البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نص الغدير ومديات الإمامة مقاربة نقدية لحصرية الدلالة على الإمامة الدينية

الباحث :  أ. د. محمد شقير
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  18
السنة :  شهرشوال 1440هـ / 2019م
تاريخ إضافة البحث :  July / 9 / 2019
عدد زيارات البحث :  780
تحميل  ( 1.858 MB )
من أهم الموضوعات التي كانت، وما زالت، عرضةً لأكثرَ من نقاشٍ دلالةُ نص الغدير، حيث تنوعت الآراء بين من ذهب إلى أنه يدل على المحبة وعدم العداوة، ومن ذهب إلى دلالته على الإمامة الدينيّة فقط، ومن تبنى الرأي الذي يقول بأنه يدل على الإمامة على إطلاقها سواءً السياسيّة منها أم الدينيّة، حيث يشترك الرأيان الثاني والثالث في دلالة النص على أصل الإمامة، لكنهما يختلفان في حدود هذه الإمامة ومدياتها.
هذا وسوف نعمل في هذا البحث على تقديم مقاربةٍ نقديّةٍ للرأي الثاني، الذي يذهب إلى القول بدلالة نص الغدير على الإمامة، لكنه يحصرها في الإمامة الدينية، وينفي أيَّ بعدٍ سياسيٍّ فيها.
ولكي تكون هذه المقاربة أكثر تحديداً، سوف نركّز هنا على نقد ما ذُكر في كتاب (الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ)، من ناحية كونه آخر ما صدر حتى تاريخه في تناوله لنصّ الغدير، والأهم من ذلك أن الكتاب قد عرض لجملة من تلك التساؤلات والإشكاليات، التي تنطوي ولو في بعضٍ منها على بعدٍ أكثرَ معاصرةً، سواءً في الأسلوب أو  اللغة أو المنهج أو المضمون، والتي وظّفها كاتبها بطريقةٍ تخدم السياق الاستدلالي الذي مارسه، ورأيه المتبنّى في حصر دلالة النص في الإمامة الدينيّة، حيث يقول الكاتب بعد سرده لمجموعةٍ من المبرّرات التي تدعم هذا الرأي: «... وفي ذلك دلالةٌ تاريخيّةٌ لا لغويةٌ على أنّ لحدث غدير خم دلالةً مكانيةً دينيّةً، يمكن اعتبارها إمامةً دينيّةً لجهة علم عليٍّ(ع) وزهده وكفاءته في تمثيل الرؤية الدينيّة أفضل تعبيرٍ من بين بقية الصحابة، لكن لا يمكن اعتبارها دلالة تنصيبٍ سياسيٍّ»[1].
وسوف نعمد في مقاربتنا النقديّة هذه إلى تقسيم البحث إلى قسمين. نتناول في القسم الأوّل مجمل تلك الأسس والقرائن التّاريخيّة -وغيرها-، التي استند عليها الكاتب في بنائه الاستدلالي، والاستنتاج الذي أفضى إليه؛ ونتناول في القسم الثاني مجمل تلك اللّوازم والنتائج التي تترتب على القول بحصرية الإمامة الدينيّة، والمناقشات التي ترد عليها، على أن نبدأ بالقسم الأول و مندرجاته.

أ - الأسس والقرائن:
سوف نعمد في هذا القسم  إلى عرض تلك المبررات (جملة تلك الأسس والقرائن)، التي استند عليها الكاتب في تبنّيه لذاك الرأي، ومحاولة نقدها ومناقشتها:

أمّا أهمّ تلك المبرّرات فهي مايلي:
1- النبوة والبعد السياسي: لقد بنى الكاتب مجمل فكرته تلك على اعتقاده بأن النبوة تخلو من البعد السياسي، «النبي -كما ذكرنا سابقاً- أخلى النبوة من منطقة التدبير السياسي التي تندرج ضمن عموم أنتم أعلم بشؤون دنياكم»[2].
ومن هنا لم يستطع الكاتب في قراءته نص الغدير أن يتجرد عن معتقده هذا، وإنما عمل على إسقاط هذا المعتقد على قراءته لذلك النص، وسياقاته التاريخيّة.
ومن الواضح أن هذا المعتقد يمثل أحد مباني تلك المدرسة الفكريّة في نظرتها إلى الدين والنبوة والنبي (ص)، حيث جاءت مجمل آراء الكاتب مبنيّةً على تلك المدرسة، وعقيدتها الإيديولوجيّة، وتأثره بها، وإلا فإن مقتضى الموضوعية أن يتجنب الكاتب تلك المؤثرات، وأن يُحكِم مبانيه الفكرية ذات الصلة بشكلٍ علميٍّ، قبل الخوض في تلك الإشكاليات التي تقوم عليها. 
2 - أنتم أعلم بشوؤن دنياكم: لقد بنى الكاتب معتقده ذاك على الرواية التي ذكرها في نصّه المقتبس آنفاً (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) وقراءته لها؛ لكن في ما لو تبيّن أنه لا يمكن الاستناد على تلك الرواية لإثبات ذاك المعتقد -وهو كذلك-، أو أن ذلك المعتقد الذي مارس من خلاله الكاتب إسقاطاً فكريّاً على قراءته للنصّ، هو معتقدٌ غيرُ صحيحٍ -وهو كذلك-، فمعنى ذلك انهيار الأساس الفكري الذي بنى عليه الكاتب قراءته للنص، بل والحدث التاريخيّ الذي جاء النصّ في سياقه.
إنّ من يطالع ما جاء في ذاك الكتاب ومباحثه، يدرك مدى الاستعانة بتلك الرواية لتشييد ذاك المرتكز الفكريّ، الذي يتضمّن خلوّ النبوّة من الشأن السياسيّ، بل حتّى الدنيويّ، مع ما لذلك المبنى من نتائجَ ودلالاتٍ كبيرةٍ وواسعةٍ، على أكثر من مستوى، حيث لا بدّ من تسجيل الملاحظات التالية :
أولاً: إذا أراد الكاتب الاستناد على النصوص الدينيّة لبناء ذلك المرتكز الفكريّ، فعليه أن يقوم بدراسةٍ شاملةٍ (موضوعيّةٍ) للنصوص الدينيّة، وألّا يقتصر على نصٍّ واحدٍ، ويُغفِل بقيّة النصوص ذات الصلة، إذ إنّ دلالة جملة تلك النصوص قد تكون مخالفةً لما جاء في تلك الرواية، بل هي فعلاً مخالفةٌ لها[3].
ثانياً: كان على الكاتب أن يقوم بدراسةٍ نقديّةٍ -سنديّةٍ وتاريخيّةٍ- لتلك الرواية، وأن يستخدم الأدوات المنهجيّة ذات الصلة فيها، حتّى يعلم مدى صدقيّتها العلميّة، وصحة الاستفادة منها من عدمها، قبل الذهاب إلى تشييد ذاك الحجم من البناء الفكريّ، وترتيب تلك النتائج البعيدة ودلالاتها.
ثالثاً: في الوقت الذي يرى الكاتب في مجمل الروايات أنها مختلَقةٌ، ويرفض الاعتماد عليها وعلى المنهج النقليّ العامل فيها، ويتبنّى -كما يذكر- المنهج التاريخيّ والمعقوليّة التاريخيّة لديها؛ لكنّه عندما يجد  في الروايات ما يتّسق وقناعاته الفكريّة، فإنّه يغادر منهجه ذاك، ويتنكّر له، ويتمسّك بشكلٍ واسعٍ ومستميتٍ بأيِّ روايةٍ تدعم المقصد الذي يرمي الوصول إليه.   
3 - السلطة شأنٌ قرشيٌّ: يذهب الكاتب إلى أن السلطة في الإسلام «باتت.. بعد فتح مكة وبعد وفاة النبي شأناً قرشيّاً، يتحدّد أمر تدبيرها وتداولها إلى العرف المرتكز داخل التقليد القرشي..»[4]، ليخلص من هذا إلى أن أمر السلطة وانتقالها بعد وفاة النبي (ص) بات بيد قريش؛ وهنا لا بدّ من ذكر الملاحظات التالية:
أولاً: السؤال الذي يطرح نفسه، أنه هل يمكن أن نتعقل أن النبي (ص) يرتضي أن يؤول  أمر السلطة، وتالياً الدين -لأن من امتلك السلطة هيمن على الدين- إلى قريش، التي قاتلت النبي (ص)، وعادته، وبقيت تقاتله حتى الرمق الأخير، والتي ما دخلت في الإسلام إلا مرغمةً، عندما هزمت، وأُسقط في يدها، حتى قال عنهم الإمام عليٌّ(ع) يوم صفين: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أسلموا، ولكن استسلموا، وأسرّوا الكفر، فلمّا وجدوا عليه أعواناً، رجعوا إلى عداوتهم لنا»[5]؟
وهل يعقل أن النبي (ص) وبعد الانجازات والانتصارات التي حققها على قريش، أن يعمد إلى وضع الدولة ومستقبل مشروعه الحضاري والديني، بل مستقبل رسالته ودعوته، بيد تلك القوى والفئات من قريش وبطونها، التي كانت تحمل مشروعاً يناقض مشروعه ورسالته؟.
 إنه لمن غير المعقول أن نتقّبل فكرةً مفادها أن فئتين، تحمل كل منهما مشروعاً (حضاريّاً) دينيّاً يناقض ما لدى الأخرى، اشتعلت بينهما الحروب لسنواتٍ طويلةٍ، ولم يتم ادّخار أيِّ وسيلةٍ في القضاء على الفئة الأخرى وهزمها؛ حتى إذا تمّ النصر لإحداهما، فإن قيادة هذه الفئة التي انتصرت، قد عمدت إلى تسليم مقاليد السلطة وقيادة الدولة ومشروعها الحضاري لقيادة الفئة الأخرى المنهزمة، التي وإن دخلت في المشروع المنتصر بحسب الظاهر، لكن من الواضح أنه -بالحدّ الأدنى- لا تؤتمن عليه، ولا يمكن الوثوق بها في الحفاظ على قيم ذلك المشروع الحضاري، ومضمونه، أو الاعتماد عليها في إيصاله إلى مقاصده وأهدافه.
ثانياً: لو كان الأمر مرهوناً بالتقليد القرشي والعرف المرتكز داخله؛ فلا فرق في ذلك بين ما بعد فتح مكة، وما قبلها. فلِمَ يوضع هذا الحدث فيصلاً في الأخذ بالتقليد القرشي وعرفه؟
وهنا، لا بدّ من القول، أنه من الواضح تاريخيّاً، أن قريشاً لم تكن تقبل تصدّي النبي (ص) للشأن العام والمجال السياسي قبل فتح مكة -بل هي أرغمت عليه إرغاماً بعد فتحها-؛ ومع ذلك فإن النبي (ص) لم يسايرها، ولم يركن إليها وإلى تقاليدها وأعرافها، بل قد نشبت الحروب بينه وبينها، حتى كسر تقليدها، وتغلّب على أعرافها، وهزمها في فتح مكة.
وعليه، ليس من الصحيح القول أن أمر السلطة في الإسلام مرتبطٌ بالتقليد القرشي، لأنه لو كان كذلك، لوجب أن يتماهى أمر السلطة في الإسلام مع ذاك التقليد، سواءً قبل فتح مكة أو بعدها، من دون فرقٍ، ولوجب أن يستجيب النبي (ص) لذاك التقليد من الأساس. لكن لما كانت سياسة النبي (ص) تقوم قبل فتح مكة على كسرِ التقليد القرشي الذي يتنافى ورسالته، ومخالفةِ أعراف قريش التي لا تتّسق وقيم مشروعه، فلن يختلف الحال معها بعد فتحها.
فهل يُعقل أن يواجه النبي (ص) التقليد القرشي في حال الضعف، ثم يسلّم له في حال القوّة؟ وهل يصحّ أن يُرفض ذلك التقليد في حال الحرب مع قريش، ثم يوكل أمر السلطة في الإسلام إليه في حال الغلبة والنصر عليها؟
ثالثاً: لو كان الأمر مرهوناً بالتقليد القرشي، وإرادة أقطاب قريش وزعمائها، لأزاحوا النبي (ص) نفسه عن موقع قيادة الدولة الإسلامية الوليدة والاجتماع الإسلامي العام، فلِمَ لم يركن النبي (ص) إلى تقليد قريشٍ السياسي، عندما أظهرت عداوتها له، وقاتلته؟ فلو كان الأمر مرتبطاً بتقليدها ذاك، لوجب أن يستجيب النبي (ص) لها، وأن يحترم ذلك التقليد حينها، لكن هذا لم يحصل، لا قبل فتح مكة، ولا بعدها.
إنّ قريشاً أوغلت في محاربة النبي (ص) حتى هُزمت في فتح مكة، لكن هزيمتها تلك لم تُلغِ جوهر مشروعها، ومدى عداوتها للنبي(ص) ومشروعه. كلّ ما في الأمر أن هذه العداوة لم تعد تسمح الظروف بإظهارها في النبي (ص)، فأظهرتها في وُلده، وأهل بيته[6]. وإلا لو كان الأمر مرهوناً بإرادة قريش وأقطابها، لفعلت بالنبي (ص) كما فعلت بأهل بيته، أو أقل ما كان يمكن أن تفعله هو إزاحة النبي (ص) عن موقع قيادة الدولة والشأن العام.
 لكن ما لم تستطع قريشٌ فعله مع النبي (ص) في الواقع التاريخي آنذاك، فقد حاولت بناءه معرفيّاً من خلال توظيف سلطتها لاحقاً في تقديم سردياتٍ دينيّةٍ تعيد الأمر إليها، وتخرجه من النبي (ص)، وكأن النبي (ص) نفسه قد تولى الأمر من خلال التقليد القرشي وبما ينسجم معه، حيث يتحوّل هذا التقليد إلى مصدرٍ للمشروعية السياسية، ويؤول إلى كونه بمثابة النّاظم و المحدّد للمرجعيّة السياسية في الشأن العام وأمر السلطة، في حين أن واقع الأمر لم يكن كذلك.
إن قريشاً التي عجزت عن أن تأخذ السلطة من النبي (ص) بالحرب والسيف، أرادت أن تنزعها منه بالدين وتأويله. مع أن قريشاً هذه، لو أمكن لبعض حروبها التي شنّتها على النبي (ص) أن تنجح في تحقيق أهدافها، لما أبقت على النبي (ص) حيّاً -وقد حاولت قتله مراراً- فكيف يمكن والحال هذا أن ترتضيه قائداً للدولة والشأن العام، إلا من جهة أن إرادتها قد كُسرت يوم فتح مكة، وأن مشروعها قد هزم حينها، وإن أضمرت - بسبب ذلك و غيره - تلك العداوة، وأسرّت تلك الأحقاد التي خلفتها الحروب التي نالت منها، وذلك بفعل منطق الثأر الجاهلي و ثقافته.
وقريشٌ إذ لم تستطع أن تُنفِذ عداوتها تلك في نزع السلطة من النبي (ص) في حياته، فقد اتفقت كلمتها على أن تنزعها من أهل بيته بعد وفاته، وأن تبني لتحقيق ذلك سردياتٍ دينيّةً تعيد الأمر إلى كنفها، لتستعيد به نفوذها وعزّها الذي فقدته، وتحيي به من جديد مشروعها، حتى وإن كان الطريق إليه العمل على تهميش النبي (ص) نفسه، وإضعاف موقفه، وتجاوز إرثه الذي ترك[7]، وهو ما حصل في لاحق الأيام.
رابعاً: لو كان الأمر مرتبطاً بالتقليد القرشي وأعرافه وما يقرره، فإن هذا التقليد لا يقف عند حدود السلطة السياسية، بل  يتعدى الشأن السياسي إلى الديني، حيث كان لقريش تقاليدها ومعتقداتها الدينيّة أيضاً.
وعليه، إذا كان المطلوب التماشي مع التقليد القرشي في الشأن السياسي، فلماذا لم يتم التماشي معه في الشأن الديني؟ فعلى أي أساس هذا الفصل بين الديني والسياسي، بحيث يكون الأول شأناً لا دخالة لقريشٍ به، في حين يكون الثاني شأناً قرشيّاً لا دخالة لأحدٍ به سوى قريش، التي تقرر فيه أمرها؟
فإن كان هذا الفصل قائماً على أساس الدين، بحيث أعطى الشأن الديني للنبي (ص)، والشأن السياسي لقريش، فلنعد عندها إلى النص الديني، لنرى إن كان يبرر ممارسة هذا الفصل. وهو ما يتطلب القيام بدراسةٍ دينيّةٍ، منهجيّةٍ، موضوعيّةٍ تبتعد عن الانتقائية، وممارسة الإسقاط الفكري الذي شاع وفشا في ذاك البحث. وإن كنا نرى أن هذا الفصل لا أساس له من الصحة على الإطلاق في الفهم الديني-السياسي، بل في الفعل الديني آنذاك.
وإن كان هذا الفصل قائماً على أساسٍ من التاريخ، فهو ما يتطلب القيام بأكثرَ من بحثٍ تاريخيٍّ لتبيّن مديات الوصل بين الديني والسياسي في سيرة النبي (ص) وتاريخه، والتي كانت مدياتٍ وثيقةً وشاملةً وواضحةً، بحيث لا يمكن لباحثٍ منصفٍ أن يقفز فوقها.
أما أن يُعمل على تأويل هذا الوصل بسردياتٍ دينيّةٍ، تحيله إلى وصلٍ طارئٍ؛ فهو مغادرةٌ للمنهج التاريخي إلى الديني، ونوع من الخلط بينهما، يظهر عجز ذلك البحث التاريخي عن إثبات ظرفية الوصل بين الديني والسياسي في سيرة النبي (ص) وتاريخه، فضلاً عن أن البحث التاريخي الموضوعي يؤدي -بالحد الأدنى- إلى التشكيك بجميع تلك السرديات الدينية، التي أريد منها أن تبرّر استعادة قريشٍ لدورها ونفوذها، اللذين خسرتهما في مواجهة النبي (ص) ومشروعه.
وعليه، لم يكن من الصحيح منهجيّاً الاستعانة بسردياتٍ دينيّةٍ مشكوكٍ بها -بالحدّ الأدنى- لممارسة تأويل للتاريخ، يستجيب -وقد استجاب بالفعل- لمصلحةٍ تاريخيّةٍ-سياسيّةٍ، تمثلت في محاولات قريش استعادة دورها ونفوذها؛ بل إن الصحيح منهجياً هو الاستعانة بالتاريخ -بناء على منهج الكاتب- لبحث تلك السرديات الدينية، مورد الشك، بشكلٍ علميٍّ، وموضوعيٍّ، لنرى إن كانت تلك السرديات تتوافق مع السياقات التاريخيّة الواقعيّة -وليس المتخيّلة-، أم أنها لا تتوافق معها؟
 لكن للأسف لم يفعل الكاتب هذا الأمر، وإنما هجر منهجه في هذا المورد، ومارس انتقائيةً منهجيّةً واضحةً، وعمل على تقديمِ هجينٍ منهجيٍّ، وخليطٍ دينيٍّ-تاريخيٍّ يتماهى ومسبقاته الفكريّة، والإيديولوجيا التي يحمل في الدين والتاريخ.
وخلاصة القول -بناءً على عدم الفصل بين الديني والسياسي في الواقع الاجتماعي آنذاك- إنّ الأمر لو كان خاضعاً للتقليد القرشي، لوجب أن يستجيب النبي (ص) لهذا التقليد في الدين كما في السياسة، ولكن لما وجدنا أن النبي (ص) لم يرضخ له في الدين، فمن باب أولى ألا يرضخ لهذا التقليد في السياسة، لأن من أمسك بالسلطة، تحكّم بالسياسة، وهيمن على الدين.
إنّ النبي (ص) الذي كسر قريشاً في معتقداتها وتقاليدها الدينيّة، لن يجد حرجاً في كسر تلك التقاليد القرشية في السياسة والشأن العام، وخصوصاً أن جدلية السياسة والدين التي نراها في زماننا الحاضر، قد كانت أقوى وأشدّ التصاقاً، وبدرجاتٍ بعيدةٍ، في ذلك التاريخ. وهو يعني أن استرجاع قريش لنفوذها ودورها في السياسة، سوف يؤدي إلى استرجاع ذلك النفوذ والتأثير في الدين وتأويله، وإن كان طبقاً للظروف والوقائع الاجتماعيّة والثقافيّة المستجدة.
إنّ النبي (ص) قد أتى ليغيّر جميع التقاليد البالية والباطلة سواءً في الدين أو السياسة، ولم يأت ليصبغ أيِّ شرعيّةٍ على تلك التقاليد، بما في ذلك السياسيّة منها، والتي قد تتحوّل إلى خطرٍ لا فقط على الشأن السياسي، بل أيضاً على الشأن الديني.
والذي نعتقده هو أن هذا التغيير الشامل قد حصل -على نحو المقتضي- وأن النبي (ص) قد قام بما عليه فيه، وأنه قد وضع جميع الأسس الكافية التي يقوم عليها  وينطلق منها، سواءً في الدين أو السياسة وفي مختلف مجالات الاجتماع العام، سوى أنّ الذي حصل هو أنّ قريشاً قد أعاقت ذلك التغيير الشامل ومشروعه، ونجحت في الانقلاب عليه، وتعطيل جملة مساراته، وتشويه العديد من مضامينه ومعانيه.
خامساً: لنفترض أنّ ما ذكره الكاتب حول التقليد القرشي صحيحٌ، وأنه أصبح بمثابة المرجعيّة السياسيّة ومصدر مشروعيتها في الإسلام، فما ينبغي قوله هنا هو أن هذا التقليد -على فرض صحته- يقوم على استجماع جميع مكوّنات قريش دون استثناءٍ، لكن عندما نأتي إلى الواقع التاريخي بعد وفاة النبي (ص)، نجد أن إقصاءً سياسيّاً -وغيرَ سياسيٍّ- قد مورس بحق بني هاشم عامّةً، وآل بيت النبي (ص) بشكلٍ خاصٍّ[8]، وهذا يعني أن القضية لم تكن مراعاةً لذلك التقليد القرشي، وإلا لو كان كذلك، لوجب حضور جميع مكوّنات قريشٍ، وخصوصاً بني هاشم، في صناعة القرار السياسي وعمليّة انتقال السلطة بعد وفاة النبي (ص)، لكنّ هذا لم يحصل، وهو ما يدل على أنّ القضية لم تكن تقليداً قرشيّاً يُراعى، وإنما كانت مشروعاً قرشياً، قد رأى أن اللحظة قد أضحت مؤاتيةً لاستعادة دوره، وإحياء نفسه، وإن بأدواتٍ مختلفةٍ من لغةٍ، و خطابٍ، ومفاهيمَ تنسجم والمناخ الديني الجديد في ظروفه، وثقافته، ومرجعياته المستجدة[9].
إنّ ما حصل بعد وفاة النبيّ (ص) لم يكن التزاما بذاك التقليد القرشي، وإنّما كان مخالفاً له. وهو ما يدلّ على أنّ الأمر لم يكن مرتبطاً بذاك التقليد، وأنّ قضيّة انتقال السلطة  وتداولها، لم يكن متّصلاً باحترام التقليد السياسيّ لقريش، وإنما بحسابات المصالح، والصراع على السلطة، وتسنّم ظهرها.
وقد أقرّ الكاتب بهذا الأمر عندما ذكر أن ما حصل بعد وفاة النبي (ص) لم يستند إلى قوة منطقه، وإنما إلى مزاج قريشٍ: «كان جدل الخلافة الأولى جدل المعيار الذي يجب اعتماده، في تحديد من يرث النبي، هل هي عائلته داخل قبيلته، أم قبيلته مجتمعةً. فكان أن انتصر الفهم الثاني، لا لجهة قوة منطقه، بل لأنه يعبر عن مزاجٍ وميلٍ عامّيْن لدى قريشٍ»»[10].
 وقد اعترف صريحاً بهذا الأمر، عندما ذكر أنّ ما حصل بعد وفاة النبيّ (ص) كان خروجاً عن العرف القرشيّ، حيث قال: «... إن بيعة أبي بكر... جاءت مبتورةً لجهة خروجها عن العرف القرشيّ في ضرورة إشراك جميع العائلات القرشيّة في تقرير الأمور الخطيرة، مثلما كان يحصل في دار الندوة، حيث ما كان أحدهم ليقرّر أمراً إلّا بعد التشاور بين جميع القبائل وحصول إجماع وتوافقٍ عامٍّ حوله، ما يجعل بيعة أبي بكرٍ، إجراءً سريعاً وعاجلاً، ومبادرةً مدبّرةً ومنسقةً مسبقاً مع أكثرَ من طرفٍ قرشيٍّ لمنع انتقال السلطة إلى بني هاشم. لتكون آخر الأمر سلطة الأمر الواقع»[11].
سادساً: يبدو التناقض واضحاً في كلام الكاتب، إذ إنه من جهةٍ يقول بأن تدبير السلطة بعد وفاة النبي (ص) يعود إلى «العرف المرتكز داخل التقليد القرشي»، والذي يعتمد «التشاور بين جميع القبائل وحصول إجماع وتوافق عام حوله»، لكنه يقول في المقابل بأن السلطة كانت سلطة الأمر الواقع، التي «لا يملك عليٌّ الاعتراض عليها أو رفضها إلا باللجوء إلى المواجهة المسلحة»[12]، وبأن الحرص على أخذ البيعة من الإمام عليٍّ(ع) كان «يتراوح بين الحوار والضغط المعنوي من جهة، وبين استعمال القوة ومحاولة حرق بيت فاطمة لإرغام عليٍّ والممتنعين عن البيعة أن يبادروا إلى البيعة من جهةٍ أخرى»[13].
كما يقول إنّ: «استعمال أبي بكر سلطة الإكراه بحق بني هاشم عموماً لاستكمال البيعة يؤيّد استنتاجنا بأنّ السلطة كانت سلطة الأمر الواقع، سلطة موازين القوى الغالبة والراجحة والقادرة على فرض واقعٍ سياسيٍّ جديدٍ. لم تكن الشورى معياراً حاسماً لمشروعيّة السلطة، بقدر ما كانت ذريعةً لمنح الترتيب السياسيّ الجديد مشروعيّةً اجتماعيّةً ودينيّةً. فالبيعة تكون عادة سبباً لانعقاد السلطة لا نتيجةً متأخرةً عنها، أمّا سلطة الأمر الواقع، فتعمد إلى انتزاع الاعتراف القهريّ بالسلطة من الناس، عن طريق البيعة طوعاً أو كرهاً. وهذا ما حصل فعلاً  بعد بيعة أبي بكر بحق العديد من عائلات قريش وفي مقدّمتهم بنو هاشم»[14].
ويقول أيضاً بأن سلطة الأمر الواقع قد وضعت بني هاشم «بين خيارين: إما القبول والبيعة، وإما الصدام والمواجهة المباشرة التي لن تكون لمصلحتهم بحكم العدد والعتاد»[15].
وعليه، لنا أن نسأل أنّه كيف يقول الكاتب من جهةٍ بأن الأمر كان مرهوناً بالتقليد القرشي، والتشاور، والإجماع والتوافق، ويقول من جهةٍ أخرى بأن الحصول على البيعة قد تمّ اللجوء فيه إلى القوة، ومحاولة حرق بيت فاطمة بنت النبي (ص)، والإرغام، وانتزاع الاعتراف بالقهر، والتهديد بالصدام والمواجهة المباشرة، وأنه لا مجال فيه للاعتراض أو الرفض إلّا بقوّة السلاح؟ فهل يستويان قولاً؟ إلا إذا كان يرى أنّ استعمال القوة، وأخذ البيعة بالقهر، والتهديد بالقتل والإحراق جزءٌ من العملية الديموقراطيّة، أو أنّه إحدى آليات التشاور، وطرق الإجماع، وأدوات التوافق!
إن ما أريد قوله هنا هو أن ما حصل في التاريخ قد حصل، لكن العمل على منحه مشروعيّةً دينيّةً، قد أدّى إلى نتائجَ خطيرةٍ جدّاً في بعضٍ من الوعي الإسلامي والعقل الديني، لا تقتصر حدودها عند اعتقاد البعض أن الغلبة هي إحدى مصادر المشروعية السياسية في الإسلام[16]، بل ما هو أبعد من ذلك، يتمثّل في تشريع منطق غلبةٍ، وإيجاد دينامياتٍ دينيّةٍ ثقافيّةٍ، ذاتِ محصولٍ صراعيٍّ دائم، يسهم في تعميق الانقسامات، وتغذية الصراعات، وتوليد النزاعات الاجتماعيّة والسياسيّة، وتشجيع الاحتراب الداخلي. إنه نوع من الداروينيّة السياسيّة، التي تكون السلطة فيها للأقوى، والأقدر على الأخذ بأسباب القهر والغلبة، وإخضاع الآخر بمنطق القوّة، لا بقوّة المنطق والحجّة.
لقد أدّى إسباغ الشرعية الدينيّة على ما حصل في التاريخ إلى تدشين عقيدة غلبةٍ، وثقافة صراعٍ واحترابٍ عامٍّ، أدّت إلى إيجاد مواردَ خللٍ بنيويٍّ في الوعي السياسي والاجتماعي، بل في الفكر السياسي والاجتماعي، حيث لا تكون السلطة للأصلح، والأفضل، والأقدر على إدارتها، بما يحقّق العدالة والنفع العام، وإنما لمن يملك من عديد السيف أكثر، ومن المال ما هو أثقل وأثمن. إنها أيديولوجيا قريشٍ السياسية، التي أدّت إلى ما أدّت إليه في التاريخ الإسلامي من نزاعاتٍ وحروبٍ وصراعاتٍ وفتنٍ، ما زلنا نتلمّس آثارها، ونشهد نتائجها إلى دهرنا، والأيام التي نعيش.
سابعاً: يُظهر ما تقدّم مدى التهافت في كلام الكاتب، إذ إنه من جهةٍ، للقول بعدم الدلالة السياسيّة لنص الغدير، يستند على أنّ «العرف القبلي السائد والمستحكم كان القاعدة والموجه في تداول السلطة وممارستها بعد وفاة النبي (ص)» (ص: 120)، ومن جهةٍ أخرى يقول بأنّ بيعة أبي بكر... جاءت مبتورة لجهة خروجها عن العرف القرشيّ»؛ إذ كيف نقول أنّ ما حصل بعد وفاة النبي (ص) من تداولٍ للسلطة وممارستها، قد استند إلى العرف القبلي، ثم نقول بعد صفحات بأنّ ما حصل بعد وفاة النبي (ص) من قضية البعة كان خارجاً عن العرف القرشي؟ أليس تهافتاً جليّاً أن تكون البيعة التي حصلت في السقيفة مستندةً إلى العرف القبلي وخارجةً عنه والآن نفسه؟ أو أنّ تداول السلطة قد تمّ على أساس من ذاك العرف وتنكّر له في الوقت عينه؟ 
وعلى ما تقدّم، لم يعد بإمكان الكاتب الاستناد على هذا المعطى للقول بأنّ نصّ الغدير لا يدلّ على الإمامة السياسيّة للإمام عليٍّ(ع)، إذ ليس صحيحاً القول أنّ السلطة قد أصبحت بعد وفاة النبي (ص) شأناً قرشيّاً، يرتبط بالتقليد السياسي لقريشٍ، بل الصحيح هو أن قريشاً قد لعبت دوراً أساسيّاً، ومارست ضغوطاً شتّى، لإقصاء الخلافة عن بني هاشم، وعن الإمام عليٍّ(ع) تحديداً، لدوافعَ مختلفةٍ -سوف نشير إلى بعضها تالياً-، وهي قد نجحت في ذلك، عندما استطاعت بعد مدةٍ أن تعيد تموضعها في الاجتماع الإسلامي، وأن تستعيد دورها بشكلٍ تدريجيٍّ في صناعة القرار السياسي، لتصل بعد سنوات قليلة إلى قيادة الدولة الإسلاميّة، وإلى مواقع مختلفة في هرمها السياسي، نتيجة التطورات والمتغيرات التي مهدت الطريق لها، وساعدتها في بلوغها.
إنّ الذي نعتقده هو إنّ الصراع بين النبي (ص)  ومشروعه من جهةٍ، وبين قريش ومشروعها من جهةٍ أخرى، لم يصل إلى خاتمته في فتح مكة، وإنما خمد وقتيّاً نتيجة الهزيمة القاسية التي تلقّتها قريشٌ في يوم الفتح، وإن بقي يعبّر عن نفسه بطريقةٍ أو أخرى، وينتظر شروطه المناسبة التي تعيد إنتاجه بأساليبَ مختلفةٍ، وأدواتٍ جديدةٍ، وإن بقيت الأهداف هي نفسها.
لقد نجحت قريشٌ في أمرين، بل ثلاثةٍ؛ الأول في صناعة تأويليّةٍ سياسيّةٍ-دينيّة تخدم مشروعها، والثاني في إقصاء الخلافة عن آل بيت النبي (ص) وبني هاشم، والثالث في تمهيد الطريق لوصولها إلى تلك الخلافة بعد سنواتٍ من التربّص.
لقد عزّ على قريش أن تُهزم هزيمةً قاسيةً، وأن تُكسر شوكتها، وتُخدش هيبتها، وأن تخسر تلك المكانة التي كانت لها في الجاهلية، وأن تُصبح في موقع المنقاد بعد أن كانت تقود العرب، وأن تُساس بعد أن كانت تسوس غيرها، وأن تنال منها تلك الحروب مع النبي (ص)، فيُقتل أهم رجالها من دون أن تقدر على فعل الثأر، تشفي به غيظها.
وسوف أذكر هنا بعضاً من تلك النصوص التي تظهر تلك الدوافع، التي كانت تحرك قريشاً في مواقفها من آل النبي (ص) والإمام عليٍّ (ص):
أ) يقول الإمام عليٌّ(ع): «كلُّ حقدٍ حقدته قريشٌ على رسول الله (ص)، أظهرته فيَّ، وستظهره في وُلْدي من بعدي، مالي ولقريشٍ، إنّما وترتهم بأمر الله وأمر رسوله، أفهذا جزاء من أطاع الله ورسوله إن كانوا مسلمين»»[17].
ب) ويقول عليٌّ(ع): «إنّ العرب كرهت أمر محمّد (ص)، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه... وأجمعت، مذ كان حيّاً، على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته، ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه ذريعةً إلى الرياسة، وسُلّماً إلى العز والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً...»[18].
ث) ويقول الإمام عليٌّ(ع): «اللّهم إني أستعديك على قريش، فإنهم أضمروا لرسولك (ص) ضروباً من الشر والغدر، فعجزوا عنها، وحُلت بينهم وبينها، فكانت الوجبة بي، والدائرة علَيَّ. اللّهم احفظ حسناً وحسيناً، ولا تمكّن مردة قريش منهما ما دمت حيّاً، فإذا توفيتني، فأنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيءٍ شهيدٌ»[19].
ج) ويقول عليٌّ(ع): «أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا؟ كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم..»[20].
4- التدبير السياسي ممارسةٌ عقلانيّةٌ: من المبررات التي يستند إليها الكاتب لمعتقده ذاك، أن «التدبير السياسي ممارسةٌ عقلانيّةٌ لا يحتاج بحسب طبيعته إلى معرفةٍ غيبيةٍ أو سريةٍ أو شخصيّاتٍ ذاتِ قدراتٍ فائقةٍ»[21].
وهنا لا بدّ من القول أن الكاتب قد أوحى بوجود تهافتٍ بين الديني والسياسي، بطريقةٍ يبدو فيها الديني وكأنه يخلو من تلك العقلانية التي يحتكرها السياسي وتدبيره، وفي أسلوبٍ لم يَخْلُ من التشويه المقصود، وهو يدلّ إما على قلة درايةٍ بفلسفة الدين عامّةً، وفلسفة الولاية في الفكر السياسي الشيعي[22] بشكلٍ خاصٍّ، أو على ما هو أبعدُ من ذلك، يشهد عليه الإفراط في الإسقاط الإيديولوجي، والافتقاد إلى الموضوعية في البحث.
ونقول في مقام الجواب:
أولاً: لا تنافي بين العقلانية وبين الدين في بعده السياسي، بل إن الدين في مضمونه الأصيل، بعيداً عن التأويلات التاريخيّة والمزيفة، يكتنز جوهر العقلانية ولا يفارقها.
ثانياً: ألا تقتضي العقلانيّة في بعدها السياسي أن يكون من يتولى الشأن العام -وخصوصاً في موقع قيادة الدولة والأمة ومشروعها الحضاري- ذا مواصفاتٍ عاليةٍ على المستوى المعنوي، والقيمي، والتربوي، والأخلاقي، والفكري، والعلمي، والثقافي، والنفسي، والسلوكي... بل أن يكون الأفضل في تلك المواصفات وغيرها، حتى يتسنى له ممارسة تلك القيادة، بالشكل الذي يخدم الأمة ومصالحها الواقعية؟.
ثالثاً: إن أيَّ تدبيرٍ سياسيٍّ يتأثر حكماً بالمدرسة الفكرية التي ينبثق عنها ويقوم عليها، وهو ما يدل على إن العلاقة بين الدين -كمنظومةٍ معرفيةٍ وقيميّةٍ- وبين السياسة -كتدبيرٍ وممارسةٍ- هي علاقةٌ وطيدةٌ وجوهريّةٌ، وليست كما صوّرها الكاتب.
رابعاً: لقد بلغ التبسيط الفكري مداه في هذا المورد -كما في غيره- فعن أيِّ عقلانيّةٍ سياسيّةٍ يتحدث الكاتب، سواءً في عالم اليوم، أم في التاريخ القريب والبعيد. فإذا ما عدنا إلى تلك المرحلة التي تلت وفاة النبي وما بعدها، فهل كانت السياسة تقوم على أساسٍ من تلك العقلانيّة، أم على أساسٍ من المنفعة الخاصة، وشغف السلطة والوصول إليها، وتلك الأعراف القرشية التي تنتمي إلى مقولة الجاهليّة التي تعني عدم العقلانيّة والافتقاد إلى قيمها. 
خامساً: في قوله إن التدبير السياسي لا يحتاج إلى المعرفة الغيبيّة، فإن كان يقصد أنّ الفعل السياسيّ يمكن له أن يستغني عن المنظومة المعرفيّة الدينيّة وقيمها، فهو ما يمثل وجهة نظرٍ لا توافق عليها مجمل المدارس الفكريّة في الإسلام، وإن كان يقصد أنّ الشأن السياسيّ تاريخيّاً لا يحتاج إلى الوحي، ولا يرتبط به، فإني أدعوه إلى قراءة الآيات القرآنية التي واكبت النبي(ص) في تصديه للشأن العام والسياسي منه، وإلى ملاحظة كيف أنّ الوحي قد مارس دوراً محوريّاً في بناء الاجتماع الإسلامي العام، وهدايته، وتوجيهه، وقيادته إلى مقاصده الحقة، وغاياته الصحيحة.
5- المعقولية التاريخيّة: يذكر الكاتب أنه يريد أن يعتمد المعقولية التاريخية، التي: «تصبح المعيار الأول في الترجيح بين الروايات»[23]، حيث يفسر المعقولية التاريخيّة بأنها «قياس حدثٍ جزئيٍّ على المشهد التاريخي الذي ترسمه مجموع الأحداث المتكثرة التي أخبرت عنها الوثائق والذاكرة»[24].
 ما ذكر يقتضي بيان ما يلي:
أولاً: ينبغي أن تصل مجمل المعطيات التاريخية ذات الصلة برسم ذلك المشهد التاريخي بشكلٍ كافٍ، غيرِ ناقصٍ.
ثانياً: ينبغي أن تصل تلك المعطيات بشكلٍ صحيحٍ، غيرِ مغلوطٍ.
ثالثاً: ينبغي أن تصل تلك المعطيات بشكلٍ موضوعيٍّ، غيرِ محرَّفٍ.
رابعاً: ينبغي أن يستجمع الباحث جميع تلك المعطيات، من دون أن يقصي أيّاً منها عن ميدان بحثه.
خامساً: يجب أن يتجرّد عن جميع خلفيّاته الفكريّة في قراءته للتاريخ، وتحديداً تلك التي تخرجه عن موضوعيّته في فهمه له.
سادساً: لا بدّ للباحث أن يكون فهمه للمشهد التاريخي الكلي فهماً صحيحاً، لأن هذا المشهد سوف يكونَ هو الحاكمَ على الحدث الجزئي، فلو كان فهمه له فهماً خاطئاً، فسوف ينعكس ذلك على فهم الحدث الجزئي بشكلٍ خاطئٍ.
سابعاً: يجب أن يقوم بعمليةِ وصلٍ صحيحةٍ بين ذاك الحدث الجزئي، وبين المشهد الكلي.
ثامناً: قد تكون بعض الأحداث التاريخية غيرَ منسجمةٍ ظاهراً مع تلك السياقات التاريخيّة المعلنة، وبالتالي قد يقع الباحث في التباس الوصل بينهما.
تاسعاً: كما أن المشهد التاريخي الكليّ يلقي بظلاله على الحدث الجزئي، فإن الحدث الجزئي أيضاً لن يكون يتيم الدلالة، حيث إنّ جدليةً ما قائمةٌ بينهما تأثراً وتأثيراً.
عاشراً: قد يضطر الباحث إلى خوض أبحاثٍ تاريخيّةٍ معمّقةٍ، عندما يجد أمامه أكثر من اتجاهٍ في التاريخ، وتالياً أكثر من مشهدٍ تاريخيٍّ كلّيٍّ، يؤثر على الحدث الجزئي وفهمه.
حادي عشر: لِمَ تصوير التنافي بين الدلالة اللغوية والدلالة التاريخية؟ ألم يصل إلينا التاريخ محمولاً في وعاء اللغة؟ أليست اللغة هي الحامل لمجمل ما يتصل بذاك التاريخ؟ فلِمَ يتم افتعال هذا التنافي بين اللغة والتاريخ، بطريقة يتم فيها إقصاء اللغة (دلالة تاريخيّة، لا لغوية)، وذلك عندما يرتبط الأمر بحدثٍ قد يكون إشكاليّاً أو محلَّ بحثٍ ونظرٍ؟
ثاني عشر: أليست مجمل القضايا التاريخية التي وصلت إلينا، هي أيضاً قضايا إشكاليّةٌ،  ومحلَّ بحثٍ ونظرٍ؟ فهل يصحّ عندها أن نأخذ مجمل تلك القضايا التاريخية أخذ المسلمات من وعاء اللغة، دون أن نبحث فيها، ومن ثم نقوم باعتبارها بمثابة الفيصل في ترجيح دلالة هذا النص أو ذاك، دون الأخذ بعين الاعتبار باقي المرجحات ذات الصلة؟ أين المنهج التاريخي الذي يقتضي البحث في تلك القضايا بشكلٍ موضوعيٍّ صحيحٍ قبل اعتبارها فيصلاً ومرجِّحاً؟
ثالث عشر[25]: الحدث الجزئي التاريخي له شخصيته الدلالية المستقلة، والمشهد الكلي له أيضاً شخصيته الدلالية المستقلة؛ فأن نقوم بإقصاء دلالة الحدث الجزئي بالمطلق وتعطيلها، لن يكون أمراً صحيحاً، وأن نسمح بطغيان دلالة المشهد الكلي على الحدث الجزئي، دون أن يأخذ هذا الحدث دوره في صناعة الدلالة، ليس أيضاً أمراً صحيحاً.
رابع عشر: كما أن للحدث الجزئي احتمالاته المتعددة، فإن للمشهد الكلي أيضاً احتمالاته المتعددة؛ فهل من الصحيح هنا أن نختار بشكلٍ انتقائيٍّ إحدى احتمالات المشهد الكلي لنفرضه على الحدث الجزئي؟ أم إن الصحيح هو أن نبحث أيضاً في احتمالات المشهد الكلي، لنختار منها ما يكون أوفق مع مجمل الأدلة ذات الصلة؟
وما لا بدّ من الإلفات إليه، هو أن المشهد الكلي -لو فرضنا حسم إحدى احتمالاته- كما يمكن أن يشكل نوعَ قرينةٍ في الحدث الجزئي ودلالته؛ فإن الحدث الجزئي نفسه يمكن أن يشكِّل نوعَ قرينةٍ في المشهد الكلي ودلالته.
على ما تقدم، لا غنى للباحث عن أن يستنفذ ما في اللغة من دلالاتٍ ومعانٍ إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ، ومن دون أن يغفل عن جميع القرائن التي تسهم في بناء تلك الدلالات، حتى يعمل على بناء تلك الشخصيّة الدلاليّة للحدث الجزئي، الذي قد يكون له أثره على المشهد الكلي واختيار إحدى احتمالاته.
خامس عشر: بمعزل عن التناقض الذي يتبدّي في كلامه، حيث إنه مرةً يتحدث عن خلو النبوة من التدبير السياسي، ويتحدث أخرى عن تدبير النبوة والوحي للشأن العام، فإن الكاتب يمارس انتقائيةً فاضحةً في بنائه للمرتكزات الفكرية التي تستند عليها مجمل استنتاجاته وموضوعاته، إذ إنه عندما يكون الحديث عن خلو النبوة والوحي من التدبير السياسي، فإنه يستفيد إلى حدٍّ بعيدٍ من رواية «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، ليبني عليها بناءاتٍ هائلةً في الاستدلال والاستنتاج؛ لكنه عندما يجد في مقابل تلك الرواية رواياتٍ أخرى عديدةً، تدل على أن السياسة كانت في صلب النبوة، وفي قلب اهتمامات الوحي، فإنه يطوي عنها كشحاً، ويهمل دلالاتها، ولا يسعى إلى الاستفادة منها في بناء تلك المرتكزات الفكرية، التي تؤثر حكماً في كثير من الموضوعات والنتائج.
وهنا أذكر بعض الروايات التي ذكرها الكاتب نفسه في كتابه[26]، والتي تدل على تلك الصلة بين النبوة والسياسة، حيث نقل هذه الرواية عن ابن عباس، يقول فيها: «خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره، فاتبعته، فقال لي: يا بن عباس، أشكو إليك ابن عمك (الإمام عليّاً(ع))، سألته أن يخرج معي فلم يفعل، ولم أزل أراه واجداً (غاضباً)، فيم تظن موجدته؟ قلت (ابن عباس): يا أمير المؤمنين إنك لتعلم. قال (عمر) أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة. قلت (ابن عباس) هو ذاك، إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له. فقال (عمر): يا بن عباس أراد رسول الله الأمر له...»[27].
هنا، مع أن الرواية واضحة الدلالة، -بحسب ما جاء على لسان عمر بن الخطاب، وما جاء على لسان ابن عباس، من أن الإمام علي(ع) يقول أن الرسول أراد الأمر له-، على أن النبي (ص) أراد أن تكون الخلافة لعليٍّ(ع)؛ مع ذلك تجد أن الكاتب يحاول الالتفاف على هذه الدلالة بقوله أن إرادة النبي (ص) هي مجردُ رغبةٍ «من قبيل الإرادة الشخصيّة التي يمارسها النبي كإنسانٍ فردٍ يريد ويرغب»[28].
 وهنا لا بدّ من طرح ما يلي:
أولاً: كيف علم الكاتب أن ما قاله النبي (ص) مجردُ رغبةٍ، وليس إلزاماً وتكليفاً؟
ثانياً: هل يمكن للنبي(ص) أن يريد بمعزلٍ عن إرادة الله تعالى، وتحديداً عندما يتعلق الأمر بمصير الأمة، ومستقبلها في دينها ودنياها؟
ثالثاً: لِمَ دائماً عندما يكون هناك تقابلٌ بين ما يريده النبي (ص)، وما يريده آخرون، نشهد هذا التشكيك في إرادة النبي (ص)، فيجري إحالتها إلى الرغبة الشخصيّة، وسوى ذلك من الإحالات التي تهدف إلى تبرير الالتفاف على تلك الإرادة، وتشريع مخالفتها، في حين لا نشهد هذا التشكيك في إرادة الآخرين.
وهي مقاربةٍ تهدف إلى إيجاد تبريرٍ دينيٍّ لسياقٍ تاريخيٍّ استجدّ بعد وفاة النبي (ص)، حيث  تُذكر العديد من الأدلة التي تهدف إلى تشريع ذاك السياق، وإن كانت تخالف نصوصاً قرآنيةً واضحةَ الدلالة. 
رابعاً: كيف يفسّر الكاتب العديد من الآيات القرآنية التي يُفهم منها أن كلام  النبي (ص) مجردٌ عن الأهواء والرغبات، كقول الله تعالى في كتابه العزيز عن النبي (ص) بأنه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ 3 إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ﴾[29]؛ أليس معنى ذلك أن النبي (ص) لا ينطق عن مجردِ رغبةٍ شخصيّةٍ، وأنه عندما ينطق بتولية الإمام عليٍّ(ع) كخليفةٍ له من بعده، فمعنى ذلك أن هذه التولية ليست مجردَ رغبةٍ شخصيّةٍ، وإنما هي إرادة الله تعالى ومنه؟
خامساً: وكتأكيدٍ على ما قيل آنفاً، ننقل ما ذكره الكاتب في كتابه قبل صفحاتٍ من  كلامه ذاك (ص: 101)، عن رجلٍ من بني عامر بن صعصعة، يقول للنبي (ص): «... أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال النبي (ص): «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء..»[30]؛ فهذا الرجل يسأل النبي (ص) أن تكون الخلافة لهم، فيجيبه النبي (ص) بأن الأمر إلى الله.
فالسؤال الذي يطرح نفسه، أنه كيف يقفز الكاتب عن هذا النص أيضاً، والذي يقول فيه النبي (ص) بوضوحٍ أن أمر الخلافة إلى الله -وليس إلى قريش، ولا إلى العرف المرتكز داخل التقليد القرشي-، وأنه تعالى يضعه حيث يشاء، هذا الأمر الذي لا يمكن لأحدٍ التعبير عنه سوى النبي (ص)  نفسه.
أي إن ما بأيدينا نصان -بحسب نقل الكاتب- نصٌّ يقول بأن أمر الخلافة إلى الله، ونصٌّ يقول بأن النبي (ص) قد أفصح عن أمر الله تعالى هذا بأن الخلافة هي لعليٍّ(ع)؛ لكن، مع ذلك، تجد أن الكاتب يستنتج أن أمر الخلافة لقريشٍ وليس لله، وأن النبي (ص) وإن أفصح عن أمر الله تعالى، لكنها مجردُ رغبةٍ شخصيّةٍ له، يصح تجاوزها والقفز فوقها.
والعجيب في أمر الكاتب أنه عندما يعثر على نصٍّ يدغدغ ميله الإيديولوجي يتمسك به دون هوادةٍ، ويبني عليه بناءاتٍ شاسعةً دون أيِّ بحثٍ فيه. لكنه عندما يصطدم بنصوصٍ عديدةٍ تخالف ما هو عليه من ميلٍ إيديولوجيٍّ، لا تجد أنها تحرك فيه ساكناً من استدلالٍ أو استنتاجٍ أو نظرٍ، وهو ما يدل على مستوًى من الانتقائية المنهجية في تناول النصوص، والانتقائية في الاستفادة من المراجع ذات الصلة، بل في الاتجاه الفكري الذي استند إليه في بحثه، حيث لم تكن المقاربة البحثية، في ما ذكرنا، مقاربةً علميّةً موضوعيّةً، وإنما طغى عليها الإسقاط الفكري، والخلفيات الإيديولوجية، والأهداف المرسومة سلفاً في ذهن حاملها.
وما ينبغي قوله هنا هو: كيف يمكن أن يكون ما قاله النبي (ص) مجردَ رغبةٍ شخصيّةٍ منه، في حين أنه أمر الله تعالى؟، أو هل يمكن أن تكون الخلافة أمر الله تعالى، ولا يعبّر النبي (ص) عن أمر الله تعالى، أو أن يعبّر عنه بطريقةٍ تتنافى معه؟ فهل يمكن أن يتقوّل النبي (ص) على الله تعالى بما لا يريده، وهو الذي يقول في حق نبيّه: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ 44 لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ 45 ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ﴾[31]؟
6- التنصيب السياسي وتوريث السلطة: تجد في كلام الكاتب ارتباكاً واضحاً، حيث تجده من جهةٍ يبرّر عدم الوصية لعليٍّ(ع) بأن «الذهنيات حينذاك ترى الأمور بمنظورٍ قَبَليٍّ وستفهم الوصية لعليٍّ(ع)بأنها توريثٌ للسلطة، وتحويلُ الدين ملكاً عائليّاً، لن يجد استجابةً اجتماعيّةً»[32]، وتجده من جهةٍ أخرى يفسر إرادة النبي (ص)، أن يكتب للأمة في أيامه الأخيرة كتاباً لا تضلّ من بعده أبداً،  بأن «ما أراد الإيصاء به يتعلق بوضعيةٍ سياسيّةٍ أو ترتيبٍ سياسيٍّ معيّنٍ خطيرٍ، بقرينة قوله: لن تضلوا بعدي أبداً»[33].
 لكنّه يقف عند هذا الحدّ، ولا يتابع بحثه ليسأل عن ماهية هذه الوضعيّة السياسيّة، وطبيعة ذاك الترتيب السياسي، وأيِّ ترتيبٍ سياسيٍّ كان يشغل بال النبي (ص) قبل وفاته بوقتٍ قليلٍ[34]، والأمة مقبلةٌ على فراغٍ قياديٍّ لم تشهده من ذي قبل، وقريشٌ تتربص لتنفيذ مشروع الانقلاب على الأعقاب، واستعادة مكانةٍ فقدت في مواجهة محمّدٍ (ص) يوم هزمت في فتح مكة؟  
وإذا كانت هناك مخاوفُ وتحدياتٌ في ما يتصل بالوصية للإمام عليٍّ(ع)، ألم يكن النبي (ص) يعلم بها؟ وإن كان يعلم بها، فلِمَ تجاوزها، ولم يجدها مانعاً يحول دون الإيصاء بذاك الترتيب السياسي الخطير؟ أليست محاولة النبي (ص) الإيصاء دليلاً على أنه لم يركن إلى تلك الذهنيات، وإلا لما حاول الإيصاء، والقيام بذاك الترتيب السياسي؟ وإلا لو كان الأمر مرتبطاً بتلك الذهنيات، فلِمَ أراد النبي (ص) الإيصاء، ولِمَ حاول الإقدام عليه؟
والعجيب في أمر الكاتب، أنه يجد في تراجع النبي (ص) عن الإيصاء بذلك الترتيب السياسي الخطير دلالةً قويّةً على أن ما أراد النبي (ص) الإيصاء به «ليس من الدين»[35]؛ ولا يجد، في  المقابل، في إرادة النبي (ص) بيان ذلك الترتيب السياسي دلالة على أنه من الدين!
بمعنًى آخرَ، عندما يستدلّ أحدهم بعدم البيان (التراجع عن الإيصاء) على أن البيان  (الإيصاء) ليس من الدين، فإن ما يستفاد من كلامه هذا، أنه يسلّم بأن إرادة البيان (الإيصاء) دليلٌ على كونه من الدين، إذ إن نفي النفي، يؤدي إلى الإيجاب.
وهذا ما لم يلتفت إليه الكاتب، إذ إن استنتاجه مبنيٌّ على فرضيّة الوصل بين إرادة النبي (ص) وبين الدين، حتى نقول أنّه مع عدم الإرادة (الوصية) نستفيد عدم الصلة بالدين، مع أنه -برأينا- فإن إرادة النبي (ص) الوصية يستكشف منها أنها من الدين، في حين أن تراجعه عن الوصية بسبب الموانع، التي حالت بينه وبين كتابتها -وليس من تلقاء إرادته- لا يستكشف منه أنها ليست من الدين، بل مردّه إلى تلك الموانع، وما يمكن أن يترتب عليها على أكثر من مستوًى[36].
نعم لو أن النبي (ص) تراجع من تلقاء نفسه وبمحض اختياره لأمكن للكاتب أن يدخل في ذلك النقاش، ومحاولة الاستنتاج بأن تراجع النبي (ص) يدل على أن ما أراده ليس من الدين، لكن الوقائع التاريخية تفيد خلاف ذلك، أي إن النبي (ص) قد أُرغم إرغاماً على التراجع، ولم يكن تراجعه بمحض اختياره.
وعليه، كان على الكاتب أن يستخلص من إرادة النبي (ص) الإيصاء، بأن ما أراد أن يوصي به من ترتيبٍ سياسيٍّ خطيرٍ فهو من الدين، أي إن مجرد أن يقول النبي (ص) لمن حوله أن يحضروا له كتفاً ودواةً، ليكتب لهم كتاباً، لا تضل الأمة من بعده أبداً، فإن معنى ذلك أن هذا الأمر هو من الله تعالى:
أولاً: لأن الأساس في أوامر النبي (ص) أنها من الله تعالى، وليست اجتهاداً شخصيّاً منه غيرَ ملزمٍ.
ثانياً: ماذا نفعل بالآيات القرآنية التي تدعو إلى إطاعة أوامر الرسول (ص): ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا﴾[37]، وإلى الالتزام بجميع ما أتى به أو نهى عنه: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾[38]، والتي تقرن ما بين طاعته وطاعة الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا﴾[39]، والتي تفيد أن بيان النبي (ص) مبرأ من تلك الرغبات الشخصية النابعة من الأهواء: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ 3 إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ﴾[40]... أليست هذه الآيات القرآنية دليلاً على أن أوامر النبي (ص) يجب أن تطاع، وأن يتم الالتزام بها؟ أليست هذه الآيات عامة الدلالة، بما يشمل الشأن العام، والمجال السياسي؟.
وهنا، هل من الصحيح أن نتمسك بروايةٍ مشكوك فيهاٍ -بل هي بنظرنا غيرُ صحيحةٍ- ونتجاوز النصوص القرآنيّة والروايات، التي يستفاد منها أن النبي (ص) كان معنيّاً بالشأن العام والمجال السياسي من جهة الوحي، وما جاء في القرآن الكريم؟
 هل من الصحيح أن نبني مجمل نتائج البحث على روايةٍ فيها ما فيها من إشكالاتٍ،  وتنسجم بحسب البحث التاريخي مع موقف بطون قريش من النبي (ص) وسرديتها الدينيّة، التي تسمح لها باسترجاع السلطة، ونطوي كشحاً عن العديد من الآيات القرآنيّة والروايات  التي تعارض تلك الرواية ودلالاتها؟
ثالثاً: لِمَ لا يناقش الكاتب فرضيّاتٍ أخرى تخالف ما يميل إليه، من قبيل أن ما أراد النبي (ص) تجديد بيانه هو أمرٌ دينيٌّ ذو مضمونٍ سياسيٍّ بالغ الأهميّة -وهو الخلافة-؛ لكن تراجعه عن البيان في تلك الواقعة لم يكن من جهة أن ذاك الأمر لم يكن دينيّاً، بل من جهة أن تلك المحاولة قد حقّقت أهدافها، عندما أضحى واضحاً ما الذي أراد النبي (ص) أن يوصي به من دون أن يفعل، وعندما أضحى جليّاً كيف حيل بين النبي (ص) وبين ما أراد، وأهميّة الدلالات التي يحملها صدّ النبي (ص) عن وصيته. فضلاً عن أنه كان قد عُمل على تعطيل مفعول ذاك البيان -كما عمل على تعطيل ما قبله-، وبالتالي لم يعد بيانه ذا جدوًى.
 بل قد يمكن القول، بأن النبي (ص) قد فهم من تلك الواقعة، بأنه إذا أصرّ على تنفيذ ذلك الترتيب السياسي الخطير، والذهاب في وصيته بالخلافة إلى نهايتها، فإن الأمور قد تنقلب على رسالته وأهل بيته بطريقةٍ أشدَّ، ليس من جهة أن الوصية تلك ليست من الدين، بل من جهة أنه كان هناك إصرارٌ من قريش على أن قضية السلطة والخلافة بعد وفاة النبي (ص)، يجب أن تخرج من بني هاشمٍ، مهما كلف الأمر، ومهما كانت النتائج، وهو ما ظهر في لاحق الأيام.
رابعاً: إن جوهر القضية لم يكن معرفيّاً بالطريقة التي يصورها البعض، من أن الموضوع متّصلٌ فقط بما أراد النبي (ص) بيانه، وليس بالإرادات المتصارعة لمختلف الجهات التي كانت موجودةً في الاجتماع السياسي الإسلامي آنذاك، في مقاربةٍ تنفصم عن سياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
 إن جوهر القضية يكمن في أن مشروع استعادة السلطة (دينيّةً أو سياسيّةً) التي فقدتها قريش، قد رأى أن الظروف قد أصبحت مؤاتيةً له بشكلٍ أفضلَ في الأيام الأخيرة من حياة النبي (ص) وبعد وفاته، ما أدّى إلى أن يستأنف ذلك المشروع نشاطه  ودوره، لتحقيق الأهداف التي يسعى إليها، وبلوغ المقاصد التي أرادها.
خامساً: ألا ينبغي القول بأن ذاك الصراع السياسي والاجتماعي قد كان أيضاً ذا مضمونٍ معرفيٍّ وبعدٍ دينيٍّ، بمعنى أن صراعاً معرفيّاً-دينيّاً، قد كان قائماً بين المشروع النبوي والمشروع القرشي.
ألا يمكن القول هنا بأن جملةً من تلك المقولات التي ذكرها الكاتب وتبنّاها في كتابه، قد كانت نتاجاً لذاك الصراع، من قبيل أن يقال بأن النبي (ص) ما أوصى لعليٍّ(ع)، وإن أوصى فإن وصيته كانت مجرّدَ رغبةٍ شخصيّةٍ يمكن تجاوزها، ولم تكن أمراً ملزماً، لأن أوامر النبي (ص) في الشأن السياسي ليست ملزمةً..، وذلك بهدف الالتفاف من قريش على وصية النبي (ص) لعليٍّ(ع)، وإفراغها من مضمونها، وتعطيل دورها؟
ألا يمكن القول بأنّ سردياتٍ عديدةً قد تمّ بناؤها بهدف إيجاد مبرّراتٍ معرفيّةٍ تساعد على نجاح مشروع الالتفاف على وصية النبي (ص) لعليٍّ(ع)، وقد نقل الكاتب العديد منها من دون أن يعمل فيها بحثاً وتحليلاً ونقداً وتشريحاً، أو أن يُجري فيها منهجه التاريخي، الذي نظّر له، ليعرف السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة التي أدت إلى إنتاج تلك السرديات، وكيفيّة توظيفها من قبل قريش وبطونها، وذلك التحالف الذي نشأ لإقصاء الخلافة عن بني هاشم، وعن الإمام عليٍّ(ع) تحديداً.
وحتى لا يبقى الكلام في هذا المورد مجرّدَ فرضيّةٍ لا تملك شواهدها، أذكر هنا مثالاً على إصرار قريش على حصر المشروعيّة السياسيّة (الدينيّة) فيها، ورفض أيِّ سرديةٍ دينيّةٍ تخرج هذه المشروعية منها إلى غيرها، بمعزلٍ عن الشخصيات التي تذكر هذه السردية أو تلك، لأن ما كان مطلوباً آنذاك هو الإبقاء على سرديةٍ دينيّةٍ واحدةٍ، تبرّر استحواذ قريش على السلطة وإمساكها بها، واستئثارها بالأمر بعد وفاة النبي (ص).
جاء في صحيح البخاري: «كان محمّد بن جبير بن مطعم يحدث، أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفدٍ من قريشٍ، أن عبد الله بن عمرو بن العاص يتحدث أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية، فقام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله (ص)، فأولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إن هذا الأمر في قريشٍ، لا يعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين»[41]؛ حيث الملاحظ في هذا النص:
أولاً: ردّة فعل معاوية على الحديث الذي ذُكر أنه سيكون ملكٌ من قحطان، بحيث لا يعود الأمر متصلاً بقريش، لأن معنى أن يكون ملك من قحطان، هو أن يكون من غيرِ قريشٍ، ما يؤدي إلى فقدها لحصرية المشروعيّة السياسيّة واحتكارها للسلطة
ثانياً: غضبُ معاوية من ذاك الحديث، وردّه العنيف عليه، وخوفه من أن يؤدي إلى (الأماني التي تضل أهلها)، لأن إخراج المشروعيّة السياسيّة من قريشٍ، قد يؤدي إلى توفير جملةٍ من الظروف الملائمة لوصول جهاتٍ أخرى إلى السلطة، أو إغرائها بها، تلك السلطة التي كانت تحرص قريشٌ أشدّ الحرص على استمرارها فيها وبقائها في قبضتها.
ثالثاً: إصرار معاوية على (إن هذا الأمر في قريشٍ)، ونسبته ذلك إلى رسول الله (ص)، لأن الوصل بين المشروعية الدينية- السياسية من جهةٍ وبين قريشٍ من جهةٍ أخرى[42]؛ كان يتيح للأمويين الإمساك بمفاصل السلطة، والاستحواذ عليها، إذ إن جعل تلك المشروعية لقريشٍ، كان يعني في الواقع السياسي آنذاك منح تلك المشروعية للأمويين، لأنهم من قريش، ومن أقوى مكوناتها.
رابعاً: يوضح لنا هذا النص استخدام الدين والنص الديني لصناعة المشروعية السياسية وحصرها في جهة، وسلبها عن باقي الجهات (إني سمعت رسول الله (ص)...)، حيث يصبح حديث رسول الله (ص) -سواءً كان صحيحاً أو موضوعاً- هو الفيصل في إعطاء مشروعيّةٍ سياسيّةٍ لأمرٍ ما، أو سلبها عنه؛ وهو ما كان يدفع هذه الجهة السياسية أو تلك لصناعة النص الديني، الذي يبرر استحواذها على السلطة وإضعاف خصومها.
ومن هنا أليست فرضيةً تستحق البحث أن تكون قريشٌ التي قاتلت النبي (ص) حتى هزمها، ورفضت دينه حتى غلبها، قد أقدمت على توظيف هذا الدين، وبناء سردياتها من خلاله، وذلك بهدف صناعة مشروعيّتها السياسيّة وتبرير امتلاكها للسلطة؟
 أليس ممكناً أن مجمل تلك المقولات التي استخدمها الكاتب، إنما كانت تعبيراً عن سردياتٍ دينيّةٍ قد أنتجتها قريشٌ لإيجاد مبرراتٍ دينيّةٍ-سياسيّةٍ، لصرف الملك عن بني هاشمٍ، وإقصاء الخلافة عن الإمام عليٍّ(ع)؟.
 لِمَ لم يُعمل الكاتب منهجه التاريخي لدراسة المنظومة المعرفيّة التي استخدمتها قريش لتحقيق أهدافها السياسيّة، لينظر تالياً في سوابق قريش ومشروعها، وما الذي فعلته في مواجهة النبي (ص)، وما الذي فعلته بعد وفاته، ونظرتها إلى الدين الذي جاء به، وكيف كان موقفها منه، والنصوص التي تحدثت عن تعاملها معه، وكيفية توظيفها له..؟، لينتقل من كل ذلك إلى ترجيح نصٍّ على نصٍّ، وتقديم حديثٍ على حديثٍ -بناءً على منهجه-، عندما يجد منظومةً روائيةً تعبّر عن إيديولوجيا قريشٍ ومصالحها، ويجد في المقابل منظومةً روائيةً تعبر عن معتقد أئمة أهل البيت(ع) في الدين أو السياسة، بل وما حصل في التاريخ ومجمل وقائعه.
إن قريشاً التي وجدت في دين محمدٍ (ص) مُلكاً خسرته، وعزّاً ضاع من يدها، هل كانت لتتورع عن استخدام هذا الدين لاستعادة ذاك الملك، بعد أن لاحت لها فرصتها، وأمكنها منه تبدّل الأحوال؟ وإن الدين الذي أفقد قريشاً دورها، هل كانت لتمتنع عن توظيفه -عندما يمكنها ذلك- لاسترجاع ما خسرته من عزٍّ، أو مكانةٍ، أو دورٍ؟
قريشٌ التي رفضت دين النبي (ص)، واتهمته بالسحر والجنون... وتآمرت على قتله، وحاولت ذلك، هل سوف تتورع عن أن تستخدم هذا الدين كمطية للوصول إلى السلطة، والاستحواذ عليها، عندما تجده وسيلة ضرورية إليها، ومدخلاً لا غنى عنه لبلوغها؟
وعليه، إن الكاتب، وبدل أن يعتمد على ما ذُكر آنفاً للتشكيك في جميع السرديات الدينية والسياسيّة، التي تتماهى ومصلحة قريش في إمساكها بالسلطة، وحصرها بيدها، نجده يفعل العكس تماماً، إذ يتبنّى -من دون أن يُعمل منهجه التاريخي- تلك السرديات الدينيّة والسياسيّة، التي عملت الدعاية القرشية على تثبيتها في التراث الإسلامي، ويتخذ منها أساساً لمحاكمة النصوص المخالفة، بل ولرفض أيِّ طرحٍ فكريٍّ أو روائيٍّ مغايرٍ، وبشكلٍ جِزافيٍّ. وتراه يتمسك بما كانت قريشٌ عليه من تقاليدَ وأعرافٍ وأوضاعٍ للتشكيك بجميع تلك النصوص الدينية المناوئة لتلك السرديات والمخالفة لها. فالبنسبة إليه: «كسر تقاليدها (قريش) وفرض عرفٍ سياسيٍّ جديدٍ يتحدّاها يعرض الدعوة نفسها للتصدع»[43]. لكن فات الكاتب:
أولاً: أن النبي (ص) قد كسر التقليد الديني لقريش، وبالتالي لن يكون عزيزاً عليه أن يكسر تقليدها السياسي.
ثانياً: إن ما يعرض الدعوة والرسالة إلى الخطر هو وصول قريشٍ إلى السلطة وإمساكها بناصية الخلافة، لا العكس. لأنه لم يكن آنذاك من فصلٍ بين الديني والسياسي، فضلاً عن أن الإمساك بالسياسي سوف يترك أثره الكبير على الديني، وهذا الذي حصل في مجمل مراحل التاريخ الإسلامي، وأدى إلى ما أدى إليه من فجائعَ، ما زلنا نحلب حلبها إلى الأيام التي نعيش.
 وعليه، لا بدّ من القول أن الكاتب هنا لم يكن وفيّاً لمنهجه، وقد غادره دون أدنى تردّدٍ، عندما تعلق الأمر بسردياتٍ دينيّةٍ-سياسيّةٍ يبدو أنه ينحاز إليها بشكلٍ واضحٍ. وهو لم يكن موضوعيّاً في تعامله مع تلك الفرضيات المختلفة والأطروحات المتقابلة، حيث أبدى انحيازاً واضحاً إلى إحداها من دون أن يُعمل منهجه فيها، وأظهر موقفاً سلبيّاً من الأخرى من دون أن يبحث فيها بشكلٍ موضوعيٍّ، ومنهجيٍّ صحيحٍ، يتجاوز فيه الأحكام المسبقة، والنتائج المحسومة سلفاً.
7- إعلان التولية والمكان السياسي: يذهب الكاتب في معرض بحثه لغدير خم إلى أن «هذا الإعلان (عن خلافة عليٍّ(ع)) ليس مناسباً أن يصدر إلا في العاصمة السياسيّة، المدينة أو مكة على أقل تقدير»[44].
ونقول في مقام الجواب:
أولاً: إن هذا الإعلان عن خلافة الإمام عليٍّ(ع) يرتبط بشكلٍ أساسٍ بالجمهور المخاطب، الذي يجب أن يتلقى العلم بذلك الإعلان، ويُخبر بمضمونه، حيث يصبح المكان هنا أمراً ثانويّاً، إلا بلحاظ نتائجه، وما يترتّب عليه.
والذي حصل هو أن جمهور الصحابة والمهاجرين قد كان موجوداً في غدير خم. وتذهب بعض الأقوال إلى أن عدد الذين كانوا في غدير خم من المسلمين قد بلغ مائةً وأربعةً وعشرين ألفاً من مختلف الأمصار الإسلامية آنذاك، وإن كانت هناك أيضاً أقوالٌ مختلفةٌ في الموضوع[45].
وإذا كان المطلوب هو إبلاغ ولاية الإمام عليٍّ(ع) وخلافته إلى هذا العدد الكبير من المسلمين، فهنا يصبح ذلك المكان (غدير خم) أرجح من العاصمة السياسية آنذاك (المدينة)، باعتبار أن غدير خمّ كان مفترق طرقٍ لقوافل الحجيج إلى العديد من الأمصار الإسلامية، فكانت مطلوبية إبلاغ تلك القوافل وأفرادها تتطلب عدم الانتظار بهذا البلاغ للوصول إلى المدينة، لأن مجمل تلك القوافل لن تكون موجودةً عندها، وسوف تضيع تالياً فرصة إبلاغ تلك القوافل التي يعدّ أفرادها بالآلاف أو عشرات الآلاف، والذين سوف يتحولون إلى رواةٍ لهذا الخبر، وناقلين لذاك الحدث، بحيث يصعب طمسه أو إخفاؤه، وإن لم توفر الدعاية القرشية لاحقاً من محاولات عبثها المعرفي أيَّ معطًى دينيٍّ، بما فيه هذا الحديث، فإن لم تستطع طمسه، تعمل على تأويله، وهو ما حصل في لاحق الأيام.
أما تأخير الإعلان عن مكة، فقد يكون تحسّباً لقريشٍ ودورها، وتحوُّطاً من ردات فعلها، عندما ينزل عليها هذا الخبر مباشرةً من النبي (ص) وفي عقر دارها (مكة). ولعلّه أيضاً لتهيئة ظروفٍ أفضلَ لدى الجمهور المتلقي للبلاغ، عندما يكون أبعد عن الدعاية القرشية، وتأثيرها، ومحاولاتها الالتفاف على خطوات النبي (ص)، وتعطيلها، في سعيها إلى إقصاء الخلافة عن آل البيت(ع)، حيث سيكون الموقف خارج مكة أبعد عن تلك العناصر (قريش)، التي تعمل على محاولات التشويش والتعطيل، وعن المناخات التي قد تثيرها، وعن تلك البيئة الجغرافيّة-الاجتماعيّة التي قد تكون عاملاً مساعداً على ذاك الفعل وإنجاحه.
ثانياً: عندما يكون الأمر متصلاً بالوحي ونزوله، قد يصح القول أنّه وإن كان مرتبطاً بالزمان والمكان، لكن في الوقت نفسه يتعالى عليهما. هنا يصبح الكلام أكثر عما جاء في الوحي، وما نزل في كلام الله تعالى، وما بلّغ به رسول الله وأمر به، حيث تغدو بقية الحيثيات ذات الصلة شؤوناً فرعيةً لجوهر القضية ومضمونها. فأن يُتأكد أن الوحي قد نزل، وأن الرسول قد بلّغ، وأنه قد أفصح عن مراده في الخلافة والولاية، فهنا تتم الحجة، ويحصل المطلوب، ولا يبقى لأيِّ حيثياتٍ أخرى من دورٍ، إلا من حيث إسهامها في تكوين الدلالة، كقرائنَ عليها.
وإن أمكن القول أن محاولات الالتفاف على دلالة نص الغدير لن يعيقها أيُّ عائقٍ. وما يشهد على ذلك، أن التأويل الذي قُدّم لنص الغدير لصرفه عن دلالته على الخلافة لعليٍّ(ع) لن يتأثر في كون هذا الإعلان عن الخلافة قد حصل في مكة، أو في المدينة، أو في أيِّ مكانٍ آخرَ. فعندما يقال مثلاً إن ذاك النص قد أتى «لمعالجة قضيّةٍ جزئيّةٍ تتعلق بشكوى بعض الناس من قسوة عليٍّ(ع) أو خشونته عليهم»[46]، فهذا التأويل لن يتأثر سواءً قلنا أن الإعلان ذاك قد حصل في غدير خم، أو في المدينة، إذ إن المكان السياسي عندها لن تكون لديه القدرة على تعطيل ذلك التأويل، الذي قزّم جميع ما حصل في غدير خم ودلالاته في قضيّةٍ جزئيّةٍ، وحصره فيها.
إن ما نعتقده هو أن جوهر القضيّة يتّصل بالاستعداد لتقبل خلافة الإمام عليٍّ(ع) أو رفضها، ودور قريش ومجمل العوامل والعناصر الأخرى في الالتزام بأوامر النبي (ص) من عدمها. وما يدلّ على ذلك هو أن النبي (ص) نفسه وفي عاصمته السياسية -بل في بيته- قد تمّ منعه من أن يكتب كتاباً للأمة لا تضلّ بعده أبداً، وقد قيل في تبرير هذا المنع كلامٌ قاسٍ بحق النبي (ص) وفي محضره، ومع ذلك لم يحصل شيءٌ استثنائيٌّ، بل قد أرغم النبي (ص) حينها على عدم كتابة ذلك الكتاب للأمة، لأنه كان المتوقع أن يحمل هذا الكتاب مضموناً سياسيّاً (دينيّاً) بحق الإمام عليٍّ(ع) وأهل البيت (ع) عامّةً. فهل حالت الظرفية المكانية للعاصمة السياسية للمسلمين آنذاك (المدينة)، من محاولة منع النبي(ع) من كتابة ذاك الكتاب، الذي قال عنه النبي (ص) بأنه سوف يحول دون أن تضلّ أمته من بعده؟ وهل حال وجود النبي (ص) في بيته، وفي أشدّ الساعات حساسيّةً وأهميّةً من حياته (قبل وفاته بقليل) من الجرأة عليه، واتهامه بالهجر، ومن منعه من كتابة وصيته للأمة، ومن فعل ما يعصم الأمة من الضلال، ولربما أيضاً التنازع والفرقة؟
ثالثاً: إن حصول الإعلان بل والتنصيب السياسي في غدير خمّ، لا يتنافى مع أكثر من إعلانٍ سابقٍ، ولاحقٍ، وفي مواطنَ شتّى، بما في ذلك في العاصمة السياسية (المدينة). فإذا كان لغدير خمٍّ تلك الخصوصيّة في ذلك الزمان بعد حجة الوداع، كمجمعٍ لمختلف جموع المسلمين وقوافلهم قبل تفرُّقها إلى أوطانها، فإن أكثر من تأسيسٍ وتأكيدٍ قد صدر من النبي (ص) في أكثرَ من مكانٍ، بما في ذلك في العاصمة السياسية (المدينة)، في ما يتّصل بخلافة الإمام عليٍّ(ع) له، وفي ظروفٍ مختلفةٍ، ولشخصيّاتٍ أو جموعٍ عديدةٍ من الصحابة، بمن فيهم من كان في الدائرة الضيقة حول النبي (ص).
وعليه لم يوفّر النبي (ص) العاصمة السياسيّة، ولا أيَّ ظرفٍ سياسيٍّ أو غيرَ سياسيٍّ ملائمٍ للتأكيد على تلك القضيّة، وبيانها، والإفصاح عنها، حيث إن المشكلة لم تكن في نقص البيان أو عدم وضوحه، ولا في حيثيات الزمان أو المكان أو سوى ذلك، إنما كانت في موردٍ آخرَ، أفصح عنه لاحق الأيام، عندما عادت قريش إلى الموقع الذي خرجت منه، وذلك بعد وفاة النبي (ص)، وبعد أن توفرت لها الظروف المساعدة لاستعادة نفوذها وتأثيرها، إلى حين الإمساك الكامل  بالسلطة وجميع مفاصلها من قبل من كان أشدّ عداءً للنبي (ص)، عندما أمكن للأمويين تسنّم مواقعَ عديدةٍ في الدولة الإسلاميّة، والعمل على استغلالها وتوظيفها للوصول إلى أعلى موقعٍ في تلك الدولة وهرمها السياسي.
رابعاً: إن القول الذي أتى به الكاتب يحمل في طياته قياساً للماضي على الحاضر من حيث التقاليد السياسية، والأعراف السياسية، بل أيضاً مجمل القوانين ذات الصلة.
بمعنى أن الكاتب يحاول أن يفهم الواقع السياسي التاريخي، ومجمل ما يتصل به، من خلال ما يحمله في ذهنه حاليّاً من تقاليدَ وأعرافٍ سياسيّةٍ، وقوانينَ تعمل بها مجمل الدول والجهات السياسية ذات الصلة في الواقع السياسي المعاصر. وهو، قد يكون، غيرَ مدركٍ أن تغيّر الزمان يحمل في طياته متغيّراتٍ أساسيّةً ومختلفةً يجب أن تلحظ، فلعلّه لم يلتفت إلى أن التقاليد والأعراف السياسيّة تختلف بين زمنٍ وآخرَ، بل بين مكانٍ وآخرَ، وأن ما هو موجودٌ اليوم، ويعدّ أساسيّاً أو ضروريّاً بحسب التقاليد أو الأعراف السياسيّة وغيرها، قد لا يكون موجوداً قبل دهرٍ من السنين، وأن ما كان قائماً بالأمس، لم يعد موجوداً اليوم، وخصوصاً عندما يكون الفاصل الزمني يربو على الألف عامٍ ونَيِّفٍ.
نعم قد يصعب علينا اليوم تصور أن تتم عملية تداول السلطة، أو التنصيب السياسي والإعلان عنه في واقعنا المعاصر خارج العاصمة السياسيّة، لكن من قال أن الأمر كان كذلك في ذلك الواقع السياسي قبل ألف عامٍ من الزمن؟
 في واقعنا السياسي المعاصر والحديث، توجد مؤسّساتٌ دستوريّةٌ -لها حيّزٌ مكانيٌّ- في العاصمة السياسية، قد لا يكون متاحاً في الظروف الاعتيادية أن تتم أيُّ عمليّةٍ سياسيّةٍ ذاتِ صلةٍ خارجها، لكن هل كان الأمر كذلك في ذلك الواقع السياسي قبل ألفِ عامٍ، من حيث التقاليد والأعراف والقوانين الخاصة به؟
وعليه، ليس من الصحيح منهجيّاً أن نعي الواقع السياسي التاريخي وتمثلاته، بذهنية الواقع السياسي المعاصر، من دون لحاظ الفوارق الزمانيّة والمكانيّة، وما تحمله من فوارق في الأعراف، والتقاليد، والقوانين السياسيّة، أو الاجتماعيّة ذات الصلة.
وحتى لو سلمنا بوجود شيءٍ مما قاله الكاتب في ذاك التاريخ السياسي، يستدعي أن يكون الإعلان في العاصمة السياسية للمسلمين آنذاك، مع ذلك نقول أن هذا الأمر -لو فرضنا صحته- كان يمكن أن يتم في غير حال الضرورة، أو الظروف الاستثنائية، التي قد تستدعي إجراءً مختلفاً، وفي غير حال المصلحة الراجحة التي قد تتطلب تدبيراً مغايراً.
وعليه -لو سلمنا بصحة ما قاله الكاتب- يمكن القول أن مصلحةً راجحةً تتصل بحيثياتٍ مختلفةٍ -أشرنا إليها سابقاً- تطلبت تجاوز ذلك التقليد السياسي -على فرض وجوده- ليكون الإعلان عن ذاك التنصيب السياسي خارج مكة، وقبل الوصول إلى المدينة، فكان غدير خمٍّ الموقع الأفضل، لما حمله من أكثر من خصوصيّةٍ ومرجِّحٍ آنذاك.
والعجيب هو أن الكاتب على الرغم من إفراطه في التنظير للمنهج التاريخي، فإنه لم يستطع هنا أن يلحظ إحدى بديهيّات البحث التاريخي، وهي أن تفهم التاريخ بذهنية لحظته، لا أن تفهمه بذهنية اليوم الذي أنت فيه، وإلا سوف تقع في أكثرَ من إسقاطٍ معرفيٍّ وسياسيٍّ واجتماعيٍّ، وهو الذي وقع فيه الكاتب وأفرط.
خامساً: لقد ذكر الكاتب نصّاً دينيّاً[47] يحمل في مضمونه جدلاً وحيانيّاً (بين النبي (ص) والوحي)، يصلح إلى حدّ بعيد للإضاءة على حقيقة اللحظة السياسيّة والاجتماعيّة التي كانت سائدةً آنذاك، ويلفت بشكلٍ قويٍّ إلى طبيعة الظروف السياسيّة وغير السياسيّة، التي اكتنفت عملية تبليغ الوحي بالتنصيب السياسي للإمام عليٍّ(ع) وخلافته.
لكن الكاتب لم يعمد إلى وضع هذا النص -وغيره من النصوص الدالّة ذات الصلة- في سياقاته التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ليستخلص منه مجمل الدلالات التي يحملها، وإنما عمد إلى تأويله بالاتجاه الذي يخدم الفكرة التي يحملها، وقناعاته المسبقة حول ذاك الموضوع، عندما رأى أن ما يفهم من تلك الرواية هو : «محوريّة قريش في الشأن السياسي، وأن كسر تقليدها وفرض عرفٍ سياسيٍّ جديدٍ يتحداها يعرّض الدعوة نفسها للتصدع»، رافضاً أيِّ قراءةٍ أخرى لهذا النص من دون أن يستعرضها، ويناقش إمكانيّتها     -بل أرجحيّتها- التاريخيّة على ضوء مجمل القرائن ذات العلاقة، واصفاً -كعادته- ما خالف قراءته هذه بالخيال والخيالي، على الرغم من إقراره أنّ ما حصل في السقيفة كان بنفسه كسراً لتقليد قريشٍ وعرفها، ولم يكن تعبيراً عنه، فكيف  يكون لكسر تقليد قريش تلك النتائج الوخيمة عندما يكون الأمر متصلاً بخلافة الإمام عليٍّ(ع)، ولا يكون له تلك النتائج نفسها عندما يكون الأمر متصلاً بخلافة غيره؟ وهو يعني أنّ القضيّة تتجاوز التقليد القرشيّ إلى ما هو أبعد منه. 
لكن في واقع الأمر، فإن أدلّةً تاريخيّةً كثيرةً تحملها وفرةٌ من الشواهد والنصوص، تفيد أن قريشاً قد أجمعت أمرها -بالإضافة إلى قوًى مختلفةٍ في الاجتماع الإسلامي آنذاك- على ألا تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم. وقد كان ذلك موقفاً سياسيّاً يتصل بالسلطة والتطلّع للوصول إليها، والذهنية الاجتماعية والسياسية حينها، ولم يكن موقفاً ذَا خلفيّةٍ دينيّةٍ يتصل بما يمكن أن يأتي به -أو لا يأتي به- الوحي.
بمعنى أن أسباباً عديدةً -ذكرنا بعضاً منها- كانت تدفع قريشاً لصرف الخلافة عن بني هاشم، بمعزلٍ عن قضية الوحي، وما يمكن أن يأتي به. وقد كان النبي (ص) يدرك ذلك تماماً، وكان يخشى على رسالته من قريشٍ وغيرها، في حال أصرّ على تبليغ الوحي بالخلافة والتنصيب السياسي للإمام عليٍّ(ع)، وأنه سوف يُتهم عندها بمحاباة أهل بيته وتقديمهم على الناس، وإمكانية أن يُستغل هذا الأمر في تأجيج جميع الحساسيات الاجتماعية، واستثارة جميع القيم الجاهلية للانقلاب على هذا الإعلان، ودفع مختلف الفئات المجتمعية حينها لمواجهة ذاك التبليغ، وما يحمله من مضمونٍ سياسيٍّ.
لقد كان النبي (ص) يخشى ذلك، ويحسب للارتدادات التي يمكن أن يخلفها على رسالته التي جاء بها، وللتداعيات التي يمكن أن ترتد على موقع النبوة نفسها، لأن قريشاً كانت قد عزمت أمرها في الذهاب إلى أبعد مدًى في مخالفة هذا القرار الذي جاء به الوحي، بمعزلٍ عن مجمل النتائج التي قد تسببها تلك المخالفة، وما يمكن أن تصيب به النبوة وموقعها من أضرارٍ وتشوّهاتٍ.
ومن هنا يمكن القول أن توثيق ذلك الجدل الوحياني –بما يشتمل عليه من تعبيرٍ عن مخاوف النبي (ص) ومراميه - وما يحمله من دلالاتٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ، ودينيّةٍ، تتصل بالواقع السياسي والاجتماعي التاريخي آنذاك، هو أكثر أهميةً من حيث إسهامه في تكوين دلالة النص ذي الصلة، من إسهام تلك القرينة المكانية المتمثلة بظرفية العاصمة السياسيّة للمسلمين -أو مكّة- لذلك الحدث والإعلان السياسي.
بمعنى أن حصول ذلك الجدل الوحياني حول التبليغ بالخلافة للإمام عليٍّ(ع)، وطلب النبي (ص) المتكرر من الله تعالى العصمة من الناس، سوف يسهم في بناء دلالةِ النص الديني-التاريخي، المتمثل بحديث الغدير، بشكلٍ أقوى، في قبال تلك السرديات الدينية، وغير الدينية، التي يمكن أن تختلقها قريش في تأويلها لذلك النص والتفافها عليه، ومحاولة صرفه عن دلالته في الخلافة للإمام عليٍّ(ع)؛ بالمقارنة مع ما يمكن أن تسهم به قرينة المكان (العاصمة السياسيّة) في قبال تلك السرديات ومواجهتها.
أي إنه إذا كان الخيار ما بين حصول ذلك النص خارج مكة، مقروناً بذلك الجدل الوحياني وما يحمله من دلالاتٍ وقدرةٍ على مواجهة سرديات قريش المرتقبة، وبين حصول ذلك النص داخل مكة خالياً من ذلك الجدل الوحياني ودلالته، فإن المتعيّن هو الأول، لأن دور ذلك الجدل في بناء دلالة النص هو دورٌ ذو أهميّةٍ، وذلك من جهة ما يحمله ذلك الجدل من دلالات اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ ودينيّةٍ بالغةِ الأثر.
وكشاهدٍ على ما نقول نشير إلى ما ذكرناه آنفاً من أن القول بأن نص الغدير متصلٌ بخشونة الإمام عليٍّ(ع) مع بعض الأشخاص، لم يكن ليدفعه حصول ذلك الحدث -التنصيب السياسي- في مكة أو في المدينة، في حين إن حصول ذلك الجدل الوحياني وتوثيقه في نصوصٍ دينيّةٍ مختلفةٍ، يسهم في بناء قراءةٍ مختلفةٍ لذلك النص، ومجمل سياقاته التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، قراءةٍ تدحض جميع تلك السرديات التي عُمل على إنتاجها لتعطيل مضمون ذلك النص والالتفاف عليه، وإفراغه من دلالته التي كان من أجلها.
وعليه، يمكن إجمال هذا المطلب بالقول أنه إذا تجاوزنا الذهنيّة السياسيّة الراهنة، وما تحمله من تقاليدَ وأعرافٍ سياسيّةٍ، ومحاولة إسقاطها على التاريخ وأحداثه، وعملنا على قراءة الماضي مقروناً بمجمل ظروفه الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة، فإننا نخلص إلى النتيجة التالية: وهي أن أسباباً عديدةً ومقاصدَ مختلفةً، قد رجّحت أن يكون التبليغ بالتنصيب السياسي وغير السياسي (خلافة النبي (ص)) للإمام عليٍّ(ع) خارج مكة، وقبل الوصول إلى المدينة، وتحديداً في ذلك الموقع (غدير خم)، حيث نزل الوحي يطلب من النبي (ص) أن يبلّغ عن ربه ما نزل في عليٍّ(ع) قائلاً له: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾[48].
وإن من يتمعّن في هذه الآية، ويتدبّر في دلالاتها، يجد من المعاني التي تتوافق مع تلك القراءة التاريخية، التي تنطوي على بعدٍ صراعيٍّ مع قريش، وما يمكن أن ينجم عنه من تداعياتٍ ونتائجَ، بما فيها ذلك الوعد الإلهي للنبي (ص) بعصمته -كنبيٍّ- من الناس[49]، وأنّ هذا البلاغ هو من اللّه تعالى (من ربك) وليس وليدَ رغبةٍ شخصيّةٍ من النبي (ص)، أو ميلٍ لتقديم أهل بيته على سواهم، أو التزامٍ بعرفٍ اجتماعيٍّ يحيل الخلافة إلى إرثٍ عائليٍّ       -كما يزعم الكاتب-، وهو ما تطلّب التأكيد من الوحي على النبي (ص) أن يبلّغ ما أُنزل إليه من ربه -وإلا فإن من شأن النبي (ص) أن يبلّغ ما ينزل إليه من ربه من دون أن يُطلب منه ذلك-، وأن تُبنى معادلةٌ مفادها التالي، أنه في حال بلّغ النبي (ص) ما أنزل إليه في غدير خمٍّ، يكون قد بلّغ رسالته التي حملها إلى الناس في حياته، وإن لم يبلّغ ما أنزل إليه من ربه في غدير خم تنتفي تلك الرسالة، وتكون كأنها لم تكن، وذلك لأن قوام الرسالة بالولاية، بها تحفظ، وبها تقام، كما أنزلت من الله تعالى من دون تشويه[50]، أو تأويل، ينافي جوهرها، وما هي عليه.
بمعنى أن الدين وتأويله، وإقامته بما ينسجم مع معانيه الحقة وقيمه الصحيحة، إنما يحتاج إلى من يحمل تلك المعاني كما هي، ويملك تلك القيم بواقعها، حتى يستمر ذلك الدين صحيحاً في الناس. وإلا فمن دون وجود ذلك الإمام الذي يحفظ الدين، ويقيمه بشكلٍ صحيحٍ، فإن (التجربة الدينية) سوف تكون معرّضة للخروج عن مسارها السليم، وأهدافها الحقة، إن لم تنقلب على نفسها، وتوصل إلى خلاف مقصدها. وهو ما حصل في تجاربَ دينيّةٍ-تاريخيّةٍ مختلفة.
8- الترتيبات وإجراءات نقل السلطة: من القضايا التي يذكرها الكاتب للقول بعدم الدلالة السياسية لنصّ الغدير، أن «إعلان التولية على فرض دلالته على التنصيب السياسي يتطلب صدوره مصحوباً بترتيباتٍ إضافيّةٍ لتثبيت هذا الأمر وترسيخه في أذهان المسلمين. أي يتطلب إجراءاتِ نقلٍ للسلطات تمنع أحداً من التلاعب أو التآمر على هذا الأمر وطقوسيةً جليةً في التصريح بنقل السلطات إلى عليٍّ(ع) بعد النبي (ص) لا التنازع على معنى لفظ الولي»[51].
وهنا لا بدّ من تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: كان يفترض بالكاتب أن يبحث عن تلك الترتيبات الإضافية وتلك الإجراءات التي تحدث عنها، ليرى أنها كانت موجودةً آنذاك أم لم تكن موجودةً، لا أن يكتفي بطرح تلك الصلة بينها وبين التولية، والاقتصار على القول بأن تلك التولية تتطلب ترتيباتٍ وإجراءاتٍ، بحيث يوهم القارئ أنه لم تكن هناك من ترتيباتٍ، وإجراءاتٍ ذاتِ صلةٍ بالحدث.
ثانياً: إن هذا المورد -كما غيره- يدل على أن الكاتب كان انتقائيّاً في بحثه التاريخي، وأنه لم يُعمِلْ بشكلٍ موضوعيٍّ وصحيحٍ المنهجَ الذي نظّر له مليّاً في كتابه، وإلا لكان المطلوب أن يستجمع جميع تلك المعطيات التاريخيّة من بطون التاريخ، ليرى -من خلال ذلك المنهج- أنها تدلّ على تلك التولية وذاك التنصيب السياسي أم لا.
ثالثاً: إن مشكلة الكاتب في هذا المورد -كما في مجمل موارد كتابه- أن بحثه فيه كان بحثاً أفقيّاً ولم يكن عموديّاً، بمعنى أنه لم يستنفذ البحث التاريخي فيه، ولم يُعمل منهجه بالمستوى المطلوب حفراً تاريخيّاً لديه، وهو ما أدى إلى تسطيح البحث في هذا المورد، بل في العديد من موارد كتابه.
إن الكاتب قد عمل على بحث أكبر قدرٍ ممكنٍ من المسائل، بأقل قدرٍ ممكن من الجهد العلمي. وسعى إلى استيعاب أكبر قدرٍ ممكن من القضايا التاريخية، بأقل قدرٍ ممكن من البحث التاريخي المعمّق والوافي، الذي يجب ألّا يستثني أيَّ معطًى علميٍّ له علاقةٌ بمورد البحث، ويمكن أن يؤثر على النتيجة فيه، فجاء بحثه في كثير من الموارد سطحيّاً، ناقصاً، يعاني من طفراتٍ في الاستدلال، والعديد من الفجوات العلمية التي كان يقفز فوقها إلى النتائج، التي كانت محسومةً لديه، ومبتوتةً عنده، قبل نهاية البحث.
رابعاً:  ينبغي أن نتجاوز الذهنيّة القداسوية في البحث التاريخي، التي قد تفضي إلى أكثر من مقاربةٍ تاريخيّةٍ، تعاني شيئاً من البساطة المعرفيّة في بعض الأحيان.
إن القضية لم تكن آنذاك التنازع على معنى لفظ الولي، وإنما جاء هذا التنازع في سياقٍ صراعيٍّ، تاريخيٍّ، اجتماعيٍّ، سياسيٍّ، فكريٍّ بين مشروعين، أدى إلى استيلاد الكثير من الصراعات الأخرى -بما فيها المعرفية- على مدار التاريخ، أي إن النزاع الدلالي (دلالة نص الغدير وتفسيره) ليس هو ما أولد الصراع التاريخي والسياسي وأنتجه، وإنما كان وليداً له، ونتاجاً لمخاضه.
إن هذه التبسيطية في تناول هذه القضية هنا، لا تنسجم لا مع المنهج الذي نظّر له الكاتب، ولا مع مجمل القضايا التي أثارها في هذا السياق، حيث لم يكن الاجتماع السياسي والقبلي آنذاك مجتمعاً طُهرانيّاً، حتى نصوره للقارئ جالساً أمام النبي (ص) ،ينتظر أوامر الوحي بشغف، ليعمل بها بكل اندفاعٍ وتلقائيةٍ، وإن حصل اختلافٌ ما، فلأنهم لم يفهموا معنى كلمة الولي، واختلفوا في دلالتها؛ هذه تبسيطية لا تليق بالبحث العلمي، ولا تتوافق مع مؤديات المنهج التاريخي.
والذي يبدو هو أن هذه العقدة الطهرانية في النظرة إلى التاريخ، قد أعاقت لدى الكاتب إعمال ذلك المنهج التاريخي بشكلٍ صحيحٍ، ما أدى إلى استبعاد فرضيّاتٍ علميّةٍ كان يجب أن تحضر بقوة في هذا المورد وفي غيره من الموارد.
لقد رسم الكاتب -في نصّه ذاك-  معادلة مفادها، أن القيام بجملة تلك الإجراءات والترتيبات والـ (طقوسية جلية) من قبل النبي (ص) ، يحول بشكلٍ حتميٍّ دون تسرّب السلطة والخلافة من الإمام عليٍّ(ع) إلى الحزب القرشي، ليستنتج من ذلك أنه عندما آلت السلطة والخلافة إلى الحزب القرشي، فمعناه أنه لم تكن هناك إجراءاتٌ وترتيباتٌ و (طقوسيةٌ جليةٌ) في التصريح بنقل السلطات..؛ وهذا كلامٌ غيرُ صحيحٍ، لأن هذه المعادلة تعاني من خللٍ منطقيٍّ (وتالياً تاريخيٍّ)، إذ إن انتقال الخلافة فعليّاً يتطلب -عادةً-  القيام بتلك الإجراءات والترتيبات، لكن عندما لا يحصل ذلك الانتقال الفعلي للخلافة، فقد لا يكون مردّه إلى عدم وجود تلك الإجراءات والترتيبات، وإنما لمانعٍ آخرَ، حال دون حصول ذلك الانتقال (أي إن المشكلة لم تكن في الشرط وإنما في المانع).
وبتعبيرٍ آخرَ، إن عدم انتقال الخلافة للإمام عليٍّ(ع)، لا يعني عدم وجود تلك الترتيبات والإجراءات، إذ قد تحصل تلك الترتيبات والإجراءات، ولا تنتقل تالياً الخلافة إلى الإمام عليٍّ(ع)، وذلك لسببٍ آخرَ، مفاده أن مجمل مكوّنات قريشٍ قد اتفقت كلمتها على الحيلولة دون أن تصل الخلافة إلى الإمام(ع)، ودون أن تجتمع هي والنبوة في بني هاشم، رغم حصول التنصيب السياسي في غدير خمٍّ والترتيبات التي صاحبته.
وهذه فرضيّةٌ لها ما يبررها، وعليها شواهدها. وإن كان يصعب على الكاتب أن يتخيّلها، نتيجة تلك العقدة الطهرانية، فليستحضر ما حصل في حديث الكتف والدواة، حيث طلب النبي(ص) قبل وفاته أن يحضروا له كتاباً ودواةً ليكتب للأمة كتاباً لا تضلّ من بعده أبداً، حيث كان الطلب بمنتهى الوضوح، ومن شخص النبي(ص) نفسه، وفي بيته وعقر داره، وقبل قليلٍ من وفاته، ولقضيةٍ تُعَدُّ من أهم القضايا التي تعنى الأمة ومستقبلها حينها (لن تضلوا بعده أبداً)؛ ومع ذلك، مُنع النبي(ص) من تحقيق مراده. فهل حال وضوح الطلب دون منع النبي(ص) مما أراد؟ وهل حالت تلك الظروف والإجراءات دون أن يُصدّ النبي(ص) عن طلبه؟
 وعليه، إذا لم تتم الاستجابة للنبي(ص) في قضية الوصية (الكتف والدواة)، وتمّت مخالفته فيه، فما المانع أن يكون  الأمر نفسه قد حصل  في غديرِ خمٍّ، بأن يكون النبي(ص) قد نصّب عليّاً(ع) خليفة له، ولكن لم يُستجب لفعل النبي(ص)، وما جاء به عن الله تعالى، وإنما تمّت مخالفته، والانقلاب عليه؟
 ومن هنا، قد يصحّ القول أنّ الأمر في حديث الغدير وحديث (الكتف والدواة) واحدٌ، حيث لم تكن الأزمة أزمةَ دلالةٍ، وإنما كانت أزمةً من نوعٍ آخرَ، هي التي  أنتجت أزمة الدلالة، وغيرها من الأزمات تالياً.
خامساً: في ظروف النص والترتيبات المصاحبة له. وهنا سوف نتحدث بشيءٍ من الاختصار، الذي نريد أن نؤكّد فيه على أهم القضايا ذات الصلة، لنبحث في العنوانين المذكورين:
1 - الظروف: وهي تشتمل على:
أ) لقد أشار النبي(ص) إلى قرب وفاته، أي أن الأمّة مقبلةٌ على أخطرِ حدثٍ في تاريخها يشتمل -في ما يشتمل عليه- على حصول فراغٍ غيرِ مسبوقٍ في قيادة الدولة الإسلاميّة، والاجتماع الإسلامي العام في أعلى موقعٍ في هرمه السياسي والديني.
ب) ذلك الحشد هو الحشد الأكبر في تاريخ التجربة الإسلاميّة الوليدة حينها، حيث يجري الحديث عن عشرات الآلاف، بل عن أكثر من ذلك من المسلمين (مائة وأربعة وعشرون ألفاً) الذين اجتمعوا مع النبي(ص) في ذلك الموسم، ورافقوه إلى غدير خمٍّ بعد حجة الوداع.
ت) إن تلك المناسبة هي المحطة الأخيرة للقاء النبي(ص) بتلك الجموع، وتواصله المباشر مع تلك الحشود، قبل تفرُّقها إلى بلدانها، حيث لن يكون متاحاً لهم رؤية النبي(ص) بعدها، إذ إن وفاته كانت بعد حوالي الشهرين من ذلك الحدث (صفر، سنة 11هـ).
ث) لقد كان الاجتماع الإسلامي العام حديث عهد بالإسلام، حيث لم يكن قد مضى على وجود النبي(ص) في المدينة، وتأسيسه لنموذجه الديني فيها سوى العشر من السنوات[52]؛ حيث تظهر العديد من الشواهد التاريخية أن الثقافة الجاهليّة والعصبيات القبلية وغيرها، كانت لا تزال كامنةً في النفوس، وكانت تظهر في مفاصلَ تاريخيّةٍ مختلفةٍ بيين الفينة والأخرى، وكانت تتطلب حينها تدخُّلاً مباشراً وقويّاً من النبي(ص) نفسه لكبحها، ومنعها من تهديد التجربة الإسلاميّة الناشئة، ونموذجها الديني.
وهذا يعني أن تلك الرواسب الجاهليّة، وتلك العصبيات القبلية، على اختلافها، يمكن أن تنفجر في لحظة صراعٍ وتنازعٍ، فتؤدي إلى تشظية الاجتماع الإسلامي، وارتكاس التجربة الإسلامية الوليدة والقضاء عليها (... يرجعوا إلى جاهليّةِ...)، وخصوصاً أن من كانت لديه القدرة بشكلٍ فاعلٍ (النبي(ص)) على لجم تلك الرواسب، وكبح تلك العصبيات، لن يكون موجوداً عندها (بعد وفاته).
ج) تُظهر العديد من الشواهد التاريخية أن مختلف فئات الاجتماع الإسلامي حينها، كانت تترقّب مستقبل السلطة (الخلافة) في التجربة الإسلامية منذ بداياتها، وفي العديد من مراحلها، وتحرص أشد الحرص على الوصول إليها (السلطة)، والإمساك بأعنتها، وهو ما كان ينذر بإمكانيّة انفجار تلك التجربة عند أول اختبار، يتضمن انتقال السلطة من النبي(ص) إلى من يخلفه.
وهو يعني أن قضيّة السلطة وانتقالها ذاك، ليسا بالأمر الذي يُترك دون تدبيرٍ مسبقٍ وحازمٍ وواضحٍ، يمنع من تحوّل ذاك الاختبار إلى صاعقِ تفجيرٍ لتلك التجربة الإسلامية، ويحول دون صيرورته عامل إشعالٍ لجميع تلك العصبيات الجاهلية، ليعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الإسلام وأشدّ، وخصوصاً أنه لم تكن هناك تجربةٌ سابقةٌ لانتقال السلطة يُبنى عليها، ويُحتذى بها. هذا وقد أثبت لاحق الأيام ذلك، إذ إن مجمل التشظيات التي حصلت في التاريخ الإسلامي تعود إلى قضية السلطة تلك ومفاعيلها.
إن ما نقوله هنا ليس مجردَ فرضيّةٍ لم تحصل في الواقع، أو تثبت في التاريخ. يكفي أن نعود إلى قضية السقيفة وما رافقها من أحداثٍ حتى ندرك أن الاجتماع السياسي حينها، لم يكن استثناءً من أكثر من اجتماعٍ غيره، وأن الصراع على السلطة يومها كاد أن يؤدي إلى إحداث احترابٍ داخليٍّ بين مكوّنات الاجتماع الإسلامي، يقضي على جميع ما أنجز من مكاسب لدى الدولة الإسلامية الوليدة، فضلاً عما أحدثه من انشقاقٍ بنيويٍّ في التجربة الإسلاميّة، ما زلنا نضرس نتائجه إلى دهرنا، واليوم الذي نعيش.
2- في الترتيبات والمراسم: يمكن أن نشير هنا إلى جملةٍ من الترتيبات والمراسم، التي سبقت، ورافقت، ولحقت عملية التنصيب السياسي والديني في غدير خمٍّ، وذاك البلاغ حول خلافة النبي(ص)، وما يتصل بها:
أ) المخاطب السياسي والحرص على تبليغ الجميع: تُظهر العديد من المصادر حرصاً من النبي(ص) على إشتراك جميع القوافل التي خرجت من مكة إلى غدير خمٍّ في تلقي ذلك البلاغ، وإصراراً منه صلى الله عليه وآله على حضور العدد الأكبر في ذاك الحفل لمعاينة الحدث وحمل مضمونه، حيث تفيد تلك المصادر أن النبي(ص) كان قد استبقى من القوافل من كان لا يزال في غدير خمٍّ، واسترجع منها من كان قد سار إلى مصره وبلده[53]، من أجل أن تشهد جميع تلك القوافل واقعة الغدير، وتتلقى مضمونها، وما فيها من بلاغٍ.
ب) التنصيب السياسي ومسرح المراسم: تذكر جملة من المصادر أن النبي(ص) قد طلب أمرين اثنين في سياق تحضير مكان المراسم وحفل التنصيب:
الأول: أنه اختار جملة من الدوحات[54] المتقاربات، التي تستوعب ظلالها أكبر عددٍ ممكنٍ من المسلمين آنذاك، فأمر أن تنظّف الأرض تحتها، حتى يتسنى لذاك العدد أن يستفيد منها في الصلاة، وتلقّي البلاغ، وحضور الحفل.
الثاني: أمر النبي(ص) أن يُصنع له منبرٌ من أقتاب الإبل، ليصعد عليه أثناء الخطبة وتأدية المراسم، حتى يمكن لجميع الحضور يومها أن يعاين بأم عينه تلك المراسم، ويشهد ببصره جميع فقراتها، وما تحمله من معانٍ، ودلالاتٍ، فضلاً عن أن يسمع كلمات النبي(ص)، وما جاء في مطاوي خطبته من إعلانٍ وبلاغٍ.
ت) لباس المراسم ودلالاته السياسية: جاء في العديد من المصادر ذات الصلة أنه قد كانت للنبي(ص) عمامة تُسمّى «السحاب»[55]؛ فعمد في غدير خمّ إلى تلك العمامة، فتوّج الإمامَ عليّاً(ع) بها، وألبسه إياها، في مشهديةٍ ذاتِ بعدٍ رمزيٍّ، تشير إلى انتقال ذلك المقام من النبي(ص) إلى عليٍّ(ع)، حيث الملاحظ هنا:
أولاً: إن النبي(ص) قد اختار العمامة، وقوله (ص) فيها معروفٌ بأن «العمائم تيجان العرب»[56]، لذا فهي تشير إلى المنصب، وترمز إلى المقام...
ثانياً: إن تلك العمامة هي عمامة النبي(ص)، بما يوحي أن المقام الذي يُراد الإشارة إليه هنا هو مقام النبي(ص) نفسه، والمنصب الذي لديه، سواءً في بعده الديني أو السياسي، وليس أي مقامٍ أو منصبٍ آخر.
ثالثاً: إن النبي (ص) نفسه قد ألبس عليّاً(ع) تلك العمامة، وتوّجه بها، ما يعني أن النبي(ص) قد قلّد عليّاً ذلك المنصب، ومنحه ذلك الموقع، وأعطاه ذلك المقام.
رابعاً: إن مشهدية تتويج النبي(ص) عمامته للإمام عليٍّ(ع)، قد كانت على مرأى من جميع الناس يومها، بما يدل على أنه قد أريد لهذه المشهدية أن تصل دلالتها إلى عموم الحضور، وأن يدرك رمزيتها جميع من كان في ذاك الحفل.
خامساً: لقد أراد النبي(ص) لتلك المشهدية البصرية أن تصحب الخطاب، وأن تترافق مع ما سوف يلقيه من بلاغٍ، وألا يقتصر إيصال ذلك البلاغ ومضمونه على اللفظ ودلالته، وإنما أريد له أن يكون مصحوباً بمشهديةٍ بصريةٍ ذاتِ دلالةٍ واضحةٍ ومؤثرةٍ، تتكاتف مع دلالة الخطاب وتعضده، وتعمل على دحض جميع تلك السرديات المتوقع إنتاجها لاحقاً للالتفاف على ذلك النص ومراده، وإبطال جميع تلك التأويلات التي ابتدعت لتعطيل ذلك البلاغ وفائدته.
ث) في التعبير الجسدي ودلالته: لقد ذكرنا أن النبي(ص) أمر أن يصنعوا له منبراً ففعلوا، فصعد على المنبر، وأصعد عليّاً(ع) معه، ورفع بيد عليٍّ(ع) حتى بان بياض آباطهما[57]، وقال خطبته المعروفة، حيث يمكن تسجيل الملاحظات التالية على هذا البعد الجسدي، الذي رافق إلقاء تلك الخطبة:
أولاً: لم يكتفِ النبي(ص) بصعوده هو على المنبر، وإنما أصعد عليّاً معه، ما يُشعر أن الموضوع محل البيان يتصل بالنبي(ص) وعليٍّ(ع)، وأن هناك أمراً يُعنى به النبي(ص)، ويتصل بالإمام عليٍّ(ع)،  يُراد بيانه.
ثانياً: إن هذا الأمر -مورد البيان- هو على قدرٍ من الأهميّة، وعلى مستوًى من العناية التي تستدعي -فضلاً عن تلك الترتيبات والتحضيرات وتلك المراسم- أن يكون هناك حضورٌ جسديٌّ لكلّ من النبي(ص) والإمام عليٍّ(ع) على ذاك المنبر، يشهده جميع الناس حينها، فلم يكتف النبي(ص) بصعوده هو فقط على المنبر، وإنما أراد أن يكون هناك حضورٌ جسديٌّ للإمام عليٍّ(ع) إلى جنبه، مُشعراً بأهمية هذا الأمر المراد بيانه، في ما يخصّ الإمامَ عليّاً(ع)، بل وجملة الظروف والتحديات ذات الصلة.
ثالثاً: لقد أخذ النبي(ص) بيد عليٍّ(ع) ورفعها، حتى بان بياض آباطهما، في تعبيرٍ جسديٍّ يراد من خلاله التأكيد على أن المعني بهذا البلاغ إنما هو الشخص الممسوكة يده، والحاضر بشخصه وجسده على المنبر، بمرأًى ومسمعٍ من جميع الناس، حتى يصل ذلك البيان مقروناً بحركات الجسد، التي تُرسّخ في أذهان الجميع من هو المعنيّ بذاك البيان، وأهميّة ما يُبيّن في حقه. وهو ما تطلّب حصول ذلك الاتصال الجسدي بين النبي(ص) وعليٍّ(ع) (أخذ بيده ورفعها)، حتى يتأكد أن هناك أمراً ذَا أهميّةٍ قصوى يتصل بهما، تطلب أن يصدر ذلك البيان في تلك الظروف، مقروناً بتلك الحيثيات، بحقّ من يمسك النبي(ص) بيده على المنبر، على مرأًى من حشود الناس وآلافها.
ج) البيعة ختام المراسم: إن من أهم القرائن التاريخية التي تؤكد -زيادة عما سلف- دلالة نص الغدير، وتفصح عنها، ما حصل من مراسمَ بعد أن انتهى النبي(ص) من إلقاء خطبته، وإبلاغ الناس ما أُنزل إليه من ربه، حيث أمر الناس أن يبايعوا عليّاً(ع) بإمرة المؤمنين[58]، فاحتشدوا عليه يبايعونه، ويهنئونه بإمرة المؤمنين، واستمرت مراسم البيعة والتهنئة ثلاثة أيامٍ.
وهنا يمكن أن نلحظ أن النبي(ص) لم يكتف بإبلاغ التنصيب السياسي والديني (الخلافة) لعليٍّ(ع)، وإنما طلب أن يُتبع ذلك التنصيب بمراسم البيعة والتهنئة، وذلك لتحقيق هدفين اثنين:
الأول: هو التأكيد على المدلول السياسي والديني لذاك التنصيب، لأن ذاك الحفل لو تضّمن قضيّةً جزئيّةً أو هامشيّةً، لما تطلّب جملة تلك المراسم، بما فيها البيعة بإمرة المؤمنين، والتهنئة بها، واللتين تدلّان على بعدٍ سياسيٍّ (ودينيٍّ) واضحٍ في ذاك الحفل، اقتضى حصول تلك المراسم والقيام بها.
الثاني: تحويل ذاك التنصيب السياسي (والديني) إلى واقعٍ سياسيٍّ من خلال أخذ الإقرار من جموع الناس وجميعها بالولاية لعليٍّ(ع)، والاعتراف بها، والعمل على إعطائها بعداً واقعيّاً، يتمثّل في توجيه تلك الاحتفالية بشكلٍ عمليٍّ نحو البيعة للإمام عليٍّ(ع)، ما يُشعر أن تلك الولاية قد امتلكت مجمل عناصر فعليّتها وتحوُّلها إلى واقعٍ سياسيٍّ-دينيٍّ، تترتب عليه آثاره ومفاعيله.
9 - الاستغناء عن المبايعة بعد وفاة النبي(ص): يذهب الكاتب إلى أن «إعلان النبي(ص) عليّاً(ع) حاكماً سياسيّاً من بعده يستلزم استغناء عليٍّ عن دعوة الناس إلى مبايعته بعد النبي(ص)، لأنه يفترض به أن يكون حاكماً فعليّاً فور وفاة النبي(ص)، ولا يحتاج إلى اعترافٍ جديدٍ أو مبايعةٍ جديدةٍ»[59].
هنا أيضاً نجد أن الكاتب قد وقع في العديد من الأخطاء، وارتكب العديد من المغالطات، والتي تستلزم الملاحظات التالية:
1 - يبدو أن الكاتب لم يلتفت إلى أن فلسفة البيعة لا تعني فعلَ إعطاءِ مشروعيّةٍ من قبل المبايِع للمبايَع، وإنما تعني -في الفهم الديني-  فعل التزامٍ بمشروعيّةٍ سابقةٍ على البيعة، وكل ما يفعله المبايِع هنا أنه يُظهر التزامه، من خلال بيعته، بتلك المشروعية السابقة على البيعة، أي إن البيعة لا تنشئ المشروعيّة (السياسيّة)، وإنما تنشئ إظهار الالتزام بها، أو التأكيد عليه.
وكدليلٍ على ما نقول في فلسفة البيعة، نذكر -من باب المثال- ما حصل مع النبي(ص) في السنة السادسة للهجرة، عندما ذهب وأصحابه لأداء العمرة في مكة، إذ بلغه أن قريشاً قد قطعت الطريق عليه، وأنهم مقاتلوه أو قاتلوه. والذي حصل في هذا الموقف أنّ أصحاب النبي(ص) بايعوه على القتال وعدم الفرار[60]...؛ فالسؤال الذي يُطرح هو: هل أن القتال دون النبي(ص) لم يكن واجباً، ثم أصبح واجباً بالبيعة؟ وهل إن حماية النبي(ص) لم تكن واجبةً، ثم أضحت واجبةً بالبيعة؟ أم إن الصحيح أن يقال: إن حماية النبي(ص) والقتال بين يديه كانا واجبين قبل البيعة، وهما واجبان بعدها، من دون فرقٍ، سوى أن البيعة إنما كانت لمزيد استيثاقٍ من الأصحاب على نصرته، ولتأكيد التعهد على حمايته، وعدم الفرار والقتال دونه؟
والأمر نفسه في ما يتصل ببيعة النساء بعد فتح مكة، عندما بايعن النبي(ص) على عدم الشرك، وعدم السرقة، وعدم الزنى...، يقول تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾[61]؛ فهل البيعة هي التي شرّعت هذه الأمور ومنحتها شرعيتها؟؛ أم إن هذه الأمور، التي ذُكرت في الآية، كانت مشرّعةً قبل البيعة ومن دونها، فأتت البيعة لتحقيق الالتزام من أولئك النساء (اللواتي دخلن جديداً في الإسلام) بتلك الأمور التي ذكرت في الآية، ولأخذ التعهد منهن بالالتزام بها، وعدم مخالفتها، لا أكثر ولا أقل.
وعلي فإن ما يستفاد من القرآن الكريم، هو أن البيعة في الفهم الإسلاميّ ليست فعل إعطاء مشروعيّةٍ دينيّةٍ أو سياسيّةٍ، وإنما هي -في الموارد التي ذكرت- فعل تعهد والتزام بما هو مشروعٌ سلفاً، وقائمٌ مسبقاً.
ومن هنا فقد التبس الأمر على الكاتب، عندما تصور خاطئاً أن البيعة هي فعلُ إعطاءِ مشروعيّةٍ، ليستنتج من ذلك أنّ الإمام عليّاً(ع) عندما يدعو الناس إلى بيعته، فمعناه أنه يدعوهم إلى منحه مشروعيّةً سياسيّةً يفتقدها، وهو استنتاجٌ غيرُ صحيحٍ، لأن البيعة عندما لا تعني فعلَ إعطاءِ مشروعيّةٍ (سياسيّةٍ أو دينيّةٍ)، فعندها لا يمكن الذهاب إلى ذلك الاستنتاج الذي توصّل الكاتب إليه.
2- بناءً على ما سبق، يمكننا القول أن الإمام عليّاً(ع) إنما دعا الناس إلى الالتزام بمشروعيته السياسية والدينية، وليس إلى منحه تلك المشروعية السياسية، أي إنه قد دعا الناس إلى الالتزام بلوازم تلك المشروعية، التي تأتّت من إبلاغ النبي(ص) للأمة في غدير خمٍّ ما أنزل إليه من ربه فيه، وفي اختياره خليفةً له، وإماماً للأمة، سواءً في المجال الديني أو السياسي.
ومن هنا، فإن تلك البيعة التي دعا الإمام عليٌّ(ع) الناس إليها، إنما هي دعوة إلى النصرة والطاعة، لا إلى اختياره حاكماً عليهم وإماماً لهم، حيث كان هذا الاختيار قد حصل، وأُعلن عنه في غدير خمٍّ، سوى أن تلك الظروف التي استجدّت بعد وفاة النبي(ص)، قد تطلبت من الإمام عليٍّ(ع) أن يدعو الناس إلى طاعته ونصرته، وتجديد الالتزام بمشروعيته السياسيّة والدينيّة، وإلى عدم الانجرار إلى ما يخالف هذه المشروعية ولوازمها.
وعليه، لا يصحّ للكاتب أن يستنتج من دعوة الإمام عليٍّ(ع) الناس إلى بيعته، أن ذلك يدلّ على عدم حصول التنصيب السياسي في غدير خمٍّ، لأن الجواب أنه لا تنافي بين الأمرين، لأن ما حصل في غدير خمٍّ هو تنصيبٌ سياسيٌّ ودينيٌّ، وفعلُ التزامٍ به من خلال البيعة، وما حصل بعد وفاة النبي(ص) دعوة إلى تجديد ذلك الالتزام وعدم مخالفته، بسبب من تلك الظروف التي استجدت، والتي تطلبت توجيه تلك الدعوى من جديدٍ.
3- يخلط الكاتب بين الفعليّة والمشروعيّة، عندما يذهب إلى أن حصول الإمام عليٍّ(ع) على المشروعيّة السياسيّة و (الدينيّة) يقود بالضرورة إلى كونه حاكماً فعليّاً، وهو غيرُ صحيحٍ، لأنه قد يحصل أن تنفصل الفعلية عن المشروعية في الواقع السياسي، حيث قد يكون لحاكمٍ ما مشروعيته السياسية، لكن هذه المشروعية لا تأخذ طريقها إلى الواقع السياسي لمانعٍ أو آخرَ، ولا يترتب عليها مفاعيلها، لأن هناك من منع ترتيب تلك المفاعيل ومجمل اللّوازم التي  تترتب عليها.
وهذا ليس عزيزاً حتى في زماننا المعاصر، فكم من حاكمٍ قد حصل على مشروعيته السياسية -بمعزل عن فلسفة هذه المشروعية ومحتواها-  لكن هذه المشروعية لم تستطع أن تأخذ دورها في الحكم، أو تشقّ طريقها إلى الواقع، بسببٍ من قوّةٍ قاهرةٍ، أو مانعٍ حال دون ذلك. وهنا يبقى هذا الحاكم على مشروعيّته تلك، وإن لم تتحول هذه المشروعية إلى حكمٍ فعليٍّ، وإلى واقعٍ سياسيٍّ ناجزٍ.
وعليه، أن يستدلّ الكاتب على عدم المشروعية (عدم التنصيب السياسي) من خلال عدم الفعلية (فعلية الحكم)، فهو ما ينطوي على مغالطةٍ واضحةٍ، لأنه يمكن الجواب بوضوح أن التنصيب السياسي قد حصل في غدير خمٍّ، والمشروعيّة السياسيّة قد أصبحت أمراً مفروغاً عنه حينها، سوى أن ما حصل بعد وفاة النبي(ص) من ظروفٍ ومستجداتٍ سياسيّةٍ، هو الذي حال دون تحوّل تلك المشروعيّة السياسيّة إلى فعليةٍ في الحكم، وفي الإمامة السياسيّة، وخلافة النبي(ص).
4- يُلحظ هنا أيضاً مدى انفصام الكاتب عن التاريخ، في الوقت الذي يدّعي فيه استخدامه للمنهج التاريخي في بحث مجمل تلك القضايا ذات الصلة. ودليلنا على ذلك أنه توجد العديد من المصادر والمراجع التاريخية[62] وغيرها، التي تتحدث في تصوُّرٍ مختلفٍ للتاريخ، والتي تظهر سياقاً مغايراً لأحداثه، له أدلته وشواهده، التي تعضده وتدلّ عليه؛ لكن تجد أن الكاتب، إما أنه لا يستفيد منها على الإطلاق، أو أنه لا يبني على بعض ما جاء فيها، أو أنه يهمل تلك الفرضية (التصوّر، السياق) التي تؤشر عليها، ويحاول أن يطمس جميع تلك الدلالات التي يمكن أن تستفاد منها في مجالٍ أو آخرَ.
10- ولاية العهد نسيٌ منسيٌّ: في معرض استدلاله على عدم حصول التنصيب السياسي في غدير خمّ، يسعى الكاتب إلى الاستفادة من الواقع السياسي الذي استجدّ بعد وفاة النبي(ص)، ليستنتج منه عدم الدلالة السياسيّة لحديث الغدير. فيقول في دلالة ذلك الحديث: «لا يمكن اعتبارها دلالةَ تنصيبٍ سياسيٍّ، وإلا لا يُعقل أن يتصرف الجميع مع ولاية العهد كأنها نسيٌ منسيٌّ، حتى من قبل الذين تجمعهم بعليٍّ علاقةُ مودةٍ ومحبةٍ مثل أنصار المدينة»[63].
وهنا لا بد من تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: يبدو أن الكاتب مسكونٌ بنظرته الطُّهرانية والقداسوية إلى التاريخ، وهو ما جعله غيرَ قادرٍ على تعقّل أن تتصرف مجمل المكوّنات السياسيّة والاجتماعيّة يومها مع التنصيب السياسي في غدير خمٍّ وكأنه لم يكن.
ثانياً: أليس من وظيفة الباحث الموضوعي المتجرّد من الغايات المسبقة في بحثه، أن يسعى إلى تعقل تلك الفرضيّات والسياقات التاريخيّة، التي تخالف التاريخ الرسمي وسرديات السلطة على مرّ التاريخ، وأن يبحث فيها بشكلٍ علميٍّ ومقارنٍ مع السرديات المعارضة السلطة، حتى يستطيع أن يتبيّن الصحيح من الخطأ فيها، وخصوصاً عندما يكون هناك الكثير من الأدلة والشواهد التاريخيّة عليها؟
لن يكون أمراً مبرراً  للباحث المنصف، أن يقفل باب البحث العلمي، أو يدّعي عدم قدرة العقل على فهم سياقٍ تاريخيٍّ يخالف ما يعتقده، أو فرضيّةٍ تاريخيّةٍ تغاير السرديات الرسمية للسلطات المتعاقبة في التاريخ الإسلامي.
 وليس من الصحيح للكاتب الموضوعي تعطيل قدرة العقل، عندما يتصل الأمر بتصور للتاريخ والدين، يجافي قناعاته الإيديولوجية، وما لديه من مسبقاتٍ فكريّةٍ، بل المطلوب في هذا المجال أن يستنفر العقل إمكانياته، ليبحث بشكلٍ علميٍّ في جميع الأدلة والشواهد والمعطيات التاريخيّة. بعدها يمكن له أن يقول أن هذا الأمر يمكن أن يُتعقّل تاريخيّاً، أو لا يمكن ذلك.
أما مقاربة هذا الموضوع بهذا النوع من الاستبعادات، والأحكام القطعية المقفلة، من دون الخوض في بحث الفرضيات وأدلتها، فهذا ليس عملاً علميّاً، وإنما هو أقرب ما يكون إلى الفعل الخطابي (الدعائي)، الذي يهدف إلى تجميل فكرةٍ في ذهن القارئ، أو تسفيرها عنه، من دون إشباعها بحثاً وتحليلاً.
ثالثاً: ألا يوجد في التاريخ الديني الكثير من الموارد التي تعاملت فيها أممٌ أو مجتمعاتٌ مع أوامر أنبيائها (أو دعوتها) كأنها لم تكن؟ ألم يتعرض النبي(ص) نفسه النوع كهذا من المواقف، بحيث إنه وجّه أمراً فعُصي أمره، وطلب مطلوباً فرفض طلبه، ولم يستجب له.  والمبررات حاضرة للقول بأن النبي(ص) ليس معنيّاً بالشأن السياسي، أو أن بعض كلامه ناتجٌ عن انفعالاته الشخصيّة، أو أنّه قد يخطئ في شؤون الدنيا، أو أن الجميع أعلم منه فيها وأفهم (حاشاه ذلك) -أنتم أعلم بشؤون دنياكم-؛ وعليه يمكن مخالفته، ويجوز عصيانه، والردّ عليه؟!!!
ألم يتصرف مجمل من كان في البيت مع ما أمر به النبي(ص) في مرض موته وكأنه لم يكن، عندما طلب منهم أن يأتوه بكتفٍ ودواةٍ ليكتب للأمة كتاباً لن تضل من بعده أبداً؛ فهل أطاعوا النبي(ص) واستجابوا لطلبه، أم أنهم عصوه وخالفوه؟ وإذا كانوا قد خالفوه في حياته، بل في محضره وفي بيته؟، فما المانع أن يخالفوه بعد وفاته، وفي مغيبه؟
ما المانع الذي يمنع من تعقُّل أن تستفيد بطون قريشٍ من لحظة وفاة النبي(ص) لاستعادة سلطةٍ فقدتها، ترى أن الفرصة قد أصبحت مؤاتيةً لها لاسترجاعها؟
وما المانع من تعقُّل أن تمارس قريشٌ التفافاً على وصية النبي(ص)، لأنها لم تستطع أن تتقبّل أن يبقى الملك في بني هاشم، وكانت تريد حصتها منه، وأن يُتداول بين بطونها، وكانت ترفض أن تُحصر الخلافة في أهل بيت النبي(ص) -فضلاً عن أسباب أخرى تدفعها لذلك-، حتى ولو كان ذاك بإعلانٍ من النبي(ص) نفسه، وإبلاغٍ منه لما أنزله الله تعالى فيها؟
يمكن القول إن سيرة النبي(ص) تنطوي على أدلّةٍ عديدةٍ تدعم ما نقول؛ فقط أدعو هنا من يصعب عليه أن يتعقل مخالفة الاجتماع السياسي العام حينها تنصيب النبي(ص) لعلي(ع) إلى أن يقرأ بتمعُّنٍ ما حصل في معركة أُحُد[64]، وما ذكره القرآن فيها ﴿وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ 152 ۞إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ 153 ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ 154 إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ﴾[65]، حتى يصبح قادراً على تعقُّل ما لم يستطع تعقُّله بعد وفاة النبي(ص)، وما حصل بعدها من أحداثٍ ووقائعَ.
11- التنصيب السياسي؛ آثاره وحضوره: يذهب الكاتب في معرض تبريره عدم الدلالة السياسية لحديث الغدير إلى أن: « حدث التنصيب السياسي يستدعي حصول آثارٍ لاحقةٍ تناسبه، وغياب ما يدل على عدمها  أو على ما ينفيها. فالأحداث التي أعقبت وفاة النبي، لا تحمل أيَّ مؤشِّرٍ على حصول هذا الحدث لغياب أثره السياسي بالكامل، واحتجابه عن المحاجات السياسية التي أعقبت وفاة النبي»[66].
في معرض نقاشنا لكلام الكاتب ينبغي تسجيل مايلي:
أولاً: إن حدث التنصيب السياسي في غدير خمٍّ يستدعي من جميع مكوّنات  الاجتماع السياسي الإسلامي حينها، أن تعترف بشرعية الخليفة الذي تمّ تنصيبه من النبي(ص)، وأن تسلّم له، وأن ترتّب جميع الآثار السياسيّة والاجتماعيّة على هذه الشرعيّة، لكن السؤال الذي يُطرح أنّ هذه الآثار -إن كان المراد منها فعلية الحكم- هل تترتّب بالضرورة؟ أم إنّها تترتّب بشرط عدم وجود مانعٍ يمنع منها؟
أي ماذا لو أن جملة مكوّنات الاجتماع السياسي الإسلامي حينها (التحالف القرشي،...) قد رفضت ترتيب تلك الآثار (فعلية الحكم)، فهل تترتب تلك الآثار؟ ولو أن التحالف القرشي قد وجد أن الفرصة قد أضحت مؤاتيةً له لاسترجاع السلطة، وتنفيذ الانقلاب على التنصيب السياسي وشرعيته، وأنه قد نجح تالياً في تنفيذ انقلابه هذا، فهل تترتب تلك الآثار؟
 وعليه، إن كان المراد بغياب الأثر السياسي لحدث التنصيب في غدير خمٍّ، هو عدم تحول الشرعية السياسية لخلافة الإمام عليٍّ(ع) إلى واقعٍ فعليٍّ في الاجتماع السياسي حينها، فالجواب: إن هذا الأمر مردّه ليس لعدم حصول التنصيب السياسي، وإنما للانقلاب الذي حصل على ذاك التنصيب وشرعيته، ما أدّى إلى غياب مجمل تلك الآثار السياسيّة اللاحقة، التي ينبغي أن تترتّب عليه.
والذي يبدو من هذا المورد وغيره، أنّ مقاربة الكاتب مشبعةٌ بالسردية الرسميّة للتاريخ، ولذا لم يستطع أن ينفصل عن هذه السردية في تحليله التاريخي، مع أن القارئ لكتابه يجد أدلّةً وشواهدَ عديدةً -وغيرها الكثير­- كان يمكن له أن يستفيد منها في تلمّس تصور المعارضة السياسيّة للتاريخ السياسي حينها، وسرديتها التاريخية لمجمل الأحداث التي حصلت قبل وفاة النبي(ص) وبعدها، ما يفضي إلى إبراز فرضيّةٍ أخرى للمسار السياسي للأحداث التي أعقبت وفاة النبي(ص)، تخالف فرضية السلطة الرسميّة، لكن الكاتب لم يفعل.
ثانياً: أما إن كان المراد بالقول بأن «الأحداث التي أعقبت وفاة النبي لا تحمل أيَّ مؤشِّرٍ على حصول هذا الحدث..»، هو مطلق المؤشرات التاريخيّة، فأعتقد أن في هذه الدعوى افتئاتٌ على التاريخ وما حمله، وذلك لأن وفرة من المعطيات التاريخية تفيد خلاف ما يدّعيه الكاتب، وتدلُّ بشكلٍ أو بآخرَ على حصول ذلك التنصيب السياسي، والتي منها:
1) عدم بيعة الإمام عليٍّ(ع) للسلطة الجديدة (إلى حين وفاة الزهراء(ع)).
2) موقفه الصريح بعدم شرعية تلك السلطة.
3) بيانه الدائم أنه هو صاحب الحق والشرعية السياسية.
4) استعداده لتصحيح الوضع المستجد بالفعل الميداني (وإن لم يحصل هذا الأمر لعدم توفر عناصر القوة لديه حينها).
5) استشهاداته المتكررة بواقعة الغدير، وما حصل فيها من تنصيبٍ سياسيٍّ له (وهو ما سوف نتحدث فيه لاحقاً).
ثالثاً: يدّعي الكاتب أن حدث التنصيب السياسي للإمام عليٍّ(ع) (حديث الغدير) قد احتجب عن المحاجات السياسية، التي أعقبت وفاة النبي(ص)؛ وهنا، لا بُدّ من أن نذكر -في مقام الجواب على هذه الدعوى- جملةً من المقدمات التي تساعد على فهم السياق التاريخي والسياسي (والتدويني)، الذي صدرت في خضمّه تلك المحاجات، ووعي مجمل المناخ العام الذي سيطر على تلك الأوضاع حينها، حيث سوف نجمل المطلب في النقاط التالية:
1) ليس كل ما صدر من محاجّاتٍ في حديث الغدير قد وصل إلينا بالضرورة، إذ قد تكون قد حصلت محاجّاتٌ أكثر مما وصل إلينا، ومع ذلك لم تصل لأسبابٍ عديدةٍ. فكل ما يمكن أن نقوله في هذا المورد، هو أنّنا لم نجد أكثر مما وجدنا، أو لم يصل أكثر مما وصل إلينا، ولا نستطيع القول أنه لم يصدر من المحاجّات إلّا ما وصل، إذ قد تكون حصلت محاجاتٌ أكثر بحديث الغدير، ومع ذلك لم تصل إلينا لسببٍ أو آخر.
2) هل نستطيع أن نبحث في هذه القضية بمعزلٍ عن الظروف السياسيّة والتاريخيّة التي كانت سائدةً يومها؟ فهل كان النص السياسي للمعارضة السياسية متاحاً للتداول والتدوين والرأي العام حينها، أم كان هناك حَظرٌ صارمٌ على هذا النص، ومَنعٌ من تدواله، وشدّةٌ مبالغٌ فيها على من كان يخالف الخطاب السياسي-الديني للسلطة الرسمية آنذاك؟
ألم تُقْدم السلطة على اعتماد سياساتٍ معرفيّةٍ-دينيّةٍ، سعت من خلالها إلى إلغاء جميع النصوص الدينيّة التي تمسّ شرعيّتها، أو تدعم شرعيّة الخصم، ومعاقبة من يخالف تلك السياسات، أو يتجرأ على البوح بأحاديثَ لا توافق عليها، أو ترى فيها خطراً على مشروعيتها السياسية أو الدينية؟
كيف يفهم الكاتب المنع من تدوين السنة النبوية، والمبادرة إلى جمع أحاديث رسول الله(ص) وإحراقها، وإلى منع إفشاء تلك الأحاديث، وحبس بعض الصحابة في المدينة (وسجنهم) لأنهم كانوا في وارد التحديث بتلك الأحاديث، والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم دون أحاديث النبي(ص)، بل ومسعى قريش إلى المنع من تدوين تلك الأحاديث حتى في حياة النبي(ص)، وقبل وفاته[67]؟
 ألا يُفهم من ذلك أن تشديد السلطة سوف يتجه بشكلٍ أساسٍ إلى تلك الأحاديث التي تفيض بدلالتها السياسيّة، وتدعم المشروعيّة السياسيّة للخصم، وخصوصاً نصّ الغدير، أو ما يشابهه من أحاديث؟ وهل كانت السلطة لتقبل أن يتم التداول بأحاديث تصيب بالضرر مشروعيتها السياسية، وخصوصاً عندما تكون بمستوى حديث الغدير ودلالته؟
وعليه، لا نستطيع أن نفهم قلة الموارد التي أمكن لها أن تخترق ذلك الحظر الديني-السياسي الذي مورس من قبل السلطة الرسمية آنذاك، بمعزل عن تلك السياقات التاريخية والسياسية التي كانت قائمةً، والتي أثّرت بشكلٍ كبيرٍ على مجمل ما يرتبط بالنص السياسي (الديني) للمعارضة، وتدوينه، ونقله، والتحديث به، وخصوصاً ما كان يتصل منه بنص الغدير، والمحاجّات التي اعتمدته لاحقاً، وتدوينها.
وهذا يعني أن مجرد وصول بعضٍ من تلك المحاجات التي حصلت –على الرغم من الحظر على الحديث الذي دام لعقودٍ متطاولةٍ من الزمن، بل لما يربو على القرن من السنين-، فهو مما يمكن أن يترتّب عليه دلالةٌ أكبرُ سياسيّةٌ ودينيّةٌ، بالمقارنة مع عدم وجود ذلك الحظر على الحديث ونقله وتدوينه.
3) مع كل ما تقدّم يمكن القول، إنّ الإمام عليّاً(ع)  قد احتج بحديث الغدير في مواردَ عديدةٍ، وقد وصلت إلينا جملةٌ من تلك الموارد، التي حصل الاحتجاج فيها بذاك الحديث، والتي منها:
1- احتجاجه على قريش والمهاجرين والأنصار بعد وفاة الرسول(ص)، لما امتنع عن البيعة لأبي بكر، فقال في معرض بيانه رفض تلك البيعة: «يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار، أُنشدكم الله، أسمعتم رسول الله يقول يوم غدير خمٍّ كذا وكذا..»[68].
2- في يوم الشورى، إذ إنه «لما رأى أمير المؤمنين ما همَّ به القوم من البيعة لعثمان، قام فيهم، ليتخذ عليهم الحجة، فقال(ع) لهم: اسمعوا مني كلامي، فإن يكُ ما أقول حقّاً فاقبلوا، وإن يكُ باطلاً فأنكروا. ثم قال لهم: أنشدكم بالله الذي يعلم صدقكم إن صدقتم، ويعلم كذبكم إن كذبتم.. هل فيكم أحد نصبه رسول الله يوم غدير خمٍّ بأمر الله تعالى، فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، غيري؟ قالوا: لا..»[69].
3- في خلافة عثمان، عندما كان ما يربو على المائتي رجلٍ في مسجد رسول الله(ص)، فقال لهم إن الله تعالى قد أمر نبيّه أن يعلم الناس «.. ولاة أمرهم، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم وزكاتهم وحجّهم، وينصبني للناس بعد غدير خمٍّ، ثم خطب وقال:... قم يا عليُّ، فقمت، فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه..»[70].
4- في أيام خلافته في الرحبة (يبدو أنها مكانٌ واسعٌ في مسجد الكوفة أو أمامه) حيث قال الإمام عليٌّ(ع): «.. من سمع النبي(ص) يوم غدير خمٍّ ما قال، إلا قام، ولا يقوم إلا من سمع رسول الله(ص) يقول. فقام بضعة عشر رجلاً... فقالوا نشهد أنا سمعنا رسول الله يقول: ألا إن الله عز وجل وليِّي، وأنا ولي المؤمنين، ألا من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحِبَّ من أحبه، وأبْغِض من أبغضه..»[71].
5- في يوم الجمل، عندما «بعث إلى طلحة بن عبيد الله أن الْقَنِي، فأتاه طلحة، فقال: أنشدتك الله، هل سمعت رسول الله(ص) يقول: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟ قال: نعم. قال: فلِمَ تقاتلني؟..»[72].
6- في أيام خلافته، عندما أتاهَ رَكْبٌ فقالوا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال من القوم؟ قالوا: مواليك يا أمير المؤمنين، قال:... من أين وأنتم قوم عُربٌ؟ قالوا: سمعنا رسول الله يقول يوم غدير خمٍّ، وهو آخذٌ بعضدك: أيها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلنا بلى يا رسول الله. فقال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وعليٌّ مولى من كنت مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. فقال: أنتم تقولون ذلك؟ قالوا: نعم. قال: وتشهدون عليه؟ قالوا: نعم. قال صدقتم..»[73].
7- في يوم صفين، في عسكره وجمع الناس، حيث صعد المنبر، وقال: «إن رسول الله نصبني بغدير خمّ «، وقال: «أيها الناس، إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأولى بهم من أنفسهم، من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصرْ من نصره، واخذلْ من خذله»[74].
ومما لا بُدّ من الإلفات إليه هنا، هو أنّه قد اكتفينا بما احتج به الإمام عليٌّ(ع) نفسه بحديث الغدير، وإلا فإن الاحتجاج بهذا الحديث لم يقتصر على الإمام عليٍّ(ع)، وإنّما نجد أن أهل البيت(ع) قد احتجوا أيضاً بهذا الحديث، فلقد احتجت به السيدة الزهراء(ع)، والإمام الحسن(ع)، والإمام الحسين (ع)، وقد احتج به العديد من الصحابة وغيرهم. هذا وقد جمع  العلّامة الأميني في موسوعة «الغدير»[75] جملةً من تلك الاحتجاجات، حيث يظهر للمتتبع أن مجمل تلك الاحتجاجات قد وقع في القرن الأول الهجري، بل في نصفه الأول[76].
وهو ما يدلّ على أن حديث الغدير كان حاضراً في الحجاج السياسي-الديني، وجدل المشروعيّة السياسيّة-الدينيّة حينها، على الرغم من مجمل الظروف والأوضاع التي أشرنا إليها، وهو -أي ذلك الحجاج-  ما تم تدوينه أولاً، وما أمكن له أن يصل إلينا، وأن يسلم من حظر السلطة ثانياً، ومع ذلك فإنّ به كفايةً للاستدلال على مدى حضوره، وعدم غيابه عن ساحة الجدل السياسي والديني آنذاك.
4) قد يصح القول أن كثيراً من الحجاج السياسي-الديني، قد كان ذا منحًى جدليٍّ        -لأسبابٍ متعدّدةٍ-، أي كان يُعمد إلى إبطال دعوى الخصم السياسي بناءً على مبانيه ومرتكزاته الفكرية. ولذلك نلاحظ أن كثيراً من الجدل السياسي الذي صدر من الإمام عليٍّ(ع) كان يهدف إلى إبطال حجج خصومه، وإسقاط مجمل الدعاوى التي كانوا يتمسكون بها لتبرير مشروعيّتهم السياسيّة وإمساكهم بالسلطة، حيث إن إسقاط دعوى الخصم وإبطال حجته، قد يدفع إلى إظهار الدعوى المقابلة وتقدمها في نظر الجمهور والمتلقي.
وعليه، ليس من الصحيح منهجيّاً أن يُفهم من توسع الإمام(ع) -وغيره- في استخدام المنهج الجدلي في حجاجه السياسي، أن واقعة الغدير لا تصلح في مقام هذا الحجاج وأدلته، بل هو من باب أن توظيف هذا المنهج في أكثرَ من حجاج وسجالٍ، قد يكون أدعى إلى تحصيل المطلوب، وأقربَ إلى بلوغ الغاية من غيره، في ظلّ ظروفٍ وأوضاعٍ محدّدةٍ.
5) إن القبول بالتنصيب السياسي الذي حصل في غدير خمٍّ، يقوم على جملةٍ من المرتكزات الفكرية التي يجب الاعتقاد بها، حتى يُضحي متاحاً القولُ أنّه تجب طاعة النبي(ص)، والأخذ بقوله في ما أتى به من تنصيب الإمام عليٍّ(ع) خليفةً له، من قبيل أن ما يصدر عن النبي(ص)  من تكاليفَ في الشأن العام وقضية الخلافة هو من الله تعالى، لا منه، وأن الوحي (الدين) ليس مفصولاً عن الشأن العام والسياسي منه، وأن النبي(ص) عندما يتكلم أو يأمر في هذا الشأن، فليس ذلك من باب الرغبة الشخصيّة وميوله العاطفيّة، وأن النبي(ص) -بتأييدٍ وتعليمٍ من الله تعالى- ليس أقلَّ علماً من غيره في ذاك الشأن...؟؛ أما إذا اختلّ بعضٌ من هذه المرتكزات، فعندها لن يبقى لحديث الغدير من جدوًى، إذا لم يُعمل على إحكام ذلك المرتكز، ونقل النقاش إليه. والذي حصل هو أن الدعاية القرشية قد عمدت إلى هدم مجمل تلك المرتكزات الفكرية التي يقوم عليها نص الغدير، وبالتالي حتى لو قيل في مقام الحجاج مع قريشٍ -مثلاً- أن لحديث الغدير دلالةَ تنصيبٍ سياسيٍّ للإمام عليٍّ(ع) كخليفةٍ للنبي(ص)؛ فالجواب الذي يمكن أن يُلقى حينها هو أن النبي(ص) غيرُ معنيٍّ بالشأن السياسي، أو أنه قد اختار الإمام عليّاً(ع)  نتيجةَ رغبةٍ شخصيّةٍ منه، أو أنه أقلُّ علماً ودرايةً من غيره في ما يتصل بالشأن العام ومصلحة الإسلام، أو أن أوامره  وتكاليفه ليست ملزِمةً ويمكن مخالفتها...
وعليه، هل سوف يكون من الحكمة بمكان أن يتم الاحتجاج بنصٍّ دينيٍّ مع قوم (قريشٍ)، لا يعتقدون بالمرتكزات الفكرية التي يقوم عليها هذا النص؟ وأيّ جدوًى سوف تترتب على هذا النوع من الحجاج مع هؤلاء؟ إلا اللّهم في بعض الموارد، التي تترتب عليها فوائدُ أخرى، لا تتصل بإقناع هؤلاء القوم بمفاد نصّ الغدير وإلزامهم به، وإنما بمقاصدَ أخرى مغايرةٍ.
6) قد يكون في التأكيد على دور النبي(ص) في التنصيب السياسي للإمام عليٍّ(ع)، والذهاب بعيداً في هذا الموضوع، من دون كثيرِ حكمةٍ في إدارة المواجهة مع الخصوم يومها، نوعُ تهديدٍ لمكانة النبي(ص) نفسها، أو لبعضٍ من تراثه، وما جاء به من سنته وبيانه، إذ إن قريشاً كانت قد أجمعت أمرها على استرجاع السلطة بأيِّ ثمنٍ، ومهما كانت النتائج، حتى لو أدى هذا الأمر إلى أن تلحق الأضرار بالنبوّة نفسها.                                                                                                                                             ولذلك كان المطلوب إدارة تلك المواجهة بطريقةٍ يلحظ فيها الحفاظ على تراث النبي(ص) وإرث النبوة، بل والحفاظ على الإسلام، وما تم تحقيقه من إنجازاتٍ في المشروع الديني الإسلامي. لقد رسمت قريشٌ معادلةً مفادها، أننا قد نقبل من النبي(ص) -بعد أن غلب على أمره- نبوته بالمعنى الديني الخاص، أي النبوة من دون السياسة، وتحديداً في ما يتصل بمستقبل السلطة والخلافة من بعده، -ولو أمكن لها أن تقصي النبي(ص) عن السلطة لفعلت-، فيكون له الدين وتكون الدنيا لقريشٍ، أما إن حصل إصرارٌ على إقحام النبوة في مستقبل السلطة، فقد يكون هذا الأمر على حساب النبوة نفسها.                                                                                                                               وإلا كيف نفهم كل ذلك السعي إلى المنع من تدوين سنة النبي(ص)، وإحراق أحاديثه، ومنع التحديث بها، وفرض الإقامة الجبرية على بعض أصحاب رسول الله(ص) لمنعهم من البوح بها، والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم «حسبنا كتاب الله»، وما حصل لاحقاً من حربٍ شعواء من قبل السلطة الأموية على النص الديني، الذي يعنى بالمشروعيّة الدينيّة والسياسيّة لأهل البيت(ع)، بل مجمل ما ورد بحقهم، أو أُثر عنهم؟
إن ما تقدم من بيانٍ لا يلغي ضرورة الحفاظ على ذلك النص الديني -بما فيه حديث الغدير- والبوح به، وإنما يتطلب إدارة صناعة الوعي الديني والروائي وتدوينه، بطريقةٍ حكيمةٍ وهادفةٍ، تؤدي إلى مقاصدها، من دون أن تُصاب النبوة في إرثها -ما أمكن ذلك- بضررٍ لا يعوّض؛ وهو ما قد يكون قد ترك أثره في مجمل ما يتصل بحديث الغدير -وغيره من النصوص- ونقله، أو توظيفه في حجاجٍ سياسيٍّ أو آخرَ؛ هذا بمعزل عن مجمل الحظر السياسي للسلطة الرسمية على النص السياسي للمعارضة، وخصوصاً ما كان منها قويَّ الدلالة، خطيرَ الأثر، كنص الغدير.
 رابعاً: يقول الكاتب أنّ نصّ الغدير السياسيّ قد غاب عن المحاجات التي تلت وفاة النبي(ص)، ليستنتج من ذلك عدم الدلالة السياسيّة لذلك النص؛ لكنّه في المقابل لا يلحظ غياب نص الغدير الديني، ليستنتج منه عدم الدلالة الدينيّة وحصريتها.
أي كيف صحّ له أن يستدلّ في موضعٍ -مع أنّ مقدماتِ الاستدلال غيرُ صحيحةٍ- ولم يصحّ له أن يستدلّ في موضعٍ آخر -مع أنّ مقدماتِ الاستدلال صحيحةٌ-؟ فهل يمكن أن يكون الغياب التاريخيّ للتداول النصّيّ ذا دلالةٍ في موردٍ، ولا يكون كذلك في موردٍ آخر؟  وكيف يمكن لبحثٍ موضوعيٍّ أن يبني على مقدماتٍ خاطئةٍ نتائجَ غيرَ صحيحةٍ، ولا يبني على مقدماتٍ صحيحةٍ نتائجَ صائبةً مع أنّ سياق الاستدلال واحدٌ في كليهما؟
إذا كان الغياب التاريخيّ للحجاج أمراً ذَا دلالةٍ، كان الأحرى بالكاتب أن يُحكِم بحثه التاريخيّ، وأن يبتعد عن الاستنسابيّة فيه، وأن يكون وفيّاً -بالحد الأدنى- لمنهجه الذي نظّر له مليّاً، ليستوثق من جميع المقدمات ذات الصلة، ولا يقصي أيّاً من فرضيّات البحث، وعندها يمكن له أن يمارس استدلالاته التي قد تفضي إلى نتيجةٍ أو أخرى.
أمّا هذا الإيغال بالاستنسابيّة في الاستدلال والاستنتاج، وتخيُّر الفرضيّات، فهو يشي بوظيفةٍ أخرى للبحث، تجعله أقرب إلى التعبير عن المعتقد الفكريّ، والمتخيّل الشخصيّ، والدعاية ذات البعد الإيديولوجيّ، منه إلى البحث العلمي الرصين، والموضوعيّ، الذي يترك للدليل أن يختار نتيجته، وليس للنتائج المحسومة سلفاً أن تختار أدلتها وفرضيّاتها.   
12 - الأنصار وخلافة النبي(ص): من الموارد التي أراد الكاتب أن يستفيد منها للقول بعدم الدلالة السياسيّة لحديث الغدير، موقف الأنصار في قضية الخلافة، حيث يعتمد الكاتب على البعد العاطفي والوجداني في تحليله لهذه المواقف، إذ إنّه وفي ظل إنكاره لتلك الدلالة السياسية، يقول: «.. إن إعلان النبي عليّاً حاكماً من بعده يفرض امتناع حصول أيِّ بحثٍ في من يخلف النبي، هذا في ما نجد أن ممثلي الأنصار الذين تجمعهم بعليٍّ علاقةُ محبةٍ ومودةٍ، كانوا أول المبادرين في السقيفة إلى البحث في تعيين من يخلف النبي..»[77].
ويقول: «كيف يُعيَّن عليٌّ حاكماً من النبي ويسارع الأنصار  المعروفون بحبهم وودهم لعليٍّ إلى البيعة لأحد زعمائهم. بل كيف يقولون لعليٍّ حين طالبهم بسحب بيعتهم لأبي بكر، أنّه لم يعد بإمكانهم سحب بيعتهم له، على الرغم من أن هذه البيعة غيرُ مشروعةٍ بحكم مخالفتها لمقتضي تولية عليٍّ حاكماً وإماماً بعد النبي»[78].
في مقام نقد هذا التحليل، والاستنتاج الذي ترتب عليه، لا بُدَّ من القول أنّه كان ليصدق، لو لم تكن هناك فرضيّةٌ أخرى تفسّر ما أقدم عليه الأنصار في موضوع الخلافة بعد وفاة النبي(ص)، وأما إن كانت هناك فرضيّةٌ أخرى مدعومةٌ بالأدلة والشواهد، فلا يمكن عندها الذهاب إلى ذاك الاستنتاج الذي  توصل إليه الكاتب.
وهنا سوف نقسم المبحث إلى قسمين، نعمد في قسمه الأول إلى مناقشة مقاربة الكاتب، ونعمد في قسمه الثاني إلى بيان الفرضية الأخرى، التي تفسّر موقف الأنصار وسلوكهم يوم السقيفة وبعدها.
في القسم الأول نشير إلى الملاحظات التالية:
أولاً: ليس من الصحيح اختزال التحليل التاريخي في البعد العاطفي، وإنّما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار مختلف الأبعاد الاجتماعية والسياسية وغيرها.
ثانياً: يبدو التهافت واضحاً في كلام الكاتب، إذ إنّه مرةً يقول: «لا يُعقل أن يتصرّف الجميع مع ولاية العهد المفترضة كأنّها نسيٌ منسيٌّ، حتى من قبل الذين كانت تجمعهم بعليٍّ علاقةُ مودةٍ ومحبةٍ، مثل أنصار المدينة «[79]؛ ما يوهم القارئ أنّ موقف الأنصار، جميعهم، قد كان على النحو الذي ذكره، ومرةً أخرى يقول عن بيعة أبي بكرٍ أنّها:» تعرضت لنكوصٍ بعد رفض الكثير من الأنصار هذه البيعة ومطالبتهم بالبيعة لعليٍّ»[80].
وهنا أريد فقط أن أطرح هذا السؤال: هل يستوي الاستنتاج في ما لو قلنا أنّ الأنصار تصرّفوا مع ولاية العهد للإمام عليٍّ(ع) كأنّها نسيٌ منسيٌّ، ولو قلنا في المقابل أنّ الكثير من الأنصار قد طالب بالبيعة لعليّ(ع)، ورفض بيعة غيره؟ وأترك الجواب للقارئ!!
ثالثاً: إن ذاك الاستنتاج قد يصح في ما لو تغلبت النظرة الطُّهرانية إلى التاريخ، وماحصل فيه من أحداثٍ، أما إن اعتمدنا النظرة العلمية في بحث التاريخ، وتبيّن   فرضياته وأدلتها، عندها قد لا يكون عزيزاً الذهاب إلى  استنتاجٍ مختلفٍ، مبنيٍّ على  تحليلٍ مغايرٍ.
رابعاً: لقد كان من المطلوب منهجيّاً من الكاتب عدم إهمال بقيّة الفرضيّات
التاريخيّة، وأن يستوعبها بحثه، وأن يستقصي جميع أدلتها والشواهد عليها، عندها يمكن له ترجيح فرضيّةٍ على أخرى.
خامساً: كان يمكن للكاتب أن يكون أكثر عمقاً في بحثه، وأن يستفيد من العديد من المصادر والمراجع ذات الصلة[81]، ومن البحوث التاريخية التي تناولت هذا الموضوع، حتى يتجنب الإسقاط التاريخي، والاستنتاجات الخاطئة.
سادساً: توجد بعض الملاحظات في المضمون، من قبيل أنّ الأنصار يومها لم يكونوا فريقاً واحداً، بخلاف ما يُفهم من مقاربة الكاتب، وهم لم يبايعوا أحد زعمائهم -كما توهم عبارة الكاتب[82]-، وإن طُرح هذا الأمر بقوّةٍ في السقيفة، لكن لم تحصل بيعةٌ فعليةٌ لأحد زعمائهم؛ وأيضاً القول بأن الأنصار هم أول المبادرين إلى البحث في من يخلف النبي(ص)؛ يفتقد إلى التدقيق التاريخي، إذ إن مجمل المكونات السياسيّة، وتحديداً الحزب القرشي، كانت تمارس يومها حالةً من الاستنفار السياسي وغيره، للبحث في مجمل تلك المسائل التي ترتبط بأيِّ نشاطٍ سياسيٍّ ذي علاقة بالخلافة ومستقبل السلطة.
والدليل على ذلك هو ما حصل في السقيفة ومجرياتها، وأن مجمل تلك المكوّنات وقادتها قد ترك النبي(ص) مسجًّى في بيته، وذهب يبحث عن موقعه في السلطة ونصيبه منها، والنبي(ص) لم يدفن بعد في ثرى مثواه.
وإن حاول البعض أن يبرر هذا الأمر بخطورة الموقف وحساسية السلطة، فالجواب هو أنّه إذا لم تكن الخلافة تحتمل سويعاتٍ قليلةً حتى يُدفن النبي(ص)، فكيف يصحّ القول أنّ النبي(ص) -والوحي من خلفه -لم يحسم أمر الخلافة  في حياته على الرغم من أن الخطورة هي نفسها، وأنه قد تأخر حسم الموقف منها إلى ما بعد وفاته، في حين أنّ خلفاء آخرين لم يؤخروا حسم موقفهم منها إلى ما بعد وفاتهم.
 أي إنّه إذا كانت مصلحة الأمة تقتضي حسم الموقف من الخلافة قبل دفن النبي(ص) -وهي مسألة سويعاتٍ-، فمن باب أولى أن تقتضي هذه المصلحة حسم الموقف منها قبلَ وفاة النبي(ص)، وخصوصاً أنّ هذا الأمر كاد يؤدي إلى انفجار التجربة الإسلاميّة من داخلها، ومداولات السقيفة وغيرها خيرُ شاهدٍ على ما نقول.
لكن ما أعتقده هو أنّه قد كان هناك سباقٌ محمومٌ على السلطة، وأن مجمل مكوّنات (أحزاب) الاجتماع الإسلامي يومها قد اشترك في ذاك السباق، وهو يريد أن يصل قبل غيره إليها[83]، وتركوا النبي(ص) مسجًّى في داره، وقد انشغل فيه وفي تجهيزه أهل بيته وبنو هاشم، وخُلَّص أصحابه، وفي هذا الموقف العديد من الدلالات التي يجب ألّا تغيب عن ذهن الباحث.
 إن من يدقّق في بعض ما دوّن في كتب التاريخ والسيرة وغيره، يستطيع أن يلتقط العديد من الإشارات والشواهد -بل والأدلّة- على أن المجريات السياسيّة يومها، لم تكن تجري بتلك العفوية والطُّهرانية، التي يحاول البعض أن يصوّر الأمور من خلالها، بدرجةٍ تقترب في العديد من الأحيان من شيءٍ من التبسيطيّة التاريخيّة -ولا أقول السذاجة البحثيّة-، التي تعاني نوعاً من الانفصام عن معطيات التاريخ والاجتماع، بل والدّين في العديد من نصوصه، ومصادره.
أمّا في القسم الثاني، فلا بُدّ من ذكر الأمور التالية:
أولاً: في الظروف التي اجتمع الأنصار في سياقها في السقيفة، حيث يمكن القول أن وفاة النبي(ص) قد كانت لحظةً استثنائيّةً، وحدثاً مفصليّاً وكبيراً في الاجتماع الإسلامي يومها. هو حدثٌ أثار العديد من التساؤلات والمخاوف، بل والقلق الوجودي -لدى البعض- على المستقبل، وما يمكن أن يحمله من تداعياتٍ، ويأتي به من نتائجَ تتعلق بالوجود، والمصير، والدور، والمصالح وغير ذلك، وهو ما يؤدي -وأدّى حينها- إلى أن يلتف كلُّ مكوِّنٍ اجتماعيٍّ-سياسيٍّ على ذاته، ويجتمع حول نفسه، بحثاً عن الخيارات والإجابات التي يمكن أن تستجيب لمخاوفه وقلقه، بل أيضاً لمصالحه وتطلّعاته.
 لقد اجتمع الأنصار في سقيفتهم، لأنهم كانوا في لحظةِ قلقٍ مصيريٍّ، وفي ظل أوضاعٍ مستجِدَّةٍ، ولحظةٍ تاريخيّةٍ حاسمةٍ، استدعت منهم الاجتماع للبحث في مستقبلهم ودورهم بعد وفاة النبي(ص)، وخصوصاً أن مجمل المعطيات التي بدأت تظهر من ما قبل وفاة النبي(ص)، تشير إلى أن الحزب القرشي قد أخذ قراره بالوصول إلى السلطة -مهما كانت النتائج- وأنه قد أعدّ العدّة لذلك -بما في ذلك على المستوى القتالي واحتمالات المواجهة العسكريّة[84]-؛ وأن قراراً واضحاً قد بدأ العمل عليه لإقصاء الخلافة عن بني هاشم والإمام عليٍّ(ع) تحديداً، وأن قريشاً -من خلف الأحداث- قد أخذت تستعيد دورها، وتتحضر لاستعادة السلطة  التي فقدتها، وهو ما يثير العديد من المخاوف والتساؤلات حول المستقبل، خصوصاً أنه قد كان للأنصار دورٌ أساسيٌّ في نصرة النبي(ص) وهزيمة قريش، وما خلّفته الحروب معها من قتلى فيها، ودواعٍ للثأر لديها، وجراحٍ نفسيّةٍ، وعداواتٍ، كانت الأنصار تخشى من مفاعيلها في يوم من الأيام.
في تلك اللحظة المصيرية والظروف المأزومة على أكثر من مستوًى، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لاعتماد خياراتٍ يمكن أن تكون مصدر تسكينٍ لقلقهم، وتهدئةٍ لمخاوفهم، وضمانٍ لهم مما يمكن أن يحمله المستقبل، حيث كانت السلطة (الخلافة) يومها من أهم الأسباب التي يمكن الركون إليها في هذا السياق.
ثانياً: في هدف اجتماع السقيفة وأُفقه أي هل كان الهدف من اجتماع السقيفة هو مجرد البحث عن خياراتٍ وإجراءاتٍ تستجيب لتلك التساؤلات، وذاك القلق، في تلك الظروف الحساسة والمصيرية؟ أم إنّ ذاك الاجتماع كان يهدف إلى ما هو أبعد من ذلك، أي أنّ أُفقه كان يرقى إلى إمكانيّة وصول أحد زعماء الأنصار ووجوههم إلى سدّة الخلافة، وأعلى هرم السلطة؟
ربما قد يساعد على هذا الأمر البحث في كيفية حصول هذا الاجتماع من الأنصار، أنّه حصل نتيجة تدبيرٍ استثنائيٍّ منهم، أم أنّه حصل في إطار عيادة زعيم الخزرج يومها سعد بن بن عبادة؟ لكن أيّاً تكن الكيفية تلك، فمن الواضح أنّ هذا الاجتماع قد حصل، وأنّه حصل في ظل تلك الظروف التي تحدثنا فيها، وأنه اجتماعٌ كان يُعنى بمستقبل الأنصار، وموقفهم، ومصيرهم على ضوء مستقبل السلطة والخلافة في الاجتماع الإسلامي، وأن الفيصل في تقديم الإجابات عن تلك الأسئلة، هو طبيعة المداولات التي حصلت في السقيفة، ومجمل القرائن  ذات الصلة.
في مقام الجواب عن السؤال حول مدى اجتماع السقيفة والهدف منه، قد يصحّ القول أن المستوى الذي يمكن أن يدّعى الجزم به، هو البحث عن خياراتٍ وإجاباتٍ تستجيب لذاك القلق على المصير، في ظل تلك الظروف والأوضاع المستجدّة، بل ربما يدّعى أنه كان هناك أيضاً بحثٌ عن الدور والمصالح على ضوء مستقبل السلطة، وما يمكن أن تؤول إليه في غدها.
أما القول بأنّ الأنصار قد تطلعوا إلى الوصول إلى الخلافة، فلربما يعضد هذا
الاحتمال أنهم قد كان لهم دورٌ أساسيٌّ في وصول (التجربة الإسلاميّة) في حياةالنبي(ص) إلى ما وصلت إليه من نجاحٍ وتمكُّنٍ، وأن مركز الدعوة  والدولة قد أضحى في ديارهم ومدينتهم، وهم أصحاب الثقل فيها، وأيضاً بعض المداولات التي حصلت في السقيفة من قبل بعض وجوههم، والتي قد يستفاد منها أنه قد كان هناك -في إطارٍ ما- تطلّعٌ لدى بعضهم إلى رئاسة الدولة الإسلامية وخلافة النبي(ص).
لكن قد يُناقش هذا الاحتمال بأن الثقافة العامة، والسياسية منها، ما كانت لترجّح أن يتولى هذا الأمر من كان أبعد عن النبي(ص) نسباً ومنبِتاً، وأنّ الصراع قد كان بشكلٍ أساسيٍّ بين الحزب الهاشمي والحزب القرشي، أنّ الأنصار كانوا يعانون يومها من انقسامات متعددة بينهم، أوهنت موقفهم، وحولتهم إلى أكثرَ من فريقٍ، أمكن استمالة بعضه من قبل الحزب القرشي، الذي نجح حينها في استقطاب زعيم الأوس، وبعض وجوه الخزرج[85].
أمّا تلك السّجالات التي حصلت في السّقيفة، فقد يُقال أنها تعبّر عن تطلّعٍ ما من قِبَل بعض زعمائهم أو وجوههم، في إطار تلك الظروف التي استجدت، والتي قادت إلى مباشرة ذلك التفاوض مع الحزب القرشي للوصول إلى السلطة (الخلافة) أو المشاركة فيها بتكافؤٍ وندّيّةٍ، لكن هذا التطلّع قد لا يعكس موقف جميع الأنصار ومكوّناتهم، أو القناعة المبدئيّة لبعض جماعاتهم وأشخاصهم.
وما ينبغي التأكيد عليه، هو أنّ الذي خيّم على موقف الأنصار عامّةً، هو الانقسام بين مكوناتهم، والتردّد أو الضّعف في حسم الخيارات لديهم، وهو ما أدّى إلى أن ينضم البعض منهم إلى السلطة الجديدة، في حين انسحب البعض منهم من ساحة الاجتماع السّياسي حينها، في حين أنّ بعضًا منهم قد انحاز إلى الإمام عليٍّ(ع)، ونادى بالبيعة له. لكنّ التقدير العام هو أنّهم لم يديروا الأزمة بشكلٍ ناجحٍ، فلا هم وقفوا في مجملهم بشكلٍ مبدئيٍّ وحازمٍ مع الإمام عليٍّ(ع) وأهل بيت النبي(ص) في تلك الأزمة[86]، ولا هم استطاعوا أن يشاركوا في السلطة بالشكل الذي أرادوا، حيث ساعد انقسامهم وتردّدهم، وسوء إدارتهم للأزمة، في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، حيث كانت النتيجة أنه بعد عقودٍ قليلةٍ من الزمن، وصل الحزب الأموي إلى السلطة، وحصل ذلك الهجوم على المدينة بعد شهادة الإمام الحسين(ع)  وما جرى عليه في كربلاء، في زمن يزيد بن معاوية، حيث استُبيحت بمالها، وأعراضها، ودماء أهلها من قِبل المهاجمين، حتّى ليصحّ القول أنّ مخاوف بعض الأنصار وهواجسه في السقيفة[87] قد تحققت، ولو بعد حينٍ من الزمن.
 ثالثًا: كيف تطورت الأمور في السقيفة إلى ما آلت إليه، حيث كانت النتيجة في صالح الحزب القرشي بالكامل، ولم تكن محل قبول من قِبَل فريق من الأنصار، وأحد أهم رؤوسائهم سعد بن عبادة، وهو زعيم الخزرج في حينها؟
قد يصح القول أنّ تطور الأمور إلى ما وصلت إليه، قد كان في جانبٍ منه عن نوعٍ من التدبير المسبَق، وأنّ جانبًا آخرَ قد كان نتيجة طبيعة المواقف والأحداث وتطورها الدراماتيكي، حيث يمكن أن نشير إلى جملةٍ من الأسباب والعوامل التي أدّت إلى أن تؤول السلطة كاملةً إلى الحزب القرشي، وأن تحصل البيعة لأبي بكرٍ في السقيفة، من دون أن يتحقق أيٌّ من مطالب الأنصار (فريق منهم)، وطروحاتهم التي تقدموا بها في ذلك الاجتماع، وهي (أي تلك الأسباب والعوامل) ما يلي:
1- الانقسامات التي كانت قائمةً بين الأنصار أنفسهم، إذ إنّه في الوقت الذي كان زعيم الخزرج سعد بن عبادة يدير التفاوض مع الحزب القرشي، فقد كان زعيم الأوس أسيد بن حضير، وأحد أهم وجوه الخزرج، بشير بن سعد؛ يقفان إلى جانب الحزب القرشي، ويدعمان خطته، ويعملان بقوةٍ على إنجاح مشروعه، حيث قد لا يكون مستبعداً أبداً أن يكون قد عُمل على الاستفادة من تلك الانقسامات البينية داخل الأنصار أنفسهم  [أوس/ خزرج؛ سعد بن عبادة/ بشير بن سعد (من وجوه الخزرج)] من أجل استمالة بعض وجوه الأنصار وزعمائهم لصالح الحزب القرشي، وإنجاح مشروعه، بالانقلاب على الشرعية الدينية والسياسية، التي تبلورت في غدير خم.
2- الركون إلى الوعود بالمشاركة في السلطة، إذ إن الصيغة التي تم طرحها من قِبَل الحزب القرشي في السقيفة، هي صيغة تتضمن نوعاً من أنواع المشاركة في السلطة من قِبَل الأنصار (نحن الأمراء، وأنتم الوزراء)، بحيث تكون الخلافة للحزب القرشي، وتكون الوزارة لأولئك الفرقاء من الأنصار وزعمائهم ووجوههم. والذي أعتقده أن هذا الأمر قد كان سبباً أساسيّاً في دفع بعض زعماء الأنصار ووجوههم إلى الميل للمشاركة في مشروع الحزب القرشي، حيث إن تلك الصيغة التي تم طرحها علانيةً في اجتماع السقيفة من قبل الحزب القرشي (نحن الأمراء وأنتم الوزراء)، ليس مستبعداً على الإطلاق أن تكون قد طرحت مسبقاً في اجتماعاتٍ مغلقةٍ مع ذاك الفريق من الأنصار -الذي وقف بقوّةٍ مع الحزب القرشي ودعم خطته-، بهدف استمالته، وجذبه إلى المشاركة في مشروع الانقلاب على الشرعية الدينية والسياسية المتمثلة في الإمام عليٍّ(ع).
3- ربما يكون قد تولدت يومها قناعةٌ ما لدى ذاك الفريق من الأنصار -أو لدى أكثرهم- أن الحزب القرشي ماضٍ في إحكام مخططه، ومصرٌّ على تنفيذ مشروعه، وأنه يمتلك من عناصر القوة، وفرص النجاح، ما يجعل منه رهاناً رابحاً في حال الاشتراك معه في مشروعه والمساهمة فيه، وهو ما يمكن أن تثبته تلك الأحداث التي حصلت بعد وفاة النبي(ص) مباشرة، فضلاً عمّا تلاها بعد مدةٍ وأخرى.
إن القول بأن عامة المهاجرين[88] قد اجتمعوا حول أبي بكرٍ بعد وفاة النبي(ص) أمرٌ ذو دلالةٍ، إذ إنه يشي بأن العامل القرشي قد كان بمثابة المحرك الأساس لدى هذا الفريق (الحزب القرشي) في الموقف من مستقبل السلطة والخلافة. وإن حضور «قريشٍ» بقوّةٍ في مجمل المداولات والسجالات السياسيّة التي حصلت بعد وفاة النبي(ص)، يدلّ على أن العقيدة السياسية (القديمة، الجديدة) لقريشٍ، قد عادت تطرح نفسها بشكلٍ مؤثِّرٍ وفاعلٍ على مسرح الأحداث وصناعتها. وهو ما يساعدنا أكثر على فهم المناخات السياسية التي كانت قائمةً، وطبيعة المواقف حينها، بما في ذلك الموقف من بني هاشم والبيت النبوي، ووصول الإمامُ عليٌّ(ع) إلى الخلافة.
لا شك في أن قريشاً لم تكن ترضى أن يؤول أمر السلطة والخلافة إلى بني هاشم، لأنه إن دخلت الخلافة يومها البيت النبوي (أهل البيت(ع))، فلن تخرج منه إلى غيره، ولن يتمّ تداولها عندها بين بطون قريشٍ؛ ولأنه كان يُنظر إلى الإمام عليٍّ(ع) من قبل ذاك الفريق باعتبار كونه الشخصيّة المفضّلة والمقدمة من قِبل النبي(ص)، وهو ما ترك العديد من الآثار السلبية في الموقف من الإمام(ع) نفسه، فضلاً عن دوره الأساس في كسر شوكة قريش، وإذلالها في العرب، وما خلفه هذا الأمر من عداوة في نفسها، زاد فيها الميل إلى الثأر لرجالها وأبنائها، الذين طحنتهم بكلكلِها الحروب المتتالية مع النبي(ص)، وما كان فيها من دورٍ حاسمٍ للإمام عليٍّ(ع) في إنجاحها، والوصول بها إلى خواتيمها التي آلت إليها.
 لقد أجمعت قريش على أنه يكفي بني هاشم شرفاً أنهم قد أخذوا النبوة، أما بقية الشرف والمكانة (الخلافة)، فقد آن أوان دورهم فيها، ونصيبهم منها.
 إذاً لا بدّ من تقاسم السلطة، وبالأحرى هنا تداولها، لقد أخذ بنو هاشم النبوة، فليتركوا الخلافة ( لا تجتمع النبوة والخلافة فيكم يا بني هاشم)، فإذا كان النبي(ص) منهم، والنبوة فيهم، فعليهم أن يدعوا الخلافة لغيرهم من قريشٍ وبطونها، تتداولها بينها.
هي العقيدة السياسية لقريشٍ -فضلاً عن العوامل والأسباب الأخرى-، قد عادت تسهم بقوّةٍ في صناعة الحدث، وهي ليست تلك العقيدة المتأتّية من الدين والوحي، أو التي تملك مشروعيتها الدينية أو السياسية، وإنما قد عُمل على إعادة استحضار تلك العقيدة، في ما يتصل بقضية انتقال السلطة بعد وفاة النبي(ص)، وأوان استحقاقها، وهو ما لا يمكن أن نستفيد منه على الإطلاق أنه لم يكن هناك تنصيبٌ سياسيٌّ في غدير خمٍّ، لأنه لا يصح منهجياً وتاريخياً الاستناد إلى عقيدة قريش السياسية وعداوتها وأحقادها، لفهم ما جاء به الدين أو ما لم يجئ به، ولا لمعرفة ما قام به النبي(ص)، أو ما لم يقم به، لأن العقيدة القرشية في السياسة وغيرها كانت على النقيض من كل ذلك، وفي طرفه المقابل؛ هذا إذا لم نقل بأن عودة تلك العقيدة القرشية للعب ذلك الدور على مسرح الحدث، قد يشكل بنفسه نوع قرينةٍ على التنصيب السياسي للإمام عليٍّ(ع) في غدير خمٍّ، وليس العكس، لأن ذلك يدلّ -بالمنطق العقلاني- على أن قريشاً ما زالت إلى حينها حاضرةً في عقيدتها وثقافتها، وأنّ هناك بالتالي حاجةً ماسّةً إلى إيكال أمر السلطة والخلافة إلى من يملك تلك الحصانة من قريشٍ في تلك الثقافة والعقيدة التي كانت عليها، حتى يكمل قيادة المشروع الحضاري الإسلامي وقيادة الدولة الإسلاميّة، بعيداً عن أيِّ مؤثراتٍ يمكن أن يُعمل على اجترارها من الثقافة القرشية  وعقيدتها وجاهليتها، وهو ما يعني أن الوصول إلى سدّة الخلافة وأعلى هرم السلطة من قِبل ربيب النبوة ومن تربى منذ صغره في بيت النبي(ص) وعلى قيمه وخُلقه، بعيداً عن مجمل تلك المؤثرات الجاهلية التي كانت لدى قريش[89]؛ سوف يشكل الضمانة المثلى لاستمرار المشروع النبوي، بعيداً عن أيِّ مؤثراتٍ خارجيّةٍ وهجينةٍ، يمكن أن تترك أثرها على المشروع الحضاري الإسلامي في أيٍّ من أبعاده.
أما في ما يرتبط بامتلاك عناصر القوة المادية والبشرية على وجه التحديد، فلعلّه يكفي أن نلتفت إلى ما جاء في بعض المصادر التاريخية، من دخول قبيلة (أسلم) إلى المدينة من خارجها برجالها، وهم بالمئات ولربما أكثر، يتقلّدون سيوفهم، في تلك الساعات الحاسمة من أزمة الخلافة، وانتقالها، والصراع عليها، حتى قيل في مقام التعليق على ذاك المشهد، كلامٌ ذو دلالة بالغة الأهميّة، «فلما رأيت أسلم أيقنت بالنصر»[90]؛ وهو ما لا يحتاج إلى كثيرِ تحليلٍ تاريخيٍّ، حتى نعلم أن اليقين بالنصر بمجرد رؤية «أسلم» ورجالها، لا يكون إلا عن تدبيرٍ مسبقٍ، واستعدادٍ للذهاب بهذه المواجهة إلى مداها الأبعد، وساحها الأرحب.
 ولعلّه هذا ما أدركه فريق من الأنصار ومن وجوههم، مما جعله -بحسابات المصالح السياسيّة- يراهن أكثر على الحزب القرشي وإمكانية وصوله إلى السلطة، والاشتراك معه في إنجاح خطة الانقلاب على الشرعيّة الدينيّة والسياسيّة المتمثلة في أهل بيت النبي(ص) والإمام عليٍّ(ع).
وهو ما قد يكون انعكس على موقف ذاك الفريق والخيارات التي اعتمدها، إذ إنه، وعلى الرغم من القول بالتنصيب السياسي والمشروعيّة السياسيّة والدينيّة المتأتية من غدير خمٍّ، قد يكون هذا الفريق وجد أن هناك درجةً أدنى احتمالاً لوصول الإمام عليٍّ(ع) إلى فعلية الخلافة، وإمساكه العملي بالواقع السياسي، والسيطرة عليه.
وهو ما يُرجّح أن ذاك الفريق قد اختار النأي بنفسه عن الإمام عليٍّ(ع) ونصرته، حتى لا يُضحي في مواجهة السلطة الجديدة (الحزب القرشي)، في حال نجحت في الوصول إلى الخلافة، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من ارتداداتٍ عقابيةٍ، ربما آثروا السلامة بأنفسهم فيها. وما حصل لاحقاً مع زعيم الخزرج سعد بن عبادة، ومقتله غيلة بعد سنواتٍ قليلةٍ من حادثة السقيفة، حتى قيل أن الجن قد قتلته، قد يكون إشارةً دالّةً على ما نقول.
4- من العوامل الأساسيّة التي ساعدت على تطور الأمور في السقيفة إلى ما آلت إليه؛ غياب البيت النبوي وبني هاشم، وخصوصاً الإمام عليٍّ(ع) عنها، وعن السجالات التي دارت فيها، بسبب انشغاله بالنبي(ص) وتجهيزه ودفنه، ما أوجد فرصةً للحزب القرشي لكي يستغلّ هذا الغياب من أجل أن يُحكِم أمره، من دون أن يكون هناك تواجدٌ لأيٍّ من الشخصيّات الأساسيّة من بني هاشم، حتى لا يتمّ إفشال ذلك المخطط، الذي أريد من خلاله تحويل اجتماع السقيفة إلى فرصةٍ لإنجاز بيعةٍ كيفما اتفق، وبمن حضر، بيعةٍ يُستند إليها في ادعاء مشروعيةٍ ما، في قبال مشروعية التنصيب السياسي للإمام عليٍّ(ع) في غدير خمٍّ، لكن على أن يُصار لاحقاً، وبشكلٍ سريعٍ وحاسمٍ، إلى إعلانها، وترتيب مفاعيلها السياسيّة.
 لقد كان المراد اقتناص الفرصة، وتغييب بني هاشم عن السقيفة، لأنه لو حضرت الشخصيات ذات الثقل منهم، وخصوصاً -الإمامَ عليّاً(ع)-، لما أمكن لدعاوى الحزب القرشي ومبرراته السياسية أن تمرّ دون أن تلقى تلك الردود والإجابات التي تسقط مفاعيلها، وتظهر وهنها، وتؤدي إلى إخفاق مسعى الحزب القرشي في الحصول على تلك البيعة التي أرادها.
لقد ضعف الأنصار عن مواجهة منطق الحزب القرشي الذي استخدمه في السقيفة، لكن هذا المنطق -كما تبيّن لاحقاً- هو نفسه المنطق الذي دعم حجّة الإمام عليٍّ(ع) في مواجهة الحزب القرشي نفسه[91]. وهو المنطق الذي جعل العديد من الفرقاء (أو الشخصيّات) لاحقاً يقرّ بقوته، وقدرته على إسقاط المبررات السياسية وغير السياسية التي استخدمها الحزب القرشي للوصول إلى السلطة.
ولذلك كان المطلوب تجنّب هذه المواجهة في المشروعيّة السياسيّة مع البيت النبوي قبل حصول البيعة، أما بعدها، فيكون الأمر قد أُحكم، وتكون المفاعيل السياسية قد بدأت تأخذ مجراها في الواقع السياسي.
ولذلك لم يكن من قبيل الصدفة تغيّب بعض المكونات السياسية (الحزب القرشي) عن مراسم تجهيز النبي(ص)، وإصراره على حضور اجتماع السقيفة، -على الرغم من النصح الذي وُجّه إليه بعدم المضي إليه[92]-، وسعيه الحثيث إلى عدم ترك ذاك الاجتماع دون أن تحصل بيعةٌ كيفما اتفق، وبمن حضر، حتى من دون أن تتم مشاورة الكثير من الصحابة بل مجملهم، والعديد من المكونات الأخرى، لأنه كان من المطلوب أن تحصل تلك البيعة بعيداً عن هؤلاء، وبمعزل عنهم، حتى يتمّ التمسك بمشروعية ما يستند إليها، في قبال مشروعية التنصيب السياسي والديني للإمام عليٍّ(ع).
ولذلك تفصح المصادر التاريخية عن أنه بمجرد حصول تلك البيعة، فقد سارع الحزب القرشي إلى تثبيت فعليتها في الواقع السياسي، وإلى دعمها بالعديد من عناصر القوة الفعلية، وتحويلها إلى واقعٍ عمليٍّ في لحظة تغيب بني هاشم، والبيت النبوي خصوصاً، عن المسرح السياسي وصناعة الحدث بسبب ذاك الانشغال بالنبي(ص)، وتجهيزه، ودفنه.
- تلخيص واستنتاج: يمكن أن نجمل أهم الأسباب والعوامل التي جعلت الأنصار ينحون ذلك المنحى من قضيّة الخلافة والسلطة بعد وفاة النبي(ص)،حيث يمكن القول أنّهم -في بعض فرقائهم- قد انزلقوا إلى حلبة السلطة، والمشاركة في السباق إليها، فيما انضم فريقٌ آخرُ منهم -على ما يبدو- إلى الحزب القرشي ومشروعه، لأسبابٍ وغاياتٍ عديدةٍ، منها تلك الوعود التي قدمت له، ليكون في موقع الوزارة في السلطة الجديدة.
وعليه، إذا كان السؤال عن موقع الأنصار من التنصيب السياسي للإمام عليٍّ(ع) -وهم الأقرب إليه-، على الرغم من حصوله (التنصيب) في غدير خمٍّ، وهو على مسافة شهرين من وفاة النبي(ص)؛ لا بدّ من القول، أنه في ظل تلك الظروف التي أشرنا إليها، من عدم الاستقرار السياسي، والخوف من المستقبل وعليه، وتَحضُّر بعض المكونات السياسيّة (الحزب القرشي) للتوثب على السلطة والانقلاب على مشروعية الإمام علي(ع) وشرعيّته السياسيّة؛ فقد انقسم الأنصار على أنفسهم، ولم يتصرفوا كفريقٍ واحدٍ، أو كتلةٍ واحدةٍ، وإنما -بشكلٍ أساسٍ- كفريقين اثنين، حيث انحاز فريق منهم إلى الحزب القرشي، بسببٍ من تلك الوعود التي قدمت له للمشاركة في السلطة (أنتم الوزراء)، ولربما لحساباته في أن الانحياز إلى الحزب القرشي قد يكون الرهان الرابح لديه في موازين القوى التي كانت قائمةً، والضغوط التي كانت تمارس من قريشٍ (التحالف القرشي) لإزاحة الأمر عن بني هاشم، وإقصاء الخلافة عن الإمام عليٍّ(ع).
في ما يبدو من محاضر اجتماع السقيفة، أن فريقاً آخر قد انزلق إلى التنافس مع الحزب القرشي على السلطة ورئاستها، أو المشاركة الندّية فيها (منا أميرٌ ومنكم أميرٌ)[93]، لكنه لم ينجح في تحقيق هدفه هذا.
 وهو ما قادنا إلى البحث في الأسباب، التي أودت باجتماع السقيفة إلى ما آل إليه من استفادة الحزب القرشي منه، وانجازه بيعةً أوّليةً (فلتةً وقى الله شرّها)، شكّلت منطلقاً له لإكمال بقية خطوات مشروعه؛ حيث يمكن القول أن من تلك الأسباب الانقسام البيني (أوس/ خزرج؛ خزرج/ خزرج)، الذي كان قائماً بين الأنصار، ونجاح الحزب القرشي في اللعب عليه، والاستفادة منه؛ وغياب بني هاشم والموالين للإمام علي(ع) عن ذاك الاجتماع، بسبب الانشغال بالنبي(ص) وتجهيزه؛ وضعف حجة ذاك الفريق من الأنصار في قبال حجة الحزب القرشي، التي كانت أقرب إلى الثقافة السياسية السائدة يومها (نحن أولياؤه (محمد(ص)) وعشيرته)؛ والخطاب الذي يحمل نوع تقديرٍ وتطمينٍ للأنصار، وذلك من خلال الوعود التي قُدّمت لهم لإشراكهم بالسلطة (أنتم الوزراء، لا نفتات (نستبد) دونكم بمشورةٍ، ولا تنقضي دونكم الأمور)؛ هذا فضلاً عن ضعف إدارة التفاوض مع أقطاب ذلك الحزب في السقيفة، والذي قد يكون له أسبابٌ متعدّدةٌ، منها أنهم لم يكونوا مسبوقين بمجيء وفد الحزب القرشي إلى اجتماعهم، وقد يكون منها الظرف الصحي الذي كان يمر فيه زعيم الخزرج يومها سعد بن عبادة، ما أضعفه عن القيام بدور أفضلَ في ذاك الاجتماع.
أما إنْ طُرح السؤال حول السبب في عدم تجاوب جملة زعماء الأنصار لاحقاً مع الإمام عليٍّ(ع) في نصرته، والالتزام بلوازم مشروعيته السياسية المتأتية من التنصيب السياسي الذي حصل في غدير خمٍّ، فيمكن القول أن مجمل الأسباب التي دفعت الأنصار إلى عدم الالتزام باللوازم السياسية لبيعة الإمام عليٍّ(ع) في غدير خمٍّ، والذهاب عوضاً عن ذلك إلى تقديم البيعة للحزب القرشي في سقيفة بني ساعدة، هي نفسها الأسباب التي جعلتهم يقعدون عن إجابة الإمام عليٍّ(ع) ونصرته، بعد أن حصلت البيعة في السقيفة، وما تلاها من أحداثٍ.
يضاف إلى ذلك، أن انقلاب الموقف في السقيفة لغير صالحهم قد عزّز الانقسام بينهم وأضعف موقعهم، بل قد ألجأ أحد أبرز زعمائهم، سعد بن عبادة، إلى اتخاذ قراره بالذهاب إلى منفاه الاختياري في الشام، ربما اعتراضاً على ما حصل في سقيفتهم، أو خوفاً مما يمكن أن تحمله الأيام له، وإن لم يشفع له ذلك من ملاقاة مصيره، حيث تمّ اغتياله في منفاه بعد سنواتٍ قليلةٍ من حادثة السقيفة، في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
يضاف إلى تلك الأسباب، أن استجابة فريقٍ من الأنصار للإمام عليٍّ(ع)، ونصرتهم له في ذلك الموقف، كان من المرجّح أن يؤدي إلى أن تتطور الأمور إلى حربٍ داخليةٍ بين الأنصار أنفسهم -كما بين المهاجرين-، إذ إن فريقاً منهم، وبعض وجوههم، كان جزءاً من مشروع الحزب القرشي في الانقلاب على شرعية الإمام عليٍّ(ع) وخلافته.
إن محاولة الأنصار (فريقٍ منهم) الدخول إلى حلبة المنافسة على السلطة، وانتهاء هذه المحاولة بالإخفاق، قد أدّت إلى اهتزاز وضعهم، وساهمت في إضعافهم، وتعميق انقساماتهم، وإخراج بعضهم من ساحة الصراع السياسي إلى منفاه الاختياري، فيما آثر آخرون النأي بأنفسهم عن طرفي ذلك الصراع (الحزب القرشي/ الإمام عليٍّ(ع) وأنصاره)، واختاروا سياسة الحياد، والجلوس على التلّ، حيث قد يكون هناك من رأى منهم في هذا الصراع صراعاً بين المهاجرين أنفسهم، أو بين بني هاشم وبقية بطون قريشٍ، -وهم ليسوا لا من المهاجرين، ولا من قريشٍ-، فاختاروا أن يبقوا بمنأى عنه، وتربص مآلاته.
والذي يستفاد من جملة الشواهد التاريخية، أن الروح القبلية والعشائرية، قد عادت لتظهر بقوّةٍ على مسرح الأحداث بعد وفاة النبي(ص)، وأن كل فريقٍ قد عاد إلى مربعه الأول الذي كان عليه قبل الإسلام، وأن خريطة الانقسامات التي كانت في الجاهلية وقيمها قد استعادت حضورها مجدداً في الميدان، بل قد أضحت هي المحرك الأساس لمجمل الفرقاء السياسيين، والمكوّنات السياسية في قراراتها ومواقفها. وهو ما يساعدنا كثيراً على فهم طبيعة تلك المجريات التاريخيّة، والمواقف السياسيّة، من خلال منهج الواقعية السياسية في البحث والقراءة، بعيداً عن أية طُهرانيّةٍ تاريخيّةٍ، تعيق النظرة العلمية إلى تلك المرحلة من التاريخ وتحليلها، حيث يمكن أن نستنتج بناءً على ما تقدم من بيانٍ وتحليلٍ -لم نتوسع فيه كثيراً-، أن ما حصل من سلوكٍ سياسيٍّ للأنصار، ومجمل فرقائهم، والعديد من وجوههم، بعد وفاة النبي(ص)؛ لا يصحّ أن يستفاد منه على الإطلاق أنه لم يكن هناك من تنصيبٍ سياسيٍّ في غدير خمٍّ، أو أن إعلان النبي(ص) يومها  يفتقد إلى الدلالة السياسية، لأن الوصول إلى هذا الاستنتاج يعوزه البحث التاريخي الموضوعي والمستوعب لجملة تلك القضايا، وهو (أي الاستنتاج) يمارس إسقاطاً إيديولوجيّاً على التاريخ، ويقصي فرضيّاتٍ أخرى، ولا يعطيها حقها من البحث والتحليل التاريخيّين.
إن ما تقدّم من تحليلٍ تاريخيٍّ يفيد، أنه على الرغم من حصول تلك البيعة السياسية في غدير خمٍّ، إلا أن الأنصار -ونتيجةً لحساباتهم ومصالحهم ورؤيتهم لتلك الحسابات والمصالح- قد آثروا اعتماد سلوكٍ فيه الكثير من تقديم المصلحة الفريقية -بالمعنى السياسي-، والاستجابة لتطلّعاتهم وهواجسهم ومصالحهم الخاصة -بالشرح الذي قدمناه آنفاً-، على الرغم من إدراكهم لدلالة الواقعة في غدير خمٍّ، ومعرفتهم بالتنصيب السياسي الذي حصل فيه، ومكمن المشروعيّة السياسيّة المتمثلة في الإمام عليٍّ(ع). وإن أثبت لاحق الأيام أن تلك الرؤية كانت رؤيةً خاطئةً، دفعوا ثمنها الكثير من دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، بعد عقودٍ قليلةٍ من حادثة السقيفة.
هذا مع ضرورة الإلفات -للأمانة العملية والدّقة التاريخيّة- أنّ بعضاً من الأنصار -زعيم الخزرج سعد بن عبادة- لم يبايع في السقيفة، ولا بعدها، إلى أن اغتيل في حوران بعد حوالي ثلاثٍ سنوات من حادثة السقيفة.
ومع الإشارة إلى أن عدداً من الأنصار بقي على التزامه البيعة للإمام عليٍّ(ع)، حيث تذكر العديد من المصادر التاريخيّة أن فئةً منهم أعلنت موقفها في تلك الأحداث، بقولها (لا نبايع إلا عليّاً)[94]، ما يدل على أنه قد كان هناك من لا يزال على موقفه من بيعة غدير خمٍّ ولوازمها السياسية، وهو ما كان ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في بحث الكاتب، إذ ليس من الصحيح ممارسة الانتقائية في اختيار الفرضيات والشواهد التاريخية، فكما تمّ الاستناد على موقف فئةٍ من الأنصار -ولو كثرت- للوصول إلى استنتاجٍ أو آخرَ، كان من المطلوب منهجيّاً الاستناد على موقف تلك الفئة منهم -وإن قلّت- التي بقيت على موقفها من الإمام عليٍّ(ع) ومشروعيته السياسية (لا نبايع إلا عليّاً)، بمعزلٍ عن مدى استعدادها في الذهاب في اعتراضها على إقصاء الإمام عليٍّ(ع) عن الخلافة إلى هذا المستوى أو ذاك في الفعل والممارسة، في أن تبقى في إطار الاعتراض السياسي، أم أن تذهب أبعد من ذلك إلى حدّ الاستعداد لتصحيح تلك الأوضاع التي طرأت واستجدّت بالقوة والسيف؛ إذ إن مجرد وجود فئةٍ، ولو قليلةٍ، من الأنصار على ذلك الموقف، فإنه قد يشكل نوعَ قرينةٍ تاريخيّةٍ
-بحسب منهج الكاتب- كان يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وألّا يتمّ القفز فوقها في مقام البحث والاستدلال.
هذا بالإضافة إلى الخلل المنهجي في استدلال الكاتب، والمتمثّل في أن الدليل أعم من المدعى، إذ أن القول إن بيعة فريقٍ من الأنصار في السقيفة مردّه إلى عدم التنصيب السياسي في غدير خمٍّ غيرُ صحيحٍ منطقيّاً، لأنه قد يكون مردّه إلى أسبابٍ ودواعٍ أخرى، شرحنا جملتها في هذا البحث، حيث كان على الكاتب أن يستوعب بحثه جميع تلك الفرضيات التاريخية، ويناقشها جميعها، حتى يصل إلى الصحيح أو السقيم منها، لا أن يختار واحدةً من بينها تناسب خلفيّته الفكريّة، ليتقوقع بحثيّاً داخلها، ويعمل على فهم التاريخ بها، ومن خلالها.
ومن هنا كان على الكاتب أن يقوم بأمرين اثنين:
1 -  أن يكون أكثر عمقاً واستيعاباً وموضوعيّةً في بحثه التاريخي، لأنه إن كان يريد أن يمارس استنتاجاً مبنيّاً على مقدماتٍ تاريخيّةٍ، فكان عليه أن يشبع بحثه في تلك المقدمات، بعيداً عن الارتجال البحثي، والتسطيح في فهم التاريخ، أوالتسرّع في الوصول إلى النتائج، وبناء مقدماتها.
فهل يستوي القول في الاستنتاج -مثلاً- في ما لو قلنا أن جميع الأنصار قد بايع في السقيفة (أو بعدها)، أو قلنا في المقابل أن فريقاً منهم قد بايع، بينما رفض البعض الآخر تلك البيعة، وبقي على رفضه لها، في حين أن فريقاً آخر منهم بقي على التزامه المشروعيّة السياسيّة والدينيّة المتولدة في غدير خمٍّ، وبقي يجاهر بموقفه من الإمام عليٍّ(ع) وبيعته (لا نبايع إلا عليّاً)؟؟
2- وبمعزل عن الأمر السابق، لا بدّ للباحث الموضوعي أن يستجمع جميع الفرضيات التي قد تجيب على سؤاله، ويناقشها الواحدة تلو الأخرى، حتى يصل إلى الصحيح أو الأرجح منها. أما أن يختار واحدةً من تلك الفرضيّات، ويغيّب الأخرى، فهذا ليس فعلاً علميّاً موضوعيّاً، عندما تُمارس الانتقائية، ويغلُب الإسقاط الفكري، فيصبح هذا العمل أقرب ما يكون إلى الترويج الإيديولوجي منه إلى البحث العلمي الرصين.
 هذا فضلاً عن الاختلالات المنطقية التي يعاني منها هذا البحث في مقام الاستدلال والاستنتاج، إذ يجب أن يكون هناك تناسبٌ منطقيٌّ بين الدليل والنتيجة، أما إن كان الدليلُ أعمَّ، والنتيجةُ أخصَّ، فسيصبح هذا العمل أقربَ ما يكون إلى المغالطة العلمية، التي تفتقد إلى شروطها المنهجية الصحيحة، وهو ما عرّض ذلك البحث إلى اختلالاتٍ في الاستدلال، أفقدته سلامته المنهجيّة، وقيمته العلميّة.
ب: اللوازم والملاحظات:
إنّ القول بأن ما حصل في غدير خمٍّ، قد جاء بهدف تنصيب الإمام عليٍّ(ع) في موقع الإمامة الدينيّة فقط، يترتّب عليه جملةٌ من الملاحظات، واللوازم التي تحتاج إلى أكثرَ من نقاشٍ (نقدٍ) تاريخيٍّ وغيره. لأنّ هذه الفرضية -لو صحّت- تفضي إلى جملة من النتائج على المستوى التاريخي وغيره. أمّا إذا لم نجد أيَّ أثرٍ لتلك النتائج واللوازم، فهو ما يدعونا إلى القول بعدم صحة تلك الفرضية، لأنّ لوازمها التي يجب أن تترتّب عليها غيرُ موجودةٍ.
أمّا أهم تلك اللوازم، والمناقشات مورد النظر، فهي ما يلي:
1 -  الأمّة والمرجعيّة الدينيّة للإمام عليّ(ع): لنفترض أنّ المراد بحديث الغدير هو فقط الإمامة الدينية، وأن رسول الله(ص) قد أراد من إعلانه ذاك تنصيب الإمام عليٍّ(ع) وأهل البيت(ع) في موقع المرجعيّة الدينيّة، لا السياسيّة للأمّة؛ لكن ألا يترتب على هذا الأمر وجوب أن تلتفّ الأمة حول مرجعيتهم الدينية تلك -بناءً على منهج الكاتب-، وأن تتعامل معهم باعتبار كونهم المرجعية في بيان الدين، ومصدره الذي لا يؤخذ إلا منه، ولا يتلقّى إلا من فيه؛ لكن هل هذا الذي حصل في مجمل مراحل التاريخ الإسلامي، سواءً بالنسبة للإمام عليٍّ(ع)، أو لغيره من أهل بيت النبي(ع)؟
وإذا أردنا أن نقصر السؤال على الإمام عليٍّ(ع) ومرحلته التاريخيّة، فلنا أن نسأل: هل تعاملت مجمل مكوّنات الاجتماع الإسلامي حينها، باعتبار كونه المرجعية الدينية الوحيدة التي تمّ تعيينها في غدير خمٍّ، بحيث لم يُرجع في الدين إلا إليه، ولم يُؤخذ حُكمه إلا منه، ولم يُلتمس فصل الخطاب فيه إلا لديه؟ أم تمّ التعامل معه باعتبار كونه واحداً من كثيرين غيره، وهو وإن تقدّم عليهم في مجالٍ أو آخر، أو في جميعها، لكنّه لا يرقى إلى أن يكون الفيصل في بيان الدين، والمصدر الذي لا يُلتمس إلا منه، والمعين الذي لا يُطلب إلا لديه؟
لنا أن نجزم أنّ الأمة في مجمل مكوّناتها يومها، لم تتعامل مع الإمام عليٍّ(ع) باعتبار كونه هو فقط صاحب المشروعيّة الدينيّة، والمرجعيّة المعرفية الوحيدة (بتعيين الوحي وبيان النبي(ص)) لبيان الدين وأحكامه، وفصل الاختلاف فيه.
وهنا ألم يكن حريّاً بالكاتب أن يُعمل منهجه التاريخي في هذا المعطى، ما يتيح له أن يتوصل إلى نتائجَ أخرى، قد تخالف ما ذكره في دلالة حديث الغدير، حيث ينبغي له أن لا يدع قرينةً تاريخيّةً أو غيرها، يبني عليها فهمه لتلك الدّلالة، وحدودها التي تتسع لها.
وإذا كان الكاتب في منهجيّته التاريخيّة يستدلّ بما حصل في التاريخ، لِتبيُّن ما حصل في الدين -وهو استدلالٌ غيرَ صحيحٍ-؛ فله أن يستدلّ أيضاً بعدم تعامل مجمل مكوّنات الاجتماع الإسلامي يومها مع الإمام عليٍّ(ع)، باعتبار كونه مرجعيّةً دينيّةً تمّ تنصيبها في غدير خمٍّ؛ ليستنتج من ذلك أيضاً أن حديث الغدير لا يدلّ على الإمامة الدينيّة، كما استدلّ بعدم إقبال مكوّنات الاجتماع الإسلامي على الإمام عليٍّ(ع) بعد وفاة النبي(ص) وتمكينه من خلافته سياسيّاً؛ على عدم الدلالة السياسية لحديث الغدير.
وهي المنهجية التي يتمّ الانتقال فيها من المجتمعي إلى الديني، وهي منهجيّةٌ خاطئةٌ بكلّ تأكيد، لأنه لا يمكن أن نعرف ما جاء به الدين، أو ما نزل به الوحي، من خلال ما يقوم به الناس، أو ما يفعله الاجتماع الديني، ولو في مجمله وأكثره، لأن ما يقوم به ذلك الاجتماع، قد يكون تعبيراً صادقاً وصحيحاً عن الدين بما جاء به، وقد لا يكون كذلك، إذ قد يكون له منشأٌ آخرُ غيرُ دينيٍّ، بل قد يكون في العديد من الأحايين مخالفاً لما جاء به الدين نفسه.
وهذا الأمر -مخالفة ما جاء به الدين من قبل الأكثرية- ليس عزيزاً في التاريخ الديني، وتاريخ الأنبياء والرسل، ويكفي أن نقرأ سيَر الأنبياء في القرآن الكريم مع أممهم، حتى تزول عن أنفسنا وحشة تفهّم هذه القضية، إلا إذا ادعينا العصمة لمجمل مكوّنات الاجتماع الديني، وهو ادعاءٌ غيرُ صحيحٍ، وتنفيه الأدلة والوقائع. لكن العجيب أن البعض يفعله، ففي الوقت الذي ينفي العصمة عن النبي(ص) في مجالٍ دنيويٍّ أو آخرَ (تأبير النخل)، تراه يدّعي العصمة -ولو ضمناً-  لمن سواه فيه.
نعم، قد يمكن القول في هذا الموضوع، أنّ عدم التفاف الأمة حول الإمامة الدينيّة للإمام عليٍّ(ع) -سوى القلة القليلة منهم- قد يُستفاد منه أن الصراع يومها كان منصبّاً على أصل الإمامة -إمامة الإمام عليٍّ(ع) ومرجعيّته الدّينيّة والسياسيّة-، ولم يكن منصبّاً على حدود هذه الإمامة ومدياتها، وإن كان البعد السياسي هو الذي كان أشدّ حضوراً واشتعالاً.
أي إنّ التحالف القرشي كان يروّج لعقيدةٍ مفادها أن الإمام عليّاً(ع) هو كغيره من الصحابة (نظرية عدالة الصحابة)، وهو وإن تميّز بأمرٍ أو آخرَ، لكن الرؤية إليه لا ترقى إلى حدّ القول بمشروعيّةٍ دينيّةٍ أو سياسيّةٍ متأتيةٍ من التّعيين النبوي؛ وكان ينفي أيَّ تنصيبٍ قد حصل في غدير خمٍّ، بما فيه ما يتصل بالإمامة الدينية، فضلاً عن السياسيّة، وإن كانت الحساسيّة التاريخيّة يومها تجاه الإمامة السياسيّة، قد تكون أكثرَ بكثيرٍ بالمقارنة مع الإمامة الدينية، وإن لم يكن هناك فصلٌ بينهما حينه، وهو ما سوف نبحث فيه تالياً.
2- الفصل بين الإمامتين الدينيّة والسياسيّة: إن القول بدلالة حديث الغدير على الإمامة الدينية دون السياسية، يقوم على الفصل بين الإمامة الدينيّة والإمامة السياسيّة، وهو ما لم يكن قائماً بالمعنى الذي يطرحه الكاتب، في تلك المرحلة التاريخيّة بعد وفاة رسول الله(ص).
لقد اعتاد المسلمون على قيادة النبي(ص) للاجتماع الإسلامي العام، وهو يقوم بمهام كلٍّ من الإمامة الدينية والسياسية دون فصلٍ بينهما، ولذلك عندما كان يتولى أحدهم موقع خلافة النبي(ص)، كان يمارس أيضاً مهام كلٍّ من الإمامة الدينيّة والسياسيّة معاً. أي إن الخليفة كان بمثابة المرجعية التي تحسم في الشأن الديني، كما تحسم في الشأن السياسي، وإن كان الفارق الكبير بين ما كان عليه النبي(ص) في المجال الديني، وبين ما كان عليه من يخلفه فيه، كان يفرض تمايزاً عمليّاً بين حدود ومديات الشأن الديني الذي كان يتصدى له النبي (ص)، وذاك الذي كان يتصدى له من يخلفه، وإن كان أصل المرجعية الدينية والبتّ في الشأن الديني واحداً لدى كليهما.
وما يشهد على عدم الفصل هذا، أن العديد من الخلفاء بعد وفاة النبي(ص) قد مارس نوعَ إمامةٍ دينيّةٍ، كان يرى فيها أن لديه صلاحية البتّ في الشأن الديني،  كما هو الحال في الشأن السياسي، حتى أصبح لهذه الممارسة تبريرها المعرفي-الديني، الذي كان يعرف بـ (الاجتهاد)[95] -يشمل الديني والسياسي- بحسب اصطلاحه  التاريخي يومها، وإن كان يختلف عن اصطلاح الاجتهاد في الاستعمال الديني المعاصر.
وسوف يكون من المفيد الإشارة إلى أن حدود تصدّي الخلافة للشأن الديني، قد أخذت تتقلّص وتنحصر مساحتها مع مرور الأيام وفي مراحلَ لاحقةٍ، وهو ما يعود إلى أسبابٍ تاريخيّةٍ وعمليّةٍ، أكثرَ منه إلى أسبابٍ معرفيّةٍ ونظريّةٍ. ولكن إذا أخذنا تلك المرحلة التاريخيّة، التي كانت أقربَ إلى وفاة النبي(ص)، فسوف نرى أن عدم الفصل هذا يتبدّى بشكلٍ أوضحَ وفي قضايا عديدةٍ.
كما ينبغي الإلفات إلى أنّ هذا الفصل بين الديني والسياسي قد أخذت تتّسع شقّته، نتيجة تلك الاعتبارات التاريخيّة والعمليّة، حتى وصلنا إلى يومنا المعاصر، وقد أصبح لهذا الفصل منظومته الفكريّة المتكاملة (العلمانيّة)، التي تقدّم تبريراً فكريّاً، بل وفلسفيّاً[96]، لعدم الوصل بين الديني والدنيوي، بل للفصل البنيوي بينهما.
لكن لا بدّ من القول، أنه من الخطأ منهجيّاً أن نقرأ التاريخ في هذا الشأن بذهنيّة الحاضر، التي لا تلحظ الخصوصيّات التاريخية وظروفها، وإلا سوف ينفتح الباب واسعاً على كثير من الإسقاط الفكري والتاريخي. فأن نذهب إلى قراءة تلك المرحلة التاريخيّة قبل ما يربو على الألف عام من خلال المناخ الفكري السائد في عصرنا ومؤثراته الدلالية، سوف يفضي إلى استنتاجاتٍ خاطئةٍ نتيجة قياس الماضي على الحاضر، واجترار خصوصيات الحاضر إلى الماضي وإسقاطها عليه، بدل فعل العكس (اجترار خصوصيّات الماضي إلى الحاضر) في إطار البحث التاريخي، والذي يتيح لنا أن نقرأ الماضي كما كان عليه، لا كما يعكسه الحاضر، وتسطو عليه مؤثراته.
3- الحصرية ومصادر التراث الإسلامي: إذا ما عدنا إلى مجمل مصادر التراث الإسلامي التي عُينت بحادثة الغدير ودلالتها، نجد أنها تنقسم إلى فسطاطين، أوّلهما يقول بدلالة نصّ الغدير على الإمامة الشاملة للإمام عليٍّ(ع)، السياسيّة منها والدينيّة؛ وثانيهما يذهب إلى نفي تلك الإمامة الشاملة، وتقديم تفسيرٍ لحديث الغدير ينحو به إلى دلالةٍ بعيدةٍ بالمطلق عن الإمامة.
أي إن النقاش الذي فاضت به مصادر الكلام والحديث والتاريخ وغيرها، كانت تدور حول القبول بدلالة حديث الغدير على خلافة النبي(ص)، مع الوصل بين الديني والسياسي فيها، أو عدم القبول بدلالته على تلك الخلافة، من دون فصل بين الديني والسياسي لديها، حيث لم يذهبوا إلى القول بدلالته على إمامة دون أخرى، أو على مرجعية دون سواها.
وهنا يحسن القول، أنه لو كان لحديث الغدير تلك الدلالة على إمامةٍ دون أخرى، أي على الدينية دون السياسية -كما يدّعي الكاتب-، ألم يكن جديراً عندها بأولئك العلماء على مدار التاريخ الإسلامي وبآلافهم، أن يلتقطوا ما التقطه الكاتب، أو يعثروا على ما عثر عليه، أو أن ينتبهوا من قريبٍ أو بعيدٍ إلى ما تنبّه إليه من فهمٍ ودلالةٍ؟.
وهل سوف يكون راجحاً القول بأنّه قد غاب عن أذهان جميع أولئك -بمن فيهم من كان قريباً من عصر النص وتاريخه ولغته، بل من كان حاضراً فيه- هذا الفهم وفرضيته، حتى يعثر عليها عاثرٌ، بعد ما يربو على الألف ومئين من السنين؟
أي هل سوف يكون معقولاً أن من قرأ التاريخ عن بعدٍ بعيدٍ، وعلى علله وعيوبه وما فيه من تشوّهاتٍ، قد أمكن له أن يرى تلك القضيّة، في حين أنّ من كان قريباً من ذاك التاريخ، أو يعيش فيه، بجميع جزئيّاته وقضاياه، لم يكن له أن يرى تلك القضيّة، أو يبصر تجليّاتها الاجتماعيّة وغيرها؟
ألم يكن جديراً، لو كان هذا هو مراد النبي(ص) يومها وقصده، أن تطفح به مصادر التاريخ والحديث والكلام وغيرها، ولو على نحوٍ خلافيٍّ، وفي إطارٍ سجاليٍّ، لكن ندرك عندها، أن أحدهم قد فهم هذا المعنى، أو أن جملةً منهم قد وعت ذلك القصد، وتنبّهت إليه؟
وهل سوف يكون معقولاً أن يغيب هذا المعنى عن أذهانهم، ولا يتلقّونه بأفهامهم، ثم يأتي آتٍ بعد دهرٍ وأبعد، بفرضيّةٍ تنافي ما عليه الجميع، بمن فيهم من فهم تلك الدلالة -الإمامة على إطلاقها- في عصر النص، واحتملها بفهمه، وقادت إليها قريحته، وجميع القرائن التي كانت في عصره ويومه؟
إنّ عدم تضمّن مصادر التراث الإسلامي لفرضية حصرية الدلالة على الإمامة الدينية هو أمرٌ ذُو دلالةٍ، لا يمكن القفز فوقها، أو تجاوزها، لا فقط بالمعنى اللغوي والدلالي، بل أيضاً بالمعنى التاريخي -بحسب منهج الكاتب-، لأنها تشكّل مستنداً أساسيّاً لفهم مراد النص، أو مديات الخلاف فيه، بل وحتى الفرضيات التي يُستبعد أن تُتلقّى منه.
4- الحصرية والمداولات الأولى: عندما نستحضر طبيعة تلك المداولات الأولى[97]، وذاك الخلاف - بالمعنى التاريخي، السياسي والديني - الذي نشب بعد وفاة رسول الله(ص) حول قضية الخلافة بمداها الشامل تكون لمن؟ للإمام عليٍّ(ع) -وأهل البيت(ع)- أم لغيره؟ نجد أنها تنطوي على النقاش في أسّ الخلافة، وأصل الإمامة، من دون تفصيلٍ فيها بين الديني والسياسي، حيث لم تتضمّن تلك المداولات أيَّ فصلٍ بين الإمامة الدينيّة والإمامة السياسيّة، أو تفريقٍ بين خلافةٍ دينيّةٍ وأخرى سياسيةٍ للنبي(ص).
بل حتّى عندما نأتي إلى السياقات التي جاء فيها بيان الإمام عليٍّ(ع) لنص الغدير في مناسباتٍ عديدةٍ، بما فيها بعد وفاة النبي(ص) مباشرةً، فإن ما نفهمه من تلك السياقات ودلالتها هو أصل الخلافة، من دون تفصيلٍ فيها بين دينيّةٍ وسياسيّةٍ، والإمامة بمداها الشامل الذي لا يقتصر على إمامةٍ دون أخرى.
وهنا لا بدّ من القول، أنه لو كان لحديث الغدير دلالةٌ حصريةٌ على الإمامة الدينيّة، ألم يكن من المنطقي أن تشتمل تلك المداولات التي تلت وفاة النبي(ص) على هذا الأمر، وأن نجد في ثناياها أكثر من تعرّض لهذه القضية، مع ما يمكن أن يترتّب عليها من نتائجَ ومفاعيلَ، لأنها ليست من نوع القضايا الذي يصحّ أن يغيب عن تلك المداولات، أو أن يتمّ تجاوزه فيها، وفي خضم تلك السجالات على اختلافها وتشعّبها؟
ألم يحتدم السجال بين أهل البيت(ع) من جهةٍ، وبين من خالفهم  من جهةٍ أخرى، في موضوع الإمامة، بحيث سوف يكون أمراً ذا جدوًى لمن كان في مواجهة الإمام عليٍّ(ع)، أن يستند هو إلى حديث الغدير، ليقول للإمام عليٍّ(ع) بأنّ ما تمّ تنصيبك فيه هو فقط الإمامة الدينيّة، وهو حظّك من الإمامة لا غير، ولو كان لرسول الله(ص) والوحي من قصد آخر لأظهروه فيك، لكنهم لمّا لم يفعلوا في الغدير أكثر مما فعلوا، ولمّا لم يعطوك فيه سوى هذا الحظّ من الإمامة، فقد أعطوك ما أنت أهلٌ له، ومنحوك ما تستحقه، فلا تعدُ عيناك إلى ما هو أبعد وأقصى، ولا تطلب ما لم يُعطَ لك ويُرتضى؟!
ألم يكن يوفّر هذا الحديث (الغدير) -لو كانت دلالته فقط على الإمامة الدينيّة- حجةً قويّةً للتحالف القرشي، ولمجمل الذين كانوا في الجبهة المخالفة للإمام عليٍّ(ع)، ليطرحوها على الملأ وفي الناس، من أجل إقناعهم بمشروعيّتهم السياسيّة، ولإبطال حجج الخصم، التي يستند إليها في إظهار مشروعيّته؟
ألم يسعَ مخالفو الإمام عليٍّ(ع) إلى الاستفادة من أيّ حُجّةٍ لتبرير ما قاموا به في السقيفة وما بعدها، فكيف غاب عن أذهانهم هذا الأمر؟، ألم يكن جديراً أن ينبري أحدهم ويقول: إنكم أهل بيت النبي(ص) أهل الدين فقط، ولستم أهل السياسة، ولقد اختاركم النبي(ص) (بأمر الله تعالى) مرجعاً في الدين، ولم يختركم مرجعاً في السياسة -أي قد جعل منكم مرجعيّةً دينيّةً، ولم يجعلكم مرجعيّةً سياسةً-، فخذوا ما أعطاكم النبي(ص)، ودعوا لنا ما لم يعطكم، خذوا الدين، ودعوا لنا الدنيا؟
لقد كان التحالف القرشي يعاني من أزمة مشروعيّةٍ دينيّةٍ-سياسيّةٍ في مواجهة الإمام عليٍّ(ع) وأهل البيت(ع)، وكان يبحث عن حجّةٍ -مهما كانت- تنقذه من أزمته تلك. ولو كان ما أعلنه النبي(ص) في غدير خمٍّ ذا دلالةٍ على الإمامة الدينيّة فقط، لأضحى مستنداً صالحاً للاستخدام من قبل التحالف القرشي، وحجةً يستعين بها على أزمته في المشروعية، سياسيّةً كانت، أم دينيّةً بمردودٍ سياسيٍّ.
بل كان يفترض -لو كان ما ذكره الكاتب صحيحاً- أن نجد في تلك المداولات بياناً واضحاً من الإمام عليٍّ(ع) وأهل البيت(ع) وأنصارهم لتأكيد موقعيتهم في الإمامة الدينية، ودورهم فيها، ومحاولة الاستفادة منها، وترتيب مفاعيلها، ولربما أيضاً -بحسب منهجيّة الكاتب- اعترافاً من الآخرين بها، وتجلياً واضحاً لهذا الأمر في سياسات الدولة (الخلافة) حينها، فتقوم على أساس وجود مرجعيتين اثنتين، الأولى سياسيّةٌ لدى التحالف القرشي، والثانية دينيّةٌ لدى الإمام عليٍّ(ع) وأهل بيت النبي(ع)[98]!     
لكننا لا نجد أيّاً مما ذكرناه في تلك المداولات التي أعقبت وفاة النبي(ص)، ولا نعثر على مجمل تلك الآثار واللوازم في السجالات التي احتدمت في السقيفة وما بعدها، ولا نجد ذلك التقييد للإمامة بالدينية منها في محاضر تلك الاجتماعات، ووثائق ذاك الخلاف، الذي نشب حول الخلافة، ومجمل ما يتصل بها.
 وهو ما يمكن أن يشكل بالتالي قرينةً (أو قرائنَ) دالّةً على أنه لم يكن لحديث الغدير دلالةٌ حصريةٌ على الإمامة الدينيّة، وأن دلالته هي أوسعُ دائرةً من أن تُحبس في إمامةٍ دون أخرى، وإنما تشمل خلافة النبي(ص) في مجمل ما كان عليه من صلاحياتٍ، سواء في الشأن الديني أو السياسي، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يختصّ به النبي(ص) من مختصّاتٍ ذُكرت في محلها.
والعجيب في الأمر هو أن الكاتب ادعى عدم احتجاج الإمام علي(ع) بحديث الغدير -وهو غير صحيح كما أسلفنا-، ليستنتج منه عدم الدلالة السياسيّة لذاك الحديث؛ لكنّه في المقابل لم يستنتج -كما ذكرنا- عدم دلالة الحديث على حصرية الإمامة الدينيّة، بسببٍ من خلو مجمل الاحتجاجات التي تلت وفاة النبي(ص) من الاستناد إلى هذه الحصرية. أي كما أن خلو الحجاج من الإمامة السياسيّة -بحسب ادعائه-  يمكن أن يشكل قرينة على عدم الدلالة السياسيّة، فإن خلوّه (الحِجاج) أيضاً من حصرية الإمامة الدينيّة، يمكن أن يشكل قرينةً على عدم انحصار الدلالة بالإمامة الدينيّة، لكن الكاتب اختار الأولى -وهي غيرُ صحيحةٍ-  وأهمل الثانية –على الرغم من صحتها-.
وهو أيضاً نموذجٌ آخرُ للانتقائية في توظيف المنهج وفي غيره، والتي أخرجت ذاك العمل عن موضوعيته البحثيّة، ورصانته العلمية، وجعلته أقربَ ما يكون إلى منصةٍ يفضي من خلالها كاتبه بما لديه من قناعاتٍ شخصيّةٍ، وأفكارٍ إيديولوجيّة، يسقطها على التاريخ والدين، ويلزمهما إياها عنوة، ويفرضها عليهما قسراً، من دون أن يُتاح لهما النطق بما لديهما، أو افراغ ما في جعبتهما من معنًى ودلالةٍ.
5- الالتزام بالإمامة الدينيّة وحدودها: لو كانت دلالة حديث الغدير على الإمامة الدينيّة فقط، لوجب أن يلتزم الإمام عليٌّ(ع) -وبقية الأئمة من ولده- بحدود ما تمّ تعيينه فيه، ولا يتعداه إلى غيره، وذلك للأسباب التالية: أولاً، حتى ينشغل بالوظائف التي تترتب على ذاك التعيين في الإمامة الدينية وموقعها؛ وثانياً، حتى لا يحصل انزياحٌ إلى قضايا وانشغالاتٍ، تتنافى مع تلك التي يتطلّبها الاهتمام بالإمامة الدينيّة ومنصبها؛ وثالثاً، حتى لا يتمّ تعريض وظائف الإمامة الدينيّة نفسها إلى أكثر من ضررٍ يمكن أن يلحق بها، إذا ما حصل أيُّ تصادمٍ بين الإمام عليٍّ(ع) وما يمثله من مرجعيّةٍ دينيّةٍ، وبين التحالف القرشي وسلطته الجديدة.
إن الإمامة الدينية تتطلّب العديد من الوظائف والمهام التي هي غاية في الأهميّة، خصوصاً في ذلك الظرف التاريخي، وما انطوى عليه من تحدّياتٍ بالمعنى الديني الخاص، ومن تأسيسٍ -بل تأسيساتٍ- في الإطار الديني، سوف تبقى وتستمر تداعياته على المستوى الإسلامي العام، وفي مختلف مجالاته، ولقرونٍ متماديةٍ من السنين.
 وهو ما يتطلب انصرافاً كاملاً لتلك التحديات، وانشغالاً تامّاً بمجمل تلك المهام والوظائف التي تستلزمها وتترتب عليها.
 وهو ما يستدعي في المقابل عدم الانزلاق إلى أيٍّ من القضايا الأخرى، التي من الواضح أن الانشغال بها، سوف يكون على حساب الاهتمام بتلك القضايا ذات الصلة بالإمامة الدينية ولوازمها، إذ إنّ العناية الجادة بمهام تلك الإمامة، يقتضي الانكباب الكامل عليها، وإيلاءها ما تستحقه من اهتمام، والانصراف عن أي اهتمامٍ آخرَ، وخصوصاً إذا كان الكلام في الإمامة السياسيّة، والصراع عليها، والانجرار إلى مزالقها.
 هذا فضلاً عن أن التحالف القرشي، لن يكون متساهلاً، أو متسامحاً، في حال تمّ إقحام الإمامة الدينية في ساحة الصراع السياسي، إذ إنه –عندها- قد يعمل على الإضرار بالإمامة الدينيّة نفسها، وتعطيل دورها، أو عدم الاعتراف بها، في حال رأى أنها قد تشكل تهديداً له، ولمشروعه، ومشروعيّته.
ومن هنا ينبغي القول أنّ حديث الغدير، لو كان يدلّ -كما ذكر الكاتب- على حصرية الإمامة الدينية، لوجب أن يلتزم الإمام عليٌّ(ع) بحدود هذه الإمامة ولوازمها، ولا يتعدّاها إلى غيرها، للأسباب والمحاذير التي ذكرناها؛ لكنّنا لا نجد في السيرة السياسية للإمام عليٍّ(ع) حينها مجمل ما ذكرناه من لوازمَ ذاتِ صلةٍ، فهو لم يقتصر على حدود الإمامة الدينية، ولم ينصرف عن العناية بالإمامة السياسية، بل كان موقفه واضحاً من أنه صاحب الحق بها، وعدم الاعتراف بشرعية غيره فيها، ومطالبته الآخرين بترتيب لوازم مشروعيته السياسية (وغيرها) التي يملكها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية الأئمة من ولده، الذين كانوا يرون حقّهم في خلافة رسول الله(ص)، وتولي الأمر من بعده.
 وهو ما يدلّ، أو يشكل قرينةً، على أن دلالة حديث الغدير لا تنحصر بالإمامة الدينية، لأنّه لو كانت تنحصر بها، لوجب أن تترتب مجمل تلك اللوازم والنتائج ذات الصلة. ولكن لمّا لم نرَ  أيّاً من تلك اللوازم والنتائج، فإننا نستكشف من ذلك -كقرينة عليها- أن دلالة حديث الغدير، ليست محصورة بالإمامة الدينيّة، وإنما هي أعمّ من الدينيّة والسياسيّة، وتشملهما معاً.
6- المرجعيّة الدينيّة للخلافة والشأن العام: إنّ مجمل المشروعيات السياسيّة والاجتماعيّة ترتكز في الفهم الإسلامي على المشروعية الدينيّة، وتعود إليها -الاحتجاج بما قاله النبي(ص) حول انحصار السلطة في قريش (لاحقاً)-.    وعليه، إذا قلنا أنّ حديث الغدير قد منح الإمامة الدينية للإمام عليٍّ(ع) حصراً، فهذا يعني أنّ الإمام عليّاً(ع) قد أضحى مَوْئل المشروعية الدينية ومصدرها، وهو ما يوصلنا إلى أن جميع المشروعيات السياسية وغيرها تؤخذ مما يفيده الإمام عليٌّ(ع) من بيان في شأنها وقضاياها. وهو يعني أن مجمل ما يرتبط بالخلافة والإمامة السياسية بعد وفاة رسول الله(ص)، يجب أن يُلتمس مما قاله الإمام عليٌّ(ع) في هذا الشأن. وهو ما يوصل إلى نتائجَ تخالف ما يذهب إليه الكاتب في هذا الموضوع.
بمعنى آخر، إن القول بالإمامة الدينيّة للإمام علي(ع)، تترتّب عليه نتائجُ مباشرةٌ في ما يرتبط بالإمامة السياسية، أولاً لعدم الفصل بين الديني والسياسي، ما يعني أن القول بإحداهما لدى أحدٍ ما، يقود إلى القول بالأخرى لديه، للتلازم بينهما وعدم الفصل؛ وثانياً لأنه يستلزم من ذاك القول أن يُؤخذ موقف الدين وحكمه في الإمامة السياسية ممن كانت له الإمامة الدينيّة، وتعود إليه.
إنّ المكانة الدينية المتميزة للإمام عليٍّ(ع) -حتى ولو لم تصل إلى حدّ القول بحصرية الإمامة الدينيّة له- قد شكّلت نوعَ معضلةٍ لدى الكثيرين في فهمهم لما حصل بعد وفاة النبي(ص) في موضوع الخلافة وتحليلهم له، لأنّهم من جهةٍ، لا يمكن لهم تجاوز المكانة الدينية الخاصة للإمام عليٍّ(ع)، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ معطيات التاريخ والحديث تثبت أن الإمام عليّاً(ع) -وأهل البيت(ع) وأنصارهم- كان رافضاً بشكلٍ واضحٍ لتلك البيعة التي حصلت في السقيفة وما بعدها، وأنه لم يعترف بمشروعيّتها، وأنه قدّم مقاربةً نقديةً تظهر وهن الأُسس التي قامت عليها، وأنّه دعا الأنصار إلى سحب اعترافهم بها، بل إلى نصرته في مواجهة مجمل ما ترتّب على تلك البيعة ومفاعيلها. وعليه، هل يمكن أن نفقه جميع ما تقدّم بمعزلٍ عن الإمامة الدينيّة للإمام علي(ع)، ومشروعيته الدينية، وما يلزم عن هذه المشروعية؟ وإذا كان الإمام هو صاحب القول الفصل في الدين، عندها ألن يكون بيانه في الشأن العام، وقضايا الاجتماع السياسي، وانتقال السلطة، متصلاً بموقعيته الدينية، وحدود الدين وسعته، وما هو معني به، وما يمكن أن يمتد إليه حكمه (الدين)، حيث سيكون هو -أي الإمام(ع)- من يحسم الموقف من جميع ذلك، ويملك الجواب فيه.
إنّ من يعاين مواقف الإمام عليٍّ(ع) مما حصل بعد وفاة النبي(ص) وكلامه فيه، يصل إلى فهمٍ يغاير تلك السرديات التي عملت الدعاية القرشية على الترويج لها، وإيداعها في بطون التراث، بما في ذلك بعض المحاولات التي سعت إلى إبراز تلك المواقف بشكلٍ أقلَّ حدّةً، وأدنى خفوتاً، أو تأويلها حتى لا تتعارض مع أكثرَ من سرديةٍ مغايرةٍ في الموضوع نفسه.
ومن هنا يمكن القول أنّ تهافتاً واضحاً يقوم بين ما يُدّعى في حصرية الإمامة الدينية للإمام عليٍّ(ع)، وبين اللوازم التي تترتّب على ذاك القول في الإمامة السياسية، إلا إذا ادّعى مدّعٍ أن الاجتماع السياسي الإسلامي يومها كان اجتماعاً علمانيّاً، يقوم على الفصل البنيوي بين الدين والسياسة، وأنه قد سبق التجربة الأوروبية في اكتشاف العلمانية، وفتح أبوابها، وتدشين مساراتها!
7- التسوية بين بني هاشم وبطون قريشٍ: إنّ من يراجع التاريخ، ويتفحّص معطياته، يستنتج أن صراعاً قد كان قائماً بين أهل البيت(ع)، والإمام عليٍّ(ع) تحديداً، وبين التحالف القرشي في جميع مكوّناته، على السلطة (السياسيّة) والدين، أي على كلٍّ من الإمامة السياسيّة والدينيّة، لأنّ أيّاً من هاتين الإمامتين يمثّل -خصوصاً في الاجتماع الإسلامي يومها- سلطةً يمكن أن يُستند إليها في موازين القوى، والمواجهة مع الخصم.
لقد كان التحالف القرشي يرفض الاعتراف بأيِّ سلطةٍ أو مشروعيةٍ للبيت النبوي وأهل البيت(ع) بعد وفاة النبي(ص) -باعتبار أنهم قد أخذوا حظّهم في النبوة-، إلا ما أصبح أمراً واقعاً، من بعض الفضائل و المناقب، ولم يُتح للسياسات القرشية إلغاءه، ولم تستطع الدعاية القرشية النجاح في تأويله، أو طمسه من التراث أو الوعي الإسلامي العام، بما يشمل (الرفض) أيضاً الإمامة الدينيّة، ومرجعيّتهم (أهل البيت(ع)) في الدين وبيانه.
وما يؤكد هذا الأمر، سردياتُ التأويل، التي أُنتجت لتوجيه دلالة حديث الغدير إلى بعدٍ ضعيفِ التأثير، أو شبهِ معدومٍ على الشأن العام، والاجتماع السياسي بشكلٍ أخصَّ، والتي (أي تلك السرديات) نأت به عن أيِّ مضمونٍ ذي صلةٍ بالسلطة والإمامة -حتى ولو كانت دينيّةً- وعملت على حبسه في إطارٍ شخصيٍّ جزئيٍّ، وجدانيٍّ، لا يتعدّاه إلى غيره، وما هو أبعد منه؛ وأيضاً موقف السلطة الجديدة من الإمام عليٍّ(ع)، وكيفية تعاملها معه؛ فضلاً عن السياسات التي اعتُمدت في كلٍّ من الشأن الديني والسياسي، وميادين كلٍّ منهما.
لقد كان الصراع شاملاً، وبين مشروعين، وفي مختلف المجالات ذات الصلة، وإن بدت التمظهرات السياسية لذاك الصراع أشدّ وضوحاً حينها، بسبب الظروف التاريخية والسنن الاجتماعيّة، التي ترتبط بالسلطة السياسيّة وأهميّة دورها. لكن هذا لا يلغي أن مديات الصراع قد شملت حينها خلافة النبي(ص) في جميع أبعادها، ومجمل أدوارها.
إنّ ما أريد قوله، هو إنه لو كان لحديث الغدير دلالةُ إمامةٍ دينيّةٍ، تنحصر بها، لأمكن أن يوفّر ذلك -بناءً على سردية الكاتب- جملةً من المبررات لتعطيل المنحى الصراعي، الذي أخذ مداه بين البيت النبوي من جهة، والتحالف القرشي من جهةٍ أخرى، ولأمكن له أن يشكّل أساساً لعقد تسويةٍ، تقوم على تقاسم السلطة (دينيّة/ سياسيّة) بين بني هاشم وبقية بطون قريشٍ، وأن يقدم منطلقاً صالحاً لتجديد التقليد القرشي القديم، الذي يقوم على الاشتراك في الشرف والرئاسة، أو أن يوفر مادة يُبنى عليها في مجمل المفاوضات السياسيّة التي جرت بين الطرفين بعد السقيفة.
لو كان لحديث الغدير دلالةُ تنصيبٍ دينيٍّ فقط (إمامة دينيّة)، لرأينا -بناءً على منهج الكاتب- بصمات ذاك التنصيب وحصريته في التاريخ والسياسة، ولترك ذلك أثره على الأحداث وتطوراتها، وبات في مختلف تلك السياقات التاريخية التي احتشدت فيها الكثير من الأحداث، وازدحمت في مطاويها الكثير من الدلالات والمعاني، وذلك منذ ما قبل وفاة الرسول(ص) إلى ما بعدها، في السقيفة وغيرها.
8- المنظومة الحديثية وتعطيل الإمامة الدينية: على الرغم من ما يدّعيه الكاتب من دلالة حديث الغدير على حصرية الإمامة الدينيّة، فإنه قام بتعطيل هذه الإمامة بشكلٍ كاملٍ، وألغى دورها، عندما نسف جميع المنظومة الروائية الواردة عن أئمة أهل البيت(ع)، بحيث لم يبقَ شيءٌ من تلك الإمامة، أو أيُّ أثرٍ لها[99].                                                                                                                                       إن معنى القبول بالإمامة الدينية للإمام عليٍّ(ع)، هو القبول بتراثه الديني، وما جاء في ذاك التراث. وإلا أيُّ معنًى يبقى لتلك الإمامة الدينية، إذا عملنا على نسف كامل التراث الروائي للإمام عليٍّ(ع)، وألغينا جميع ما جاء فيه، تحت ذرائعَ شتَّى، ودعاوى لم يقم عليها دليلٌ.
ما معنى القول بالإمامة الدينية تلك، إذا لم نرتّب عليها آثارها، ولم نأخذ بلوازمها، ولم نتبيّن ما صحّ مما لم يصحّ صدوره عنها.                                         
وهو ما يقتضي الغوص في المنظومة المعرفيّة والدينيّة التي تعنى بالتراث الروائي، وعلومها، وأدواتها المنهجيّة، تلك المنظومة القادرة على تمييز الصحيح من غيره في ذاك التّراث، والتي بُذلت فيها جهود لعشرات القرون ومئات السنين من الزمن، حتى وصلت إلى ذاك المستوى من النضج في علومها ومسائلها.
إنّ نسف التراث الروائي للإمام علي(ع) -والأئمة من بعده- هو بمثابة إلغاء عملي للإمامة الدينية، التي يدّعي الكاتب حصرية دلالة حديث الغدير عليها. وإلا أيُّ جدوًى تبقى لتلك الإمامة في حال ألغينا جميع تلك المنظومة الروائية الواردة عنها، وأي فائدةٍ تترتب عليها في حال ركنّا إلى دعاوى الكاتب فيها؟
والعجيب في الأمر أنّ الكاتب يصدر حكمه على تلك المنظومة الروائية -بعشرات آلافها من الأحاديث- من دون أن يستخدم الأدوات المنهجية الصالحة للقول بقبول حديثٍ، أو رفض آخرَ منها. وإنّما يقتصر على إطلاق دعاواه دون دليل يستند إليه، إلا ادّعاء أن منهجه التاريخي المفترض يمكن له أن يتغوّل معرفيّاً على مجالٍ معرفيٍّ-دينيٍّ آخرَ، فيطيح المنهج المستخدم فيه، وجميع أدواته المستعملة لديه. وهو ادّعاء غيرُ صحيحٍ على الإطلاق، لأنّ التّمايز بين الحقول المعرفية وطبيعتها، يفرض تمايزاً بين الأدوات المنهجية الصالحة للاستخدام فيها.
وبالتالي لا يمكن لمنهجٍ معرفيٍّ أن يطغى على آخرَ، ولا أن يتمدد إلى حقلٍ معرفيٍّ يتنافى وطبيعته المنهجية (هذا بشكلٍ عامٍّ).
وليس من الصّحيح  في الموضوع محل البحث، العمل على إحلال المنهج التّاريخي محلّ المنهج الرّوائي، وأن يسلبه دوره، ويصادر منه وظيفته، أو أن يُعتمد فيه على معطياتٍ جزئيّةٍ -تتّصل ببعض الأحاديث المشكوك فيها و في صحتها- للوصول إلى نتائجَ كليةٍ، لا تلحظ بقية المعطيات ذات الصّلة، وخصوصيّة المنهج الذي يجب أن يُوظف فيها، ويعمل في حقلها.
وإن أمكن القول في المقابل أن المنهج التاريخي المفترض، يمكن أن يُستفاد منه في علوم الحديث على اختلافها، وأن يعمل من خلال المنهج الروائي، وضمن آليّاته المنهجيّة -وهذا معمولٌ به بشكلٍ أو بآخرَ-، أما أن تصل الدعوى إلى حدّ إلغاء المنهج المستخدم في تلك العلوم، وممارسة إسقاطٍ منهجيٍّ لمنهجٍ آخرَ، لم يتخصّب فيها، ولم يولد في رحمها، فهو ما يتنافى مع علوم المناهج نفسها، وفلسفتها، وهو (أي الإلغاء) من الواضح عدم صحته، والخلل الكامن فيه.
ذاك كان كبروياً، أما صغرويّاً، فكيف صحّ للكاتب أن يطلق تلك الدعوى من دون أن يُعمل منهجه ذاك في كل حديثٍ على حدةٍ، وأن يستوعب بحثه جميع تلك الأحاديث وآلافها -التي يدّعي أنها مبتكرةٌ، وتمّ اختلاقها-  وأن يُجري أدواته المنهجية في كل فردٍ من أفرادها، حتى يتبيّن له أنه موضوعٌ، أو محرّفٌ، أو حسنٌ، أو صحيحٌ أو....
وإن كنت ترى في المقابل، أنّ الكاتب وعندما يجد حديثاً يتوافق ومبانيه الفكريّة، فإنّه يأخذ به دون هوادة، ويبني عليه بناءاتٍ هائلةٍ، من دون أن يُعمل فيه لا المنهج التاريخيّ الذي قبِلَه، ولا المنهج النقليّ الذي رفضه[100]!!
إنّ استسهال إطلاق الأحكام بشكلٍ جزافيٍّ، وبذاك الحجم الذي يتبدّى في كلام الكاتب، إنما ينمّ عن نوعِ استخفافٍ معرفيٍّ ببعض المجالات المعرفيّة، وعلى قلّة حظٍّ من العلم فيها. وإلا فإنّ الرصانة العلميّة، واحترام الجغرافيا المعرفية، والحدود المنهجيّة، كلّ ذلك يفرض تعاملاً مختلفاً، وقدراً أفضلَ من الموضوعيّة، وتجنّب الخوض في مجالاتٍ معرفيّةٍ من دون امتلاك الدراية الوافية بها، فضلاً عن إطلاق الأحكام الجارفة فيها. 

الخاتمة:
لقد تعرّضنا في هذا البحث بالنقد و التحليل لجملةٍ من تلك الأسس والقرائن التي وردت في كتاب (الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ)، والتي أريدَ منها القول بدلالة نصّ الغدير على خصوص الإمامة الدينيّة للإمام عليٍّ(ع)، لا على عموم تلك الإمامة في مجاليها الديني والسياسي.
هذا وقد اقتصرنا على الأسس والقرائن التالية: خلوّ النبوّة من البعد السياسي، والاستناد على رواية (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) لتبرير الفصل بين الديني والسياسي، وكون السلطة بعد فتح مكّة شأناً قرشيّاً، وأنّ التدبير السياسي ممارسةٌ عقلانيّةٌ لا تحتاج إلى معرفةٍ غيبيّةٍ، واعتماد المعقوليّة التاريخيّة للترجيح بين الروايات، وكون الذهنيّات يومها ستفهم التنصيب السياسيّ للإمام عليٍّ(ع) على أنّه توريثٌ للسلطة، وأنّ الإعلان عن خلافته ليس مناسباً أن يصدر إلا في العاصمة السياسيّة (المدينة)، أو في مكّة على أقلّ تقدير؛ وأنّ إعلان التولية يتطلّب أن يصدر مصحوباً بإجراءات نقلٍ للسلطة وطقوسيّةٍ جليّةٍ وترتيباتٍ إضافيّةٍ، وأنّ إعلان النبيّ(ص) الإمام عليّاً(ع) حاكماً سياسيّاً يستلزم استغناء الإمام(ع) عن دعوة الناس إلى مبايعته بعد وفاة النبي(ص)، لأنّه يفترض به أن يكون حاكماً فعلياً بعد الوفاة، وأنّه لا يُعقل أن يتصرّف الجميع مع ولاية العهد كأنّها نسيٌ منسيٌّ، بمن فيهم الأنصار المعروفون بحبّهم للإمام عليٍّ(ع)؛ وأنّ حدث التنصيب السياسي يستدعي حصول آثارٍ لاحقةٍ عليه، وغياب ما يتنافى معها وينفيها، ووجود أثره السياسي، وحضوره في المحاجّات السياسيّة، وأنّ ذاك الإعلان يتطلّب امتناع البحث في من يخلف النبي(ص)، في حين نجد أنّ الأنصار كانوا من أوّل المبادرين إلى البحث في من يخلف النبي(ص).
ولقد قمنا في هذا البحث بنقد وتحليل كلٍّ من هذه الأسس والقرائن، التي تمّ الاستناد عليها، وأظهرنا بما ذكرناه من شواهدَ وأدلّةٍ عدم صحتها، وعدم صلاحيّتها للقرينية على دعوى الكاتب. هذا في القسم الأوّل من البحث.
وأمّا في القسم الثاني، فقد ذكرنا جملةً من اللّوازم والملاحظات التي تترتّب على القول بحصريّة الإمامة الدينيّة، والتي منها وجوب أن تلتفّ الأمّة حول الإمامة الدينيّة للإمام عليٍّ (ع)، والمرجعيّة الدينيّة لأهل البيت (ع)؛ وأن يكون هناك فصلٌ بين الإمامتين السياسيّة والدينيّة، حتى يصحّ إسناد إحداهما إلى أحدٍ مّا والأخرى إلى آخر. وهو ما لم يكن قائماً آنذاك، وأن يكون هناك أثرٌ واضحٌ لتلك الحصريّة في مصادر التراث الإسلاميّ ذات الصلة، في حين لا نجد هذا الأمر؛ وأن يتبدّى ذاك الفصل، تلك الحصريّة في المداولات الأولى التي حصلت بعد وفاة النبي (ص)، في ما خصّ الإمامة وشؤونها، بل أن تستند قريشٌ على تلك الحصريّة في حجاجها السياسيّ مع الإمام عليٍّ(ع)، وهو ما لا نعثر له على أثرٍ فيها، وفي مجمل السجالات التي وصلت إلينا منها؛ ولوجب عندها -لوصحّت تلك الدعوى- أن يلتزم الإمام عليٌّ(ع) بما تمّ اختياره فيه من خصوص الإمامة الدينيّة، وأن لا يتعدّاه إلى غيره، وهو ما لم يحصل، وهو ما يعني أن يُضحي الإمام عليٌّ(ع) المرجعيّة الصّالحة لبيان مجمل ما يتّصل بقضايا الخلافة، والشأن العام السياسيّ منه وغيره، لأنّ المشروعيّة الدينيّة أساس جميع المشروعيّات حينها، وهو ما لا تظهره مجمل المصادر ذات الصلة، ولأمكن عندها أن يكون ذاك الفصل أساساً يصلح لعقد تسويةٍ بين بني هاشم وبقيّة بطون قريشٍ، تقوم على تقاسم السلطات بين دينيّةٍ وسياسيّةٍ، وهو ما لم يقع؛ هذا فضلاً عن مطلوبيّة عدم تعطيل تلك الإمامة (الدينيّة)، والأخذ بمنظومتها الحديثيّة، في حين أنّ الكاتب لم يفعل هذا.
إنّ مجمل ما تقدّم يقود إلى النتيجة التالية: إنّ فرضيّة دلالة نصّ الغدير على الإمامة الدينيّة حصراً لا تساعد عليها تلك القرائن، التي استحضرها الكاتب، وعمل على توظيفها لإثبات تلك الحصرية، ولا تؤيّدها تلك اللّوازم التي تترتّب على تلك الفرضيّة وتُستلّ منها، وإنّما تتنافى معها وتنفيها.
وهنا نجد من المفيد الإلفات إلى قضيّة المنهج، حيث ينبغي القول -بناءً على ما تقدّم- أنّه ليس صحيحاً ما ذكره الكاتب من أنها: «... دلالةٌ تاريخيّةٌ لا لغويّةٌ...»، وإنّما هي مجرّد قرائن -بمعزلٍ عن صحتها- تسهم في بناء دلالة النّص، وتعمل من خلال أدوات اللّغة ونظامها، حيث لا يعدو التاريخ وغيره أن يكون مجرّد قرينة لإنتاج الدلالة وبنائها.
وإنّه لمن المطلوب الاستفادة من أيِّ قرينةٍ لها دخالةٌ في النّص وبنائه، لكن شريطة التعمّق في البحث ذي الصلة، لاكتشاف مدى صلاحيّة هذا المعطى البحثي أو ذاك في أن يكون قرينةً تسهم في بناء الدلالة من عدمها، فإن كان البحث تاريخيّاً، فينبغي استيعاب البحث التاريخيّ لموضوعه، والتعمّق فيه، وممارسته من خلال شروط البحث العلمي وضوابطه؛ وهذا ما لم يفعله الكاتب.
لقد كان المطلوب خوض البحث التاريخي دون غاياتٍ مسبقةٍ، أو أدلجةٍ مضرّةٍ، والتماشي مع القرائن التاريخيّة، بمعزل عن المقصد الذي توصِل إليه، بل تركها هي تحدّد وجهة دلالتها، دون أيِّ تدخُّلٍ غيرِ موضوعيٍّ فيها، أو أيِّ تحيّزٍ غيرِ علميٍّ لديها، قد يخرج البحث عن مساره، وموضوعيّته التي يجب أن يلتزم بها.
إنّ محاولة الكاتب توظيف التاريخ لخدمة هدفه لم تكن موفّقةً، وهو لم ينجح في سَوق التاريخ إلى المقصد الذي أراد، لأن البحث التاريخي الأكثر استيعاباً وعمقاً، قاد إلى نتائج لا تساعد على مراده، بل تخالفه، وتهدي إلى خلاف النتيجة التي سعى إلى الوصول إليها.
هنا، لم ينفصم التاريخ عن اللّغة، ولم يسعف في بناء فهمٍ لنص الغدير يحصره في حدود الإمامة الدينيّة، ويصرف عنه السياسيّة، بل إنّ نتائج البحث التاريخي -بالمقدار الذي أُنجز- أتت لتؤكّد البحوث اللّغويّة والدينيّة ذات الصلة، التي تفيد أنّ نصّ الغدير يدلّ على مطلق الإمامة في بعديها الديني والسياسي.
لم يثبت التاريخ دعوى الكاتب في الفصل بين مؤدياته مؤديات التحليل اللّغوي، وإنّما جاءت قرائنه لتنسجم مع الدلالة اللّغويّة[101] والدينيّة[102]، وتتوافق معهما، في تبيُّن مراد النص الذي ينبني بحسب قواعد اللّغة وقوانينها، والذي ينبغي أن يفهم بحسب موازين العقل اللّغوي (عرف اللّغة ونظامها)، حيث لا تكون مجمل الالتباسات التي تحصل نتيجة عقمٍ في البيان، أو قصورٍ في الدلالة، أو ضعفٍ في الفهم، وإنّما نتيجة أسبابٍ وعواملَ أخرى غيرِ لغويّةٍ، قد أفصح عنها التاريخ، وذكرها القرآن الكريم في بعض من آياته، حيث قال ﴿وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ﴾[103].
ليس من الصحيح إيجاد ذلك الفصل بين اللّغة والتاريخ، فكما أنّ اللّغة تحمل التاريخ وتحكي عنه، فإنّ التاريخ يستوعب اللّغة ويحكي عنها، فأن يذهب الكاتب إلى إسكات اللّغة، واستنطاق التاريخ -بل وإسكاته أيضاً، ومحاولة النطق بدلاً عنه-؛ لن يكون عملاً سليماً بالمعنى المنهجي والعلمي.
نعم، يمكن للباحث العلمي أن يستنطق النصّ مورد البحث، وذلك بمعونة جميع القرائن ذات الصلة، بما فيها تلك التاريخيّة، لكن شريطة أن نترك التاريخ يفصح عمّا لديه، وينطق بما في وعائه، لا أن نقوّله ما لا يقوله، أو أن نعرض بضاعةً لم تأت في حمله، أو أن نمارس من خلاله إسقاطاً على النص نلوي به عنق دلالته.
أن يكون لديك وجهة نظرٍ في التاريخ، تستعين بها على بناء دلالة نصٍّ ما، هو أمرٌ مشروعٌ في البحث، لكن شريطة أن تبني ذلك النظر بشكلٍ علميٍّ، وفق شروطه العلميّة، وبعيداً عن المواقف المسبقة والمؤدلجة.
لقد اختار الكاتب موقفاً إيديولوجيّاً، وعمل على إسقاطه على التاريخ، ليمارس من خلال هذا الإسقاط تعسّفاً في بناء دلالة نصّ الغدير، وإنتاج معناه. وهي محاولةٌ ربما تكون أقربَ إلى فعل التسويات ومنطقها -تقسيم الإمامة على المختلفين فيها بين دينيّةٍ وسياسيّةٍ-، ذلك المنطق الذي يبتدعه العقل الاجتماعي والسياسي لتحقيق الوئام المجتمعي، مع أنّ الحقيقة العلميّة والتاريخيّة يجب أن تبقى رهينة العقل العلمي، ووفيّةً لأدلّته ومؤدّياته، إذ إن الحقيقة هي الحقيقة لا غير، بمعزلٍ عن كيفيّة إدارتها، أو التعبير عنها، بطريقةٍ يجب أن تخدم فيها الاجتماع العام، ومصلحته، ووحدته، وقيم الخير والتعاون البنّاء لديه.
وأخيراً لا بدّ من الإلفات إلى أنّنا لم نرِد هذا البحث ليكون إضافة في الجدل الكلامي، والمجال الفكري، وإنّما كان ردّاً وجدنا من المفيد القيام به، للإجابة على بعض الإشكاليّات، ومعالجة بعض الشبهات، ولبيان ما نعتقده حقّاً في الموضوع، ونقد أكثر من قضيّة وفرضيّة لم تسعفها الأدلّة، أو يعينها المؤيّد.
وبمعزل عن أي أمرٍ آخرَ، يحسن القول بأنّ طرح تلك الإشكاليّات، هو الذي ساهم في استيلاد هذا البحث، والذي نأمل أن يكون قد قدّم مفيداً وجديداً في موضوعه، حيث أردناه لدفع أكثر من شبهةٍ أو التباسٍ، وسعينا إلى بنائه وبيانه بما لا يتنافى مع قيم الوحدة والتعاون بين المسلمين، بل بين جميع أهل الخير والعدل والأيمان.
ونسأله تعالى أن يتقبّل منا هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان أعمالنا، إنّه سميعٌ مجيبٌ.

----------------------------------------------------------------------------
[1]    وجيه قانصو، دار الفارابي، بيروت، 2016م، ط1، ص: 123.
[2]    م.ن، ص: 115-116.
[3]    انظر محمّد شقير، فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي، بيروت، دار الهادي، صص 29-70.
[4]    م.ن، ص: 115.
[5]    ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مؤسسة اسماعيليّان للطباعة والنشر والتوزيع، ج4، ص: 31.
[6]    يقول الإمام علي(ع): «كل حقدٍ حقدته قريشٌ على رسول الله(ص)، أظهرته فيّ، وستظهر في ولدي من بعدي...» (القنذوري، ينابيع المودة لذوي القربة، دار الأسوة، 1416هـ. ق، ط1، ج1، ص: 407).
[7]    لن أدخل في تفصيل الأدلّة على ذاك التوجه والسياسة لدى قريش، وإن ورد بعض منها في مطاوي هذا البحث. أكتفي بما ذكره الكاتب في كتابه، حيث يقول: «لم يكن لوصايا النبي أو تعاليمه أي حضور في كل الجدل السياسي الذي أعقب وفاة النبي»، ص: 152.
[8]    أنظر: وجيه قانصو، الشيعة الإمامية، بين النص والتاريخ، م.س، ص: 144-145. 
[9]    راجع: أحمد حسين يعقوب، المواجهة مع رسول الله(ص) (القصة الكاملة)، قم، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، 2005م، قم، الباب الثالث وغيره.
[10]  الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 151.
[11]  م.ن، ص: 144.
[12]  م.ن، ص: 145.
[13]  م.ن، ص: 146.
[14]  م.ن، ص: 146.
[15]  م.ن، ص: 148.
[16]  محمّد مهدي الآصفي، مدخلٌ إلى دراسة نص الغدير، مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة، 1997م، ط1، ص: 11-12.
[17]  القندوزي، ينابيع المودة لذوي القربى، م.س، ج1، ص: 407.
[18]  محمّد الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب(ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، قم، دار الحديث للطباعة والنشر، 1425 هـ.ق، ط2، ج11، ص: 244.
[19]  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، م.س، ج20، ص: 298.
[20]  المجلسي، بحار الأنوار، بيروت، دار الرضا، 1983م، ج 29، ص: 613.
[21]  الشيعة الإماميّة، بين النص والتاريخ، م.س.، ص: 116.
[22]  أنظر: محمّد شقير، فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي، م.س، ص: 46-60.
[23]  الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 112.
[24]  م.ن.
[25]  الفرق بين هذا المورد، وما ورد قبل قليل في المورد المعنون تاسعاً، هو أنه في المورد التاسع تحدثنا في أصل العلاقة بين الحدث الجزئي والمشهد الكلي، بينما هنا نتحدث في المساحة التي يجب أن يأخذها كل منهما في صناعة الدلالة. هناك تحدثنا في أساس جدلية العلاقة بينهما، هنا في مستواها ومداها.
[26]  الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 132.
[27]  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، م.س، ج12، ص: 78.
[28]  وجيه قانصو، الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ، م.س، ص: 132.
[29]  القرآن الكريم، سورة النجم، الآية: 3 و 4.
[30]  ابن هشام، السيرة النبويّة، مصر، مكتبة محمّد علي، 1963م، ج2، ص: 289.
[31]  سورة الحاقة، الآيات 44-46.
[32]  الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 118.
[33] م.ن.
[34]  تكشف بعض النصوص أن ما أراد النبي (ص) الإيصاء به هو الخلافة، حيث ورد أن عمر بن الخطاب سأل عبدالله بن عباس عن الإمام علي(ع)، فقال له: «...هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟. قلت (ابن عباس): نعم. قال: أيزعم أن رسول الله (ص) نصّ عليه؟ قلت (ابن عباس): نعم، وأزيدك، سألت أبي عما يدّعيه، فقال: صدق. فقال عمر:... ولقد أراد (رسول الله(ص)) في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعت من ذلك..». (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، م.س، ج12، ص: 20).
[35]  وجيه قانصو، الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س.، ص: 118.
[36]  يمكن القول إن مجرد حصول الاعتراض على ذلك الكتاب في حياة النبي (ص) وفي محضره، يعني أن ذاك الاعتراض سوف يكون أقوى وأفعل بعد وفاته. وإن مجرد حصول مخالفة لما أمر به النبي (ص) في حياته وفي محضره، يعني أن هذه المخالفة سوف تكون أشدّ بعد وفاته.
ومن هنا يمكن القول إن ذاك الكتاب لم يعد ذا جدوى، طالما أن الاعتراض عليه سوف يأخذ مداه بعد وفاته، وطالما أن مخالفته هي المنتظرة عندها.
ينقل سليم بن قيس في كتابه، عن عبد الله بن عباس، أنه بعد أن مُنع رسول الله من كتابة ذلك الكتاب، وقيل في حقه إنه يهجر: «.. غضب رسول الله (ص)، وقال: إني أراكم تخالفوني وأنا حي، فكيف بعد موتي؟؛ فترك الكتف». (ط2، دار الحوراء، بيروت، 2009م، ص: 324).
[37]  سورة النساء، الآية 59.
[38]  سورة الحشر،الآية7.
[39]  سورة النساء، الآية 80.
[40]  سورة النجم، الآية 3 و 4.
[41]  دار الفكر، 1981م، ج4، ص: 155.
[42]  الملفت في سردية نصوص المشروعية السياسية والدينية للتحالف القرشي أمران:
الأول: التأكيد على وصل تلك المشروعية بالإطار القرشي.
الثاني: عدم ترتيب أيِّ أثرٍ له علاقةٌ بتلك المشروعية، على أيٍّ من النصوص الدينيّة، التي تتجاوز الإطار القرشي.
وهنا لا بدّ من طرح هذه النقاشات:
أولاً: إذا كان لا بدّ من تحديد إطارٍ بشريٍّ تترتّب عليه المشروعيّة السياسيّة، فلِمَ يُحصر هذا الأمر في قريشٍ؟ وإذا كان الدين هو من يحدد الإطار البشري الذي تترتب عليه تلك المشروعية، فلِمَ لا يكمل تحديده لها في بطون قريش وأحيائها وبيوتها، ولِمَ يقف عند هذا الحد (قريش) ولا يتعداه إلى غيره؟ وهنا يبدو التناقض في كلام البعض، أنه عندما يتعلق الأمر بإمساك قريش بالسلطة، فإنه يستعين بجملة من النصوص الدينية لإثبات تلك المشروعية السياسية لقريش – وهو ما دأبت السرديات القرشية على التأكيد عليه، لكن عندما تكون هناك نصوص دينيّة يستفاد منها مشروعيّة سياسيّة أخرى، فإنه يرفض أن يكون الدين مصدر المشروعية السياسية!                                                                                                                           
ثانياً: هناك نصوص دينيّة عديدة يستفاد منها أن مدى تلك المشروعيات -محل النزاع- لا يقف عند حدود قريش، وإنما يتعداها إلى ما هو أبعد، لكن لم يرتب عليها ذلك الأثر الديني والسياسي، لأنها تتنافى والعقيدة السياسية لقريش، من قبيل ما جاء في صحيح مسلم عن رسول الله (ص): «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (بيروت، دار الفكر، ج7، ص58)؛. فلِمَ هنا مثلاً لم يترتب ذلك الأثر على اصطفاء بني هاشم، وانحصر ترتيبه على قريش؟
ثالثاً: ما معنى مجمل تلك النصوص الدينية التي تربط المشروعية السياسية بقريش؟ أليس معناها ان الوحي هو مرجعية المشروعيّة السياسيّة. وعليه، ألا يتناقض ما جاء في مجمل تلك النصوص الدينيّة حول حصر المشروعيّة السياسيّة في قريش، مع ما ذكره الكاتب، من أن تلك المشروعية تتصل بالتقليد القرشي، وأن لا دخالة للدين بها وبتحديدها؟ فلو كان الأمر متّصلاً فقط بذاك التقليد، فلِمَ يستدل بعض أقطاب قريش وتحالفها بالدين وأحاديثه؟ ألا يدلّ لجوؤهم إلى الدين ونصوصه على أن مصدر المشروعيّة السياسيّة يومها، كان هو الدين نفسه وأحاديثه، وليس أيِّ شيءٍ آخرَ؟
رابعاً: من المفيد أن نسأل عن  الحكمة من تدخّل الوحي في تحديد إطار المشروعيّة السياسيّة، ومن تعطى له أو لا تعطى  له؟ إذا كان هو الاصطفاء، فيجب أن يُكمل في هذا التحديد إلى نهاية الطريق، وإن كان لمنع حصول التنازع والفتنة، فإن وقوف التحديد عند قريشٍ، لا يحقق هذا الهدف.
وفي اعتقادي أن حقيقة الأمر أن الدعاية القرشية قد نجحت في صناعة تأويليتها السياسيّة- الدينيّة، وفي إنتاج مجموعةٍ من النصوص، تحصر المشروعيّة السياسيّة في قريشٍ، لتبرير استبدادها بالسلطة، واستحواذها عليها.
[43]  وجيه قانصو، الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 119.
[44]  م.ن، ص: 122.
[45]  الأميني، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، بيروت، دار الكتاب العربي، 1983م، ط5، ج1، ص: 9.
[46]  الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 122.
[47]  حيث جاء فيه عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي(ع)، أنّ جبرئيل قال للنبي(ص): يا محمّد... اعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك... فسلمه إلى وصيّك وخليفتك من بعدك حجتي البالغة علىّ خلقي علي ابن أبي طالب (ع)، فأقمه للناس علما.ً..وخذ عليهم البيعة... فخشي رسول الله من قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرّقوا، ويرجعوا إلى جاهليّة، لما عرف من عداوتهم، ولما تنطوي عليه  أنفسهم لعليّ من العداوة والبغضاء. وسأل [النبي(ص)] جبرئيل أن يسأل ربّه العصمة من الناس، وانتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة من اللّه جلّ اسمه، فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف، فأتاه جبرئيل (ع) في مسجد الخيف، فأمره بأن يعهد عهده، ويقيم علياً علماً للناس يهتدون به، ولم يأته بالعصمة من اللّه جلّ جلاله بالذي أراد، حتى بلغ كراع الغميم بين مكة والمدينة، فأتاه جبرئيل وأمره بالذي أتاه فيه من قبل اللّه، ولم يأته بالعصمة، [فقال النبي(ص)]: جبرئيل إنّي أخشى قومي أن يكذبوني، ولا يقبلوا قولي في عليّ (ع) [فسأل جبرئيل كما سأل بنزول آية العصمة، فأخره ذلك] فرحل، فلمّا بلغ غدير خمّ قبل الجحفة بثلاثة أميال، أتاه جرئيل (ع) على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس، فقال: يا محمّد إنّ اللّه عزّ وجلّ يقرئك السلام ويقول لك: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ  [ في عليّ] وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ﴾ (الطبرسي، الاحتجاج، النجف الأشرف، دار النعمان للطباعة والنشر، 1966 م، ج1، صص 79-70). ولا بدّ من الإلفات إلى أنّ هذا الزجر والانتهار ليس موجّهاً إلى النبي(ص)، وإنّما هو موجّهٌ إلى تلك الفئات التي كانت تخالف ذاك البلاغ ومضمونه، والتي ألفت إليها هذا الحديث من أهل الشقاق و النفاق وغيرهم.
[48]  سورة المائدة، آية 67.
[49]  السؤال الذي يطرح هو ما الداعي الذي استلزم يومها أن يأتي الوحي بتلك الضمانة للنبي(ص) بعصمته وحمايته كنبيٍّ من الناس؟ وما هي المخاوف التي كانت قائمة من أولئك الناس حتى استلزم الأمر تلك الضمانة من اللّه تعالى؟ ولِمَ لا نجد في القرآن الكريم إلا هذه الآية التي تتحدّث عن عصمة النبي(ص) من الناس -لا يوجد في القرآن الكريم آية تتحدث عن العصمة من الناس سوى هذه الآية- في سياق الحديث عن ذاك البلاغ من اللّه تعالى.  
[50]  راجع في هذا الموضوع: محمّد شقير، فلسفة الإمامة في الفكر الشيعي، دار المعارف الحكمية، بيروت، 2017م، ط1، صص: 23-40.
[51]  الشيعة الإماميّة بين النّص والتاريخ، م.س، ص: 122.
[52]  على الرغم من بقاء النبي 13 سنة في مكة، لكن نموذجه الديني لم يأخذ مداه الاجتماعي والسياسي فيها كما أخذه في المدينة.
[53]  ابن طاووس، اليقين، مؤسسة دار الكتاب، ط1، ص346؛ الأميني، الغدير، بيروت، دار الكتاب العربي، 19م.س، ج1، ص 10
[54]  الدوحة: هي الشجرة العظيمة ذات الفروع الممتدة التي تظلّل مساحة كبيرة تحتها. 
[55]  م.ن، صص 290-293.
[56]  الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1367 ه.ش، ط3، ج 6، ص:461.
[57]  المجلسي، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1983 م، ط2، ج20، ص387.
[58]  المفيد، الإرشاد، بيروت، دار المفيد، 1993م، ط2، ج1، ص: 177.
[59]  الشيعة الإماميّة بين النّص والتاريخ، م.س، ص: 123.
[60]  الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، ج 9-10، ص: 150.
[61]  سورة الممتحنة، الآية 12.          
[62]  راجع على سبيل المثال: أحمد حسين يعقوب، المواجهة مع رسول الله(ص)، م.س، البابان الثالث والخامس.
[63]  الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ،م.س، ص123.
[64]  جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي(ص) الأعظم، بيروت، دار السيرة، ج6، صص 156-168؛ محمّد شقير، فلسفة الإمامة في الفكر الشيعي، م.س، ص: 110-111.
[65]  سورة آل عمران، الآيات 152-155.
[66]  وجيه قانصو، الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 123
[67]  مرتضى العسكري، معالم المدرستين، بيروت، مؤسسة النعمان، 1990م، ج1، ص: 254.
[68]  كتاب سليم بن قيس، م.س، ص: 153.
[69]  الأميني، الغدير، ج1، م.س، صص 159-163.
[70]  الأميني، م.ن، صص 163-165.
[71]  م. ن، ص: 167.
[72]  م. ن، ص: 186.
[73]  م.ن، صص 188- 189.
[74]  م. ن، 196.
[75]  موسوعة الغدير في الكتاب والسنة والأدب، للعلاقة عبد الحسين الأميني، والتي طبعت في أكثر من عشرة مجلداتٍ، تحتوي على مجمل ما جاء في حديث الغدير في القرآن والسنة والأدب، حيث عرض فيها لسند الحديث ودلالته، فأثبت شهرته وتواتره في جميع القرون، ودلالته على الإمامة وخلافة النبي(ص).
[76]  راجع: م. ن، صص 196- 213.
[77]  وجيه قانصو، الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ، م.س، ص: 123.
[78]  م.ن، ص: 124.
[79]  الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ، م.س، ص: 123.
[80]  م.ن، ص: 144.
[81]  راجع: جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم(ص)، قم، دار الحديثق للطباعة والنشر، 1426هـ.ق، ط1، ج33، صص: 293-340؛ جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة الإمام علي(ع)، قم، ولاء المنتظر، 1430هـ.ق، ط1، صص: 50-110؛ أحمد حسين يعقوب، المواجهة مع رسول الله(ص)، م.س، صص: 515- 543.
[82]  بل هو قد صرّح بذلك عندما قال: «تجد أنّ الأنصار سارعوا إلى بيعة سعد بن عبادة» (م.ن، ص: 152)
[83]  «... خشيناإن فارقنا القوم (الأنصار)، ولم تكن بيعة، أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا...» (صحيح البخاري، م.س، ص: 28).
[84]  محمّد جرير الطبري، تاريخ الطبري، بيروت، مؤسسة الأعلمي، ج2، ص: 459.
[85]  م.ن، ص: 458.
[86]  يلفت النظر إلى ما نقله أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (مقاتل الطالبيين) عن الإمام جعفر الصادق(ع) من دعائه على الأنصار، حيث قال بحقهم: «فوالله ما وفوا له (رسول الله(ص))، حتى خرج من بين أظهرهم... اللهم فاشدد وطأتك على الأنصار» (النجف الأشرف منشورات المكتبة الحيدرية، 1965م، ط2، ص149).
[87]  «...نخاف أن يليه أقوام قتَلنا آباءهم وإخوتهم» (ابن جعفر، فتح الباري، بيروت، دار المعرفة، ط2، ج7، ص21)
[88]  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، م.س، ج1، ص: 221.
[89]  الريشهري، ميزان الحكمة، دار الحديث، ط1، ج1، ص 143.
[90]  أحمد حسين يعقوب، المواجهة مع رسول الله، م.س، صص 522-524.
[91]  يقول الإمام عليٌّ(ع) في هذا الموضوع: فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم    فكيف بهذا والمشيرون غيّب وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم    فغيرك أولى بالنبيّ وأقرب.     
[92]  صحيح البخاري، م.س، ج8، ص:27.
[93]  يظهر من بعض النصوص أن ما طُرح من قبل ذاك الفريق من الأنصار في سقيفة بني ساعدة حول خلافة النبي(ص)، أو المشاركة المتكافئة فيها، إنما كان في قبال طرح الحزب القرشي وبوجهه، ولم يكن في قبال فعلية خلافة الإمام عليٍّ(ع) ومشروعيته السياسية، بل قد روي أن سعد بن عبادة رفض ما طرحه بعض وجوه الأنصار في السقيفة حول توليه الخلافة، وأنه أجاب القوم يومها: «لا نبايع لأحدٍ غيره (عليٍّ(ع))».
وقد نقل عن أبي علقمة، أنه قال: «قلت لابن عبادة، وقد مال الناس إلى بيعة أبي بكرٍ: ألا تدخل فيما دخل فيه المسلمون؟، قال إليك عني، فوالله لقد سمعت رسول الله(ص) يقول: إذا أنا مت، تضلّ الأهواء، ويرجع الناس على أعقابهم، فالحق يومئذ مع عليٍّ، وكتاب الله بيده؛ لا نبايع أحداً غيره. فقلت له: هل سمع هذا الخبر أحد غيرك من رسول الله(ص)، فقال أناس في قلوبهم أحقاد وضغائن. قلت: بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون الناس.  فحلف أنه لم يهمّ بها (الخلافة)، ولم يردها، وأنهم لو بايعوا علياً (ع)، لكان أول من بايعه» (محسن الأمين،أعيان الشيعة، بيروت، دار التعارف، 1983م،ج7، ص: 225).
وهناك من زعم أن «سعد لم يدّع الخلافة، ولكن لما اجتمعت قريش على أبي بكر يبايعونه، قالت لهم الأنصار: أما إذا خالفتم أمر رسول الله(ص) في وصيه وخليفته وابن عمه، فلستم أولى منا بهذا الأمر، فبايعوا من شئتم، ونحن معاشر الأنصار نبايع سعد بن عبادة. فلما سمع سعد ذلك قال: لا والله، لا أبيع ديني بدنياي، ولا أبدل الكفر بالإيمان، ولا أكون خصماً لله ورسوله». (علي خان المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، صص325 - 334).
ونقول باقتضاب، إنه قد يكون لهذا الطرح (الفرضية) قرائن تدعمه، وقد يُناقش بمناقشات عديدة، منها ما نقله سليم بن قيس الهلالي عن قيس بن سعد بن عبادة، حيث قال: «لقد قبض رسول الله(ص) فاجتمعت الأنصار إلى والدي سعد، ثم قالوا: لا نبايع غير سعد» (كتاب سليم بن قيس، م.س، ص: 313)؛ لكن سوف نعرض عنها، حتى لا يطول البحث عن حدّه في هذا المورد؛ وإن كان القدر المتيقن أن الأنصار قد قصّروا بحقّ علي(ع)، وأنهم لم يقوموا بالدور المنتظر منهم تجاهه، وهم وإن كانوا يميلون إلى أهل البيت(ع) والإمام علي(ع)، ويكنون له كل محبة واحترام؛ لكن موقفهم بعد وفاة النبي(ص) لم يرق إلى مستوى التحدّي، وخطورة المآل -لمجمل الأسباب التي ذكرنا، وهو ما جعلهم في موقع العتاب الشديد من أهل البيت(ع)، وتحديداً بنت النبي(ص) فاطمة الزهراء(ع)، حيث ذهبت في خطبة لها إلى تحميلهم -والمهاجرين- مسؤولية ما آلت إليه الأمور حينها، منبهة إلى خطورة ما هو قادم من الأيام عليهم. (الطبرسي، الاحتجاج، م.س، ج1، صص: 146-149). 
[94]  محمّد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، م.س، ص: 443.
[95] إن هذه الإيديولوجيا قد أسّست لممارسات دينيّة وسياسيّة تخالف النّصّ الدّيني نفسه، وفي الكثير من الموارد، حيث أضحى (الاجتهاد) يومها مرادفاً لبناء الموقف (الحكم) من خارج النص وفي قباله، لا استنباط الحكم من النص، كما هو عليه مصطلح الاجتهاد اليوم، إذ فرقٌ  بين أن يكون الاجتهاد في قبال النص، وبمواجهته، وبين أن يكون من خلال النص ودلالته.
هذا وقد جمع العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه اللّه مجمل تلك الموارد التي حصل فيها اجتهاد في قبال النص الدّيني، وأودعها في كتاب له منشور بعنوان: (الاجتهاد في مقابل النص، بيروت، دار الأعلمي،1988م، ط 10)، وهو مما لا غنى للباحث في التّاريخ والدّين والفكر والسياسة من معاينته، والوقوف عند مجمل الدّلالات والنّتائج، التي تترتّب على ما فيه، في مجمل القضايا ذات الصلة.
[96]  راجع في هذا الموضوع:عادل ضاهر، الأسس الفلسفيّة العلمانيّة، بيروت، دار الساقي، 1988م، ط2، صص 37 -75 (الفصل الثاني وغيره من الفصول).
[97] ليس البحث هنا في التراث الذي يتصل بدلالة حديث الغدير، واختلاف مجمل العلماء فيها، وإنما في طبيعة تلك المداولات التي تلت وفاة النبي(ص) مباشرة، والتي تتصل بالخلافة، والإمامة الكبرى، وما يمكن أن تحمله من قرائن على فهم ذاك الحديث ودلالته.
[98]  هنا لا يصح الاستناد على بعض ما ورد من  ارتضاءٍ أو اعترافٍ من قبل سلطة الخلافة بأرجحيّة علميّة أو أخرى للإمام علي(ع)، للاستدلال بها على أن تلك السلطة تعترف بمرجعية الإمام الدينية، لأنّه فرْق بين القول بأرجحيّة علميّة في مورد أو آخر، ثبتت بقوّة الوقائع وضروراتها، من دون أن ترقى إلى ذاك المستوى من الاعتراف، وبين القبول بتلك المرجعيّة الدّينيّة بجميع مدياتها ودلالاتها ولوازمها، والأخذ بجميع النّتائج والمفاعيل التي تترتّب عليها.
[99]  وجيه قانصو، الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ، م.س، صص 402 - 405 وص: 417  و 452-453.
[100] م.ن، ص 83 – 84.
[101] الأميني، الغدير، م.س، ج1، صص 340-401، هاشم الميلاني، حديث الغدير بين أدلّة المثبتين وأوهام المبطلين، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، 2017م، ط 1، صص 157-217.
[102] بمعنى أن فلسفة الدين ومقاصده تساعد على ذاك الفهم وتدعمه (محمد شقير، فلسفة الإمامة في الفكر الشيعي، م.س، صص 23-60).
[103] سورة آل عمران، الآية 19.