ الطوسي، رسالة في الاعتقادات، 104 نقلا عن موسوعة التراث الإمامي في علم الكلام، 5/25.
[12] ظ: ذهب إليها بعض الكراميّة والأشاعرة القدماء كأبي حنيفة (ت:150هـ) ورفضته الإمامية. خسروبناه، عبد الحسين، الكلام الإسلامي المعاصر، 105/1.
[13] قال بها بعض المعتزلة لتغاير الذات عن الوصف ولاستحالة نفي الصفة عنه. ظ: السبحاني، الإلهيّات، 2/34.
[14] ظ: البغدادي، عبد القاهر، الفرق بين الفرق، 182.
[15] الشريف الجرجاني، شرح المواقف، 8/47.
[16] الخوارزمي بن الملاحمي، الفائق في أصول الدين، 68.
[17] السبحاني، الإلهيات، 2/37.
[18] ظ: الأشعري، أبو الحسن، مقالات الإسلاميين، 162و 298.الباقلاني، الإنصاف فيما يجب اعتقاده، 110. الغزالي، الاعتقاد، 84. وذكر الشيخ المفيد أنّه « أحدث رجلٌ من أهل البصـرة يُعرَف بالأشعري قولًا خالف فيه ألفاظ جميع الموحّدين ومعانيهم فيما وصفناه، وزعم أنَّ لله صفات قديمة، وأنَّه لم يزل بمعانٍ لا هي هو ولا غيره، من أجلها كان مستحقَّا للوصف بأنَّه عالمٌ حيٌّ قادرٌ سميعٌ بصيرٌ متكلِّمٌ مريد، وزعم أنَّ لله وجهًا قديمًا وسمعًا قديمًا وبصـرًا قديمًا ويدين قديمتين، وأنَّ هذه كلّها أزلية قدماء، وهذا قول لم يسبقه إليه أحدٌ من منتحلي التوحيد فضلًا عن أهل الإسلام». أوائل المقالات، 51-52.
[19] ظ: الفيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين، 1/84.
[20] ظ: الفاضل المقداد، إرشاد الطالبين، 217. واللوامع الإلهيّة في المباحث الكلامية، 160. والشريف الجرجاني، شرح المواقف، 8/48.
[21] ظ: الحمصي، سديد الدين، المنقذ من التقليد، 1/139. نقلا عن موسوعة التراث الإمامي في علم الكلام، 5/33.
[22] للمقداد السيوري تفصيل ذكر فيه « أنَّ هاهنا ماهيّات متَّصفة بالوجود الخارجي بالضـرورة، فإنْ كان الواجب موجودًا معها فهو المطلوب، وإنْ لم يكن موجودًا يلزم اشتراكها بجملتها في الإمكان؛ إذ لا واسطة بينهما، فلا بدَّ لها من مؤثِّرٍ حينئذٍ بالضـرورة، فمؤثِّرها إنْ كان واجبًا فهو المطلوب، وإنْ كان ممكنًا افتقر إلىٰ مؤثِّر، فمؤثِّره إنْ كان ما فرضناه أوَّلًا لزم الدور، وإنْ كان ممكنًا آخر غيره ننقل الكلام إليه ونقول كما قلناه أوَّلًا، ويلزم التسلسل، فقد بان لزومها ... وأمَّا التسلسل فهو ترتّب عللٍ ومعلولاتٍ بحيث يكون السابق علَّةً في وجود لاحقه، وهكذا، وهو أيضًا باطل؛ لأنَّ جميع آحاد تلك السلسلة الجامعة لجميع الممكنات تكون ممكنةً لاتِّصافها بالاحتياج، فتشترك بجملتها في الإمكان، فتفتقر إلىٰ المؤثِّر، فمؤثِّرها إمَّا نفسها أو جزؤها أو الخارج عنها، والأقسام كلّها باطلة قطعًا.
أمَّا وجه بطلان الأوَّل، فلاستحالة تأثير الشـيء في نفسه، وإلَّا لزم تقدّمه علىٰ نفسه، وهو باطل كما تقدَّم. وأمَّا وجه بطلان الثاني، فلأنَّه لو كان المؤثِّر فيها جزءها، لزم أن يكون الشـيء مؤثِّرًا في نفسه، لأنَّه من جملتها وفي علله أيضًا، فيلزم تقدّمه علىٰ نفسه وعلله، وهو أيضًا باطل. وأمَّا وجه بطلان الثالث، فلوجهين:
الوجه الأوَّل: أنَّه يلزم أنْ يكون الخارج عنها واجبًا، إذ الفرض اجتماع جملة الممكنات في تلك السلسلة، فلا يكون موجودًا خارجًا عنها إلَّا الواجب، إذ لا واسطة بين الواجب والممكن، فيلزم مطلوبنا.
الوجه الثاني: أنَّه لو كان المؤثِّر في كلِّ واحدٍ واحدٍ من آحاد تلك السلسلة أمرًا خارجًا عنها، لزم اجتماع علَّتين مستقلَّتين علىٰ معلولٍ واحدٍ شخصـي، وذلك باطل، لأنَّ الفرض أنَّ كلَّ واحدٍ من آحاد تلك السلسلة مؤثِّر في لاحقه، وقد فُرِضَ تأثير الخارج في كلِّ واحد منها، فيلزم اجتماع علَّتين علىٰ معلول واحد شخصـي، وهو محال، وإلَّا لزم استغناؤه عنهما حال احتياجه إليهما، فيجتمع النقيضان، وهو محال، فبطل التسلسل المطلوب، وقد بان بطلان الدور والتسلسل، فيلزم مطلوبنا، وهو وجود الواجب تعالىٰ» النافع يوم الحشر، 22_24.
[23] العلامة الحلي، مناهج اليقين، 242، نقلًا عن موسوعة التراث الإمامي في علم الكلام، 5/83.
[24] لأنّ الاستقلال يثبت واجب الوجود عند الممكن.
[25] الأنفال: 17.
[26]خسروبناه، عبد الحسين، الكلام الاسلامي المعاصر، 1/106.
[27] المائدة: 110.
[28] الحج: 5.
[29] خسروبناه، عبد الحسين، الكلام الاسلامي المعاصر، 1/107-108.
[30] الرباني الگلپايگاني، علي، محاضرات في الالهيات، 50.
[31] ظ: السبحاني، جعفر، الفكر الخالد في بيان العقائد، 1/49.
[32] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 15/88.
[33] م. ن، 20/180.
[34] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 5/294.
[35] خسروبناه، عبد الحسين، الكلام الإسلامي المعاصر، 1/100-101.
[36] ولهذا المفهوم من سببيّة الأسباب ـ ضمن أنّها جميعًا بقبضة الله تعالى الذي هو مسبّب الأسباب ـ تأثيرٌ كبير في مسار تربية الإنسانية؛ فهو يمنع الإنسان من ناحية عن الرهبانيّة أو ترك الأسباب، أو ترك الاستعانة بالوسائل المادّيّة في تحصيل الأغراض والحاجات، ومن ناحية اُخرى من اللهث وراء الأسباب أكثر من القدر المعقول، أو الاضطراب من جرّاء عدم توفّر الأسباب على الرغم من السعي المتوسّط غير المُضني وراءها، أو النقص في التوكّل على الله، أو فقد النفس المطمئنّة بالله سبحانه وتعالى. الحائري، كاظم، أصول الدين، 87.