البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

غربة النص المقدس عند سعيد ناشيد بين قصور المنهج وضعف الإحاطة باللغة

الباحث :  د. عادل عباس النصراوي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  19
السنة :  شهر محرم 1441هـ / 2019م
تاريخ إضافة البحث :  November / 13 / 2019
عدد زيارات البحث :  890
تحميل  ( 775.415 KB )
تعدّدت الدراسات المعاصرة حول القرآن الكريم وأخذت حيزاً كبيراً في النوادي الثقافية العربية، وتوزّعت الاتجاهات الفكرية تجاه هذا النصّ المبارك بين طاعنٍ به ورادٍ عليه، وبين مَنْ جعله في مراتب القدسية التي لا يُداينه فيها كتابٌ آخر، واختلفت مراتبُ الجرأة في الكتابة عنه، أو لنقل اختلفت المناهج التي استعملت في قراءته، فتفاوتت النتائج من منهج الى آخر، فمنهم مَنْ أصاب في منهجه ومنهم من أخفق فوجدها مخالفة لمدّعاه فأحدث ما أحدث، ومنهم مَنْ أحضر هذه النتائج من قبل قراءته للنص القرآني، ثم قاد البحثَ بما تتفق هذه النتائج معه، ولعلّ الكاتبَ المغربي سعيد ناشيد واحدٌ ممّن طرق هذا الباب في البحث حول القرآن الكريم، فأقرّ مقدّماً نتائجه قبل الخوض في غمار القرآن الكريم ولججه فعبَّر عنه بأنّه ترجمة بشرية للصور الوحيانية، مستعيناً بما سبقه في ذلك من دون تحقيق أو رويّة في قراءته وسبر أغواره فعدّه كتاباً متأخراً عن زماننا وأنّ أحكامَهُ تشكّل عائقاً في طريق الحداثة، لهذا كان يرى أنّه لا يجوز تقييم القرآن الكريم بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم المعاصرة [1]، وقد قاده لكلّ ذلك منهجه الذي اتبعه،  وترتّب عليه نتائج ولعلّها كانت سابقة على القراءة.

المنهج وأثره في توجيه قراءة النصّ عند المتلقي:
 يُشكِّل المنهجُ الدعامةَ الأساسَ لقراءة أيّ نصٍّ، فإن صَلُحَ المنهجُ صَلُحت قراءة النصّ، وانتجت لنا قيماً صحيحة، وخلاف ذلك تكون القراءة غير منتجة، وقد تبدو لصاحب المنهج الخاطئ أنّه توصَّلَ إلى حقائق لا يمكن الطعن بها أو تجاوزها؛ لأنّه يؤمن بمنهجه الذي قرأ فيه ذلك النصّ، مع أنّ لكلِّ نصٍّ ظروفه التي وُلِدَ فيها، ولذلك يجب أن تكون آليةُ فهمه وقراءته نابعةً من تلك الظروف لا غيرها، ولو وُلدِت هذه النصّوص ضمن ظروفٍ أخرى فإنّها ستحتاج حتماً إلى آلية أخرى تحاكمها، كي تستطيع أن تُحاكيها وتفهم أصولها، وبالنتيجة تحتاج إلى منهج آخر.
إذاً، المنهج هو السبيل لفهم النصّ غالباً وفق آليات تُناسبه أو ترافقه، وإذا أمكن تعميمه فإنّه يحتاج إلى سبل أخرى تُخضعه لتغير بعض آلياته كي تناسب ذلك النصّ أو النصّوص المولودة ضمن بيئة اجتماعية وثقافية ودينية معيّنة،  وإذا أقحم كاتِبٌ معيَّنٌ منهجاً ما أو طريقةً ما على نصٍّ من دون النظر إلى ظروف النصّ فإنّه سيقرأه قراءة قاصرة أو خاطئة في كثير من الأحيان وبالتالي سيصل إلى نتائج غير صحيحة.
بيد أنّ إيمانَه بذلك المنهج الذي اتفق مع أفكاره وقِيَمِهِ الفكرية يؤدي الى أن يرى تلك النتائج صحيحة، بل ويلتزم بها، في حين أنّه وقع في وهمٍ؛ لأنّ ما يُبنى على خطأ سيصل إلى نتائج خاطئة.
ربّما يرى صاحب هذا المنهج النتائج واضحةً لديه قبل الشروع في القراءة، فسيتصَّور عندئذٍ ما تؤول إليه قراءته على وفق منهجه، وإذا تفاجأ بنتائجَ مخالفةٍ لما يراه، طعن بالنصّ أو عَدَّهُ متأخراً في زمانه عن زمان منهجه وقِيَمِهِ، وأنَّ هذا النصّ لا يصلح أن يكون إلاّ لزمانه، وذلك أنّه في أصل وضع المنهج كان مقيّداً بحدود زمانية معيّنة.
لعلّ أغلب الذين درسوا القرآن الكريم وفق المناهج الغربية قد اصطدموا بحقيقة مخالَفَةِ النصّ القرآني لتصوراتهم المنهجية، وإنّ الذي كانوا يرغبون في الحصول عليه لم يكن حاصلاً لهم؛ لذا عَدَوْا عليه طعناً ونسبوه إلى عصره، ونسوا أنّ أصلَ منهجهم ورؤاهم المنهجية هي من بَناتِ عصرهم. فكيف يحاكمون نصّاً نزل الى الأرض قبل أربعة عشر قرناً من الزمان وفق معايير غريبة عنه.
هذا ما وقع فيه المفكر المغربي سعيد ناشيد في كتابه (الحداثة والقرآن)[2]؛ إذ توهّم في قراءته بوساطة المنهج التاريخي الذي يُحاكم النصّوص على وفق عصرها، وزمن إنتاجها، نعم ، هذا يصُحّ للنصوص البشرية في بعض الأحيان، فالإنسان مُحدَّدٌ في قدراته بظروف عصره وثقافته وبيئته الاجتماعية، فهو لا يستطيع أن ينفكّ عنها، لكن بالنسبة للنصّ القرآني هناك اختلاف كبير، فهو وحيٌ من الله تعالى ينطلق عن معانٍ مطلقة تتجاوز المحدود والنسبي، وهذا الأمر مِمّا شكَّلَ عائقاً أو سبَّبَ فشلاً أو توقُّفاً لآلية المنهج التاريخي المتَّبَع في قراءةِ النصّ، فتحايل الباحثُ في تجاوز أزمته المنهجية إلى أن يقول بمقولة إنّ القرآن الكريم الموحى به من الله تعالى المطلق قد صِيْغَ بالمحُدَّدِ والجزئي المتمثّل بلغة الرسول (ص)؛ ليتخلّص من أزمته ونسيَ أنَّ هناك أحاديث نبوية قد دوّنتها كتب الصحاح من السنة والشيعة وحفظها الناسُ قراءة وتلاوة طوال أربعة عشر قرناً من صدورها تختلف في أسلوبها ونظمها ولغتها وطريقة سبك ألفاظها عن الآيات القرآنية، ولعلّ ما جاء في قضية غشيان الرجل لأهله مثالاً يُوضّح الفارق بين القرآن والحديث النبوي الشريف، قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتۡ حَمۡلًا خَفِيفٗا فَمَرَّتۡ بِهِۦۖ فَلَمَّآ أَثۡقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنۡ ءَاتَيۡتَنَا صَٰلِحٗا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ﴾[3]، فوصف لقاء الرجل بالمرأة بقوله ﴿فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا﴾ الذي نزع فيه إلى اختيار لفظٍ ابتعد فيها عن المباشرة في إيضاح ذلك اللقاء وعَصَمَهُ بالستر المقترن بالسكوت فأحضَرَ المعنى المطلوب برفقٍ ومسَّهُ مسّاً رفيقاً، في حين عندما (سُئلَ رسولَ الله (ص) عن رجلٍ طلّق امرأته فتزوَّجت غيره فدخَل بها ثم طلّقها قبل أن يواقعَها، أتحلُّ للأول، فقال رسول الله (ص): لا، حتى يذوقَ الآخرُ غُسَيْلتها وتذوق عُسَيْلتَهُ)[4]، فلاحظ المباشرة والتقريرية في قول الرسول (ص)، فأين هذا من ذاك، إذ تجد الفرق بين النصّين في المسألة الواحدة كبيراً، فالبعد بين ما جاء في القرآن الكريم وما جاء في الحديث النبوي بعداً شاسعاً كالذي بين السماء والأرض، فأين الإلهي من البشري،  وكيف يكون القرآنُ الكريمُ بشريَ الصياغة واللغة، وهذه أحاديث النبي محمد (ص) بين أيدينا تضُخُّ بها كتبُ الصحاحِ لا تقوى أن تكون بمستوى لغة القرآن الكريم.
ثم إنّ سعيد ناشيد لم يُتعِب نفسه في البحث والتنقير في القرآن الكريم وبقية الأصول الحافة به، وإنّما اكتفى بما ذكره الشيخ محمد مجتهد شبستري[5] والدكتور عبد الكريم سروش [6]، وكأنّه أحال ما يريد أن يقوله عليهما من دون الانفتاح على التراث فهو كفيل أن يُغني بحثه، حتى وإن كان قد أغلق على نفسه مثل هذا الباب، إلاّ أنّ المفكرَ الحرَّ والقارئ الجيد لابُدّ له من أن يطّلع على ما في التراث بما يخصّ القرآن الكريم، وذلك أنّ الحاضر لم يكن بمنأى عن الماضي، بل هو امتدادٌ له أو نتيجة حتمية لأحداث سبقته، فبالنتيجة تكون قطيعةُ التراث قَطْعاً لرافد مهمٍ في فهم الحاضر، لذا سيحول هذا الأمر دون بلوغ الحداثة، لذا نراه قد عَدَّ الأديان -كلّ الأديان- أنّها جاءت (موسومة بميسم القدامة، أي بمفاهيم وقيم العالم القديم، وبذلك عندما نجمّدها في زمانها ونمدّها هذا الزمان إلى كُلِّ عصرٍ تبدو وكأنّها أمست عائقاً يحول دون بلوغ مرحلة الحداثة) [7]، لكنَّ القرآن الكريم يختلف عماّ عليه في كتب الديانات السماوية الأخرى، إذ لم يقف عند حدود زمن نزوله، ولم يتقوقع في البيئة التي نزل فيها، ولعلّ الدليل على ذلك ما كان من أحكامه ما يدلُّ على ذلك بشرط عدم التجزئة في النظر إليه، وإنّما يجب أن يُطبَّقَ كُلاً كاملاً لا مجزَّءاً أو مضيَّقاً، فنأخذ بجزءٍ من أحكامه وننظر في أخرى أو نترك الباقي، فهذا المنهج غير صالح في كلّ الأحوال والظروف؛ لأنّ النظر إلى جزء من النصّ والحكم على كليته من عيوب القراءة وسوء المنهج.
كما ينبغي على القارئ الحاذق أن يفرّق بين القرآن الكريم وما كُتب عَنْهُ، فهما حقيقتان مختلفتان، ولا يسري على أحدهما ما يسري على الآخر من أحكام؛ لأنّ ما كُتب عنه هو قراءة أخرى له، وقد تمثّلت بجموع كتب التفسير والبحوث فيه، فضلاً عن الأحاديث النبوية الشريفة التي فسّرت القرآن وبيّنت أحكامه، ثم قراءة هذه الأحاديث واستنباط الأحكام منها، كلّها تُعَد قراءة بشرية له لا تمثل كُلَّ ما جاء في القرآن الكريم؛ لأنّ طبيعة النصّ القرآني طبيعة اتساع في الدلالة والمعنى، وإنّ طبيعة نظمه المعجز هي التي آلت إلى ذلك؛ لذا قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لابن عباس (رضي الله عنه) حين بعثه للاحتجاح على الخوارج: ( لا تُخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حّمالٌ ذو وجوه، تقولُ ويقولون، ولكن حاجِّهم بالسنةِ فلن يَجدوا عنها محيضاً)[8]، وقوله «حمّال ذو وجوه»،أي محتملاً لأوجه دلالية متعددة، وهذا لا يعني وجود نقص في القرآن الكريم، كما يذهب إلى ذلك سعيد ناشيد، حين يقول: (الأصل في الخطاب القرآني-باعتبار هو حياً إلهياً صار كلاماً بشرياً مخلوقاً ومؤلفاً بلغةٍ بشرية-هو نقص التعبير وسوء الفهم، لذلك أصدق وأدقّ وأعمقُ ما قيل عنه إنّ آياته حمالةُ أوجه، وهذا ما قاله الإمام علي بن أبي طالب )[9] ، وإنّي أجدُ سعيد ناشيد قد وقع في سوء الفهم لهذا النصّ الكبير من الإمام علي بن أبي طالب (ع)؛ لأنّ قراءةً بهذا المستوى له، تكون ساذجة ومتأخرة عن مديات دلالته، فهو قد وسَمَ تعدّد الأوجه الدلالية في القرآن بأنّها نقصٌ في التعبير، وأنّ نهيَ الإمام علي (ع) لابن عباس (رضي الله عنه) بعدم مخاصمته الخوارج بالقرآن، لكي لا يتمسكوا بتأويل دلالي خاص يوائم عقيدتهم الفكرية ومقدرتهم العقلية في حين فيه متّسعٌ دلالي أكبر وأوسع ممّا أن يُحجَّمَ في تفسير واحدٍ أو دلالة واحدة محدَّدة بحدود رؤاهم وتوجهاتهم التي ربما بُنِيَت على محَدِّدٍ زماني أو مكاني معيّن، في حين أنّ في النصّ قدرةً أكبر على إنتاج دلالة أوسع وأشمل، وذلك (أنّ القراءة المعاصرة للنصّ القرآني تتجاوز هذه الانتكاسات على مستوى الفكر أو تحجيم العقل أو إهمال القارئ أو المخاطَب أو الاستخفاف به من خلال وسمه بالمروق عن الدين أو الانحراف أو الكفر)[10]، فالإنسان دائم البحث عن الله تعالى سواء أكان ذلك في معبد أم كنيسة أم مسجد، لذا نجد أنَّ النصّ القرآني وفق هذه الرؤية (قد أشرك المخاطَب في إنتاجه، أي أنّ الإنسان العربي أبان نزول القرآن الكريم والإنسان العالمي في عصرنا الحاضر هو المخاطَب قبل كُلِّ شيء؛ لذا فإنّ النصّ القرآني لأجل أن يكون مفهوماً من الجميع لابُدَّ أن يكون قد اهتم واضعه وهو الله تعالى بالمخاطَب بوصفه الشخصَ الموجَّهَ إليه الخطاب القرآني؛ لذا لابُدَّ أن يرعاه في إنتاج الدلالة فضلاً عن مراعاته في السياق الذي يرد فيه)[11]، لذا سَخَّر الله تعالى كلّ ما يخدم النصّ لأجل أن يكون مفهوماً من متلقيه سواءُ أكان النبي محمد (ص) أم الناس جميعاً ولكلّ عصر وزمان؛ لذا لا يمكن لمثل هذا الخطاب أن يتسرب إليه النقص أو عدم القدرة على مواجهة العصور التي مرّت به أو ستمرّ لاحقاً.
 لذا على المتلقّي أن يستحضر أموراً عديدة في قراءة النصّ قبل الحكم عليه بالنقص،  فهناك عوامل داخلية وأخرى خارجية مؤثرة في فهم الدلالة، متعلّقة ببنيته والعوامل المحيطة بالنصّ سواء أكانت عند وضع النصّ وتأليفه أم عند قراءته في كلِّ عصر من العصور[12].
ولأجل إزاحة سوء الفهم الذي وقع فيه بعض القرّاء المعاصرين، عليهم أن يفهموا أنّ هناك محدِّداتٍ ثلاثة مهمة هيالمسؤولة عن صياغة شكل النصّ ودلالته (وهذا الثلاثي يتألَّف من المتكلّم وهو الله تعالى، والمخاطَب وهو الإنسان سواء أكان نبياً أم غيره، والسياق الذي يرد فيه النصّ)[13]،  فهنا يجب أن يكون مستوى الخطاب بمستوى عقول المخاطبين وأفهامهم لأجل فهمه، ثم إنّ السياق هو الآخر حاكمٌ على إنشاء المعنى والدلالة التي يبتغيها منتجا النصّ الديني بعمومه (المتكلم والمخاطَب) بحسب المفهوم الحديث لتداول الخطاب بين المتكلمين والمخاطبين[14] ، وهذا الأمر ممّا يجعل للنصّ قابلية حمل ودلالات متعددة قابلة للتكيّف بحسب المخاطب وبيئته وعصره في كلّ زمان فتدفع ما يتصوَّره بعضهم من نقصٍ فيه أو عدم قدرة على فهمه [15].

 من كلّ ذلك نستنتج بطلان مقولة المستويات الثلاثة التي ذكرها سعيد ناشيد التي هي:
(أولاً: الوحي الإلهي الذي ألهمَ الرسولَ، ويمثّل المادةَ الأولية، ولا نعرفه إلاّ عَبْرَ التأويل.
وثانياً: القرآن المحمدي، وهو نتاج تأويل الرسول لإشارات الوحي الإلهي، وهو بدوره لا نعرفه إلاّ من خلال التأويل.
وثالثاً: المصحف العثماني، ويمثّل الصياغة النصّيّة الرسمية للقرآن المحمدي، الذي هو بدوره أيضاً تأويل للوحي)[16].
وذلك لأنَّ القرآنَ الكريم كلامُ الله تعالى أنزله إلى الناسِ كافة وبلغة لسان الرسول محمد (ص)، وهو قابلٌ لكلّ العصور والأزمان، فالقرآن ليس كتاباً تعبّدياً محضاً ولا هو إيقاعٌ شعريٌ جماليّ فقط باقياً لكلّ العصور، كما يرى ذلك سعيد ناشيد [17]، فهذه نظرة قاصرة لا تتعدى حدود النظر السطحي للقرآن الكريم.
 نعم، هذه القضايا تُمثِّل الأبعاد المهمة فيه، فالقرآن الكريم دستور الأمة ومصدرها الذي تنهلُ منه أحكامها وقيمها ومبادئها الأصلية، لا تلك التي صاغها بعضُهم تبعاً لمذاهبهم أو آرائهم ووسموها بالقرآن كي تكتسب قدسيتها منه، وكأنّها أحكامٌ نهائية لا سبيل إلى مفاتشتها أو محاورتها.
 ثم إنّنا لا يمكن بحال أن نقول كما يقول سعيد ناشيد: (إنّ المضامين المعرفية والتشريعية المحضة للنصّ الديني آيلةٌ إلى التبدّل أو الزوال، بل لعلّها تبدّلت وزال بعضُها بزوال أسباب نزولها)[18]، فهذا فهمٌ قاصرٌ للدلالة القرآنية، فضلاً عن أنّه قد أرسل ما قاله إرسالاً من دون تحقّق وتدبّر أو من دون دليل يدعم ما قاله، فإرسال أحكام بهذا المستوى تجاه كتابٍ عظّمه الله تعالى ويتعبّدَ به أكثر من مليار مسلم، فضلاً عن كونه يمثّل أساس الحضارة الإسلامية خلال أربعة عشر قرناً من الزمان، فذلك لا يمتُّ إلى المنطق أو العقل بشيء، فنحنُ نلتزم بالدليل الذي ندمغ به المخالف، ولا نرسل الآراء على عواهنها من دون تحقّق، فإنّ ذلك أقلُّ ما يوحيه هو أنّ كاتب المقال أو البحث قد وضع النتائج قبل الدراسة، ثم رتَّب ما كان يراه ليصل إلى نتائجه التي وُضِعتْ مقدّماً.

أحكام القرآن الكريم بين الواقعة التاريخية وسياقات النصّ:
 أقول: إنّ أحكام القرآنَ الكريمَ لا تتبدّل أو تتغير فتلك سنةٌ معهودة، قال تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا﴾[19]، وقال سبحانه أيضاً: ﴿ سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا﴾[20]، فسنةُ الله وأحكامه في البشر عامة تتناسب مع كلّ عصر أو زمان أو مكان، والنصّ القرآني قد كفل ذلك بفضل طريقة نظمه ونسج سوره وآياته بما يمكن أن يُستنتَج منها أحكامٌ فيها قابلية الملائمة لمتطلبات المجتمعات في كل عصر، غير أنّ القراءة السطحية للقرآن الكريم وقسم من كتب التراث التي بُنيَت وأُلِّفت على أساس عقدي أو مذهبي لا على أساس موضوعي قد تُظهر ذلك، منها ما ذكره سعيد ناشيد بقوله: (هذا يعني إنّ المضامين المعرفية والتشريعية المحضة بالنصّ الديني آيلة إلى التبدّل والزوال بل لعلّها تبدّلت وزال بعضها بزوال أسباب نزولها)[21]، وهذا قولٌ  يجانبه الصواب؛ لأنّه ربط النصّ القرآني بحدود الوقائع التي تعبِّر عنه وأهمل مجموع السياقات النصّيّة الملازمة للتركيب اللغوي [22]، فالواقعة التاريخية توحي بدلالة معينة غير أنّ النصَّ محملٌ بدلالات أخرى نجدها من خلال التحليل اللغوي له فتلك تسمى (دلالة عموم اللفظ)، ويرى د.علي أومليل أنّ (أسباب النزول) تنطلق من أنّ هناك أسئلة طُرِحت وفي ظروف فذة فجاء الوحي جواباًلها وليكون تشريعاً قاراً [23]، فهنا يكون قد ألغى فعلَ الزمن وجعلَ من الواقعة التاريخية منطلقاً لتشريع عام يتضمنه  دلالة عموم اللفظ، لذا فقول  إنّ الواقعة التاريخية أو ما يسمى (أسباب النزول) محدَّدة بدلالة النصّ، قولٌ يجانبه الصواب في كثير من الأحيان، فالنصّ القرآني -كماعلمنا-نصٌّشأنهالاتساع لا التضييق [24]؛ لذا لا يمكن القول إنّ في زوال أسباب النزول زوال الأحكام التي نزلت بسببها أو نسخها، ومن الشواهد على أنّ سبب النزول لا يكون محدَّداً بدلالة عموم اللفظ ما جاء في قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ﴾[25]، فقد ذكر الواحدي أنّها نزلت بسبب شخص واحد هو هلال بن أمية[26]، غير أنّ هناك قرينة لفظية في النصّ تمثلت في استعمال اسم الموصول للجمع (الذين) التقطها القدامى؛ ليتجاوزا فيها خصوص السبب إلى عموم اللفظ وبناء حكم فقهي لا يتقيد بالواقعة التاريخية التي نزل من أجلها، وإنّما ليعمِّم الحكم على مَنْ أتى بالفعل نفسه الذي صدر عن هلال بن أمية[27].
لكن يمكن القول (إنّ المفسر عندما يلجأ إليها فإنّه يجد القرين الثقافي الذي من خلاله يمكن التعامل مع ما يطلبه النصّ القرآني الذي نزل مقترناً بالحادثة التاريخية، ذلك أنّه نصٌّ قادم من السماء إلى الأرض هو -في الواقع- نصّ وحدث من خارج التراث الذي تعوَّد عليه العرب؛ لذا عندما يريد أن يفهمه لابدّ من وجود ثمة حادثة أو سؤال، فتكون الحادثة أو السؤال مقارنة دلالية أو قرينة ملازمة للنص)[28]، تُوحي في وقت نزوله وما بعده بإشعاعات دلالية يمكن الإفادة منها في مقاربة أيّ إشكال يقع مستقبلاً، فيكون الله تعالى حاضراً في كلّ زمان ومكان؛ لأنّ النصّ لم يقيده أو يُحْكِم الإغلاق عليه؛ لذا لا يعني أنّ القرآن الكريم الذي أبلغه الرسول (ص) عن الله الناسَ كافة، دُوِّن بالمصحف لا يعني انقطاعه عن الذات الإلهية بعد كتابة القرآن بمصحف، بمعنى أنّ المصحف المكتوب يبقى معبراً عنها حتى بعد تدوينه، لا كما ذهب إليه سعيد ناشيد بقوله: (إنّ انتقال فكرة الله في الإسلام من مستوى الخطاب الوحياني والآيات البينات ذات الطابع الشفوي كما تركها الرسول الأمين قبل وفاته في مجتمع قائم على الشفوية إلى مستوى نصٍّ كتابي ثابت ومقدّس ومُحكم الإغلاق قد جمَّد الألوهية عند مستوى النمو العقلي والأخلاقي للحظة تدوين النصّ القرآني إلى لحظة «مصحفة القرآن»)[29]؛ لأنّ المحدَّد أو المقيَّد لا يمكنه حجز المطلق أو ضمّهِ بين أجزائه ومكوناته أو سياج مفاهيمه وتصوراته، بل يبقى دائراً حوله موجِّهاً لدلالته من خلال التأويل المبني على العقل المستمد قوته من السماء ذاتها لا من أمر الحاكم أو السلطان.
لهذا السبب ذهب بعض الباحثين إلى أنّ القرآن الكريم لا يُعَدُّ من التراث؛ لأنّ التراث يمثّل مرحلة معيّنة قد انتهت، في حين أنّ القرآنَ باقٍ حيٌّ ليومنا هذا الذي نحن فيه، إذ يرى الدكتور محمد شحرور أنّ القرآن الكريم لا يُعَدُّ تراثاً؛ لأنّ التراث هو فهم الناس النسبي للقرآن الكريم في عصر من العصور[30]، ولمّا كان القرآن الكريم صالحاً لكلّ زمان ومكان -كما بيّنا ذلك من قبل-إذن يمكن العمل به غير أنّه يحتاج إلى قراءة معاصرة وعدم اعتماد القراءة الأولى عند نزوله على إطلاقها؛ لأنّ لكلّ عصر خصائصه المعرفية وأدواته الثقافية، وهذا التنوّع الثقافي يحتاج إلى قراءة جديدة توائمه والقرآن الكريم قادر على ملامسة الواقع الجديد، وإلى ذلك يذهب الدكتور محمد عابد الجابري حين قال: (لقد أكّدنا مراراً أنّنا لا نعتبر القرآن جزءاً من التراث وهذا شيء نؤكّده هنا من جديد وفي نفس الوقت نؤكّد أيضاً ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من أنّنا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيّدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن سواءً كظاهرة بالمعنى الذي حدّدناه هنا أو كأخبار وأوامر ونواهٍ هي كلها تراث لأنّها تنتمي إلى ما هو بشري)[31].
 إذاً ، تجاوز النصّ للواقع الذي نزل فيه يشير إلى عدم بشريته؛ لأنّ إمكانات البشر محدودة بحدود الزمان والمكان الموجود فيه ذلك الإنسان.

غرابة النصّ المقدّس في العالم الجديد في رؤية سعيد ناشيد:
 أطلق سعيد ناشيد عبارة (غربة النصّ المقدّس في العالم الجديد)[32]؛ ليؤكد مرة أخرى من خلالها قصور النصّ القرآني عن مواجهة متغيرات العالم الجديد، وهي في الحقيقة إحدى نتائجه المقرّرة سلفاً في دراسته للقرآن الكريم، إذ لم يقدّم الدليل على مُدّعاه، حيث قال: (بكلّ تجرد أيضاً، مشكلتنا مع الخطاب القرآني أنّنا لم نعد نعيش في زمن السبي والفيء والجزية.... إلخ، لذلك أصبحنا أمام الكثير من الأحكام والمفاهيم والتصورات القرآنية، نشعر بالحرج والارتباك وأصبحنا نُدرك غربةَ النصّ المقدس في العالم الجديد...)[33]، وأرى أنّ في هذا القول مزيداً من الغلو ممّن لا يرى في القرآن الكريم قدسية وإنّه يراه بشري النشأة، والإنسان -كما نعلم- معرضٌ للخطأ والسهو، وإنّ النبي محمد (ص) -كما يرى سعيد ناشيد-قد تمثّلَ القرآنَ خيالاً وتؤوّله أقوّالاً وأنّ خياله كان يتراوح بين القوة والفتور والصفاء والضمور[34]، فبعد هذا الذي ذكره لا يوجد من مسوّغ لوقوع الحرج والارتباك؛ لأنّ النتيجة معروفة والتصوّرات واضحة، غير أنّني أعدُّ ذلك طريقاً لتصديق الكذب والافتراء بإظهار الحرج والارتباك والغلو فيهما لا لشيء إلاّ لتسويغ ما يراه أو تسويق الأفكار الموصوفة بالحداثة، وكأنّ الحداثةَ هي نبذُ القديم والنفور منه وصدُّ كلّ ما يمتُّ إليه بصلة.
 إنّ الحداثة لا يمكن أن تكون منهجاً في شعبٍ أو أمةٍ ما لم تستفد الأمة من ماضيها؛ لأنّ الحاضر هو نتاج الماضي وامتداده، وأنّ القفز عليه كأنّه قفزٌ على قيم الأمة وإنسانيتها، فالإنسان لا يستطيع أنّ يفكر بيومه الذي يعيشه ما لم يستحضر ماضيه وتراثه على أن لا يكون ذلك الماضي أو التراث عائقاً أمام التقدم والرقي، واستحضاره يكون من خلال قراءته قراءة معاصرة ومنسجمة مع الحاضر، وربما يكون من نتاج القفز على الماضي ضياع كثير من القيم الاجتماعية والروابط الأسرية وإشاعة قوة المال أمام قوة الإنسانية فيفقد الإنسان في كثير من الأحيان بعضاً من قِيَمِهِ الإنسانية بسبب سيادة قوانين وشرائع لا تراعي تلك القيم؛ لأنّ الهمَّ لا يكون إنسانياً بل مادياً، فهذه الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية تعمل ما في جهدها لاستنزاف ثروات ما يسمى بالعالم الثالث من خلال الحروب سواءً أكانت عسكرية أم اقتصادية من دون النظر إلى شعوب تلك البلدان بمختلف فئاتهم رجالاً ونساءً وشيوخاً وكهولاً وأطفالاً، أو من خلال قلب أنظمة الحكم من أجل وضع أنظمة تسمى بالديمقراطية تساير حالة الحداثة بالعالم.
 فالحداثة وفق هذا المفهوم تعني قتل روح الإنسان التي خلقها الله له، وإبدالها بروحٍ  غريبةٍ عن جسده، ممّا يعمل نفوراً بين الروح والجسد  يُفضي إلى خرابهما معاً.
  لكنّ التمسّكَ بالتراث وفق رؤيةٍ معاصرةٍ هو بعثٌ لروح جديدة فيه قادرة على الاستمرار والانتقال إلى حالة أسمى من غير نكوصٍ أو انتكاس، وبالنتيجة لا يكون هناك من حرج أو ارتباك في الإفصاح عنه لقراءة النصّ القرآني مرة أخرى فيكون لذكر الفيء والسبي و﴿مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ﴾ وجهٌ آخر غير ما يرى في القرن الأول الهجري أو ما بعده من قرون التأسيس، ثم إنّ القرآن الكريم قد نهانا أن نقف من التراث موقف الانصياع الأعمى أو التقديس، قال تعالى: ﴿مَّا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا ٱلۡأَوَّلِينَ﴾[35]، وقوله سبحانه: ﴿بَلۡ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ﴾[36] ، فهذا موقف القرآن الكريم وقد اتضح فيه أنّه يدعو إلى احترام التراث لا أن نقدّسه[37] فتكون الاستفادة منه أمراً مشروعاً، وعليه تكون القطيعة أمراً غير مناسب.

 ولعلّ أكبر ما يواجههُ سعيد ناشيد في رصد غربة النصّ المقدّس ما يأتي:
1- إنَّ هناك أحكاماً لا تتوافق مع العصر الحاضر؛ لأنّها أحكامٌ في بدء مجيئها كانت تحاوِرُ مجتمعاً بدوياً من مجتمعات العالم القديم [38].
  لكنّ أيَّ شريعةٍ سواء أكانت سماوية أم وضعية، تكون ناظرة إلى حالة المجتمع ومشاكله؛ فعليها أن تضع الحلولَ الناجحة والصحيحة لأجل سلامة ذلك المجتمع وتنظيم أموره حالَ وقوعِ المشكلة، والمشرِّعُ ربّما يتوقع بعضَ المشاكل مستقبلاً، فهنا حريٌ به أن يقدّم ما يدرأ أسبابها، ويضع لها ما يُناسبها من حلٍّ، حتى تنتظم الشريعة فكراً وعملاً، وإنّ عدم وضع التشريعات لحلِّ المشكلات يُعدُّّ من عيوب الشريعة؛ لأنّ ذلك سيعمل على اتساع المشكلة مما يُخلِّفُ آثاراً سيئة على المجتمع.

لذا فإنّ الشريعة يجب أن تكونَ كُلاًّ متكاملاً تتصدى لأصغر الأمور إلى أعاظمها ولا عيب في ذلك، لكنّ العيبَ كلّ العيب في ترك المشكلات بلا حلول أو قوانين مشرَّعة.
2-  إنّ النصّ القرآني لم يستطع أن يتمثّل الذات الالهية، ويعزو السبب في ذلك إلى أمرين اثنين، هما: الرسول المبلِّغ للرسالة السماوية وإلى اللغة العربية، وكان يرى أنّ الألوهية (قد تمثّلت للرسول في شكل شعور وجداني بأنّ هناك نوعاً من الروح الكلية أو الكونية، التي تسري في الوجود، وهو الشعور الذي استوعبه بما كان متاحاً له في وقتها من أدوات وألفاظ وعبارات وأساليب تعبيرية وتصورات ذهنية، ثم حاول ترجمة ذلك الشعور إلى كلمات تصف الله بأنّه: ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ﴾[39] )[40]، وهذا غاية الجحود، إذ كيف يكون للنبي (ص) وأنىّ له ذلك وقد قال تعالى: ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ﴾[41]، وإنّ ما ذُكِرَ من أنّه ( الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والعليم، الخبير وغيرها إنّما هي أسماء للذات الإلهية، في حين أنّ الوصف يقترن بالمحدودية، ثم إنّ المطلق لا يمكن أن يُحدَّ. فحمّل ناشيد النصّ معانٍ غير ظاهرة في دلالة النصّ، فأخطأ مرماه مرة أخرى.
إنّ اللغة العربية غير قاصرة عن تمثيل مراد السماء، غير أنّ القراءة قد تقصرُ عن إدراك المعنى مثلما لم يُصِب سعيد ناشيد معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ﴾[42]،  وقوله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾[43]، على أنّه تمثّلٌ للألوهية في شكل شعور بمقام ملك عظيم جالس على عرشه[44]، ويعزو سببَ هذا التوصيف الحسّي للألوهية إلى أنّ اللغة كانت (في وقتها لا تزال في مستواها الحسي ما يعبر به عن مثل هذا التمثّل سوى أن يكتفي بتوصيف حسّي ومباشر)[45]، وهذا القول قد جانب الصواب وأوحى بجهل الباحث بفنون العربية، إذ لم يكن في الآيتين مما يذهب إلى هذا التصوّر الخاطئ، إذ عبرّتْ الآيتان عن التمكّن؛ إذ إنّ لفظة الاستواء تعني البلوغ والتمكّن والظهور والاستيلاء[46].

قال الشاعر:
قد استوى بِشْرٌ على العرِاقِ
من غيرِ سيفٍ ودمٍ مُهْراق

أي تمكّن منه واستولى عليه، ويقول الزمخشري (ت 538هـ): (لمّا كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك ممّا يردف الملك، جعلوه كنايةً عن الملك، فقالوا استوى فلان على العرش، يُريدون مَلَكَ وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوا أيضاً لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤدّاه وإن كان أشرح وأدلّ على صورة الأمر)[47]، فأين المباشرة في لغة العبارة، بل أين هي المعاني الحسيّة، فالآية قد عَبرَّت عن دلالة التمكّن والسيطرة بصيغة مجازية رائعة، خرقت قوانين الحسِّ إلى المجاز العقلي، فضلاً عن جمال التعبير وعظمته ونصاعة الصورة المعبّرة عن الوصف المطلوب.
2- التفاوت في الدقّة التعبيرية والإتقان البلاغي في القرآن الكريم، وينطلق إلى هذا المفهوم كون القرآن الكريم نتاجاً بشرياً وهو (ثمرة مجهود تخييلي قام به الرسول الأمين؛ لأجل تمثّل وتأويل الإشارات الربانية كما التقطها من معارج الفيض الإلهي، وإذا كانت مراتب القوة التخييلية تتفاوت بحسب الأحوال فقد انعكس ذلك على الآيات القرآنية، فجاءت متفاوتة في الدقّة التعبيرية والإتقان البلاغي)[48]، وهذا افتراء آخر على القرآن الكريم، من شخصٍ غابَت عنه ذاكرة العربية فوقع في الوهم، ولو كان القرآن كما يدّعي؛ لتصدّى له بلغاءُ قريش وفصحاؤها ولأعابوا عليه هذا التفاوت، لكنّ الذي وردنا أنّهم كانوا ينصتون للقرآن حين يتلوه المسلمون سراً في بيوتهم فصدح في آذانهم قرآناً عجباً بلغته وقوة تعبيره، إذ لم نسمع ولم يرد إلينا مَنْ وجّه العيبَ للقرآن الكريم من حيث الدقّة وقوة التعبير والإتقان البلاغي، بل ورد ما أعجبهم، (ومن ذلك ما روي أنّ الوليد بن عُقبة أتى النبيَّ (ص) فقال: إقرأ، فقرأ عليه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾[49]، فقال: أعِدْ، فأعاد، فقال: واللهِ إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوةٌ وإنَّ أسفله لمُعْرِق، وإنّ أعلاهُ لمثّمر، وما يقولُ هذا بشر)[50]، فهذا قولُ مَنْ لم يَعرف إلاّ الفصاحة طريقاً إلى لسانه في القرآن الكريم، فكيف بفردٍ قد عبثت العجمة في لسانه وفكره، ثم يحكم بما لم يفهمه أو يعلمه، ثم يُقرّر أنّ التفاوت المزعوم في التعبير القرآني قد أفرز آيات (محكمات) تمثّل النواة الصلبة للقرآن وآيات (متشابهات) تمثّل الدوائر الأكثر «هشاشة» في القرآن المحمدي[51]، بل قل إنّ الآيات المحكمات هي الأصل الذي ترجع إليه الآيات المتشابهات، قال تعالى: ﴿مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ﴾[52]، وقد سُئل الإمام أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع) عن المحكم والمتشابه، قال: (المحكم ما يُعمل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله)[53] بمعنى أنّ تأويله من قبل غير الجاهل يُفضي إلى دلالاتٍ غير فاسدة.
 ثم إنَّ المُلاحظ في الآيات المحكمات كان أغلبها في العبادات والمعاملات في حين كانت أغلب الآيات المتشابهات في مسائل الاستدلال على الله تعالى، (ولمّا كانت العبادات والمعاملات أعمال يؤديها المسلم كل يوم أو كلّ سنة فلابُدَّ من وضوح النصّ المؤدّي إليها وعدم وقوع الخلاف فيها؛ لأنّها تُمثّل هوية المسلمين بكل مستوياتهم العامة والخاصة)[54]؛ لذا يجب أن تكون قطعية الدلالة وسهلة المأخذ، في حين أنّ المتشابه كان في نصوص قابلة للتأويل؛ لأنّها تتعلق في العقائد وفي هذه ( دلالة كبرى هي أنّ الله سبحانه يُريد من المسلمين أن يُعملوا العقلَ والفكرَ للاستدلال على كُلِّ قضاياهم في الاعتقاد بالله سبحانه ومعرفته لا عن طريق النصّ المباشر، بل عن طريق مُدارسة النصّ والبحث فيه والاستعانة بكلّ القيم العقلية والفكرية للوصول إلى الحقيقة الإلهية بالعقل والتفكّر)[55]، لذلك تتعدّد الرؤى للوصول إلى الذات الإلهية؛ لأنّ تلك الآيات قد شابهت بعضها، فعندما عملت آلية العقل فُصِّلت النصّوص، فتعدّدت طرق الوصول إلى الله تعالى وهذه فائدة عظمى يمكن أن نجنيها من المتشابه وهي توطيد أركان سلطة العقل في فهم النصّوص والوصول إلى الحقيقة المبتغاة.
3- الورطة التشريعية التي تُوازن بين الدعوة إلى القتال وفريضة الصيام[56] وهذه موازنة غير منطقية منه؛ لأنّها وقعت بين أمرين لم يجمع بينهما جامع مشترك إلاّ الوجوب الشرعي، مع أنّ فحوى آيات القتال لا تُشير إلى بدء المسلمين بقتال غيرهم ما لم يحدث من المشركين اتجاههم ما يدعوهم إلى قتالهم لأجل درء أذاهم وحفظ حياض المسلمين، بل كان من منهج القرآن الكريم أن يلتمس العذر في عدم القتال، ففي قوله تعالى: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ﴾[57]، (إذ كانت الدعوة لقتال المشركين الذين قتلوا أحلاف الرسول (ص) من خزاعة بعد المصالحة بينهم، غير أنّ هذه الآية المباركة قد وردت (بتأويل فاسدٍ في إحدى أخطر الوثائق المؤسسة لفكر التيار السلفي الذي يدّعي الجهاد في النصف الثاني من القرن الماضي ونُشَرِ في كتاب «الفريضة الضائعة» للمهندس محمد عبد السلام فرج أمير جماعة الجهاد الإسلامي التي اغتالت الرئيس المصري أنور السادات) [58].
 لقد التمس القرآن الكريم العذر لمن عُدِمَ العلمَ بالدين، فقال تعالى: ﴿وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ﴾[59]، وكذا الحال لباقي آيات القتال الواردة في القرآن الكريم، فلم تكن فيها دعوة لقتال غيرهم ما لم يُبدؤوا بقتال أو يُعتدى عليهم أو من باب أخذ الحيطة والحذر والتهيئة عندما يُباغَتوا بقتال؛ لذا يجب الوقوف بحذرٍ شديد تجاه أقوال نسخ آيات الموادعة بآيات القتال وضرورة تدبّر معانيها من خلال لغة النصّ المبارك وآليات اللغة وفنونها وغيرها ممّا يعمل على إيضاح دلالة النصّ المبارك[60].
ثم إنّ التأويل الصحيح لمثل هذه النصّوص المبني على المنهج المتقن يؤول إلى نتائج صحيحة وتعطي للنصِّ حقَّه بما يحمل من عبءٍ دلالي كبير، غير أنّ التأويل الفاسد والقراءة السطحية له سوف تُفضي إلى نتائج سيئة قد تُؤخذ على القرآن الكريم ممّن افتقد حاسة التدبّر للنص القرآني، فجعلَ من هذه القراءات كأنّها تمثّله أو أنّ النصّ يوحي بها، والقرآن منها براء، فهناك فرق بين النصّ القرآني المبارك وقراءة النصّ، فلا ينبغي أن نَسِمَ القرآن بدلالات تلك القراءات المنحرفة أو الشاذة وتقديمها على أنّها تمثله، لكنّ هناك من جعل من هذه القراءات وسيلة للطعن بالقرآن الكريم فعدّه عائقاً ثقافياً أمام بناء دولة المؤسسات [61]، فهذه نظرة يجانبُها الصواب، ولو قُرِيء النصّ المبارك قراءة متفحصةً وكليّة لأمكن الوصول إلى نتائج صحيحة، في حين أنّ النظر له من زاوية ضيقة ومحدودة فستؤول إلى نتائج غير صحيحة.
إذن، لا غرابة في النصّ القرآني ما دام نازلاً من المطلق، لكن الغرابة كل الغرابة في مَنْ لم تتوافر عنده آليات فهم النصّ من اللغة والمنهج والعلوم الحافة بالقرآن الكريم، فضلاً عن الموضوعية في الطرح وانتظار النتائج، بدلاً من استباقها وإحضارها مقدّماً، وَكَيْلِ الاتهامات والطعون من دون تقديم الدليل وإنّما إرسالها إرسال المسلمات من عنده؛ لتكون قيداً على غيره؛ لأنَّه هو رأى ذلك وعلى الآخرين أن يكونوا كما يرى البحث العلمي، فهذا منهج متعسِّف لا خير فيه ولا يقوى على مواجهة الحقائق.

نقض مرجعية النصّ الديني عند سعيد ناشيد:
 النصّ الديني المتعارف عليه هو ما جَمَعَ بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تمثّل أقوال الرسول محمد (ص) وأفعاله، ومن خلال هذين الرافدين يتم التشريع الديني للأمة، فالتشريع ما هو إلاّ إحالة من النصّ الأصلي -وهو القرآن الكريم-علىالواقعالاجتماعيوهذهالإحالةيمارسهاالرسول (ص) عملياً طوال مدة حضوره وبقائه، فهذه الممارسات التشريعية هي فعلٌ اجتماعي مستمد مباشرةً من العرف[62] وموجّهٌ من النصّ القرآني المبارك.
الفكر الإسلامي فكرٌ يستمد مشروعيته من هذين الرافدين المهمين فهما أساس التشريع ويمثلان المرجعية الشرعية للأمة الإسلامي، فالمسلم بحكم إسلامه وإيمانه مُلزم بهذه المرجعية عندما يكون الإسلام حاكماً على الأمة، والله سبحانه وتعالى لم يرغم أحداً على الأيمان بالإسلام ديناً ومنهجاً له، أو أن يتخذ النصّ الديني مرجعاً له، قال تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ﴾[63]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾[64]، وقوله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ﴾[65]، وذلك أنّ إكراه الفرد على الإيمان بمبدأ معيّن يكون إيماناً مشوباً بالنفاق وعدم الصدق؛ لذا فمثل هذا الإيمان لا خير فيه، وإنّ عبادة الله سبحانه تكون من خلال تنشّب عروق الإيمان في النفوس لا كمن يعبد الله على حرف واحد، قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ﴾[66]، بيد أنّ هذا النصّ المبارك قد ورد بتأويلٍ فاسدٍ عند سعيد ناشيد، حيث يقول: (بمعنى على وجه مضبوط، بمعنى وفق أسلوبٍ محدّدٍ، بمعنى تبعاً لطريقة معينة)[67]، وكان يَعدُّ هذا المعنى موقفاً صريحاً وواضحاً للقرآن الكريم في السماح لمن يريد الخروج عن هذه المرجعية الدينية.
أرى أنّ الباحث قد فهم النصّ المبارك فهماً خاطئاً، ولعلّ عدم إصابته بسهم وافٍ من العربية هو الذي سار به إلى هذه النتائج غير الصحيحة فضلاً عن عدم مراجعته للسبب الذي أدى إلى نزول الآية المباركة.
 لقد ورد في كتب العربية أنّ للفظة (حرف) معاني ثلاثة سنقتصر على واحد منها لحاجة البحث له ولقربه من دلالة الآية، إذ (تقول: هو من أمره على حرف واحد أي طريقة واحدة)[68]، غير أنّ هذه الطريقة مذمومة وتأخذ بالفرد المتعبدِّ بها إلى الضلالة والانحراف، ورُبما مجيء كلمة (حرف) الدالة على الانحراف قد مزج هذا المعنى مع معنى الوجهة أو الطريقة، ولعلّ لسبب النزول ما يوجِّه هذا المعنى إذ ذكر الواحدي ما (روى عن عطية عن أبي سعيد الخدري، قال: أسلم رجلٌ من اليهود فذهب بصره وماله وولده وتشاءم بالإسلام فأتى النبي (ص)، فقال: أقلني، فقال: إنّ الإسلام لا يُقال، فقال: إنّي لم أصب في ديني هذا خيراً، أَذْهَبَ بصري ومالي وولدي، فقال: يا يهودي إنّ الإسلام يسبك الرجال كما تسبك الناس خبث الحديد والفضة والذهب، قال: ونزلت «ومن الناس مَنْ يعبد الله على حرف»)[69]، أيّ إنّ إيمان هذا اليهودي قد ارتبط بحالة خاصة به فلما لم تستوِ عنده الأمور عدل عن دينه فلن يدخل الإيمان في قلبه، قال الزمخشري: (على «حرف» على طريقة من الدين لا في وسطه وقلب)[70]، وإنّما على حدود معينة محدودة فإن تعدّاها خرج من ذلك الإيمان، والدليل على ذلك ما كان من تمام الآية، إذ يقول تعالى: ﴿فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ﴾[71]، فمفهوم انحراف الطريقة التي اتبعها هذا النموذج المذكور في القرآن الكريم كانت طريقة منحرفة بعبادة الله سبحانه بدليل الخسران المبين.
 إذن، الرجوع الى النصّ الديني وعدّه مرجعاً للفرد والمجتمع ضمن إطار حاكميته من الأمور الواجبة على الفرد لا كمن يعبد الله على حرفٍ واحدٍ فذلك مصيره الزيغ والانحراف وعدم الصواب.
فهكذا يكون سعيد ناشيد قد توهَّم في فهم النصّ القرآني المبارك، ولعلّ غرابة اللغة على فهمه هي التي أدّت به إلى ذلك، غير أنّه لم يقف في قصوره لفهم النصّ القرآني عند هذه الآية، بل تعدّاها إلى آيات أخرى، وفيها ما أفصح عن كلَلِهِ في معرفة الوجوه النحوية في النصّوص اللغوية فأقعده عن اللحاق  بالصواب.

قصور سعيد ناشيد في النحو القرآني:
نسب سعيد ناشيد بعض الهفوات والأخطاء إلى القرآن الكريم، ويرى أنّ هذه الظاهرة دليلُ نقصِ اللغة الطبيعية، لاسيما أنّ اللغة العربية وقت نزول الوحي كانت لا تزال في طور الانتقال من العصر الشفوي إلى عصر الكتابة، إذ كانت العربية بلا قواعد ولم تكن التقاليد الكتابية قد ترسّخت[72]، وهذا الاستنتاج منه  جاء به؛  ليدعم مقولته في بشرية القرآن الكريم، أو أنّه كان نتيجة مسبقة عنده. إذن، فلا غرابة من هذه المقولة، مع أنّ القرآن العظيم قد نطق بما يشير إلى سلامته من الأخطاء، ولو ذهبنا إلى ما ذهب إليه الباحث في بشرية القرآن وأنّه جاء بلغة النبي محمد (ص) إيحاءً وتخييلاً، لكان من الأجدى أن تكون هذه التخيّلات مصداقاً لوحي الله من دون وقوع خطأ أو هفوة لغوية أو نحوية.
ثم إنّ العربية عند نزول الوحي لا يمكن أن يُقال عنها إنّها بلا قواعد، فمتكلم اللغة لا يُخَطَّأ في لغته، وإنّ قواعدها هي وصف لها، بل إنّ بعض القضايا المذكورة في لغة العرب من شواهد شعرية أو خطب وحتى آيات من القرآن الكريم  لم تستوعبها قواعد النحو العربي،  وذلك أنَّ متقدّمي النحويين قد اعتمدوا قسماً من قبائل العرب في جمع اللغة وتقنين قواعدها وأهملوا كثيراً من لغات القبائل العربية الأخرى بحجة مخالطتها للأعاجم أو وقوعها على حدود الجزيرة العربية ممَّن جاور الفرس والروم والحبشة، وهذا ممّا جعل القواعد الواصفة للغة العرب غير مستوعبة لكلّ لغات القبائل؛ لذا ظهرت بعض المسائل من دون تقعيد أو كانت مخالفة للقواعد فوُسِمَت بالشاذة وبعضهم نسبها إلى الخطأ.
لقد تنبّه العرب قبل نزول القرآن الكريم إلى الخطأ النحوي، وهذا يبيّن أنَّ مسألة وقوع اللحن لم يغفل عنه السامع آنذاك رغم عدم تقعيد القواعد، وهذا ممّا يدلُّ على عدم قصور العربية، فضلاً عن ذلك أنّ العرب آنذاك كانوا (أشدّ استنكاراً لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولَّد، ولكنه لا ينطق باللحن)[73]، وقد رووا أنّ رجلاً لحن بحضرة النبي محمد (ص)، فقال: (أرشدوا أخاكم فقد ضل)[74]، فكيف إذن، يتسرّب اللحن والخطأ إلى القرآن.
 هذا الاتجاه في نسبة الخطأ النحوي إلى القرآن الكريم لم يكن جديداً في عصرنا الحاضر، فقد بنى المستشرق كـ. فيلرز K. VoLLERS فكرته بأنّ القرآن الذي نزل على النبي محمد (ص) إنّما نزل بلغة مكة غير المعربة، وأنّه يدين بأسلوبه الذي وصلَ إلينا إلى تنقيح خاضع للقواعد التي اعتمدت في العربية على الأخصّ من حيث الإعراب، وقد ردَّ هذه الفكرة  نولدكه ورفضها [75].
واليوم يطلُّ علينا سعيد ناشيد بمجموعة من الأخطاء والهنات النحوية ينسبها إلى القرآن الكريم حتى ذكر منها تسعة عشر خطأً إعرابياً [76]، نورد بعضها في نقاشٍ علمي على سبيل الاستدلال على عدم صواب ما ذهب إليه.
1-قال تعالى: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[77]، إذ تساءل فقال: (لماذا لم يُرفع الفاعلُ فيُقال: الظالمون)[78]، والجواب، أنّ العهد يعني الإمامة وقد دلّ على ذلك قوله سبحانه: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ﴾، فطلب النبي إبراهيم (ع) من الله سبحانه أن تكون الإمامة في ذريته، فقال: ﴿لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ وبما أنّ الإمامة جَعْلٌ من الله، فهو سبحانه الذي يُلبِسُها مَنْ يشاء من عباده، فلا يَلبَسَها العبادُ من أنفسهم، لذا جاء (الظالمين) مفعولاً به للفعل (ينال)، ووجّه الأخفش في تفسير هذه الآية بقوله:  (لأنّ «العهد» هو الذي لا ينالهم)[79]، وقد وردت الآية بقراءة (الظالمون) غير أنّ أغلب القرّاء على قراءة (الظالمي ) وهي الأرجح والأصوب وتتفق مع السياق العام للآية، إذ إنّ ورودها على الرفع يعني أنّ العهدَ يتناوله الأفراد أو الأشخاص، وهذا ممّا لا يتفق مع الجعل الإلهي للإمامة في صدر الآية بوصف الإمامة منصباً ربّانياً وجعلاً إلهياً كما يشير ظاهر الآية، ولو كانت منصباً غير إلهي لصحّ معها ورود (الظالمون) على الرفع، غير أنّها لا تتفق مع نسق الآية وصدرها، دلالةً وفحوى.
2-قوله تعالى: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ﴾[80]، وقد سأل سعيد ناشيد، فقال: (والسؤال، لماذا لم يرفع المعطوف على المرفوع، فيُقال: والصابرون)[81].
نُصِبَ (الصابرون) على خلاف سياق الآية الذي أورد (الموفون) مرفوعاً، وذلك على الاختصاص والمدح وهو باب في العربية واسع، والغاية من ذلك إظهار فضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال[82]، ثم إنّ من صفات العربية كما يرى الفارسي (توفي سنة375 هـ) أنّه عند ذكر (الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تُجعل كلّها جارية على موصوفها؛ لأنّ هذا الوضع من موضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل؛ لأنّ الكلام عند الاختلاف يصير كأنّه أنواع من الكلام، وضروبٌ من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملة واحدة)[83].
إذن، كان هذا التغاير الإعرابي تغايراً لأجل حُسن الكلام وتوجيه الدلالة، ولعلّ أهم ما في النصّ اللغوي عموماً، هو الدلالة التي يبتغيها المتكلم أو واضع النصّ، فتُسخّر له كلُّ إمكانات اللغة وآلياتها وإن ندر استعمالُ بعض الآليات في كلام العرب.
3 -قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَةٗۚ قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ ٱللَّهِ عَهۡدٗا فَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ عَهۡدَهُۥٓۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾[84]، وقد سأل: (لماذا لم يتم جمعها جمع قلّة بحيث يُقول: أياماً معدودات؟)[85].
ولعلّ من نافلة القول أنّ غالب جمع المؤنث السالم  يأتي للقلّة في كلام العرب؛ لذا أنّ (معدودات) التي جاءت في قوله سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ﴾[86]  هي للقلّة، وكلا الآيتين جاءت في قصة بني إسرائيل، إلاّ أنّ السياقَ في الوضعين مختلفٌ (وإيضاح ذلك أنّ المفرد المؤنث  «معدود»  إذا وقع صفةً للجمع دلَّ على أنّ الموصوف أكثر منه إذا كانت صفته جمعاً سالماً  «معدودات»، فمثلاً عندما تقول: في بلدنا جبال شاهقة، دلّ ذلك على كثرة الجبال بخلاف لو قلت: في بلدنا جبال شاهقات، ومنه أيضاً «أنهار جارية» أكثر من «أنهار جاريات» )[87]، وهذا الأمر واردٌ في العربية أو هو من سننها، ففي قوله سبحانه: ﴿أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ﴾[88] إنما جاءت في سياق كلامٍ كثُرت فيه صفات بني إسرائيل السيئة، فذكر أنّهم يحرّفون كلام الله وهم يعلمون، إذ قال تعالى: ﴿أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾[89]؛ لذا توعّدهم الله تعالى بالعذاب الشديد، فقال سبحانه: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ﴾[90]، فالسياق الذي وردت فيه ﴿أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ﴾ كان سياقاً امتلأت أجواؤه بالويل والعذاب بسبب كثرة ما اقترفوه من السيئات؛ لذا جاء (معدودة) دالة على الكثرة لتُناسب السياق.
وليس الأمر كذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ ٱللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ ٢٣ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾[91]، إذ لم يكن الجرم في هذه الآية بمثل الجرم الكبير في آية سورة البقرة، فناسب قلة الجرم باستعمال الجمع السالم الدالة على القلّة أيضاً[92].
إذن، كان السياق هو العامل المهم في صياغة النصّ؛ لأجل المعنى، لذا لا يُعَدُّ مثلُ هذا خطأً نحوياً كما يذهب إلى ذلك سعيد ناشيد، بل كان وضعهما وضعاً بلاغياً فنياً فذكر العقوبة الشديدة مع الجرم الكبي ، والعقوبة الخفيفة مع ما هو أخفّ جرماً [93].
4-جعل الضمير العائد على المفرد جمعاً في قوله سبحانه: ﴿مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ﴾[94]، وكان سؤاله: (لماذا لم يأتِ الضمير العائد على المفرد مفرداً، بحيث يُقال: ذهبَ اللهُ بنورهِ )[95].
لا يمكن ذلك؛ لأنّ جملة ﴿ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ﴾ غير عائدة أصلاً على اسم الموصول الذي في قوله سبحانه: )الذي استوقد ناراً(؛ لأنّ ذلك مثلاً أراد الباري سبحانه أن يوجِّه به المخفي بالظاهر ويُريك المتخيّل في صورة المحقَّق، فالآيات السابقات لهذه الآية المباركة جاءت وصفاً للمنافقين، ثم أردفها بما يُظهر المعنى بمثلٍ، وبعد إيضاح المعنى به، رجع إلى نسق الكلام حول المنافقين، وفي إعراب بعضها سيتضح المعنى أكثر، إذ جاء في جملة الشرط ﴿فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ﴾ أداة الشرط (لمّا)، وفعلها أضاءت غير أنّ جوابها حُذِف وتقديره (طفئت) أي فلمّا أضاءت ما حوله طفئت، ثم أستأنف الكلام في وصف المنافقين[96]، فقال: ﴿ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ﴾ فيكون الضمير (هم) عائداً عليهم لا على (الذي)، وهناك أوجه نحوية أخرى[97] لا تذهب إلى ما سأل عنه سعيد ناشيد.
5 -لم  يأتِ بجواب «لمّا» في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾[98]، ويسأل: (أين جواب لمّا؟ علماً أنّ لو حُذِفَ الواو التي قبل «وأوحينا» لاستقام المعنى وانتهى المشكل)[99].
وأجيب أنّ جواب (لمّا) هنا محذوف وتقديره (فعلوا به ما فعلوا من الأذى) وهو مذهب البصريين[100]،  ثم استأنف  فقال: (وأوحينا)، فيما ذهب الكوفيون إلى أنّ (وأوحينا) هو جملة الجواب وعدّوا الواو زائدة، وهذا وجهٌ غيرُ حسن؛ وذلك أنّ المعنى المتحصل من الجواب غير متّسق بشكل واضح مع فعل الشرط.
في الجملة الشرطية يجب أن تتحقّق في آلية الجزاء عملها النحوي والدلالي، فإذا تحقق هذان الأمران فذلك حسن، وإذا حقّقت عملها النحوي ولم تحقّق عملها الدلالي كان قبيحاً، فالوجه النحوي الكوفي قد حقّق العمل النحوي من خلال البنية إلاّ أنّه لم يحقّق العمل الدلالي فيها؛ لعدم الاتساق بين معنى الشرط ومعنى الجزاء، إذ نلحظ نقصاً دلالياً في بنية الوجهة الكوفية، خلافاً لبنية الوجهة البصرية، إذ تحقّقت فيها الوظيفتان النحوية والدلالية.
هذه البنية تكرّر ورودها في القرآن كثيراً، منها قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ﴾[101]، وقوله )يجادلنا( كلام مستأنف دالٌّ على الجواب، تقديره: اجترأ على خطابنا أو فطن لمجادلتنا، أو قال: كيت وكيت، ثم ابتدأ فقال[102]: (تجادلنا في قوم لوط).
وكذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ ١٠٣ وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ﴾[103]، وكذلك قوله سبحانه: ﴿وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾[104]، وقوله سبحانه: ﴿ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَمَا زَادُوهُمۡ غَيۡرَ تَتۡبِيبٖ﴾[105] وغيرها من الآيات التي ورد فيها جواب الشرط للأداة (لمّا) محذوفاً [106]، حتى أصبح ظاهرة غير مخفية، ولو كان خطأً -كما يدّعي سعيد ناشيد -فلا يُعقل أن يتواتر الخطأ في كلِّ هذه المواقع، بل كان ذلك من سنن العرب في كلامهم.
وكذا الحال بالنسبة لباقي المسائل التي ذكرها الباحث سعيد ناشيد، فهي لم تُخالف سنن العرب في كلامهم وسلائقهم اللغوية، وإنّ القرآن الكريم لم يخرج عنها، فضلاً عن ذلك كان من المفترض على مَنْ يكتب في هذه الموضوعات النحوية في القرآن الكريم أن يلحظَ مسألة مهمة وهي أنّ القاعدة النحوية يجب ان تُؤخذ من كلام العرب شعراً ونثراً ومن القرآن الكريم بوصفه كتاباً مثَلَ اللغة العربية بأعلى قيمها اللغوية حين فجّر إمكاناتها ومكنوناتها، فتمثّلت فيه بأنصع ما تكون عليه اللغة فانتظمت فيه سبكاً ونظماً وبلاغة وبياناً، أعجب فصحاء العرب وبلغاءَهم.
إنَّ الأستاذ الباحث سعيد ناشيد قد غاب عنه كُلّ ذلك؛ لقلّة اطلاعه على علوم اللغة، ولتأثره بالمناهج الغربية فضلاً عن وضعه لتصورات النتائج قبل دراسة النصّ القرآني، فوقع فيما وقع ، فبدا كليلاً وقاصراً عن فهم النصّ القرآني؛ لضَعْف أدواته العلمية في ذلك، وكذلك لاتباعه منهجاً غير ملائم في دراسة القرآن الكريم، فبدت نتائجه على غير ما توقعها وظهر له منهجه عاجزاً عن إدراك ما هو فيه، فعدا على النصّ القرآني فنسب إليه القصور وطعن فيه وعَدَّهُ عائقاً أمام الحداثة.

المصادر

· علي بن أحمد الواحدي النيسابوري (ت 468 هـ)، أسباب النزول،  دار ومكتبة الهلال،  بيروت، 1985م.

· د. عادل عباس النّصراوي، إشكالية النسخ في القرآن الكريم -دراسة في استنطاق النصّ (آيات القتل ومنسوخاتها أنموذجاً)، -دار الرافدين، بيروت، لبنان، ط1، 2017.

· د. عادل عباس النصّراوي، إشكالية فهم النصّ القرآني عند المستشرقين، لبنان، كندا، ط1، 1437هـ/2016م.

· أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن حيان الشهير بأبي حيان الأندلسي الغرناطي(ت745هـ)، البحر المحيط، حقّق أصوله وعلّق عليه وخرّج أصوله: د. عبد الرزاق المهدي، بيروت، لبنان، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1423هـ/2002م.

· د. عبد الكريم سروش، بسط التجربة النبوية، ترجمة: أحمد القبانجي، دارالانتشارالعربي، بيروت، لبنان، ط1، 2009م.

· مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1421هـ/2000م.

· د. فاضل السامرائي، التعبير القرآني، وزارة التعليم العالي البحث العلمي، جامعة بغداد، بيت الحكمة، 1986 - 1987م.

· أبو حيان محمد بن مسعود بن عياش السلمي ( ت320 هـ)، تفسير العياشي، تحقيق: هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

·سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، دار التنوير، بيروت، لبنان، ط2، 2016 م.

· محمد عبد الخالق عضيمة، دراسات لأسلوب القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة، 1425 هـ/2004 م.

· الشيخ الإمام عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي (المتوفى سنة 471هـ أو 474هـ)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه: أبو فهر محمود محمد شاكر، القاهرة، مكتبة الخانجي، الشركة الدولية للطباعة، ط5، 1424هـ/2004م.

· عبد الجواد ياسين، الدين والتديّن، التشريع والنصّ والاجتماع، دار التنوير، لبنان، بيروت، ط1، 2012 م.

· أحمد ب نشعيب أبو عبد الرحمن النسائي، سنن النسائي الكبرى، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1411هـ/1991م.

·عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المعتزلي (ت656هـ)، شرح نهج البلاغة،  دار الفكر، بيروت، 1388هـ.

·يوهان فك، العربية (دراسات في اللغة واللهجات والأساليب)، نقله إلى العربية وحققّه وفهرس له: الدكتور عبد الحليم النجار، القاهرة، مكتبة الخانجي بمصر، مطبعة دار المعارف العربي، 137هـ/1951م.

· الدكتور فاضل صالح السامرائي، على طريق التفسير البياني، النشر العلمي جامعة الشارقة،  1425 هـ/2004 م.

·  علي أومليل، في شرعية الاختلاف، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط2، تشرين الثاني (نوفمبر) 1993م.

· د. الشيخ محمد مجتهد الشبستري، قراءة بشرية للدين، ترجمة: أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت، بغداد،  2009 م.

·  د. محمد شحرور، الكتاب والقرآن، رؤية جديدة، دار الساقي، بيروت، لندن، ط1، 2011م.

· أبو القاسم محمد بن عمر الزمخشري الخوارزمي(ت538هـ)، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،  تحقيق: د. عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1421هـ/2001م.

· الإمام العلامة ابن منظور (ت711هـ)، لسان العرب،  مؤسسة التاريخ العربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط3، 1413هـ/1993م.

· الدكتور محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، الجزءالأول (في التحريف بالقرآن )، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، تشرين الثاني، (أكتوبر) 2006م.
· أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط(ت215هـ)، معاني القرآن، تحقيق: هدى محمد قراعة، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1411هـ/1990م.
· أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 هـ)، مقاييس اللغة،  اعتنى به: د. محمد عوض مرعب والآنسة فاطمة محمد أصلان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان،  1429 هـ/2008م.
· علاء الدين علي بن حسام الدين المتقي الهندي البرهان فوري ( المتوفى 975 هـ)، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تحقيق: بكري حياتي وصفوة السقا، مؤسسة الرسالة، ط5، 1401 هـ/1981م.
·   الأستاذ المساعد الدكتور عادل عباس النّصراوي، النصّ القرآني وسلطة التراث، دراسة في كشف المعنى وتوجيهه عند المسلمين في عصر التأسيس، دار تموز ديموزي، دمشق، -ط1، 2018م.

------------------------------
[1]  انظر: سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، ص11.
[2] الكتاب من إصدارات دار التنوير للطباعة والنشر، نُشر في طبعته الثانية سنة 2016م في بيروت - لبنان.
[3] سورة الأعراف، الآية 189.
[4] النسائي، السنن الكبرى، ج3، ص351، ح5600.
[5] انظر:الشيخ محمد مجتهد سيستري، قراءة بشرية للدين،  ترجمة: أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت؛  بغداد، 2009م.
[6] انظر:د. عبد الكريم سروش، بسط التجربة النبوية، /  ترجمة: أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت؛ بغداد، 2009م.
[7] سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، م.س،ص23.
[8] ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة،ج18،ص58.
[9] سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، م.س،ص27.
[10] د.عادل عباس النصّراوي، النصّ القرآني وسلطة التراث، ص216.
[11]  م.ن،ص216.
[12] - انظر: م. ن،ص224 - 225.
[13] - م. ن،ص216.
[14] - انظر: م.ن،ص216.
[15] - انظر: سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، ص27.
[16] - انظر: سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، ص22.
[17] - انظر: م. ن، ص27.
[18] - م.ن،ص27.
[19] - سورة فاطر، الآية 43.
[20] - سورة الفتح، الآية 23
[21] سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، م.س،ص 27.
[22] - انظر:د. عادل عباس النصّراوي، إشكالية فهم النصّ القرآني عند المستشرقين، م.س،ص168.
[23] - انظر:علي اوم ليل، في شرعية الاختلاف،ص49.
[24] - انظر:د. عادل عباس النصّراوي، إشكالية فهم النصّ القرآني عند المستشرقين،ص169.
[25] - سورة النور، الآية 4.
[26] - انظر:الواحدي، أسباب النزول،ص237-238.
[27] - بسام الجمل،أسباب النزول،ص355.
[28] -د. عادل عباس النصّراوي، إشكالية فهم النصّ القرآني عند المستشرقين،ص170-171.
[29] -سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، م.س،ص34.
[30] - انظر:د. محمد شحرور، الكتاب والقرآن،ص36-37.
[31] - د. محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن،ج1،ص26.
[32] - انظر:سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص39.
[33] - م.ن،ص39.
[34] - انظر: م.ن،ص135.
[35] - سورة المؤمنون، الآية 24.
[36] - سورة الزخرف، الآية 22.
[37] - انظر:د. محمد شحرور، الكشاف والقرآن،ص33.
[38] - انظر: م.ن،ص39.
[39] - سورة الحديد، الآية3.
[40] - سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص49-50.
[41] - سورة الشورى، الآية 11.
[42] - سورة الحديد، الآية 4.
[43] - سورة طه، الآية 5.
[44] - انظر:سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص50.
[45] - م.ن،ص50.
[46] - انظر:ابن منظور، لسان العرب،  سوا.
[47] -الزمخشري، الكشاف،ج3،ص54.
[48] -سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص55.
[49] - سورة النحل، الآية90.
[50] -الجرجاني، دلائل الإعجاز،ص585.
[51] - انظر:سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص55.
[52] - سورة آل عمران، الآية7.
[53] - تفسير العياشي،ج1،ص162.
[54] -د. عادل عباس النصّراوي، النصّ القرآني وسلطة التراث،ص178.
[55] -د. عادل عباس النصّراوي، النصّ القرآني وسلطة التراث، ص179.
[56] - انظر: سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص80.
[57] - سورة التوبة، الآية 5.
[58] -د. عادل عباس النصّراوي، إشكالية النسخ في القرآن الكريم،ص37.
[59] - سورة التوبة، الآية 6.
[60] - للمزيد من الاطلاع على إشكاليات القتل والقتال الواردة في القرآن الكريم مراجعة كتابي (إشكالية النسخ في القرآن الكريم - دراسة في استنطاق النصّ).
[61] - انظر:سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص83.
[62] - انظر:عبد الجواد ياسين، الدين والتدين،ص240.
[63] - سورة الكهف، الآية 29.
[64] - سورة يونس، الآية 99.
[65] - سورة البقرة، الآية 256.
[66] - سورة الحج، الآية 11.
[67] - سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص91.
[68] - ابن فارس، مقاييس اللغة، حرف.
[69] -الواحدي، أسباب النزول،ص231.
[70] -الزمخشري، الكشاف،ج3،ص147.
[71] - سورة الحج، الآية 11.
[72] - انظر:سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص101-102.
[73] - انظر:يوهان فك، العربية،ص4 (الهامش).
[74] - المتقي الهندي، كنز العمال،ج1، ص611.
[75] -الرافعي، تاريخ آداب العرب،ج1،ص236.
[76] - انظر: م.ن،ص102.
[77] - سورة البقرة، الآية 124.
[78] - انظر: م.ن،ص102.
[79] -الأخفش، معاني القرآن،ج1،ص154.
[80] - سورة البقرة، الآية 177.
[81] -سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص106.
[82] - انظر:الزمخشري، الكشاف،ج1،ص245.
[83] -أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط،ج2،ص14.
[84] - سورة البقرة، الآية 80.
[85] -سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص105.
[86] - سورة آل عمران، الآية 24.
[87] - انظر:د. فاضل السامرائي، التعبير القرآني،ص40.
[88] - سورة البقرة، الآية 184.
[89] - سورة البقرة، الآية 75.
[90] - سورة البقرة، الآية 79.
[91] - سورة آل عمران، الآيتان23-24.
[92] - انظر:د. فاضل السامرائي، على طريق التفسير البياني،ص19.
[93] - انظر:د.فاضل السامرائي، التعبير القرآني،ص41.
[94] - سورة البقرة، الآية 17.
[95] -سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص104.
[96] - انظر:الزمخشري، الكشاف،ج1،ص110.
[97] -الزمخشري، الكشاف،ج1،ص110-111.
[98] - سورة يوسف، الآية 15.
[99] -سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن،ص106.
[100] - انظر:أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط،ج5،ص375.
[101] - سورة هود، الآية 74.
[102] -محمد عبد الخالق عضيمة، دراسات لأسلوب القرآن الكريم،  القسم الأول،ج2،ص526.
[103] - سورة الصافات، الآيتان 103-104.
[104] - سورة يونس، الآية 54.
[105] - سورة هود، الآية 101.
[106] - انظر لذلك: (سورة الأنعام، الآية5؛ سورة الأعراف، الآية126؛ سورة يونس، الآية13؛ سورة إبراهيم، الآية22؛ سورة الكهف،الآية59؛ سورة الشعراء، الآية21؛ سورة العنكبوت، الآية68؛ سورة السجدة، الآية24؛ سورة سبأ، الآية33؛ سورة غافر، الآيتان 66-85؛ سورة فصلت، الآية 41؛ سورة الشورى، الآية 44؛ سورة الأحقاف، الآية 7؛ سورة ق، الآية5؛ سورة القلم، الآية51).