البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مظاهر التشابه بين الإمامين السجاد والكاظم (عليهما السلام)

الباحث :  حيدر الجد
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  15
السنة :  شهر جمادى الثانية 1439هـ / 2018م
تاريخ إضافة البحث :  April / 12 / 2018
عدد زيارات البحث :  1386
تحميل  ( 340.227 KB )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النور الساطع والسراج اللامع سيد بني آدم محمد بن عبد الله رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله الأطهار صلاة لا انقطاع لها من الأزل حتى انقضاء الأمل وبعد:

فقد تنوعت الدراسات والأبحاث التي تخصصت في سيرة أئمة آل البيت: وما زالت تتوالى لتعطي مفاهيم جديدة عن دورهم البارز في إصلاح المجتمع والسير على خطى جدهم النبي الأعظم (ص) مقتفين آثاره وماضين على حسن منهاجه، يرشدون العباد وينشرون الرشاد ويقمعون الفساد أئمة عدل ومنائر صدق، علمهم واحد وفضلهم سابق، خلقهم الله من معدن واحد، معدن الكمال والفضل فكلهم يشتركون بالصفات وإن اختلفت الكنية من إمام لآخر.

وبالرغم مما سبق فقد أدت ظروف زمانية ومكانية معينة عاش الأئمة : خلالها فأثرت بهم وأثروا بها إلى ظهور صفة لازمت كل واحد منهم : فصار مميزاً بها عمن سبقه وعمن يليه، بحيث اشتهر بتلك الصفة بين الناس في وقته مروراً بالأزمنة التي تلت عصره حتى يومنا الحاضر.

وقد تشابه بعضهم مع بعض في كثير من المواقف والصفات، وهو أمرٌ يؤيد حقيقة القول بأخذهم : من نبع واحد، وإن طينتهم واحدة، طينة مجبولة على مكارم الأخلاق، اصطفها الله تعالى واختارها طاهرة مباركة، وهو أمرٌ جعلني أحاول جاهداً رصد كثير من المشتركات في المواقف والصفات  والأحداث بين الأئمة :، فرأيت بين الإمامين السجّاد والكاظم (ع) ما شدني إلى ذلك، فرحت أسجل ما أجده من معلومات ومواقف جلية مشتركة في سيرتيهما الطاهرتين حتى اتضحت لي صورة كاملة بجميع أبعادها وتفاصيلها، فجاءت هذه الدراسة المقارنة كما قدرنا لها دراسة توشحت بنقاط مضيئة عكست شيئاً متآلفاً بين حياتي الإمامين السجاد (ع) والكاظم (ع)، وعسى أن أكون موفقاً في العرض الوجيز الذي جاءت به هذه الدراسة المتواضعة.



المظهر الأول: الكنية:

اشترك الإمام الكاظم (ع) مع جده الإمام السجاد بالكنية، فقد كُنّيا بأبي الحسن([1])، وهو لقب مشهور، فقد ذكرت اغلب الروايات عندما أوردت اسميهما الكريمين الكنية ذاتها، وإن لم تكن كنية وحيدة عرفا بها فالإمام السجاد (ع) عرف أيضاً بـ(أبي محمد) والإمام الكاظم (ع) عرف بـ(أبي إبراهيم).

المظهر الثاني: حملُ الصدقاتِ ليلاً:

مما اشتهر به الإمامان السجاد (ع) والكاظم (ع)، حمل الصدقات ليلاً والطواف على المحتاجين والمتعففين والفقراء، فقد كان ذلك دأبهما، لا يكلان ولا يفتران وكأنما كانا قد جبلا على هذا العمل.

ففي ذلك ومما أوردته المصادر عن الإمام علي بن الحسين (ع):

1) قال أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين([2]).

2) لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سوداء في ظهره، فقالوا: ما هذا؟، فقالوا لهم: كان يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء المدينة([3]).

3) كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: صدقة السر تطفئ غضب الرب([4]).

أما بخصوص الإمام موسى بن جعفر (ع) فقد نقلت المصادر:

كان يخرج في الليل وفي كمه صرر من الدراهم، فيعطي من لقيه، ومن أراد بره، وكان يضرب المثل بصرّة موسى وكان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرة موسى فشكا القلة([5]).

كان يتفقد فقراء المدينة، فتحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم ليلاً، وكذلك النفقات، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلا بعد وفاته([6]).

كان يتفقد فقراء المدينة، فيحمل إليهم الزنبيل، وفيه مواد الغذاء والألبسة الورق-يعني النقد- والدقيق والتمر، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أين يأتيهم([7]).

من هذه النماذج نستدل على:

1) أراد الإمامان ترجمة حثهم شيعتهم ومواليهم على الإنفاق عملياً

2) أما اختيارهما التصدق ليلاً لا نهاراً فهو لدواعٍ عدّة منها:

أ- غالباً ما تكون الحركة في الليل منقطعة، فالناس تخلد للراحة في بيوتها، فتنقطع المارة، وبذا تكون الفرصة مواتية للإمام في وصل الفقراء من دون أن يراقبه أحد، أو يتتبع أخباره، فيقص بما رآه للناس، فيعلموا بحال الفقير الذي يتعفف.

ب- كان الإمامان مطاردين من السلطة الحاكمة، فالأمويون كانوا يراقبون تحركات الإمام السجاد ويرصدونها بكل قوة ويرون من يتصل به فيكون في موضع اتهام عندهم، فالإمام أبن ذلك الثائر في وجه حكمهم، فكان الإمام (ع) يخاف من وصل شيعته نهاراً جهاراً فيكونوا بمرصد من الدولة الحاكمة، وكذا الإمام الكاظم (ع).

ج- دعم الأسر التي قُتل حماتها والمتكفلون بمعيشتها، فهناك كثير ممن لم تهتم الدولة بهم، من الأيتام والأرامل الذين فقدوا من يعولهم بسبب قتلهم أو إيداعهم السجون لأنهم كانوا يمثلون تياراً معارضاً لنهج الدولة وسياستها.



المظهر الثالث: العبادة:

كانت السمة المشتركة البارزة في حياتي الإمامين السجاد والكاظم الانخراط في العبادة، بكل صورة من صورها، وهي التي سندرجها لاحقاً:-

أولاً: الصلاة:

كان –الإمام السجاد (ع)- يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة، وكانت له خمسمائة نخلة، وكان يصلي عند كل نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وقيامه في صلاته قيام عبد ذليل بين يدي الملك الجليل([8]).

عن الإمام الباقر: كان أبي في موضع سجوده آثار ناتئة، فكان يقطعها في السنة مرتين، في كل مرة خمس ثفنات([9])، فسمي ذو الثفنات([10]).

أما الإمام الكاظم (ع) فقد نقلت الروايات بشأنه ما يأتي:

عن الفضل قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر  (ع) فإذا أنا بغلام أسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين انفه من كثرة السجود([11]).

كان (ع) أحفظ الناس بكتاب الله تعالى، وأحسنهم صوتاً به، وكان إذا قرأ يحزن ويبكي ويبكّي السامعون لتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمونه (زين المجتهدين)([12]).

أشرف هارون الرشيد على حبس الإمام الكاظم، فكان يرى الإمام ساجداً، فقال للربيع، يا ربيع، ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، قال الربيع: فقال هارون: أما إن هذا من رهبان بني هاشم([13]).

 كان  (ع) يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقّب حتى تطلع الشمس، ويخر ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتى يقرب زوال الشمس ظهراً وكان يدعو كثيراً وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع([14]).

في هذه النماذج التي أوردناها نجد ما يأتي:

أنّ الإمامين السجاد والكاظم (ع) بلغا درجة من العبادة حتى سجلت في حياتيهما علامة بارزة، فقد اشتدت علاقتيهما بالخالق جل وعلى، لأنهما عرفا الله حق معرفته، فكانت عبادتيهما عبادة محضة خالصة لله تعالى لا تشوبها منفعة، ولا تحكمها مصلحة، عبادة المقبل على خالقه بجميع جوارحه، فلا يلتفت إلى أمر دنيوي يشغله عن أداء حق الخالق.

ب- لقد اظهرا (ع) للناس كيفية العبادة، فطبّقا مفهومها عملياً، فأصبح تطبيقيهما درساً تستفيد منه الأجيال المقبلة، ولكي يكون منهاجاً واضحاً لها في نيل مرضاة الله.

جـ- لقد علّما (ع) الناس كيفية الزهد بالدنيا والإقبال على الآخرة، فقد استغلا ساعات عمريهما في العبادة وهي أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه.

د- مع ما تميّزا به من مظهر تعبدي محض، وانقطاع عن الدنيا بكل لذاتها، لم يسلما (ع) من أذى المناوئين وحسد الحاسدين، فكانا غرضاً للسلطة الحاكمة حتى مضيا مسمومين مظلومين.

ثانياً: الدعاء:

من المظاهر المهمة عند الإمامين (ع) الدعاء، فقد كان الدعاء وسيلة مهمة اعتمدها الإمام السجاد (ع) في بث علومه، ودعوة الناس للسير في طريق الله، خصوصاً وقد مرت بالإمام فترات عصيبة إبان استشهاد أبيه الإمام الحسين (ع)، فكان الدعاء سلاحه، يتقرب به إلى الله تعالى، وينشر خلاله ما يريد بثه للناس، ويحارب به طواغيت الجن والإنس.

ها هي الصحيفة السجادية، الإرث الخالد والسفر الذي يزخر بالعلم وفنون التقرّب إلى الله، حيث لم يدع سيدنا زين العابدين (ع) باباً من المناجاة إلا وطرقها، ولم يلج في طريق موصل لرضا الله إلا وبلغ غايته، ونال ثوابه، وهكذا اكتنزت هذه الصحيفة بين أدعيتها ما جعلها تفوق كل كلام بين العبد ومولاه، لقد استطاع الإمام زين العابدين تعبئة المسلمين للتوجه نحو الخالق (جل وعلا) حتى أصبحت صحيفته المباركة توأماً لكتب الدعاء والمناجاة، بل مقدمة لكل تلك الكتب.

لقد اشترك كل من الإمامين (ع) في دعاء واحد-حسب تتبعي وربما يفوق الواحد- وهو دعاء الجوشن الصغير، فقد أورد الإمام السجاد في صحيفته دعاء رقم(49)، تحت عنوان (في دفع كيد الأعداء ورد بأسهم)، وقد اقتبس منه الإمام الكاظم (ع) فقرة مطولة، ثم قدّم لها وأضاف عليها، وأصل الدعاء هو الدعاء المعروف بالدعاء اليماني، حيث كان الإمام علي بن أبي طالب يقرأه في المهمات.

والنص المشترك بين الإمامين هو: ( الهي (فـ) كم من عدو انتضى([15]) عليّ سيف عدواته، وشحّذ لي ظبّة مديته، وأرهف  لي شبا([16]) حدّهِ، وداف لي قواتل سمومه، وسدد نحوي صوائب سهامه، ولم تنم عني عين حراسته، وأضمر ان يسومني المكروه ويجرّعني زعاف([17]) مرارته، فنظرت يا إلهي إلى ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن الانتصار ممن قصدني بمحاربته، ووحدتي في كثير عدد ممن ناوأني، وارصد لي (البلاء) فيما لم أعمل فيه فكرتي، فابتدأتني بنصرك، وشددت أزري بقوتك، ثم فللت لي حده وصيرته من بعد جمع عديده وحده، وأعليت كعبي عليه، وجعلت ما سدده مردوداً عليه، ورددته ولم يشف غليله، ولم تبرد حرارة غيظه، وقد عض على مثواه وأدبر موليا، قد أخلفت سراياه. وكم باغٍ بغى لي بمكائده، ونصب لي أشراك مصائده، ووكل بي تفقد رعيته، وأضبأ([18]) إلي إضباء السبع لطريدته، وانتظار الانتهاز لفريسته، فناديتك يا إلهي مستغيثاً بك، واثقاً بسرعة إجابتك، عالماً أنه لم يضطهد من آوى إلى ظل كنفك، ولم يفزع من لجأ إلى معاقل انتصارك، فحصنتني من بأسه بقدرتك. وكم من سحائب مكروه جليتها، وغواشي([19]) كربات كشفتها، لا تُسأل عما تفعل، ولقد سئلت فأعطيت، ولم تُسأل فابتدأت، واستميح فضلك فما أكديت([20]) أبيت إلا إحساناً وأبيتُ إلا تقحم حرماتك، وتعدّي حدودك، والغفلة عن وعيدك، فلك الحمد من مقتدر لا يغلب وذي أناة لا يعجل)([21]).

دلت هذه القطعة من الدعاء على نمط أدبي غاية في الروعة وجودة السبك، ففي الدعاء رصد الإمام علي السجاد (ع) وتبعه حفيده الإمام موسى بن جعفر (ع) حالات الإنسان المستضعف الذي يقع في قبضة إنسان مكنته الظروف ليكون جباراً، فماذا سيستخدم من وسائل شريرة في الإيقاع بمن لا حول له ولا قوة إلا بالله تعالى؟ والله جل وعلا يهيئ له فرص النجاة مرة تلو الأخرى، فلا يحوك العدو من مؤامرة أو يدبّر من حيلة إلا وكان الله لها بالمرصاد، إلى أن يقع في شرك ما نسجه.

لقد كان الفارق في الموقف بين الإمامين أن الإمام السجاد دعا به بصورة عامة ضد الأعداء، فلم تكن هناك حادثة معينة ليقف (ع) ويدعو بها، لكن الإمام الكاظم (ع)، دعا بالدعاء عندما جاءه الخبر بأن موسى الهادي الخليفة العباسي يتوعده بالخصوص ويتوعد الهاشميين عموماً، بعد أن قتل الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط (ع) في واقعة فخ وسبى عياله ومن معه، بل أوغل في ذلك فقتل الأسرى، فقد اضمر موسى الهادي الشر والسوء وقال ما خرج حسين هذا إلا بأمر موسى بن جعفر قتلني الله إن لم اقتله، فلما وصل الخبر إلى المدينة اجتمع الهاشميون بالإمام الكاظم وقالوا: إننا نخاف عليك من هذا الطاغية، فقال لا بأس عليكم لا ينالني سوءه أبداً ثم تمثل شعراً بقوله

زعمت سخينـةُ أن ستغلـبَ ربَّها فليغلـبنَّ مُـغالـبَ الغـُلّابِ([22])

ثم دعا بهذا الدعاء فلم تمض الأيام حتى جاء البريد من بغداد على المدينة ينعى موسى الهادي، فقد هلك بدعوة الإمام الكاظم (ع) ([23]).

 المظهر الرابع: حيرة الشيعة بعد وفاة والد الإمام:

ووقعت الشيعة في الحيرة بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) في واقعة كربلاء، حيث بدأ نشاط الكيسانية واضحاً في دعم فكرة إمامة محمد بن الحنفية، فقد سرى خبر بين الأوساط عن ادعاء محمد بن الحنفية الإمامة بعد أخيه الحسين، حيث اتبعه كثيرون فهو شقيق الإمامين الحسن والحسين وإن كان من غير أمهما فاطمة (ع) إلا أنــه ابن علي بن أبي طالب وفي محمــد بن الحنفية يقـول الشاعــر([24]):

ألا إن الأئمة من قريشٍ
عليٌ والثلاثة من بنيه
فسبطٌ سبطُ إيمانٍ وبرٍّ
وسبط لا يذوق الموت حتى


ولاة الأمر أربعة سواء
هم أسباطنا والأوصياءُ
وسبط قد حوته كربلاء
يقود الجيش يقدمه اللواء


ولأبي خالد الكابلي في ذلك حديث رواه ابن شهراشوب في مناقبه حيث قال: (كان أبو خالد الكابلي يخدم محمد بن الحنفية دهراً فقال له: جعلت فداك، إن لي خدمة ومودّة وانقطاعاً فأسألك بحرمة رسول الله وأمير المؤمنين إلا ما أخبرتني أنت الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟، قال: الإمام علي بن الحسين عليّ وعلى كل مسلم، فجاء أبو خالد إلى علي بن الحسين، فلما دخل عليه قال: مرحباً يا كنكر ما كنت لنا بزائر ما بدا لك فينا، فخرّ أبو خالد ساجداً شاكراً لله مما سمع منه فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي ، فقال له علي (ع): وكيف عرفت إمامك؟، قال: لا والله ما عرّفني بذلك أبي وأمي، ثم قص عليه خبر محمد بن الحنفية)([25]).

كما ذكر أبن حمزة الطوسي في كتابه حديث أبي خالد، حيث قال: (لما قتل أبو عبد الله الحسين صلوات الله عليه، وبقيت الشيعة متحيرة، ولزم علي بن الحسين منزله، اختلفت الشيعة إلى الحسن بن الحسن، وكنت فيمن يختلف إليه  وجعلت الشيعة تسأله عن مسألة ولا يجيب فيها، وبقيت لا أدري من الإمام متحيراً وإني سألته ذات يوم فقلت له: جعلت فداك، عندك سلاح رسول الله (ص)، فغضب ثم قال يا معشر الشيعة تعنونا؟ ، فخرجت من داره حزيناً كئيباً لا أدري إلى أين أتوجه، فمررت بباب علي بن الحسين زين العابدين عليه الصلاة والسلام قائم الظهيرة، فإذا أنا في دهليزه، قد فتح بابه، فنظر إلي فقال: يا كنكر فقلت جعلت فداك والله إن هذا الاسم ما عرفه أحد إلا الله عز وجل، وأنا وأمي كانت تلقبني وتناديني به هوانا صغير ...)([26]).

نجد في هذا النص جملة أمور ندرجها فيما يأتي:

عدم استطاعة الإمام السجاد التصريح المعلن عن إمامته، فالإمام السجاد كان قد اتخذ جانب الحيطة والحذر في التعامل مع المجتمع، وكانت عيون الأمويين مسلطة عليه، تعد حركاته واتصالاته، فهو ابن الثائر الذي أراد تقويض دعائم الدولة الأموية الحاكمة، ولابد من أن تبقى النزعة الثورية عند الولد لكي ينتقم ممن أقدم على قتل أبيه وإبادة عائلته كاملة في نهار واحد، لذا نجد أبا خالد الكابلي وغيره اتجهوا نحو محمد بن الحنفية أو الحسن بن الحسن الزكي باعتباره الابن الأكبر ولكنهم كانوا غير مقتنعين تماماً بإمامة من يتبعون، فهناك كثير من العلامات التي يمتاز بها الإمام وكما كانوا يعرفونها لا يجدوها فيمن يدعيها أو يدعيها الناس له.

الظاهر- من النصوص - كما في النص المتقدم أن محمد بن الحنفية وهو أكبر أولاد أمير المؤمنين بعد الحسنين (ع)، لم يدعِ الإمامة لنفسه، بل ادّعاها له أناس معينون وإن لم يسلط التاريخ أضواءه على سيرهم كما لم نصل إلى الغاية الفعلية التي انطوت عليها سرائرهم في تعبئة الرأي وتوجيه أنظار المجتمع لمحمد بن الحنفية كونه الابن الأكبر لأمير المؤمنين (ع) وأخا الإمامين الحسنين (ع) ليكون إماماً مفروض الطاعة.

لقد تبع أبو خالد الكابلي محمداً بن الحنفية أولاً كما في النص وكان لا يشك في كونه إماماً، ولكن سؤاله إياه عن الإمام الحق جعل محمداً يصرّح له بإمامة السجاد (ع)، وسرعان ما جاء أبو خالد قاصداً الإمام ليعلن له عن رجوعه إليه، وعلى هذا فإن وبالرغم من عدم ادعاء محمد بن الحنفية الإمامة إلا انه لم يرفض ادعاء الناس إمامته والدليل في ذلك أنه لم يخبر أبا خالد الكابلي بأنه ليس إماماً، بل أخبره بذلك بعد أن أقسم عليه أبوخالد بإمامته أو إمامة غيره، فقد كان الأجدر به أن يخبر الناس بإمامة السجاد (ع) ليعودوا إليه في مسائلهم وفي ما يتعلق بحياتهم.

تأثير واقعة كربلاء على الرأي الشيعي العام في المدينة المنورة -باعتبارها كانت مركز الإمامة الرئيسي لعموم العالم الإسلامي آنذاك- حيث لم تتوقع الناس مقتل الإمام الحسين بهذه المدة الزمنية القليلة نسبياً من خروجه من المدينة حتى العاشر من المحرم في تلك السنة بالرغم من تأكيد الإمام الحسين قبل ذهابه إلى العراق على أنّه مقتول.

الظاهر أنّ الإمام الحسين قد نص على إمامة ولده السجاد في المدينة بحضور الخلّص من الشيعة، وإلا كيف اختلط الأمر على العموم؟ كيف وقعوا في الحيرة وهم يعلمون تعيين الإمام الحسين (ع) ولده السجاد إماماً من بعده؟، وعلى أية حال فلم تمر على استشهاد الحسين في كربلاء سوى فترة يسيرة حتى لم يعرف أمثال أبي خالد الكابلي وغيرهم من هو أمامهم الذي يتوجب عليهم إتباعه والسير على خطاه والامتثال لأوامره.

لم تشر المصادر التاريخية إلى تعرض محمد بن الحنفية إلى مضايقة من قبل الوالي الأموي-حسب ما تسنى لنا الاطلاع عليه- بالرغم من كونه شقيقاً للثائر على دولتهم وإن كان من والده فقط.

قول الإمام السجاد (ع) لأبي خالد:(مرحباً يا كنكر، ما كنت لنا بزائر ما بدا لك فينا)، دل على معرفة الإمام السجاد أتباعه، وغيرهم، حيث كشف القول إن أبي خالد كان لا يأتي الإمام السجاد (ع) ولا يزوره، وإن لم يكن  (ع) إماماً بنظر أبي خالد، فكان الواجب أن يأتي أبي خالد الإمام ويزوره باعتباره ابن الحسين، الإمام المفترض الطاعة، لذا فقد أثارت زيارة أبي خالد استغراب الإمام فقال له (ما بدا لك فينا) أي ما هو الأمر الذي استجد حتى زرتنا فلم نعهد زيارتك لنا من قبل.

بين لنا التاريخ منازعة محمد بن الحنفية ابن أخيه الإمام السجاد في الصدقات وليس في الإمامة حيث ذكر ابن شهراشوب عن الزهري قولـه: كـان بينه - أي بين الإمام السجاد (ع)- وبين محمد بن الحنفية منازعة في صدقات علي بن أبي طالب، فقيل لعلي: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبة لكف عنك من رغب شره فقال (ع): ويحك أ في حرم الله أسأل غير الله عز وجل إني لآنف أن أسأل الدنيا خالقها فكيف أسأل مخلوقاً مثلي، قال الزهري: لا جرم أن الله تعالى ألقى هيبته –أي هيبة الإمام- في قلب الوليد حتى حكم له([27]).

أما النص الثاني فقد يثير استغراباً في تشابهه مع النص الأول من حيث راويه وهو أبي خالد الكابلي واختلافه من حيث الشخص المقابل وهو الحسن المثنى وليس محمد بن الحنفية، مع اختلاف في طريقة ومضمون الطرح بين النصين، لذا نجد أن نثبت من خلال النصين ما يأتي:

1 -  لا يمكن القبول بالنصين في آن واحد إلا إذا قلنا بتحرك أبي خالد من محمد بن الحنفية نحو الحسن المثنى أو بالعكس –وهو في شكه وحيرته- ثم اهتدائه إلى الإمام السجاد (ع)، أو إذا سقط احد النصين فتلاحظ صحة النص الآخر.

2 - عبارة (ولزم علي بن الحسين منزله) تدلنا على صحة استنتاجنا بابتعاد الإمام (ع) بعد واقعة كربلاء عن المشاركة في أي حضور اجتماعي ملحوظ في مجتمع المدينة.

3- ظهور الحسن المثنى في الساحة باعتباره ابن الإمام الحسن المجتبى –الأكبر- وإن كان الحسن المثنى الابن الثاني للإمام الحسن بعد أخيه زيد بن الحسن الذي تنحى عن ادّعاء الإمامة ولكنه اهتمّ بالإرث المادي أكثر من اهتمامه بالإمامة.

لقد سجّل ظهور الحسن المثنى ظاهرة تستحق الدراسة –إن صح النص المتقدم- وإلا لماذا يتصدى للإمامة وهو يعلم بأحقية علي بن الحسين السجاد (ع) بها، أليس كان من الأجدر به أن يدلي الناس ويرشدهم إلى إمامه وسيده وابن عمه وأخي زوجته، أليس قد حضر واقعة كربلاء ورأى عمه الإمام الحسين (ع) قد استعد لملاقاة القوم عازماً على الشهادة، مقلداً ولده السجاد أعباء الإمامة؟ عموماً فقد مات الحسن المثنى متأثراً بسم دسه له سليمان بن عبد الملك سنة 97هـ وله ثلاث وخمسون سنة، أي بعد وفاة الإمام السجاد بسنتين أو ثلاث([28]).

4- ما الأمر الذي جعل أبا خالد يتجه صوب دار الإمام السجاد (ع)؟ هل كان هناك هاجس ينتابه وشعور يراوده في إمامة السجاد؟، هل جاء إليه ليستمع إلى نصحه وإرشاده فلعله يهتدي به إلى الحق؟

أما بالنسبة للإمام موسى الكاظم (ع)، فقد تشابه الأمر أيضاً على الناس بعد وفاة أبيه الإمام الصادق (ع)، حيث ظهرت فرق وجماعات، وقد أدعت- لمن أدانت له بالولاء المطلق- الإمامة، فالإسماعيلية([29]) ادعت إمامة إسماعيل بن الإمام الصادق، والفطحية([30]) ادعت إمامة عبد الله الأفطح بن الإمام الصادق باعتباره الأكبر والإمامة-في نظرهم لا تصح إلا للأكبر-، وغيرهم من أتباع المذاهب الأربعة، فظل الشيعة في توجس وحذر في التعامل مع الشخصيات التي برزت على الساحة، فأولاد الإمام الصادق (ع) ممن ذكرنا ليسوا مرشحين لهذا المنصب الريادي، لأن إسماعيل مات في حياة والده الصادق، وعبد الله كان غير مؤهل لتولي هذه المهمة الصعبة التي يتعلق بها مصير أمة، أترى الإمام موسى الكاظم يلتزم الصمت أم يصرّح بإمامته ليضطلع بما كُلّف به في توجيه وإرشاد المجتمع وبث علوم آبائه الأطهار :؟ وقد نجد جواباً شافياً فيما سنورده من حديث يتصل بهذا الأمر، حيث نقل عن هشام بن سالم قال: كنت أنا ومحمد بن النعمان صاحب الطاق بالمدينة، بعد وفاة جعفر (ع) وقد اجتمع الناس على عبد الله ابنه فدخلنا عليه وقلنا: الزكاة في كم تجب، قال: في مائتي درهم، خمسة دراهم، فقلنا: ففي مائة، فقال: درهمان ونصف، فخرجنا ضلالاً فقعدنا باكين في موضع نقول: إلى من نرجع إلى المرجئة، إلى المعتزلـة، إلى الزيديــة فنحــن كـذلك إذ رأيت شيخـاً لا أعرفه يومئ إلي فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور، فإنه أمر بضرب رقاب من يجتمع على موسى بن جعفر وقتله إن اجتمعوا عليه. فقلت للأحول: تنح، ولا تهلك فإني خائف على نفسي، وتبعت الشيخ حتى أخرجني إلى باب موسى (ع) وأدخلني عليه، فلما رآني موسى (ع)، قال: لي-ابتداء منه-: إلي، إلي لا إلى المرجئة ولا إلى المعتزلة ولا إلى الزيدية، فقلت: مضى أبوك؟ قال: نعم، قلت: فمن لنا بعده؟ فقال: إن شاء الله يهديك هداك، فقلت جعلت فداك إن عبد الله أخاك يزعم أنه الإمام بعد أبيه، فقال:(عبد الله يريد أن لا يعبد الله)، قال قلت: جعلت فداك فمن لنا من بعده؟، فقال: إن شاء الله يهديك هداك، قلت: جعلت فداك فأنت هو؟، قال: لا أقول ذلك، قال: فقلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة، ثم قلت جعلت فداك عليك إمام، فقال: لا، فدخلني شيء لا يعلمه إلا الله، إعظاماً وهيبة، ثم قلت: جعلت فداك أسألك كما كنت أسأل أباك، فقل: سل تخبر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح، قال: فسألته، فإذا هو بحر لا ينزف، قلت: جعلت فداك، شيعة أبيك ضلال، فألقي إليهم الأمر وادعوهم إليك؟، فقد أخذت علي الكتمان، قال: من آنست منه رشداً فألق إليه بالكتمان، فإن أذاع فهو الذبح، وأشار إلى حلقه...).

بيّن لنا النص السابق جملة أمور منها:

1- إن الإمام الكاظم كان مرصوداً مراقباً من قبل السلطة العباسية، وعليه فإن كل من يزوره أو يأتي داره يكون مصيره مجهولاً مهدداً بالقتل أو بالسجن، وأخال ذلك سبباً رئيسياً في عزوف الناس وعد إتيانها إمامها وسيدها، فكثير كانوا يضنّون بالنفس من ان يتصلوا بالإمام وكان الإمام (ع) حريصاً على أرواح شيعته، فكان (ع) بين أمرين مستصعبين، بين تعريض شيعته للمخاطر عند مجيئهم إليه، أو السكوت على الوضع المتأزم حيث أنّ غياب الإمام عن الساحة سيولد تضارباً في المجتمع وتعطيلاً للأحكام ويفسح مجالاً لكل مدعٍ بغير حق مقابل المحافظة على الشيعة وعدم السماح للتقرب من داره تقية من فتك الحكام الظالمين.

2- ظهور عبد الله الأفطح بن الإمام في الساحة وإعلان نفسه إماماً أو تعبئة الدعاة لإمامته الناس في التزام طاعته زاد في حيرة الشيعة، فعبد الله وإن كان أكبر الموجودين من أبناء الإمام الصادق (ع)، إلا أنه لا يحمل مؤهلات الإمام فقد فشل في حل إشكال بسيط فيما يتعلق بمقدار وجوب الخمس في الأموال فكيف يتمكن في الفتيا في الأمور الصعبة والمشاكل العويصة؟، وقد (توفي عبد الله بعد أبيه بسبعين يوماً، وكان ذلك من عناية الله بخلقه المؤمنين، حيث لم تطل مدّته فيكثر القول بأمره والقائلون بإمامته)([31]).

3- أشار النص إلى أنّ عبدالله الأفطح لم يكن مراقباً من السلطة العباسية، حيث تغدو الناس وتمسي عليه من دون ان يمسهم أحد بسوء، مقابل تكثيف المراقبة على دار الإمام الكاظم، وقد ينبئ هذا الأمر عن معرفة السلطة بإمامة الكاظم (ع) ولكنها أرادت التباس الأمر على الشيعة فيقعوا في الحيرة ولا يهتدوا إلى إمامهم.

4- عدم ادعاء الإمام إمامته لهشام بن سالم، بل كان يقول له كلما ألح عليه بتعريفه بإمامته (إن شاء الله هداك) وهذا ينم عن سمو الإمام في دعوة غيره إليه وإن كان صاحب الحق في ذلك، وبهذا الخلق الرفيع اهتدى هشام واخبر الشيعة بالإمام الحق.

5 - من النص السابق نستدل على شيوع مذاهب: المرجئة والمعتزلة والزيدية في تلك المرحلة الحرجة التي تلت وفاة الإمام الصادق (ع)، ولابد من أن نسلط ضوءاً على هذه المذاهب فنقول:

 المرجئة: على معنيين أحدهما التأخير قالوا أرجه وأخاه أي أمهله وأخره، والثاني إعطاء الرجاء، أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والقصد، أمّا المعنى الثاني فظاهر، لأنهم كانوا يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وقالوا الإيمان قول بلا عمل كأنهم قدموا الإيمان وأرجؤوا العمل أي: أخروه لأنهم يرون أنهم لو لم يصلوا ولم يصوموا نجّاهم إيمانهم وكأنهم أخذوا هذا الاسم من قوله تعالى:(وآخرون مرجون لأمر الله) وقد أسقطوا الوعيد جملة عن المسلمين وقال بعضهم:(الا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت، أصلاً، ولا ينفع مع الشرك حسنة، أصلاً. وقيل الإرجاء تأخير صاحب الكبيرة إلى القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا كونه من أهل الجنة أو من أهل النار، وقيل الإرجاء تأخير علي (ع) عن الدرجة الأولى إلى الرابعة، والمرجئة أصناف أربعة: مرجئة خوارج، مرجئة القدرية، مرجئة الجبرية، مرجئة الخالصة([32]).

 المعتزلة: فرقة كبيرة مستقلة منقرضة، أما سبب التسمية ففيه أقوال:

1- أول ما أطلق هذا الاسم على جماعة الأتقياء الذين اعتزلوا الناس وانصرفوا إلى العبادة.

2- أطلق هذا الاسم على المسلمين الذين اعتزلوا الحرب بين أصحاب علي من ناحية وأصحاب الجمل وأصحاب معاوية (في الجمل وصفّين) من جهة أخرى.

3- أطلق هذا الاسم على واصل بن عطاء وجماعتهالمعتزلين عن مجلس الحسن البصري في أواخر العصر الأموي بسبب الخلاف حول مرتكب الكبيرة في الأمة كما اعتزلوا قول الخوارج والمرجئة فقالوا إنه فاسق لا مؤمن ولا كافر وجعلوا الفسق منزلة بين المنزلتين وقيل إن تسميتهم حدثت بعد الحسن البصري وذلك أنّ عمرو بن عبيد لما مات الحسن وجلس مجلسه اعتزله واصل في نفر من أصحابه فسماهم قتادة: المعتزلة ، ويقال لهم القدرية، والمعطلة لقولهم بنفي الصفات عن الباري([33]).

 الزيدية: هم القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين (ع)، وابنه يحيى من بعده، وقالوا إن الإمامة تكون بالاختيار فمن اختير صار إماماً واجب الطاعة لا بشرط أن يكون معصوماً وأفضل أهل زمانه وإنما يشترط أن يكون من ولد فاطمة وان يكون شجاعاً عالماً يخرج بالسيف، فالإمامة خاصة بالطالبيين لا تصلح في غيرهم ولا تصلح إلا بشرط أن يقوم بها ويدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس وقد اقر الزيدية بعلم الأئمة في هذا القول الذي قاله يحيى بن زيد:(كلنا له علم، غير إنهم يعلمون ما نعلم، ولا نعلم كل ما يعلمون)، وأكثر الزيدية موجود اليوم في اليمن([34]).

المظهر الخامس: التقييد بالحديد:

ويعد هذا المظهر من المظاهر الجوهرية المشتركة بين الإمامين (ع)، بالنسبة للإمام السجاد (ع) فالأمر واضحٌ ومشهور فقد تمخض عن واقعة كربلاء تسيير العائلة المحمدية سبايا من كربلاء إلى الكوفة، وفيها أعلن عبيد الله بن زياد عن اتخاذ الإجراءات التعسفية بحق هذه العائلة الكريمة المنكوبة التي فقدت جل حماتها وولاة شأنها، وكان علي بن الحسين السجاد (ع)، أول من وضع الحديد بيديه، فقد نقل ابن الأثير ذلك في كامله قائلاً:(وقد جعل عبيد الله الغل في يديه ورجليه-أي يدي ورجلي علي بن الحسين- وحملهم على الأقتاب([35])، فلم يكلمهم-أي لم يكلم المسؤولين عن القافلة- في الطريق حتى بلغوا الشام)([36]).

أما الإمام الكاظم (ع) فقد كان في حرم جده رسول الله وشاءت الظروف أن يأتي هارون الرشيد قبر رسول الله (ص) زائراً، فلما رأى الأمام الكاظم (ع) جعل يتباهى برسول الله، فقد حيا القبر الشريف بقوله: السلام عليك يا ابن العم، فما كان من الإمام إلا وقال: (السلام عليك يا أبه)، ومن هذا القول الصادر عن الإمام دار الكلام جدلياً بين هارون والإمام الكاظم (ع)، إلى أن قرر هارون إجبار الإمام على ترك المدينة والانصراف إلى بغداد حيث يبقى طول الوقت تحت أنظاره وأنظار أتباعه، فأمر به فأخذ من المسجد فأدخل عليه فقيّده، استدعى قبتين فجعله في أحديهما على بغل وجعل القبة الأخرى على بغل وخرج البغلان من داره عليهما قبتان مستورتان ومع كل منهما خيل، فافترقت الخيل، فمضى بعضها مع إحدى القبتين على طريق البصرة، والأخرى على طريق الكوفة وكان أبو الحسن في القبة التي مضى بها على طريق البصرة ([37])، وهكذا حُمل الإمام الكاظم (ع) إلى عاصمة ملك العباسيين بغداد مقيداً كما حمل جده الإمام السجاد إلى دمشق عاصمة الأمويين .

مما تقدم في النص نلاحظ أن هارون خشي من كلام الإمام الكاظم (ع)، على حكمه ففكر ملياً في الكيفية التي يأمن بها من ذلك الجانب، فابتكر تسيير رحلتين أحداهما إلى الكوفة والأخرى إلى البصرة، حيث سيفكر الناس بأن هارون سيسير الإمام إلى الكوفة باعتبارها تقع على الطريق الأقرب الموصل إلى بغداد، وإن أراد أتباع الإمام تخليصه فسيتبعون الرحلة السائرة نحو الكوفة في حين أن الإمام قد تمّ تسييره في رحلة البصرة.

المظهر السادس: التعرض لمحاولة القتل

في ساحة كربلاء، حيث الجثث تملأ الميدان، نرى الإمام السجاد (ع) وقد أنهكت العلة قواه، وقضت المصائب مضجعه، وهو يرى الأهل والعشيرة مجزرين على الصعيد، ونرى جانباً آخراً حيث عمر بن سعد العدو الشامت يرمق السجاد بنظرات خبيثة يشاركه في ذلك شمر بن ذي الجوشن، قاتل الإمام الحسين (ع)، وقد كان مثار تلك النظرات الحاقدة وكيف ظل هذا الهاشمي ولم يقتل مع من قتلوا، وهل نقتله ونجهز عليه أم ندعه في شأنه، يجود بنفسه من شدّة المرض تارة ومن فقد الأحباب تارة أخرى، وقد أقدم شمرٌ على القتل لكن حميد بن مسلم زجره وقال:(سبحان الله أتقتل الصبيان؟ إنما هو مريض)([38])، فلم يحفل به شمر وأراد المضي في إمضاء الجريمة بعينها التي اقترفها عما قريب مع أبيه، وعندها بادرت الحوراء زينب فتعلقت به وقالت: (لا يقتل دون أن أقتل) دونه فكف اللئام عنه، وقد نجا منهم بأعجوبة.

وفي مجلس عبيد الله بن زياد، دارت محاورة بينه وبين الإمام السجاد (ع)، وكان الإمام حاضر الجواب يرد على ابن زياد بردود حكيمة فلم ترق له فدعا بالجلاد لقتل الإمام  (ع) وعندها نهضت الحوراء وتعلقت بالسجاد وقالت :(يا ابن زياد حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه)، فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثم قال: عجباً للرحم والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه دعوه فإني أراه لما به([39]).

في حين واجه الإمام الكاظم (ع) قراراً بالقتل لولا لطف الله وعنايته بهذه الطائفة المحقة، وذلك لما دعا المنصور في منتصف الليل أبا أيوب الخوزي([40])، فلما أتاه رمى كتاباً إليه وهو يبكي، وقال هذا كتاب محمد بن سليمان([41]) يخبرنا بأن جعفر بن محمد قد مات فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأين مثل جعفر؟، ثم قال له: أكتب أن أوصى إلى رجل بعينه فقدمه واضرب عنقه، فكتب وعاد الجواب قد أوصى إلى خمسة، أحدهم أبي جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، ابني جعفر وحميدة([42])، فقال المنصور: ما إلى قتل هؤلاء من سبيل([43]).

المظهر السابع: الموت بالسم:

قال الشيخ الصدوق:(علي بن الحسين (ع)، سمه الوليد بن عبد الملك فقتله)([44])، وقبره في البقيع، مدفون إلى جوار عمه الحسن بن علي (ع).

أما الإمام موسى بن جعفر، فقد حبسه هارون الرشيد في سجن السندي بن شاهك فلم يبرد حقده ويشفي حسده وظل يتحين الفرص للقضاء عليه بالرغم من سجنه إياه ومنع الناس الوصول إليه واللقاء به حتى وافته الفرصة السانحة فقام السندي بارتكاب تلك الجريمة النكراء حيث قتل سيداً من سادات الإنسانية وإماماً من أئمة الهدى حيث دس له سماً في رطب فأكل منها الإمام عدداً يسيراً ثم ظهرت عليه آثار السم فما لبث سوى ثلاثة أيام حتى مضى إلى ربه مسموماً شهيداً، ودفن في مقابر قريش ببغداد([45])، فسلام عليه وعلى جده الإمام علي السجاد وعلى سائر أئمة آل البيت والحمد لله رب العالمين.

*  هوامش البحث  *

([1]) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص221، الزركلي، الأعلام، 5/86.

([2]) ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب، 32/293.

([3]) المرعشي، شرح إحقاق الحق، 28/53.

([4]) المجلسي، بحار الأنوار، 46/88.

([5]) ابن عنبة، عمدة الطالب، ص196.

([6]) ابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، 2/949.

([7]) المفيد، الإرشاد، 2/231.

([8]) الصدوق، الخصال، ص517.

([9]) الثفنات: جمع ثفنة من البعير والناقة، الركبة وما مس الأرض من كركرته وسعداناته وأصول أفخاذه، ابن منظور، لسان العرب، 13/78.

([10]) ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب، 3/304.

([11]) الصدوق، عيون أخبار الرضا 2/75.

([12]) الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، 2/31.

([13]) المجلسي، بحار الأنوار، 48/220.

([14]) الأمين، أعيان الشيعة، 2/6.

([15]) انتضى السيف من غمده وانتضله بمعنى أخرجه، ابن منظور، لسان العرب، 11/666.

([16]) شباة كل شيء حده طرفه والجمع شبا، الرازي، مختار الصحاح، ص175.

([17]) زعاف وذعاف معناهما واحد أي شديد، ابن منظور، لسان العرب، 9/134.

([18]) أضببت على شيء، أشرفت عليه أن اظفر به، ابن منظور، لسان العرب، 14/474.

([19]) جمع غاشية، وهي الداهية من خير أو شر أو مكروه، ابن منظور، لسان العرب، 15/127.

([20]) أكدى: منع أو قطع، المصدر السابق، 15/217.

([21]) الإمام السجاد، الصحيفة السجادية، ص288، الكفعمي، المصباح، ص208.

([22]) القول لشاعر الرسول كعب بن مالك وفيه قال رسول الله له:(أترى الله عز وجل شكر لك قولك)، وهنا كنّى كعب عن قريش بـ(سخينة) وهي أكلة –حساء- كانت تتخذه قريش طعاماً حينما يشتد القحط وربما أولعت بأكله وكانت تعير بذلك، وقد نسب البيت ياقوت الحموي إلى عبد الله بن الزبعرى، وقد أخطأ في ذلك، ينظر: معجم البلدان، 5/ 277، الزبيدي، تاج العروس، 12/ 485.

([23]) المصدر السابق-بتصرّف-

([24]) والشاعر هو كثير عزة، وربما نسبت هذه الأبيات مع إضافة بيت أو بيتين للسيد الحميري الذي كان أول أمره كيسانياً ثم عدل عن ذلك وعاد لمذهب الإمامية على يد الإمام جعفر الصادق (ع).

([25]) 3/288.

([26]) الثاقب في المناقب، ص363.

([27]) 3/308.

([28]) المفيد، الإرشاد، 2/25.

([29]) قالت الإسماعيلية بإمامة الستة-من أمير المؤمنين (ع) إلى الإمام الصادق (ع)- وإن السابع هو إسماعيل بن جعفر وليس الإمام الكاظم (ع)، وقالوا لو يزوج الإمام الصادق (ع) على أم إسماعيل بواحدة من النساء ولا اشترى جارية كما فعل رسول الله أيام خديجة وكما فعل علي أيام فاطمة، ولكنهم اختلفوا في موته في حياة أبيه، فمنهم من قال لم يمت بل غاب، ومنهم من قال مات وأوصى لابنه محمد وهم فرق كثيرة منهم البهرة، الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص26.

([30]) قالت الفطحية: إن الإمامة لم تنتقل من الصادق لولده إسماعيل ولا إلى ولده موسى الكاظم بل إلى ولده الأكبر وهو عبد الله الأفطح، ولقب بالأفطح لأنه افطح الرأس أي ذو رأس عريض، وكان أسن أولاد الصادق، وكان متهماً بالخلاف على أبيه في الاعتقاد ويقال إنه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذهب المرجئة، المصدر السابق، ص186.

([31]) النمازي، مستدرك سفينة البحار، 82/236.

([32]) الشهرستاني، الملل والنحل 1/137، الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص219.

([33]) الأمين، معجم الفرق الإسلامية، ص226.

([34]) المصدر السابق، ص127.

([35]) قتب: رحل صغير على قدر السنام، والجمع أقتاب ابن منظور، لسان العرب، 1/661.

([36]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 4/83.

([37]) الحلي، المستجاد من الإرشاد، ص193.

([38]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 4/79.

([39]) المجلسي، بحار الأنوار، 45/117.

([40]) ينسب إلى شعب خوز بمكة، كان غالباً على أبي جعفر المنصور وقد استوزره على إثر قضية، ثم ما لبث المنصور أن سخط عليه فقتله، واستصفى ماله، وقتله سنة 154هـ، انظر: اليعقوبي، تاريخ، 2/389.

([41]) لم نعثر على ترجمته، وقد راجعنا ولاة المنصور وعماله على المدينة فلم نجد له ذكراً، وقد يكون جعفر بن سليمان وليس محمد بن سليمان لأنه كان والياً على المدينة من قبل المنصور أيام الإمام الصادق (ع)، وإن لم يكن والياً للمنصور فمن المحتمل أن يكون هو الذي قاتل علي بن الحسين شهيد فخ، والذي تمثل شعراً حينما حضرته الوفاة بدلاً من أن يقر بالشهادة فقال: إلا ليت أمي لم تلدني ولم أكن.... لقيت حسيناً يوم فخّ ولا حسن... الخ، أنظر: النمازي، مستدرك سفينة البحار، 2/221.

([42]) وهي حميدة المصفاة زوج الإمام الصادق (ع)، وأمّ الإمام الكاظم (ع).

([43]) المجلسي، بحار الأنوار، 47/3.

([44]) الاعتقادات في دين الإمامية، ص98.

([45]) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/92، القرشي، حياة الإمام الرضا، 1/86-بتصرف.



*  المصادر والمراجع  *

1 - السجاد، علي بن الحسين (ع)، الصحيفة السجادية.

2 - الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، الخصال، صححه وعلق عليه علي اكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في حوزة قم، 1403هـ، عيون أخبار الرضا، صححه وعلق عليه الشيخ حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ-1984م، كمال الدين وتمام النعمة، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في حوزة قم، 1405هـ، الاعتقادات في دين الإمامية، تحقيق عصام عبد السيد، دار المفيد للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1414هـ.

3- ابن شهراشوب، محمد بن علي، المناقب، المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف، 1376هـ/1956م. 

4-المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، 1403هـ/ 1983م.

5-المرعشي النجفي، شهاب الدين، شرح إحقاق الحق، منشورات مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي، قم. 

6-ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، حققه السيد محمد صادق بحر العلوم، دار الأندلس للطباعة والنشر، النجف.

7-ابن الصباغ المالكي، علي بن محمد ن أحمد، حققه ووثق أصوله وعلق عليه سامي الغريري، دار الحديث للطباعة والنشر، قم، 1422هـ.

8- المفيد،  محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم.

9-ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، قم، ايران، 1405هـ.

10-الطبرسي، الفضل بن الحسن، تحقيق مؤسسة آل البيت : لإحياء التراث، قم 1417.

11- الأمين العاملي، محسن بن عبد الكريم، أعيان الشيعة، حققه وأخرجه: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

12-الرازي، محمد بن ابي بكر بن عبد القادر، ضبطه وصححه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1415هـ/1994م.

13-الكفعمي،إبراهيم بن علي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403هـ/ 1983م.

14- الزبيدي، محمد مرتضى الحسيني،  تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق علي شيري،  دار الفكر للطباعة والنشر،  1994م/1414هـ.

15-الحموي، ياقوت، معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399هـ/1979م.

16- القرشي، باقر بن شريف، حياة الإمام الرضا (ع)، انتشارات سعيد بن جبير، قم، الطبعة الأولى، 1372هـ.ش.

17-ابن حمزة الطوسي، محمد بن علي، تحقيق كمال رضا علوان، مؤسسة انصاريان، مطبعة الصدر، قم، الطبعة الثانية، 1412هـ

18-النمازي الشاهرودي، علي، مستدركات علم رجال الحديث، مطبعة شفق، طهران، الطبعة الأولى، 1412هـ.

19-الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، علق عليه أحمد فهمي محمود، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413/1992م.

20-ابن الأثير، علي بن أبي الكرم محمد، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر، 1385هـ/1965م.

21-الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر، المستجاد من كتاب الإرشاد.

22-اليعقوبي أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ، دار صادر، بيروت.،

23-الرزكلي، خير الدين، الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، 1985م.

24- الأمين، شريف يحيى، معجم الفرق الإسلامية، دار الأضواء، بيروت، 1406هـ/1986م.