البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إشكالية الحيرة في بداية عصر الغيبة (الأسباب المآلات والدلالات)

الباحث :  د.محم شقير
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  20
السنة :  شتاء 2020م / 1441هـ
تاريخ إضافة البحث :  March / 17 / 2020
عدد زيارات البحث :  1308
تحميل  ( 746.075 KB )
إنّ من الواضح لمن يراجع مجمل المصادر التاريخيّة والكلاميّة التي ترتبط بمرحلة الغيبة (أي غيبة الإمام المهديّ(عليه السلام)) وبدايتها على وجه التحديد، يعرف أنّ موجةً من الحيرة قد أصابت الاجتماع الشيعيّ العامّ بعد وفاة الإمام الحسن العسكريّ في بعض من مجتمعاته وفرقه. وهذا أمرٌ غير خافٍ على أحد، ومن الطبيعيّ أن يحصل وفقًا لمنطق الأمور، إذا ما أخذنا مجمل الأسباب والظروف التي كانت قائمة آنذاك.
 وعليه لا يمكن لنا -إذا ما أردنا أن نفقه قضيّة الحيرة تلك، وجميع أو مجمل دلالاتها- أن نفصل حدث الحيرة ذاك عمّا تقدّمه، أو ما لحقه، أو ما أحاط به من ملابسات وظروف على أكثر من مستوى. هذا إذا ما كان الهدف هو القيام ببحث علميّ موضوعيّ مجرّد من أيّة خلفيّة، أو إسقاط علميّ، أو محاولة التمسّك بأيّ معطىً تاريخيّ أو غير تاريخيّ للوصول إلى تأكيد قضيّة محسومة مسبقًا في ذهن من يحملها.
لقد سعى البعض إلى التمسّك بقضيّة الحيرة في بداية عصر الغيبة الصغرى للتشكيك بوجود الإمام المهديّ(عليه السلام) وولادته، وحاول أن يبني بناءات هائلة، وأن يصل إلى نتائج بعيدة على أساس من قضيّة الحيرة تلك، حيث كانت معالجته مجانبة لشروط البحث العلميّ الذي يجب ألا يستبعد أيّ معطىً علميّ، حتّى لو كان يخالف رغبة الباحث أو ميوله، وألّا يتجاهل أيّة فرضيّة أخرى، حتّى لو كانت تخالف تلك الفرضيّة التي يميل إلى الأخذ بها أو الترويج لها.
إنّ ما تقدّم استدعى منّا أن نعالج هذا الموضوع (إشكاليّة الحيرة) محاولين التركيز على أهمّ الأسباب التي أدّت إلى إنتاج ظاهرة الحيرة تلك، ومدياتها الاجتماعية والتاريخيّة، ونتائجها، ومآلاتها وما انتهت إليه، وأهمّ الدلالات التي يمكن أن تستفاد من ذاك المآل، بالإضافة إلى القيام بمطالعة نقديّة لأكثر من رأي طرحه بعض الذين حاولوا أن يستفيدوا من قضيّة الحيرة تلك للترويج لأفكار مبتوتة لديهم مسبقًا.
هذا وسوف نعمد إلى ترتيب البحث على الشكل الآتي: نبحث أوّلًا في معنى الحيرة، ثمّ نبحث في مداها الاجتماعيّ، ثمّ في تاريخيّتها الزمنيّة، ثمّ في أسبابها، لنطرح بعدها السؤال التالي -وهو سؤال جوهريّ- أنّه هل تمّ التغلّب عليها؟ ولماذا أمكن تجاوز أزمة الحيرة تلك، وما الذي يدلّ عليه هذا النجاح في تجاوز تلك الأزمة، أي ما هي دلالات ذلك النجاح، وما الذي يمكن أن نستفيده منه؟ وهو المبحث الذي سوف يحمل عنوان مآلات الحيرة، لنبحث بعدها في نتائجها، ثمّ لننتهي إلى خاتمة نذكر فيها أهمّ النتائج والخلاصات التي توصّلنا إليها، كما سوف نعمد إلى التركيز فيها على تقديم مطالعة نقديّة لبعض الكتابات التي تعرّضت لقضيّة الحيرة، محاولةً توظيف هذا المعطى ليخدم عملهم في نقد (أو نقض) المعتقد الشيعيّ الإماميّ الإثني عشري في موضوع الإمام المهديّ(عليه السلام)، وفي غيره من الموضوعات ذات الصلة.
1- مفهوم الحيرة: الحيرة في الأمر هي عدم الوضوح فيه والتردّد، واللاموقف، «حار بصره... وذلك إذا نظرت إلى الشيء فغشِيَ بصرك»[1]. وأيضًا: «نظر إلى الشيء، فلم يقوَ على النظر إليه... رجل حائر... مضطرب متردّد.. (الحِيرَة) التردّد والاضطراب»[2].
ولذلك إنّ ما يتضمّنه مفهوم الحيرة في أمر من الأمور هو عدم الوضوح فيه، والتردّد، والاضطراب، أي اللاموقف.
وإنّ مبرّر البحث في مفهوم الحيرة هو إنّ البعض من هؤلاء قد عمل على أخذ مفهوم الحيرة إلى خلاف معناه الصحيح، ليجعله مساوقًا للموقف من أمرٍ معيّن، وليس اللاموقف. وكأنّ الحيرة تعني الإيمان بعدم كون وولادة الإمام المهديّ(عليه السلام)، أو الاعتقاد بعدم وجوده، وليس مجرّد التردّد في الموقف من هذا الموضوع، أو الاضطراب فيه، أي البقاء في مرحلة التزلزل وعدم الموقف.
وهذا بمعزل عمّا يمكن أن يؤول إليه الأمر لاحقًا، إذ إنّنا نبحث هنا في مفهوم الحيرة -كمفهوم- لنقول إنّ استخدام هذا المفهوم في توصيف تلك المرحلة لا يستنتج منه عدم الإيمان بالمطلق، أو الاعتقاد بعدم ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام). وإنّما يستفاد منه التردّد في الأمر، وعدم الوضوح فيه، إلاّ إن كان المراد بعدم الإيمان هو عدم اليقين من قضيّة الولادة، وإن أمكن لعدم اليقين هذا أن يكون مدخلًا إلى مرحلة يسودها فيما بعد الإيمان بوجود الإمام والاعتقاد بولادته.
2- مدى الحيرة: أي إنّ السؤال المطروح هنا هو إلى أيّ مدى وصلت تلك الحيرة في الاجتماع الشيعيّ، فهل شملت جميع الناس أو أكثرهم، أم إنّها لم تشمل إلاّ القليل من الناس؟.  وهل إنّ تلك الحيرة قد شملت أكثر أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، بمن فيهم أصحابه الخلّص، وخواصه المؤتمنون على أمره، أم إنّها لم تشمل إلا القليل منهم، في حين أنّ أغلبهم وأكثرهم كان على يقين من أمر الخلف؟
وعليه سوف نقوم بتقسيم هذا المبحث إلى قسمين: الأوّل، ويعالج مدى شموليّة الحيرة لعامّة الناس(عامّة الشيعة)، ويعالج الثاني مدى شموليّة الحيرة لأصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، أي إنّ القسم الأوّل يبحث في الحيرة لدى عامّة الشيعة، فيما يبحث الثاني في الحيرة لدى أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام).
القسم الأوّل: وهو معنيّ بالإجابة على هذا السؤال، أنّ تلك الحيرة، هل اتسع مداها ليشمل أكثر الشيعة وعامّتهم في ذلك الوقت، أم إنّ ما حصل هو خلاف ذلك، بمعنى إنّ الحيرة لم تشمل إلاّ القليل من الشيعة، في حين إنّ جمهور الشيعة بقي خارج دائرة التردّد والحيرة؟
للإجابة على هذا السؤال، سوف نقوم بتصنيف النصوص التي عنت بالاختلاف والفرقة والحيرة بعد وفاة الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام) إلى الطوائف التالية:
الطائفة الأولى: وهي النصوص التي عرضت لأصل التفرقة والاختلاف، بل وعدد الفرق وآرائها من دون تحديد النسبة العدديّة لكلّ فرقة من هذه الفرق، ومن دون بيان حجم كلّ فرقة منها، وإنّما بقي حجم كلّ فرقة وعدد أفرادها ونسبتها العدديّة أمرًا مسكوتًا عنه في تلك النصوص.
ولعلّ السبب في هذا الأمر أنّ مقاربة تلك النصوص لذاك الحدث كانت مقاربة كلاميّة ذات بعد اجتماعيّ، ولم تكن مقاربة إحصائيّة واجتماعيّة.
من هذا القبيل، ما ذكره كلّ من الأشعري القمّي (توفّي ما بين 299هـ.ق و301هـ.ق) في كتابه (المقالات والفرق)[3]، وما ذكره النوبختي في كتابه (فرق الشيعة)[4]، حيث عرضا لعدد تلك الفرق وآرائها الكلاميّة، من دون التعرّض للنسبة العدديّة لكلّ من هذه الفرق، ومن انضوى فيها، ومن هم رجالها ورؤساؤها... وإنّما بقي كلّ ذلك مسكوتًا عنه في تلك النصوص.
 وكذلك أيضًا ما ذكره الخزّاز القمّي (القرن الرابع الهجريّ) في كتابه (كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر)، متحدّثًا عن تلك السنة التي توفّي فيها الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام) أي سنة 260 هـ.ق، حيث يقول: «ففيها قبض أبو محمد (عليه السلام)، وتفرّقت شيعته وأنصاره، فمنهم من انتمى إلى جعفر، ومنهم من تاه وشكّ، ومنهم من وقفت عليه الحيرة، ومنهم من ثبت على دينه بتوفّيق الله عزّ وجلّ»[5]. فهو هنا يتحدّث فيما انتهت إليه الشيعة من فرق إلى أربعة فرق من دون الحديث في حجم كلّ فرقة ونسبتها العدديّة.
الطائفة الثانية: وهي النصوص التي تحدّثت في أنّ كثيرًا من الشيعة –أو أكثرهم- قد شملته تلك الحيرة في ذاك الوقت.
من هذا القبيل ما ذكره النعمانيّ (توفى حدود سنة 360هـ) في كتابه (الغيبة) يصف فيه «أحوال الطوائف المنتسبة إلى التشيّع ممّن خالف الشرذمة المستقيمة على إمامة الخلف بن الحسن بن علي(عليه السلام)»[6]، حيث يقول: إنّ «الجمهور منهم من يقول في الخلف: أين هو؟، وأنّى يكون هذا، وإلى متى يغيب، وكم يعيش هذا؟...»[7]. ويقول: «أيّ حيرة أعظم من هذه الحيرة، التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجمّ الغفير؟، ولم يبقَ ممّن كان فيه إلا النذر اليسير، وذلك لشكّ الناس...»[8]. ويقول: «وشكّوا جميعًا إلا القليل في إمام زمانهم. ووليّ أمرهم، وحجّة ربّهم.. للمحنة الواقعة بهذه الغيبة..»[9].
ونجد في كتاب الغيبة هذا بابًا بعنوان «ما يلحق الشيعة من التمحيص والتفرّق والتشتّت عند الغيبة، حتّى لا يبقى على حقيقة الأمر إلا الأقلّ الذي وصفه الأئمة»[10].
الطائفة الثالثة: وهي تلك التي يستفاد منها أنّ أكثر الشيعة كانوا على الاعتقاد بوجود الخلف للإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام)، وولادته وإمامته من بعده، وأنّه المهديّ(عليه السلام) الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا.
من هذا القبيل ما ذكره أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ.ق) في كتابه (مقالات الإسلاميّين)، والذي انتهى من تأليفه سنة 297هـ.ق، أي بعد 37 سنة من وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، حيث يقول في كتابه هذا: «... فالفرقة الأولى منهم وهم القطعيّة، وإنّما سُمّوا قطعيّة؛ لأنّهم قطعوا على موت موسى بن جعفر بن محمد بن علي، وهم جمهور الشيعة، يزعمون أنّ النبيّ نصّ على إمامة علي بن أبي طالب واستخلفه بعده بعينه واسمه، وأنّ عليًّا نصّ على إمامة ابنه الحسن بن علي، وأنّ الحسن بن علي نصّ على إمامة أخيه الحسين بن علي،....[ويعدّد جميع الأئمة إلى أن يصل إلى الإمام العسكريّ(عليه السلام)، فيقول]... وأنّ الحسن بن علي نصّ على إمامة ابنه محمد بن الحسن بن علي، وهو الغائب المنتظر عندهم، الذي يدّعون أنّه يظهر فيملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا»[11].
ولعلّ أهمّيّة هذا النصّ تكمن في أنّ من سطّره قد عاصر فترة الغيبة الصغرى، أي مرحلة ما بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وعايش تلك الأحداث التي وقعت فيها من الفرقة والحيرة وغير ذلك. وهو يقول في نصّه هذا بأنّ جمهور الشيعة (أي أكثرهم) هم على الاعتقاد بأنّ الحسن بن عليّ قد نصّ على إمامة ابنه محمد بن الحسن، وأنّه الغائب عندهم؛ وهو فرع وجوده وولادته.
أي إنّ ما بأيدينا هو بمثابة شهادة حسّيّة من شخص عاصر تلك المرحلة وعايشها، على أنّ أكثر الشيعة كانوا في تلك الفترة على الاعتقاد بولادة الإمام المهدي محمد بن الحسن(عليه السلام) ووجوده.
ويقول المسعودي (283هـ.ق – 346هـ.ق) في (مروج الذهب ومعادن الجواهر):  «وفي سنة ستّين ومائتين قبض أبو محمد الحسن بن علي... وهو أبو المهديّ المنتظر والإمام الثاني عشر عند القطعيّة من الإماميّة، وهم جمهور الشيعة..»[12].
 وهي أيضًا شهادة حسّيّة من مؤرّخ كان موجودًا في تلك الفترة التاريخيّة (مجمل الغيبة الصغرى، وبداية الغيبة الكبرى) على أنّ جمهور الشيعة وأكثرهم كان على الاعتقاد بوجود المهديّ المنتظر، وأنّه الإمام الثاني عشر بعد أبيه الإمام العسكريّ(عليه السلام).
وأيضًا ما ذكره ابن حزم (ت548هـ.ق) في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لدى حديثه في فرق الشيعة، فعندما يصل إلى الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام)يقول: «ثمّ مات الحسن غير معقّب، فافترقوا فرقًا، وثبت جمهورهم على أنّه ولد للحسن بن علي ولدٌ فأخفاه...»[13]، حيث ينصّ ابن حزم بوضوح على أنّ جمهور الشيعة (أي أكثرهم) قد ثبت واستقرّ على وجود ولد للإمام العسكريّ(عليه السلام). ويقول في موضع آخر:»وقالت القطعيّة من الإماميّة... وهم جمهور الشيعة، ومنهم المتكلّمون والنظّارون والعدد العظيم بأنّ محمد بن الحسن.. حيّ لم يمت، ولا يموت حتّى يخرج فيملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا، وهو عندهم المهديّ المنتظر»[14].
يضاف إلى ما تقدّم ما ذكره الشيخ الصدوق (306هـ.ق-381 هـ.ق) في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) من إجماع الشيعة على القول بإمامة الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن المهديّ(عليه السلام)، حيث قال: «كلّ من سألنا من المخالفين عن القائم(عليه السلام) لم يخل من أن يكون قائلًا بإمامة الأئمّة الأحد عشر من آبائه أو غير قائل بإمامتهم، فإن كان قائلًا بإمامتهم لزمه القول بإمامة الإمام الثاني عشر لنصوص آبائه الأئمّة (عليهم السلام) عليه باسمه ونسبه، وإجماع شيعتهم على القول بإمامته...»[15].
إذن هناك –كما يذكر الشيخ الصدوق- إجماع من الشيعة على القول بإمامة محمّد بن الحسن المهديّ(عليه السلام)، وهو يعني القول بولادته، وتسلّمه مقاليد الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وإن أمكن تفسير هذا الإجماع بأنّه إجماع أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وتحديدًا الرواة الثقاة العدول منهم. ولا شكّ أنّ هذا الإجماع –بهذا المعنى- سوف يكون مؤشّرًا لما عليه الواقع الشيعيّ العام آنذاك؛ إلا إذا قلنا إنّ الشيخ الصدوق قد قصد بهذا الإجماع ما عليه مجمل الشيعة وجمهورهم ما خلا القليل ممّن خرج عن هذا الإجماع، وهو ما يتقاطع مع كلام كلّ من أبي الحسن الأشعريّ، والمسعوديّ، وابن حزم.
تقييم واستنتاج: في مقام تقييم طوائف تلك النصوص للوصول إلى الإجابة على السؤال المطروح حول المدى المجتمعيّ والشعبيّ الذي بلغته تلك الحيرة؛ لا بدّ من القول إنّ الطائفة الأولى من النصوص التي سكتت عن هذا الأمر، لا يمكن الاستناد إليها للإجابة على ذاك السؤال، وتحديد ذلك المدى مورد البحث.
تبقى الطائفة الثانية من النصوص التي يستفاد منها أنّ الكثير من الشيعة –أو أكثرهم- قد شملته تلك الحيرة، وأيضًا الطائفة الثالثة من النصوص التي يستفاد منها أنّ جمهور الشيعة وأكثرهم كان على الاعتقاد بإمامة محمّد بن الحسن(عليه السلام) ووجوده وولادته، وأنّه الإمام بعد أبيه(عليه السلام).

قبل تقييم هاتين الطائفتين من النصوص، لا بدّ من إيراد الملاحظات الآتية:
الأولى: وهي أنّ الحيرة حالة نفسيّة معتقديّة، لن يكون من السهل تحديد مداها، ومن شملته، ومن لم تشمله، حتّى وإن أخذت تعبيرها الاجتماعيّ في مجتمع أو آخر.
الثانية: إنّ تحديد مدى الحيرة شخصيًّا ومجتمعيًّا يحتاج إلى عمل إحصائيّ دقيق، وإلى دراسات إحصائيّة شاملة، من الواضح أنّها لم تحصل بهذا الشكل. كما لم يكن من السهل القيام بشيءٍ مشابه لها، مع ملاحظة تفرّق البلدان، وتباعد المجتمعات التي يقطنها الشيعة، وعدم توفّر الأدوات المنهجيّة والوسائل العمليّة والعلميّة المساعدة على ذلك.
إنّ ما يمكن أن نستفيده من هاتين الملاحظتين، هو إنّ مجمل الكتابات التي عنت بتوصيف حالة الحيرة آنذاك كانت أقرب إلى التقدير العامّ من التقدير العلميّ الذي يرتكز على العمل الإحصائيّ الدقيق، وهو ما يساعدنا على فهم تلك النصوص محلّ البحث بشكل أفضل ومحاولة الجمع بينهما، وتحديدًا بين نصوص الطائفة الثانية ونصوص الطائفة الثالثة.
والذي يمكن أن نميل إليه في تحليلنا لنصوص الطائفة الثانية، وتحديدًا كلام النعمانيّ في كتابه (الغيبة) عن أنّ أكثر الشيعة أو كثير منهم قد تعرّض لحالة الحيرة وغيرها؛ هو إنّ النعماني كان يعني بكلامه هذا تلك الحاضرة الشيعيّة التي كانت محلّ ذلك الحدث أو مركزه، أو تلك الحاضرة التي كان على تماسّ وتواصل مباشر معها[16].
أو لعلّ النعماني كان يعبّر بكلامه هذا عن فهمه لتلك النصوص التي ذكرها في كتابه، ومحاولة الاستناد إليها لاتخاذ موقف احتجاجيّ من الأوضاع التي كانت قائمة آنذاك، أكثر ممّا كان يعبّر عن تقدير إحصائيّ اجتماعيّ دقيق لتلك الحيرة ومجمل ما يتّصل بها.
ونحن هنا لا نريد أن نذهب إلى ترجيح الطائفة الثالثة من النصوص على الطائفة الثانية بشكل غير علميّ، وإنّما نسعى إلى محاولة توجيه كلام النعمانيّ ليتوافق مع العديد من النصوص التي يستفاد منها أنّ أكثر الشيعة كان على الاعتقاد بوجود الإمام المهديّ(عليه السلام) وإمامته. ومرتكز ذلك ما يلي:

1ـ  إنّ كثرة من النصوص والمصادر –بالمقارنة مع ما يخالفها- (أبو الحسن الأشعريّ، المسعوديّ، ابن حزم، الصدوق...) يستفاد منها أنّ أكثر الشيعة (جمهور الشيعة) كان على الاعتقاد بولادة الإمام المهديّ محمد بن الحسن العسكريّ(عليه السلام) ووجوده.
2ـ إنّ بعض تلك النصوص والمصادر (مقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعريّ)، قد دوّنت في مرحلة الغيبة الصغرى وزمن الحيرة، في حين إنّ بعضها قد يكون دوّن في مجمل مرحلة الغيبة الصغرى وتجاوزها بقليل من السنوات (مروج الذهب للمسعوديّ). وتلك المصادر (وخصوصًا مقالات الإسلاميّين للأشعريّ) – بناءً على ما تقدّم - كانت أقرب من غيرها إلى زمن الحدث (وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام) وما تلاها مباشرة من أحداث وتداعيات)، حيث إنّ وفاة النعمانيّ كانت حوالي سنة 360هـ.ق، في حين أنّ وفاة أبي الحسن الأشعريّ كانت سنة 324هـ.ق، أي قبل وفاة النعمانيّ بحوالي 36 سنة. فضلًا عن أنّ الأشعريّ هذا كان قد انتهى من تأليف كتابه قبل وفاة النعمانيّ بحوالي 63 سنة، وبعد سنوات قليلة (نسبيًّا) من وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام). كما أنّ وفاة المسعوديّ كانت في سنة 346 هـ.ق، أي قبل 14 سنة من وفاة النعمانيّ.
3ـ  إنّ العديد من الذين قالوا (أبو الحسن الأشعريّ، ابن حزم..) بأنّ جمهور الشيعة كان على ذلك الاعتقاد بالإمام المهديّ(عليه السلام) وإمامته؛ ليسوا من الدائرة الشيعيّة (ليسوا شيعة) حتّى يمكن اتهامهم بأنّهم يريدون التخفيف من حجم تلك الأزمة وتداعياتها، وهم لم يكونوا في مورد الدفاع عن التشيّع حتّى تنالهم تلك التهمة أو غيرها.
4ـ إنّ النجاح في تجاوز حالة الحيرة وجميع آثارها بعد عقود من الزمن _أو بعد سنوات عديدة) ربّما يرجّح فرضيّة أنّ هذه الحالة لم تشمل أكثريّة الشيعة بالشكل الذي ينظّر له البعض؛ لأنّ تلك الحالة لو شملت أكثريّة الشيعة، ولم تكن هناك مقوّمات وأُسس لمواجهتها؛ فكيف أمكن تجاوزها والتغلّب عليها بعد تلك السنوات أو العقود من الزمن؟
5ـ إذا أخذنا بعين الاعتبار مجمل تلك النصوص ذات الصلة، التي تحدّثت بأنّ جمهور أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) كانوا على ذلك الاعتقاد بالإمام المهديّ(عليه السلام) وإمامته؛ يمكن عندها أن يكون هذا الأمر مؤشّرًا لما عليه الاجتماع الشيعيّ العام متأثّرًا بأصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) وثقاته وتوجيهاتهم في هذا الموضوع، ليكون بالتالي قرينة إضافيّة على ترجيح ما جاء في كلام كلّ من أبي الحسن الأشعريّ، والمسعوديّ، وابن حزم، والشيخ الصدوق...
6ـ يُضاف إلى ما تقدّم أنّ جملة من كلام النعماني ذاك قد أتى في سياق سرده لمجموعة من الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) عمّا سوف يصيب الشيعة من تمحيص وغربلة واختلاف وحيرة...، والتي قد يكون سعى إلى التماهي مع فهمه الخاصّ لها في تعبيره ذاك (الجمهور، الخلق الكثير)، أي إنّ تعبيره جاء متأثّرًا بفهمه الخاصّ لتلك الروايات، مع إنّ تلك الروايات التي تتحدّث عن الغربلة والتمحيص والتمييز، حتّى لا يبقى إلا الأقلّ والأندر وعصابة لا تضرّها الفتنة (ص 215-216-218)..؛ إنّما يُقصد بها سُنّة عامّة في التاريخ بما فيه التاريخ الإماميّ الشيعيّ، ولم يقصد بها خصوص تلك المرحلة التي تلت وفاة الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام).
نعم يظهر أنّ ما قام به النعمانيّ هو إنّه عمد إلى تأويل تلك الروايات بتلك الظروف التاريخيّة وتطبيقها على تلك المرحلة. وهو نوع من التأويل الذي يفهم منه بناء خطاب احتجاجيّ على تلك الأوضاع والظروف، وليس تقديم مقاربة إحصائيّة مجتمعيّة عنها.
كما إنّ مجمل تلك الروايات الأخرى يمكن حمل دلالتها على أصل حدث التمحيص والغربلة و...، وليس على بعده الإحصائيّ الشعبيّ ومداه المجتمعيّ.
لكن في المقابل يمكن القول إنّ كلام أبي الحسن الأشعريّ وغيره قد جاء في سياق حديثه عن فرق الشيعة بما في ذلك بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، ممّا يؤكّد أكثر أنه كان ناظرًا في تعبيره ذاك (وهم جمهور الشيعة) إلى البعد المجتمعيّ المجرّد من أيّة مقاربة مع فهم أو آخر لأيّ من الروايات الواردة في الموضوع نفسه، خاصّة أنّه بحكم انتمائه المذهبيّ لم يكن معنيًّا بتلك الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) في ذلك الموضوع.
إلا اللهم إذا قلنا بأنّ كلام أبي الحسن الأشعريّ والمسعوديّ وغيرهما ناظر إلى تلك المرحلة التي تلت مباشرة وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام) (260هـ.ق) وما حدث فيها من فرقة وحيرة؛ في حين أنّ كلام النعمانيّ ناظر إلى تلك المرحلة التي تبدأ من نهاية الغيبة الصغرى (329هـ.ق) وتشتمل على السنوات الأولى التي تلتها من بداية الغيبة الكبرى؛ وهو قول له ما يدعمه من شواهد.
وهو قول مبنيّ على فرضيّة وجود حيرتين لا حيرة واحدة، (الأولى مع بداية الغيبة الصغرى، والثانية مع بداية الغيبة الكبرى، أي مع نهاية الغيبة الصغرى)؛ أو ربّما على فرضيّة وجود حيرة واحدة كان يتأرجح منسوبها ويختلف مداها الاجتماعيّ سعة وانحسارًا بين زمن وآخر، وأنّ الذي حصل هو أنّ هذه الحيرة قد نشطت من جديد مع وفاة السفير الرابع للإمام المهديّ(عليه السلام) ونهاية الغيبة الصغرى، وبداية الكبرى في سنة 329 هـ.ق.
ولا بدّ من أن أذكر هنا هذه الملحوظة، وهي إنّ المقاربة العلميّة والموضوعيّة لروايات أهل البيت(عليهم السلام) في موضوع الحيرة وغيرها تدلّ على خلاف ما أراد البعض الترويج له في مسألة إنكار ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام) وإمامته[17]، وإن كانت الانتقائيّة (انتقاء بعض الدلالات، وإهمال أخرى والتعمية عليها) قد شملت حتى تناولهم لروايات أهل البيت(عليهم السلام) ودلالتها.
خلاصة القول إنّ ما يمكن أن يستفاد من مجمل تلك النصوص ذات الصلة بموضوع الحيرة ومرحلة ما بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، هو إنّ العديد من الشيعة –أو ربّما الكثير من الشيعة، وإن كانت الكثرة[18] هنا ليست كثرة إحصائيّة عدديّة شاملة، وإنّما هي كثرة موضعيّة في جغرافيّة محدّدة، ترتكز في الأغلب على التقدير العامّ لها- قد أصابته الحيرة ووقع في موجة التردّد، وليس معلومًا كم كان عددهم، وكم كانت نسبتهم (العدديّة)، ومن كان منهم، ومن هم رؤساؤهم ورجالهم.
وإن أمكن التخمين أنّ هذه الحالة لو انتقلت من الفرقة الكلاميّة في بعدها المعرفيّ إلى الطائفة المجتمعيّة في بعدها الاجتماعيّ المستقرّ، لكان هناك مقتضي أكثر لتدوين مجمل تلك المسائل والتفاصيل التي ترتبط بها، ولوجدنا أنّ تلك المصادر قد عنت بتدوين مجمل مشخّصاتها وتجلّياتها المجتمعيّة، لكنّها بقيت أقرب ما تكون إلى البعد الكلاميّ الذي لم يتخذ وضعيّة الطائفة المجتمعيّة كاملة الأوصاف[19]، وما يشهد على ذلك أنّ مجمل تلك الفرق –بل جميعها- لم يبقَ منها شيء بعد عقود من الزمن، وأنّها تجاوزت حالة الحيرة والتردّد تلك، وعادت إلى التشيّع الاثني عشري، وأطبقت على الاعتقاد بإمامة الإمام المهديّ(عليه السلام) ووجوده. وهو ما يفسّر القدرة على النجاح في استيعاب جميع تداعيات الغيبة وحالة الحيرة بعد عقود قليلة من الزمن، حتى لم يبقَ من تلك الفرق إلا حكايا عمّن سلف، وأراجيف بوجود قومٍ منها لا تثبت، كما جاء في تعبير الشيخ المفيد[20] (336هـ.ق- 413هـ.ق). 
و ما ينبغي الإلفات إليه هو إنّ القول بأنّ الكثير من الشيعة (بذاك المعنى الذي سلف) قد وقع في حالة الحيرة والتردّد تلك، لا يتنافى مع القول –في المقابل-  إنّ جمهور الشيعة وأكثرهم (أو كثير منهم) كان يعتقد بإمامة الإمام المهديّ(عليه السلام) ووجوده، وأنّه الخلف بعد أبيه الإمام العسكريّ(عليه السلام)؛ لأنّ القول بوجود كثرة في جانب لا يتعارض مع القول بالأكثريّة في جانب آخر.
ولا يتوهّمنّ القارىء هنا أنّنا نريد التخفيف من وطأة الحيرة، أو التقليل من وقعها، وإنّما نريد أن توضع في إطارها العلميّ الصحيح، وأن تُقارب بشكل موضوعيّ بعيدًا عن لغة التهويل التي اعتمدها البعض، وأسلوب المبالغات الذي أسهب فيه، وتضخيم الحدث الذي أطنب في بيانه، والكثير الكثير من الانتقائيّة والإسقاط المعرفيّ الذي مورس في بحث الحيرة، والسعي إلى توظيفه كلاميًّا كلّ ذلك من أجل تبرير فكرة محسومة مسبقًا لدى من يحملها، بهدف إلباسها لباسًا علميًّا مدعومًا بحشد من النصوص والمصادر، وذلك من أجل التصويب على معتقد أو آخر لدى هذه الطائفة أو تلك، ومحاولة إضعافه أو تشويهه.
ولو كان بحثًا علميًّا يلتزم أصول البحث العلميّ وشروطه، لكان محلّ تقدير وترحيب بمعزل عن النتائج التي يفضي إليها، طالما هو يلتزم تلك الأصول وهذه الشروط، وطالما هو يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة العلميّة بشكل موضوعيّ، بعيدٍ عن أيّة اعتبارات غير علميّة، تفقد البحث قيمته المعرفيّة ومكانته العلميّة.
وبيان دفع التوهّم هذا أنّه حتى لو فرضنا أنّ أكثر الشيعة –وليس فقط الكثير منهم- قد وقع في الحيرة؛ فهذا لا يخدم ذلك الكاتب في محاولته توظيف هذا المعطى للوصول إلى ما يريد من غايته؛ وذلك للأسباب الآتية:

أوّلًا: لوجود فرضيّة أخرى مفادها أنّ اتساع مدى الحيرة له علاقة بجملة الظروف المحيطة آنذاك (وهو ما سوف نبحث فيه لاحقًا).
ثانيًا: إنّ حالة الحيرة قد تنبّأت بها قبل وقوعها بسنين طويلة الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)[21]، ومعنى ذلك أنّه بمعزل عن مداها يضحى مجرّد وقوعها مؤشّرًا وقرينة على صدقيّة تلك الروايات (بالمعنى الواقعيّ التاريخيّ)، وهو ما يدفع باتجاه الأخذ بتلك الروايات ودلالتها، والتي تشمل فيما تشمله الحديث عن غيبة الإمام المهديّ(عليه السلام)، وهو فرع الكلام عن وجوده وولادته، وهذه النتيجة خلاف ما يشتهيه الكاتب من بحثه.
بمعنى آخر، وفي ظلّ وجود تلك الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام) حول الحيرة والغيبة، والتي تنبّأت بالحيرة قبل وقوعها بسنوات طوال؛ فهنا يضحى حصول الحيرة، بل واتساع مداها، قرينة إضافيّة ومؤشّرًا مهمًّا على وجود الإمام المهديّ(عليه السلام) وولادته، وليس على العكس من ذلك. وذلك لسبب بسيط وهو-فضلًا عن البعد النبؤاتي وما يشكّله من قرينةٍ إضافيّةٍ على صدق كلّ تلك الروايات التي صدرت عن أهل البيت(عليهم السلام) وأئمّتهم- إنّ تلك الروايات كما تحدّثت في الحيرة، فهي تحدّثت أيضًا في الغيبة[22]. وغيبة الإمام المهدي(عليه السلام) هي فرع لوجوده وولادته؛ لأنّه لا يمكن الحديث عن الغيبة لشيءٍ معدوم غير موجود، فإذا صحّ الحديث عن غيبة شخصٍ ما، فمقتضى ذلك أنّه موجود وغاب.
والعجيب أنّ البعض، وفي إطار سوقه للشواهد على طرحه حول الحيرة والفرقة والنتائج التي رتّبها على ذلك[23]، فإنّه يستعين برواية للإمام علي(عليه السلام) (من دون ذكر المصدر لها)، يتحدّث فيها عن الإمام المهديّ(عليه السلام)، حيث جاء في تلك الرواية: «تكون له غيبة وحيرة يضلّ فيها أقوام ويهتدي آخرون»، لكنّه يتغافل عن أنّ هذه الرواية تتحدث عن الإمام المهديّ(عليه السلام) هذا أوّلًا، وأنّها تتحدّث عن غيبته ثانيًا. وهذا فرع وجوده كما ذكرنا. لتكون النتيجة أنّ الكاتب عمد إلى انتقاء ما ينسجم مع فرضيّته التي يروّج لها، وأراد التعمية على تلك المعاني الموجودة بوضوح في تلك الرواية التي لا تنسجم مع فرضيّته تلك، وتحديدًا ما ذكرته الرواية حول الغيبة، فهي تنصّ بوضوح على أنّ الإمام المهديّ(عليه السلام) تكون له غيبة (وهو فرع وجوده)، لكن ترى الكاتب يختار منها فقط ما ينسجم مع طرحه حول الحيرة والفرقة والاختلاف في سعيه لتوظيف هذه المفاهيم للوصول إلى الاستنتاجات التي يريد.
ثالثًا: إنّ الباحث في قضيّة الحيرة كما يجب أن يبحث في دلالات حصولها، يجب أيضًا أن يبحث في دلالات القدرة على تجاوزها، بل توجد صلة منهجيّة على مستوى الدلالة بين الحيرة ومواصفاتها من جهة، وبين النجاح في تجاوزها من جهة أخرى.
بمعنى إنّه كلما كان المدى المجتمعيّ للحيرة أوسع نطاقًا، ومع ذلك أمكن تجاوزها بعد عقود قليلة من الزمن؛ فهذا ممّا يعزّز أكثر فرضيّة الظرف الموضوعيّ في حصول الحيرة، وليس فرضيّة الخلل البنيويّ العقديّ في وقوعها.
أي يمكن القول بتعبير آخر إنّ مجمل الظروف الموضوعيّة التي كانت موجودة آنذاك قد أدّت إلى حصول الحيرة، وليس وجود خلل كلاميّ أو معتقديّ هو الذي أدّى إليها. بل هذا ما يدعونا إلى البحث أكثر في دلالات النجاح في تجاوزها بشكل آكد وأعمق دلالة؛ لأنّه كلّما كانت التحدّيات أشدّ، ومع ذلك أمكن التغلّب عليها وتجاوزها، فهذا يعني وجود مقومّات فاعلة أكثر مكّنت من تجاوز تلك التحدّيات (الحيرة)، واستيعاب جميع آثارها.
أي إنّ السؤال الذي سوف يطرح نفسه في هذا الحال، هو إنّه لو لم يكن البيان الدينيّ، والخطاب الكلاميّ، وجميع الأدلّة التي أبرزت في موضوع ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام) ووجوده، وإمامته من القوّة، والمتانة، والصدقيّة؛ فكيف أمكن أن يتمّ التغلّب على حالة الحيرة تلك وتداعياتها رغم اتساع مداها، وشدّة وطأتها، وثقل نتائجها، بناءً على هذا الفرض؟، ولو كان هناك خلل معتقديّ وكلاميّ مع وصول الحيرة إلى ذلك المدى، فكيف تمّ استيعاب جميع أو مجمل آثارها ونتائجها؟
القسم الثاني: وهو معنيّ بالإجابة على سؤال الحيرة لدى أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) وخصوصًا الثقات منهم.
في مقام الجواب على هذا السؤال لا بدّ من القول إنّ ما يستفاد من أكثر من دليل هو إنّ تلك الحيرة لم تشمل أولئك الخلّص والثقات من أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام). بل إنّ جمهور أصحاب الإمام (عليه السلام) وثقاته (أي أكثر الأصحاب وأغلبهم)؛ كانوا يعلمون بولادة ولد للإمام العسكريّ(عليه السلام)، وهذه كانت عقيدتهم، وهذا ما كانوا يؤمنون به. وهؤلاء لم يكونوا في حيرة من أمر الحجّة والخلف بعد الإمام العسكريّ(عليه السلام)، بل هم الذين عملوا على علاج تلك الحيرة وإزالتها من نفوس الناس، بما امتلكوه من أدلّة في هذا الموضوع.
أي إنّ كان الكلام عن مجمل أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، فالجواب إنّ جمهور أصحاب الإمام كانوا على الإعتقاد بوجود الخلف له. وإن كان الكلام عن خصوص الثقات والعدول المستأمنين من أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، فالجواب إنّ جميع هؤلاء كانوا على الاعتقاد بوجود الخلف بعد الإمام العسكريّ(عليه السلام).
وعليه فما نقوله هنا هو إنّ جمهور أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) (أي أغلبهم وأكثرهم)، وهم الثقات العدول والمستأمنون منهم؛ لم يكونوا في حيرة من أمر الخلف، وولادة الإمام المهديّ(عليه السلام)، ووجوده بعد أبيه.
وقد وجدنا ضرورة لبحث هذه القضيّة؛ لأنّ البعض لم يميّز بين أن تكون الحيرة:
1- قد شملت أكثر أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) (أو جميعهم)؛ أو أنّها شملت بعضًاً من الأصحاب وعددًا قليلًا منهم؟
2 - قد شملت الثقاة والخواصّ من أصحاب الإمام(عليه السلام) الذين كانوا في الدائرة الضيّقة حول الإمام العسكريّ(عليه السلام)؛ أو أنّها شملت فقط من لم يتّصف بتلك المواصفات منهم، في حين إنّ الخواص والعدول من أصحابه لم تشملهم الحيرة؟
3- قد استمرّت لدى من أصابته وشملته، أو إنّه قد تجاوز حيرته وتخلّص منها بعد أن سمع من أولئك العدول الثقات والخلّص الخواص من أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وعلم منهم ما كان يجهله من أدلّة ونصوص من أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) حول موضوع الخلف والحجّة بعد الإمام؟. وهو ما يستدعي أن نبحث في تاريخيّة الحيرة، في المدّة الزمنيّة التي استغرقتها، وفي بدايتها ونهايتها، وفي مآلاتها؛ حتى نستطيع أن نبني فهمًا أكثر علميّة لتلك الحيرة، ومجمل ما يرتبط بها. وهو ما سوف نقوم به في المبحث اللاحق.

وعليه سوف نجيب هنا على الأسئلة المذكورة (عدا الثالث) بالتوالي:
1 - فيما يتّصل بالسؤال الأوّل يصرّح الشيخ المفيد (336هـ.ق - 413هـ.ق) بأنّ جمهور أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) -أي أكثرهم- قال بإمامة القائم المنتظر(عليه السلام)، وأثبت ولادته، وصحّح النصّ عليه- أي اعتقد بصحّة النصّ عليه-، فيقول ما نصّه: «ولما توفّى أبو محمد الحسن بن علي بن محمد (عليه السلام)، افترق أصحابه بعده على ما حكاه أبو محمد الحسن بن موسى النوبختيّ بأربع عشر فرقة، فقال الجمهور منهم بإمامة القائم المنتظر (عليه السلام)، وأثبتوا ولادته، وصحّحوا النصّ عليه، وقالوا هو سميّ رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، ومهدي الأنام»[24].
ويذكر الشيخ المفيد في موضع آخر بأنّ أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام) كانوا يقطعون بوجود الإمام المهديّ(عليه السلام)، ويقولون بإمامته. وهو ما دفع جعفر -أخ الإمام العسكريّ(عليه السلام)- إلى أن «شنّع على أصحابه [العسكريّ(عليه السلام)] بانتظارهم ولده، وقطعهم بوجوده، والقول بإمامته...»[25].
بل إنّ خال الحسن بن موسى النوبختيّ (وهو – أي الحسن بن موسى (توفّي 310 هـ.ق)- صاحب كتاب فرق الشيعة الذي ذكر قضيّة افتراق أصحاب الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام) إلى أربع عشرة فرقة)، وهو الشيخ أبو سهل إسماعيل بن علي النوبختيّ (237 هـ.ق – 311 هـ.ق)؛ يذهب إلى أنّ أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) من الرواة والعدول والثقات والخواص، قد أجمعوا على أنّ الإمام قد خلّف ولدًا هو الإمام من بعده، حيث يقول في كتابه (التنبيه في الإمامة): «إنّ الحسن (عليه السلام) خلّف جماعة من ثقاته ممّن يروي عنه الحلال والحرام، ويؤدّي كتب شيعته وأموالهم، ويخرجون الجوابات، وكانوا بموضع من الستر والعدالة بتعديله إيّاهم في حياته، فلمّا مضى أجمعوا جميعًا على أنّه قد خلّف ولدًا هو الإمام، وأمروا الناس أن لا يسألوا عن اسمه، وأن يستروا ذلك من أعدائه، وطلبه السلطان أشدّ طلب...»[26].
وهنا، لا يتنافى قوله بالإجماع مع وجود أفراد قلائل خرج عن ذلك الإجماع، وقال بأقوال أخرى ذكرها ابن أخته الحسن بن موسى في كتابه (فرق الشيعة)؛ لأنّ قول الشيخ أبي سهل النوبختيّ ناظر إلى تلك الدائرة من أصحاب الإمام، والتي كان لديها من المواصفات ما يجعلها مستأمنة على أمر الإمام لاحقًا، والخلف من بعده. هذا فضلًا عمّا ذكرناه آنفًا (في الهامش) في معنى الفرقة ومفهومها من أنّها أقرب ما تكون إلى المضمون الكلاميّ ـ وإن أخذ تعبيرًا اجتماعيًّا ما ـ من المضمون الطائفيّ الاجتماعيّ في مفهومه المعاصر.
كما لا يتنافى تعبير الشيخ أبي سهل اسماعيل بن علي النوبختيّ مع تعبير الشيخ المفيد، إذ إنّ تعبير الشيخ النوبختيّ هذا ناظر إلى أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، الذين يمتلكون تلك المواصفات من كونهم من الثقات والعدول، والذين كانوا يروون الحلال والحرام عن الإمام –وهو ما نرجّحه، بل نختاره– (أو إنّه كان بمعزل عن أولئك الأفراد القلائل الذين خالفوا ذلك الإجماع في وقت سابق). أمّا تعبير الشيخ المفيد بالجمهور فلقد كان ناظرًا إلى جميع أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) دون تفصيل بين من كانت تتوفّر فيه تلك المواصفات التي ذكرها الشيخ أبو سهل النوبختيّ، ومن لم يكن على ذلك القدر من تلك المواصفات؛ أو إنّ الشيخ المفيد قد لحظ بتعبيره ذاك أولئك الأفراد القلائل الذين ذهبوا إلى أقوال شتّى ومختلفة بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، حيث إنّه قد نظر بقوله هذا (الجمهور) إلى تلك المرحلة التي تلت مباشرة وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، والأقوال التي قيلت فيها، قبل أن يعودوا عن أقوالهم تلك إلى الاعتقاد بوجود الإمام المهديّ(عليه السلام) وولادته وإمامته.
2- أمّا فيما يتّصل بالسؤال الثاني حول إنّ الحيرة هل شملت الثقات والعدول، والرواة العلماء، والخواص من أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) المستأمنين على الخلف من بعده، أم إنّها لم تصل إلى هؤلاء، ولم تشملهم، وإنّما بقيت دونهم؛ فالذي يظهر من كلام الشيخ أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختيّ الآنف الذكر أنّ أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) الذين كانوا «من ثقاته، ممّن يروي عنه الحلال والحرام»، و»كانوا بموضع من الستر (أي كانوا مستأمنين على ستر أمر الإمام، والخلف من بعده)، والعدالة بتعديله إيّاهم في حياته»؛ لم يكونوا في حيرة من أمر الخلف من بعده، وإنّ هؤلاء كانوا مجمعين على الاعتقاد بولادة محمّد بن الحسن المهديّ(عليه السلام)، ووجوده، وإمامته. وإنّ من شملته الحيرة تلك، أو ذهب إلى أقوال شتّى ومختلفة عن قول الجمهور بولادة المهديّ(عليه السلام) والإجماع عليه هو ممّن لم يكن مشمولًا بتلك الأوصاف التي ذكرها الشيخ أبو سهل النوبختيّ، من الثقة والعدالة، وكونهم «بموضع من الستر»؛ حيث قد يصحّ الادّعاء إنّ ظروفًا موضوعيّة قد أدّت إلى تلك الحيرة لدى هذا أو ذاك منهم.
وبالتالي هناك فارقٌ كبير بين أن تكون الحيرة والاختلاف قد شملا حتّى تلك الدائرة المحيطة بالإمام العسكريّ(عليه السلام) من خواص أصحابه الثقات العدول، والرواة المستأمنين على أمره؛ وبين أن يُجمع هؤلاء على القول بإمامة محمّد بن الحسن المهديّ(عليه السلام) ووجوده، وأن يكونوا قولًا واحدًا لا اختلاف فيه، ولا شكّ يعتريه بولادة الخلف المهديّ(عليه السلام) ابن الحسن العسكريّ(عليه السلام).
فعندما نعلم بالظروف الموضوعيّة التي تطلّبت إخفاء أمر الولادة، وستر مجمل ما يتّصل بأمر محمد بن الحسن(عليه السلام) عمّن لم يكن مستأمنًا على أمر الخلف، بسبب شدّة طلب السلطان له، وسعيه الحثيث للوصول إليه؛ ندرك عندها بأنّه كان تدبيرًا حكيمًا وضروريًّا وموضوعيًّا اللجوء إلى إخفاء أمر الخلف المهديّ(عليه السلام) عن عامّة الناس، بل حتّى عمّن لم يكن مشمولًا بتلك المواصفات التي ذكرها الشيخ أبو سهل النوبختيّ من أصحاب الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام)؛ وذلك بسبب تلك الظروف الموضوعيّة المحيطة، التي اقتضت اتخاذ جملة من الإجراءات والتدابير للحفاظ على أمر الإمام وصونه وحمايته، والاقتصار في العلم بمجمل شؤون محمّد بن الحسن المهديّ(عليه السلام) وولادته على تلك الدائرة المحيطة بالإمام العسكريّ(عليه السلام) من خواص أصحابه المستأمنين على أمره، وهؤلاء كانوا جمهور أصحابه وأكثرهم.
وعليه، فإنّ الثقات من أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) المستأمنين على أمر الخلف كانوا على علم بتلك الولادة، وكانوا يعتقدون بوجود المهديّ(عليه السلام)، وكانوا يؤمنون بإمامته، وهم الذين كانوا مُعدّين لمواجهة تلك الحيرة التي عصفت بعامّة الناس، والبعض القليل من أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وهم الذين بادروا إلى مواجهة مجمل حملات التشكيك بوجود الإمام وولادته، واستطاعوا أن ينجحوا في ذلك بعد برهة من الزمن، حيث أمكن لهذه الحيرة أن تنتهي بعد سنوات أو عقودٍ قليلة من الزمن، وهذا ما سوف نبحث فيه في المبحث التالي.

3 – تاريخيّة الحيرة:
أي إنّ السؤال المطروح في هذا المبحث يدور حول المدّة الزمنيّة للحيرة، وهو يقود إلى البحث في بدايتها الزمنيّة، وفي نهايتها الزمنيّة لمعرفة تلك المدّة وتحديدها، حيث إنّ مبرّر طرح هذا السؤال هو لمعرفة أنّ هذه الحيرة هل تحوّلت إلى أزمة مستديمة أدّت إلى تشظي الاجتماع الشيعيّ برمّته، أم إنّها كانت عبارة عن مرحلة عابرة جرى الإعداد لمواجهتها وعلاجها؟
وهو ما يساعد بالتالي على معرفة إن كان هناك من منظومة معرفيّة عقائديّة قادرة على مواجهة تلك الظروف المستجدّة، وجميع تداعياتها؛ أم إنّ هذه المنظومة لم تكن موجودة؟، وهو ما يمهّد لطرح هذا السؤال أنّه هل تمّ تجاوز تلك التداعيات التي ترتّبت على حدث الغيبة من الحيرة وغيرها، أم لم يحصل ذلك؟
وعليه، سوف نبحث هنا في عنواني: البداية الزمنيّة، والنهاية الزمنيّة للحيرة، لنعرف بالتالي المدّة الزمنيّة التي استغرقتها تلك الحيرة.
أ- البداية الزمنيّة للحيرة: يبدو من مجمل النصوص والمصادر ذات الصلة، سواء النصوص الدينيّة التي تحدّثت حول الحيرة، أو تلك المصادر التي عنت بفرق الشيعة، أو التي تحدّثت عن تلك المرحلة التاريخيّة التي تلت وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)؛ أنّ بداية الحيرة كانت سنة 260 هـ.ق، أي بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام) مباشرةً.
فيما يتّصل بتلك النصوص الدينيّة التي تحدّثت في الحيرة نجد أنّها قرنت بين الحيرة والغيبة، ممّا قد يظهر منه الاقتران الزمنيّ بينهما، من قبيل قول الإمام علي(عليه السلام) لدى حديثه عن الإمام المهديّ(عليه السلام) بأنّه «... تكون له حيرة وغيبة، يضلّ فيها أقوام، ويهتدي فيها آخرون»[27]، وإذا كانت الغيبة قد بدأت بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام) مباشرة، أي في سنة 260 هـ.ق، فمعنى ذلك أنّ الحيرة قد بدأت في السنة نفسها، أي سنة 260 هـ.ق؛ لكن ليس هذا ما نستند إليه في تحديد البداية الزمنيّة للحيرة.
أمّا فيما يتّصل بالمصادر التي تحدّثت في فرق الشيعة فهي واضحة الدلالة في هذا الموضوع، حيث ربطت حصول الفرقة بوفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وإذا ما التفتنا إلى الاقتران الخارجيّ بين الفرقة والحيرة –وإن اختلفا مفهومًا-، ندرك عندها التزامن الواقعيّ بينهما، وإذا كانت الفرقة قد حصلت بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)سنة 260 هـ.ق، فمعنى ذلك أنّ الحيرة قد حصلت في السنة نفسها.
وأوضح من ذلك ما ذكره الخزاز القميّ (القرن الرابع الهجري) في كتابه (كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر)، حيث يقول: «... ففيها (سنة260 هـ.ق.) قبض أبو محمد (عليه السلام) وتفرّقت شيعته وأنصاره، فمنهم من انتمى إلى جعفر، ومنهم من تاه وشكّ، ومنهم من وقعت عليه الحيرة، ومنهم من ثبت على دينه بتوفّيق الله عز وجل»[28]. وهو صريح في أنّه في سنة 260هـ.ق قد وقعت الحيرة وفيها كانت بدايتها.

وخلاصة القول إنّ بداية الحيرة زمنيًّا كانت في سنة 260 هـ.ق.
ب- نهاية الحيرة: قد لا يكون متاحًا لنا تحديد السنة التي انتهت فيها الحيرة بشكل دقيق. إذ إنّ ما بأيدينا من نصوص في هذا الشأن يساعدنا على تحديد السنة التي انتهت قبلها الحيرة (وليس فيها) وهي سنة 373 هـ.ق. وليس معلومًا قبل هذه السنة (التي انتهت قبلها الحيرة) بكم من السنوات قد انتهت الحيرة، فهذا الأمر لم تتحدّث فيه تلك النصوص ذات الصلة، وإن أمكن لنا الحدس بأنّ الحيرة قد انتهت قبل هذه السنة بسنواتٍ طوال.
بعد أن يتحدّث الشيخ المفيد عن فرق الشيعة بعد وفاة الإمام العسكريّ (عليه السلام)، يقول:«وليس من هذه الفرق التي ذكرناها فرقة موجودة في زماننا هذا، وهو من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلا الإماميّة الاثنا عشريّة القائلة بإمامة ابن الحسن المسمّى باسم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) القاطعة على حياته وبقائه إلى وقت قيامه بالسيف... ومن سواهم منقرضون لا يعلم أحد من جملة الأربع عشرة فرقة التي قدّمنا ذكرها ظاهرًا بمقالة، ولا موجودًا على هذا الوصف من ديانته، وإنّما الحاصل منهم حكاية عمّن سلف، وأراجيف بوجود قوم منهم لا تثبت»[29]. وليس معنى عدم وجود إلا الفرقة الإماميّة الاثنا عشريّة في سنة 373 هـ.ق، وانقراض جميع الفرق الأخرى الأربع عشر، وأنّ الحاصل منها حكاية عمّن سلف؛ إلا أنّ الحيرة قد زالت قبل تلك السنة بسنوات طوال- بناءً على الاقتران الخارجيّ بين الحيرة والفرقة-؛ لأنّ معنى وصول أخبار تلك الفرق من خلال السلف، وحكاية هذا السلف لأخبارها؛ أنّ سنوات طوال تفصل بين تلك السنة (373 هـ.ق)- بل بين زمن الشيخ المفيد، وتحديدًا حياته العلميّة- وبين السنة التي انقرضت فيها تلك الفرق، حيث يمكن الذهاب إلى أنّ ذلك قد حصل قبل عقود عديدة، إذا ما التفتنا إلى أنّ ولادة الشيخ المفيد كانت في سنة 336 هـ.ق، وإلا لو كانت تلك الفرق موجودة في زمن الحياة العلميّة للشيخ المفيد لما احتاج إلى تلقّي أخبارها عن السلف، فمعنى تلقّي أخبار تلك الفرق عن السلف أنّها كانت موجودة قبل زمنه بسنوات طوال حتى يحصل ذلك التلقّي، وحتّى يتمّ انقراضها بشكل كامل.
إنّ مجمل التحليل المتقدّم مبني على أصل الاقتران الخارجيّ بين الفرقة (ووجود الفرق) وبين الحيرة، أمّا بناءً على أصل التفكيك بين الفرقة والحيرة، فقد تكون الحيرة قد انتهت قبل الزمن الذي انتهت فيه تلك الفرق بسنوات.
إنّ ما تقدّم لا يتنافى مع ما جاء لدى علي بن بابويه القمّي (توفّي 329 هـ.ق) في (الإمامة والتبصرة من الحيرة)، أو النعمانيّ في (الغيبة)، أو الصدوق في (كمال الدين وتمام النعمة)، من حديث عن وجود الحيرة في زمانهم لدى جماعة أو أخرى، وفي بلدٍ أو آخر؛ لأنّ علي بن بابويه القمّي توفّي في سنة 329 هـ.ق، والنعمانيّ قد ألّف كتابه بين سنة 333هـ.ق وسنة 342هـ.ق، والشيخ الصدوق (306 هـ.ق – 381 هـ.ق)، قد يكون ألّف كتابه في أواسط عمره، حيث ذكر أنّه قد عمد إلى تأليفه بعد رجوعه من زيارة الإمام الرضا(عليه السلام) إلى نيسابور، وإن كان يتحدّث فيه عن أنّ أكثر الذين اختلفوا إليه من الشيعة في تلك البلدة (نيسابور) قد حيرتهم الغيبة. فهو لم يتحدّث عن حيرة عامّة في ذاك الزمن، وإلا لو كانت هناك حيرة عامّة لكان ينبغي أن يلفت إليها.
وعليه، إذا قلنا بأنّ هذه المصادر تتحدّث عن حيرةٍ ما قبل منتصف القرن الرابع الهجريّ بسنواتٍ عديدة، فهو لا يتنافى مع كلام الشيخ المفيد عن عدم وجود الفرق الأخرى غير الإماميّة الاثني عشريّة (وتاليًا الحيرة بناءً على القول بالتلازم الخارجيّ بينهما) في سنة 373 هـ.ق، ومع قوله إنّه لم يبقَ منها إلا حكاية عمّن سلف وأراجيف بوجود قوم لا تثبت، إذ إنّه قد تكون الحيرة تلك قد انتهت قبل منتصف القرن الرابع الهجريّ، وإلا لو استمرّت إلى حوالي منتصف القرن الرابع الهجريّ، فلماذا يحكي الشيخ المفيد ما يتّصل بتلك الفرق بناءً على ما يقوله السلف، ويصفها بكونها أراجيف بوجود قوم لا تثبت، فلو كانت في زمانه لكان الأحرى به أن ينقل أخبارها عمّن حضر في ذاك الزمان، وليس عمّن سلف.
وعليه، قد يصحّ القول بأنّ الحيرة قد انتهت إجمالًا قبل منتصف القرن الرابع الهجريّ بسنوات عديدة، وإن أمكن أن تكون بقايا حيرة قد استمرّت في بعض البلدان إلى زمان أكثر –بناءً على الانحسار التدريجيّ للحيرة-، لتنتهي أيضًا هذه البقايا قبل منتصف القرن الرابع الهجريّ.
نعم، لا بدّ من القول –بناء على ما جاء في تلك المصادر– بأنّ الحيرة قد استمرّت على الأقلّ إلى العقد الثالث من القرن الرابع الهجريّ، بل إلى أوائل العقد الرابع من هذا القرن، ممّا يعني أنّها استمرت حوالي سبعة بل ثمانية عقود ونيف من السنين، بمعزل عن خريطة انتشارها جغرافيًّا، واتساع دائرتها أو انحسارها في زمن أو آخر من هذه العقود.
إلا اللهم إن قيل إنّه كانت هناك موجتان من الحيرة: الأولى مع بداية الغيبة الصغرى (بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام) سنة 260 هـ.ق)، والثانية مع بداية الغيبة الكبرى (329هـ.ق)، حيث قد تكون دامت كلّ من هاتين الموجتين لسنوات وانتهت، وهي فرضيّة تحتاج إلى بحث مستأنف. أمّا فرضيّة اقتصار الحيرة على بداية الغيبة الكبرى فقط، فلا تدعمها العديد من الأدلّة التي ذكرنا.
 وكلّ ما تقدّم من كلام يتّصل بإنتهاء الحيرة بشكل كامل، أمّا إن كان الكلام عن البدء بانحسار الحيرة -والذي يسبق انتهاءها-، فلا بدّ أن يكون قد حصل ذلك قبل انتهائها بسنوات؛ لأنّ هكذا حالة لها بعدها الاجتماعيّ العام، والذي عمّ العديد أو الكثير من المجتمعات الشيعيّة؛ لا يمكن أن تنتهي ـ عادة ـ بشكل طفرويّ، وإنّما تنتهي بشكل تدريجيّ، وهو يعني-إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كثرة من شملتهم وسعة انتشارها– أنّ بداية انحسار الحيرة قد حصلت قبل نهايتها بسنوات طويلة، من دون أن نستطيع تحديد بداية الانحسار تلك بشكل دقيق.
نعم، قد يُطرح أنّ حالة الحيرة تلك قد تجاوزت السنة أو السنتين بناءً على ما ذكره الطبري (توفّي 411 هـ.ق) في كتابه (دلائل الإمامة) من حديث أحمد بن الدينوريّ السراج، حيث يقول: «انصرفت من أردبيل إلى دينور أريد أن أحجّ، وذلك بعد مضي أبي محمد الحسن بن علي(عليه السلام) بسنة أو سنتين، وكان الناس في حيرة...»[30]. لكن لا يمكن أن نستفيد من هذا الحديث أنّها انتهت بعد حوالي سنة أو سنتين من وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)؛ لأنّ ما يفيده هذا الحديث هو أنّ الحيرة كانت موجودة بعد سنة أو سنتين من وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، لا أنّها انتهت بعد سنة أو سنتين منها.
 وقد يُطرح أنّها لم تتجاوز السنوات الست بناءً على ما رواه الأصبغ بن نباتة عن الإمام علي(عليه السلام)، حين سأله قائلًا:«يا أمير المؤمنين، وكم تكون الحيرة والغيبة؟ قال: ستّة أيام، أو ستّة أشهر، أو ستّ سنين...»[31]، حيث احتمل العلّامة المجلسيّ (1037هـ.ق ـ 1110 هـ.ق) احتمالات عديدة من هذا التردّد بين الأيام الست، والأشهر الست، والسنوات الست، منها «إنّ السائل قد سأل عن الغيبة والحيرة معًا، فأجاب (عليه السلام) بأنّ زمان مجموعها أحد الأزمنة المذكورة، وبعد ذلك ترتفع الحيرة وتبقى الغيبة، ويكون الترديد باعتبار اختلاف مراتب الحيرة إلى أن استقرّ أمره في الغيبة»[32].
 قد يكون ما ذكره العلّامة المجلسيّ صحيحًا، لكن لا نستطيع الجزم به. كلّ ما يمكننا قوله هو الآتي:

1ـ إنّ الحيرة قد بدأت بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام) مباشرة سنة 260 هـ.ق.
2ـ إنّها انتهت قبل زمن الشيخ المفيد (336 هـ.ق – 413 هـ.ق)، وتحديدًا حياته العلميّة بسنوات طوال، ليس معلومًا كم هي.
3ـ قد يقرب القول إنّها دامت حوالي الثمانية عقود من الزمن (بناءً على القول بوجود حيرة واحدة لا حيرتين).
4ـ قد يرجّح ما ذكرناه أنّه مع لحاظ سعة انتشارها على تباعد المجتمعات والبلدان، وكثرة من شملته؛ أنّ العمل على تجاوزها، وإزالة آثارها، ومعالجة أسبابها؛ قد استغرق العديد أو الكثير من السنوات.
5ـ قد يصحّ ما احتملة العلّامة المجلسيّ من أنّها لم تتجاوز السنوات الست، لكن يبقى ذلك مجرّد احتمال لا يمكننا القطع به.
6ـ قد يصحّ القول بأنّ ما حصل في ذاك التاريخ موجتان من الحيرة وليس موجة واحدة، الأولى بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام) (260هـ.ق)، والثانية مع بداية الغيبة الكبرى (329 هـ.ق) (وهو ما يحتاج إلى بحثٍ مستأنف).
 إذا صحّت هذه الفرضيّة فسوف يختلف الحديث عن بداية الحيرة ومدّتها الزمنيّة؛ لأنّه عندها سوف تكون لدينا بدايتان وليس بداية واحدة، ونهايتان وليس نهاية واحدة، وسوف تكون لدينا مدّتان وليس مدّة واحدة، حيث قد يصبح معقولًا القول إنّ كلّ واحدة من هاتين الحيرتين دامت لسنين قليلة وانتهت، وهنا –بناءً على هذا القول– يصبح الاحتمال الذي طرحه العلّامة المجلسيّ أكثر وجاهة.
على كلٍّ، فإنّ النتيجة التي نخلص إليها هي إنّ الحيرة قد دامت سنوات عديدة –بناء على الحيرتين-، أو عقود عديدة من الزمن ـ بناءً على الحيرة الواحدة. وهو أمر طبيعيّ جدًّا أن يحصل ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجمل الأسباب التي أدّت إلى الحيرة والظروف والأوضاع التي سبقتها ورافقتها.

4 - في أسباب الحيرة:
الرأي الذي نطرح هو إنّ الحيرة كانت نتيجة طبيعيّة للظروف الموضوعيّة ومجمل الأسباب التي أدّت إليها، وهو ما يستدعي منّا البحث في تلك الأسباب التي أدّت إلى تلك الحالة التي أصابت الاجتماع الشيعيّ العام آنذاك بالحيرة والتردّد في أمر الخلف بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، حيث يمكن لنا أن نذكر الأسباب والعوامل الآتية:
1 - جِدة الحدث: بمعنى إنّ حدث الغيبة هو حدث غير مسبوق في التاريخ الإسلاميّ الشيعيّ، وهي المرّة الأولى التي يحصل فيها أن يغيب الإمام المعصوم بهذه الكيفيّة وبهذا المستوى، وهي المرّة الأولى التي يعيش فيها المجتمع الشيعيّ تجربة من هذا النوع، فلم يكن لذلك المجتمع من تجربة سابقة تمنحه الخبرة الكافية، والمعرفة اللازمة، التي تعينه على التصرّف إزاء هذا الحدث، وحسن إدارته، والتعامل مع مجمل التداعيات التي تترتّب عليه.
2- الظروف الموضوعيّة: أي إنّ مجمل الظروف التي كانت قائمة آنذاك كانت تتطلّب مستوى متشدّد من التستّر والتكتّم على أمر الإمام وولادته، ومختلف ما يتّصل به، واتّخاذ مجمل التدابير والإجراءات التي تسهم في حماية شخصه وإخفاء ولادته، بل والعمل على صرف انتباه السلطات عنه، وإيجاد أكثر من مناخ يسهم في إبعاد اهتمامها وسعيها عن طلبه، والعمل على كشف أمره.
لقد كان الوعي الإسلاميّ العام مسكونًا بقضيّة المهديّ(عليه السلام)، وأنّه الذي يخرج فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا، ولقد كان عقل السلطة متنبّهًا إلى هذه القضيّة، ومهتمًّا إلى أبعد الحدود في كشف قضيّة الإمام المهديّ(عليه السلام) وولادته، ليتعامل معها بما يُمليه الحفاظ على دولته ودوام سلطانه، من اتّخاذ أيّ تدبير استباقيّ تجاه ما يراه تهديدًا جديًّا له، ولديمومة حكمه.
وهذه ليست مجرّد فرضيّة متصوّرة، وإنّما تؤكّد المصادر ذات الصلة هذا الأمر، فقد ذكر الشيخ أبو سهل النوبختيّ (237 هـ.ق – 311 هـ.ق) أنّ تلك الجماعة من ثقاة الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام) «...أمروا الناس أن لا يسألوا عن اسمه [الإمام المهديّ]، وأن يستروا ذلك من أعدائه، وطلبه السلطان أشدّ الطلب، ووكّل بالدور والحبالى من جواري الحسن(عليه السلام)»[33].
ويقول النوبختيّ الحسن بن موسى (توفّي 310 هـ.ق) في كتابه (فرق الشيعة): «فكيف يجوز في زماننا هذا مع شدّة الطلب وجور السلطان، وقلّة رعايته لحقوق أمثالهم ]أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، مع ما لقي (عليه السلام) وحبسه؛ تسميته من لم يظهر خبره ولا اسمه، وخفيت ولادته..»[34]. أي كيف يجوز في ظلّ تلك الأوضاع والظروف تسمية الإمام المهديّ(عليه السلام) وتعريفه باسمه، إذ إنّ معرفة الاسم كانت مفتاحًا لمعرفة الشخص.
ويقول الأشعريّ القمّيّ (توفّي ما بين 299هـ.ق و301هـ.ق) في (المقالات والفرق): «... هذا كلّه لشدّة التستّر من الأعداء، ولوجوب فرض استعمال التقيّة، فكيف يجوز في زماننا هذا ترك استعمال ذلك، مع شدّة الطلب، وضيق الأمر، وجور السلطان عليهم، وقلّة رعايته لحقوق أمثالهم، ومع ما لقي في الماضي أبو الحسن [الإمام الهادي(عليه السلام)]من المتوكّل، وشدّته عليه، وما حلّ بأبي محمد [الإمام العسكريّ(عليه السلام)]،[و] هذه العصابة [أصحاب الإمام وخواصه] من صالح بن وصيف (لعنه الله)، وحبسه إيّاه، وأمره بقتله، وحبسه له ولأهل بيته، وطلب الشيعة، وما نالهم منه من الأذى والتعنّت؛ تسمية من لم يظهر له [أي الإمام المهديّ(عليه السلام)] خبر، ولم يُعرف له اسم مشهور، وخفيت ولادته...»[35].
ويقدّم الشيخ المفيد جوابًا على سؤال طرح عليه، حيث يفرّق بين ظروف رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم) وظروف محمد بن الحسن المهديّ(عليه السلام)، فممّا يقوله في جوابه ذاك: «... ولا خلاف أنّ الملوك من ولد العبّاس لم يزالوا على الإخافة لآباء الإمام، وخاصّة ما جرى من أبي جعفر المنصور مع الصادق(عليه السلام)، وما صنعه هارون بأبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) حتّى هلك في حبسه في بغداد، وما قصد المتوكّل بأبي الحسن العسكريّ(عليه السلام) جدّ الإمام، حتّى أشخصه من الحجاز، فحبسه عنده بسرّ من رأى. وكذلك جرى أمر أبي محمد الحسن(عليه السلام) بعد أبيه إلى أن قبضه الله تعالى. ثمّ كان من أمر المعتمد بعد وفاة أبي محمّد(عليه السلام) ما لم يخفَ على أحد من حبسه لجواريه، والمسألة عن حالهنّ في الحمل، واستبراء أمرهنّ، عندما اتّفقت كلمة الإماميّة على أنّ القائم هو ابن الحسن(عليه السلام)، فظنّ المعتمد أنّه يظفر به فيقتله، ويزيل طمعهم في ذلك، فلم يتمكّن من مراده، وبقي بعض جواري أبي محمّد(عليه السلام) في الحبس أشهرًا كثيرة...»[36].
ويقول الشيخ المفيد (336-413هـ) عن الإمام العسكريّ(عليه السلام) بأنّه:»...قد أخفى مولده الإمام المهديّ(عليه السلام)، وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدّة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإماميّة فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يُظهر ولده (عليه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور [عامّة الناس] بعد وفاته»[37].
فعن أيّ صعوبة وقت يتحدّث الشيخ المفيد، وما هي صعوبات ذلك الزمان؟ وما الذي يدفع السلطان إلى أن يطلب الإمام المهديّ(عليه السلام) طلبًا شديدًا، ويجتهد في البحث عن أمره؟ وما الذي يدفعه إلى أن يجعل كلّ تلك الرقابة الشديدة على دور الإمام، والنساء الحبالى؟.
إنّ معنى هذا الأمر هو أنّ السلطان كان يشعر بخوف شديد من قضيّة الولادة تلك؛ لارتباط تلك القضيّة بموضوع (القائم)، وما يعنيه من مترتّبات ونتائج تخشى منها السلطة، وتحسب لها كلّ حساب.
إنّ مستوى الحرص من السلطان على كشف أمر الإمام المهديّ(عليه السلام) وتعقّب ولادته؛ تطلب في المقابل مستوى متقدّم من التدابير والإجراءات التي تسهم في إخفاء أمر الولادة، وإخفاء شخص الإمام، واعتماد كافّة السبل التي تحميه من أعدائه، الذين كانوا يتربّصون به ويسعون بكافّة الوسائل إلى كشف أمره للنيل منه والقضاء عليه.
وكذلك ما ورد في كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسيّ (385هـ.ق ـ 460هـ.ق) من وصفٍ لتلك الظروف في مرحلة الغيبة الصغرى في زمان المعتضد العباسيّ، والذي جاء فيه: «إنّ الأمر كان حادًّا جدًّا في زمان المعتضد، والسيف يقطر دمًا..»[38].
هذا ولن أتوسّع أكثر في نقل الشواهد والأدلّة على صعوبة ذلك الزمان وشدّة ظروفه، سوى أنّي أختم هنا بحديث للإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام)، يتحدّث فيه عن أوضاع تلك المرحلة قبل أكثر من قرن ونصف من وقوعها، فعندما يسأل أحدهم عن سبب تسميتهم للإمام جعفر بن محمّد بالصادق (يا سيّدي فكيف صار اسمه الصادق وكلّكم صادقون؟)؛ يجيبه الإمام(عليه السلام): «حدّثني أبي عن أبيه عن رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم)، قال: إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسمّوه الصادق، فإنّ الخامس من ولده، الذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراءً على الله جلّ جلاله وكذبًا عليه، فهو عند الله جعفر الكذّاب، المفتري على الله تعالى، والمدّعي ما ليس له بأهل، المخالف لأبيه، والحاسد لأخيه، وذلك الذي يروم كشف سرّ الله عزّ وجلّ عند غيبة وليّ الله.

ثمّ بكى علي بن الحسين(عليه السلام) بكاءً شديدًا، ثمّ قال:
كأنّي بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله، والمغيّب في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه، جهلًا منه برتبته، وحرصًا على قتله إن ظفر به، وطمعًا في ميراث أخيه، حتّى يأخذه بغير حقّ»[39].
3 - الظروف والإضرار بالإعداد: إنّ الظروف المذكورة كما تطلّبت اتخاذ جملة من التدابير المشدّدة الكفيلة بحماية شخص الإمام، وستره وإخفاء أمر ولادته؛ فلا بدّ أن تكون أثّرت سلبًا على عمليّة الإعداد المجتمعيّ والثقافيّ للمجتمعات الشيعيّة للتعامل مع حدث الغيبة ومجمل تداعياته. بمعنى إنّ عمليّة إعداد المجتمع، وتهيئته لذلك الحدث، قد تتطلّب -فيما تتطلّبه- مستوى من الإفصاح عن بعض القضايا والملابسات، التي قد تتنافى مع متطلّبات الستر والإخفاء لأمر الإمام وحماية شخصه.
ولذلك قد تكون تلك الظروف المحيطة قد أعاقت بشكل أو آخر عمليّة الإعداد لتلك المجتمعات للتعامل مع ذلك الحدث (حدث الغيبة)، وحالت دون تحصينها بشكل وافٍ، ممّا ساهم بشكل أو آخر في حصول جملة تلك التداعيات التي ترتّبت على حدث الغيبة من الحيرة وغيرها، ليبقى العلم بقضيّة الإمام وولادته مقتصرًا على الحلقة الضيّقة المحيطة بالإمام العسكريّ(عليه السلام) من أصحابه الثقاة والعدول المستأمنين على السرّ وإخفاء الأمر.
4- سوء الاستفادة من الظروف: بمعنى إنّ المحاولات التي قام بها البعض (جعفر أخو الإمام العسكريّ(عليه السلام)) للاستفادة من تلك الظروف والأوضاع من أجل أن يظفر بتركة الإمام العسكريّ(عليه السلام) ومقامه من بعده، قد ساهمت بشكل أو آخر، في تلك الحيرة سواء في تعزيز منسوبها، أو في اتساع دائرتها، أو في زيادة الالتباسات والشبهات المحيطة بها...
وفي هذا يقول الشيخ المفيد (336-413هـ) في كتابه الإرشاد: «وتولّى جعفر بن علي أخو أبي محمّد (عليه السلام) أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمّد (عليه السلام) واعتقال حلائله، وشنّع على أصحابه بانتظارهم ولده، وقطعهم بوجوده، والقول بإمامته. وأغرى بالقوم حتّى أخافهم وشرّدهم، وجرى على مخلّفي أبي محمّد (عليه السلام) بسبب ذلك كلّ عظيمة، من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذلّ، ولم يظفر السلطان منهم بطائل. وحاز جعفر ظاهر تركة أبي محمد (عليه السلام)، واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، فلم يقبل أحدٌ منهم ذلك، ولا اعتقده فيه، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه، وبذل مالًا جليلًا، وتقرّب بكلّ ما ظنّ أنّه يتقرّب به، فلم ينتفع بشيء من ذلك»[40]، نعم قد يحصل أن لا يقبل الشيعة أو مجملهم بكلّ تلك المساعي التي قام بها جعفر لتبوّأ مقام الإمام العسكريّ(عليه السلام) ومنزلته من بعده، لكن قد يسهم ذلك بشكل أو آخر، وبمستوى أو آخر في تلك الحيرة التي أصابت الاجتماع الشيعيّ بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، ولو من حيث تشديد الضغوط على أصحاب الإمام العسكريّ، والحؤول دون قيامهم بدورهم في هذا الموضوع، أو من حيث توفير تلك المادّة التي سوف يُعمل على سوء الاستفادة منها، وتوظيفها لتغذية تلك الشبهات التي تهدف إلى التشكيك بولادة الإمام ورفع منسوب التساؤلات حولها.
5- حملات التشكيك: أي إنّ ما حصل في تلك الظروف هو تشكّل سيل من الشبهات والتشكيكات التي انهالت من كلّ حدب وصوب، في الوقت الذي لم يكن من السهولة بمكان مواجهة تلك الحملات وسيل الشبهات نتيجة لطبيعة الظروف الضاغطة التي كان يتعرّض لها أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) آنذاك، وتحديدًا في بعض الأزمنة وفي بعض المواطن.
لقد استغلّت العديد من الفئات والفرق الكلاميّة طبيعة تلك الظروف الاستثنائيّة التي يمرّ بها الاجتماع الشيعيّ، وعملت على ضخّ العديد من تلك الشبهات والتشكيكات[41]، ممّا أدى إلى تعقيد الموقف أكثر، والإسهام بشكل أو آخر في تعزيز تلك الحيرة، في حين إنّ حساسيّة الظروف السياسيّة والاجتماعيّة (صعوبة الوقت) لم تكن لتساعد على أن يعمل أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) بكامل حرّيّتهم على نقل تلك الإجابات من بطون المصنّفات إلى وعي الناس وثقافتهم، وعلى أن يبثّوا إجاباتهم ويشيعوها في تلك المجتمعات التي تعرّضت لحالة الحيرة تلك، ومجمل التساؤلات والتشكيكات التي رافقتها.
6 - النصّيّ والثقافيّ[42]: بمعنى إنّ مجمل تلك المنظومة المعرفيّة الروائيّة والكلاميّة والعقائديّة لم تتحوّل إلى ثقافة مجتمعيّة عامّة لدى عموم المجتمعات الإسلاميّة الشيعيّة آنذاك، حيث إنّ من أهمّ أسباب تلك الحيرة التي حصلت وذاك الاختلاف الذي وقع هو عدم العلم بجملة من آثار أهل البيت(عليهم السلام) ورواياتهم فيما يتّصل بموضوع المهديّ(عليه السلام) ومجمل القضايا ذات الصلة، لكنّه لما عُمل على تعريف الناس بتلك الآثار، والروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في هذا الموضوع، زالت الحيرة من نفوسهم، وسكنت إلى الاعتقاد بإمامة المهديّ(عليه السلام) قلوبهم.
هذا وقد يكون لعدم تحويل ذلك النصّ إلى ثقافة مجتمعيّة له علاقة بطبيعة الظروف المحيطة في ذلك الوقت -كما ذكرنا- من حيث إنّ ظروف الإرهاب الفكريّ والنفسيّ والسياسيّ الذي كانت تمارسه السلطة آنذاك كانت تحول دون القيام بذلك العمل والجهد، الذي يؤدّي إلى تحويل تلك المادّة المعرفيّة والكلاميّة إلى ثقافة دينيّة عامّة لدى تلك المجتمعات وعموم أفرادها.
وقد يكون لهذا الأمر علاقة أيضًا بأنّ تلمّس المشكلة في النصوص يختلف عن مستوى تلمّسها في الواقع الاجتماعيّ.
وبيان ذلك، أنّ النصوص الدينيّة الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) كانت قد تحدّثت قبل مئات السنين وقبل عقود من الزمن عن خفاء ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام) وعن غيبته، وعن حالة الحيرة والشكّ التي سوف تصيب كثيرًا من الخلق أو بعضًا من الناس، لكن هذا شيء والاصطدام بالمشكلة في الواقع الاجتماعيّ شيء آخر، بمعنى إنّ هذا الاصطدام بالمشكلة يتيح بشكل أفضل معرفة تداعياتها وآثارها ومداها وطبيعتها ومظاهرها، وهو ما يساعد على التعامل معها بشكل أفضل من قبل أصحاب الإمام(عليه السلام) وثقاته، وعلى علاج جميع آثارها ونتائجها ومعالجة مجمل الأسباب التي أدّت إليها[43].
أمّا إن قيل: إنّه لماذا لم يكن هذا العلم موجودًا مسبقًا بتلك الآثار والروايات لدى عامّة الناس-بل حتّى لدى بعض أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)-؟ فالجواب: إنّ هذا أمر طبيعيّ؛ لأنّ عامّة الناس-فضلًا عن العلماء والفقهاء والرواة- عادة وغالبًا ما يلجأون إلى الآثار والروايات ذات الصلة عندما يصطدمون بالمشكلة، بمعنى إنّ تلك الآثار والروايات ذات الصلة بموضوع الإمام المهديّ(عليه السلام) ومختلف شؤونه، والواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)؛ كانت مدوّنة في العديد من المصنّفات والأصول، لكن هناك فرق بين أن تكون هذه الروايات والآثار مدوّنة في مصنّفات بعض الرواة والعلماء أو جملتهم، وبين أن تكون معلومة ومعروفة بقوّة من قبل الجميع. وفرق بين أن تكون تلك النصوص والأخبار موجودة في المدوّنات، وبين أن تتحوّل إلى وعي عامّ لدى عامّة الناس، ومختلف فئات المجتمع على الإطلاق.
والذي حصل هو إنّ الاصطدام بتلك المشكلة قد أدّى إلى الاستعانة بشكل نشط وفعّال بمجمل تلك الآثار والأخبار التي وردت عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في موضوع المهدويّة وشؤونها، والتي كانت موجودة في بعض الأصول والمصنّفات، ليتمّ بالتالي التعريف بها وبثّها ونشرها، وتحويلها من بطون الكتب والمصنّفات إلى وعي الناس وثقافتهم وعقولهم.
7- الحيرة والحكمة الهادفة: بمعنى إنّ ذلك السعي الحثيث والشديد من السلطان للعثور على الإمام المهديّ(عليه السلام) وكشف أمره، استوجب أكثر من إجراء لحماية الإمام والستر عليه ومواجهة مساعي السلطة آنذاك للوصول إليه.
ربّما نستطيع القول هنا بأنّ الحيرة كانت إحدى تلك الأدوات أو الوسائل التي ساهمت في تعطيل مساعي السلطة، أو صرف انتباهها، أو لربّما إقناعها بعدم جدوائيّة البحث وفائدته.
لا أريد القول إنّ حالة الحيرة تلك كان يُعمل على إيجادها بهدف إرباك السلطة أو صرف انتباهها، كلا، ليس هذا المراد؛ بل المراد القول إنّ حالة الحيرة هي نتيجة طبيعيّة لمجمل الظروف المحيطة والأسباب الموضوعيّة التي كانت قائمة آنذاك، وقد ترتّب على حالة الحيرة هذه العديد من النتائج. واحدة من تلك النتائج كانت ذات مضمون وأثر إيجابيّ، من حيث إسهام تلك الحيرة في إرباك السلطة، أو صرف انتباهها، أو لربّما إقناعها بعدم جدوائيّة البحث عن الإمام وتقصّي أمره.
لا يقولنّ أحدٌ إنّه إذا كان العامل الغيبيّ (السبب) هو الذي يتكفّل بحماية شخص الإمام؛ فما فائدة تلك الإجراءات والتدابير البشريّة لحمايته؟؛ لأنّ الجواب على هذا السؤال واضح، وهو إنّ وجود العامل الغيبيّ لا يعني عدم الأخذ بمجمل -بل جميع- الأسباب والعوامل المادّيّة، بل لا بدّ من الأخذ بهذه الأسباب والاستفادة من تلك العوامل، ومن ثمّ يأتي العامل الغيبيّ (السبب الغيبيّ)، لا من أجل أن يلغي تلك الأسباب والعوامل المادّيّة، وإنّما ليكمّلها ويتكامل معها، ويعوّض أيّ نقص أو عجز أو قصور فيها.
ومن هنا لا بدّ من القول إنّه توجد ضرورة للأخذ بجميع تلك الأسباب والعوامل المادّيّة والبشريّة التي تسهم في حماية شخص الإمام المهديّ(عليه السلام) وحفظه، ومن ثمّ يأتي العامل الغيبيّ (السبب الغيبيّ) ليكمل دور تلك الأسباب ويتكامل معها، ويقوم بما يمكن أن تعجز عنه، ولا تبلغ غايته.
8 - طبيعة الحدث والاختبار الإيمانيّ: أي إنّ طبيعة الحدث (الغيبة وطول الأمد) تقتضي (على نحو الاقتضاء وليس العلة التامّة) مستوى متقدّمًا من الاختبار الإيمانيّ، هذا الاختبار الذي قد يفضي إلى أكثر من نتيجة، منها نجاح البعض في هذا الاختبار، ومنها وقوع البعض في الشكّ والحيرة وسوى ذلك.
في هذا الاختبار المطلوب تجاوز المحسوس إلى المعقول والمنقول، أي تجاوز دليل الحسّ إلى دليل العقل والنقل. هنا المطلوب أن تؤمن بأمر يهديك إليه عقلك وينبئك المعصوم (النبيّ(صلى الله عليه واله وسلم) وأهل بيته(عليه السلام)) عنه من دون أن تراه عينك، أو تصل إليه بحواسك. هنا يصبح فعل الإيمان  أرقى، وإن كان الاختبار الذي يفضي إليه أشدّ. إذ إنّ هذا الاختبار يرتبط بالغيب والإيمان به. فأن تؤمن بما يقودك إليه عقلك، وبما ينبئك به الحجج الإلهيّون من الأنبياء والرسل والأئمّة –الذين توصلّت إلى الإيمان بهم بعقلك-؛ فهو إيمان أرقى درجة وأسمى مرتبة، حيث تنتقل فيه من المادّيّ إلى المجرّد، ومن المحسوس إلى المعقول والمنقول.
وخلاصة القول: إنّ طبيعة الحدث -الغيبة- وما يختزنه من اختبار إيمانيّ راقٍ وعالي المستوى، قد تفضي (على نحو الاقتضاء) إلى حالة من الشكّ والحيرة لدى الكثير -أو العديد- ممّن يتعرض لذاك الاختبار، إلا من اعتصم بالمعرفة واليقين والتسليم، وهذا ما حصل في تلك المرحلة التاريخيّة، وما تضمّنته من ظروف استثنائيّة وتحوّلات مفصليّة.
ولأهميّة هذا الإيمان بالغيب والاختبار به، نجد أنّ أوّل وصف من أوصاف المتّقين في القرآن الكريم أنّهم يؤمنون بالغيب: ... ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...[44].
والملفت في هذه الآية أنّ الإمام الصادق(عليه السلام) يقدّم تفسيرًا للغيب مفاده أنّه القائم(عليه السلام)[45]، أي الإمام المهديّ(عليه السلام)، وهو من نوع التفسير بالمصداق. ومعنى أن يكون الإمام المهديّ(عليه السلام) من مصاديق الغيب، فهو يؤدّي إلى تحديد طبيعة الفعل الإيمانيّ الذي يجب أن يتعلّق بهذا الغيب ومرتبته واختباره، بل والمنهج المعرفيّ الذي يجب أن يُعتمد في التعامل معه والبحث فيه، من قبيل الإيمان بالله تعالى، والجنّة، والنار، والصراط، والميزان، والحشر، والنشر، والملائكة... وغيرها من العناوين التي تندرج تحت مفهوم الغيب الذي لا يتناوله حسٌّ، ولا تبلغه حواس.
هنا أجد من المفيد أن ألفت إلى هذه القضيّة، وهي أنّه في بحث الأسباب التي أدّت إلى الحيرة، قد يبحث في أمرين يرتبطان ببعضهما، وهما: الغيبة، وطول الأمد (أي طول الغيبة)، حيث قد نجد من يعتقد أنّ الذي أدّى إلى الحيرة هو طول أمد الغيبة، وليس الغيبة نفسها، (أي مجرّد حصولها)، وهو ما يقتضي القول إنّ زمن وقوع الحيرة هو بداية الغيبة الكبرى[46] وليس بداية الغيبة الصغرى، ممّا يؤثّر أيضًا على تحديد نهايتها ومدّتها الزمنيّة...
وهناك من سلّط الضوء على (طول الأمد) وأغفل الغيبة[47]، مع إنّ الرواية التي ذكرها عن الإمام علي(عليه السلام) في سياق استدلاله هذا تتحدّث في الغيبة وليس في طول الأمد؛ والعبارة التي اقتبسها من (الإمامة والتبصرة من الحيرة) لعلي بن بابويه القمّيّ عن طول الأمد، يسبقها مباشرة كلام ابن بابويه هذا عن الغيبة؛ وأيضًا النصّ الذي اقتبسه من (كمال الدين وتمام النعمة) للشيخ الصدوق عن شخص حيّره طول الغيبة، يسبقه قبل أسطر كلام صريح عن إنّ الغيبة قد حيّرت أكثر المختلفين إلى الشيخ الصدوق من الشيعة في نيسابور؛ والنصّ الذي اقتبسه من كتاب (الغيبة) للنعمانيّ، فهو كما يتحدّث عن طول الأمد، فهو أيضًا يتحدّث فيه عن الغيبة، هذا فضلًا عن بيانه (النعمانيّ) للدوافع التي حدت به إلى تسطيره لكتابه ذاك – كما بقيّة علماء تلك المرحلة التاريخيّة الذين صنّفوا في الموضوع نفسه-، والتي تتمحور بشكل أساس حول الغيبة وما ترتّب عليها، فهو عندما يتحدّث عمّا أصاب الشيعة في ذاك الوقت يعزو سبب ذلك «.. للمحنة الواقعة بهذه الغيبة...»[48]،  ولذلك بادر إلى تصنيفه لكتابه ذاك، فيقول: «فقصدت القربة إلى الله عزّ وجلّ بذكر ما جاء عن الأئمّة الصادقين.. في هذه الغيبة..»[49]؛  وأمّا الرواية التي نقلها ذلك الكاتب من (الكافي) للكلينيّ (توفّي329هـ.ق) عن الإمام علي(عليه السلام)، فهي تشتمل في صدرها على العبارة التالية «أما والله ليغيبنّ إمامكم سنينًا من دهركم..»[50].
وما أجده أقرب إلى مجمل النصوص والمصادر ذات الصلة هو إنّ الذي كان له الدور الأساس هو حدث الغيبة، أي مجرّد حصولها. نعم يمكن القول: إنّ طول الأمد ساهم في مزيد من اقتضاء الغيبة للحيرة، بمعنى إنّ الغيبة اقتضت الحيرة، وطول الغيبة أدّى إلى إمداد هذا المقتضي بمزيد من التأثير، أو يمكن القول إنّ طول الأمد قد تحوّل إلى سبب برأسه – ولو بعد زمن-، وإلى إشكاليّة بنفسها، طرحت حولها أسئلة وشبهات عديدة، أجيب عليها بإجابات شتّى ومختلفة ليس هنا مورد ذكرها.
- خلاصة وتقييم: خلاصة القول: إنّ فهم طبيعة الحدث؛ الحيرة ودلالاتها والنتائج التي ترتّبت عليها؛ كلّ ذلك يرتبط منهجيًّا وجوهريًّا بتلك الأسباب التي أدّت إليها، فلن يكون من الصحيح الخوض في بحث الحيرة دون التطرّق إلى الأسباب التي أدّت إليها، أو إغفال تلك العوامل التي ساهمت فيها.
ومن هنا وجدنا من المطلوب منهجيًّا إفراد عنوان لتلك الأسباب، حيث توصّلنا إلى أنّ ما أدّى إلى تلك الحيرة هو طبيعة الحدث، وما يحمله من مستوى متقدّم من الاختبار الإيمانيّ هذا من جهة، ومن جهة أخرى مجمل تلك الظروف المحيطة التي تتّصل بصعوبة الوقت وسياسات السلطان، والتي كانت تضغط بشدّة على أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) وثقاته، وتحول دون أن يبادروا بكلّ يسرٍ لاستيعاب الحدث، وعلاج ارتداداته، والإجابة على جميع تلك الشبهات والتساؤلات حوله، والعمل على تلبية الحاجات الثقافيّة والكلاميّة الملحّة للمجتمعات الشيعيّة آنذاك وتحصينها.
وما يشهد على ذلك هو قول ابن بابويه القمّيّ في كتابه (الإمامة والتبصرة من الحيرة) أنّه: «...لولا التقيّة والخوف لما حار أحد، ولا اختلف اثنان...»[51]؛ إذن هو الخوف من تلك السلطات التي كانت تسعى بكلّ ثقلها واهتمامها للعثور على الإمام والوصول إليه –وإن كانت دائرة التقيّة أوسع من أن تشمل فقط مرحلة الإمام العسكريّ(عليه السلام) أو الإمام المهديّ(عليه السلام)، والتي كانت تمارس جميع ضغوطها على أصحاب الإمام وتعرّضهم لفنون الاضطهاد والذلّ والملاحقة والمراقبة، وتحول دون قيامهم بدورهم المرتقب منهم تجاه حدث الغيبة وما يترتّب عليه من الحيرة وغيرها.  وهو ما بدا واضحًا في كلام الشيخ المفيد الذي تحدّث عن أوضاع أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وكيفيّة تعامل سلطان ذلك الزمان معهم، والسعي إليه بهم حتّى «أخافهم وشرّدهم، وجرى على مخلّفي أبي محمّد (عليه السلام) بسبب ذلك كلّ عظيمة من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذلّ...»[52].
فهل يمكن لتلك الجماعة التي تتعرّض إلى ذاك المستوى من الضغوط (كلّ عظيمة) والتشريد، والاعتقال، والحبس، والتهديد.. أن تقوم بذاك الدور الاستثنائيّ المرتقب منها، والذي يحتاج إلى جهودٍ كبيرة جدًّا على المستوى الاجتماعيّ والدعويّ، وإلى تواصل نشط مع مختلف المجتمعات الشيعيّة آنذاك، وإلى برامج فعّالة على المستوى التبليغيّ والثقافيّ، وإلى بيئة مساعدة اجتماعيًّا، وسياسيًّا، وأمنيًّا، وعمليًّا؟.
إنّه لمن شبه المستحيل أن يتسنّى لأصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) وثقاته أن يقوموا بدورهم هذا في ظلّ تلك الظروف التي كانت قائمة، والضغوط الشديدة التي كانوا يتعرّضون لها، والإرهاب الفكريّ والنفسيّ الذي كان يلاحقهم من قبل سلطان الوقت آنذاك.
إنّ من الواضح لمن يعاين تلك النصوص التي صدرت في تلك الفترة التاريخيّة، أنّ مستوى الإرهاب الفكريّ والأمنيّ والسياسيّ الذي كان تمارسه السلطة آنذاك على أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، كان يحول دون قيامهم بذاك الدور المنتظر منهم، وكان يعطّل لديهم أيّة مبادرة يمكن أن تسهم في معالجة تداعيات الغيبة ونتائجها.
لقد ذكرنا جملة من الأسباب والعوامل التي أسهمت في حصول الحيرة وتداعيات الغيبة، من عدم مسبوقيّة الحدث بذاك المستوى في التاريخ الإسلاميّ، إلى سعي البعض (جعفر أخ الإمام العسكري(عليه السلام)) إلى الاستفادة من حدث الغيبة ممّا ساهم في تعقيد الوضع أكثر، إلى فعل التشكيك الذي بدأ يعبّر عن نفسه من مختلف الفرق المخالفة آنذاك...؛ لكن ما كان له الدور الأساس هو طبيعة ذلك الحدث (الغيبة)، فلا بدّ من القول إنّ طبيعة الحدث تقتضي ذلك المستوى من الاختبار الإيمانيّ.
لكن لو تجاوزنا طبيعة ذلك الحدث، فلا بدّ من القول إنّ الأمور ما كانت لتبلغ تلك النتائج، أو لتصل إلى ذلك المدى الذي وصلت إليه لولا تلك الظروف المحيطة آنذاك، والتي ساهمت بقوّة في حصول تلك الحيرة، واتساع رقعتها، واستمرارها لسنوات أو لعقودٍ من الزمن؛ في تعطيل العمل على معالجتها، واستيعاب نتائجها، والاستجابة لتحدّياتها، والإجابة على جميع شبهاتها، ومجمل إشكاليّاتها.
إنّ طبيعة الظروف المحيطة آنذاك من طلب السلطان الشديد للإمام المهديّ(عليه السلام)، والسعي الحثيث لكشف أمره، والضغوط الهائلة التي كانت تمارس على أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)؛ كلّ ذلك قد أدّى (أو ساهم) إلى إخفاء ولادة الإمام، وإلى إخفاء أمره عن عموم الناس بهدف حمايته من سلطان الوقت آنذاك، الذي كان يتوسّل بكلّ وسيلة للوصول إليه، وكشف أمره[53].
 فكيف يمكن والحال هذا تقديم الأدلّة على وجوده وولادته –وتحديدًا الحسّيّة منها- لمن لا يُستأمن على هذا الأمر، أو لا يستطيع حفظه، أو لا يقدر على مدافعة الساعين إليه، أو لا سبيل له إلى كتم الأمر فيه؟
إنّ مجمل تلك الإجراءات والتدابير (إجراءات الحماية، وتدابير الستر والكتمان) التي اقتضتها تلك الظروف الشديدة آنذاك؛ قد أدّت إلى حصول تلك الحيرة وتداعياتها، أو في الحدّ الأدنى قد ساهمت فيها بقوّة وبشكل كبير.
وعليه، يمكن القول: إنّ الثقل في الأسباب والعوامل التي أدّت إلى تلك الحيرة وآثارها، لا يعود إلى فقد الأدلّة على ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام)[54]، ولا إلى عجز أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام) العدول والثقاة عن تقديم جميع الإثباتات التي تؤكّد وجوده وتثبت ولادته؛ بل يعود إلى تلك الظروف القاهرة، والأوضاع الشديدة التي تتّصل بسلطان الوقت، وسعيه الدؤوب للوصول إلى الإمام المهديّ(عليه السلام)، والضغوط الشديدة التي كان يمارسها على أصحاب الإمام العسكريّ(عليه السلام)، وما كانوا يتعرّضون له من إرهاب سياسيّ ونفسيّ وفكريّ عطّل دورهم في بيان الأمر وإثباته، حيث جرى عليهم بسبب ما تقدّم (كلّ عظيمة). كلّ ذلك على خلفيّة إدراك السلطان لمعنى المهديّ(عليه السلام) وقيامه، وما تناهى إلى سمعه أنّه الذي يخرج فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا، وأنّه الذي على يديه يزول كلّ ظلم وسلطان ظالم.
ومن كان يصعب عليه أن يتقبّل هذه الفرضيّة أو يتعقّلها، فإنّنا نحيله إلى قصّة موسى(عليه السلام) في القرآن الكريم مع فرعون الذي بادر إلى قتل جميع المواليد الذكور من بني إسرائيل؛ لأنّه اعتقد أنّ ولدًا سوف يولد في بني إسرائيل تكون نهاية ملكه على يديه، وهلاكه بفعله. فبادر إلى قتل جميع المواليد الذكور ليمنع ذلك ويستبق حصوله[55]. هذا هو عقل تلك السلطة، وهذه هي اعتبارات سلطان ذاك الوقت التي تحرّكه وتنشىء فعله.
وعليه، لم يكن الدافع للبحث عن الإمام المهديّ(عليه السلام)، والاهتمام الشديد للوصول إليه من قبل السلطان آنذاك هو الحرص على إحقاق الحقّ في قضيّة التركة وقسمة الإرث، وإنّما كانت حساباته المبنيّة على استباق أيّ خطرٍ يحتمله من مولود لا يُبقي على أيّ سلطان ظالم أو ظلم سلطان، كما أشار إلى ذلك الشيخ المفيد عندما أراد أن يبيّن سبب «شدّة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره»، أنّه: «لما شاع من مذهب الشيعة الإماميّة فيه»، بل الذي جاء في أخبار جميع المسلمين، أنّه الذي يقطع دابر جميع الظلمة، وأنّه على يديه ينتهي كلّ سلطان وظلم، وأنّه تؤول الأمور جميعها إلى العدل.
ومن هنا كانت تلك الظروف التي أدّت إلى تلك الحيرة وما ينتج عنها، لكن يبقى أن نعرف مآلات تلك الحيرة وإلى ماذا انتهت، وما هي دلالة تلك المآلات التي أفضت إليها؟

-------------------------------
[1]ـ الخليل، ترتيب كتاب العين، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1414هـ. ق، ط1، ص207.
[2]ـ مجموعة من المؤلّفين، المعجم الوسيط، المكتبة الإسلاميّة، استانبول، الجزء الأوّل، ص211.
[3]ـ صحّحه وقدّم له وعلّق عليه: محمد جواد مشكور، مؤسّسه مطبوعاتى عطائى، ص101-116.
[4]ـ بيروت، دار الأضواء، 1984م، ط 2، ص ص95 – 112.
[5]ـ انتشارات بيدار، قم، 1401 هـ.ق، ص 294.
[6]ـ مدين، قم، 1426 هـ.ق، ط1، ص159.
[7]ـ م.ن.
[8]ـ م.ن، ص192.
[9]ـ م.ن، ص 28.
[10]ـ م.ن، ص 209.
[11]ـ المكتبة العصريّة، بيروت، 1990م، ج1، ص 90 – 91.
[12]ـ دار الهجرة، قم، 1984م، ط2، ج4، ص 112.
[13]ـ دار صادر، بيروت، ط1، ج4، ص 93.
[14]ـ دار صادر، بيروت، ص 181.
[15]ـ مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1416 هـ.ق، ط3، ص 45.
[16]ـ - يتحدّث د. حسين المدرسي الطباطبائيّ في كتابه (تطوّر المباني الفكريّة للتشيّع في القرون الثلاثة الأولى) عن الوضع الشيعيّ العامّ بعد وفاة الإمام العسكريّ(عليه السلام)، حيث يفرّق بين ما كان عليه الوضع في إيران، التي تمسّك أغلب شيعتها بمعتقدهم بإمامة (ووجود) محمّد بن الحسن (المهديّ(عليه السلام))، وبين ما كان عليه الوضع في العراق، حيث اختلفت الاتجاهات بين الحيرة وغيرها. (ترجمة: د. فخري مشكور، بيروت، العارف للمطبوعات، 2015م، ط1، ص 100-101).
[17]ـ - راجع في هذا الموضوع: أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسيّ الشيعيّ، بيروت، دار الجديد، 1998م، ط1، ص128؛ وجيه قانصو، الشيعة الإمامية بين النصّ والتاريخ، بيروت، دار الفارابيّ، 2016م، ط1، ص359 و 373.
[18]ـ - قد يصحّ القول إنّ المقصود بالكثرة في هذه التعابير هو الكثرة النسبيّة، أي إنّ أولئك الشيعة الذين وقعوا في الحيرة في ذلك الظرف الاستثنائيّ هم كثر بالنسبة إلى (مقارنة مع) من يقع فيها في الأحوال العاديّة، ومثالها العرفيّ أن يقول أحد ما: زارني كثير من الناس؛ فهو يقصد أنّه في ظرفٍ محدّد.. قد زاره من الناس ما يعدّ كثيرًا بنظر العرف مقارنة مع من يزوره في الظروف العاديّة.  
[19]ـ من الأخطاء المنهجيّة التي وقع فيها أولئك الكتّاب الذين حاولوا توظيف تلك المعطيات للتشكيك بوجود الإمام المهديّ(عليه السلام)؛ أنّهم لم يبحثوا في مفهوم «الفرقة»، وإنّما استخدموه بطريقة ساذجة أو مغرضة؛ ووجه ذلك أنّ «الفرقة» في مفهومها أقرب ما تكون إلى البعد المعرفيّ الكلاميّ –وإن أخذ تعبيرًا اجتماعيًّا ما– من البعد الاجتماعيّ الطائفيّ في فهمنا المعاصر له، أي إنّ دلالة هذا المفهوم هي دلالة كلاميّة بالدرجة الأولى، بمعزل عن تجلّياته الاجتماعيّة.
بمعنى إنّه قد تكون لدينا فرقة ما لا يتجاوزها عدد أفرادها أصابع اليدين، بل حتّى أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك يمكن أن تصنّف في كتب الفرق كإحدى تلك الفرق (حتّى وإن اندثرت بعد سنوات قليلة)؛ وذلك لأنّها تملك رأيًا كلاميًّا مختلفًا في قضيّة ما التفّ حوله ولو عدد قليل جدًّا من الناس.
وقد يكون في المقابل رأي كلاميّ آخر لفرقة أخرى يتجاوز عدد أفرادها عشرات الآلاف، ولربّما مئات الآلاف من الناس، ومع ذلك تدرج إلى جانب الفرقة الأولى بمعزل عن ذلك الجانب العدديّ والاجتماعيّ لها؛ لأنّ التصنيف في كتب الفرق تلك كان ناظرًا إلى الرأي الكلاميّ الذي يتموضع اجتماعيًّا، أكثر ممّا كان ناظرًا إلى الطائفة الاجتماعيّة (بمفهومها المعاصر)، التي تملك معتقدًا دينيًّا ما. (وهو ما يحتاج إلى بحثٍ مستقلّ).
 وعليه، فإنّ سعي أولئك الكتّاب إلى توظيف نصوص الفرق والفرقة والتفرقة للحديث عن نتائج تحاكي أفكارًا ذاتيّة غير علميّة لديهم، والتعمية في سبيل ذلك على مفهوم الفرقة؛ هو أقرب ما يكون إلى السطحيّة المغرضة التي لن تخدم فاعلها، عندما يتبيّن بالبحث العلميّ أنّ مجمل ذلك الحديث عن تلك الفرق والتفرقة؛ لا يعني بالضرورة ذلك الانقسام المجتمعيّ الحادّ والهائل والكبير، بل قد يكون اختلافًا كلاميًّا أخذ بعدًا اجتماعيًّا عدديًّا محدودًا جدًّا، وهو ما يحتاج إلى بحث مستأنف لتحديد مداه.
طبعًا هذا فيما لو بقينا في نصوص الفرق والتفرقة، بمعزل عن نصوص الحيرة وموضوعاتها، والتي نحن بصدد بحثها في هذا البحث.
[20]ـ - المرتضى، الفصول المختارة، دار المفيد، بيروت، 1993م، ط2، ص321.
[21]ـ - من قبيل الرواية التي جاء فيها عن الإمام علي(عليه السلام):تكون له للمهديّ(عليه السلام) غيبة وحيرة..»، (الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص289).
[22]ـ - الرواية المذكورة في الهامش السابق.
[23]ـ- من قبيل أنّ ذلك «يُظهر.. أنّ البناء العقديّ القائم على تأسيسات علميّة كان مفتقدًا.. [و] يعكس ضعف الإرث الروائيّ المبكر في حسم الخيار الأنسب تجاه أزمة وفاة العسكريّ» (وجيه قانصو، الشيعة الإماميّة بين النصّ والتاريخ، م.س، ص373). وأيضًا «يدلّ على عدم وجود.. ضابطة مرجعيّة من نصّ أو تعميم من الإمام، أو فهم راسخ بين الأتباع، أو طبقة محترفين لإدارة شؤون المقدّس.. تحسم الجدل الداخليّ..» (م.ن، ص359).
[24]ـ المرتضى، الفصول المختارة، م.س، ص 318.
[25]ـ - الإرشاد، بيروت، دار المفيد، 1993م، ج2، ص 336.
[26]ـ - نقلًا عن: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص92-93.
[27]ـ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص289.
[28]ـ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة  م.س، ص294.
[29]ـ- المرتضى، الفصول المختارة، م.س، ص321.
[30]ـ  مؤسّسة البعثة، قم، 1413 هـ.ق، ط1، ص 520.
[31]ـ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1363هـ.ش، ط5، ج1، ص338.
[32]ـ -مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1404 هـ.ق، ط2، ج4، ص 43.
[33]ـ -نقلًا عن: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص93.
[34]ـ م.س، ص 111.
[35]ـ -م.س، ص105.
[36]ـ - المرتضى، الفصول المختارة، م.س، ص 328 -329.
[37]ـ الإرشاد، م.س، ص334.
[38]ـ مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1411 هـ.ق، ط1، ص296.
[39]ـ  الطبرسي، الاحتجاج، دار النعمان، النجف الأشرف، 1966م،  ج2، ص49.
[40]ـ الطبرسي، الاحتجاج، دار النعمان، النجف الأشرف، 1966م، ص336-337.
[41]ـ انظر من باب المثال: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص ص18 – 126.
[42]ـ وهو أقرب إلى أن يكون من العوامل المساعدة وليس من الأسباب.
[43]ـ يظهر في العديد من النصوص أنّ الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) قد لعبت دورًا أساسيًّا في معالجة قضيّتي الغيبة والحيرة وما ترتّب عليهما من آثار ونتائج. وهذا يعني أنّ تلك الروايات قد ساهمت بقوّة في معالجة تلك الحالة (أو الأزمة)، وأنّ الاصطدام بتلك المشكلة قد دفع بقوّة إلى العودة إلى تلك الروايات للاستفادة منها. وهو ما حدا بالعديد من فقهاء وعلماء تلك المرحلة التاريخيّة إلى جمع آثار أهل البيت(عليهم السلام) في الغيبة والحيرة والتصنيف فيهما، فكانت أن صدرت جملة من تلك الكتب التي ساهمت بقوّة في مواجهة تحدّيات تلك الأزمة وإشكاليّاتها، من قبيل (الإمامة والتبصرة من الحيرة) لعلي بن بابويه القمّيّ، و(الغيبة) للنعمانيّ، و(إكمال الدين وتمام النعمة) للصدوق، و(الغيبة) للطوسي.....
[44]ـ سورة البقرة، الآية2.
[45]ـ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص340.
[46]ـ  السيد سامي البدري، شبهات وردود: الردّ على شبهات أحمد الكاتب حول إمامة أهل البيت(عليهم السلام) ووجود المهدي المنتظر، دار الفقه للطباعة والنشر، ط4، ص394 و409.
[47]ـ  وجيه قانصو، الشيعة الإماميّة بين النصّ والتاريخ، م.س، ص408.
[48]ـ - الغيبة، م.س، ص28.
[49]ـ - م.ن، ص 30.
[50]ـ م.س، ص336.
[51]ـ- مدرسة الإمام المهديّ، قم، 1404 هـ.ق، ط1، ص10.
[52]ـ - الإرشاد، م.س، ص 336.
[53]ـ راجع عنوان (الظروف الموضوعيّة) من أسباب الحيرة.
[54]ـ يتحدّث صاحب كتاب (الشيعة الإماميّة بين النصّ والتاريخ) عن» عدم وجود مستندات كافية على ولادة الإمام الثاني عشر.. [و] ندرة الرواية حولها» (ص 406)؛ وهذا أيضًا من عجيب البحث العلميّ، أن يتحدّث عن ندرة الرواية حول ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام) دون أن يقدّم الأدلّة على هذا المدّعى، ودون أن يبحث في هذا الموضوع وفي مختلف المصادر والمراجع التي عنت بروايات أهل البيت (عليهم السلام) فيه، ودون أن يستعين بأهل الاختصاص فيه، ومع وجود عدد من المصادر والمراجع العلميّة المهمّة، التي عملت على استيعاب جميع أو مجمل تلك الروايات، والتي نستطيع القول إنّها تبلغ المئات بل الآلاف، والتي يستفاد منها في إثبات ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام). (راجع في هذا الموضوع بحثنا بعنوان: “الأدلّة والمنهج في إثبات ولادة الإمام المهديّ(عليه السلام)”. (WWW.rawafedfikriya.com).
[55]ـ راجع في ذلك: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص ص 145-153؛ النعمانيّ، الغيبة، م.س، ص160.