البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمة الحق

الباحث :  الشيخ ضياء الدين زين الدين
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  12
السنة :  السنة الرابعة - شهر رمضان 1438هـ / 2017م
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  854
تحميل  ( 470.737 KB )
الملاحظ أن كثيراً من الآيات القرآنية الواردة في التزام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد على عنصر الحق فيه، وفي اصطفائه رسولاً من الله ـ سبحانه ـ ، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بعث بالحق وبدينه بشيراً ونذيراً، ومن أجل إقامته بين الناس، والصدع بحجته، والهداية إليه في هذه الحياة الدنيا.

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾.

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾([1]).

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾([2]).. وما سوى ذلك.

وقد لاحظنا سابقاً أن عنصر الحق هذا، مما التزمه القرآن لنفسه من سمات السموّ والرفعة أيضاً، كما قرأناه في كثيرٍ من الآيات التي مرّت في البحوث المتقدمة.

﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾([3]).
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾([4]).
﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ ﴾([5]).

وقد أخبر القرآن ـ فضلاً عن هذا الالتزام ـ أن الحق هو الأساس الذي بني عليه وجود الكائنات كلها، وعليه قامت جميع السنن العامة التي تحكمها.

﴿ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾([6]).
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾([7]).

ويؤكد القرآن على أن سمة الحق هذه، ـ وفي مبدئها الأول ـ ، إنما هي من مجالي الكمال الإلهي نفسه، وأن الحق من أسماء الله (تعالى)، الذي خلق الكون، وبعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنزل القرآن..

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾([8]).
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ ([9]).

ومن المعلوم أن هذا التسلسل الرابط بين رسالة محمد والقرآن ـ من جهة ـ، وما بينهما وبين الكون كله من ـ جهة ثانية ـ ، وما بين محمد والقرآن والكون والكمال الإلهي ـ من جهة ثالثة ـ ، له دلالته الكبرى والواضحة في توحيد ما بين هذه الأمور في أنفسها، ـ أولاً ـ ، وما بينها وبين مقتضيات الكمال الإلهي ـ ثانياً.

فهذا الربط يعني ـ فيما يعنيه ـ أن رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما صدع به من أمر الله، وما بلّغه من أحكامه ومناهجه، إنما هي ـ كما هو الأمر مع حقائق القرآن نفسه ـ امتداد لمظاهر التكوين وسننه، تلك التي يقوم عليها نظام الخلق في واقع الإنسان وحياته، وهي ـ كأي سنة تكوينية أخرى ـ مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية، التي أعدّت كل شيء لغايته، وأمدت كل شيء بأسباب كماله، وأوفت لكل شيء بما يغني حاجته.
نعم، وقد تجلّت تلك الحكمة الإلهية بشخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسالته العظمى، كما تجلّت غاياتـها في صدعـه بالقرآن، وإبلاغه لحجة الله (تعالى) بين العباد، فهذه هي المهمّة الكبرى التي أنيط بها انتجابة رسولاً لله في هذه الأرض ـ كما هو واضح ـ .

ومن الطبيعي أن يقوم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمهمته هذه، من خلال ما يحمله في نفسه من عناصر الاختيار الإنساني، وعلمه بالأمور، وشعوره بضرورات الحياة، وإرادته لأفضل السبل التي يتوصّل بها للوفاء بهذه المهمة.
وهنا يتجلّى الإعجاز في تلك الشخصية العظمى، وفي الرسالة الإسلامية الخالدة، وشرائعها القويمة، ولا في حدود الأبعاد الإنسانية، وواقعها المعاش فحسب، وإنما في جميع مظاهر التكوين أيضاً، فموقع الإنسان هو الأرفع بين تلك المظاهر ـ كما نعلم ـ ، ومن أجل الإنسان سخّرت سننها ومجرياتها كافّة.

ومن هنا كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المظهر الأسمى لتمام كلمة الله العليا، واكتمالها صدقاً وعدلاً..
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾([10]).

إذن فموارد الإعجاز التي تجلّت في مخلوقات الله كلها، وفي سننها التي تبلغ بها كمالها الأعلى..

.. وموارد الإعجاز التي تجلّت في القرآن وفي حقائقه، ونظمه، ومناهجه كافة.

.. هذه الموارد نفسها تتجلى في جميع أصول شخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومظاهرها، وأقوال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وافعاله، وما صدع به من حجة، وما قدّمه من بيان، وما اتخذه من قرار أو موقف.
وها هي كلمات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله، وها هي براهينه وشريعته، وها هو تأريخ حياته، كلها شواهد قائمة على هذا الإعجاز، في مختلف آفاق الحياة الإنسانية، سواء في عالم الفكر، أم في عالم السلوك، وللمرء أن يرجع إلى مصادر هذه الحياة المباركة وكتب الرواية، ومصادر الحديث الصحيحة، ليكون على إطلاع كاف بآفاق هذا الاعجاز، حين يرغب بمزيد المعرفة، حيث لا يمكننا هنا أن نستوفي شيئاً من هذه الأمور من تأريخ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلماته في هذا الحديث المختصر.

دور رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحياة:
مما يستوقف النظر في الآيات الكريمة السابقة، وغيرها مما عرض لشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنها توثق ما بين السمات العامة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته ودورها في الحياة البشرية ـ من جهة ـ ، والسمات التي أعطاها القرآن لنفسه، ولدوره في هذه الحياة، ليقيم محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته في نفسه الموقع الذي أعدّه لنفسه، ولدوره في غايات الحكمة الإلهية، ومقتضياتها، سواء في الملامح التي جعلت له، أم في النتائج التي تترتب عليه، سواء في هذه الدنيا أم في الآخرة.

ونحن نختار بعدين اثنين من أبعاد هذه السمات العامة، لهما أهميتهما في وضوح ملامح شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه مصطفى لله (تعالى)، وفي رسالته، كما أن لهما آثارهما الكبرى في الحياة الإنسانية، وفي التدبر القرآني أيضاً..

أحدهما: سعة هذا الدور العظيم:
وقد علمنا أنه دور واسع، يستوعب البشرية كلّها، على امتداد زمانها، ومكانها، حتى آخر فرد يحيا على وجه هذه الأرض.
وهذه السعة الشاملة، والامتداد الأبدي يعدّان من بدهيات الإسلام الأولى، ويجب أن تبرز في كل حقيقة إسلامية ـ بما فيها القرآن نفسه ـ ، ومظاهر الاصطفاء الإلهي من الناس للقوامة على أمره.

ولا ريب في أن هذه السعة تعدّ من الشرائط الإعجازية في الإسلام، وفي حقائقه كلها، حيث لا يمكن أن يرقى إلى هذا المستوى أحد من الناس بمفرده، من دون رعاية إلهية خاصة، كما لاحظناه بوضوح، وبشيء من التفصيل في الشرائط العامة للشواهد القرآنية، حيث قرأنا بعض نصوصه من القرآن والسنة الشريفة، كما في قوله (تعالى):

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ ﴾.
﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾.

ثانيهما: واقعية السمو في شخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
ولابد من أن يتّسم هذا السمو في شخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالواقعية ـ بما ذكرناه للواقعية الإسلامية والقرآنية من مفهوم وحدود ـ ، حيث تتجسّد به جميع مثل الإسلام، وقيمه الكبرى، كما تتجسّد به حقائق القرآن، ومفاهيمه المثلى، التي هي ـ في الوقت نفسه ـ مظاهر لحكمة الله (جل وعلا)، ومقتضياتها في الايجاد والتكوين.

كما تتجسد به ـ كذلك ـ واقعية السمو الذي تتسم به رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بين عالم الأديان والمذاهب، فهي هدى الله للإنسان، وسننه في عالم الاختيار، والإرادة الإنسانيين، حيث تتجلى عناية المولى ـ سبحانه ـ بهذا الكائن المفضل، وتنظيمها لحياته..

وتتجسد به ـ أخيراً ـ واقعية السمو الذي تستهدفه هذه الرسالة العظمى في حياة الإنسان، وهي تسعى إلى الأخذ بيد هذا الكائن إلى الكمال المنشود، الذي جبل عليه بفطرته، وغرز في أعماقه.

وهذه الواقعية في السمو هي الواقعية نفسها التي لاحظناها في الاعجاز القرآني وسموه، إذ القرآن هو دستور الإسلام، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المثل الأعلى في البشرية، فالموضوع واحد في حقيقته، وإن اختلفت زوايا الملاحظة فيه.
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾.
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾.

والقرآن حين يوثق ما بين ذاته ورسوله الذي أرسل به، ورسالته التي أنزل لها ـ من خلال هذين البعدين وأشباههما ـ إنما يعطي لإعجاز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولإعجاز مواقفه وكلماته ـ كما يعطي للرسالة نفسها ـ ، ذات الشرائط والحدود والآفاق التي كانت لإعجاز ذاته، وإعجاز حقائقه نفسها، في أي من الجوانب التي عرضناها ـ سابقاً ـ ، من دون أدنى استثناء، إذ الاستثناء هنا غير ممكن أبداً، إلّا حيث يمكن التفاوت في حكمه الله ـ تعالى ـ ، وهذا محال في نفسه ـ كما علمناه أكثر من مرة ـ .
وهذا يعني ضرورة أن ينظر الإعجاز في شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسالته، من خلال هذا المنطلق بالذات، ثم وعلى أساس من هذه الشرائط والحدود والآفاق أيضاً، يجب أن تحاسب كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستلهم عطاؤها، بالرغم مما تستوجبه المؤثرات الموضوعية والظروف الآنيّة الخاصّة، من تحديد في الخطاب، والبيان الصادرين من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ أنّ تلك الآفاق والشرائط تعدّ هي الروح التي تصطبغ بها تلك المواقف والكلمات كافة، والمنهل الذي تستمد منه معينها العذب.

فرق ما بين صورة الخطاب القرآني وكلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
وهنا نقطة مهمة يجب أن لا تغيب عنا في فهم طبيعة الفرق بين كلمة القرآن، وكلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)..

فالكلمة القرآنية ـ في أكثر حالاتها ـ لا تتحدد بحدود الظرف الذي أنزلت فيه، أو الموضوع الذي أنزلت له، وإنما هي تقرر نفس الحقيقة التي يجسّدها هذا الموضوع، والحكم الذي شاءته له الحكمة الإلهية..

نعم، هي قد تتخذ ذلك الموضوع، أو الموقف، أو الحالة التي أنزلت فيها سبيلاً لتقرير القاعدة العامة، التي يقوم على أساسها هيكل الإرشاد أو التشريع، من دون أن يكون للحدود التي يقتضيها الموقف أو تلك الحالة، أو الظرف الذي يكتنف الموضوع، أثر يحدد تلك الكلمة القرآنية، أو الحقيقة التي تعبّر عنها هذه الكلمة. وأمثلة هذه القضية ربما تستوعب معظم السياقات القرآنية، إذ إنّ تنزيل القرآن نجوماً خلال تأريخ البعثة المحمدية، منذ أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجهر بالقرآن، حتى وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنّما يعني هذا، إذ إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمر بقراءة سياق أو سورة في كل موقف، أو حالة، ومناسبة تحدث في المجتمع المسلم في ذلك الحين.

وكثير منها مما حفظته الكتب التي تبحث في أسباب النزول، ويرى المتتبع بعضها في كتب التفسير، ولاسيما تلك التي تنحو منحى التفسير بالمأثور، حيث عنيت بمثل هذه الأسباب أكثر من غيرها. كما أن القرآن نفسه قد أشار إلى بعضها بنفسه صراحة، ولكن بعد أن أضفى عليها صبغتها العامة التي يعني بها، مثل قوله (تعالى): ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾([11]).

﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾([12]).

﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾([13]).

ولا نفيض بذكر الشواهد، فهي ستطيل بنا الطريق.

وينبغي أن نلتفت إلى أن من هذه الموارد أيضاً، ما يذكره القرآن من قصص الأنبياء والمرسلين السابقين : أيضاً..

إذ إنّ القرآن انما يذكر هذه القصص لاستلهام العبرة منها، والتأكيد على منابع الحجة الالهية فيها، من أجل الوصول ـ ومن خلالها ـ إلى أهداف القرآن الكبرى.

وحتى تلك الموارد الخاصة، التي شاءت حكمة التنزيل أن تخرج الكلمة القرآنية عن هذا الخط العام فيها، فتوردها في موارد خاصة لا عموم ـ ظاهراً ـ فيها، كما في موقف القرآن من أبي لهب في سورة المسد، أو نساء النبي في سورة التحريم، أو انشقاق القمر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كمعجزة له في سورة القمر، أو في غلبة الروم بعد أن غلبوا ـ مثلاً ـ في سورة الروم..

أقول: وحتى هذه الموارد التي اختصّت فيها كلمة القرآن في مواردها، فهي لم تخرج عن غايتها العامة تلك في النتيجة فهي تعطيها من المدد القرآني في ذلك الموقف، ما يجعلها مناراً للاعتبار الإنساني، أو بياناً لمعجزة تثبت هدى الرسالة، أو نقطة تحوّل في مسار الخط التاريخي الإسلامي، الذي يجب أن يحسب حسابه بدقة في موازين الاستمساك بالحق، وإقامة الحجة الإلهية به. وهكذا.

وقراءة متأنّية للنصوص الآتية تثبت هذا بكل وضوح، قال تعالى:

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾([14]).

﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾([15]).

﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾([16]).

﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾([17]).

والسبب في هذا التوجه العام في الخطاب القرآني هو ما علمناه ـ سابقاً ـ من أن القرآن إنما هو دستور الإسلام، ومؤصّل أصوله، ومصدر فروعه كافة، ومن شأن الدستور ـ عادة ـ أن يتجاوز ـ في خطابه ـ الوقائع الجزئية التي لا يعني بها ـ عادة ـ إلّا في مقام التطبيق، بل ويتجاوز حتى تفصيلات القانون، أو المنهج الذي يعني عادة بحدود الموضوعات، التي تدخل في بلورة الاحكام والتعاليم التي تنبثق منه، وإن كان لتلك الحدود، وهذه الأحكام عمومها أيضاً.

أما كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي ـ كتفسير للعطاء القرآني، وكتقنين لذلك الدستور، وكتبليغ لرسالته بين الناس، وإقامة حجته في هذه الأرض، وكعلاج للأمراض الاجتماعية والفردية التي تطرأ في المجتمع ـ فطبيعي أن يختلف الخطاب فيها باختلاف الأحوال والظروف والمواقف التي استوجبت أن تلقى فيها.

فهي ـ في بعض الحالات ـ تشبه الكلمات القرآنية من هذه الناحية، حيث ترد في مقام التشريع العام، وسن القوانين الاجتماعية والفردية من خلال موضوعاتها، بما لها من طبيعة كلية عامة، من دون ملاحظة الوقائع الجزئية التي تكتنفها في الخطاب والتعبير.

بينما هي ـ في حالات اخرى ـ قد تورد الحكم الشرعي، أو المادة القانونية من خلال ملاحظة شخص الموضوع الذي اعتمدته في بيان هذا الحكم.

وفي هذه الحال، لابد للمكلف من أن ينتزع ملاك الحكم الشرعي وحدوده، من خلال الطبيعة والحدود التي لاحظها الخطاب النبوي الكريم في ذلك الموضوع، ذلك الخطاب الذي عني ببيان الحكم الشرعي وبنائه في ذلك الموضوع.

ففي هذه الصورة يصبح هذا الخطاب مزدوج الدلالة، بين هذه النظرة العامة للحكم الشرعي، وتلك الملاحظة الشخصية للموضوع.

أما في موارد أخرى، فقد تذكر كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المادة القانونية، أو الحكم الشرعي، أو العلاج الإسلامي، من خلال موقف شخصي خاص، يتعلق بحالة جزئية، وعليه فلا معنى لأن يقال بعموم هذه الكلمة، إلّا حيث يعنيه عموم الحجة الإلهية في كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يتحقق موضوعها، ووجوب اتّباع هداه حين يعلم وجهه، وهذا ما يسميه علماء الأصول بملاك الحكم الشرعي.

نعم، وهناك أوجه أخرى لكلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تقتضيها ظروف وحالات أخرى، متداخلة النظرة، متكاملة الأهداف، ولكل منها دلالاتها، ولكل منها آثارها، ويمكن فهم هذه الدلالات من خلال هذا التفصيل الذي ذكرته.

وشواهد كل من هذه الأوجه وغيرها، مبثوثة في كتب السيرة والحديث والتأريخ، ووجه كل منها مما لا يخفي على لبيب، ومن هنا تبدأ مهمات فقهاء الشريعة وعلماء الإسلام، في بيان الحقائق، واستلهام الهدى الرباني في مختلف جوانب الحياة.

ولكن ـ حتى مع كل هذه الأوجه ـ ، يجب أن لا تخرج كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أي من متطلبات اصطفائه رسولاً لله (تعالى) في هذه الارض، وحجة لهداه في البشرية كافة، ومبلّغاً لكلمته بين العباد، وخاتماً لرسله في هذه الحياة، وعلى أساس هذه المتطلبات كافة يجب أن يتعامل المتدبّر مع تلك الكلمة، كما أن عليها ـ وحدها ـ يجب أن تحاكم هذه الكلمة ـ في أصولها ونتائجها ـ في موازين الحقائق الإسلامية والقرآنية.. فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو على الحق المبين، في كل قول يصدر منه، وفي كل فعل يأتيه ـ وقد سبق أن تعرضنا لهذا مفصلاً ـ .

وهنا تكمن عظمة الإعجاز في هذه الكلمة ـ كما علمناه سابقاً ـ .


فرق ما بين كلمة الرسول وما ينسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم):
وأقول: كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا أعني كل شيء نسب إليه من الأحاديث والمواقف، وإن اتضح كذبه في موازين الحقائق.

بمعنى أن الذي أعنيه هنا هو خصوص ما صحت نسبته الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك الأحاديث، وما وردت عليه شواهد التصديق القاطع في هذه النسبة..

إذ لابد لنا من أن نلتفت هنا إلى أن التاريخ كثيراً ما يفتقد عنصر الأمانة فيما يكتب، وأن في مصادر الحديث ما برئ منه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، وكذّبه قرآنه، وألسنة عصمته..

فقد كذب الكاذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته حتى قام (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً، وقال: ـ

«أيها الناس قد كثرت علي الكذابة، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»([18]).

كما كذب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته، وهو أمر معلوم لدى المسلمين قاطبة وقد وضع علماء الحديث موازينهم، التي حاولوا بها تمييز صادق الحديث من كاذبه، وتنقيح الروايات، ويمكن ان يراجع في ذلك كتب الحديث، وعلم الدراية فهي المتخصصة في هذه الناحية.

ومع أننا لا يعنينا الآن تنقيح هذه المسألة، فهي من شأن اختصاصات أخرى ـ كما قلت ـ ، ولكن الذي يعنينا إنما هو التأكيد على أن ما يحاسب بحساب القرآن ودلائل الإعجاز، وشرائطه، إنما هو خصوص ما ثبتت نسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا التراث المتراكم، وليس كلّ ما زعمه الزاعمون له، أو تقوّله المتقولون عليه.

إذ من بدهيات العقلاء ـ حتى في حياتهم الجارية ـ أن المرء إنما يحاسب على خصوص ما صدر منه من قول أو فعل، ولا يحاسب بكل ما نسب إليه من شيء، مما لم تقم عليه شواهد التصديق.

على أننا يجب أن نعلم أن للموازين الإسلامية وضوحها في الأصول، والحدود، والآثار، بشكل لا تخفى معه الحقائق على المتدبر، ولهذا فإن الإسلام والقرآن، وألسنة العصمة ذاتها، قد أوكلت محاكمة المواقف، وتمييز القضايا والأقوال التي نسبت للرسول الى العقول، بعد أن أمدتها بشواهد الحق، ورسمت أمامها ملامح الواقع..

وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه)([19]).

وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).


شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

الملاحظ أن الآيات القرآنية الواردة في بيان حدود الاصطفاء الإلهي لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو في بيان معالم شخصيته، أنها إنما تركز على ملامح معينة ـ من هذه الشخصية، تستقيم مع آفاق حجة الله (تعالى)، في هذا الاصطفاء من جهة ـ ، كما تستقيم مع معالم هذه الحجة الالهية في نفس هذه الشخصية ـ من جهة أخرى ـ ، ليجعلها ـ من ثم ـ بيّنة من بينات الله (تعالى)، في كل ما يبرز للعالم من خصائصها الذاتية والخلقية والسلوكية، وفي جميع ما يتجلى من سماتها العليا، كمثل أعلى، وخالد للإنسانية في كل ما يصدر عنها من قول أو سلوك أو عطاء.

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا.. وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾.

﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([20]).

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾([21]).

﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾([22]).

﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾([23]). الخ.

وواضح ـ بعد ما علمناه من روح التحدّي القرآني، ومن أن هذه الروح تشمل جميع الحقائق التي يحويها القرآن، كما تشمل المناهج والتجليات، والشؤون الأخرى التي يستوعبها، والنتائج التي يستهدفها ـ .

أقول: وواضح ـ بعدما علمناه من روح التحدي في القرآن، وشمول هذه الروح لجميع حقائق القرآن ـ ، أنّ تركيز القرآن على هذه الملامح والخصائص والمميزات المحمدية، إنما يرد ضمن روح التحدّي هذه ايضاً.

بمعنى أن القرآن إنما يفرض هذه الشخصية المباركة على البشرية من خلال هذه الملامح والمميزات الخاصة، ومن خلال استقامتها المطلقة مع الحق، وكونها رحمة ربّانية للعالمين، ومشعلاً أبدياً ينير للناس كافة جميع دروبهم في طريق الله القويم، حتى آخر فرد منهم في هذه الأرض، فرسالته هي هدى الله وبصائره، وهي هداه ونوره في العالمين.

وقد عرفنا ما تعنيه الصلة المباشرة للقرآن بمنزلة العظيم ـ تعالى شأنه ـ وصلة الإسلام بمشرّعه ـ سبحانه ـ ، مما يعني ـ وبحكم هذه الصلة ـ : أن هذا التّحدي إنما يرشد ـ في حقيقته ـ إلى تعهّد العناية الربّانية الخاصة لهذه الشخصية العظمى، بأن تستوفي جميع هذه المزايا والخصائص، من دون أدنى خلل أو تفاوت، أو استثناء عن أي من مقتضيات حكمة الخلق والتشريع.

وعلينا أن نتذكر هنا ـ من جهة أخرى ـ ، ما يعنيه دور البصائر الإلهية ـ كالقرآن، والمنتجبين لحمل رسالته، وجميع بينات الإسلام ـ وما يعنيه موقعها ومهمّاتها في سداد حاجة الإنسان من هدى الله (تعالى)، وغناء فاقته في سعيه لنيل كماله الأعلى، لندرك ـ من ثم ـ مدى ضرورة تلك السمات والملامح ـ التي ذكرتها الآيات السابقة ـ ، لشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ يستحيل على هذه الشخصية المباركة أن تؤدّي شيئاً من مهمّاتها الكبرى في هذه الحياة، أو تقوم بدورها، من دون أي من تلك السمات والمكوّنات، مما يعني ـ من ثمّ ـ استحالة أن تتخلف عن أي منها في موقف، أو تتجاوزها في حالة، أو تقصر عنها في مرحلة من حياته (صلى الله عليه وآله وسلم). إذ التخلف هنا يعني التفاوت في حكمة الله ذاتها، وهذا محال ـ كما نعلم ـ .


خصائص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

وهنا تطرح عناوين خاصة، تعارف علماء العقيدة على ذكرها في مميزات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخصائصه.

أولاً: موضوع العصمة:

والعصمة خاصة تجمع مختلف آفاق الكمال الإنساني في أرقى مظاهره، وأوسع حدوده، حيث تحيط بجنبات الشخصية المنتجبة، فلا يصدر منها شيء يختلف عن حقيقة من حقائق الهدى الرباني، أو حكم من أحكام الشريعة في أي من مراحل حياته، وفي أي حالة يكون عليها، وسواء كانت المخالفة صغيرة أم كبيرة... بمعنى أنه الحق المطلق، والاستقامة المطلقة، والسراج المنير الذي لا ظلام فيه من جهة، ولا غموض في شأن..

﴿.. إنّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِيْنِ." .. "شَاهِدَاً.. سِرَاجاً مُنِيْراً﴾.

ثانياً: العلم ذو المصدر الإلهي الخاصّ:

وهي سمة يجب أن ينالها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليستطيع أداء دوره المطلوب في الحياة، وهذا واضح، إذ لا معنى لاصطفائه رسولاً، وقد أوكل إلى جهده الخاص في نيل ما يريده من العلم، من دون مدد خاص من الله (تعالى) وعلمه المحيط.

﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾.

ولابد من أن يستوعب هذا العلم شيئاً من عالم الغيب وراء عالم الشهادة، لكي يحيط بطبيعة المهمة التي أوكلت إليه، وليعلم من مقتضيات حكمة الله في الإيجاد والتشريع، ما يستطيع أن يقيم به حجته على الناس..

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾([24]).


قدرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على تحمل الصعاب:

الثالث: ما يجب أن يتسم به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قدرة خارقة على تحمّل الصعاب في أداء رسالته، لا في العصر الذي كان يعيشه فيه من عصور رسالته، وإنما في مدى الزمان الذي جعل لهذه الرسالة في حياة الإنسان ومسؤوليته الخاصة في تبليغها.

ومن هذا أيضاً ما يجب أن يكون عليه الرسول من قوّة على التصرف في مكوّنات الخلق، وهيمنة على بعض سنن الوجود، حين يستوجب ذلك أداءه لمسؤوليته تلك..

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾([25]).
﴿ أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ..﴾([26])..

وواضح أن كل واحدٍ من هذه العناوين وأشباهها، يعدّ ضرورة تستوجبها مهماته ـ بوصفه مصطفىً لله في حمل أمانة الرسالة العظمى، والوفاء بمسؤولية تبليغها إلى البشرية كافة، وإقامة حجتها في هذه الأرض ـ ، وجدير بالرعاية الإلهية أن تستوفيها في شخصيته، إذ الخلل فيها منافٍ لمقتضيات الحكمة العليا، وهو محال..

وهذا الشرط كاف في تحققها فيه، بالرغم مما قالته، أو تقوله الأهواء فيها، فالعقل وحده ـ في الجهة الأولى ـ كافٍ في الحكم بضرورتها في الحكمة، والتعهّد الرباني ـ في الجهة الثانية ـ كافٍ في الوفاء بمستلزماتها، من دون أدنى خلل أو قصور.

ولا ندخل في تفصيل أي من هذه الأمور، فهي واسعة الحديث، ولها مباحثها الخاصة في علم العقيدة، فليرجع إليها من يشاء المزيد.

وهنا يتجلّى عنصر الإعجاز الإسلامي، والقرآني منه ـ بشكل خاص ـ في شخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأي من هذه العناوين ـ في نفسه ـ أعظم من أن يناله أحد من الناس بجهده الذاتي المحدود، مهما سما في اتّباع الحق بإيمانه وسلوكه، ومهما ارتفع في إدراك حقائقه، واستلهام دلائله، لأن هذه العناوين لا تنال إلّا بمدد خاص من الله (تعالى) وحده.. وحيث تقتضيه وحدة الحقائق الإسلامية والقرآنية في مختلف آفاقها ومظاهرها.

كما تتجلّى أهمية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، للإسلام، وللقرآن، وللحجة الإلهية بهما، سواء في شخصيته، أم في مواقفه، أم في أقواله وبيانه للحقائق القرآنية كافة، بما فيها الإعجاز القرآني، إذ من دون هذا الرسول العظيم، ومن دون جهوده وعطائه، لم تكن لتستبين من القرآن حقيقة، ولم يكن ليتم له أمر، و ـ من ثم ـ لم يكن لتتضح لإعجازه دلالة.
ومن جهة أخرى أعمق، فإن شخصية هذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لو لم تكن بهذا المستوى المطلق من الاستقامة مع الحق، وعلى هذه الدرجة العظمى من العلم المتّصل بمعين الغيب، الذي لا يتناهي ولا ينفد، ولو لم يكن على هذا المستوى من القدرة الخارقة على الصبر وقوة التحمل، والقابلية المتمكنة من التصرف في بعض ظواهر الكون، عندما يتطلب الأمر منها ذلك.
أقول: فإن شخصية المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، لو لم تكن بهذه المستويات الرفيعة من عناية الله ـ سبحانه ـ ، لا يمكن لهذا الرسول العظيم أن يكون شاهداً أبدياً على البشرية في تطبيقها لأحكام هذه الرسالة، واتّباعها لشواهد الحق فيها.
ومن هنا اعتبرنا نحن هذا المصطفى الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعطاءه في حياته، أصلاً من أصول الإعجاز القرآني ذاته، إذ من دونه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن لتستبين للإعجاز دلالة، ولم تتضح له غاية ـ كما هو واضح مع أدنى تأمل ـ .


* هوامش البحث *
(*) بحث مستلّ من كتاب صدر للمؤلف بعنوان (مبادئ عامة في أصول التدبر القرآني).

-----------------------------------------
([1]) البقرة: 119.
([2]) النساء: 170.
([3]) الرعد: 1.
([4]) السجدة: 2.
([5]) فاطر: 31.
([6]) الروم: 8.
([7]) الأنعام: 73.
([8]) الحج: 6.
([9]) الحج: 62.
([10]) الأنعام: 115.
([11]) الحجرات: 6.
([12]) المدثر: 11 ـ 26.
([13]) يس: 78 ـ 81.
([14]) سورة المسد.
([15]) القمر: 1 ـ 2.
([16]) الروم: 2 ـ 3.
([17]) التحريم: 3 ـ 5.
([18]) وسائل الشيعة ـ ب: 14 من ابواب صفات القاضي ـ ح: 1، ويراجع كذلك كتاب (نهج البلاغة) ـ تحقيق: د. صبحي الصالح ـ : 325 ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ سنة 1387هـ.
([19]) وسائل الشيعة ـ ب: 9 من أبواب صفات القاضي. ح: 10.
([20]) يس: 3.
([21]) الأنبياء: 107.
([22]) النمل: 79.
([23]) النساء: 112.
([24]) الجن: 26 ـ 28.
([25]) الطور: 48.
([26]) الزمر: 36.