البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التربية السياسية عند الامام علي (عليه السلام)

الباحث :  أ.د. عامر عبد زيد الوائلي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  18
السنة :  شهر شوال 1440هـ / 2019م
تاريخ إضافة البحث :  July / 9 / 2019
عدد زيارات البحث :  1684
تحميل  ( 598.426 KB )
مقدمة:

البحث في موضوعة التربية عامةً ومنها التربية السياسيّة خاصةً، من الموضوعات القديمة في الحضارة الإنسانيّة، إلا أنها تختلف في المرجعيات والغايات المنشودة، والتي تتوافق مع طبيعة الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي:
قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾[1].
وقال رسول الله (ص): «اعمل بفرائض الله تكن من أتقى الناس، وارضَ بقسم الله تكن من أغنى الناس، وكُفَّ عن محارم الله تكن أورع الناس، وأحْسِن مجاورة من جاورك تكن مؤمنا، وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مسلما»[2].
وبالإسناد الأول عن علي بن مهزيار، عن فضالة، عن إسماعيل، عن أبي عبد الله (ع) قال: كان أمير المؤمنين (ع) يقول: «نبِّه بالتفكير قلبك، وجافِ عن النوم جنبك، واتّقِ الله ربك»[3].
أمّا من حيث اللغة فالتربية مأخوذةٌ من ربَّى ولده، والصبي يَرُبُّه، ربَّاه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك[4]. وقد ذكرها ابن منظور في لسان العرب إذ قال: «رَبا الشئَ يَربو رَبْواً ورِباءً بمعنى: زاد ونما، وأربَيْته: بمعنى نَمَّيْته، وفي التنزيل العزيز «ويُرْبي الصدقات» ومنه أخذ الربا الحرام[5]، أي أنه نموٌّ وزيادةٌ وترقيَةٌ، وهي يُرْبي الصدقات، أي هي في كل هذا ارتقاء الجيل الجديد وهذا ما يظهر في معنى التربية أيضا في اللغة وهي مأخوذةٌ من «ربّى ولده، والصبي يَرُبُّه، ربَّاه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك»[6]. أي ارتقى به من حيث التربيَة والتوجيه ما يجعل منه قادرًا على ما يعجز عنه غيره دونه في التربية والاستعداد، وهو ما تحيل إليه اللغة أيضا «رَبَّ، يُرُبُّ الوَلَدَ، بمعنى تعهده وربّاهُ وأدّبَهُ»[7]. وبذلك تكون معاني التربية في اللغة: الزيادة والنمو والنشوء والترعرع والإصلاح والرعايّة والسياسة وتولي الأمر.
أمّا في الاصطلاح فنجد أن أفلاطون (347-427ق.م)، ينظر إليها بوصفها «هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال»[8]، وهي عند أرسطو (384-322ق.م)، «الغرض من التربيّة هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيدٌ وضروريٌّ في الحرب والسلم، وأن يقوم بما هو نبيلٌ وخيرٌ من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة»[9]، وبالتأمل في هذين التعريفين نجدهما يُركزان على التأمل في ما يجب أن يكون عليه السلوك ما يجعل من التربيَة تهدف إلى منح الجسم والروح: جمالًا وكمالًا ونبلًا، ما يجعل من الفرد مفيدًا في الحرب والسلم من أجل تحقيق السعادة وهي هدف التأمل الفلسفي[10].
وقد جمع الغزّالي إلى جانب العقل الدين فقال في التربيَة أنّها «تشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبيّة من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه»[11].
فالتربيَة حاضرةٌ في فكر الإمام، عن عامر الشعبي، قال: «تكلّم أمير المؤمنين علي (ع)، بتسع كلماتٍ ارتجلهن ارتجالاً، فقأن عيون البلاغة، وأيتمن جواهر الحكمة، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن، ثلاثٌ منها في المناجاة، وثلاثٌ منها في الحكمة، وثلاثٌ منها في الأدب»[12]، وقد حاولنا أن نعرض لها، في هذا المقال، إذ نحاول النظر في مفهوم التربيَة عند الإمام ثم التربية السياسيّة من خلال نماذج من عهد الإمام (ع) إلى الصحابي الجليل مالك الاشتر النخعي[13].

1 - التربية لدى الإمام علي (ع)
وما يهمنا هنا في تعريف التربيَة هو ما أراده الإمام أمير المؤمنين في كلماته والتي تفسر حقيقة مفهوم التربيَة من وجهةِ نظرٍ إسلاميّةٍ دينيّةٍ. فالإمام يرى أن الإنسان هو غايَة الوجود، والهدف من خلقته هو الوصول إلى الكمال النهائي الذي أراده الله تعالى له، وجعله خليفته في أرضه، ولكي يصل إلى كماله يجب عليه الالتزام في أقواله وأفعاله ومقاصده، على وفق أحكام الله وهداه كما قال الله تعالى لأبينا آدم عند هبوطه من الجنة: ﴿قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ 38 وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾[14].
فالتربية القرآنيّة التي تشير إلى آدم (ع) هي تربط وتوجب الطاعة، تلك الطاعة التي تجمع إليها أيضاً الدراية والمعرفة، يقول النبي (ص): «هلاك أمتي في شيئين: ترك العلم وجمع المال»[15].
كما يقول الإمام (ع): «العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل»[16]، فليس المهم من وجهة نظر القرآن الكريم وكلمات الإمام (ع) كثرة العلوم النظريّة، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيّرة، إلى جانب أن الغايّة الإلهيّة تتطلب أن يكون الإنسان يجمع بين النظر والعمل معاً.
ودور الإمام الجمع بين المطلق الله والنسبي الإنسان في الوصل والشفاعة والتربيَة والإعداد أيضا. إذ يبقى الأساس يتجلى في ما يقوله الإمام (ع): «لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا»[17]. بالتوجيه والإرشاد للإمام مثلما هو للأفراد هو بالضرورة للجماعة كفضاءٍ لها من أجل تغيير واقعهِ من حالٍ إلى آخر.
 فالتربيَة اجتماعيّةٌ، لكونها تُعَدُّ صورةً لحياة المجتمع الذي تعيش في إطاره، تعكس فكره الاجتماعي وتشير إلى مدى نموه وتطوره وتحدد درجة تطلعه وطموحه وألوان النشاط المتعددة والأوجه التي يمارسها أفراده.
فالتربيّة الإسلاميّة كما يعبر عنها الإمام (ع) هي عمليّةٌ تهدف بالضرورة إلى إحداث تغييرٍ بالسلوك ينقل سلوك المُربَّى من حالةٍ إلى حالةٍ، من المرجوِّ أن يكون بها عبر ترسيخ سلوكيّاتٍ أخلاقيّةٍ مرغوبٍ بها محلَّ أخرى غيرِ مرغوبٍ بها، لكونها تتعارض مع المرجعيّات والأطر الاجتماعيّة والثقافيّة الاسلاميّة، لهذا قيل عن التربيَة: أنها مؤثراتٌ تَنْشُد تحقيق تغييراتٍ في الميول والعادات والقيم من أجل أن يكتسب الأفراد سماتٍ متفقًا عليها مع المرجعيّات الدينيّة أو الفلسفيّة أو الاجتماعيّة أو الإسلاميّة.
فهذه المرجعيات على تنوعها، هي الأساس الذي يستقى منها المنهاج أو الطريق الذي ينشده المربي سواءً أكان فرداً أم مؤسسةً لمرجعٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ أو تربويٍّ يريد أن ينقل فرداً أو مجموعةً من حالةٍ إلى أخرى أي بعد إكسابهم سماتٍ للشخصيّة المتفق عليها التي تزودت بالخصائص التربويّة. وفي قول الإمام علي (ع): «ابذل لأخيك دمك ومالك، ولعدوك عدلك وإنصافك، وللعامة بشرك وإحسانك»[18] فهذه المقولة تعبر عن مجموعةٍ من المعايير التربويّة التي يتحتم تواجدها في صياغة وإعداد سلوك المسلم في تعامله مع غيره.
والإمام نفسه كان وليد هذه المنظومة الربانيّة، إذ أورد الداعية الإسماعيلي النعمان بن حيون (263هـ) فى كتابه المسمى شرح الأخبار في فضل الأئمة الأخيار حديثا قال أن الطبري رواه عن عمار بن ياسر وفيه يقول النبي محمد (ص) مخاطباً الإمام علي (ع): «يا علي إن الله زينك بزينةٍ لم يزين أحداً من العباد بزينةٍ أحبَّ إليه منها، وهي زينة الأبرار عند الله، الزهد في الدنيا، ووهب لك حب المساكين فجعلك ترضاهم أتباعاً ويرضون بك إماماً»[19].
فهذا النهج التربوي القرآني، يحاول تربية مجموعاتٍ من البشر وإعدادها على غرار تلك الأطر التربويّة العاملة على ترسيخ قواعد الأخلاق والمثل العليا بين مكوناته وأفراده، وغايتها النهوض بالمجتمع المستهدف، عن طريق تهذيب الفرد وتنمية قواه ومواهبه من خلال خبراتٍ ومعارفَ تشكلها سلطةٌ ثقافيّةٌ ومعنويّةٌ لديه.

2 - التربيَة السياسيّة لدى الإمام علي (ع):
في الحديث في مجال التربيّة السياسيّة نجد أنموذجين كان لهما تقديرٌ لدى الإمام هما (مالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر) وهناك عهدان الأول إلى الاشتر والثاني إلى ابن أبي بكر وفيهما نماذجُ راقيةٌ من القيم الخلقيّة في التربية السياسيّة، إلى جانب مجموعةٍ من الرسائل؛ لكن يبقى عهد الإمام إلى مالك أنموذجاً رفيعاً على التربيّة السياسيّة للإمام وقد قال الإمام في مالك: «وأنا قابل من رأيك ما كان لله رضًى، وأنت من آمَنِ أصحابي، وأوثِقهم في نفسي، وأنصحهم وأرآهم عندي»[20]. وقال فيه: «لقد كان لي كما كنت لرسول الله»[21]، وبعد انتخابه لولايَة مصر وصفه بهذا السياق: «أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الرّوع، أشدّ على الفجّار من حريق النّار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ، فإنّه سيف من سيوف الله لا كليل الظّبة، ولا نابي الضّريبة: فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنّه لا يُقدم ولا يُحجم، ولا يُؤخّر ولا يُقدّم إلاّ عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم، وشدّة شكيمته على عدوّكم»[22].
لما وصل إلى أميرَ المؤمنين وفاةُ الأشتر جعل يتلهّف ويتأسّف عليه، ويقول (ع): «لله درّ مالكٍ، لو كان من جبلٍ لكان أعظم أركانه، ولو كان من حجرٍ كان صلداً، أما والله ليهدّنّ موتك، فعلى مثلك فلتبكِ البواكي، ثم قال :إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين، إنّي أحتسبه عندك، فإنّ موته من مصائب الدهر، فرحم الله مالكاً قد وفى بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، مع أنّا قد وَطَّنَّا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبةٍ بعد مصابنا برسول الله (ص) فإنها أعظم المصيبة»[23].
قال الإمام علي (ع) إلى مالك في العهد: «ثمّ اعلم يا مالك! إنّي قد وجهتك إلى بلادٍ قد جَرَت عليها دولٌ قبلك من عدلٍ وجَوْرٍ، وإنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنّما يُستدلُّ على الصالحين بما يُجري اللهُ لهم على ألســن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك عمّا لا يحل لك، فإنّ الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت».
في هذا المقطع من عهد الإمام إلى مالك الأشتر يرشده إلى ضرورة التفكر في حال الناس وهم قد مر بهم حكامٌ سابقون لكلٍّ منهم سيرته، التي عرفها الناس فهناك سيرة عمرو بن العاص وما عرف به من سلوكٍ وهناك غيره من الصالحين، لكل واحدٍ من هؤلاء وغيرهم سيرةٌ عرفها الناس وعلى أساسها أصدروا أحكامهم عليهم.
فالإمام عندما يقول: (وإن الناس ينظرون من أمورك) حتى يعرفوا طبيعة هذا الأمر هل هو عدلٌ أم جورٌ، فالإمام يحض على التفكير والتأمل في أحوال الأمة وآثار السياسات في سلوك الناس وحياتهم؛ فالتفكر سمةٌ من سمات التربية العلويّة، فقد عُرف (ع) أنه من المفكِّرين الأوائل الذين أدركوا أهميّة التفكير عند الإنسان فأشاد بالعقل ودعا إلى تنميته بالفكر، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك. وكثيرةٌ هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا الأمر إذ يقول (ع): «الفكر يهدي و(الفكر عبادة)، و(الرأي بالفكر)، و(الفكر رشد)، و(الفكر ينير القلب»[24]، إذ يجد في التفكير القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد، ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتاً ودقةً، وذلك بالقياس إلى ما ندّعي امتلاكه بالحفظ والتلقين من دون وعيٍ ودرايةٍ.
ويقول (ع) في العهد إلى مالك الاشتر: «وأَشْعِر قلبك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق، يفرُط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولّاك! وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم»[25].
(الرحمة، المحبة، اللطف، المساواة، العفو، الصفح)، هي سماتُ الحاكم العادل الذي يمتلك التقوى. هذه السمات الإسلاميّة الحقة التي تجلت في النبي (ص)،  والإمام علي (ع)، التي تقوم على تقوية قوى الخير في نفس الإنسان، فالإنسان يحوي شيء من الضعف كما وصفه الإمام (ع)، بقوله: (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة)[26]، فحالة الضعف هذا تحتاج منه أن يتجاوز حالة الضعف عبر النظر والتأمل والطاعة، والتقوى، ففي أعماق نفسه تتصارع قوى الخير والشر فهو يجمع إلى جانب العواطف والأهواء والغرائز العقل والفطرة، وحياته تعتورها حالاتٌ متضادةٌ نتيجةً للصراع بين قواه العقليّة والعاطفيّة، فيمكن أن يرتفع إلى كماله اللائق به إذا ما جعل من عقله القائد والمدير والمدبر لسلوكه وأعماله، يقول الإمام علي (ع): «العقل صاحب جيش الرحمان، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبةٌ بينهما فأيهما غلب كانت في حيزه»[27].
وقول الإمام (ع) في العهد: «فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابْسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإنّ الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذّبْ فأنتم أظلم، وإن يعفُ فهو أكرم»[28].
وقول الإمام (ع) في العهد لمالك: «ولا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنّه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفوٍ، ولا تبْجَحَنَّ بعقوبةٍ، ولا تُسرعِنَّ إلى بادرةٍ وجدْتَ منها مندوحةً، ولا تقولن: إنّي مُؤَمُّرٌ آمُرُ فأُطَاع، فإنّ ذلك إدغالٌ في القلب، ومنهكةٌ للدين، وتقرّبٌ من‏ الغِيَر، وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهةً أو مخيلةً، فانظر إلى عِظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنّ ذلك يُطامن إليك من طِماحك، ويَكُفَّ عنك من غَرْبك، ويفي‏ء إليك بما عزب عنك من عقلك. إيّاك ومساماةَ الله في عظمته، والتشــبُه به في جبروته، فإنّ الله يُذِلُّ كل جبّار، ويُهينُ كلَّ مختالٍ»[29].
التذكير بعظمة الله وجبروته وانتقامه من الظالم فالمؤمن من يتقي الله، والتقوى تأتي من تجاوز حالة الضعف والظلم صوب التوازن بين العقل والقلب ليكون الإنسان الكامل وإعطاء كلٍّ منهما حقه في الكمال وقد أشار أمير المؤمنين إلى هذه المزية التربويّة فقال (ع): «لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعةٌ هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أنّ له موادَّ من الحكمة وأضدادًا من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتّسع له الأمر استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبةٌ فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضرٌّ، وكل إفراطٍ له مفسدٌ»[30].
والنجاة تكمن في «ذكر الله تعالى» وهي واحدةٌ من الخصال التربويّة في منهج الإمام التربوي وأصلها في القرآن الكريم ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ﴾[31].
وقال تعالى أيضاً: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ﴾[32]، قال الإمام علي (ع) في أهميّة الذكر: «إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله –عزَّتْ آلاؤُه- في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، رجالٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم»[33].
وقال الإمام (ع) في عهده إلى محمّد بن أبي بكر «واعلم ـ يا محمّد بن أبي بكر ـ... وأن تنافح عن دينك، ولو لم يكن لك إلاّ ساعةٌ من الدهر، ولا تسخط الله برضى أحد من خلقه، فإنّ في الله خلفاً من غيره، وليس من الله خلفٌ في غيره، صلّ الصلاة لوقتها المؤقّت لها، ولا تعجّل وقتها لفراغٍ، ولا تؤخّرها عن وقتها لاشتغال. واعلم أنّ كل شيء من عملك تبعٌ لصلاتك»[34].
نلاحظ الجمع بين خصال مخالفة النفس، والمنافحة عن الدين، وتجنب سخط الله، والالتزام بالصلاة فهي الأصل في كلِّ عملٍ، إنّها مقاربةٌ تجمع بين الصلاة، كونها رباطًا معنويًّا ورمزيًّا كلما زاد عمق صلح حال المؤمن واستقامت أعماله وصلحت، وسيطر على نفسه وساس الناس بالعدل الذي فيه مرضاةٌ لله وتجنبٌ لسخطه. وهو ذاته ما يؤيده قول الإمام (ع): «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصّة أهلك، ومن لك فيه هوىً من رعيتك، فإنّك إلا تفعل تظلم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته، وكان لله حرباً حتّى ينزع أو يتوب.وبالتالي فإنّ (الدِّينُ يَعْصِمُ، أي إنّ رعايّة الدين والاهتمام بأُموره يعصمان المرء من الحسرة والندم في يوم الجزاء، وهذا ظاهر، كما يعصمانه من الذلّة والهوان في الدنيا، لأنّ المتديّن عزيزٌ ومحترمٌ عند الخلائق، وإذا لحق الإنسان ـ في سبيل الدين ـ أذىً فإنّه لن يُسقطه من أعين الناس، بل يزيد في علوّ قدره وسموّ مرتبته لدى مَن يبصر حقائق الاُمور»[35]. بالمقابل فإن الظلم والفساد يجلب غضب الباري عز وجل وهذا ما يصوره الإمام في عهده إلى مالك: «وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلمٍ، فإنّ الله سميعٌ دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد.
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعهــا لرضا الرعيّة، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يُغتفر مع رضا العامّة»[36].
هذا المقطع يركّز على «الإنصاف» للناس من قبل الحاكم: من نفسه، ومن خاصة أهله، والحواشي، فان ترك الإنصاف هو الظلم والخصم فيه الله، إذا الإمام يدعو إلى إنصاف الله وتقوى الله. وهذا يتحقق للحاكم إذ زكّى نفسه، كما قال الله تعالى في محكم كتابه: «قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دساها»[37]. فيقول (ع) في وصيّةٍ إلى شريح بن هانئ[38]: «واعلم أنك إنْ لم تردع نفسك عن كثيرٍ ممّا تحب مخافة مكروهٍ، سمَت بك الأهواء إلى كثيرٍ من الضرر. فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً»[39].
وبالمقابل يصف أهل السوء وحكام الجور، يقول الإمام في الرد على رسالة ابن أبي بكر يطلب النجدة: «وقد قرأت كتاب الفاجر ابن الفاجر معاوية والفاجر ابن الكافر عمرو، المتحابّين في عمل المعصية والمتوافقين المرتشيين في الحكومة، المنكرين في الدنيا، قد استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، فلا يهلك إرعادهما وإبراقهما، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله، فإنّك تجد مقالاً ما شئت. والسلام»[40].
وقال الإمام (ع) من عهده إلى مالك: «وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعائب الناس، فإنّ في الناس عيوباً، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك»[41].
هذا المقطع يحذّر الحاكم من أهل النميمة الوشاة وأهل الكذب فإنها أفعالٌ غيرُ محمودةٍ، وبالمقابل الدعوة إلى التقوى إذ يقول الإمام (ع): «إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم»[42].
وقال الإمام (ع) من عهده إلى مالك: «ولا تُدخِلنَّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يُضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزيّن لك الشر بالجور، فإنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن بالله»[43].
في هذا المقطع اختيارٌ عميقٌ لمن تشاور في أمور الناس وهي قاعدةٌ نفسيّةٌ تقوم على معرفةٍ عميقةٍ بسلوك من تختاره أن يكون مستشاراً ويقدم لك الخبرة والنصيحة من أهل الرأي والخبرة؛ فالتحليل النفسي لهؤلاء يجعلك قادراً على معرفة عمق مشورتهم إذا ما استبعدت منها الصفات السلبيّة السابقة.
وبعد التأكيد على استبعاد الوزراء وبطانتهم من أهل الآثام يقول الإمام (ع) في عهده إلى مالك: «وأنت واجدٌ منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممّن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه، أولئك أخفُّ عليك مؤونةً، وأحسنُ لك معونةً، وأحنى عليك عطفاً، وأقلُّ لغيرك إلفاً، فاتّخِذ أولئك خاصّةً لخلواتك وحفلاتك، ثمّ ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرِّ الحق لك، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع»[44].
بعد الفرز والتدقيق يتم اختيار أهل الرأي والخبرة والشر، الأساس ألّا يكونوا من أهل الجور والآثام بل من أهل العدل والإنصاف.
وبعد التأكيد على استبعاد المدح والإطراء، لأنّه إشارةٌ سلبيّةٌ في نفس من يحكم يقول الإمام في عهده إلى مالك: «ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواءٍ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة! وألزم كلاًّ منهم ما ألزم نفسه»[45]. وهذا النص مهمٌّ، فالحاكم العادل هو من لا يساوي بين من سلوكهم مختلفٌ بين أهل الإحسان وأهل الإساءة، حتى لا يشعر أهل الإحسان أنهم في خسارةٍ بانتهاجهم هذا الطريق الصالح ويشعرون أنه غيرُ مقيمٍ ولا مذكورٍ بعين الحاكم فيكفّون عنه وتلك خسارةٌ كبيرةٌ، تجعل أهل السوء يزدادون تمادياً بأفعالهم القبيحة، لأنهم لم يجدوا ردعاً لها.
يؤكد الإمام في عهده إلى مالكٍ على صفةٍ محمودةٍ تجمع حسن الظن بالناس والعدل في معاملتهم فيقول: «فليكن منك في ذلك أمرٌ يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإنّ حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده»[46].

الإمام في عهده إلى مالك يقرّ قواعدَ هي:
1 - «لا تنقض سنّةً صالحةً عمل بها صدور هذه الأمّة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعيّة، ولا تُحدثنَّ سنّةً تضرّ بشيءٍ من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منه»[47].
2 - «أكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك»[48]
ثم نجد الإمام يقدّم توجيهاً يراعي فيه إدارة طبقات المجتمع فهو يراعي هنا الإدارة وأخلاقيات التعامل مع كلِّ طبقةٍ بقوله: «اعلم أنّ الرعيّة طبقاتٌ، لا يصلح بعضها إلاّ ببعضٍ، ولا غنى ببعضها عن بعضٍ: فمنها جنود الله، ومنها كُتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزيَة والخراج من أهل الذمّة ومسلمة الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلٌّ قد سمى الله له سهمه، ووضع على حدّه فريضةً في كتابه أو سنّة نبيه (ص) عهداً منه عندنا محفوظاً»[49] ثم يفصّل ما يجب أن يتم مراعاته إلى كل مجموعة:
1 - فالجنود، بإذن الله، حصون الرعيّة، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعيّة إلاّ بهم.
2 - ثم لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدّوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.
3 - ثمّ لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب، لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها.
4 - ولا قوام لهم جميعاً إلاّ بالتجّار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.
5 - ثمّ الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكلٍّ سعةٌ، ولكلِّ على الوالي حقٌ بقدر ما يُصلحه.
يؤكد الإمام في عهده إلى مالكٍ على أخلاقيّة الحاكم مع المحكوم: «ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمنّ في نفسك شيءٌ قوّيتهم به، ولا تحقرنّ لطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ، فإنّه داعيةٌ لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك، ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه»[50].
الراعي الصالح علاقته بشعبه كعلاقة  الوالِدِين مع أولادهم، هي علاقةٌ تقوم على العطف والمحبّة والتقوى.
ثم يذكر الإمام في عهده إلى مالكٍ آليّات الحاكم في استنهاض الناس ودفعهم إلى المكارم: «إنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلّة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدّتهم، فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإنّ كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل، إن شاء الله...، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمــام النعمة، وتضعيف الكرامـــة»[51].
ومن أخلاق هؤلاء القادة بحق مربيهم وقائدهم الإمام علي (ع) ما جاء في رسالة محمّد بن أبي بكر إلى معاوية: «والشاهد لعليٍّ: مع فضله المبين وسابقته القديمة، أنصارُه الذين معه، الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائبُ وعصائبُ، يجالدون حوله بأسيافهم، ويريقون دماءهم دونه، يرون الحقّ في اتّباعه والشقاق والعصيان في خلافه، فكيف ـ يالك الويل ـ تعدل نفسك بعليٍّ، وهو وارث رسول الله (ص) ووصيّه وأبو ولده، وأوّل الناس له اتّباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسرّه، ويطلعه على أمره، وأنت عدوّه وابن عدوّه. فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهى، وسوف يستبين لك لمن تكون العاقبة العليا، واعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده، وأيست من رَوْحه، وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور والسلام على من اتّبع الهدى...»
في هذه الرسالةَ يظهر أثر التربيّة العلويّة وتظهر، أيضا ذات القواعد التربويّة التي أكد عليها الإمام في عهدة إلى مالك الأشتر نلمسها أيضا في رسالة الإمام (ع) إلى محمّد بن أبي بكر: «فأصحِر لعدوّك، وشمِّر للحرب، وادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وأكثِر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفِك ما أهمّك، ويُعِنْك على ما ولاّك، أعاننا الله وإيّاك على ما لا يُنال إلاّ برحمته. والسلام»[52].
بعد هذا العرض لما سبق من نصوصٍ، نقول أن الإمام يبقى هو المعين للتربيّة لما يتمتع به من كمالٍ وعصمةٍ وهذا ما يؤكده  العلامة الحلي في عرضه لوظيفة الإمام، فيذكر قوله تعالى:
﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾[53].
«وجه الاستدلال أن الله سبحانه وتعالى نصّب الإمام لحمل الناس على المرتبة فلا بد وأن تكون فيه. الصالحات جمعٌ محلًّى باللام فيفيد العموم، فالإيمان وعمل الصالحات يشتمل على ترك المعاصي؛ لأنه حكم بأنهم أصحاب الجنة المستحقون لها فلا يتم إلا بترك المعاصي فالإمام معصومٌ وهو المطلوب»[54].

الخاتمة
وبهذا، ونتيجة تلك الغايات التي هي مطلبٌ تشترك به المجتمعات على تنوعاتها الاجتماعيّة والثقافيّة فهي تجد بالتربية ضرورةً اجتماعيّةً إذ لا يستطيع الفرد والمجتمع أن يستغني عنها، وكلما ارتقى الإنسان في سلم الحضارة ازدادت حاجته إلى التربيَة الهادفة إلى إخراج تلك الحاجة عن حد الكماليّات إلى حد الضروريّات، ومنها التربيّة السياسية التي هي تنمية الخبرة المعرفيّة والسلوكيّة، وعلى مزاولة شؤون السياسة وما ينتج عنها، وإدراك الآليّات التي يمكن لهم من خلالها إدارة شؤون المجتمع.
ولنا في السفر التربوي لدى الإمام (ع) رأسمالٌ معنويٌّ كبيرٌ قابلٌ للقراءة والاستثمار في التربيّة وصناعة القادة وتعميق أخلاقيات التقوى ومحاربة الفساد وترصين مناهجنا بما يجعل من الإصلاح منهجًا رصينًا وضروريًّا في نهضة المجتمع.

النجف الأشرف 9 من محرم الحرام، المصادف 19/9/ 2018م

-----------------------------------------
[1]    سورة الأعراف، أيّة 42.
[2]    الشيخ المفيد، أمالي المفيد، مؤسسة المراقد المقدسة العالميّة، ط1، النجف الأشرف، 2012 م، ص 231.
[3]    المرجع نفسه، ص 123.
[4]    باقر شريف القرشي، النظام التربوي في الإسلام، ص41، عن تاج العروس، ج1، ص261.
[5]    لسان العرب، ابن منظور ج 14، ص 304.
[6]    تاج العروس، الزبيدي، ج1، ص261.
[7]    جبران مسعود، الرائد معجمٌ لغويٌّ عصريٌّ، دار العلم للملايين، ج 7، ط1، (د. ت)، ص 712.
[8]    سليمان، كامل والعبد الله، علي: التربيّة، مطبعة صادر، بيروت، 1965م، ص176-177.
[9]    المصدر نفسه، ص176-177.
[10]  المصدر نفسه، ص176-177.
[11]  الغزّالي، رسالة أيها الوالد، ترجمة توفيق الصباغ، ص37.
[12]  محمد حسين علي الصغير، نوادر وطرائف، دار روافد، ط1، بيروت، 2018م، ص7.
[13]  مالك بن الحارث الأشتر النخعي زعيمُ قبيلةٍ وقائدٌ عسكريٌّ شارك في فُتوح الشام وكان من أصحاب علي بن أبي طالب حيث شهد معه الجَمَل وصفّين اللتيْن أبدى فيهما شجاعةً مفرطةً وشهد مع عليٍّ مشاهده كلها، وولاه عليٌّ على مصر.
[14]  ) سورة البقرة: (38 - 39).
[15]  ) محمد حسين علي الصغير، نوادر وطرائف، ص9.
[16]  ) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابراهيم، ط1،2007م، ج19، ص284.
[17]  المصدر السابق، ج19، ص164.
[18]  محمد حسين علي الصغير، نوادر وطرائف، ص8.
[19]  هادي العلوي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكيّة في العالم العربي، ط2، نيقوسيا، 1999م، ص73، وينظر: الكتاب من مخطوطة مكتبة الأوقاف، ببغداد، تحت رقم 6596-39ب.
[20] الغارات (تحقيق السيد جلال الدين الحسيني المعروف بـ المحدّث) - أبي اسحق إبراهيم بن محمد الثقفي – مجلدين 1/73.
[21]  العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، ط1، سنة الطبع: عيد الغدير 1417م، ص277.
[22]  الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، جمعه الشريف الرضي، تحقيق، الشيخ محمّد عبده، مؤسسة المختار، القاهرة، 2006م، 3: 63.
[23]  مالك الأشتر النخعي رضي الله عنه۱ انظر: مجالس المفيد ص58.
[24]  جميع هذه الأقوال أخذت من كتاب (الغرر والدرر) للآمدي، ص43.
[25]  الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، 53- من عهد له (ع) كتبه للاشتر النخعي رحمه الله، جمعه الشريف الرضي، تقديم وشرح الشيخ محمد عبده، مؤسسة المختار للنشر وللتوزيع، ط1، القاهرة، 2006، ص500.
[26]  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج20، ص260.
[27]  الري شهري: ميزان الحكمة، ج 6 ص 405.
[28]  الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، 53- من عهد له (ع) كتبه للأشتر النخعي (رض)، ص500.
[29]  نفس المصدر، ص 500.
[30]  المصدر السابق، ج18، ص271.
[31]  سورة العنكبوت: 45.
[32]  سورة طه: 14.
[33]  شرح النهج لابن أبي الحديد، ج11، الخطبة 217، ص176.
[34]  كان محمّد بن أبي بكر ربيباً لأمير المؤمنين تربّى في حضنه واستلهم مبادئه وأفكاره واهتدى بهديه فكان أنموذجاً حسناً من رجال المسلمين وكان الناس يعجبون لهذا الرجل الذي ترك أباه وحزبه القرشي وتولّى محمّداً وآل محمّد بعيداً عن العصبيّة القبليّة والأهواء الدنيويّة. وبعد ما نكب الإمام (ع) بشهادة أخيه وعضده مالك الأشتر أبقى ابن أبي بكر على ولاية مصر وهو من ألمع الرجال في فضله وتقواه، ومن أكثرهم حبّاً وولاءً للإمام (ع).
[35]  شرح غرر الحكم ودرر الكلم للإمام أمير المؤمنين (ع)، ترجمة وإعداد مكتبة الروضة الحيدرية:
[36]  الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، 53- من عهدٍ له (ع) كتبه للأشتر النخعي رحمه الله، ص502.
[37]  المصدر السابق، ج17، ص138.
[38]  الإمام علي بن أبي طالب،  نهج البلاغة، 53- من عهدٍ له (ع) كتبه للأشتر النخعي رحمه الله،ص500
[39]  نهج البلاغة وصيّة رقم 56.
[40]  https://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/05/book_13/6/02.htm
[41]  الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، 53- من عهدٍ له (ع) كتبه للأشتر النخعي رحمه الله، ص502.
[42]  نهج البلاغة، الخطبة111.
[43]  الإمام علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، 53- من عهدٍ له (ع) كتبه للأشتر النخعي رحمه الله، ص503.
[44]  الإمام علي بن أبي طالب،  نهج البلاغة، 53- من عهدٍ له (ع) كتبه للأشتر النخعي رحمه الله، ص503-504.
[45]  المصدر نفسه، ص 504.
[46]  المصدر نفسه، ص 504.
[47]  المصدر نفسه، ص504.
[48]  المصدر نفسه، ص505.
[49]  المصدر نفسه، ص505.
[50]  المصدر نفسه، ص506 - 507.
[51]  المصدر نفسه، ص507.
[52]  الإمام علي بن أبي طالب نهج البلاغة، 34- و من كتاب له (ع)  إلى محمد بن أبي بكر، ص476.
[53]  سورة الأعراف، أيّة 42.
[54]  العلامة الحلي، كتاب الألفين، ذوى القربى، ط1، قم، 1431، ص367.