البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التجربة السياسية للإمام الرضا (ع)، مطالعة تاريخية ومقاربة فكرية

الباحث :  نبيل علي صالح
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شهر ربيع الأول 1439هـ / 2017م
تاريخ إضافة البحث :  January / 11 / 2018
عدد زيارات البحث :  1742
تحميل  ( 527.443 KB )
مقدمةُ البحث

(لا ثقافة منتجة بلا نقد تاريخي)

أودُ بدايةً ـ قبلَ الولوج في الحديث عن التجربة السياسية للإمام الرضا (ع) ـ أن أشير إلى نقطة أجدها مهمة وحيوية للمقاربة البحثية، وهي أننا عندما نتحدث عن واقعة أو حادثة ما، ونحلِّل واقعَ حالة تاريخية وأفكارها وممارستاتها أو رمز من رموز التاريخ الإسلامي له دوره وقيمته وموقعيته الريادية عند هذا المذهب أو ذاك، فإننا لا نريد بذلك تكريس أي حالة من حالات الانغلاق على الذات، أو التقوقع ضمن شرنقة الرأي الواحد وبناء السدود والحواجز عن باقي المذاهب الإسلامية الأخرى، ولا نهدف من ثمَّ لعزل أنفسنا عن الآخرين، لا شيعة ولا سنة. كما لا ندعي امتلاك أي فريق، أو أية مدرسة من مدارس التفكير الإسلامي، الحقيقة المطلقة أو المقدسة التي يجب على الفريق الآخر السير نحوها والإيمان بها والخضوع لها تحت وطأة القوة والعنف والإكراه.. أي إننا لا نتوخى من ذلك كله تأكيد حقانية الشيعة أو بطلانية السنة، أو العكس، ولكننا نريد إطلاع الناس والرأي العام ـ بمختلف تنوعاته واتجاهاته الفكرية والدينية والاجتماعية ـ على حقائق التاريخ ووقائعه ومجريات أحداثه ومسارته المتشعبة والمعقدة كما يراها هذا الفريق أو ذاك، وكما هي في الواقع من وجهات النظر المختلفة والمتعددة القابلة للحوار والجدل، لنفتح من خلال هذا النوع من المداخلات والحوارات الفكرية التاريخية نقاشاً علمياً وموضوعياً صادقاً، كي يتمكن الناس من فهم الوقائع والأحداث ووعيها كما هي في حقيقتها وواقعيتها، أو كما هي أقرب للواقع الصحيح، وليس كما يحب أن يراها أو يرغب بها هذا الطرف أو ذاك. ويبقى هذا الأفق الإيجابي أملنا في ضرورة أنْ يتوخى ـ مثقفونا ونخبِنا الملتزمة سنياً وشيعياً (وأنا لا أتمنى مطلقاً توصيفها بهذه الصفة، ولكن قد يضطر المرء تحت ضغط بعض الظروف للتفوه بأشياء لا ينفتح عليها ـ الدقة العلمية والوعي المعرفي العميق والمسؤولية الرسالية تجاه الله والمجتمع في كل ما يتعلق بالتّاريخ ورموزه وأحداثه، وعدم توجيه أي اتهام فكري لهذا الفريق أو ذاك الباحث والمفكر قبل التأكد والبحث والتمحيص في حقائق الأمور وأصالة الأشياء، خصوصاً في ظل واقع سياسي واجتماعي إسلامي، مليء بالانقسامات والتحديات التي فجّرتها أجواء التعصب السياسي الإسلامي، ومناخات الفتن الدينية المثارة على أكثر من صعيد في اجتماعنا الإسلامي الراهن، والتي حولتها المصالح النفعية والاستخدامات السياسوية للدين إلى استقطابات دينية ومذهبية حادة، أشعلتْ حروباً وصراعات دموية بين مذاهب المسلمين في غير موقع وجهة، وبات الخطاب بينهم ـ حتى على المستوى الفكري ـ جزءاً من متاريس القتال وجبهاتها والحروب المشتعلة منذ حين.

من هنا حديثنا عن الإمام الرضا (ع) هو حديثٌ عن الإسلامِ كله، لأنّ هذا الإمام النبيل ـ وإن كان قد انطلق في فكره وقناعاته والتزاماته العملية من قناة وخط وفكر أهل البيت ـ فهو إمام للأمة كلها، وهو (بالعنوان الأولي) إمام مسلم ومؤمن بخط الإسلام الأصيل، قبل أن يكون شيعي القناعة والانتماء والتوجه.

فضلاً عمّا تقدّم، لابدّ من أنْ نكونَ واقعيين في مواجهتنا لأفكار التّاريخ الإسلامي ووقائعه وأحداثه ومشكلاته الفكرية المثارة، بغضِّ النّظر عن الرأي التقليدي الذاتي لبعض علماء (ومؤرخي) السُّنة أو الشيعة فيها، فتاريخنا ـ وهذا اعتراف وإقرار علني يجبُ أنْ نواجهه جميعاً، ونبتعد عن الخِطابات والشّعارات المُتْخمة والفارغة من أيّة مضامين معرفية واقعية ـ يحفل بصراعات مزمنة وخطيرة على تمثيل السّلطة النقية الشرعية، أي: على من هو صاحب الحق، ومن هو الأجدر والأكفأ والأفضل للقيام بالأمر، وتمثيل روح الإسلام النّقي والصّحيح، روح الإسلام المحمدي الأصيل. وهذا الصّراع التّاريخي الخطير ـ الذي مرّت من خلاله مجتمعاتنا بمحطات دموية، وما زالت تمر للأسف إلى يومنا هذا ـ ليس من اليسر والسهولة وضع حد ونهاية له، خصوصاً مع تفاقم أزمات ومشكلات عالمنا العربي والإسلامي، ودخول القوى الدولية الكبرى على كثير من عناوين وخطوط هذا الصراع المستديم. كما ينبغي ألا يعتقد أحدٌ من العقلاء بأنّ مجردَ عدم إثارة قضية تاريخية خلافية هنا، وإشكالية فكرية أو فقهية أو كلامية خلافية هناك تخصُ هذا الفريق أو ذلك، سيحلّ الأزمة وينهي الصراع على الفور.. واهمٌ جداً من يظن بهذا الظّن أو يعتقد به، وواهمٌ أكثر من يعتقد بأنّ مجردَ الجلوس على طاولات الحوار وتبادل السّلام والنظرات والابتسامات وتبويس اللحى سيضعُ حدّاً للصراعِ المُزمن المتفاقم أخيراً.. فالقضيةُ أكبرُ من اللقاء والحوار، مع قناعاتنا وتأكيدِنا على أهمّية التّحاور واللقاء والتواصل بين كل تيّارات الأمة ونخبها وحركاتها وعلمائها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ولكنّ المشكلة هنا أنّ هذا الصّراع العميق سياسي وديني معاً. وهنا مكمنُ الخطورة، في هذا الاندماج الخطير بين السّياسي والديني (صراع طائفي بامتياز) وتحوُّل قضايا الخلاف التّاريخية المتمحورة حول طبيعة الحكم والسّياسة وأهليّة القيادة والنفوذ، إلى ما يشبه المعتقدات الدينية القطعية غير القابلة للجدل والحوار حولها بأي صورة كانت. وكأنّ عقولنا أضحتْ مقفلة ومغلقة وغير مؤهّلة للبحث والتدقيق، وممارسة التقصي المعرفي والاجتهاد الديني والتفكير الفلسفي.

ونحن عندما نستخدمُ هنا مصطلحَ "الطائفية" فإننا نميزه عن "الدين" الذي هو حالة راقية في التكامل الروحي والسمو النفسي، وفي الفكر والإحساس والممارسة، تجعل الإنسان يميل نحو عالم الكمال المطلق، وتعطيه معاني وافرة لحياته ووجوده الشخصي والعام. وأما الطائفية([1]) فهي تلك الحالة الانغلاقية الخاصة، والفهم الضيق والمتزمت للنص الديني ولحقائق الدين وبديهياته عموماً عند هذا الطّرف أو ذاك بما يؤهل أتباعها ليصبحوا فرقة أو شعبة منتمية إلى الدّين برسمه وحواشيه، لا بفكره وعمقه ومضمونه الثري الأصيل.

وفي هذا السّياق، علينا ألا ننسى أنّ كل تلك الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية عموماً ـ التي تمظهرت في واقعنا عبر كل هذا التاريخ ـ كانت إحدى عوامل دفعه وتحركه وتغيره، ولكن لم تكن العامل الرئيسي أو القوة المحركة الوحيدة والأساسية له، بل كانت هناك عوامل أخرى كالعدالة الاجتماعية والصراع الاقتصادي، والتنافس على تأمين المصير والعيش المادي.

وأتصور ـ استطراداً ـ أنَّ بدايةَ السّير الطويل على طريق العلاج ومحاولة التحكم بداء الطائفية، ومن ثمّ إنهاء الصّراعات التاريخية المزمنة، يكمنُ في التزام النقد والمساءلة المعرفية العلمية للتراث القائم المنقول، وحسم قضيته الجدلية المضنية والمكلفة، وذلك بالحوار العلمي الصريح بين الأفرقاء، والمشاركة بينهم في خلق ثقافة دينية إنسانية "مدنية" تقوم على قاعدة الحرية، وغرس مفهوم "المواطنة الصالحة" في الاجتهاد الفقهي السياسي الإسلامي المليء بالمنطلقات والمبادئ والقيم الإنسانية الكبرى كالانفتاح والتسامح والعدل وغيرها، أي تعزيز البعد الإنساني في ديننا، عبر جانبين، الأول: الاجتهاد الديني انطلاقاً من معيار الأنسنة (أنسنة الفكر الديني والانتهاء من الانغلاق الهوياتي واحتكار الحقيقة)، والثاني: الاشتغال على تجفيف منابع التطرف ومستنقعات التعصب المنتشرة في ساحاتنا، وإنهاء مواقع التكفير والتكفير المضاد المؤدي إلى تفجر واستفحال أعمال العنف الفردي والمجتمعي والرسمي النخبوي، وذلك بسبب كون هذه الظاهرة إحدى أخطر الظواهر التي تواجه مجتمعاتنا وديننا الإسلامي اليوم، مما يستدعي تعريتها وإظهار خطورتها الشديدة الكامنة في لاعقلانيتها، وجمودها، وتشويهها للإسلام من خلال تقديمها له كدين يقوم على الإلغاء والعنف والإرهاب.

نعم لا مفرّ أمامنا من اتّباع طريق الصّراحة والسّير على هدي المكاشفة العلمية والوضوح المعرفي ومواجهة الحقائق كما هي، وعدم الضحك على بعضنا بعضاً كما جرت العادة عندنا نحن السنة والشيعة في كثير من اللقاءات والسجالات الفكرية والسياسية. وأنْ لا نعادي بعضنا بعضاً نتيجة إصرار جهة من هنا أو جهة من هناك على إثارة المواضيع الخلافية الجدلية (وهي كثيرة بطبيعة الحال) ضمن ترتيب للأولويات التي لا يعيش معها الحوار غيبوبةً فكرية بالنسبة إلى الواقع، بل يتحركُ الواقع والفكر جنباً إلى جنب، في سبيل أنْ يكون للحوار صداه المؤثر والمنتج في الواقع، وحركته الواقعية في ساحة الفكر والحياة الفاعلة والمنتجة. فطالما أن الغاية هي نهضة الإنسان المسلم، وتنميته وتفعيل وجوده، وتحقق غاية وجوده، وقيامة الإسلام كرسالة إنسانية ودين منفتح، ففي سبيل هذه الغاية السامية والنبيلة يجب أن يهون أي شيء وكل شيء.

المبحث الأوّل

معاصرة الإمام الرضا (ع) للعهـد العباسي

 تُعدّ دراسةُ الأوضاع السّياسيّة ـ ومجمل التّطورات الاجتماعيّة لمرحلة الحكم العباسي التي عاصر جزءاً منها إمامنا الرضا (ع) ـ فرصة مهمة لكشف كثير من الملابسات والتعقيدات التي أحاطت بطبيعة عمل وحركة الإمام الرضا (ع)، وتجسّدتْ من خلالها المشكلة (والمحنة) السياسية ـ التي هي محنة ومشكلة الأمة ممثلة برموزها العظام من الأئمة (ع) ـ في علاقة الأمة مع نظامها السياسي المستبد القائم([2]). حيث كان أئمة أهل البيت (ع) يعانون فيها أشد المعاناة، في ظل ضغوطات الحكم العباسي([3])، وقبله الحكم الأموي، والسجل الحافل لحكام كلا العصرين والحُكْمَيْن، في مجال الهيمنة والتحكم بالمزاج والقوة، والعبث بمقدرات الأمة، والتلاعب المجنون بإمكانياتها وخيراتها الوافرة التي أنفقوا قسماً كبيراً منها على الملذات والمتع الشخصية والطغيان النفسي والسلوكي([4]).

إنَّ دراسة الواقع السياسي ـ الذي عاصره إمامنا الرضا (ع) ـ يقدّم لنا صورة حية عن طبيعة المعالم والتوجهات العامة والحراك "السياسي ـ الاجتماعي" للعالم الإسلامي آنذاك، وخصوصاً ما قامَ به، ومارسه إمامنا (ع) في سياق بروزه كقائد أصيل، ومنقذ للأمّة على صعيد دعوته إلى الإصلاح والتغيير باتجاه المبادئ والقيم الإسلامية الحقيقية، وضرورة عودة الأمة لسلوك طريق الإسلام المحمدي الأصيل.

فقد غلبت على هذه الفترة من التاريخ السياسي الإسلامي مظاهر التنوع والتعدد في طبيعة الأفراد والمواقف والأحداث والمعطيات السياسية، والمكونات الثقافية والاجتماعية. لذلك كان لا بد من وجود أساليب سياسية واجتماعية عملية وواقعية جديدة ـ فيما يتعلق بإمامنا (ع) ـ لكي يستطيع السير من خلالها في إطار حركته الدعوتية، وبث القوة الروحية المعنوية والمفاهيمية في داخل الأمة، ومواجهة تعقيداتها السياسية الكبيرة، ومحاولة إعادة المجتمع الإسلامي المسترخي والمترهل([5]) إلى طريق التوازن النفسي، والوعي العقلاني، والاعتدال في خطّ الجهاد النفسي والعملي، باعتبار أنَّ الأمة عندما تواجه اختيارات صعبة ومسائل معقدة (يتوجب عليها حلّها)، فإنّها تحتاج إلى من يبين لها الطريق، وينورها على حقيقة هذه المسائل وعلى الاحتمالات المتعددة النابعة منها، وبالتالي يرشدها إلى اتباع الأساليب الأفضل والأضمن، والمواقف والالتزامات الأكثر حيوية وقدرة على تحديد هويتها ومصائرها وآمالها، والعمل على تحقيق أهداف الأمة ومصالحها المتعددة هنا وهناك.

لقد سعى الإمام علي بن موسى الرضا (ع) إلى إيجادِ أطر دقيقة ومواقع عملية راسخة لمجمل تَحرُّكه الاجتماعي و"السياسي"([6])، وربما يكون قبوله بولاية العهد أحد هذه "القنوات البديلة" التي اعتمدها من أجل تحقيق بعض المكاسب والإنجازات للأمة والمجتمع الإسلامي، وحماية المفاهيم الأصيلة للإسلام في العقيدة والشريعة، ومحاولة فتح الساحة الإسلامية كلها على واقع التجربة الإسلامية الصحيحة([7]) ليبين للناس وللأمة ككل ـ من خلال ذلك ـ ما كان يراه (من موقعه ودوره كإمام معصوم) ضرورياً ومناسباً مما تنازع فيه المتنازعون، وتخاصم حوله المتخاصمون. ليضع الحقيقة بين الناس ليحكموا على هذا الطرف أو ذاك، بالرغم من أنه (ع) لم يشأ أبداً أن يكون في الموقع الذي يتحمل فيه تبعات الوضع السلبي القائم، والممارسات الفظيعة التي كانت ترتكبها القيادات السياسيّة الحاكمة باسم الإسلام آنذاك([8]). وقد عبّر الإمام (ع) عن رفضه الحاسم لذلك بقوله: "وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أوّلي أحداً، ولا أعزلُ أحداً، ولا أنقضُ رسماً، ولا سُنة، وأكونُ في الأمر ـ من بعيد ـ مشيراً"([9]).

المبحثُ الثاني

مواقفُ الإمام الرّضا (ع) من حُكّام الظّلم والجور

 عاصرَ الإمامُ الرضا (ع) ـ بشكْلٍ أساسي ـ ثلاثةً من ملوك العباسيين، هارون، والأمين، والمأمون. ويمكن تقسيم الوضع السياسي العام في الفترة التي عاش فيها إمامنا (ع) مع أولئك الملوك (الخلفاء!) إلى مرحلتين أساسيّتين، الأولى مرحلة حكم المهدي والهادي والرشيد، والثانية مرحلة حكم المأمون.

المرحلة الأولى:

 شهدتْ هذه المرحلة توتّرات سياسيّة واجتماعية كبرى على صعيد الحكم وممارسة السُّلطة في طبيعة العلاقة بين الأمة وخلفائها ورجالاتها وعلمائها، وقد كانت هذه المرحلة قاسية وضاغطة على أهل البيت (ع)، وعلى جماهيرهم ومؤيديهم وشيعتهم، نتيجة تعرضهم للكيد والعذاب والتنكيل والملاحقة والغدر من قبل السلطات العباسية الحاكمة. وقد شاهد الإمام الرضا (ع) بأم عينيه محنة أبيه الإمام الكاظم (ع) وهو ينقل من سجن إلى آخر، ويلاحق من قبل حكومة الرشيد وموسى الهادي، ويضيّق عليه، حتى شهدنا نهاية المحنة في واقعة فخ، ومذبحة أهل البيت فيها، واستشهاد الحسين بن علي ابن الحسن، ومصادرة أموالهم([10])، وإدخالهم السجون والمحابس في عهد موسى الهادي وقطع رؤوسهم([11])، ووضعها في اسطوانات مجوفة([12]).

ومن المعروف تاريخياً أنَّ كل تلك الأحداث العنيفة كانت تجري على مرأى ومسمع إمامنا الرضا (ع) ولما استشهد والده الإمام الكاظم (ع) وانتهت الإمامة إليه بقي (ع) وحيداً في مواجهة زعماء الملك العضوض.

1 ـ هارون الملقب بـ"الرشيد"([13]):

 بقي الإمامُ الرضا (ع) طيلة حكم هارون الرشيد تحت المراقبة المستمرة([14])، ويبدو أنَّ الحكومة العباسية القائمة آنذاك لم تكتف بمراقبته، بل إنها دفعتْ بأجهزتها الأمنية المختلفة لمراقبة كل الأسر العلوية التي كانت حكومات العباسيين المتلاحقة تخشاها إلى درجة الفزع والرعب.

صحيح أنَّه (ع) لم يتعرّض إلى ملاحقةٍ منظمة، وتنكيلٍ مباشر من قبل جهاز الحكم الرشيدي ـ إذا جاز التعبير ـ لكنّه (ع) لم يكن ليحيا بعيداً عن أجواء الصّراع الدائر بين العلويين والعباسيين الذي فرض على أهل البيت والأمة ككل، وبسببه حيل بينها وبين استثمار وجودها ومقدراتها بصورة عادلة وفاعلة. فقد أصابه الأذى، ولحقتْ به محنٌ ومصائب كثيرة. وكما انعكست ثورة الحسين (صاحب فخ) على أبيه الكاظم (ع)، فقد انعكست كذلك ثورة محمد بن جعفر على الإمام الرضا (ع). فبعد أن أعلنت هذه الثورة حركتها التغييرية ضد الرشيد، ظفر بهم وانتصر عليهم على يد أحد قادته (الجلودي) الذي تلقّى أمراً من الرشيد يقضي بالانتقام من آل أبي طالب، وقتل محمّد بن جعفر إن ظفر به.

نفذ الجلودي أوامر الرشيد وقام بالإغارة سريعاً على بيوت الطالبيين، والأسر العلوية الكريمة([15])، وكان الإمام الرضا (ع) في طليعة من أصابته المعاناة والمحنة والأذى. وقد ذكر الشيخ الصدوق هذه الحوادث المؤلمة بقوله: [وكان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر للمدينة، بعثه الرشيد وأمره ـ إن ظفر به ـ أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم ولا يدع على واحدة منهن ثوباً جديداً، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان قضى أبو الحسن موسى بن جعفر، فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا، هجم على داره مع خيله، فلما نظر إليه الرضا (ع) جعل النساء كلهن في بيت، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسن: لابد من أن أدخل فاسلبهن، كما أمر أمير المؤمنين. فقال الرضا (ع): "أنا أسلبهن لك، وأحلف أنّي لا أدع عليهن شيئاً إلا أخذته". فلم يزلْ يطلب إليه، ويحلف له حتى سكن. فدخلَ أبو الحسن الرضا (ع) فلم يدعْ عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرارهن إلا أخذه منهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير]([16]).

ولكن على الرغم من عدم تعرّض الرشيد للرضا (ع) بسوء بشكل مباشر (سجن، تعذيب.. الخ) ـ مما كانَ معروفاً عنه (وعن غيره من حكام التاريخ الإسلامي المعروفين والمشهورين عموماً بالظلم وشدة البطش والتنكيل وكثرة الدماء حفاظاً على كراسي حُكْمهم) ـ إلا أن نواياه كانت سيئة دائماً تجاهه (ع)، وكان مستعداً لقتله والتخلص من وجوده الشريف في أية لحظة، خصوصاً إذا تذكّرنا بأنّ هناك فئة اسمها البرامكة كانت تحرّض الرّشيد على الإمام، وتنسجُ خيوطَ المؤامرات والدسائس عليه كما جرت العادة، وكما فعلتْ سابقاً مع أبيه الإمام موسى الكاظم (ع). وها هو صفوان بن يحيى يحدّثنا عن ذلك قائلاً: [مضى موسى الكاظم (ع) وقام ولده من بعده أبو الحسن الرضا، وتكلم، خفنا عليه من قبلك، وقلنا له: إنك أظهرت أمراً عظيماً، وإننا نخاف عليك من ذلك الطاغية، يعني هارون الرشيد، قال: ليجهدن جهده، فلا سبيل له عليَّ ". قال صفوان: فحدثني الثقة أن خالد بن يحيى البرمكي قال لهارون الرشيد: هذا علي بن موسى الرضا قد تقدم وادعى الأمر بنفسه، فقال هارون: يكفينا ما صنعنا بأبيه، تريد أن نقتلهم جميعاً؟!]([17]).

ويبدو أنّ تلك الكلمات الأخيرة الصادرة عن الرّشيد تعكس حقيقة وضعه النفسي الباطني، إذْ ربما كان يشعر بالندم والإثم على ما ارتكبه بحق الإمام الكاظم (ع)، وهو لا يريد أنْ يضيف إلى سجله الأسود إثماً جديداً بقتل ولده الرضا (ع)، رغم كونه (الرشيد) من أصحاب السوابق تعذيباً وقتلاً لكل من هدد عرشه، موظِفاً في سبيل المُلْك دهاقنة الفقه الديني من القاضي أبي يوسف ومن غيره.

ولكن عموماً، المحاولات الكثيرة التي كانت تقوم بها حاشية الرشيد استطاعت أخيراً أنْ تدفعه لمحاولة الانتقام منه (ع)، وكانت إرادة الله تحول بينه وبين ما يريد. فقد جاء عن أبي الصلت الهروي أنه قال: كان أبو الحسن الرضا ذات يوم جالساً في بيته إذْ دخل عليه رسول لهارون الرشد، وقال له: أجب أمير المؤمنين، فقام وقال لي: "يا أبا الصلت، إنّ الرشيد لا يدعوني في هذا الوقت إلا لداهية، فوالله لا يمكنه أنَ يعمل بي شيئاً أكرهه لكلمات وقعت إليّ من جدي رسول الله (ص)". ثم خرج وخرجت معه حتى دخل على هارون، فلما نظر إليه الرضا (ع) قرأ تلك الكلمات. فلما وقف بين يديه نظر إليه وقال: يا أبا الحسن قد أمرنا لك بمائة ألف درهم واكتب لنا حوائج أهلك، ارجع إلى أهلك إنْ أحببت. فلما قام الإمام ليرجع قال الرشيد: أردت أمراً وأراد الله خلافه، وما أراد الله إلاّ الخير.

2 ـ في عهد الأمين:

 تسلم الأمين قيادة الإمبراطورية الإسلامية (الدولة العباسية) بعد وفاة أبيه هارون، وقد كان هذا الرجل ـ الذي دامتْ فترة حكمه حوالي أربع سنوات وشهور عدّة ـ غير مؤهل لتسلّم مهام رئاسة الدولة، والقيام بواجبات السلطة، والتزامات الحكم، وإدارة شؤون المجتمع والأمة، وذلك لما تربى عليه من قيم وضيعة سافلة ومنحطة([18]) مثل كثير من حكّام الجور والظلم في تاريخنا واجتماعنا الإسلامي الماضي والحاضر.

وقد خضعتْ الدولة العباسية خلال هذه الفترة لخضّات وهزات أمنية، واضطرابات سياسية، وصراعات وحروب دموية عنيفة([19])، أدخلتْ الأمة في أنفاق المجهول، وعرّضتها لمآزق اقتصادية صعبة.

وخلال هذه الفترة لم يتعرض الأمين للإمام الرضا (ع) بسوء، ولم يحاول الفتك أو الغدر به، وربما يعود السبب في ذلك إلى انشغاله (انشغال الأمين) بملذاته، وشهواته، وخلافاته الكثيرة مع أخيه المأمون، وانصرافه الدائم إلى تجنيد عسكره وأجهزته الأمنية لمراقبة تحركات المأمون، وقطع الطريق عن أي تحرك ضده([20]).

3 ـ في عهد المأمون([21]):

أسفرت المعارك التي جرت بين أهل الحزب "العباسي" الواحد (حروب الأخوة الأعداء) عن فشل الأمين في مساعيه للدفاع عن عرشه، فكان مقتله وانتهاء حكمه، وصعود نجم أخيه المأمون الذي تسلم عرش الإمبراطورية العباسية الممتدة.

وقد اعتقدَ الناس بأن عهد الهدوء والراحة والسكينة قد بدأ مع مجيء خليفة جديد. ولكن الرياح لم تجر كما اشتهاها أبناء الأمة. فقد باشر المأمون ـ بعيد استلامه الفعلي للسلطة ـ بحملات ملاحقة واسعة ضد كل الفئات والتيارات المناوئة لحكمه (أو حتى التي استشعر بخطرها اللاحق)، وأمعن في ضربهم، وإعدام أصحابها وقادتها. وبذلك تم له الأمر بالقضاء المبرم على كل تلك الاضطرابات والفتن، مما وفّر له (للمأمون) الأجواء المناسبة لتوطيد حكمه، وتثبيت سلطانه، وإحكام علاقته مع الفرس بتزوجه من بوران بنت الحسن بن سهل.

عاش الإمام الرضا (ع) سنواته الأخيرة في عهد المأمون. وقد اعتبرها (ع) من أسوأ الأيام التي مرت عليه في حياته كلها، وذلك بسبب كثرة المضايقات والضغوطات التي كانت تمارسها ضده السلطة المأمونية ـ إذا صح التعبير ـ بالرغم من تظاهر خليفتها بالولاء المطلق لآل البيت (ع)، وتنكرها لأساليب العنف والقمع والانتقام التي ارتكبت بحقهم في العهود السابقة([22]).

لقد وعى الرضا (ع) حقيقة الدوافع والأفكار التي كانت تجول في خاطر المأمون وجلاوزته، وأدرك خلفيات وأبعاد ما يكمن وراء تظاهر المأمون بموالاته وحبه للإمام (ع) خصوصاً بعد استدعاء المأمون له إلى خراسان.

جاء في كتاب عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ـ نقلاً عن السجستاني أنه قال: لما ورد البريد بإشخاص الرضا (ع) إلى خراسان، كنت أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول الله (ص)، فكان يقف على القبر مودعاً باكياً، ويخرج، ثم يرجع إليه، فعل ذلك مراراً، ويعلو منه البكاء والنحيب، وتقدمت إليه وسلمت عليه وهنأته فرد عليَّ السلام، وقال: "زدني فإني اخرج من جوار جدي رسول الله (ص) وأموت في غربة".

كانت علاقة الإمام الرضا (ع) بالمأمون ـ قبل ولاية العهد وأثنائها، حتى استشهاده ـ متوترة باستمرار، لم تستقرْ على حال. بلْ كانتْ تتقلّبُ ما بينّ مدٍّ وجزر، بالرغم من محاولات المأمون إظهار محبته له وللأئمة (ع)، وسعيه باتجاه عقد مجلس النظر والحوار التي كان يجمع فيها المخالفين لأهل البيت (ع) ليكلّمهم عن فضائل الإمام علي (ع)، مستدلاً على أحقيته بالخلافة، وأفضليته بالحكم والقيادة([23]).

ولا يخفى على أي قارئ للتاريخ بأنه كانت للمأمون ـ من وراء عقد تلك الندوات والمناظرات الفكرية بين كبار العلماء والفقهاء والمثقفين ـ كثير من الأهداف السياسية المبيّتة، فقد أرادَ أنْ يظهرَ حبّه للعلمِ والعلماءِ ليميّز نفسَه عن سائر خلفاء العباسيين، وفي الوقت نفسه كانَ يعملُ دائماً على الإيقاع بالإمام الرضا (ع)، وحشره في هكذا مناظرات من أجل أن يزيل تلك الهالة الألمعية والمنزلة الرفيعة ونظرة التقدير العالية التي كان يحظى في المجتمع، وهي نظرة تبجيلية تكرست تاريخياً عن عموم أهل البيت (ع) نتيجة امتلاكهم للعلم، والمعرفة المنفتحة، والأخلاق الإسلامية العالية.

وفي هذا الصدد يقول الشيخ الصدوق: "كان المأمون يجمع للإمام الرضا (ع) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، عسى أن يعجز عن الإجابة على أحد أسئلتهم فيحط من قدره في أعينهم حسداً منه للإمام ومنزلته الاجتماعية، ولكن لم يقم منهم أحد إلا وقد ألزمه حجة كأنه ألقم حجراً "([24]).

إننا نلاحظ ـ من خلال الحديث السابق ـ أنَّ الحالة العامة للعلاقة بين الإمام (ع) والمأمون كانت غير طبيعية. فمن جهة كان المأمون رجلاً محباً ومدافعاً (ولو ظاهرياً) عن خط أهل البيت (ع)، ومن جهة أخرى كان يعود ـ ولأتفه الأسباب([25]) ـ إلى حقيقته فيعمل على الإيقاع بالإمام الرضا، محاولاً إسقاطه في عيون الناس وإظهاره بأنه إمام محب للدنيا من خلال موافقته على ولاية العهد([26])، وطرد الناس عنه.. كما حكى عن ذلك عبد السلام الهروي قائلاً: "رُفع إلى المأمون أن أبا الحسن بن موسى الرضا يعقد مجالس الكلام، والناس يفتنون بعلمه، فأمر محمد بن عمرو الطوسي (حاجب المأمون) بطرد الناس عن مجلسه، فدعا الإمام على المأمون وكان من جملة ذلك الدعاء: (يا بديع، يا قوي، يا منيع، يا علي، يا رفيع، صلِّ على من شرفت الصلاة بالصلاة عليه، وانتقم لي ممن ظلمني، واستخف بي، وطرد الشيعة عن بابي)([27]).

لقد كان من الطبيعي جداً أن تنتهي العلاقة المتوترة والشائكة بين إمامنا (ع) والمأمون إلى طريق مسدود بسبب الاختلاف الجذري في القناعات ووجهات النظر الفكرية وأساليب العمل([28])، وقبل ذلك اختلاف وعي كل واحد منهما ورؤيته لقضايا الحياة والإسلام والحكم والقيم.. الخ.

ويمكننا ملاحظة ذلك بشكل أساسي من خلال حادثة العيد عندما طلب المأمون من الإمام (ع) أن يركب ويحضر العيد، لكن الإمام اعتذر عن ذلك بناء على الشروط المسبقة والمتفق عليها بينهما في بداية قبوله (ع) بولاية العهد، وهو أمرٌ أثار حفيظة المأمون، فزاد في الطلب وألح في الأمر. وهنا علق الإمام قائلاً له: "اعفنِ وإلاّ تعفني أخرج كما يخرج رسول الله (ص)، وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)"، فأجابه المأمون: "أخرج كما تحب. وكان الناس يتوقعون حينها أن يخرج عليهم الإمام الرضا (ع) على هيئة الملوك، وبآداب ورسوم خاصة، إلاّ أنهم دهشوا لما رأوه خرج حافياً وهو يكبر. فسقط القادة عن دوابهم، ورموا بخفافهم، وانطلقوا خلف الإمام. وكان الإمام يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة ويكبر.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل: "يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع". فسأله الرجوع فدعا أبو الحسن (ع) بخفة طلبه ورجع([29]).

المبحث الثالث

الإمام الرضا (ع) وولاية العهد

دفعت ظروف الاضطهاد والتنكيل والمطاردة والقمع، التي تفنّن بها وزاولها ملوك العباسيين (واعتبروها خطّاً ونهجاً أساسياً في حكمهم)، ومارسوها بحق العلويين إلى المباشرة بتنظيم أنفسهم، وإعلان تحركهم الثوري المسلح ضد السلطة العباسية التي كان المأمون ممثلها (الشرعي؟!) آنذاك.

لقد حاول الثوار العلويون استثمار فرصة الارتباك والخلل وحالة اللااستقرار السّياسي والاجتماعي التي سادتْ خلال فترة الانتقال غير السلمي للسّلطة من الأمين إلى أخيه (وغريمه) المأمون. وعلى هذا الأساس تفجرت الثورات والانتفاضات المسلحة أيام المأمون في كل حدب وصوب([30])، وألهبت ـ مواقع كثيرة في أرجاء الدولة العباسية ـ بالثورات المسلحة التي رفع قادتها رايات الجهاد ورفض الاستعباد والتحرر من الطغاة والظالمين، ومعهم الطليعة الواعية من العلماء والمحدثين([31])... في هذا الجو الضاغط والمشحون بالعنف والثورات.. كيف تحرك المأمون؟! وما هي ردود أفعاله على تحديات واقعه الساخنة؟!

في الواقع عاش المأمون وضعاً قلقاً ومضطرباً نتيجة ما لاقاه من ضغوط عملية صعبة وواسعة من خلال أمرين اثنين، الأول: الصراع المرير ـ الذي اشتعل بينه وبين أخيه الأمين ـ على العرش العباسي، والثاني: قيام الانتفاضات والثورات العلوية ضد حكمه في كل أنحاء الدولة.

لقد توصل المأمون ـ بما لديه من الحنكة السياسية، والمكر الواقعي، وعمق التفكير بطبيعة الأحداث ـ إلى نتيجة مفادها، أنه ولكي:

1 ـ يأمن الخطر الذي بدأ يحاصره من خلال وجود شخصية الإمام الرضا (ع) الفذة.

2 ـ ويمتص نقمة المجتمع الغاضب.

3 ـ ويخفف من وطأة الضغوط الشعبية المتزايدة ضد نهجه الظالم، على طريق إخماد الثورات والانتفاضات المشتعلة.

4 ـ ويكسب مزيداً من الأنصار والأتباع إليه، ويحصل ـ من ثمَّ ـ على اعتراف من العلويين بشرعية الخلافة.

5 ـ ويقف بقوة في وجه التيار الثوري العلوي المتعاظم نتيجة سياسات الإرهاب وسفك الدماء وتضييع أموال الدولة وثروات الأمة، وفساد الإدارة، واضطراب الأمن.

6 ـ ومن ثمَّ لكي يحافظ على وجوده السياسي في الحكم كأعلى رأس في الدولة العباسية، ويقوي دعائم سلطته.. فماذا عليه أن يفعل؟!. ليس عليه إلا أن:

1 ـ يهادن السادة العلويين، أي يحاول تدجينهم واحتواءهم من خلال اتباع سياسة المكر والدهاء والترغيب والترهيب.

2 ـ ويتقرب من رموزهم وقادتهم.

3 ـ ويعترف لهم بحق الولاية والحكم. ومن ثمَّ يوهم الناس ـ من أجل كسب رضاهم وودهم ـ بأنه بريء كلياً من تلك الأعمال القبيحة والممارسات الظالمة التي ارتكبتها السلطات العباسية بحق أهل البيت (ع).. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟!

لقد قرر المأمون أن يهيئ الأجواء، ويمهد الطرق لولادة مشروع سياسي خاص يهدف إلى تطويق حركة الرضا (ع)، (مع العلم أنه لم تكن أية حركة ولكنه كان يخشى من مجرد وجود الإمام) قبل أن تبدأ (باعتباره الإمام المعصوم الثامن المفروض الطاعة والقائد العلوي البارز الذي يمثل أهل بيت النبوة في عصره)، وذلك من خلال التقرب منه، وادعاء موالاته وأحقيته بالولاية والخلافة..

في هذه الظروف التاريخية الصعبة نشأت فكرة ولاية العهد. أي مبايعة([32])المأمون للرضا (ع) بالخلافة وولاية العهد من بعده. و انطلق المأمون بعد ذلك لتنفيذ خطته، وقام بمشاورات عدّة([33]) (مع كبار القوم عنده، من أهل الخبرة والدراية بالشؤون العامة) انتهت إلى ضرورة عرض الولاية على الرضا (ع)، فإذا رفض ذلك يجب تهديده بالقتل([34]). وعلى هذا الصعيد تحدثنا كتب التاريخ([35]) عن قيام المأمون بعرض الخلافة على الإمام الرضا (ع) أولاً([36])، لكنه (ع) رفض قبولها أشد الرفض، وبقي المأمون مدة من الزمن يحاول إقناعه بالقبول، فلم يفلح. وقد ورد أن محاولاته هذه استمرت في "مرو" وحدها أكثر من شهرين والإمام (ع) أصر على الرفض، وكان يأبى عليه ذلك([37])، وكان (ع) يجيب المأمون بما يكره.. لكن الإمام (ع) اضطر (وهو الذي لم يكن مقتنعاً أبداً بهذا الأمر، ويدرك خفاياه ومداه وغزاه الحقيقي المخفي!) للقبول ـ تحت وطأة التهديد بالقتل ـ بولاية العهد المشروطة بعد أكثر من شهرين من المحاولات الكثيرة والحثيثة التي قامت بها شخصيات عدّة كان على رأسها رجاء بن أبي الضحاك. وكانت البيعة له (ع) في السّابع من شهر رمضان عام 201 هـ .

ونسجّل هنا أبرز الروايات (وأقوال الباحثين) الدالة على عدم قناعة الرضا (ع) بالولاية:

1 ـ جاء في كتاب الطالبيين للأصفهاني: "…فأرسلهما (يعني الفضل والحسن ابني السهل) إلى علي بن موسى، فعرضا ذلك (يعني ولايته العهد) عليه، فأبى، فلم يزالا عليه، وهو يأبى ذلك، ويمتنع منه.. إلى أن قال أحدهما: (والله، أمرني بضرب عنقك، إذا خالفت ما يريد؟؟)، ثم دعا به المأمون، وتهدده، فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد. ثم قال له: إن عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدك، وقال: من خالف فاضربوا عنقه ولا بد من قبول ذلك)([38]).

2 ـ يروي آخرون أن المأمون قال له: يا ابن رسول الله، إنما تريد بذلك (يعني بما أخبره به عن آبائه من موته قبله مسوماً) التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، يقول الناس: إنك زاهد في الدنيا.. فقال الرضا (ع): "والله، ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني أعلم ما تريد؟!". فقال المأمون: وما أريد؟!، قال (ع): "الأمان على الصدق"، قال لك الأمان ، قال (ع): "تريد بذلك أن يقول الناس: إن علياً بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟! ". فغضب المأمون، وقال له: إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه. وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم: لان قبلت ولاية العهد، وإلا لأجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلا ضربت عنقك..)([39]).

3 ـ وقال الرضا (ع) في معرض رده على سؤال وجهه إليه الريان عن سر قبوله لولاية العهد: "..قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وببن القتل، اخترت القبول على القتل.." إلى أن قال: "ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إجبار وإكراه، بعد الإشراف على الهلاك… الخ"([40]).

4 ـ أما بالنسبة للباحثين فإن معظمهم يؤكد على رفض الإمام (ع) لهذا الأمر، وكراهته له، واستيائه منه.. وأنه (ع) قد أُجبر على سلوك طريق القبول بالولاية تحت وطأة التهديد بالقتل (وضرب العنق).. وفي هذا يقول أحمد أمين: "..وأُلزم الرضا بذلك، فامتنع، ثم أجاب.."([41]). وقال القندوزي: "إنّه قَبِل ولاية العهد، وهو باكٍ حزين.."([42]). وقال المسعودي: ".. فألح عليه (يعني المأمون)، فامتنع، فاقسم، فأبر قسمه.."([43]).. ومن الواضح هنا أن موافقة الإمام الرضا (ع) على استلام (مسؤوليات ومهام؟!) ولاية العهد جاءت محمولة على شروطه الخاصة التي كشفت عن عدم رغبته الضمنية بهذا الأمر. وهذه الشروط هي:

1 ـ لا يولي أحداً.

2 ـ لا يعزل أحداً.

3 ـ لا ينقض رسماً.

4 ـ أن يكون مشيراً من بعيد في شؤون الدولة([44]).

 وفعلاً أجاز المأمون هذه الشروط التي تتصادم مع مصالحه وامتيازاته الخاصة، وتفضح نواياه السياسية الخبيثة المبيتة، وبدأ بإعلان هذا النبأ العظيم (ولاية العهد)، وأمر بنشره في أرجاء الأمة الإسلامية.

 وجلس المأمون يوم الخميس في ديوان الخلافة، وأمر وزيره الفضل بن سهل أن يخرج للناس، ويعلن لهم عن قرار المأمون، ورأيه في الإمام الرضا (ع)، وعزمه على البيعة بولاية العهد من بعده، وأنه سماه "الرضا" وأبلغهم أن المأمون يأمر بإبدال الشعار العباسي ـ لباس السواد ـ بالشعار الأخضر ولبس الثياب الخضر. وأعلن لهم عن عزم الخليفة على صرف مرتب سنوي كامل بهذه المناسبة السعيدة، ثم طلب منهم أن يعودوا في الخميس القادم ليبايعوا الإمام الرضا (ع). وجلس المأمون وإلى جانبه الإمام الرضا (ع) في الموعد المحدد للبيعة. وأقبل القواد والوجهاء والقضاة وهم يلبسون الملابس الخضر..

وفي بعض تفاصيل البيعة أمر المأمون ولده العباس ليكون أول المبايعين. فقام وبايع الإمام الرضا (ع) بولاية العهد. فرفع الرضا (ع) يده وقد جعل باطنها إلى الناس وظاهرها مقابل وجهه فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة، فقال له: "إن رسول الله (ص) هكذا كان يبايع، فبايعه الناس"([45]).. وهكذا تمت المراسيم والاحتفالات البيعة التي لم يشهد التاريخ الإسلامي مثيلاً لها كما قال المؤرخون. وتوافد بعدها الشعراء والأدباء والخطباء والمهنئون([46]). وبذلت الأموال والعطايا والمرتبات. وتمت البيعة كما ذُكر في رمضان سنة إحدى ومائتين للهجرة.

خطبة الإمام الرضا (ع) وأحوال ما بعد البيعة:

 قام الإمام (ع) بعد أن انتهت البيعة، وتحدث بكلمات وجيزة ومعبرة، تفيض بقيم المسؤولية والوعي، وتحمل في داخلها حقيقة موقف الإمام من الحكم، وعلاقته مع السلطة من حيث انسجامه أو عدم انسجامه معها.. فقد قال (ع) بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "إن لنا عليكم حقاً برسول الله (ص) ولكم علينا حقاً به، فإذا أديتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم"([47]). وخطبة الإمام خير دليل على موقفه وعدم قناعته بمستقبل البيعة، لذا أورد حين خطابه إشارة دقيقة: "فإذا أديتم ذلك وجب علينا الحق لكم".. ولم يكلم الناس بشيء، ولم يتحدث بلسان رجل الحكم والسلطة، فما كان يقرها في نفسه. ولا يريد أن يضفي على حكم المأمون صفة الشرعية بجعل نفسه نائباً له ووصياً لملكه([48]).

 وبعد ذلك استمر المأمون يتابع الإجراءات العملية المتممة للبيعة مؤكداً من خلالها أهمية موقع الإمام الرضا (ع) (ظاهرياً فقط). فأمر بإصدار النقود التي نقش عليها اسمه الشريف (ع). وأصدر قراراته إلى كل الولاة الأعيان في أنحاء الدولة بضرورة ذكر اسم الإمام (ع) على المنابر في خطبة الجمعة، وتأكيد ولايته للعهد. وفعلاً أعلنت البيعة للإمام من على منبر رسول الله (ص) في المدينة المنورة.

ومن أجل أن يضفي المأمون الطابع الشخصي للعلاقة مع الرضا (ع) ـ بهدف تضليل الرأي العام، من خلال محاولة إقناعه بحسن نواياه وصدق مساعيه واتجاهه السياسي الذي سار عليه واختاره مع الإمام الرضا (ع) ـ قام بتزويج ابنته (أم حبيب) من الإمام (ع)، وعقد للإمام محمد الجواد بن الإمام الرضا (ع) على ابنته أم الفضل.

أهم ردود الأفعال التي صدرت تجاه البيعة:

 تباينت مواقف الناس وردودهم وأفعالهم تجاه هذا الحدث الكبير الذي عدّه كثيرون منهم حدثاً غريباً وغير مألوف إطلاقاً. إذ كيف يوافق المأمون ـ هذا الخليفة العباسي الذي شادت أسرته العباسية أركان حكمها على الدماء والصراعات والتناقضات ـ على نقل الخلافة ومواريث السلطة، وتسليم أمور الدولة، وشؤون الحكم إلى شخص ينتمي إلى النهج والخط المناقض تماماً لتوجهاتها السياسية والثقافية والاجتماعية..؟!

لقد رد الرضا (ع) من جانبه على استفسارات أنصاره ومحبيه وأتباعه، وأظهر لهم حقائق هذه الواقعة.

أمّا على مستوى المأمون فقد ارتفعت أصوات كثيرة معلنة الاحتجاج والرفض الشديد لهذا الأمر. وكان من بين هؤلاء الرافضين قادة ورموز بين بني العباس. وقد أكدنا سابقاً أن أول الذين أثارهم وأدهشهم ذلك المشروع هو الحسن بن سهل، أحد أهم وزراء المأمون ومستشاريه([49]).

سؤال وجواب:

ما هي الرهانات الفكرية والعملية التي أراد الإمام الرضا (ع) تحقيقها، والعمل على إنجازها في سياق قبوله بولاية العهد (الشكلية)؟!.

لقد قام الرضا (ع) ـ خلال المدة الزمنية التي قضاها في ولاية العهد ـ بكثيرٍ من المهام والأعمال العلمية والثقافية، والإنجازات السياسية (غير المباشرة). واستطاع ـ في الوقت نفسه ـ أن يهيئ الأجواء المناسبة لإظهار دقائق الفكر الإسلامي الأصيل، وذخائر مبادئه الصافية في الفقه والشريعة والكلام والفلسفة والتفسير. وقد ركز (ع) في حركته الفكرية العملية ـ بعد استلامه ولاية العهد ـ على رهانات أخلاقية وعلمية وسياسية، يمكن ملاحظتها ومتابعتها من خلال ما يأتي:

1 ـ الرهان العلمي والأخلاقي:

 وجد الإمام الرضا (ع) ـ بحسب ما نزعم ـ أن قبوله بولاية العهد يمكن أن يسهم في تحقيق بعض المكاسب الإيجابية للخط الإسلامي المستنير الممثل بأهل البيت (ع)، ويعطيه دفعاً ثقافياً ونشاطاً علمياً قوياً وواسعاً كان بأمس الحاجة إليه في ظل ظروف شائكة، ومناخات سياسية واجتماعية ضاغطة ومعقدة كانت تعمل وتتحرك على عكس الأهداف والتوجهات التي سعى إليها هذا الخط الأصيل..

فعلى المستوى الاجتماعي العام كان (ع) يعمل على تعليم الناس وتثقيفهم، وتوثيق صلتهم ـ العقائدية والعاطفية ـ بالمبادئ والقيم الإسلامية الأساسية الواعية (خصوصاً قضية أهل البيت (ع) التي هي قضية الإسلام كله) التي التزم بها، وعبّر عنها أهل بيت النبوة (ع) في كل سلوكهم الاجتماعي والسياسي والثقافي. وقد لاحظنا سلامة هذا التوجه من خلال الإمام نفسه([50])، وكذلك من خلال أصحابه وأتباعه وشيعته الذين أصبحوا ـ في ما بعد ـ أكثر قدرة ووعياً على التعامل مع قضايا الواقع والحياة والإنسان، والقيام بالمناظرات والحوارات العلمية الواسعة مع جميع القوى والتيارات.

أما على المستوى الشخصي (العام)([51])، فقد رأينا كيف أفاد الإمام (ع) الإفادة المثلى التي تجلت عبر إبراز شخصيته العلمية الغنية ذات الكفاءة العالية التي قدمت أفضل وأعظم الخدمات للإسلام الرسالي من خلال تلك المناظرات والندوات والجلسات الحوارية التي كانت تجري برعاية المأمون، وبمشاركة لفيف كبير من العلماء والمفكرين المنتسبين لمختلف التيارات والعقائد الدينية والدهرية (العلمانية).

روى الطبري في احتجاجه، في تفسير الإمام (ع) لقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أنه قال: "مشرقة تنتظر ثواب ربها"، وأضاف إلى ذلك أن النبي (ص) كان يقول: "قال الله جلّ جلاله: "ما آمن بي من فسر كلامي برأيه، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني، ومن رد متشابه القرآن إلى محكمه، هدي إلى صراط مستقيم". ومضى الإمام (ع) يقول: "من شبه الله بخلقه فهو مشرك، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر"([52]).

2 ـ الرهان السياسي:

 كان الإمام الرضا (ع) واعياً ومدركاً تماماً لخلفيات وتعقيدات واقع أمته الحضاري، لذلك لم يستطع هذا الواقع الضاغط ـ بكل رموزه وشخصياته ـ أن يُخضع فكره وروحه وعقله، أو يهزم قوته وإرادته، ولم تتمكن القيم السكونية (حب الاسترخاء والراحة والدعة) من الدخول إلى جوه وطبعه النفسي الخاص.

لقد وجد (ع) نفسه وسط معترك واقع سياسي مرتبك وشديد التنوع (بالمعنى السلبي طبعاً)، فحاول أن يفهمه ويحلله ويحياه من موقع وعيه هو، لا من موقع سلبيات الواقع ذاته. ولذلك كانَ من الطبيعي جداً أنْ يعمل (ع) على مواجهة هذا الواقع السياسي والاجتماعي المنحرف عن خط الإسلام، والمفروض على الأمة بطريقة حركية غير مباشرة تقوم على معيارين أساسيين في رفض أو قبول الحكم السياسي القائم:

1 ـ المعيار الأول: يتعلق بالجانب التثقيفي العقائدي في رفض التعاون مع أي نظام ظالم لا يستمد شرعيته من الإسلام (رفض ولاية الحاكم الجائر بالمطلق).

2 ـ المعيار الثّاني: يتعلق بالجانب الحركي والواقعي في التعاون مع النظام الحاكم تحقيقاً للمصلحة الإسلامية العليا (القبول المؤقت بولاية الجائر).

فعلى صعيد المعيار الأول: ثبت الرضا (ع) في أذهان أصحابه وشيعته فكرة عدم جواز معاونة الظالمين، ورفض مساعدة السلطان الجائر المنحرف، وعدم الارتباط به وبرموزه مهما كانت التحديات([53]). يقول (ع) لسليمان الجعفري (وقد سأله عن أعمال السلطان): "يا سليمان.. الدخول في أعماله، والعون له، والسعي في حوائجه عديل الكفر"([54]).

ويقول (ع) لأحد أصحابه: ".. يا زياد لإن أسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحب إلي من أن أقدم لأحد منهم عملاً، أو أطأ بساط رجل منهم.. "([55]).

ويقول (ع) عن آبائه عن رسول الله (ص): "من أرضى سلطاناً بما يسخط الله خرج من دين الله عز وجلّ"([56]).

ويتأكد هذا الموقف المبدئي الصحيح أكثر فأكثر من خلال استعراضنا للمواقف التي اتخذها الإمام الرضا (ع) من انتفاضات وثورات العلويين ضد الحكم السياسي الظالم. حيث لم ينظر (ع) نظرة سلبية (بالمطلق) إلى تلك التحركات الثورية من حيث طبيعة المبدأ الثوري ذاته، وما يختزنه في داخله من مناهضة للظلم ورفض العدوان والطغيان والجور والباطل، بل كان (ع) ـ كغيره من أئمة أهل البيت (ع) ـ يبارك كل ثائر على الظلم والظالمين (حتى لو لم ينجح عسكرياً) إذا كانت ثورته ـ طبعاً ـ ضمن الحدود المشروعة، ومنطلقة في خطّ المسؤولية الرسالية بما يحفظ مصالح الناس والأمة([57])، لأن الثورة الأخلاقية النقية تكشف ـ في الغالب ـ للشعوب زيف الحكام، وتفضح واقعهم الكريه وممارساتهم الظالمة بحق الناس والمجتمعات، وتترك وراءها فئة تحس بالظلم والتجاوزات وتحاسب عليهما، وأحياناً تضطر الحاكم إلى تصحيح سلوكه ووسائل حكمه إلى حد ما([58]).

إنّ الاعتراض الوحيد الذي وجهه الإمام (ع) إلى بعض الثائرين العلويين هو احتجاجه وإدانته لسلوكهم الناري غير المدروس ضد المجتمع، ولانخداعهم ببعض الأصوات التي كانت تهتف باسمهم فيدعون ما ليس لهم، ويخرجون للثورة من دون تخطيط وتنظيم، ومن دون وجود هدف أو مصلحة عليا للأمة([59])، وبالتالي يكون نصيبهم القتل، والتشريد، ووضع المجتمع في مواجهة خاسرة مع نفسه.

وقد لاحظنا كيفَ عبّر الإمام الرضا (ع) عن رفْضه الحاسم لكل تجاوزات أخيه زيد الملقب "بزيد النار"، حيث وقف منه ومن عدوانه على المجتمع([60]) ـ موقفاً سلبياً متصلباً، تمكن عبره من تعريته على الملأ، مسقطاً بذلك أية شرعية له كان يمكن أنْ يرتديها أو يدّعيها.

إنّنا نعتقد أن تحريم الرضا (ع) اللجوء إلى (والتعاون مع) السلطات والأنظمة الجائرة لم ينطلق من حالة نفسية مزاجية ارتبطت بطبيعة الأجواء المتشنجة التي عاشتها أمتنا الإسلامية خلال ذلك التاريخ، ولكنها جاءت متسقة في إطار صيغة سياسية عملية كانت تهدف إلى تأكيد وتجذير حالة الرفض النفسي والعملي للكيانات الظالمة اللاشرعية من خلال العمل المتواصل على توعية الأمة وتثقيفها سياسياً وعقائدياً على معنى الحكم العادل، ومعنى الحكم الظالم.

أمّا بالنسبة للمعيار الثّاني (التعاون المؤقت مع ولاية الجائر)([61]) فقد انطلق إمامنا (ع) على هذا المستوى بكلّ ما لديه من طاقات، حيثُ سلكَ طريق الدعوة إلى الإسلام، وترسيخ أبعاده المعرفية والعقائدية في ذهنية الأمة، بما في ذلك التوعية العقائدية والتثقيف السياسي بالإسلام (بصورة غير مباشرة طبعاً) من دون أن يسمح لنفسه (ولغيره من الأصحاب والشيعة) بأن يكون جزءاً من الواقع السّياسي القائم ـ في نظر الإمام (ع) ـ على ضوابط وأسس غير شرعية.

وقد اعترض جماعة على قبول الإمام (ع) بالولاية، ورضاه بالتعاون مع نظام المأمون (بالرغم من أنه لم يفعل ذلك مطلقاً) قائلين: يكفي أن اسمك قد ذكر معهم حتى تصبح جزءاً منهم؟! فقال (ع): "الأنبياء أفضل أم الأوصياء؟! " قالوا : الأنبياء. قال (ع): "السلطان المشرك أسوأ أم السلطان المسلم الفاسق؟" قالوا: السلطان المشرك. قال: "أيهما أشد، الذي يتعاون طالباً بذلك، أم الذي يفرض عليه ذلك؟!" قالوا: الذي يطلبه. فقال (ع): "كان يوسف الصديق نبياً، وعزيز مصر كان كافراً مشركاً، ويوسف طلب بنفسه: }اجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليها{ (يوسف: 55). فقد أراد أن يأخذ موقعاً بحيث يحسن الإفادة من ذلك الموقع، فضلاً عن عزيز مصر كان كافراً والمأمون مسلم فاسق. لقد كان يوسف نبياً، وأنا وصي نبي، هو طلب ذلك، وأنا أجبرت على ذلك([62]).

المبحث الرابع

المضامين الحركية لسيرة الرضا (ع) في المجال السياسي

(تأمُّلات عامّة وقراءة معاصرة)

يمكن لتجربة الإمام الرضا (ع) في الجانب السياسي، التي تمثلت في ولاية العهد من أخطر المحطات السياسية التي مرّت في حياته، أنْ تضع بين أيدينا وعياً سياسياً مباشراً حول كيفية التعامل والمشاركة (أو عدم المشاركة) في الواقع اليومي المباشر للحكم السياسي الخاص بهذا النظام أو ذاك. وتنبع أهمية هذا الجانب السياسي وحساسيته، في حياة الرضا (ع) من حيث كونها سابقة فريدة في السلوك السياسي العباسي عندما يتنازل الحاكم للمعارضة، ويعرض عليها تقاسم أعباء الحكم، حيث حملها بعضهم على نحو من الجدية وأثنى على المأمون غاية الثناء ، ووصفه بالتجرّد والنزاهة. على الرغم من كونها مجرد مسرحية سياسية أجاد المأمون نسج فصولها وتظهير خيوطها، وتوزيع أدوارها وحسن توقيتها. كما يستفاد من تصريحات ولي العهد نفسه (ع) بعيداً عن تحليلات أولئك المتأخرين.

إن تلك المسألة خاضعة ـ في تصوري ـ لمدى توافر القدرات والاستعدادات والقابليات النوعية العالية لدى الفرد الملتزم (وعي والتزام عقائدي متين، إرادة علمية خيرة، صبر إيجابي متوثب… الخ) القادرة على تحقيق المصلحة الإسلامية.

 لكن لا بد لهذا النوع من "الدخول إلى جسم الحكم" من أن يكون محكماً ومضبوطاً بشكل كلي (قبول سلبي)، كما أن الامتناع عنه، ورفض شرعية وجوده (رفض إيجابي) لابد من أن يأتي مدروساً ومنظماً. ونلاحظ ـ ضمن هذا الاتجاه ـ أنه على الرغم من وجود كل التعقيدات والضغوطات التي يمكن أن تحيط بطبيعة الانخراط في العمل السياسي للنظام العام، يبدو لنا أن سلبيات التعامل المضبوط مع الأنظمة الحاكمة غير الشرعية أفضل بكثير من كل إيجابيات الانعزال عن الواقع، والركون إلى الزوايا المهملة، والبقاء بعيداً خارج إطار آلية الحكم وتداول السلطة (إذا كان هناك مجال لتداولها طبعاً).

وهذا الكلام لا يعني بالضرورة أنه يجب على الإسلاميين الدخول العميق إلى التفاصيل الدقيقة لآلية الحكم ومفاصل النظام السياسي الداخلة والخارجة ككل وما يرتبه من رضى نفسي وعملي بكل الأحداث والقضايا والمسائل المتحركة على هذا المستوى، وإمضاء شرعية وجود النظام الحاكم الظالم والمستبد بكل أجوائه ومواقعه.. ولكنه يعني ضرورة دراسة هذه التفاصيل، ووعي حقيقتها من الداخل، والوقوف مطولاً أمام ملابساتها وظروفها، ومن ثم إعطاء الرأي السديد (إيجاباً أو سلباً) بشأنها.

من هنا يمكننا أن نعدّ هذا الدخول المباشر ـ أو غير المباشر ـ إلى بعض مواقع وأجواء النظام السياسي القائم (أي نظام سياسي غير إسلامي الهوية والطرح والامتداد) خطوة أولى على طريق تهيئة الظروف وملاءمة الأوضاع لتنمية وعي الإنسان والفرد المسلم بإسلامه، وقضاياه الاجتماعية والثقافية والسياسية.

وقد أدى الإمام الرضا (ع) هذا الدور الرسالي الكبير، واستطاع ـ بالرغم من التحديات القاسية التي واجهته ـ إجلاء الغموض واللبس عن كثير من المفاهيم والتصورات الإسلامية الأصلية، وعرضها بأروع الصور، وأنقى المضامين، وأنصع البيانات، وذلك بهدف الحفاظ على طهارتها وأصالتها ونضارتها في ذهنية المجتمع وذاكرة الأمة.

إن قبول الإمام الرضا (ع) بولاية العهد، ونزوله([63]) إلى أرض الواقع المليء بالأشواك والحفر ـ في إطار تمـسكه بإسلام الأمة والجماهير، وسعيه لخدمة مبادئه الرسـالية وأنظمتها الفكرية والعملية ـ يمكن أن يقدم لأبناء الجيل الحاضر درساً عملياً مفيداً في ما يتعلق بكيفية استلهام حركية الإمام (ع) في كيفية تعامله مع الواقع والظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية. ونستطيع أن نعبر عن ذلك في النقاط الآتية:

1 ـ العمل على تحديد مشكلات واقعنا العربي والإسلامي المعاصر المليء بالسلبيات والانقسامات([64]). أي محاولة فهم أسباب الأزمة الحضارية المستمرة لاجتماعنا الإسلامي المعاصر، كما حدد وفهم الرضا (ع) أزمة مجتمعه وظروف عصره الذي عايشه بكل قسوته وقلقه. وهذه الأزمة الراهنة هي بالأساس ذات جذر معرفي وثقافي بامتياز.

2 ـ التركيز المكثف على أهمية ودور منظومة القيم الأخلاقية الإسلامية المتبصرة والمنفتحة على الحياة، في قيادة مجتمعاتنا إلى شاطئ وبر الأمان، وإنقاذها من أزماتها المتوالية، وإيقاظها من سباتها العميق الذي طال أمده، ومحاولة إرجاعها إلى الساحة العالمية لكي تمارس دورها الحضاري الرائد إلى جانب باقي حضارات وثقافات العالم . وهذا الأمر مرتبط ـ إلى حد كبير ـ بمسألة الأخلاق نفسها، وإيماننا بأنها لا يمكن أنْ تفرض من فوق بقوة الأدوات السياسية (وغير السياسية) المعروفة، ولا بقهر القوانين الإدارية والمراسيم الحقوقية، ولكنها تأتي إلى حيز التطبيق من خلال توعية الناس والمجتمع، والعمل المستمر على تعميق صلتهم الروحية بالله تعالى، وبقيمهم الدينية المعنوية العملية، باعتبار أنَّ للأخلاق والمعنويات الإسلامية ثمـاراً حقيقية يمكن أنْ تبلور الوعي الجمالي بالحياة والإنسان، وتعرز حـس الانشداد في داخله الميل الروحي والمفاهيم ) نحو المبدأ والمثل الأعلى الله تعال ) مطلق الكون والوجود والحياة.

وهذه مسألة مهمة جداً ينبغي تحديد مسؤولياتنا تجاهها، خصوصاً في ظل وجود تيارات وقوى ثقافية وسياسية راهنة (دينية وعلمانية على حد سواء) يدعي معظمها امتلاك أفـكار ومعارف ومعطيات ثـقافية قادرة وحدها ـ كما يدعي أتباعها ـ على استلام زمام المبادرة الفعّالة الخاصة بتمثل وتحقيق قيم النهوض والتنمية في مجالنا السياسي والاجتماعـي الإسلامي، وذلك من خلال زرع قيم ثقافية وسياسية غير صالحة للاستنبات والنمو في تربتنا الإسلامية.

3 ـ تعزيز النقد البنّاء في حركة المجتمع الإسلامي:

 يقول الإمام الرضا (ع): "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً استزاد الله، وإنْ عمل سيئاً استغفر لله وتاب عليه"([65]). إنَّ دراسة هذا النص تفيدنا في تحديد رؤية الإمام (ع) لمسألة النقد، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة تعميق الروح النقدية والحس النقدي العملي على المستويين: الذاتي الداخلي، والموضوعي الخارجي، في كافة مفاصل اجتماعنا الديني العربي والإسلامي الحالي، وإعلاء كلمة العقل، وترسيخ مبدأ العقلانية الواقعية، والعمل على إيجاد تربته المناسبة. وذلك من أجل الكشف عن حقيقة أزمات([66]) الواقع المعاصر الذي نحياه ونعايشه بإيجابياته وسلبياته، وتحليل ظروفه وأحواله المختلفة، وأخذ العبر والدروس منه، بحيث يقودنا ذلك إلى ضرورة تجديد الروح الإسلامية، والعقل الإسلامي، والانفتاح على العالم والحياة، واعتماد مبدأ الاجتهاد والتجديد، والروح العلمية المجردة، والرؤية الموضوعية للذات والإنسان وللعالم بشكل دائم.

ولذلك عندما يصبح حق التدخل، والنقد والمحاسبة، والأمر بالمعروف، ومعارضة السلطة الظالمة، ومواجهة السلطان الجائر والفاسد، من الواجبات الأساسية التي يجب العمل على تركيزها في واقع الأمة وحركتها([67])، فلا يمكن الحديث بعد ذلك عن مشروع الدولة الشمولية وسلطتها المستقلة والمنفصلة عن المجتمع والأمة. أي التي تقوم على نفي أي دور لأفراد المجتمع في تداول السلطة، وعدم اعتبار الأمة مصدراً للحكم والسلطة، مما يفقد هذه السلطة شرعية الوجود في الوجدان المجتمعي الشعبي.

 إن السلطة القائمة (أية سلطة) لا تصبح شرعية في وجودها وعملها (وتحظى برضا الأمة والشعب) إلا عندما تقوم على احترام حق المجتمع في معارضة توجهاتها المختلفة، ونقد سياساتها العملية، بحيث يكون هذا الحق سلطة قانونية موازية لسلطة الدولة نفسها.

من هنا نجد أنه من الضروري جداً العمل ـ على هذا الصعيد ـ باتجاهين اثنين يكمل أحدهما الآخر، ويلازمه:

 الأول: اتجاه التأويل، أي تأويل النصوص الإسلامية لمصلحة تعزيز سلطة المجتمع وحرية الفرد والجماعة، وتثبيت حق النقض والاعتراض والتصويت والتصحيح. وحتى الثورة على الحاكم الجائر وتغييره. وما سوى ذلك من حقوق هائلة على نحو لا يخرج هذه النصوص عن دلالاتها الحية الصريحة([68]).

الثاني: تنظيم واجب التبليغ والدعوة في المجال الإجرائي والعملي، من خلال إعادة النظر في مهمة المبلغ نفسها، وذلك بالعودة إلى الينابيع والأصول التي أعطى لهذه المهمة الرسالية صفة السلطة الموازية ، وإقامتها على قاعدة الحرية والمسؤولية، وعلى مبدأ (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، بحيث يكون لكل فرد من أفراد المجتمع والأمة ـ مادام يمتلك حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ سلطة عامة هي سلطة النقد غير المحصورة، والتي تطال كل الدوائر في المجتمع وفي الدولة . وبهذا المعنى فكل فرد هو عضو فعال في السلطة، ومسؤول أمام الله والمجتمع، عليه القيام بواجب ومسؤولية ممارسة أشكال النقد والمعارضة المختلفة في كل حقول التوجيه الروحي والمادي إعلاءً لقيم الأمة وأهدافها الرسالية العليا.

من هنا نجد أهمية الربط بين الممارسات النقدية المسؤولة التي يقوم بها الدعاة والمبلغون وبين المؤسسات الأهلية القائمة في المجتمع، وما يرتبط فيها من هيئات وقوى وتيارات تناهض (وتجاهد) من أجل تحديث المجتمع السياسي، وتعميم الحريات السياسية للفرد والمجتمع، والداعية إلى مبدأ تداول السلطة وإصلاحها واسترداد شرعيتها، وإرجاعها إلى قلب الأمة. لأنَّ في هذا الربط بين مهمة المبلغ وبين المهمات الاجتماعية والسياسية الحيوية تجديداً لدور المبلغ في مجال ترسيخ الحس النقدي لدى أبناء المجتمع وممارسة حق المعارضة، واستنقاذاً لهذا الدور من هامشيته التاريخية، ووضعاً له في موضعه الطبيعي من حياة الناس وهمومهم الجدية والمصيرية.

4 ـ إن أية دعوة رسالية تستهدف ترسيخ قيم العدل والحرية والانتماء لله تعالى لابد من أن تواجه بمصاعب وتحديات جمة من قبل الكافرين والحاقدين والظالمين (تماماً كما وُجه إمامنا الرضا بأمثال هؤلاء). لذلك يجب على العاملين السائرين في هذا الطريق الصعب والطويل، أن يشعروا جدياً بأن العمل في سبيل الله يكلف صاحبه كثيراً من الدموع والدماء، وهو من ثمَّ ليس نزهة يرفه فيها عن نفسه هنا وهناك.

وبهذا المعنى لا يعود العمل الرسالي الإسلامي مجرد صرخةٍ في فضاء المساجد، أو دعوة (دينية) ساذجة خالية من أي عقل يفكر، أو إحساس يعي، أو معنى يتحرك، ولكنه ـ كما هو في مفهومه الحقيقي الأصيل ـ أن تقف في ساحة الحياة لتنظر في مواقعها وأوضاعها الظاهرة والمخفية، ولتدرس كل انحرافاتها، وتعمل على التخلص منها بوعي وثقة وثبات. ثم تنطلق بعملية المواجهة الصادقة ضد كل أنواع الظلم ومختلف نماذجه وأساليبه سواء على المستوى الفردي في علاقتك مع نفسك وعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، أو على المستوى الاجتماعي في علاقة الجماعات مع بعضها، وفي أوضاع الحكم والحاكمين، وعلاقة الحكم القائم بالشعب، وعلاقات الدول بعضها.

إنّ الإنسان الرسالي الذي يريد أن يصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من الوعي الفاعل والهادف لابد من أن يؤسس بنيانه وكيانه النفسي والعملي على تقوى الله، لكي يكون بمقدوره تحمّل كل الضغوط والمشاكل بصلابة وعزيمة، فلا ينحني أمامها بضعف واهتزاز، بل يحاول أن يقتحمها بقوة وتصميم على النصر والفوز الأكيد.

إذاً المطلوب من الإنسان الرسالي هو:

 أ ـ أن يقف مع الإنسان المستضعف والأمة المستضعفة قلباً وقالباً ووعياً وسلوكاً وحركة، فيتحسس آلام الناس المستضعفين، ويلامس معاناتهم، ويعايش قضاياهم الخاصة والعامة، و يتحمل في سبيلهم كل أنواع التحديات والمشاكل النفسية والعملية.

ب ـ أن يربي الأمة ويصوغها رسالياً وعقائدياً بالمستوى الذي تستطيع فيه أن تملك قوة الموقف، وصلابة المبدأ والإرادة لتزيل الحاكم إذا طغى، وتجبر، وظلم. وتزيله من مواقعه التي يريد الوصول من خلالها إلى مصالحه الخاصة.

ج ـ أن يمتلك ثقافة الحياة والعصر الذي يعيش فيه، ليكون قادراً على امتلاك أسس التعامل معها، بتنوعاته وأحواله وتعقيداته وتحولاته المختلفة. من أجل فهم ودراسة شروط ومناخات إدخال الإسلام إلى ذهنية العالم المعاصر بالطريقة التي تحقق له كثيراً من النتائج الإيجابية على المستوى الروحي والمفاهيمي.

وتتضاعف المسؤولية اليوم في ظل ما يعانيه هذا "الإسلام" (والاجتماع الديني العربي والإسلامي ككل) من هيمنة حركات وتيارات وتنظيمات متطرفة وتكفيرية تأخذ بالقوة كسبيل وحيد لتحقيق أهدافها وأغراضها السياسية وغير السياسية، تكفر كل الناس المخالفين لها.

ولكن يبقى الأمر الذي يبقى يلاحقنا باستمرار ـ نحن أبناء هذا العصر ـ هو أنَّ الإمام الرضا(ع ) قد طرح على نفسه أكثر من سؤال، ووضع له أكثر من جواب، ودعا إلى الإسلام الإنساني الصحيح، وقام بتأصيل ثوابته وأركانه في ذهنية الأمة بالرغم من وجود أزمات سياسية واجتماعية عاشها الرضا (ع).. ونحن نعيش هنا في ظل واقع آخر جديد يفرض نفسه علينا بقوة، ويطلب منا باستمرار أن نستجيب لتحدياته ومتغيراته لذلك علينا أن نطرح على أنفسنا كثيراً من الأسئلة العملية الواعية، لنحدد من خلالها حجم مشكلاتنا ومصاعبنا بما يساعدنا على اختيار المناهج (والإجابات) الأفضل والأمثل التي تساعدنا على تحقيق وجودنا وذاتنا الحضارية الخيرة والمعطاءة التي وضعها الله تعالى في موضع الشهود الحضاري على الآخرين.

(*) باحث وكاتب سوري.

*  هوامش البحث  *

([1]) تتجلى خطورة الطائفية في واقعنا عندما يتم تحويلها من حالة انتماء مذهبي (ديني تاريخي) إلى رابطة (وممارسة) سياسية، يدور في فلكها فريق مذهبي أو جماعة مذهبية من هنا أو هناك، تشد عصبهم، وتقوي شوكتهم، يجتمعون حولها، بحيث يتحول المذهب الديني (أو الطائفة الدينية) هويةً مغلقةً لجماعةٍ سياسية يرتبط أفرادُها بشبكةِ مصالح دنيوية تحت ستار ديني خاص. هي هي حالة انفعال سلبي بالهوية الدينية، وتفسير مذهبي ضيق ومغلق للنص الديني وتطبيقاته في حركة الواقع، يتم على أساسها تحديد المصالح والأغراض والمنافع الخاصة تحت ستار كم هائل من النصوص الخاصة، ويتم بناءً عليها قبول عضوية هذا الفرد أو ذاك فيها.

([2]) تتكشف هذه المحنة ـ بأوضح صورها ومرتكزاتها ـ بعد دراستنا المتأنّية والدقيقة لمختلف الأساليب والتوجهات العملية التي اعتمدها وسلكها الخلفاء والملوك في إدارة شؤون الحكم والخلافة الدينية والسياسية، وتحليلنا لطبيعة علاقة الحكم بالأمة، واتجاهات الرأي العام المختلفة في داخل المجتمع، وأساليب مواجهة المعارضة الموجودة التي كانت ـ كما يبدو ـ من أهم وأخطر العقبات التي بدأت تواجهها تلك السلطات الطغيانية المستبدة التي حكمت الأمة، وتحكمت بتوجهاتها ومساراتها المستقبلية على صعيد الحكم وشؤون المجتمع ومصالح الناس.

([3]) نستثني منها جزئياً فترة الانفراج القصيرة التي عاشها الإمام علي الرضا (ع) أيام حكم الخليفة المأمون (بن هارون الرشيد).

([4]) للوقوف على مواقع الهدر والتبذير، ومختلف أساليب ووسائل الإسراف وتبديد الطاقات والقدرات، يمكن مراجعة المصادر الآتية:

 ـ كتاب الأغاني للأصفهاني.

 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج: 6، ص: 293 ـ 295، دار صادر، بيروت/لبنان، طبعة عام: 1965م.

 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي، مطبعة السعادة، طبعة مصر لعام 1952، ص: 286.

 ـ مروج الذهب للمسعودي، ج: 3، ص: 316.

([5]) شكّلت الفتوحات التي قام بها المسلمون الأوائل حافزاً ودافعاً لاطلاع المجتمعات المسلمة (حديثة العهد بالفتح والانفتاح على غيرها) على عادات وتقاليد وقوانين وأساليب عيش وحياة شعوب وحضارات أخرى، بما يعني أنه كان لهذا التفاعل والاحتكاك ـ مع مواقع حضارية جديدة ـ كثير من المنافع المادية والمعنوية، على صعيد الطب والهندسة وترجمة الكتب ونقل معالم الرأسمال الرمزي لأمم أخرى إلى الحضارة الإسلامية، ولكن كان لتلك الفتوحات ـ من جهة أخرى ـ بعض النتائج والآثار السلبية على حياة المسلمين، إذ أغدقَ (هذا الانفتاح اللامتوازن على أمم ومجتمعات أخرى مختلفة في الدين واللغة والعادات) كثيراً من المغانم والموارد والأموال جعلتهم يستغرقون في حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض والقيم الأرضية والامتلاء المادي، والتصاعد الغرائزي، أسهم بصورة جدية في انهيار كثير من قيم ومعاني وتجليات الدين عندهم.

([6]) نؤكد هنا على أنّ الإمام الرضا (ع) لم يتحرك سياسياً بالمعنى الاصطلاحي الحركي الراهن للكلمة، ولكن السُّلطات السّياسية الحاكمة كانتْ تشعر بأنَّ وجود الإمام، مجرد وجوده، وظهوره في أيّ موقع من مواقع الحياة العملية (ومن دون أن يقوم بأي تحرك أو نشاط أو فعالية)، كانتْ تلك السلطات تشعر (وتعتقد) بأن مثل هذا الوجود والظهور فيه نوع من الممارسة السياسية المضادة والمخالفة لتوجهاتها السياسية وأساليبها في الحكم وإدارة الحكم. وربما يكون هذا الانفعال النفسي ـ الذي كان يعتري السلطات الحاكمة آنذاك ـ حالة وشعوراً ذاتياً صادقاً بعدم شرعية وجودها على رأس السلطة المغتصبة. لذلك فهي تخشى من هذه الشرعية الجماهيرية والامتداد الشعبي الواسع الذي كان يتمتع به الإمام الرضا (ع)، وخط أهل البيت عموماً في وجدان الناس، وتخشى أكثر من أن تتحول تلك المحبة له من واقعها الكامن إلى واقعها الحركي الفاعل.. وهذا ما كان يدفعها باستمرار إلى اتباع مختلف أساليب القمع والضرب بالحديد والنار على أي تحرُّك أو حالة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية كان يمارسها الرضا (ع) في هذا الموقع أو ذاك.

([7]) لقد استثمر الرّضا(ع ) هذا الأمر تماماً منذ البداية، إذ عدّ أنَّ في موقف المأمون ما يثبت أحقية أهل البيت (ع) بالولاية والحكم.. يقول (ع): "الحمد لله الذي حفظَ ما ضيّع الناس، ورفعَ منا ما وضعوه حتى لقد لُعنّا على منابر الكفر ثمانين عاماً، وكتمت فضائلنا، وبذلت الأموال في الكذب علينا، والله يأبى لنا إلا أن يعلي ذكرنا ويبين فضائلنا". (راجع: عيون أخبار الرضا، ج: 2، ص: 162).

([8]) كي لا يظن أحدٌ بأنّ الإمامَ (ع) ـ المشرف عموماً على جهاز الدولة ـ هو الذي يصدر القرارات، ويعطي الأوامر، ويدبر الأمور، ويتدخل في شؤون الخاصة والعامة.

([9]) راجع: عيون أخبار الرضا، 2/148 + نور الأبصار ص: 143 + الإرشاد للمفيد ص: 360 + الكافي للكليني، ج: 1، ص: 487 + روضة الواعظين، ص: 224 + أعلام الورى، ص: 320.

([10]) أنظر: تاريخ الخلفاء، ص: 102، م .س + وبحار الأنوار لباقر المجلسي، ج: 49، ص: 210.

([11]) راجع تاريخ الطبري، ج: 6، ص: 320.

([12]) رسائل أبي بَكْر الخوارزمي، (رسالته إلى شيعة نيسابور)، ص: 78، طبعة 1312هـ (1991م) + كتاب: الإمام الصادق والمذهب الأربعة للشيخ محمد رضا المظفر، ج: 1، ص: 34.

([13]) يتحدث عنه شكيب أرسلان في تعليقه على حاضر العالم الإسلامي، والتي نقلها عنه محمد بن عقيل في الصفحة 20 من كتابه "العنب الجميل" (وهو من منشورات هيئة البحوث الإسلامية في أندونيسيا): "وكان جباراً للدماء، على نمط من ملوك الشرق". وقد روى المؤرخون وكتاب السير والتراجم شيئاً كثيراً عنه، وأكدوا بغالبيتهم الغالبة على أن هارون الرشيد "كان حريصاً على اللذات المحرمة، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء، وغصب حقوق الناس، وظلم أهل البيت:، وكانت جوائزه خاصة لأهل اللهو واللعب والمغنين والراقصات..". (راجع كتابنا: الإمام الكاظم (ع)..ألق الفكر وأصالة الانتماء، مركز ودار الغدير للدراسات الإسلامية، بيروت/لبنان، طبعة أولى عام 1999، ص: 90 ـ 91).

([14]) كانَ هارون يطلع باستمرار على التفاصيل الدقيقة الخاصة بتحركات الإمام الرضا (ع) عن طريق عصابة من رجال الأمن كلّفها بمراقبته بما يعني أنه يخشاه وجودياً ومصيرياً، ويعرف حقيقته كإمام مفترض الطاعة. وقد شعر الإمام الرضا (ع) فأرادَ التخلص من ذلك، فمضى ذات مرة إلى السوق واشترى ديكاً وكلباً وشاة، ووصل الخبر إلى هارون، فانشرحَ صدره، وظن بأنه قد استراح من ناحية الإمام (ع)، وأنه (ع) ليس أهلاً أنْ يقوم بأي تحرّك ضده، عند ذلك أمر هارون رجاله بالتوقف عن مراقبته. (راجع: سفينة البحار، ج: 12، ص: 32).

([15]) يقصد بمصطلح "العلوية" هنا الانتماء الديني إلى خط ومذهب أهل البيت (ع)، وهو خط ونهج الإمام علي وسائر الأئمة (ع)، أي هو المنهج الفكري والديني الذي يقدم الإمام علي بن أبي طالب على سائر الخلفاء والصحابة، ويعتبره خليفة وأميراً للمؤمنين بنص القرآن والسنة.. وليس للمصطلح أي دلالة على طائفة دينية بعينها.

([16]) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا2/161.

([17]) ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة.. ص: 245.

([18]) كان الأمين (الولد المدلل لأمه ومربيته زبيدة بنت جعفر بن المنصور الدوانيقي التي ربته على حب الجاه والعز الفارغ) قبيح السيرة، وضعيف الرأي، سفاكاً للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الأمور على غيره.. ولم يكن منشغلاً بشيء أكثر من انشغاله بالشراب والنساء، وعمله بالخصيان. ووجّه إلى البلدان في طلب الملهين واستخف حتى بوزرائه وأهل بيته. (راجع: البنية والإشراف ص: 302. + تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 201 + الكامل في التاريخ لابن الأثير + مختصر تاريخ الدول ص 134 + مآثر الأناقة للقلقشندي1/204. + تاريخ الطبري..إلخ.. ويكفي الأمين ما ذُكر عنه من قبل الطبري، وكذلك ابن الأثير الجزي في الكتابين الموسومين أخبار الدول ص 134، والآداب السلطانية ص 212، إذْ قال " أنه لم يجد للأمين شيئاً في سيرته يستحسنه، فيذكره..." .

([19]) كانت أيام الأمين على الناس أيام حروب ودمار وويلات وسلب ونهب وقتل وتشرد.. الخ.

([20]) من الجائز أن يكون اجتماع وتضافر تلك العناصر والظروف قد أسهم ـ إلى حد كبير ـ في دفع الأمين عن الإمام الرضا (ع)، وانصراف جهاز حكمه عن التدقيق عليه ومراقبته، وتتبع آثاره، وملاحقته في كل مكان، كما كان يفعل أسلافه من ملوك (وطواغيت) الملك العضوض.. وهو أمرٌ كان يسمح للإمام (ع) بالمباشرة العملية في الدعوة إلى قيم الإسلام الأصيل، ونشر مبادئ الأئمة  : ونهجهم  في ذلك المناخ العصيب.

([21]) عرف عن المأمون دهاؤه، وحنكته السياسية، وقدرته على التلون والمجاملة. جاء في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه (1/123): "بيّن المأمون للفضل بن سهل أن أخاه الأمين كان يستطيع أن ينتصر عليه، لو أنه أرسل إلى أهل البلاد التي يحكمها يخبرهم: أنه قد رفع عنهم الخراج في سنة (كذا) من السنين فحينئذ، إن لم يقبل المأمون، قامت الدنيا ضده، وإن قبل لم يجد ما يعطي الجند، فيقومون ضده وفي كلا الحالتين يكون النصر للأمين، لو وقعت بينهم الحرب. فحمد الفضل ربه على أنه لم يهتد للأمين، وأتباعه إلى هذا الرأي".

([22]) اعتاد المأمون على اتباع مختلف وسائل وأساليب التصفية والقتل المنظم ضد كل شخص يشعر (المأمون) بأنه يشكل خطراً على مصالحه وعرشه. وقد رأينا كيف قتل الفضل، وبكى عليه. ثم قتل أخاه الأمين. وهكذا اغتال الإمام الرضا(ع ) ثم بكى عليه بكاءً شديداً، و.. الخ.. مما يدل على دهائه ومكره الشديدين. وبالرغم من كل ذلك فقد كان يطلب من الفضل باستمرار أن يشيع عنه الزهد والتقوى والورع، ففعل. (راجع: تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان 4/261). وبالإضافة إلى ذلك كان المأمون ولعاً باللهو، والمتع، والملذات، والتبذير، وشرب الخمر. (راجع: العقد الفريد، ج: 3، ص: 254 + الحضارة الإسلامية لجاك س. ريسلر، ص: 108).

([23]) كان الإمام الرضا (ع) واعياً ومدركاً تمام الإدراك ـ كما قلنا ـ لطبيعة نوايا المأمون ودوافعه. وقد تحدث عن ذلك إلى بعض أصحابه قائلاً: "لا تغتروا بقوله، فما يقتلني والله غيره، ولكنه لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله". (راجع: عيون أخبار الرضا، ج: 2، ص: 183 + سفينة البحار، ج: 49/ص: 189).

([24]) عيون أخبار الرضا، ج: 1، ص:152.

([25]) لا يوجد سببٌ تافه عند المأمون وأمثاله من فراعنة وطواغيت الحُكم السّلطوي في تاريخنا الإسلامي، ولذلك لم يكنْ يتورّع عن ارتكاب أي عمل قبيح وشنيع وظالم ضد أصغر الناس أو أعظمهم إذا شعر (مجرد شعور بسيط) بأنهم يمكن أن يشكلوا خطراً حقيقياً وجدياً على مصالحه وسياساته في المستقبل.

([26]) يقول أحمد بن علي الأنصاري، سألت أبا الصّلت الهروي فقلت له: "كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا (ع) مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟! فقال: "إنّ المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه راغب في الدنيا فيسقط محله في نفوسهم، فلما لم يظهر في ذلك منه للناس إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحداً منهم، فيسقط محله عند العلماء، ويشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من اليهود أو النصارى والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ـ ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين ـ إلا قطعه وألزمه الحجة، وكان الناس يقولون: "والله إنه أولى بالخلافة من المأمون، وكان أصحاب الأخبار يرفضون ذلك إليه فينغاظ، ويشتد حسده له، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله ، فقتله بالسم". (راجع عيون أخبار الرضا، ج: 1، ص: 265).

([27]) عيون أخبار الرضا، ج: 1، ص: 126، مصدر سابق.

([28]) لقد أدى ذلك في مرات كثيرة جداً إلى قيام الرضا (ع) بنقد سوء تصرف المأمون بشؤون العباد البلاد. يقول أبو الصلت: "وكان الرضا (ع) لا يحابي المأمون من حق، وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله، فيغيظه ذلك ويحقد عليه ولا يظهر له. ولما أعيته الحيلة قتله بالسم" (بحار الأنوار، 49/135. ومسند الإمام1/77. وعيون الأخبار2 /153). أما الشيخ المفيد فقد أورد في إرشاده، ص: 315، أمثلة عدّة عن مواعظ ونقديات الرضا (ع) للمأمون. حتى أنه (ع) قال له ذات مرة: " اتقِ الله في أمة محمد (ص) وفكر في إصلاح أمرهم"(راجع مسند الإمام، 1/74).

([29]) كتاب الكافي للكليني، ج: 1، ص: 490 + عيون الأخبار، ج: 2، ص: 265 + روضة الواعظين، ص: 277.

([30]) كان من أبرز هذه الثورات التي حدثت في عهد الإمام الرضا (ع):

أ ـ ثورة ابن طباطبا عام 200 هـ التي اجتمع حول قائدها أنصار وجيش كبير قوامه عشرة آلاف مقاتل، دخلوا مع العباسيين في معارك ومناوشات عدّة انتهت بنتائج مأساوية خطيرة. حيث قتل قائد الثورة وحمل رأسه إلى المأمون، ونصبت جثته على جسر بغداد بعد أن دامت حركته مدة عشرة أشهر فقط. (راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير، 6/302، ومقاتل الطالبين للأصفهاني، ص: 531).

ب ـ ثورة محمد بن الإمام جعفر الصادق (ع) بالمدينة المنورة. (راجع: مقاتل الطالبين، ص: 534).

ج ـ حركة إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (ع). (راجع: مقاتل الطالبين، ص: 534 + الكامل في التاريخ، ج: 6، ص: 300).

([31]) لم يُظهر الإمام الرضا (ع) ـ مع ماله من مقام ديني وسياسي واجتماعي رفيع ومرموق ـ أي تحرك، ولم يعلن رأيه الصريح أمام الناس بشأن تلك الثورات، لأنه كان يعلم مسبقاً بطبيعة النتائج التي ستؤول إليها تلك الحركات. وهذا الأمر لم يكن يعني عند الإمام الرضا (ع) عدم العمل والتحرك لمواجهة واقع الظلم والفساد الذي كان سائداً في عصره، لكنه كان ينظر إلى الأمور والقضايا الحياتية بعين ثاقبة (ومن منظور مختلف تماماً عن نظرة الآخرين) وعقل حركي واع لحقائق الأشياء وخلفيات المسائل والأمور، خصوصاً ما كان يتصل منها بطبيعة الأجواء والظروف السياسية والاجتماعية العامة المسيطرة آنذاك، والتي لم تكن مهيأة قطعاً للدخول إلى مواقع العمل الحركي الميداني، وإعلان الثورة بوجه الحكومات العباسية الظالمة. ولهذا السبب كان المأمون يخاف الرضا (ع) ويخشاه جداً إلى درجة الفزع والرعب (نظراً لحركية الإمام العميقة الصامتة) تماماً كما هي حالة غيره من الطغاة والحكام الظلمة عندما يصلون إلى الحكم بطرق وأساليب دموية غير شرعية.

([32]) أثارت هذه الخطوة من المأمون الدهشة والحيرة والسخط لدى العائلة العباسية، ووصل أمرها مع المأمون إلى حد إعلان بعض أفراد العائلة الثورة ضد المأمون، ومبايعتهم لعم المأمون (إبراهيم بن المهدي). لكن ذلك لم يستمر طويلاً بسبب ظهور الأمور وانكشافها على حقيقتها، عندما رد المأمون على هؤلاء، وصارحهم ببواطن الأمور، قائلاً: "أما ما كنت أردت من البيعة لعلي بن موسى الرضا (ع) فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم، وإن تزعموا أنني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم ، وأنتم ساهون لاهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد لكم". إنه يؤكد لهم استمرارية الخلافة في أبناء العباس، والدفاع عنها، والوقوف في وجهه المضاعفات والمؤامرات التي كانت تحاك ضده. (راجع: سيرة الأئمة الإثني عشر للحسني 2/384 نقلاً عن البحار).

([33]) قيل إن الأمر قد اقتصر على الفضل بن سهل، وشقيقه الحسن.

([34]) راجع بهذا الخصوص رواية علل الشرائع، ومقاتل الطالبين، ص: 562 ـ 567 .

([35]) استدعى المأمون الإمام الرضا (ع) إلى خراسان لعرض الولاية عليه.. وبعد مراسلات ومكاتبات تدل على رفض الإمام لهذا الأمر، لم يجد الرضا (ع) بداً من تلبية دعوة المأمون فور المضي إلى خراسان، وفعلاً غادر (ع) بيت الله متوجهاً إلى خراسان، وكان يُقابل في كل مدينة أو بلد ينزل بها بمنتهى الحفاوة والتقدير والإجلال. وعندما مر بمدينة نيسابور أحاط به علماء كثر، وعندما رآه الناس المحتشدون وهو بتلك الهيبة والرزانة التي تحكي هيئة جدة رسول الله (ص) تعالت أصواتهم بالتهليل والتكبير مشفوعة بالأسى والبكاء، وقد ضجت البقعة بالبكاء، فنادى العلماء والحفاظ: (معاشر الناس أنصتوا وعوا ولا تأذوا رسول الله في عترته). وألقى الإمام (ع) على العلماء حديثاً شريفاً (الحديث الذهبي) فقال:" سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي قول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين يقول: سمعت النبي (ص ) يقول: لا إله إلا الله حصّني فمن دخل حصني أمن من عذابي". ولما مرت الراحلة نادى أهل نيسابور فقال: "ولكن بشروطها، وأنا من شروطها". (راجع: عيون أخبار الرضا (ع)، ج: 2، ص: 135. ويقال بأنه كتبَ هذا الحديثُ ما ينيف على عشرين ألف من العلماء والحفاظ). ثم بعد ذلك وصلت القافلة إلى خراسان، وأمر المأمون باستقبال الرضا (ع) استقبالاً رسمياً حافلاً. وكان هو ـ وكبار المسؤولين وقادة الجيوش ـ في مقدمة المستقبلين. فصافح الإمام بحرارة، وخصص له داراً فخمة، وعني به عناية فائقة.

([36]) البداية والنهاية، ج: 10، ص: 250 + ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، ص: 384 + الآداب السلطانية ص: 217.

([37]) عيون أخبار الرضا، ج: 2، ص: 149 + بحار الأنوار، ج: 49، ص: 134.

([38]) مقاتل الطالبيين لابن شهرآشوب، ص: 562 ـ 563، + إرشاد الشيخ المفيد، ص: 310.

([39]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهراشوب4/363، + عيون أخبار الرضا 2/140، + آمال الصدوق، ص: 42، علل الشرائع، ج: 1، ص: 238... إلخ.

([40]) علل الشرائع: 1/231 + البحار 49/130 + روضة الواعظين 1/268 + آمالي الصدوق ص 72.. الخ.

([41]) ضحى الإسلام، ج: 3، ص: 294.

([42]) ينابيع المودة ص: 284.

([43]) إثبات الوصية ص 205.

([44]) عيون أخبار الرضا (ع)، ج: 1، ص: 19. ويمكن مراجعة نص الوثيقة في مصادر تاريخية كثيرة من أهمها: صبح الأعشى للقلقشندي، ج: 9، ص: 391 ـ 393 + مآثر الأنافة في معالم الخلافة، ج: 2، ص: 325 ـ 336 + الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، ص: 293 + مسند الرضا (ع)، ج: 1، ص: 102 ـ 107 + سفينة البحار، ج: 49، ص: 148 ـ 158. بالإضافة إلى المناقب، وتذكرة الخواص لابن الجوزي، والمجالس الشيعية، وو.. إلخ.

([45]) أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص: 564، الإرشاد، ص:311.

([46]) ذكر المدائني أنه لما جلس الرضا في ذلك المجلس بجانب المأمون وهو لابس تلك الخلع والخطباء يتكلمون، وتلك الألوية تخفق على رأسه، نظر أبو الحسن الرضا (ع) إلى بعض جواريه الحاضرين ممن كان يختص به، وقد داخله من السرور ما لا عليه يزيد، وذلك لما رأى، فأشار إليه الرضا (ع) فدنا منه وقال له في أذنه سراً "لا تشغل قلبك بشيء مما ترى في هذا الأمر، ولا تستبشر فإنه لا يتم".

([47]) مقاتل الطالبيين، ص 564. وفي رحاب أهل البيت للسيد محسن الأمين 4/121. والإرشاد للشيخ المفيد ص 311.

([48]) مؤسسة البلاغة، ج: 2، ص: 471.

([49]) ذكرنا سابقاً ـ في أحد الهوامش ـ رد فعل العباسيين على بيعة الإمام (ع)، عندما قاموا بمبايعة إبراهيم ابن الخليفة المهدي ولياً للعهد، وقد كانَ هذا الرجل معروفاً بولعه الشديد للغناء والطرب وحسن المنادمة. (راجع: ابن الأثير6/327، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/39، و3/270).

([50]) جاء في كتاب نثر الدرر "أن المأمون قال للرضا (ع): يا أبا الحسن أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) بأي وجه هو قسيم الجنة والنار، فقال (ع): "يا أمير المؤمنين ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد الله بن عباس أنه قال: "سمعت رسول الله (ص) يقول: "حب علي إيمان وبغضه كفر"، قال: بلى، قال الرضا (ع): "بذلك كان قسيم الجنة والنار"، قال له المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن أشهد أنك وارث علم رسول الله (ص). (راجع: سيرة الأئمة الحسني، ج: 2، ص: 402).

([51]) نحن لا نقصد من خلال استخدامنا لكلمة "الشخصي" هنا أن الإمام(ع )كان يهدف من وراء عمله العلمي إلى بناء مجد شخصي على حساب الإسلام والمسلمين، ولكن نريد بذلك أن نؤكد أن هذه المناظرات والندوات (التي كانت تعقد باستمرار خلال ولايته للعهد ويحضرها علماء ومفكرون وفلاسفة من مختلف الانتماءات والمشارب الفكرية والأيديولوجية) قد قدمته (ع) بصفة حامل لواء مشروع ونهج ثقافي ومعرفي كبير، يرتكز على مبادئ وقواعد الإيمان الديني الإسلامي، وأبرزته كقائد رسالي فذ استطاع أن ينفع الناس بالإسلام (أكثر مما انتفع هو) من خلال وجوده الشخصي كولي للعهد بالرغم من رفضه المطلق لهذه الولاية (الشكلية).

([52]) راجع: سيرة الأئمة للحسيني، ج: 2، ص: 460.

([53]) هذا المنطق ـ الرافض بالمطلق إعطاء أي شرعية تغطي أنظمة الاستبداد والظلم والفساد والإفساد في أي زمان ومكان ـ لم يكن يعني بالضرورة عدم وجود استثناءات أو بدائل واقعية لكيفية التعامل مع أولئك الظلمة بما يضمن المحافظة على الخطوط الإسلامية الأساسية.

([54]) وسائل الشيعة للحر العاملي، ج: 6، ص: 138.

([55]) انظر: الاستبصار للشيخ الطوسي، ج: 6، ص: 333، والذي يجدر ذكره هنا هو أن هذا الحديث نفسه ينسب للإمام موسى الكاظم (ع).

([56]) عيون الأخبار2/66.

([57]) جاء في رواية العيون عن محمد بن يزيد النحوي عن أبيه أنه قال: إن المأمون وهب جرم زيد بن موسى إلى أخيه الرضا 7 وقال له: يا أبا الحسن لأن خرج أخوك وفعل ما فعل، فلقد خرج قبله زيد بن علي وقتل، ولولا مكانك مني لقتلتك، فليس ما أتاه بصغير. فقال الإمام الرضا (ع): "يا أمير المؤمنين لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي بن الحسين فإنه من علماء آل محمد (ص) ، غضب لله عز وجل، فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: "رحم الله عمي زيداً، أنه دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، ولقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عم إن رضيت أن تكون المقتول بالكناسة فشأنك، فلما ولي قال جعفر بن محمد: ويل لمن سمع داعيته فلم يجبه"، فقال له المأمون: يا أبا الحسن أليس قد جاء فيما أدعى الإمامة بغير حقها ما جاء، فقال الإمام الرضا (ع): "إنّ زيد بن علي لم يدعي ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى لله من ذلك، إنه قال: "أدعوكم إلى الضامن من آل محمد، وكان زيد والله ممن خطب بهذه الآية: }وجاهدوا في سبيل حق جهاده هو اجتباكم{". (راجع: سيرة الأئمة للحسني، ج: 2، ص: 401). ونلاحظ بعد دراسة هذه الرواية أن الإمام (ع) يركز على معنى الثورة الواعية المستنيرة التي تقوم على أساس وجود أهداف رسالية إسلامية واضحة، وتمارس أعمالاً شرعية منظمة (نموذج ثورة زيد بن علي) ويدافع (ع) عنها بقوة، ويعدّها ثورة تقوى لله.

([58]) سيرة الأئمة للحسني، ج: 2، ص: 398.

([59]) لقد كانت معظم تلك الثورات انفعالية ساذجة ومليئة بالتناقضات الذاتية حتى من قبل قواعدها الشعبية الملتزمة بها، ولذلك كانت النتائج التي أدت إليها هذه الثورات سلبية و أحياناً كارثية، ولم تقدم أية خدمة للمجتمع. وبطبيعة الحال يعود سبب إخفاق معظم تلك الثورات ـ في وعيها وسلوكها ـ إلى انعدام الإدراك الكامل، والوعي الموضوعي الواقعي بأهداف الدولة الإسلامية وغاياتها والإيمان بواقعيتها وأهميتها التاريخية.

([60]) راجع بعض أعماله وتجاوزاته ـ وروايات أخرى عنه ـ في كتاب: سيرة الأئمة للسيد محمد معروف الحسني، ج: 2، ص: 396.

([61]) قلنا بأن الأئمة (ع) كانوا ـ من جهة أولى ـ ينهون بشدة عن التعاون والتقارب مع الجهاز السياسي (وغير السياسي) الحاكم لبني أمية وبني العباس.. على حين كانوا ـ من جهة ثانية ـ يعطون رخصاً شرعية لبعض الأفراد تقضي بالإمضاء والموافقة على انخراطهم في جهاز هذه الدولة أو تلك، من أجل تحقيق بعض المصالح والأهداف الإسلامية العليا المتصلة بمصير وجود الأمة، ومحاولة تخفيف بعض المظالم والشرور عن كاهل المجتمع الإسلامي. ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: علي بن يقطين، أو إسماعيل بن بزيع.. حيث توجد روايات وأقوال كثيرة تمدح وتثني على أداء هذين العاملين في خط الله، وأمثالهما من قبيل أن هؤلاء "من أولياء الله الأول". ولزيادة الاطلاع على موضوعة "ولاية الجائر" يمكن مراجعة كتاب المكاسب للأنصاري.

([62]) مطهري، مرتضى. "سيرة الأئمة (ع)". دار الهادي، بيروت/لبنان، طبعة ثانية لعام 2003م، ص: 187.

([63]) إننا نعتقد أنه من الضروري والمفيد جداً لحركية الإسلام أنْ ينفتح الفقيه المسلم على شؤون المجتمع وقضاياه كلّها، ويتصل بكل امتداداته الخاصة والعامة. لأنَّ ذلك هو الذي يمكن له أنْ يحمي المبادئ والقضايا الأساسية العامة من الذاتية والتفرد، ويعطي للفقيه مساحة واسعة، ورؤية شاملة للواقع بما يؤهله أكثر لاتخاذ المواقف الأكثر عقلانية وصوابية والأكثر قرباً من الحقيقة، وبما يحميه من الوقوع في الخطأ عند إصدار الفتوى أيضاً. كما أنه يحمل الأمة مسؤولية قراراتها المرتبطة بالفقيه والمرجع من خلال مشاركتها معه في صنع هذه القرارات.

([64]) تعدّ مشكلة القبلية السياسية والثقافية المسيطرة عندنا من أهم المشاكل القائمة المزمنة، وهي تؤدي إلى تكريس وجود العلاقات الأنانية والمصالح الانتفاعية الشخصية، وغياب إرادة الإصلاح والتغيير.. وقد كان من أهم أسباب نزول الدين الإسلامي هو من أجل محاربة مفاهيم القبيلة وإسقاط عقلية القبلية والطغيان السياسي باعتبارها من أشرس الظواهر المرضية التي لا تزال تفعل فعلها السلبي في داخل اجتماعنا الديني والسياسي العربي والإسلامي.

([65]) راجع أصول الكافي: 2/203، والاختصاص للشيخ المفيد باب: 4، ص: 51. وقد يظن بعضهم أنّ هذا الحديث مختص بالجانب العاطفي الوجداني (النفسي) من حياة الإنسان، لأنه يحضه على التزام النقد والمحاسبة على صعيده الذاتي فقط، ولكننا نؤكد ـ بالرغم من اعتقادنا بالصحة النسبية لهذا الرأي الذي يتم تداوله في بعض الأوساط التي تعدّ أن الدين (الإسلامي خصوصاً) هو مجرد علاقة روحية بين العبد وخالقه، ولا علاقة له بالحياة والواقع ـ نؤكد على أنَّ المراد منه أيضا ًممارسة الإعداد الروحي والبناء الأخلاقي الإسلامي المتين ،وتوعية الإنسان المسلم، كجزء أساسي من مسيرته التكاملية نحو تمثل قيم الإسلام في الحق والعدل والمساواة، وتحقيق تشريعاته ومبادئه في الحياة كلها، في السياسة والاجتماع والاقتصاد و.. الخ. فبناء النفس وتنمية الروح (والأخلاق المعنوية الذاتية) هو أساس بناء الواقع الخارجي وتنميته، ليكون من ثمَّ تغيير ما بالنفس هو الأساس لتغيير ما بالواقع. من هنا جاء تركيز الإسلام على ضرورة تعميق منهج وخط الإعداد الروحي عند الإنسان المسلم (الجهاد الأكبر) ليكون ذلك مقدمة لازمة حيوية لتغيير الحياة والواقع في الاتجاه الذي يحقق كرامة الإنسان وعدالة الوجود.

([66]) أكدنا دائماً على أنَّ سيطرة العقلية القبلية على قطاعات واسعة من أجهزة الحكم السياسي العربي والإسلامي بكل أجوائه وامتداداته، تشكل إحدى أهم المسببات والدوافع الرئيسية لأزمات واقعنا المتلاحقة التي تكبله وتمنعه من الانطلاق نحو مواقع العمل والإنتاج والتصاعد الحضاري، وترهن وجوده لصالح نزعات طغيانية ذاتية ليس لأصحابها من هم سوى تكريس مصالحهم وأهوائهم وامتيازاتهم، على حساب الدولة والأمة ككل. ويبدو أن جذور هذه الأزمات العربية والإسلامية ـ التي تعصف بمجتمعاتنا الإسلامية اليوم ـ تمتد إلى زمن بعيد نسبياً منذ سيطرة عقلية القبيلة والملك العضوض على فكر الدول العربية الإسلامية ونهجها.. وقد أفضت تلك العقلية حالياً إلى بناء مجتمعات عربية حديثة مشوهة غير قادرة على النهوض من تخلفها وسباتها التاريخي الطويل. والأمل الوحيد المتبقي أمامها للخروج من هذه الأزمة العميقة (وحداثتها المزيفة الكسيحة) هو في البدء بتوجيه معاول النقد الموضوعي إلى الجذور النفسية والفكرية التي أنتجت وولدت هذه الحداثة، وتهيئة شروط جديدة لتجاوزها، والخروج من أخطارها العقيمة. والواجب يقتضي منا ـ في هذا المجال ـ العمل على إنجاز ما يأتي:

1 ـ نقد الدولة الوطنية الحديثة بالذات في مفهومها، ومصدر قيمها.

2 ـ نقد عقيدة ارتباط التقدم التاريخي بالدولة.

3 ـ نقد فكرة تعظيم دور الطليعة الحزبية المغلقة، والإدارات القائمة، وفضح تضخيمها لأجهزة القمع والضبط والردع والكبت، بوسائلها الخاصة والعامة التي أصبحت استراتيجية سياسية وثقافية عامة للدولة الوطنية (والقومية) العربية الحديثة.

([67]) العلامة السيد: محمد حسن الأمين، مجلة الشاهد عدد:100، ص:80.

([68]) لقد حصرت السلطات السياسية القائمة في عالمنا الإسلامي (منذ تاريخها الماضي وحتى الآن) مهمة التبليغ بأشخاص قامت بتعيينهم بمراسيم قانونية، وخصصت لهم رواتب من خزينتها، ونظمت لهم مجالات العمل والدعوة والتبليغ. وقد أدى ذلك إلى تقليص الشعور لدى الأفراد والجماعات بواجب المشاركة في نشر الدعوة والقيام بمهمة التبليغ والنقد، ومن ثمَّ تراجع حس المسؤولية الفردية والمجتمعية تجاه انحرافات هذه السلطة ومؤسساتها وأشخاصها عن نهج الإسلام وقيمه ومبادئه. فصار الوعظ ترفاً، والواعظ موظفاً عند السلطة السياسية وخادماً لها، ومنفذاً لسياساتها (وأحياناً كثيرة مدافعاً عن صنميتها وتغوّلها). ولعل التقليد الذي زرعه النظام الأموي على يد معاوية في داخل الاتجاه التبليغي السلطوي ـ إذا صح التعبير ـ في تكريس فقرة من خطبة الجمعة للنيل من الإمام علي بن أبي طالب، وشتمه علناً على امتداد حقبة طويلة من العصر الأموي، وتعميم ذلك على امتداد رقعة العالم الإسلامي، هو أبلغ دليل على العلاقة العضوية بين مشروع تنظيم الوعظ، والهدف السياسي النفعي (الذرائعي) لهذا التنظيم. وقد أفضى هذا الإجراء (إجراء تحويل التبليغ والنقد والدعوة إلى وظيفة ومهنة خاصة للسلطة السياسية نفسها) إلى تعطيل سلطة المجتمع وانحصار ممارسة الواقع السياسي بأشخاص ورموز السلطة القائمة، وانفصال الدولة عن الأمة. ولا يزال هذا الانفصال مكرساً وقائماً حتى عصرنا الراهن. ويبدو لنا أن السجال الدائر حالياً حول مفهوم الشورى والديمقراطية (وما يتفرع عنهما من حقوق النقد والمعارضة وتداول السلطة وحق تشكيل الأحزاب والإعلام الحر وو.. الخ) ليس إلا مظهراً لحسرة مكبوتة وكامنة في وجدان إنساننا العربي والمسلم.. وهي حسرة أننا كنا من أوائل من عمل على الإسهام في بناء وإطلاق وتأسيس هذا النموذج السياسي (المدني) القائم على قاعدة ترسيخ حق النقض والمساءلة والاعتراض، ثم لم نعمل به، بل بقي صامتاً طوال قرون طويلة. وهنا يجب إلا ننسى أن مشروع السلطة التاريخي الذي نجح في إنجاز فصل السلطة عن المجتمع، والإبقاء على النموذج السابق طي الكتمان العملي ـ إذا صح التعبير ـ لم يمنع المجتمع من ممارسة واتباع أساليب مختلفة للتعبير عن رفضه الحاسم لتلك السياسات الظالمة. وما الممانعات المضيئة على صورة الثورات الانتفاضات (ومن أبرزها ثورة الإمام الحسين) في وجه استبداد السلطة عبر تاريخنا، سوى ثمرة من ثمار تلك المعطيات المشار إليه