محتويات العدد
■ المفاهيم والأبعاد الثقافيّة في القرآن الكريم
د. علي رضا قائمي نيا
■ الثقافة التابعة والثقافة الرائدة
الشيخ محمد تقي الجعفري
■ منهجيّة العلم الديني
الشيخ حميد بارسانيا
■ عقيدة المهدويّة والانتظار في الموروث الإسلامي
د. شهيد كريم ، أ. آيات عزيز
الدراسات و التحقيق
■ الأئمّة من قريش دراسة تحليليّة نقديّة
الشيخ الدكتور محمد شقير
■ مفهوم (السلطان) في الفكر الشيعي
الشيخ محمدرضا الخاقاني (بیگ)
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتاحية العدد
أثرُ الدِّين في ثقافةِ الإنسان
يتميّز الدين الإلهيّ بقدرته على رفد الوعي الإنسانيّ بمرتكزاتٍ فكريّة وروحيّة أساسيةٍ عميقةٍ، تعمل على توجيه الإرادة والسلوك نحو ما ينسجم معها.
هذا العنصر التأثيري في الدين الذي ينفذ عميقًا في التركيبة الإنسانية، هو الذي يدفع الإنسان ليرسم خططه، ويحدّد اختياراته في ضوء منظومة الدين العقديّة والتشريعيّة. من ذلك تأثيره في صياغة الفكر والثقافة تبعًا لقوّة الحضور الديني في وعي الإنسان؛ فكلّما كان هذا الحضور قويًا وفاعلًا كان تأثيره قويًّا وواضحًا في تلوين الفكر والثقافة بصبغته.
ولأنّ الدين هدفه إيصال الإنسان إلى كماله، فهو يضع أمام الإنسان مجموعة من الأسس التي تتدخل في تنميط سلوكه وفقًا لذلك الهدف، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وغير بعيدٍ بأنّ هذا التخطيط الاستراتيجي للدين يكمن هدفه في إنتاج ثقافةٍ رصينةٍ، لها قدرةٌ فعّالةٌ تناسب الظروف والبيئات الاجتماعية والفكرية، وتعزّز فيها المفاهيم القيمية، بل لها قدرة الارتقاء بهذه المناخات وتهذيبها وتعميق رؤيتها إلى ما هو أفضل وأتم وعيًا وعملًا، ليعيد الدين وعالم الوحي إنتاج ثقافةٍ عامةٍ وتخصصيةٍ لأسلوب حياة عالم المؤمنين، ونظام سلوكهم، ومنظومة وعيهم وأفكارهم.
وهذا ما يبرهن على قدرة الدين التأثيرية المباشرة أو الخفية في مساحات الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع والمنظومة الفطرية للإنسان ومقتضيات حياته. فهو قوٌة تأثيريةٌ تمتلك اقتدارًا في النفوذ إلى أبنية الحياة الاجتماعية.
ذلك ما يفرزه عمل الدين بوصفه منظومةً عقائديةً لها سلوكها، أو منظومة تخطيطية منسجمة ومترابطة، فهو يعبّر عن ثقافةٍ ما؛ فإنّ الثقافة التي يقيمها الدين بتعبير العلّامة محمد تقي الجعفري (رح): "عبارة عن الحياة الهادفة التي عملت على تفعيل جميع الأبعاد الجمالية والعلمية والمنطقية والغائية لدى الأفراد بشدّة، وتعمل على بلورة جميع العناصر الثقافية، ولا تفصل عنصر الثقافة العلمية عن عنصر الأخلاق الإنسانية العالية، ولا تفصل العنصر الثقافي الفني عن العنصر الثقافي للترشيد الاقتصادي. وتجعل وحدة الثقافة تابعةً لوحدة روح الإنسان، وتحول دون تجزئتها وانهيارها".
وتتخذ أفعال الإنسان شكل ثقافةٍ ما أو نموذجٍ ثقافيّ محددٍ لوجود نوعٍ من الاقتضاء والعلية بين الشكل الثقافي الذي تبلور فعله عليه، والطابع العام للأفعال الصادرة عن تلك الثقافة.
وهذا لا يقتضي أنْ يكون الإنسان واقعًا في قهرٍ، ولا أن تكون إرادته مصادرةً لثقافة المحيط؛ بل يكون متأثرًا بالقواعد الثقافية المكونة؛ لأنّ الثقافة أرضيةٌ مشتركةٌ بين الأفراد تعمل بحدود التوجيه والإرشاد والاقتضاء.
سنطالع في هذا العدد من مجلّة العقيدة التي تصدر عن المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة التابع للعتبة العبّاسيّة مجموعة بحوثٍ منها ما يتعلّق بإيضاح الأبعاد والمفاهيم الثقافية في القرآن الكريم وهي ما يستعمل في الحياة الاجتماعية، وظرف تحقّقها هو المجتمع، وتشتمل على خططٍ ثقافيةٍ خاصّة. وقد وضع القرآن الكريم للبشرية أربعة نماذج ثقافيّة تتعلّق بالمحيط العام، أو المجتمع الخاصّ، أو الفرد.
ولكي يحفظ الدين وعي الفرد من الأنساق الثقافية الهدّامة حذّر من اتّباع الثقافة التبعيّة التي تدعو إلى الحريّات الفوضويّة، والتحرّر المزيّف الذي يحثّ الفرد على التمرّد بوصف ذلك ضدًّا نوعيًّا للثقافة الدينيّة التي تهدف إلى البناء القيميّ والتربويّ للإنسان. وذلك ما تناوله بحث حول الثقافة التبعيّة والثقافة الرائدة مبيّنًا المساحات التي تعمل عليها كلٌّ منهما وملامحهما وآثارهما، منتهيًا إلى التحذير والنهي عن تبنّي الثقافات التبعيّة الدخيلة. وتكمن علّة هذا النهي؛ لأنها هذه الثقافات لا تستند إلى أصلٍ أو قانونٍ ثابتٍ، ولا تتعلّق بحقوق الحياة الحقيقية واحتياجات الناس الجوهريّة؛ وإنما تكتسب مقبوليتها من رغبات الناس في تقليد حالةٍ أو ظاهرةٍ معينةٍ مهما كانت الدوافع. فكلّ عناصر فساد الأخلاق والإفساد في الدين والمجون يمكن أنْ يروج لها بعنوان الثقافة؛ لأنّها داخلة في رغبات فئةٍ من الناس. وهذا ما استغله المستبّدون والمتسلّطون في المجتمع.
ويطرح بحث (منهجية العلم الديني) تفريقًا دقيقًا بين الدين والعلم، واضعًا مجموعة من الأسس المبينة لذلك، مثل موضوع العلم وعلاقته بالغيب والقيم المعرفية والثقافة وغير ذلك، مبينًا مجموعة من المحاور ذات العلاقة مثل الاتجاه الديني والمناهج الحسية، ومكانة الوحي في المعرفة الدينية، وتفاعل العلوم الوحيانية والعلوم العقلية، ويناقش جملةً من الآراء ذات العلاقة في فهم الدين وحقيقته وعلاقته بالعلوم.
ولكي لا تبتعد المجلة عن حقّ معرفة أهل البيت (عليهم السلام)؛ فقد تناول هذا العدد بحثًا حول العقيدة المهدوية في الموروث الإسلامي وحضورها المستمر في مباحث الفكر الإسلامي وفي الواقع الخارجي.
في حقل الدراسات والتحقيق برزت دراستان في الخلافة والإمامة إحداهما حول الأئمة من قريش، تناولت بالتحليل الروايات الواردة في ذلك، مع نقد التوجيهات غير السديدة لها، من جهة عدد الخلفاء الوارد في الروايات، وتعيينهم، وصفاتهم. وتناولت الدراسة الأخرى مفهوم السلطان في الفكر الشيعي عبر قراءةٍ في باب السلطان في الروايات الواردة في كتاب وسائل الشيعة، مركّزةً على البعد الكلامي الملتصق بالخلافة والولاية والحكم والولي، وكاشفةً عن المراد المحدّد لمفهوم السلطان في الفكر الشيعي.
نأمل أنْ تُقدّم أبحاث هذا العدد منفعةً معرفيّةً للقرّاء الكرام وعقيدتهم. واللهُ وليُّ التوفيق.