البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العجز الأخلاقي في الإلحاد

الباحث :  مصطفى أسعد رسول
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  19
السنة :  شهر محرم 1441هـ / 2019م
تاريخ إضافة البحث :  November / 13 / 2019
عدد زيارات البحث :  2883
تحميل  ( 598.624 KB )
مقدمة:

كثر كلام الملحدين -كبارهم وصغارهم- حول الأخلاق وارتباطها بالدين وكيف أنّ الأديان ضد الأخلاق أو أنّها تأمر بأفعال لا أخلاقية، وأخذ الإسلام القسم الأكبر من هذه الاتهامات، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على عظمة الإسلام واقتحامه عقولهم؛ لأنّه نزل  بساحتهم متحدياً متدرعاً بالحجة ومتسلحاً بالعقل، ولذلك لم ينشغل القوم بالأديان الضعيفة المنكسرة أمام هذا البطل العظيم الذي نزل عندهم ولم يقدروا إلا أن يرموه بسهامهم الضعيفة المنكسرة.
 وفي هذه الصفحات القليلة سوف أظهر افتقار الإلحاد لأي منهج أخلاقي يؤهله للحكم على غيره، مثبتاً بذلك وقوف الإلحاد على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، مع العلم أنّ أكثر الكلام الذي سوف أنقله قد يجيب الملحدون عليه بقولهم «ليس لنا أنبياء»، ولكن نحن هنا نهتم بمناقشة الفكر الأكاديمي، لا ما يطرحه ملاحدة شبكة الانترنت.

رسم الخطوط وتوضيح المعالم:
وقبل الشروع بالكلام لابدّ من توضيح ما هو تعريف الإلحاد هنا، وحاجتي لبيان هذا الأمر ليس إلا لكون أكثر الملاحدة جاهلين بما هو الإلحاد، فتارة يعتقدون أنّه عدم الإيمان بصحة الدين، وتارة يعتقدون أنّه التوقّف في موضوع الخالق، وتارة أخرى يعتقدون أنّه نفي الإيمان القلبي بالخالق دون الكلام عن الحقائق الخارجية.

 يعرف الفيلسوف البريطاني الملحد جوليان باجيني الإلحاد بقوله:
Atheism is in fact extremely simple to define: it is the belief that there is no God or gods.[1]
الترجمة: الإلحاد في الحقيقة يسهل تعريفه جداً: أنه غياب الإيمان بوجود خالق أو خالقين.

أقول:
 أول اعتراض سوف يواجه البحث هو التالي: طالما أنّ الإلحاد هو إنكار وجود خالق أو خالقين، فلماذا يجب على الملحد تقديم أي حجة أخلاقية أو أي منهاج أخلاقي؟
 والجواب على هذا الاعتراض هو  بتوضيح: أنّ كل اعتقاد سلباً أو ايجاباً يترتّب عليه نتائج، وإنكار الخالق يترتّب عليه نتائج عدّة، وهذه النتائج لها تأثير على السؤال الأخلاقي، فمثلاً: إنكار وجود الخالق يعني -بالضرورة- الالتزام بأنّ كل شيء موجود ناتج من أسباب طبيعية لا قصد وراءها ولا هدف، وبناء على هذا الأمر فإنّ السؤال الأخلاقي حتماً سوف يحتاج إلى جواب.
الأمر الآخر الذي يجب علينا توضيحه هو: ما تعريف الأخلاق؟ فبما أنّ الادعاء المركزي لهذا البحث هو عدم وجود منظومة أخلاقية إلحادية ثابتة،  فيجب أن نعرّف الأخلاق تعريفاً شاملاً، فنقول:
 الأخلاق اسم جامع لكل فعل صادر عن إرادة، ينقسم إلى: حسن وقبيح، فيقال: خلق حسن وخلق قبيح [2]، وسؤال الأخلاق يتعلق في التمييز بين الأفعال القبيحة والأفعال الحسنة.

ما الذي نقوله و لا نقوله:
ولأنني أعلم -مسبقاً- أنّ أغلب الملحدين لن يفهموا ما أقصده؛ لجهلهم أو لحضور الأجوبة المعلبة التي ترمى على أي مستشكل، فإنّني أجد في نفسي ضرورة توضيح ما يأتي:
 إنّني لا أدّعي أنّ الملحد غير قادر على تمييز الفعل الحسن من الفعل القبيح، كما أنّني لا أدّعي أنّ الملحد يعيش حياة لا أخلاقية، وإنما أدّعي أنّ الإلحاد كفكر - بعيداً عن أتباعه- لا يملك قواعد أخلاقية ثابتة، وأنه داخل الإلحاد -كمنظومة فكرية- يمكن تبرير أي جريمة بتبرير عقلي؛ نظراً لما يترتّب على الإلحاد من أفكار هدّامة للقواعد التي يقوم عليها أي بناء أخلاقي.

متطلِّبات الأخلاق:
المتطلِّب الأول: الإرادة
 بما أنّنا عرّفنا الأخلاق على أنها  أفعال، فإنّ هذه الأفعال لا تدخل في كونها أخلاقاً إلا بوجود عوامل تؤهّلها أن تكون داخلة في مرتبة الأخلاق، وأول تلك المتطلبات وأهمها هي: الإرادة، فنحن ذكرنا في تعريفنا للأخلاق أنّها: الأفعال الصادرة عن إرادة، وتكمن أهمية الإرادة في الأفعال أنّها بمثابة الرابط بين الفاعل وأثر فعله، فإذا كان الفاعل مريداً لفعله أصبح الفاعل أيضاً مسؤولاً عن أثر ذلك الفعل، وإذا كان الفاعل غير مريد أصبح الأثر غير مقصود، لا يختلف عن تأرجح حجر مربوط بخيط يضرب من دون إرادة كل ما في طريقه، يقول الفيلسوف الأمريكي روبرت كاين:
free will is that underived origination or sole authorship is necessary for a number of other things that humans generally desire and are worth wanting Candidates for these.other goods...moral responsibility[3]

الترجمة:
الإرادة الحرة هي: النشوء غير المشتق أو الملكية الفردية الضرورية لعدد من الأمور التي يبتغيها البشر بشكل عام أو تستحق الطلب، ومن المرشحين لهذه الأمور الجيدة المسؤولية الأخلاقية.
وهذه أول عقبة في طريق أي نظام أخلاقي يعتمده الملحد، وهي: هل يؤمن الملحد أصلاً بوجود إرادة حرة؟.
ولعل قائلاً يقول: ما علاقة الإلحاد بالإرادة الحرة؟ فقد عرّفنا الإلحاد في بداية الكلام على أنه الإيمان بعدم وجود خالق، ولكن في الواقع نفي الخالق يرافقه أيضاً نتائج، وأحد تلك النتائج الالتزام بالمادية، والمقصود بالمادية، كما عرفها  الفيلسوف البريطاني الملحد جوليان باجيني:
Crude physicalism asserts that the only things that exist are material objects. A slightly less crude version is that only the objects of the physical sciences-physics, chemistry, and biology-exist [4]
-الترجمة: الفيزيائية الحادة تقول: إنّ الأشياء الموجودة هي فقط الأشياء المادية، والنسخة الأقل حدة تقول: بأن أشياء العلوم الفيزيائية ، فيزياء ، كيمياء، أحياء، هي الموجودة فقط.

ويقول أيضا:
-Most atheists are physicalists only in one rather general sense. That is to say, their atheism is motivated at least in part by their naturalism, a belief that there is only the.natural world and not any supernatural one[5]

الترجمة:
معظم الملحدين هم ماديون بالمعنى العام، أي أنّ ما نقوله: إنّ الإلحاد محفز بشكل جزئي بالمادية، وهو الاعتقاد القائل: إنّ العالم الطبيعي هو الموجود فقط، ولا يوجد عالم فوق الطبيعي.
هذا يأخذنا إلى النقطة الثانية من الكلام: الأديان متّفقة على أنّ العقل يتكّون من جزئين: جزء مادي، وجزء غير مادي، والتي تسمى بالفلسفة الثنائية dualism.

وهذا الادعاء يكلّف الملحدين كثيراً، يقول البروفيسور الأمريكي بول إل نونيز:
 More than a few philosophers and scientists actually claim that our free will is just an illusion. Perhaps they see themselves stuck between a rock and a hard place - they reject dualism (as unscientific. However, if they choose materialism (the mind emerges from the physical properties of brain) over dualism, perhaps the notion of free will must.be abandoned [6]

الترجمة:
العديد من الفلاسفة والعلماء يدّعون أنّ إرادتنا الحرة هي مجرّد وهم، وربما بسبب أنّهم يرون أنفسهم بين المطرقة والسندان، فمن جهة هم يرفضون الثنائية dualism على أنّها فكرة غير علمية، وبالمقابل إذا اختاروا المادية فيجب عليهم ربما أن يتركوا مفهوم حرية الإرادة.

ونجد أنّ علماء الإلحاد والمنظّرين له لم يدّخروا جهداً في التخلّي عن الإرادة الحرة، يقول الملحد الفيزيائي ستيفن هوكينغ:
«على الرغم من إحساسنا بالقدرة على اختيار ما نفعله إلا أنّ وعينا بالأساس الجزيئي للبيولوجيا قد أوضح أنّ العمليات البيولوجية تكون محكومة بقوانين الفيزياء والكيمياء؛ ولذلك فهي محدّدة تماماً، مثل: مدارات الكواكب، وتدعم تجارب علم الأعصاب الحديثة الرؤية القائلة: بأنّ دماغنا المادي يخضع لقوانين العلم المعروفة التي تحدّد أفعالنا، وليس لبعض القوات الموجودة خارج تلك القوانين، فعلى سبيل المثال: عند دراسة المرضى الذين أجريت لهم جراحة في المخ أثناء اليقظة، وجد أنّه بإثارة بعض الأماكن المعينة في المخ كهربائياً يمكن للمرء أن يولِّد لدى المريض رغبة في تحريك اليد أو الذراع أو القدم أو تحريك الشفاه والتحدّث، من الصعب تخيّل كيف تعمل الإرادة الحرّة إذا كان سلوكنا يحدّده القانون المادي؛ ولذلك يبدو أنّنا لسنا أكثر من آلات بيولوجية وأن الإرادة الحرة مجرد وهم».

ويزيد حدّة الادعاء الملحد وعالم الأعصاب سام هاريس، فيقول:
Free will is an illusion. Our wills are simply not of our own making. Thoughts
and intentions emerge from background causes of which we are unaware and
over which we exert no conscious control. We do not have the freedom we think .we have [8]

الترجمة:
الإرادة الحرّة هي وهم، إرادتنا ببساطة ليست ملكنا، الأفكار والنوايا تأتي من الأسباب الخلفية التي لسنا واعين لها ولا نملك أي سيطرة واعية عليها، نحن لا نملك الحرية التي نظن أنّنا نملكها.
هذا يعني ببساطة أنّ كل ما تفعله سواء كان قبيحاً أو حسناً لا إرادة لك في فعله، فلا تستحق الثواب كما أنّك لا تستحق العقاب، يوضّح ذلك أيضاً سام هاريس، فيقول:
Without free will, sinners and criminals
would be nothing more than poorly calibrated clockwork, and any conception of
justice that emphasized punishing them.. would appear utterly incongruous. And those of us who work hard and follow the rules would not-deserve- our success in any deep
sense. It is not an accident that most people find these conclusions abhorrent.
The stakes are high[9]

الترجمة:
من دون الإرادة الحرّة فإنّ المذنبين والمجرمين لن يكونوا إلا مجرد ساعة مضبوطة بشكل سيء، وأي مفهوم للعدالة يعتمد معاقبتهم سوف يكون غير لائق، والذين يعملون بجد ويتّبعون القوانين لا يستحقون النجاح، بأي معنى عميق ليس من المصادفة أنّ الناس يجدون أمثال هذه الاستنتاجات مقيتة، فإنّ الخطورة عالية.

أقول:
أنا هنا لست بصدد الكلام عن حقيقة ما يقولونه، ولكني بصدد إثبات أنّ الإلحاد كفكر مادي يرفض حرية الإرادة؛ لأنّها أمر غير مادي.

المطلب الثاني: الاستثنائية الإنسانية.
من الواضح للجميع أننا لا نطلب معايير أخلاقية من الحيوانات البرية، حتى أصبح تغيير قانون الغاب كعبارة تشير إلى تحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع حيواني مبني على القوة لا على صحة الفعل، هذا كله يعني شيئاً واحداً: إنّنا كبشر نرفع من منزلتنا فوق باقي الحيوانات ونرى أنفسنا مطالبين بمعيار أخلاقي لتصرفاتنا، وهذه الفكرة فلسفياً تسمى: بالاستثنائية البشرية:
[Human Exceptionalism]

يقول الدكتور جريج هنريكيس معرفاً الاستثنائية البشرية:
the idea that humans are unique, distinctive beings that ought to be assigned.fundamental moral value in accordance with that distinctiveness [10]
الترجمة: الفكرة القائمة على أنّ البشر فريدون وكائنات مختلفة يجب عليها أن تضع أسساً قيمية أخلاقية تتناسب مع تلك الفرادة. 
لكن هذه الفكرة لا أساس لها في عالم مادي، فالإنسان لا يتميز من الحيوان إلا بدرجة تعقيده الإحيائي التي بدورها تقود إلى تعقيد اجتماعي، عندما يوصف الإنسان بأنّه أحد أعضاء العائلة الإفريقية من الحيوانات التي تسمى:

[Hominidae]
فإنّ هذا يخبرنا بشكل مباشر بأنّ الإنسان مثله مثل أي قرد ينتمي إلى هذه العائلة غير مطالب بأي التزام أخلاقي، ومن هذا المنبع خرجت فكرة التمييز النوعي المقابل للتميز العرقي، فكما أنّ التمييز بين الأعراق البشرية يعتبر شيئاً غير مبرر عقلاً، ذهب بعض الفلاسفة إلى أنّ التمييز بين الحيوانات أمر غير مبررأيضاً؛ لأنّه لا يوجد ما يميّز نوعاً عن نوع من الحيوانات غير درجة تعقيدها الذي لا يمثل فرقاً جوهرياً، بل فرق عرضي، وسمى هؤلاء المرتكبين للتميز النوعي بال

[Speciesism]
وحتى نعرف عمق المسألة نذهب إلى دوكنز الذي يتحدّث عن حالة افتراضية، وهي وجود قرد من نوع شمبانزي في حديقة حيوانات، حيث يعتبر دوكنز أنّ قتل القرد هذا أمر مباح لصاحب الحديقة، ولكنه يقول في الوقت نفسه: إنّ التبرير الوحيد لهذه الإباحة هو أنّ الأشكال الوسيطة بين الشمبانزي والإنسان قد ماتت، يعني التدرج الانتقالي بين الإنسان وقرد الشمبانزي ميت.
The only reason we can be comfortable with such a double standard is that the.intermediates between humans and chimps are all dead[11]

أقول:
 من الواضح أنّ دوكنز يجد نفسه في مشكلة، حيث إنّ الأخلاقيات لا مبرر لعدم تطبيقها على الشمبانزي إذا كانت شيئاً ثابتاً، ولكن هذه نظرة -بحد ذاتها- استعلائية من دوكنز البشري ضد الشمبانزي، لا يوجد شيء يجعل لنا اليد العليا عليهم أخلاقياً، وبالتالي إذا كان هناك إنسان أو مجموعة بشر يريدون أن يعيشوا على الطريقة الشمبانزية فلا يوجد مانع أخلاقي حقيقي ضد هذا الأمر، وبالتالي إذا لم يثبت استثنائية البشر فنحن أمام حل واحد، وهو حيونة الإنسان، وهذه النظرة المحيونة للإنسان ليست مقتصرة على دوكنز، بل هي شائعة جداً، مثل: شيوع عبارة «الإنسان هو القرد العاري».

.[humans are just naked apes]
وقد شاعت هذه العبارة إلى حد أنّ العالم الإحيائي ديزموند موريس كتب كتابه بعنوان:
The Naked Ape: A Zoologist’s Study of the Human Animal.
القرد العاري: دراسة إحيائية للحيوان البشري.

ويوضح دوكنز أكثر، فيقول:
There is a double standard in our ethics at present, which builds a wall around our own species Homo Sapiens, which is rather un-evolutionary if you think about the fact that we are close cousins of chimpanzees, if you think about the fact that we are descended.from a common ancestor that lived only about six or seven million years ago[12]

الترجمة:
هناك ازدواجية معايير في أخلاقياتنا في الزمن الحاضر، حيث نبني جداراً حول نوعنا «الهومو سابينز»،، الذي إذا فكّرت به وتذكرت حقيقة أنّنا أولاد عمٍّ مع الشمبانزي، وإذا فكّرت بحقيقة انحدارنا من سلف مشترك عاش قبل ما يقارب من ست أو سبع ملايين سنة ستجد أنّه شيء غير تطوّري.

تلخيصاً لما سبق:
نحن نتوقّع أن يتصرف البشر بشكل أخلاقي؛ لأنّ هذا الأمر نابع من كونهم كائنات مميزة، ولكن في غياب هذا التمييز فإنّ توقّعنا هذا أيضاً لا سبب لوجوده، وبالتالي كما أنّنا لا نتوقع من قرد أو أسد أن يتصرّفوا بشكل أخلاقي، بل الأمر يثير الاستغراب إذا حصل، فكذلك نحن لا نتوقع، بل لا يجب على الإنسان حسب هذه النظرة أن يتصرّف ككائن أخلاقي.
 الآن كل هذا الكلام يعتمد على التصديق بنظرية التطور، ولكن لعل ملحد يقول: أنا لا أؤمن بنظرية التطور،-وإن كان هذا الأمر مستبعداً-، فهو أيضاً لم يجعل للإنسان أي استثنائية تميزه من باقي الكائنات الحية.

المطلب الثالث: العلاقة بين العدمية والإلحاد

المقصود بالعدمية هو: أنّ أفعالنا ووجودنا لا قيمة حقيقية لها، يقول الفيلسوف الأمريكي ألن برات:

Existential nihilism is the notion that life has no intrinsic meaning or value, and it is, no.doubt, the most commonly used and understood sense of the word today[13]

الترجمة: العدمية الوجودية هي المفهوم القائل بأنّ الحياة ليس لها أي معنى أو قيمة ذاتية، وهذا بلا شك هو المفهوم الأكثر انتشاراً للكلمة اليوم.
الآن، نحن عرّفنا الإلحاد على أنّه إنكار للخالق والالتزام بالمادية، فما علاقة هذا بالعدمية؟.
الجواب: إنّ الالتزام بالمادية يعني بالضرورة أنّ أي سؤال في الطبيعة تجيب عليه العمليات الطبيعية، ونحن نعلم أنّ الطبيعة في قرارها ليست شيئاً واعياً، بل هي مجرد أجسام مادية تتفاعل مع بعضها لكي تنتج التأثيرات التي نراها، وبالتالي الطبيعة نفسها فاقدة لأي قيمة، وهذا الأمر واضح عند الملحدين،-مثل دوكنز-، فهو يقول:
In a universe of blind physical forces and genetic replication, some people are going to get hurt, other people are going to get lucky, and you won’t find any rhyme or reason in it, nor any justice. The universe we observe has precisely the properties we should expect if there is, at bottom, no design, no purpose, no evil and no good, nothing but.blind, pitiless indifference[14]
الترجمة: في كون من القوى الفيزيائية العمياء والنسخ الجينية بعض الناس سوف يتأذون وآخرون سوف يكونون محظوظين، ولن تجد أي نسق أو سبب في ذلك، ولا عدالة الكون كما نرصده فيه المواصفات التي يجب أن نتوقعها، ففي القاع لا يوجد تصميم أو هدف، لا يوجد شر أو خير لا يوجد غير اللامبالاة العمياء.

أقول:
قد يكون هناك ملحد يدّعي الإيمان بوجود غاية ما من الوجود، فيجيب بأحد جوابين:
1- نحن من يحدد قيمة الحياة وكذلك معناها، وبالتالي يمكن للشخص أن يكون ملحداً ولا يكون عدمياً.
2- الحياة قيمة؛ لأنّها فريدة لم توجد في الكون إلا مرة واحدة، وبالتالي لها قيمة نابعة من فرادتها.
وهذان الجوابان -على الرغم من شيوعهما- في غاية السخافة، وذلك للأسباب الآتية:
أما الجواب الأول: فهو اعتراف ضمني بأنّ القيمة أو المعنى الذي سوف يضعه الشخص ليس واقعاً خارجياً، بل هو تفضيل شخصي، فمثلاً: إذا قرّرت أخذ قطعة قمامة واعتبرتها ذات قيمة عالية فذلك لن يجعلها ذات قيمة عند بقية الناس، بل عندي فقط، وبالتالي أي اعتبار نفسي لن يتحول إلى واقع فعلي، وهنا لا يمكن للملحد أن يهرب من العدمية.
أما الجواب الثاني: فهو أسوأ حالاً من الجواب الأول، إذ هو في الحقيقة يضيف قيمة للحياة ككل - في كونٍ فاقدٍ للقيمة- من خلال تطبيق مبدأ بشري على الكون، فنحن البشر -مثلاً- نعدّ الذهب قيماً؛ لأنّه نادر، ولكن كيف نبرّر لأنفسنا أن نطبّق هذا الأمر على الكون ككل؟ ونقول: بما أنّ الحياة نادرة إذن لها قيمة؟، بل ليس من الثابت أنّ الحياة نادرة أصلاً، بل إنّ في تطبيق هذا المبدأ حالة من الخلل، فهنا يتكلم الشخص عن الحياة ككل على أنّ لها قيمة، لكن أفراد الحياة فاقدو القيمة، بل يزداد فقدانهم للقيمة مع تكاثر النوع، فمثلاً: البشر اليوم أقل قيمة من البشر في الأمس؛ لأنّ أعداد البشر المولودين ازداد مثلاً هذا يعني أنّ قيمة الإنسان تنخفض وتزداد بالانخفاض، لكن عموماً هنا نريد أن نثبت أمراً واحداً، وهو أنّ الإلحاد يمكن أن يبرر العدمية على الأقل، وهنا نحن أمام عالم مجرد من أي معنى، وبالتالي سواء فعلت ما أراه صحيحاً أو خطأ، فإنّ فعلي ليس له معنى، بل حتى معاني الصحة والخطأ تصبح بلا معنى، فيكون القتل -مثلاً- هو فصل الرابطة التساهمية والأيونية بين ذرات عناصر المركب المسمى إنسان، فكما أنّ فصل قطعة حديد عن بعضها البعض ليس فيه أي مشكلة، فكذلك قطع رأس إنسان أو قتله ليس فيه أي مشكلة حقيقية في هكذا عالم، يقول الفيلسوف جيمس درير:
Nihilism is the view that there are no moral facts. It says that nothing is right or wrong,.or morally good or bad[15]

الترجمة:
العدمية هي النظرة التي تقول: بأنّه لا يوجد حقيقة أخلاقية، إنّها تقول لا يوجد شيء خطأ وشيء صحيح، أو شيء حسن أو قبيح.
كما قلت: يمكن للملحد أن يقول: أنا لا ألتزم بالعدمية، ولكن لا يمكنه أن ينكر أنّ الإلحاد يبرّر العدمية.

المطلب الرابع: المصدر الأخلاقي للإلحاد.
عندما نتكلّم عن الميول الأخلاقية للكائن الحي الإنسان في إطار مادي، فأي تفسير سلوكي أو إحيائي لا يخرج من حيز نظرية التطور؛ لأنّ السلوكيات الأخلاقية والآليات الحية للإنسان في أصلها مجرد تجسد للجينات التي مرت بسنين من الخطأ والمحاولة، يقول الفيلسوف الملحد مايكل روس:
The position of the modern evolutionist, therefore, is that humans have an awareness of morality-a sense of right and wrong and a feeling of obligation to be thus governed-because such an awareness is of biological worth. Morality is a biological adaptation no.less than are hands and feet and teeth[16]

الترجمة:
موقف علماء التطوّر المعاصرين إذن، أنّ البشر لديهم وعي أخلاق -أي الإحساس بالقبح والحسن وبالنتيجة الشعور بالواجب الحكمي-؛ لأنّ هكذا وعي فيه منفعة إحيائية، الأخلاق هي تأقلم إحيائي لا يختلف عن اليد والقدم والأسنان. أ.ه
وهذا يعني بالضرورة أمراً واحداً فقط أنّ شعورنا الأخلاقي هو في الحقيقة عشوائي ونحن نمتلكه فقط؛ لأنّه يساعدنا على البقاء، ليس له أي قيمة وراء ذلك ولا تختلف عن سده حاجة، مثل: الأكل أو الشرب أو التناسل، كلها وسائل تساعدنا على البقاء، وهذا الأمر يدركه مايكل روس نفسه، فيقول في مقال له:
...In an important sense, ethics, as we understand it is an illusion, fobbed off on us by.our genes to get us to cooperate. It is without external grounding[17]

الترجمة:
بمنظور مهم فإنّ الأخلاق كما نفهمها هي وهم فبركته جيناتنا؛ لتجعلنا نتعاون، وليس لها أي أرضية خارجية.

أقول:
إلى هنا ذكرنا أربع عقبات أمام أي نموذج أخلاقي يمكن أن يقدّمه الملحدون تبريراً لأخلاقهم، والآن نبدأ بالكلام عن النماذج التي يقدمونها فعلاً:

النموذج الأول: القاعدة الذهبية للتعاملات الأخلاقية.
يعدّ هذا النموذج أكثر النماذج التي يطرحها الملحدون منهاجاً أخلاقياً، وهو النموذج القائل [عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك] وهذا النموذج -عموماً- قائم على أساسين:
1- إنّ كل الناس تتشارك في سعيها نحو السعادة والنجاة، وهذا السعي مبني على أساس إحيائي.
2- حتى تضمن سعادتك شخصياً يجب أن تسعى لحفظ سعادة الآخرين، وبالتالي سوف يتم إعادتها إليك في وقت حاجتك إليها.
فهذه القاعدة تشبه الاستثمار في الناس على أمل أن يعود ذلك الاستثمار بفائدة لك.

المشاكل التي تواجه هذا النموذج:
بالإضافة الى كون هذا النموذج يتعرّض لما ذكرناه من أسباب عامة تجعل أي نموذج أخلاقي مضروباً، سوف نبين أسباباً خاصة بهذا النموذج؛ وكذلك نرفق توضيحات لكيفية انطباق الأسباب العامة:

1 - وسائل لا أهداف:
عندما نتكلّم عن أي نموذج أخلاقي فإنّ من أهم الأهداف التي يجب تحققها في هكذا نموذج هو كون النموذج يعترف بصحة تلك الأخلاق بذاتها لا كغاية فقط، وهذا الأمر تفشل فيه القاعدة الذهبية؛ لأنّها لا تعدّ معاملة الآخرين بذاتها صحيحة، بل النتيجة المترتبة على تلك المعاملة هي الهدف، وهذا بالتالي يحول كل الأفعال محايدة  أخلاقياً؛ لأنّك لا تنظر إلى الآخرين على أنهم غاية للمعاملة الأخلاقية، بل وسيلة، أنت تساعدهم ليس لأنّ مساعدتهم حسنة بذاتها؛ بل لأنّك تتأمل أن تعود عليك هذه المعاملة الحسنة بخير.

2 - لا تسويغ:
عندما ننظر إلى هذه القاعدة بذاتها فهي في الحقيقة لا تمثل قاعدة مسوّغة لنفسها، بل تعتمد على شعور مسبق بأننا يجب أن نعامل بعضنا البعض بدرجة من الأخلاقية، بمعنى أنّها تعتمد على وجود الأخلاق كي تصح، وليس العكس، فوجودها لا يعطي أخلاقاً، وهذا ما يجعل هذه القاعدة غير مسوّغة، وعندما سألت الملحدين في نقاشاتي معهم ما الذي يجعلني ألتزم بهذه القاعدة؟.
 قالوا: إنّ عدم التزامك بها يعني أنّك تعامل نفسك معاملة خاصة.
 وهذه هي مغالطة منطقية هنا أيضاً، إذ يفشل هذا الدفاع، فعدم الالتزام بهذه القاعدة ليس لأنّ الشخص يرى في نفسه خاصية تميّزه عن الالتزام بالقاعدة، بل لأنّ القاعدة نفسها غير ثابتة الصحة، فهو لا يرى أنّه من الواجب أن يلتزم بها الآخرون وهو لا، بل يرى أنه ليس هناك مبرر للالتزام بها مطلقاً.
 مجدداً عندما يتم مواجهة الملحد بهذا السؤال يتحول إلى القول بأنّ عدم الالتزام بهذه القاعدة يؤدي إلى مجتمع عدواني يحاول فيه الناس أكل بعضهم البعض الآخر، لكن هذا الادعاء يمكن إطلاقه على أي نموذج أخلاقي آخر دون أن يجعله صحيحاً، ويمكن حتى لأبشع الأنظمة الحاكمة بأن تبرر قمعها بأنه لحفظ المجتمع من أن ينقلب على نفسه. بالنهاية تفشل القاعدة الأخلاقية في فرض نفسها كنموذج صحيح مادام اعتمادها التام هو القبول والركون النفسي، لكي يعامل الناس بعضهم معاملة أخلاقية بمعنى أنّها تجعل القبول النفسي دليلاً على الصحة وليس القبول العقلي.

3 - النقص في هذه القاعدة:
هذه القاعدة تخبرك فقط كيف تعامل الآخرين، ولا تخبرك كيف ترد المعاملة، ولا كيف تحكم على أفعال الآخرين، فمثلاً إذا رأيت فعلاً معيناً بين شخصين لا يمكنك أن تحكم على فعلهم هل هو أخلاقي أو غير أخلاقي؛ لأنّك تجهل هل هما يقبلان وقوع الفعل على بعضهم البعض الآخرأم لا.
في الوقت نفسه لا تخبرك هذه القاعدة كيف تتصرف في حالة وقوع الفعل عليك وليس خروجه منك، فمثلاً إذا قام شخص بظلمي هل يحق لي أن أظلمه ؟.

4 - الاستثنائية البشرية:
ذكرنا سابقاً أنّ أي نموذج أخلاقي يُقدَّم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أنّ البشر هم مميزون بشكل ما، حتى يكون هذا النموذج مطلوباً منهم وغير مطلوب من غيرهم.
خذ -مثلاً- تطبيق هذه القاعدة بين الإنسان والحيوان، فلا شكّ أنّ الحيوان يرفض أن يُقتل لكي يتم أكله، وبالتالي  فإنّ قتلك وأكلك له خرق لهذه القاعدة، فأنت لم تعامل الحيوان كما تحب أن تعامل.
 الطريقة الوحيدة لبيان سبب هذا الأمر هو القول: إنّ الإنسان مميز من الحيوان، وهذا الأمر غير موجود في الإلحاد؛ لأنّ الإلحاد ينظر للإنسان كحيوان آخر يختلف في تركيبه الفسيولوجي فقط.

5 - هذه القاعدة لا تسوّغ الفداء:
أي  نموذج أخلاقي يُطرح يجب أن يبرّر كل الأخلاق وليس جزء منها؛ وعليه، فلنلقي نظرة على الأخلاق التي تؤدي إلى مقتل شخص -مثلاً- إذا قام برمي نفسه على قنبلة، لكي يحمي الناس، فهذا الفعل بلا شكّ فعل حميد، لكنه غير مسوّغ بهذه القاعدة الأخلاقية؛ لأنّ الشخص الذي رمى نفسه لا يتمنى أن يعامل بتلك الطريقة، والنتيجة هذه القاعدة تنظر لهذه الأفعال الحميدة على أنها أفعال محايدة وغير مسوّغة.

6 -هذه القاعدة تحتاج إلى قيم مشتركة عامة بين البشر:
من دون وجود قواعد مشتركة بين كل البشر تسقط هذه النظرية ولا تصح؛ ولذلك قال الكاتب جورج برنارد شو:
Do not do unto others as you would that they should do unto you. Their tastes may be.different[18]

الترجمة:
لا تعامل الآخرين كما يجب أن يعاملوك؛ لأن الأذواق تختلف.

6 - الاختلاف في التشخيص:
قد يعترض على النقطة رقم 5 بوجود مشتركات بين البشر، مثل: قبح الظلم، وهنا نحن لا ننازع في ذلك؛ لكننا ننازع بعدم وجود تشخيص للظلم، فنحن لا نعيش في عالم أفلام كارتونية حيث يفعل الشرير الشر؛ لأنّه شرير، بل نحن نعيش في الواقع وكل من يفعل الشر إما أنّه لا يرى نفسه فاعلاً للشر أو يرى أنّ فعله للشر هو في مبدأ الدفاع عن النفس، أو يعطيه مسوّغاً آخر،  يقول أدولف هتلر:
We may be inhumane، but if we rescue Germany we have achieved the greatest deed in the world. We may work injustice، but if we rescue Germany then we have removed the greatest injustice in the world. We may be immoral، but if our people is rescued we have.opened the way for morality[19]

الترجمة:
قد نكون غير إنسانيين، ولكن إذا أنقذنا ألمانيا فإننا حقّقنا أفضل صالح للعالم، قد نكون ظالمين، ولكن إذا إنقذنا ألمانيا فنحن قد رفعنا أعظم ظلم في العالم، قد نكون لا أخلاقيين، ولكن إذا أنقذنا شعبنا فإنّنا فتحنا باب الأخلاقية.
فهنا أدولف هتلر يشكّ في أنّه يفعل الظلم، ولو كان يفعل الظلم فإنّ فعله للظلم مسوّغ؛ لأنّه يريد رفع ظلم أكبر.

7 - عدم صحة الاستثناءات:
هذه القاعدة -كما نعلم- قائمة بالأساس على أنّ الشخص يجب أن يعامل الآخرين كما يحب أن يعامله الآخرون، ولا يحق له أن يستثني نفسه؛ لأنّه سوف يقع في مغالطة التوسل الخاص، أي: أنه يستثني نفسه من القاعدة؛ لأنّه يرى نفسه يملك شيئاً خاصاً يميّزه من الآخرين، ولكن على أرض الواقع نحن نعلم بوجود استثناءات خاصة نعامل بها البشر، فمثلاً: من المسوّغ عقلاً أن نقوم بحبس شخص مصاب بمرض معدٍ، ونحن لا نريد أن تتم معاملاتنا بالطريقة نفسها. وبالنتيجة: هذه القاعدة تذهب سدى في هكذا حالات، ويمكننا تصور سقوط هذه القاعدة بمثال:
القاضي يريد أن يحكم على شخص سارق بالسجن خمس سنوات، فيقول له السارق: هل تقبل أن أحبسك في السجن خمس سنوات، بالطبع القاضي لا يقبل بذلك، فكيف يقبل القاضي أن يفعل ذلك بغيره؟ حسب هذه القاعدة حكم القاضي باطل وغير أخلاقي.

وهذا الأمر ذكره الفيلسوف الأوروبي أمانويل كانط، قال:
Let one not think that the trivial quod tibi non vis fieri، etc. [What you do not want to be done to yourself do not do to another] could serve here as a standard or principle. For it is only derived from that principle، though with various limitations; it cannot be a universal law، for it does not contain the ground of duties toward oneself، nor that of the duties of love toward others ، or finally of owed duties to one another، for the criminal.would argue on this ground against the judge who punishes him[20]

الترجمة:
لا يفكّر الشخص بأنّ قاعدة لا تفعل بالآخرين ما لا تحب أن يفعل بك يمكن أن تخدم على أنها أساس أو مبدأ؛  لأنّها مشتقة من ذلك المبدأ مع الكثير من الحدود، ولا يمكنها أن تكون قاعدة عامة؛ لأنها لا تحتوي أساس  الواجبات تجاه النفس ولا واجبات حب الآخرين، والمجرم سوف يحتجّ على هذا الأساس ضد القاضي الذي يحاكمه.

8 - وجود من يقبل بوقوع بعض الأمور عليه:
ذكرنا سابقاً أنّ أذواق البشر تختلف وتشخيصهم للظلم أيضاً يختلف، وهنا نذكر إشكالاً آخر مرتبطاً بما سبق -حسب هذه القاعدة-: يكون الداعشي فاعلاً لفعل أخلاقي عندما يفجر نفسه بين الناس؛ لأنّه يريد قتل الآخرين، ويريد أن يُقتل هو أيضاً في الانفجار، وبالنتيجة يكون فعله أخلاقياً طبعاً، ولا يوجد عاقل يقول إنّ فعله أخلاقي، لكن حسب المفهوم الإلحادي يصبح هذا الفعل أخلاقي.

9 - مشكلة الوجود والوجوب:
هذه القاعدة تقول -كما بيّنّا-: إنّ البشر كلهم يتساوون في مسألة بحثهم عن السعادة والرفاهية، وهذا هو جزء الوجود من القاعدة، وبناء عليه يجب معاملة الآخرين كما تحب أنت وتريد أن تكون سعادتك ورفاهيتك. هذا هو الجزء الثاني من القاعدة والذي يسمى بالوجوب، وهو الجزء غير المبرهن عليه من قبل الملحد، وإنّما يرميه رمياً دون تسويغ.

9 - قاعدة غير معتبرة:
أخيراً، يجب أن أنبّه إلى أنّ فلاسفة الأخلاق لا يأخذون هذه القاعدة بجدية -وإن كانت منتشرة بين العامة بشكل كبير-، يقول الفيلسوف بيل بوكا وهو يتكلم عن هذه القاعدة:

We must acknowledge that the golden rule is no longer taken seriously in practice or.even aspiration، but merely paid lip service[21]

الترجمة:
يجب أن ننبّه إلى أنّ القاعدة الذهبية لم تعد تؤخذ بجدية في التنفيذ أو حتى كمصدر، ولكن يتم احترامها بشكل غير جدي.
ملاحظة: نحن لا نعدّ القاعدة خاطئة بالضرورة، ولكنها تصبح خاطئة عندما تؤخذ بمفردها دون أي عامل آخر، ولذلك هذه القاعدة منطقية جداً في إطارها الديني، بينما على حين أنّها منطقية في إطارها الإلحادي، ولهذا يقول الفيلسوف:
The golden rule cannot be the supreme principle of morality in the sense of functioning as the sole normative axiom in a deductive system of ethics، because it cannot operate in.a value vacuum.[22]

الترجمة:
القاعدة الذهبية لا يمكن أن تكون المبدأ الأعلى للأخلاق بمعنى أن تكون البديهية الأساسية في نظام استنتاجي للأخلاق؛ لأنّها لا تستطيع أن تعمل في فراغ قيمي.

النموذج الثاني: المشهد الأخلاقي:
النموذج الثاني الذي سوف أتكلم عنه هو ما قدّمه سام هاريس في كتابه
[The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values]
المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم أن يحدّد القيم البشرية؟.

ويوضّح سام هاريس هدف كتابه، فيقول:
The goal of this book is to begin a conversation about how moral truth can be understood.in the context of science.[23]

الترجمة:
الهدف من هذا الكتاب هو فتح باب النقاش حول كيفية فهم الحقائق الأخلاقية في إطار العلم.
والأساس للمنهج الأخلاقي الذي يقدّمه سام هاريس يعتمد أمرين، يقول:
argument I make in this book is bound to be controversial، it rests on a very simple premise: human well-being entirely depends on events in the world and on states of the.human brain. Consequently، there must be scientific truths to be known about it.[24]

الترجمة:
الحجّة التي أقدّمها سوف تكون مثيرة للجدل حتماً ، ولكنها تعتمد أساسين اثنين بسيطين: السعادة البشرية معتمدة تماماً الحوادث الخارجية في العالم وحالة العقل البشري، وبالنتيجة لابدّ من وجود حقائق علمية، لكي نعرفها.
وللتوضيح فإنّ سام هاريس في كتابه يشير إلى مساحة أخلاقية على شكل قمم ووديان، القمم تمثّل أعلى ما يصله الإنسان من الراحة والسعادة والوديان أتعس ما يصله الإنسان من العناء والشقاء، وحسب سام هاريس فإنّه يمكننا أن نستعين بالعلم لكي نحدد هذه المساحة بدقّة مقبولة لا بدقة متناهية.

المشاكل:
1 - الوجود والوجوب:
بما أنّ سام هاريس يتكلم عن الواقع العلمي والواقع الأخلاقي، فهو سوف يقع حتماً بمشكلة الوجود والوجوب، وللتوضيح نقول:
العلم هو علم وصفي يصف لك كيفية حركة الكواكب، كيفية عمل القلب، كيفية عمل السيارة، لكنه لا يمكنه أن يقول لك: يجب أن تعطي الأموال للأعمال الخيرية، ببساطة العلم يعطي حقائق والأخلاق تتطلب قيماً، فمثلاً: العلم يخبرنا متى تتوقف حياة الإنسان، ولكنه لا يستطيع أن يوجد أي قيمة للحياة نفسها، بل ينظر لها كظاهرة طبيعية لا تملك أي خصوصية غير الخصوصية المادية،  وهذا الأمر يدركه سام هاريس، وليحل هذه المشكلة وضع ثلاث نقاط، يقول:
(1) whatever can be known about. maximizing the well-being of conscious creatures-which is, I will argue, the only thing we can reasonably value-must at some point.translate into facts about brains and their interaction with the world at large;
 (2) the very idea of «objective» knowledge (i.e., knowledge acquired through honest observation and reasoning) has values built into it, as every effort we make to discuss facts depends upon principles that we must first value (e.g., logical consistency,.reliance on evidence, parsimony, etc.);
(3) beliefs about facts and beliefs about values seem to arise from similar processes at the level of the brain: it appears that we have a common system for judging truth and.falsity in both domains.[25]

الترجمة:
كل ما يمكن معرفته عن تعظيم السعادة للكائنات المدركة، والذي أقول: إنّه الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نقول: إنّ له قيمة عقلاً يجب في نقطة ما أن يتحول إلى حقائق عن الأدمغة وتفاعلها مع العالم ككل.
فكرة المعرفة الموضوعية نفسها [أي المعرفة التي يتم اكتسابها عن طريق المراقبة والاستنتاج الصادقين] لديها قيم داخلة فيها، فكل جهد نقوم به لمناقشة الحقائق يعتمد في داخله على قيم [مثل التناسق المنطقي، الاعتماد على الأدلة].
الاعتقادات حول الحقائق والاعتقادات حول القيم يبدو أنّها تأتي من العمليات في مستوى الدماغ نفسها، يبدو أنّنا لدينا نظام عام للحكم على الصحة والخطأ في كلا المجالين [مجال الحقائق و مجال القيم].

أقول:
هذه هي النقاط التي قدّمها سام هاريس لحل مشكلة الوجود والوجوب، لكنها في الحقيقة تعاني من إشكالات عدة، ولنبدأ بالنقطة الأولى والثانية حيث إنّ التناقض واضح؛ لأنّ سام هاريس يدّعي أنّ السعادة البشرية أو سعادة الكائنات الواعية هي الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نضع له قيمة عقلاً، ولكن في النقطة الثانية يقول إنّنا نضع قيمة للمنطق وللصدق وللأدلة، ولا يقدّم سام هاريس أي طريقة لحل هذا التعارض، فإما أنّنا نقدر فقط السعادة البشرية أو نقدر أشياء أخرى بالإضافة إلى سعادة البشر، حتى لو فكّرنا بالنيابة عن سام هاريس، فإنّ كلامه فيه مشكلة، حيث إنّه يمكننا افتراض أنّه يقصد أنّ التناسق المنطقي -مثلاً- مرتبط بسعادة الكائنات الواعية، ولكن هذا يعني -بالضرورة- أنّه يعتقد أنّ الأفكار تكون منطقية بزيادتها للسعادة البشرية، وهذا غير معقول؛ لأنّ المنطقية يجب أن تكون أمراً مستقلاً بذاته، والوجه الاخر أنّه يقصد أنّ الالتزام بالمنطقية يؤدي إلى السعادة البشرية، ولكن هذه مشكلة أكثر تعقيداً، حيث إنّه سوف يكون الشخص معذوراً عند سام هاريس إذا فكّر بأفكار غير متناسقة منطقياً طالما أنّ هذه الأفكار غير مرتبطة بالسعادة البشرية، وسوف يعامل التناسق المنطقي على أنّه وسيلة لا غاية.
وهذه ليست المشكلة الوحيدة في النقطة الثانية، فسام هاريس يفترض أنّ وجود قيم تسبق البحث العلمي يؤدّي بطريقة ما إلى جعل مكتشفات العلم بذاتها قيماً وليست مجرد حقائق، وهذا أمر غير مثبت، نعم هذه القيم تؤدي إلى حقائق، لكن تلك الحقائق ليست قيماً، ولم يثبت سام هاريس هذا الأمر.
وأما النقطة الثالثة فهي أيضاً لا تسلم من الإشكال، فهو يقول: بما أنّ عقولنا تحاكم الحقائق العلمية، مثل: الشمس طالعة، وتحاكم الحقائق الأخلاقية، مثل: تعذيب الحيوان خطأ بنفس العمليات. هذا لا يعني أنّها -الضرورة- متساوية، ولنأخذ مثالاً عملياً: العين تدرك ما هو الحصان وتدرك ما هو الجبل بالعملية الفيزيائية نفسها التي تحصل من سقوط الضوء على الجبل وعلى الحصان وانعكاسه باتجاه العين، لكن هل هذا يعني أنّ الحصان والجبل متساويان معرفياً؟ بالتأكيد لا.
يجب أن نتذكر أنّ سام هاريس لا يدّعي أنّ العلم يمكنه إخبارنا بالذي نقيم له قيمة، بل يدّعي أنّ العلم يمكنه إخبارنا بما يجب أن نقيم له قيمة.

2 - السؤال المفتوح:
يفترض سام هاريس بأنّه لا نقاش في أنّ الأخلاق يجب أن تبنى على ما يؤدي إلى سعادة الكائنات الواعية، طبعاً هو اختار كلمة سعادة الكائنات الواعية حتى يشمل الحيوانات في الصورة، ولكنه لم يبين لماذا بالضبط يجب أن نقيم الأخلاق على هذا الأساس؟  فسام هاريس يفترض افتراضاً مسبقاً أنّ أي شخص لا يسلّم له بأنّ الأخلاق يجب أن ترتبط بسعادة الكائنات الواعية، فهو بالتأكيد يعاني من مشكلة، حيث إنّه في أكثر من موضع يقارن سام هاريس الرافضين للربط بين الأخلاق وسعادة الكائنات الواعية بالمجرمين، مثل: جيفري دامر أو حضارات الازتك التي تضحي بالبشر، لكن هذا سؤال مشروع: ما الذي يجعل الأخلاق مرتبطة بسعادة الكائنات الحية وطيب عيشها؟.
بالطبع، لا جواب.

3 - وسائل لا غاية:
كما قلنا في النقاش عن النموذج الأول: إنّ الملحد لا يستطيع أن يقدّم نموذجاً أخلاقياً دون أن يعامل ذلك النموذج كوسيلة، وهنا الأمرنفسه، فسام هاريس يناقش الأخلاق ليس لأنّها أخلاق، بل لأنّها تقود إلى مجتمع يعيش بتنعّم وسعادة لا أكثر، ولكن الأخلاق بلا شك يجب أن تعامل كغاية لذاتها، لن يكون من الأخلاقي أن أرضى بالظلم فقط؛ لأنّني أريد أن أعيش بتنعّم ولا أريد أن يقع ذلك الظلم.

4 - تحديد السعادة وحسن العيش:
النقة التي لا يجيب عليها سام هاريس أيضاً هي: إلى أي مدى يجب أن تصل هذه السعادة وحسن العيش؟، بالتأكيد الجنوب الأمريكي كان يرى أنّ العبودية تؤدي إلى ازدهار الولايات التي لم تحرّر العبيد وحسن عيشها وسعادتها، فهل يعدّ فعلهم أخلاقياً؟ سام هاريس يقول: يجب أن نعرّف السعادة وحسن العيش على مستوى عميق وشامل على قدر المستطاع، ولكن هذا الأمر يعني بالضرورة أنّ النظام الأخلاقي الذي يقدّمه هاريس هو بنفسه يحتاج إلى نظام أخلاقي يحكم من يدخل في التعريف ومن لا يدخل.
وبالإضافة إلى هذه المشاكل، هناك أيضاً المشاكل التي ذكرناها عموماً.

المحصلة:
نموذج سام هاريس الأخلاقي في الحقيقة ليس إلا محاولة يائسة جداً للهروب من الإحراج الأخلاقي الذي يقع  الملحد فيه، ببساطة هذا السؤال لا جواب له حتى الآن، ويستمر العبث الإلحادي بالقفز يميناً وشمالاً لعله يصل إلى نتيجة معينة، ولكن ما نراه هو مجرد تقديم نماذج ميتة قبل الولادة، نماذج تعاني من مشاكل منطقية مبنية على مقدمات غير مثبتة، وسوف يستمر هذا السؤال  وسيكون حجر عثرة للإلحاد كفكر، خصوصاً وأنّ الإلحاد لا يدّعي خطأ الأديان فقط، بل يدعي لا أخلاقياتها وهذا الأمر لا يخلو منه كتاب أو مناظرة مع الملحدين دون أن يدخل -على الخط-  الادعاء بأنّ الدين شرير وأنه سوف يأكل البشر الذين هم عبارة عن نعاج ضعيفة أمام الذئب المتوحش الكاسر، لكن واقع الحال إنّ الملحد -حتى لو كان غايةً في القداسة والأخلاقية- فهو لا يستطيع أن يسوّغ ذلك الأمر كما لا يستطيع قرد معين أن يبرّر رغبته بأن يحك ظهره وهذا هو محل النقاش ومكمن الإشكال، والملحد يمكنه أن يكون أخلاقياً لكنه لا يمكنه أن يبرّر لماذا هو أخلاقي.
هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

المصادر:
[1] Atheism: A Very Short Introduction - Oxford University Press, 2003.-Julian Baggini-p3
[2] اخلاق ناصري - خواجة نصير الدين الطوسي - ص 101
[3]The Significance of Free Will-Oxford University Press(1998)-Robert Kane-p80
[4] Atheism: A Very Short Introduction - Oxford University Press, 2003.-Julian Baggini-p 4
[5]المصدر السابق
[6] https://bit.ly/2n1U2k9
[7] التصميم العظيم - ستيفن هوكينغ ص43-44
[8] free will - Sam Harris -15
[9] المصدر السابق -
[10] https://bit.ly/2MwWM7D
[11] Richard Dawkins,The Blind Watchmaker p 263
[12]https://www.youtube.com/watch?v=_4SnBCPzBl0
[13] https://bit.ly/2K8GyMT
[14] river  out of eden A Darwinian View of Life-Richard Dawkins-SCIENCE MASTERS-1995- p133
[15] The Oxford Handbook of Ethical Theory- Oxford University Press-Edited by David Copp- 2006  p240
[16] The Darwinian Paradigm: essays on its history, philosophy, and religious implications - Routledge - by  Michael Ruse 1989 p261-262
[17] the evolution of ethics -New Scientist , 17 october 1985- michael ruse and edward o.wilson p52
[18] Man and Superman-George Bernard Shaw,. Archibald Constable & Co.(1903)- p. 227
[19] Nazi Ideology-C. M. Vasey-University Press of America, 2006- p 51
[20] Groundwork for the Metaphysics of Morals-Immanuel kant-Yale University Press -p 48 https://bit.ly/2CSqD6G
[22] The Golden Rule - jeffrey wattles - Oxford University Press 1996- p 166
[23] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p 2
[24] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p 2
[25] [24] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p11
[26] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p19

مقدمة:
كثر كلام الملحدين -كبارهم وصغارهم- حول الأخلاق وارتباطها بالدين وكيف أنّ الأديان ضد الأخلاق أو أنّها تأمر بأفعال لا أخلاقية، وأخذ الإسلام القسم الأكبر من هذه الاتهامات، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على عظمة الإسلام واقتحامه عقولهم؛ لأنّه نزل  بساحتهم متحدياً متدرعاً بالحجة ومتسلحاً بالعقل، ولذلك لم ينشغل القوم بالأديان الضعيفة المنكسرة أمام هذا البطل العظيم الذي نزل عندهم ولم يقدروا إلا أن يرموه بسهامهم الضعيفة المنكسرة.
 وفي هذه الصفحات القليلة سوف أظهر افتقار الإلحاد لأي منهج أخلاقي يؤهله للحكم على غيره، مثبتاً بذلك وقوف الإلحاد على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، مع العلم أنّ أكثر الكلام الذي سوف أنقله قد يجيب الملحدون عليه بقولهم «ليس لنا أنبياء»، ولكن نحن هنا نهتم بمناقشة الفكر الأكاديمي، لا ما يطرحه ملاحدة شبكة الانترنت.

رسم الخطوط وتوضيح المعالم:
وقبل الشروع بالكلام لابدّ من توضيح ما هو تعريف الإلحاد هنا، وحاجتي لبيان هذا الأمر ليس إلا لكون أكثر الملاحدة جاهلين بما هو الإلحاد، فتارة يعتقدون أنّه عدم الإيمان بصحة الدين، وتارة يعتقدون أنّه التوقّف في موضوع الخالق، وتارة أخرى يعتقدون أنّه نفي الإيمان القلبي بالخالق دون الكلام عن الحقائق الخارجية.

 يعرف الفيلسوف البريطاني الملحد جوليان باجيني الإلحاد بقوله:
Atheism is in fact extremely simple to define: it is the belief that there is no God or gods.[1]
الترجمة: الإلحاد في الحقيقة يسهل تعريفه جداً: أنه غياب الإيمان بوجود خالق أو خالقين.

أقول:
 أول اعتراض سوف يواجه البحث هو التالي: طالما أنّ الإلحاد هو إنكار وجود خالق أو خالقين، فلماذا يجب على الملحد تقديم أي حجة أخلاقية أو أي منهاج أخلاقي؟
 والجواب على هذا الاعتراض هو  بتوضيح: أنّ كل اعتقاد سلباً أو ايجاباً يترتّب عليه نتائج، وإنكار الخالق يترتّب عليه نتائج عدّة، وهذه النتائج لها تأثير على السؤال الأخلاقي، فمثلاً: إنكار وجود الخالق يعني -بالضرورة- الالتزام بأنّ كل شيء موجود ناتج من أسباب طبيعية لا قصد وراءها ولا هدف، وبناء على هذا الأمر فإنّ السؤال الأخلاقي حتماً سوف يحتاج إلى جواب.
الأمر الآخر الذي يجب علينا توضيحه هو: ما تعريف الأخلاق؟ فبما أنّ الادعاء المركزي لهذا البحث هو عدم وجود منظومة أخلاقية إلحادية ثابتة،  فيجب أن نعرّف الأخلاق تعريفاً شاملاً، فنقول:
 الأخلاق اسم جامع لكل فعل صادر عن إرادة، ينقسم إلى: حسن وقبيح، فيقال: خلق حسن وخلق قبيح [2]، وسؤال الأخلاق يتعلق في التمييز بين الأفعال القبيحة والأفعال الحسنة.

ما الذي نقوله و لا نقوله:
ولأنني أعلم -مسبقاً- أنّ أغلب الملحدين لن يفهموا ما أقصده؛ لجهلهم أو لحضور الأجوبة المعلبة التي ترمى على أي مستشكل، فإنّني أجد في نفسي ضرورة توضيح ما يأتي:
 إنّني لا أدّعي أنّ الملحد غير قادر على تمييز الفعل الحسن من الفعل القبيح، كما أنّني لا أدّعي أنّ الملحد يعيش حياة لا أخلاقية، وإنما أدّعي أنّ الإلحاد كفكر - بعيداً عن أتباعه- لا يملك قواعد أخلاقية ثابتة، وأنه داخل الإلحاد -كمنظومة فكرية- يمكن تبرير أي جريمة بتبرير عقلي؛ نظراً لما يترتّب على الإلحاد من أفكار هدّامة للقواعد التي يقوم عليها أي بناء أخلاقي.

متطلِّبات الأخلاق:
المتطلِّب الأول: الإرادة
بما أنّنا عرّفنا الأخلاق على أنها  أفعال، فإنّ هذه الأفعال لا تدخل في كونها أخلاقاً إلا بوجود عوامل تؤهّلها أن تكون داخلة في مرتبة الأخلاق، وأول تلك المتطلبات وأهمها هي: الإرادة، فنحن ذكرنا في تعريفنا للأخلاق أنّها: الأفعال الصادرة عن إرادة، وتكمن أهمية الإرادة في الأفعال أنّها بمثابة الرابط بين الفاعل وأثر فعله، فإذا كان الفاعل مريداً لفعله أصبح الفاعل أيضاً مسؤولاً عن أثر ذلك الفعل، وإذا كان الفاعل غير مريد أصبح الأثر غير مقصود، لا يختلف عن تأرجح حجر مربوط بخيط يضرب من دون إرادة كل ما في طريقه، يقول الفيلسوف الأمريكي روبرت كاين:
free will is that underived origination or sole authorship is necessary for a number of other things that humans generally desire and are worth wanting Candidates for these.other goods...moral responsibility[3]

الترجمة:
الإرادة الحرة هي: النشوء غير المشتق أو الملكية الفردية الضرورية لعدد من الأمور التي يبتغيها البشر بشكل عام أو تستحق الطلب، ومن المرشحين لهذه الأمور الجيدة المسؤولية الأخلاقية.
وهذه أول عقبة في طريق أي نظام أخلاقي يعتمده الملحد، وهي: هل يؤمن الملحد أصلاً بوجود إرادة حرة؟.
ولعل قائلاً يقول: ما علاقة الإلحاد بالإرادة الحرة؟ فقد عرّفنا الإلحاد في بداية الكلام على أنه الإيمان بعدم وجود خالق، ولكن في الواقع نفي الخالق يرافقه أيضاً نتائج، وأحد تلك النتائج الالتزام بالمادية، والمقصود بالمادية، كما عرفها  الفيلسوف البريطاني الملحد جوليان باجيني:
Crude physicalism asserts that the only things that exist are material objects. A slightly less crude version is that only the objects of the physical sciences-physics, chemistry, and biology-exist [4]
-الترجمة: الفيزيائية الحادة تقول: إنّ الأشياء الموجودة هي فقط الأشياء المادية، والنسخة الأقل حدة تقول: بأن أشياء العلوم الفيزيائية ، فيزياء ، كيمياء، أحياء، هي الموجودة فقط.

ويقول أيضا:
-Most atheists are physicalists only in one rather general sense. That is to say, their atheism is motivated at least in part by their naturalism, a belief that there is only the.natural world and not any supernatural one[5]

الترجمة:
معظم الملحدين هم ماديون بالمعنى العام، أي أنّ ما نقوله: إنّ الإلحاد محفز بشكل جزئي بالمادية، وهو الاعتقاد القائل: إنّ العالم الطبيعي هو الموجود فقط، ولا يوجد عالم فوق الطبيعي.
هذا يأخذنا إلى النقطة الثانية من الكلام: الأديان متّفقة على أنّ العقل يتكّون من جزئين: جزء مادي، وجزء غير مادي، والتي تسمى بالفلسفة الثنائية dualism.

وهذا الادعاء يكلّف الملحدين كثيراً، يقول البروفيسور الأمريكي بول إل نونيز:
 More than a few philosophers and scientists actually claim that our free will is just an illusion. Perhaps they see themselves stuck between a rock and a hard place - they reject dualism (as unscientific. However, if they choose materialism (the mind emerges from the physical properties of brain) over dualism, perhaps the notion of free will must.be abandoned [6]

الترجمة:
العديد من الفلاسفة والعلماء يدّعون أنّ إرادتنا الحرة هي مجرّد وهم، وربما بسبب أنّهم يرون أنفسهم بين المطرقة والسندان، فمن جهة هم يرفضون الثنائية dualism على أنّها فكرة غير علمية، وبالمقابل إذا اختاروا المادية فيجب عليهم ربما أن يتركوا مفهوم حرية الإرادة.
ونجد أنّ علماء الإلحاد والمنظّرين له لم يدّخروا جهداً في التخلّي عن الإرادة الحرة، يقول الملحد الفيزيائي ستيفن هوكينغ:
«على الرغم من إحساسنا بالقدرة على اختيار ما نفعله إلا أنّ وعينا بالأساس الجزيئي للبيولوجيا قد أوضح أنّ العمليات البيولوجية تكون محكومة بقوانين الفيزياء والكيمياء؛ ولذلك فهي محدّدة تماماً، مثل: مدارات الكواكب، وتدعم تجارب علم الأعصاب الحديثة الرؤية القائلة: بأنّ دماغنا المادي يخضع لقوانين العلم المعروفة التي تحدّد أفعالنا، وليس لبعض القوات الموجودة خارج تلك القوانين، فعلى سبيل المثال: عند دراسة المرضى الذين أجريت لهم جراحة في المخ أثناء اليقظة، وجد أنّه بإثارة بعض الأماكن المعينة في المخ كهربائياً يمكن للمرء أن يولِّد لدى المريض رغبة في تحريك اليد أو الذراع أو القدم أو تحريك الشفاه والتحدّث، من الصعب تخيّل كيف تعمل الإرادة الحرّة إذا كان سلوكنا يحدّده القانون المادي؛ ولذلك يبدو أنّنا لسنا أكثر من آلات بيولوجية وأن الإرادة الحرة مجرد وهم».
ويزيد حدّة الادعاء الملحد وعالم الأعصاب سام هاريس، فيقول:
Free will is an illusion. Our wills are simply not of our own making. Thoughts
and intentions emerge from background causes of which we are unaware and
over which we exert no conscious control. We do not have the freedom we think .we have [8]

الترجمة:
الإرادة الحرّة هي وهم، إرادتنا ببساطة ليست ملكنا، الأفكار والنوايا تأتي من الأسباب الخلفية التي لسنا واعين لها ولا نملك أي سيطرة واعية عليها، نحن لا نملك الحرية التي نظن أنّنا نملكها.
هذا يعني ببساطة أنّ كل ما تفعله سواء كان قبيحاً أو حسناً لا إرادة لك في فعله، فلا تستحق الثواب كما أنّك لا تستحق العقاب، يوضّح ذلك أيضاً سام هاريس، فيقول:
Without free will, sinners and criminals
would be nothing more than poorly calibrated clockwork, and any conception of
justice that emphasized punishing them.. would appear utterly incongruous. And those of us who work hard and follow the rules would not-deserve- our success in any deep
sense. It is not an accident that most people find these conclusions abhorrent.
The stakes are high[9]

الترجمة:
من دون الإرادة الحرّة فإنّ المذنبين والمجرمين لن يكونوا إلا مجرد ساعة مضبوطة بشكل سيء، وأي مفهوم للعدالة يعتمد معاقبتهم سوف يكون غير لائق، والذين يعملون بجد ويتّبعون القوانين لا يستحقون النجاح، بأي معنى عميق ليس من المصادفة أنّ الناس يجدون أمثال هذه الاستنتاجات مقيتة، فإنّ الخطورة عالية.

أقول:
أنا هنا لست بصدد الكلام عن حقيقة ما يقولونه، ولكني بصدد إثبات أنّ الإلحاد كفكر مادي يرفض حرية الإرادة؛ لأنّها أمر غير مادي.

المطلب الثاني: الاستثنائية الإنسانية.
من الواضح للجميع أننا لا نطلب معايير أخلاقية من الحيوانات البرية، حتى أصبح تغيير قانون الغاب كعبارة تشير إلى تحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع حيواني مبني على القوة لا على صحة الفعل، هذا كله يعني شيئاً واحداً: إنّنا كبشر نرفع من منزلتنا فوق باقي الحيوانات ونرى أنفسنا مطالبين بمعيار أخلاقي لتصرفاتنا، وهذه الفكرة فلسفياً تسمى: بالاستثنائية البشرية:
[Human Exceptionalism]
يقول الدكتور جريج هنريكيس معرفاً الاستثنائية البشرية:
the idea that humans are unique, distinctive beings that ought to be assigned.fundamental moral value in accordance with that distinctiveness [10]
الترجمة: الفكرة القائمة على أنّ البشر فريدون وكائنات مختلفة يجب عليها أن تضع أسساً قيمية أخلاقية تتناسب مع تلك الفرادة. 
لكن هذه الفكرة لا أساس لها في عالم مادي، فالإنسان لا يتميز من الحيوان إلا بدرجة تعقيده الإحيائي التي بدورها تقود إلى تعقيد اجتماعي، عندما يوصف الإنسان بأنّه أحد أعضاء العائلة الإفريقية من الحيوانات التي تسمى:
[Hominidae]
فإنّ هذا يخبرنا بشكل مباشر بأنّ الإنسان مثله مثل أي قرد ينتمي إلى هذه العائلة غير مطالب بأي التزام أخلاقي، ومن هذا المنبع خرجت فكرة التمييز النوعي المقابل للتميز العرقي، فكما أنّ التمييز بين الأعراق البشرية يعتبر شيئاً غير مبرر عقلاً، ذهب بعض الفلاسفة إلى أنّ التمييز بين الحيوانات أمر غير مبررأيضاً؛ لأنّه لا يوجد ما يميّز نوعاً عن نوع من الحيوانات غير درجة تعقيدها الذي لا يمثل فرقاً جوهرياً، بل فرق عرضي، وسمى هؤلاء المرتكبين للتميز النوعي بال
[Speciesism]
وحتى نعرف عمق المسألة نذهب إلى دوكنز الذي يتحدّث عن حالة افتراضية، وهي وجود قرد من نوع شمبانزي في حديقة حيوانات، حيث يعتبر دوكنز أنّ قتل القرد هذا أمر مباح لصاحب الحديقة، ولكنه يقول في الوقت نفسه: إنّ التبرير الوحيد لهذه الإباحة هو أنّ الأشكال الوسيطة بين الشمبانزي والإنسان قد ماتت، يعني التدرج الانتقالي بين الإنسان وقرد الشمبانزي ميت.
The only reason we can be comfortable with such a double standard is that the.intermediates between humans and chimps are all dead[11]

أقول:
 من الواضح أنّ دوكنز يجد نفسه في مشكلة، حيث إنّ الأخلاقيات لا مبرر لعدم تطبيقها على الشمبانزي إذا كانت شيئاً ثابتاً، ولكن هذه نظرة -بحد ذاتها- استعلائية من دوكنز البشري ضد الشمبانزي، لا يوجد شيء يجعل لنا اليد العليا عليهم أخلاقياً، وبالتالي إذا كان هناك إنسان أو مجموعة بشر يريدون أن يعيشوا على الطريقة الشمبانزية فلا يوجد مانع أخلاقي حقيقي ضد هذا الأمر، وبالتالي إذا لم يثبت استثنائية البشر فنحن أمام حل واحد، وهو حيونة الإنسان، وهذه النظرة المحيونة للإنسان ليست مقتصرة على دوكنز، بل هي شائعة جداً، مثل: شيوع عبارة «الإنسان هو القرد العاري».
.[humans are just naked apes]
وقد شاعت هذه العبارة إلى حد أنّ العالم الإحيائي ديزموند موريس كتب كتابه بعنوان:
The Naked Ape: A Zoologist’s Study of the Human Animal.
القرد العاري: دراسة إحيائية للحيوان البشري.
ويوضح دوكنز أكثر، فيقول:
There is a double standard in our ethics at present, which builds a wall around our own species Homo Sapiens, which is rather un-evolutionary if you think about the fact that we are close cousins of chimpanzees, if you think about the fact that we are descended.from a common ancestor that lived only about six or seven million years ago[12]

الترجمة:
هناك ازدواجية معايير في أخلاقياتنا في الزمن الحاضر، حيث نبني جداراً حول نوعنا «الهومو سابينز»،، الذي إذا فكّرت به وتذكرت حقيقة أنّنا أولاد عمٍّ مع الشمبانزي، وإذا فكّرت بحقيقة انحدارنا من سلف مشترك عاش قبل ما يقارب من ست أو سبع ملايين سنة ستجد أنّه شيء غير تطوّري.

تلخيصاً لما سبق:
نحن نتوقّع أن يتصرف البشر بشكل أخلاقي؛ لأنّ هذا الأمر نابع من كونهم كائنات مميزة، ولكن في غياب هذا التمييز فإنّ توقّعنا هذا أيضاً لا سبب لوجوده، وبالتالي كما أنّنا لا نتوقع من قرد أو أسد أن يتصرّفوا بشكل أخلاقي، بل الأمر يثير الاستغراب إذا حصل، فكذلك نحن لا نتوقع، بل لا يجب على الإنسان حسب هذه النظرة أن يتصرّف ككائن أخلاقي.
 الآن كل هذا الكلام يعتمد على التصديق بنظرية التطور، ولكن لعل ملحد يقول: أنا لا أؤمن بنظرية التطور،-وإن كان هذا الأمر مستبعداً-، فهو أيضاً لم يجعل للإنسان أي استثنائية تميزه من باقي الكائنات الحية.
المطلب الثالث: العلاقة بين العدمية والإلحاد
المقصود بالعدمية هو: أنّ أفعالنا ووجودنا لا قيمة حقيقية لها، يقول الفيلسوف الأمريكي ألن برات:
Existential nihilism is the notion that life has no intrinsic meaning or value, and it is, no.doubt, the most commonly used and understood sense of the word today[13]
الترجمة: العدمية الوجودية هي المفهوم القائل بأنّ الحياة ليس لها أي معنى أو قيمة ذاتية، وهذا بلا شك هو المفهوم الأكثر انتشاراً للكلمة اليوم.
الآن، نحن عرّفنا الإلحاد على أنّه إنكار للخالق والالتزام بالمادية، فما علاقة هذا بالعدمية؟.
الجواب: إنّ الالتزام بالمادية يعني بالضرورة أنّ أي سؤال في الطبيعة تجيب عليه العمليات الطبيعية، ونحن نعلم أنّ الطبيعة في قرارها ليست شيئاً واعياً، بل هي مجرد أجسام مادية تتفاعل مع بعضها لكي تنتج التأثيرات التي نراها، وبالتالي الطبيعة نفسها فاقدة لأي قيمة، وهذا الأمر واضح عند الملحدين،-مثل دوكنز-، فهو يقول:
In a universe of blind physical forces and genetic replication, some people are going to get hurt, other people are going to get lucky, and you won’t find any rhyme or reason in it, nor any justice. The universe we observe has precisely the properties we should expect if there is, at bottom, no design, no purpose, no evil and no good, nothing but.blind, pitiless indifference[14]
الترجمة: في كون من القوى الفيزيائية العمياء والنسخ الجينية بعض الناس سوف يتأذون وآخرون سوف يكونون محظوظين، ولن تجد أي نسق أو سبب في ذلك، ولا عدالة الكون كما نرصده فيه المواصفات التي يجب أن نتوقعها، ففي القاع لا يوجد تصميم أو هدف، لا يوجد شر أو خير لا يوجد غير اللامبالاة العمياء.

أقول:
قد يكون هناك ملحد يدّعي الإيمان بوجود غاية ما من الوجود، فيجيب بأحد جوابين:
1- نحن من يحدد قيمة الحياة وكذلك معناها، وبالتالي يمكن للشخص أن يكون ملحداً ولا يكون عدمياً.
2- الحياة قيمة؛ لأنّها فريدة لم توجد في الكون إلا مرة واحدة، وبالتالي لها قيمة نابعة من فرادتها.

وهذان الجوابان -على الرغم من شيوعهما- في غاية السخافة، وذلك للأسباب الآتية:
أما الجواب الأول: فهو اعتراف ضمني بأنّ القيمة أو المعنى الذي سوف يضعه الشخص ليس واقعاً خارجياً، بل هو تفضيل شخصي، فمثلاً: إذا قرّرت أخذ قطعة قمامة واعتبرتها ذات قيمة عالية فذلك لن يجعلها ذات قيمة عند بقية الناس، بل عندي فقط، وبالتالي أي اعتبار نفسي لن يتحول إلى واقع فعلي، وهنا لا يمكن للملحد أن يهرب من العدمية.
أما الجواب الثاني: فهو أسوأ حالاً من الجواب الأول، إذ هو في الحقيقة يضيف قيمة للحياة ككل - في كونٍ فاقدٍ للقيمة- من خلال تطبيق مبدأ بشري على الكون، فنحن البشر -مثلاً- نعدّ الذهب قيماً؛ لأنّه نادر، ولكن كيف نبرّر لأنفسنا أن نطبّق هذا الأمر على الكون ككل؟ ونقول: بما أنّ الحياة نادرة إذن لها قيمة؟، بل ليس من الثابت أنّ الحياة نادرة أصلاً، بل إنّ في تطبيق هذا المبدأ حالة من الخلل، فهنا يتكلم الشخص عن الحياة ككل على أنّ لها قيمة، لكن أفراد الحياة فاقدو القيمة، بل يزداد فقدانهم للقيمة مع تكاثر النوع، فمثلاً: البشر اليوم أقل قيمة من البشر في الأمس؛ لأنّ أعداد البشر المولودين ازداد مثلاً هذا يعني أنّ قيمة الإنسان تنخفض وتزداد بالانخفاض، لكن عموماً هنا نريد أن نثبت أمراً واحداً، وهو أنّ الإلحاد يمكن أن يبرر العدمية على الأقل، وهنا نحن أمام عالم مجرد من أي معنى، وبالتالي سواء فعلت ما أراه صحيحاً أو خطأ، فإنّ فعلي ليس له معنى، بل حتى معاني الصحة والخطأ تصبح بلا معنى، فيكون القتل -مثلاً- هو فصل الرابطة التساهمية والأيونية بين ذرات عناصر المركب المسمى إنسان، فكما أنّ فصل قطعة حديد عن بعضها البعض ليس فيه أي مشكلة، فكذلك قطع رأس إنسان أو قتله ليس فيه أي مشكلة حقيقية في هكذا عالم، يقول الفيلسوف جيمس درير:
Nihilism is the view that there are no moral facts. It says that nothing is right or wrong,.or morally good or bad[15]

الترجمة:
العدمية هي النظرة التي تقول: بأنّه لا يوجد حقيقة أخلاقية، إنّها تقول لا يوجد شيء خطأ وشيء صحيح، أو شيء حسن أو قبيح.
كما قلت: يمكن للملحد أن يقول: أنا لا ألتزم بالعدمية، ولكن لا يمكنه أن ينكر أنّ الإلحاد يبرّر العدمية.

المطلب الرابع: المصدر الأخلاقي للإلحاد.

عندما نتكلّم عن الميول الأخلاقية للكائن الحي الإنسان في إطار مادي، فأي تفسير سلوكي أو إحيائي لا يخرج من حيز نظرية التطور؛ لأنّ السلوكيات الأخلاقية والآليات الحية للإنسان في أصلها مجرد تجسد للجينات التي مرت بسنين من الخطأ والمحاولة، يقول الفيلسوف الملحد مايكل روس:

The position of the modern evolutionist, therefore, is that humans have an awareness of morality-a sense of right and wrong and a feeling of obligation to be thus governed-because such an awareness is of biological worth. Morality is a biological adaptation no.less than are hands and feet and teeth[16]

الترجمة:

موقف علماء التطوّر المعاصرين إذن، أنّ البشر لديهم وعي أخلاق -أي الإحساس بالقبح والحسن وبالنتيجة الشعور بالواجب الحكمي-؛ لأنّ هكذا وعي فيه منفعة إحيائية، الأخلاق هي تأقلم إحيائي لا يختلف عن اليد والقدم والأسنان. أ.ه
وهذا يعني بالضرورة أمراً واحداً فقط أنّ شعورنا الأخلاقي هو في الحقيقة عشوائي ونحن نمتلكه فقط؛ لأنّه يساعدنا على البقاء، ليس له أي قيمة وراء ذلك ولا تختلف عن سده حاجة، مثل: الأكل أو الشرب أو التناسل، كلها وسائل تساعدنا على البقاء، وهذا الأمر يدركه مايكل روس نفسه، فيقول في مقال له:
...In an important sense, ethics, as we understand it is an illusion, fobbed off on us by.our genes to get us to cooperate. It is without external grounding[17]

الترجمة:
بمنظور مهم فإنّ الأخلاق كما نفهمها هي وهم فبركته جيناتنا؛ لتجعلنا نتعاون، وليس لها أي أرضية خارجية.

أقول:
إلى هنا ذكرنا أربع عقبات أمام أي نموذج أخلاقي يمكن أن يقدّمه الملحدون تبريراً لأخلاقهم، والآن نبدأ بالكلام عن النماذج التي يقدمونها فعلاً:

النموذج الأول: القاعدة الذهبية للتعاملات الأخلاقية.
يعدّ هذا النموذج أكثر النماذج التي يطرحها الملحدون منهاجاً أخلاقياً، وهو النموذج القائل [عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك] وهذا النموذج -عموماً- قائم على أساسين:
1- إنّ كل الناس تتشارك في سعيها نحو السعادة والنجاة، وهذا السعي مبني على أساس إحيائي.
2- حتى تضمن سعادتك شخصياً يجب أن تسعى لحفظ سعادة الآخرين، وبالتالي سوف يتم إعادتها إليك في وقت حاجتك إليها.
فهذه القاعدة تشبه الاستثمار في الناس على أمل أن يعود ذلك الاستثمار بفائدة لك.

المشاكل التي تواجه هذا النموذج:

بالإضافة الى كون هذا النموذج يتعرّض لما ذكرناه من أسباب عامة تجعل أي نموذج أخلاقي مضروباً، سوف نبين أسباباً خاصة بهذا النموذج؛ وكذلك نرفق توضيحات لكيفية انطباق الأسباب العامة:

1 - وسائل لا أهداف:

عندما نتكلّم عن أي نموذج أخلاقي فإنّ من أهم الأهداف التي يجب تحققها في هكذا نموذج هو كون النموذج يعترف بصحة تلك الأخلاق بذاتها لا كغاية فقط، وهذا الأمر تفشل فيه القاعدة الذهبية؛ لأنّها لا تعدّ معاملة الآخرين بذاتها صحيحة، بل النتيجة المترتبة على تلك المعاملة هي الهدف، وهذا بالتالي يحول كل الأفعال محايدة  أخلاقياً؛ لأنّك لا تنظر إلى الآخرين على أنهم غاية للمعاملة الأخلاقية، بل وسيلة، أنت تساعدهم ليس لأنّ مساعدتهم حسنة بذاتها؛ بل لأنّك تتأمل أن تعود عليك هذه المعاملة الحسنة بخير.

2 - لا تسويغ:

عندما ننظر إلى هذه القاعدة بذاتها فهي في الحقيقة لا تمثل قاعدة مسوّغة لنفسها، بل تعتمد على شعور مسبق بأننا يجب أن نعامل بعضنا البعض بدرجة من الأخلاقية، بمعنى أنّها تعتمد على وجود الأخلاق كي تصح، وليس العكس، فوجودها لا يعطي أخلاقاً، وهذا ما يجعل هذه القاعدة غير مسوّغة، وعندما سألت الملحدين في نقاشاتي معهم ما الذي يجعلني ألتزم بهذه القاعدة؟.

 قالوا: إنّ عدم التزامك بها يعني أنّك تعامل نفسك معاملة خاصة.

 وهذه هي مغالطة منطقية هنا أيضاً، إذ يفشل هذا الدفاع، فعدم الالتزام بهذه القاعدة ليس لأنّ الشخص يرى في نفسه خاصية تميّزه عن الالتزام بالقاعدة، بل لأنّ القاعدة نفسها غير ثابتة الصحة، فهو لا يرى أنّه من الواجب أن يلتزم بها الآخرون وهو لا، بل يرى أنه ليس هناك مبرر للالتزام بها مطلقاً.
 مجدداً عندما يتم مواجهة الملحد بهذا السؤال يتحول إلى القول بأنّ عدم الالتزام بهذه القاعدة يؤدي إلى مجتمع عدواني يحاول فيه الناس أكل بعضهم البعض الآخر، لكن هذا الادعاء يمكن إطلاقه على أي نموذج أخلاقي آخر دون أن يجعله صحيحاً، ويمكن حتى لأبشع الأنظمة الحاكمة بأن تبرر قمعها بأنه لحفظ المجتمع من أن ينقلب على نفسه. بالنهاية تفشل القاعدة الأخلاقية في فرض نفسها كنموذج صحيح مادام اعتمادها التام هو القبول والركون النفسي، لكي يعامل الناس بعضهم معاملة أخلاقية بمعنى أنّها تجعل القبول النفسي دليلاً على الصحة وليس القبول العقلي.

3 - النقص في هذه القاعدة:
هذه القاعدة تخبرك فقط كيف تعامل الآخرين، ولا تخبرك كيف ترد المعاملة، ولا كيف تحكم على أفعال الآخرين، فمثلاً إذا رأيت فعلاً معيناً بين شخصين لا يمكنك أن تحكم على فعلهم هل هو أخلاقي أو غير أخلاقي؛ لأنّك تجهل هل هما يقبلان وقوع الفعل على بعضهم البعض الآخرأم لا.
في الوقت نفسه لا تخبرك هذه القاعدة كيف تتصرف في حالة وقوع الفعل عليك وليس خروجه منك، فمثلاً إذا قام شخص بظلمي هل يحق لي أن أظلمه ؟.

4 - الاستثنائية البشرية:
ذكرنا سابقاً أنّ أي نموذج أخلاقي يُقدَّم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أنّ البشر هم مميزون بشكل ما، حتى يكون هذا النموذج مطلوباً منهم وغير مطلوب من غيرهم.
خذ -مثلاً- تطبيق هذه القاعدة بين الإنسان والحيوان، فلا شكّ أنّ الحيوان يرفض أن يُقتل لكي يتم أكله، وبالتالي  فإنّ قتلك وأكلك له خرق لهذه القاعدة، فأنت لم تعامل الحيوان كما تحب أن تعامل.
 الطريقة الوحيدة لبيان سبب هذا الأمر هو القول: إنّ الإنسان مميز من الحيوان، وهذا الأمر غير موجود في الإلحاد؛ لأنّ الإلحاد ينظر للإنسان كحيوان آخر يختلف في تركيبه الفسيولوجي فقط.

5 - هذه القاعدة لا تسوّغ الفداء:
أي  نموذج أخلاقي يُطرح يجب أن يبرّر كل الأخلاق وليس جزء منها؛ وعليه، فلنلقي نظرة على الأخلاق التي تؤدي إلى مقتل شخص -مثلاً- إذا قام برمي نفسه على قنبلة، لكي يحمي الناس، فهذا الفعل بلا شكّ فعل حميد، لكنه غير مسوّغ بهذه القاعدة الأخلاقية؛ لأنّ الشخص الذي رمى نفسه لا يتمنى أن يعامل بتلك الطريقة، والنتيجة هذه القاعدة تنظر لهذه الأفعال الحميدة على أنها أفعال محايدة وغير مسوّغة.

6 -هذه القاعدة تحتاج إلى قيم مشتركة عامة بين البشر:
من دون وجود قواعد مشتركة بين كل البشر تسقط هذه النظرية ولا تصح؛ ولذلك قال الكاتب جورج برنارد شو:
Do not do unto others as you would that they should do unto you. Their tastes may be.different[18]

الترجمة:
لا تعامل الآخرين كما يجب أن يعاملوك؛ لأن الأذواق تختلف.

6 - الاختلاف في التشخيص:
قد يعترض على النقطة رقم 5 بوجود مشتركات بين البشر، مثل: قبح الظلم، وهنا نحن لا ننازع في ذلك؛ لكننا ننازع بعدم وجود تشخيص للظلم، فنحن لا نعيش في عالم أفلام كارتونية حيث يفعل الشرير الشر؛ لأنّه شرير، بل نحن نعيش في الواقع وكل من يفعل الشر إما أنّه لا يرى نفسه فاعلاً للشر أو يرى أنّ فعله للشر هو في مبدأ الدفاع عن النفس، أو يعطيه مسوّغاً آخر،  يقول أدولف هتلر:
We may be inhumane، but if we rescue Germany we have achieved the greatest deed in the world. We may work injustice، but if we rescue Germany then we have removed the greatest injustice in the world. We may be immoral، but if our people is rescued we have.opened the way for morality[19]

الترجمة:
قد نكون غير إنسانيين، ولكن إذا أنقذنا ألمانيا فإننا حقّقنا أفضل صالح للعالم، قد نكون ظالمين، ولكن إذا إنقذنا ألمانيا فنحن قد رفعنا أعظم ظلم في العالم، قد نكون لا أخلاقيين، ولكن إذا أنقذنا شعبنا فإنّنا فتحنا باب الأخلاقية.
فهنا أدولف هتلر يشكّ في أنّه يفعل الظلم، ولو كان يفعل الظلم فإنّ فعله للظلم مسوّغ؛ لأنّه يريد رفع ظلم أكبر.

7 - عدم صحة الاستثناءات:
هذه القاعدة -كما نعلم- قائمة بالأساس على أنّ الشخص يجب أن يعامل الآخرين كما يحب أن يعامله الآخرون، ولا يحق له أن يستثني نفسه؛ لأنّه سوف يقع في مغالطة التوسل الخاص، أي: أنه يستثني نفسه من القاعدة؛ لأنّه يرى نفسه يملك شيئاً خاصاً يميّزه من الآخرين، ولكن على أرض الواقع نحن نعلم بوجود استثناءات خاصة نعامل بها البشر، فمثلاً: من المسوّغ عقلاً أن نقوم بحبس شخص مصاب بمرض معدٍ، ونحن لا نريد أن تتم معاملاتنا بالطريقة نفسها. وبالنتيجة: هذه القاعدة تذهب سدى في هكذا حالات، ويمكننا تصور سقوط هذه القاعدة بمثال:
القاضي يريد أن يحكم على شخص سارق بالسجن خمس سنوات، فيقول له السارق: هل تقبل أن أحبسك في السجن خمس سنوات، بالطبع القاضي لا يقبل بذلك، فكيف يقبل القاضي أن يفعل ذلك بغيره؟ حسب هذه القاعدة حكم القاضي باطل وغير أخلاقي.

وهذا الأمر ذكره الفيلسوف الأوروبي أمانويل كانط، قال:
Let one not think that the trivial quod tibi non vis fieri، etc. [What you do not want to be done to yourself do not do to another] could serve here as a standard or principle. For it is only derived from that principle، though with various limitations; it cannot be a universal law، for it does not contain the ground of duties toward oneself، nor that of the duties of love toward others ، or finally of owed duties to one another، for the criminal.would argue on this ground against the judge who punishes him[20]

الترجمة:
لا يفكّر الشخص بأنّ قاعدة لا تفعل بالآخرين ما لا تحب أن يفعل بك يمكن أن تخدم على أنها أساس أو مبدأ؛  لأنّها مشتقة من ذلك المبدأ مع الكثير من الحدود، ولا يمكنها أن تكون قاعدة عامة؛ لأنها لا تحتوي أساس  الواجبات تجاه النفس ولا واجبات حب الآخرين، والمجرم سوف يحتجّ على هذا الأساس ضد القاضي الذي يحاكمه.

8 - وجود من يقبل بوقوع بعض الأمور عليه:
ذكرنا سابقاً أنّ أذواق البشر تختلف وتشخيصهم للظلم أيضاً يختلف، وهنا نذكر إشكالاً آخر مرتبطاً بما سبق -حسب هذه القاعدة-: يكون الداعشي فاعلاً لفعل أخلاقي عندما يفجر نفسه بين الناس؛ لأنّه يريد قتل الآخرين، ويريد أن يُقتل هو أيضاً في الانفجار، وبالنتيجة يكون فعله أخلاقياً طبعاً، ولا يوجد عاقل يقول إنّ فعله أخلاقي، لكن حسب المفهوم الإلحادي يصبح هذا الفعل أخلاقي.

9 - مشكلة الوجود والوجوب:
هذه القاعدة تقول -كما بيّنّا-: إنّ البشر كلهم يتساوون في مسألة بحثهم عن السعادة والرفاهية، وهذا هو جزء الوجود من القاعدة، وبناء عليه يجب معاملة الآخرين كما تحب أنت وتريد أن تكون سعادتك ورفاهيتك. هذا هو الجزء الثاني من القاعدة والذي يسمى بالوجوب، وهو الجزء غير المبرهن عليه من قبل الملحد، وإنّما يرميه رمياً دون تسويغ.

9 - قاعدة غير معتبرة:
أخيراً، يجب أن أنبّه إلى أنّ فلاسفة الأخلاق لا يأخذون هذه القاعدة بجدية -وإن كانت منتشرة بين العامة بشكل كبير-، يقول الفيلسوف بيل بوكا وهو يتكلم عن هذه القاعدة:
We must acknowledge that the golden rule is no longer taken seriously in practice or.even aspiration، but merely paid lip service[21]

الترجمة:
يجب أن ننبّه إلى أنّ القاعدة الذهبية لم تعد تؤخذ بجدية في التنفيذ أو حتى كمصدر، ولكن يتم احترامها بشكل غير جدي.
ملاحظة: نحن لا نعدّ القاعدة خاطئة بالضرورة، ولكنها تصبح خاطئة عندما تؤخذ بمفردها دون أي عامل آخر، ولذلك هذه القاعدة منطقية جداً في إطارها الديني، بينما على حين أنّها منطقية في إطارها الإلحادي، ولهذا يقول الفيلسوف:
The golden rule cannot be the supreme principle of morality in the sense of functioning as the sole normative axiom in a deductive system of ethics، because it cannot operate in.a value vacuum.[22]

الترجمة:
القاعدة الذهبية لا يمكن أن تكون المبدأ الأعلى للأخلاق بمعنى أن تكون البديهية الأساسية في نظام استنتاجي للأخلاق؛ لأنّها لا تستطيع أن تعمل في فراغ قيمي.
النموذج الثاني: المشهد الأخلاقي:
النموذج الثاني الذي سوف أتكلم عنه هو ما قدّمه سام هاريس في كتابه
[The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values]
المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم أن يحدّد القيم البشرية؟.
ويوضّح سام هاريس هدف كتابه، فيقول:
The goal of this book is to begin a conversation about how moral truth can be understood.in the context of science.[23]

الترجمة:
الهدف من هذا الكتاب هو فتح باب النقاش حول كيفية فهم الحقائق الأخلاقية في إطار العلم.
والأساس للمنهج الأخلاقي الذي يقدّمه سام هاريس يعتمد أمرين، يقول:
argument I make in this book is bound to be controversial، it rests on a very simple premise: human well-being entirely depends on events in the world and on states of the.human brain. Consequently، there must be scientific truths to be known about it.[24]

الترجمة:
 الحجّة التي أقدّمها سوف تكون مثيرة للجدل حتماً ، ولكنها تعتمد أساسين اثنين بسيطين: السعادة البشرية معتمدة تماماً الحوادث الخارجية في العالم وحالة العقل البشري، وبالنتيجة لابدّ من وجود حقائق علمية، لكي نعرفها.
وللتوضيح فإنّ سام هاريس في كتابه يشير إلى مساحة أخلاقية على شكل قمم ووديان، القمم تمثّل أعلى ما يصله الإنسان من الراحة والسعادة والوديان أتعس ما يصله الإنسان من العناء والشقاء، وحسب سام هاريس فإنّه يمكننا أن نستعين بالعلم لكي نحدد هذه المساحة بدقّة مقبولة لا بدقة متناهية.

المشاكل:
1 - الوجود والوجوب:
بما أنّ سام هاريس يتكلم عن الواقع العلمي والواقع الأخلاقي، فهو سوف يقع حتماً بمشكلة الوجود والوجوب، وللتوضيح نقول:
العلم هو علم وصفي يصف لك كيفية حركة الكواكب، كيفية عمل القلب، كيفية عمل السيارة، لكنه لا يمكنه أن يقول لك: يجب أن تعطي الأموال للأعمال الخيرية، ببساطة العلم يعطي حقائق والأخلاق تتطلب قيماً، فمثلاً: العلم يخبرنا متى تتوقف حياة الإنسان، ولكنه لا يستطيع أن يوجد أي قيمة للحياة نفسها، بل ينظر لها كظاهرة طبيعية لا تملك أي خصوصية غير الخصوصية المادية،  وهذا الأمر يدركه سام هاريس، وليحل هذه المشكلة وضع ثلاث نقاط، يقول:
(1) whatever can be known about. maximizing the well-being of conscious creatures-which is, I will argue, the only thing we can reasonably value-must at some point.translate into facts about brains and their interaction with the world at large;
(2) the very idea of «objective» knowledge (i.e., knowledge acquired through honest observation and reasoning) has values built into it, as every effort we make to discuss facts depends upon principles that we must first value (e.g., logical consistency,.reliance on evidence, parsimony, etc.);
(3) beliefs about facts and beliefs about values seem to arise from similar processes at the level of the brain: it appears that we have a common system for judging truth and.falsity in both domains.[25]

الترجمة:
كل ما يمكن معرفته عن تعظيم السعادة للكائنات المدركة، والذي أقول: إنّه الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نقول: إنّ له قيمة عقلاً يجب في نقطة ما أن يتحول إلى حقائق عن الأدمغة وتفاعلها مع العالم ككل.
فكرة المعرفة الموضوعية نفسها [أي المعرفة التي يتم اكتسابها عن طريق المراقبة والاستنتاج الصادقين] لديها قيم داخلة فيها، فكل جهد نقوم به لمناقشة الحقائق يعتمد في داخله على قيم [مثل التناسق المنطقي، الاعتماد على الأدلة].
الاعتقادات حول الحقائق والاعتقادات حول القيم يبدو أنّها تأتي من العمليات في مستوى الدماغ نفسها، يبدو أنّنا لدينا نظام عام للحكم على الصحة والخطأ في كلا المجالين [مجال الحقائق و مجال القيم].

أقول:
هذه هي النقاط التي قدّمها سام هاريس لحل مشكلة الوجود والوجوب، لكنها في الحقيقة تعاني من إشكالات عدة، ولنبدأ بالنقطة الأولى والثانية حيث إنّ التناقض واضح؛ لأنّ سام هاريس يدّعي أنّ السعادة البشرية أو سعادة الكائنات الواعية هي الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نضع له قيمة عقلاً، ولكن في النقطة الثانية يقول إنّنا نضع قيمة للمنطق وللصدق وللأدلة، ولا يقدّم سام هاريس أي طريقة لحل هذا التعارض، فإما أنّنا نقدر فقط السعادة البشرية أو نقدر أشياء أخرى بالإضافة إلى سعادة البشر، حتى لو فكّرنا بالنيابة عن سام هاريس، فإنّ كلامه فيه مشكلة، حيث إنّه يمكننا افتراض أنّه يقصد أنّ التناسق المنطقي -مثلاً- مرتبط بسعادة الكائنات الواعية، ولكن هذا يعني -بالضرورة- أنّه يعتقد أنّ الأفكار تكون منطقية بزيادتها للسعادة البشرية، وهذا غير معقول؛ لأنّ المنطقية يجب أن تكون أمراً مستقلاً بذاته، والوجه الاخر أنّه يقصد أنّ الالتزام بالمنطقية يؤدي إلى السعادة البشرية، ولكن هذه مشكلة أكثر تعقيداً، حيث إنّه سوف يكون الشخص معذوراً عند سام هاريس إذا فكّر بأفكار غير متناسقة منطقياً طالما أنّ هذه الأفكار غير مرتبطة بالسعادة البشرية، وسوف يعامل التناسق المنطقي على أنّه وسيلة لا غاية.
وهذه ليست المشكلة الوحيدة في النقطة الثانية، فسام هاريس يفترض أنّ وجود قيم تسبق البحث العلمي يؤدّي بطريقة ما إلى جعل مكتشفات العلم بذاتها قيماً وليست مجرد حقائق، وهذا أمر غير مثبت، نعم هذه القيم تؤدي إلى حقائق، لكن تلك الحقائق ليست قيماً، ولم يثبت سام هاريس هذا الأمر.
وأما النقطة الثالثة فهي أيضاً لا تسلم من الإشكال، فهو يقول: بما أنّ عقولنا تحاكم الحقائق العلمية، مثل: الشمس طالعة، وتحاكم الحقائق الأخلاقية، مثل: تعذيب الحيوان خطأ بنفس العمليات. هذا لا يعني أنّها -الضرورة- متساوية، ولنأخذ مثالاً عملياً: العين تدرك ما هو الحصان وتدرك ما هو الجبل بالعملية الفيزيائية نفسها التي تحصل من سقوط الضوء على الجبل وعلى الحصان وانعكاسه باتجاه العين، لكن هل هذا يعني أنّ الحصان والجبل متساويان معرفياً؟ بالتأكيد لا.
يجب أن نتذكر أنّ سام هاريس لا يدّعي أنّ العلم يمكنه إخبارنا بالذي نقيم له قيمة، بل يدّعي أنّ العلم يمكنه إخبارنا بما يجب أن نقيم له قيمة.

2 - السؤال المفتوح:
يفترض سام هاريس بأنّه لا نقاش في أنّ الأخلاق يجب أن تبنى على ما يؤدي إلى سعادة الكائنات الواعية، طبعاً هو اختار كلمة سعادة الكائنات الواعية حتى يشمل الحيوانات في الصورة، ولكنه لم يبين لماذا بالضبط يجب أن نقيم الأخلاق على هذا الأساس؟  فسام هاريس يفترض افتراضاً مسبقاً أنّ أي شخص لا يسلّم له بأنّ الأخلاق يجب أن ترتبط بسعادة الكائنات الواعية، فهو بالتأكيد يعاني من مشكلة، حيث إنّه في أكثر من موضع يقارن سام هاريس الرافضين للربط بين الأخلاق وسعادة الكائنات الواعية بالمجرمين، مثل: جيفري دامر أو حضارات الازتك التي تضحي بالبشر، لكن هذا سؤال مشروع: ما الذي يجعل الأخلاق مرتبطة بسعادة الكائنات الحية وطيب عيشها؟.
بالطبع، لا جواب.

3 - وسائل لا غاية:
كما قلنا في النقاش عن النموذج الأول: إنّ الملحد لا يستطيع أن يقدّم نموذجاً أخلاقياً دون أن يعامل ذلك النموذج كوسيلة، وهنا الأمرنفسه، فسام هاريس يناقش الأخلاق ليس لأنّها أخلاق، بل لأنّها تقود إلى مجتمع يعيش بتنعّم وسعادة لا أكثر، ولكن الأخلاق بلا شك يجب أن تعامل كغاية لذاتها، لن يكون من الأخلاقي أن أرضى بالظلم فقط؛ لأنّني أريد أن أعيش بتنعّم ولا أريد أن يقع ذلك الظلم.

4 - تحديد السعادة وحسن العيش:
النقطة التي لا يجيب عليها سام هاريس أيضاً هي: إلى أي مدى يجب أن تصل هذه السعادة وحسن العيش؟، بالتأكيد الجنوب الأمريكي كان يرى أنّ العبودية تؤدي إلى ازدهار الولايات التي لم تحرّر العبيد وحسن عيشها وسعادتها، فهل يعدّ فعلهم أخلاقياً؟ سام هاريس يقول: يجب أن نعرّف السعادة وحسن العيش على مستوى عميق وشامل على قدر المستطاع، ولكن هذا الأمر يعني بالضرورة أنّ النظام الأخلاقي الذي يقدّمه هاريس هو بنفسه يحتاج إلى نظام أخلاقي يحكم من يدخل في التعريف ومن لا يدخل.
وبالإضافة إلى هذه المشاكل، هناك أيضاً المشاكل التي ذكرناها عموماً.

المحصلة:
نموذج سام هاريس الأخلاقي في الحقيقة ليس إلا محاولة يائسة جداً للهروب من الإحراج الأخلاقي الذي يقع  الملحد فيه، ببساطة هذا السؤال لا جواب له حتى الآن، ويستمر العبث الإلحادي بالقفز يميناً وشمالاً لعله يصل إلى نتيجة معينة، ولكن ما نراه هو مجرد تقديم نماذج ميتة قبل الولادة، نماذج تعاني من مشاكل منطقية مبنية على مقدمات غير مثبتة، وسوف يستمر هذا السؤال  وسيكون حجر عثرة للإلحاد كفكر، خصوصاً وأنّ الإلحاد لا يدّعي خطأ الأديان فقط، بل يدعي لا أخلاقياتها وهذا الأمر لا يخلو منه كتاب أو مناظرة مع الملحدين دون أن يدخل -على الخط-  الادعاء بأنّ الدين شرير وأنه سوف يأكل البشر الذين هم عبارة عن نعاج ضعيفة أمام الذئب المتوحش الكاسر، لكن واقع الحال إنّ الملحد -حتى لو كان غايةً في القداسة والأخلاقية- فهو لا يستطيع أن يسوّغ ذلك الأمر كما لا يستطيع قرد معين أن يبرّر رغبته بأن يحك ظهره وهذا هو محل النقاش ومكمن الإشكال، والملحد يمكنه أن يكون أخلاقياً لكنه لا يمكنه أن يبرّر لماذا هو أخلاقي.
هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

المصادر:
[1] Atheism: A Very Short Introduction - Oxford University Press, 2003.-Julian Baggini-p3
[2] اخلاق ناصري - خواجة نصير الدين الطوسي - ص 101
[3]The Significance of Free Will-Oxford University Press(1998)-Robert Kane-p80
[4] Atheism: A Very Short Introduction - Oxford University Press, 2003.-Julian Baggini-p 4
[5]المصدر السابق
[6] https://bit.ly/2n1U2k9
[7] التصميم العظيم - ستيفن هوكينغ ص43-44
[8] free will - Sam Harris -15
[9] المصدر السابق -
[10] https://bit.ly/2MwWM7D
[11] Richard Dawkins,The Blind Watchmaker p 263
[12]https://www.youtube.com/watch?v=_4SnBCPzBl0
[13] https://bit.ly/2K8GyMT
[14] river  out of eden A Darwinian View of Life-Richard Dawkins-SCIENCE MASTERS-1995- p133
[15] The Oxford Handbook of Ethical Theory- Oxford University Press-Edited by David Copp- 2006  p240
[16] The Darwinian Paradigm: essays on its history, philosophy, and religious implications - Routledge - by  Michael Ruse 1989 p261-262
[17] the evolution of ethics -New Scientist , 17 october 1985- michael ruse and edward o.wilson p52
[18] Man and Superman-George Bernard Shaw,. Archibald Constable & Co.(1903)- p. 227
[19] Nazi Ideology-C. M. Vasey-University Press of America, 2006- p 51
[20] Groundwork for the Metaphysics of Morals-Immanuel kant-Yale University Press -p 48 https://bit.ly/2CSqD6G
[22] The Golden Rule - jeffrey wattles - Oxford University Press 1996- p 166
[23] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p 2
[24] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p 2
[25] [24] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p11
[26] The Moral Landscape How Science Can Determine Human Values- Sam Harris - Free Press 2010- p19