البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التعددية الدينية

الباحث :  الدكتور الشيخ عبدالحسين خسروبناه ، ترجمة: محمد حسين الواسطي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  10
السنة :  السنة الثالثة - ذي القعدة 1437هـ / 2016م
تاريخ إضافة البحث :  August / 29 / 2016
عدد زيارات البحث :  2570
تحميل  ( 346.851 KB )
تمهيد

يلحظ أيّ زائر أو رحّالة يزور بلدان جنوب شرق آسيا، لا سيّما بلاد الهند أدياناً ومذاهب وطقوس متعددة ومتلوّنة، تعايش في ربوعها المسلمون بمحاذاة البوذيّين، والمسيحيّون بجوار البرهمائيين، واليهود إلى جانب الهندوس. كذلك يلحظ أيضاً أنّ وفرة المعتقدات والطقوس تفوق عدد الألوان واللغات بشكل أكبر، فيتساءل شعوره الفطريّ الباحث مستفسراً عن بعض الأمور المرتبطة بذلك؛ ماذا عن حقّانيّتها أو بطلانها؟ أيّ منها ينتهي إلى السعادة، وأيّ منها إلى الشقاء؟ لأيّ منها الثواب، ولأيّ منها العقاب؟ وهل يمكن عدّ جميع تلك الأديان على باطل، والقول بأنّ جميع المؤمنين بها في نار جهنّم؟

البحث عن «التعدّديّة الدينيّة» يقع في هذا السياق. وبعبارة أخرى: بعد الفراغ من الحديث عن طبيعة الدين، وما يميّزه عن التجربة الدينيّ، واتضاح ذلك، تصل النوبة في البحث إلى موضوع «تعدّد الأديان»، والتساؤل عن إمكان القول بأنّ الأديان الموجودة في مجتمعاتنا حقّةٌ بأسرها، وأنّ المؤمنين بها ناجون جميعاً، أو لا؟

مناحي البحث في تعدد الأديان:

يلحظ أيّ زائر أو رحّالة يزور بلدان جنوب شرق آسيا، لا سيّما بلاد الهند أدياناً ومذاهب وطقوس متعددة ومتلوّنة، تعايش في ربوعها المسلمون بمحاذاة البوذيّين، والمسيحيّون بجوار البرهمائيين، واليهود إلى جانب الهندوس. كما يلحظ أيضاً أنّ وفرة المعتقدات والطقوس تفوق عدد الألوان واللغات بشكل أكبر، فيتساءل شعوره الفطريّ الباحث مستفسراً عن بعض الأمور المرتبطة بذلك؛ ماذا عن حقّانيّتها أو بطلانها؟ أيّ منها ينتهي إلى السعادة، وأيّ منها إلى الشقاء؟ لأيّ منها الثواب، ولأيّ منها العقاب؟ وهل يمكن عدّ جميع تلك الأديان على باطل، والقول بأنّ جميع المؤمنين بها في نار جهنّم؟

يتمحور السؤال الأساسيّ فيما يخصّ تعدّد الأديان حول زاوية الرؤية التي يجب أن تُتّخذ في البحث عن تكثّر الأديان ووفرتها، وما هي النظرة التي يجب أن تسود بين أتباع هذه الأديان فيما بينهم؟ يمكن تبيين هذه الرؤية ضمن ثلاث زوايا رئيسيّة تدرس الجانب المعرفيّ والكلاميّ والحقوقيّ الأخلاقيّ:

1. السؤال المعرفيّ (الإبستمولوجيّ): وهو استفهام يحوم حول حقّانيّة الأديان الكثيرة، أو بطلانها في واقع الأمر، ويتولّى الإجابة على السؤال القائل: هل إنّ جميع الأديان الحاضرة في الساحة حقّة؟ أم أنّها تمثّل مزيجاً من الحقّ والباطل؟ أم أنّها باطلة برمّتها؟ والبحث في هذا السؤال منصبّ على الصدق المنطقيّ والمعرفيّ، وهو ما يعني أنّه ناظر إلى «التطابق مع الواقع»؛ لا الصدق الأخلاقيّ، فمن الطبيعيّ أنّ كلّ ذي دين يرى أنّ دينه هو الحقّ، فكلّ الأديان عند أتباعها تتحلّى بالصدق الأخلاقيّ، كما أنّ المقصود من حقّانيّة الأديان الإلهيّة في هذا البحث ليست الأديان في طول بعضها؛ فمن الواضح أنّ كلّ دين إلهيّ سماويّ هو دين حقّ في زمنه، ولا شبهة في ذلك.

2. السؤال الكلاميّ الأخرويّ: يتناول هذا الاستفهام المآل الأخرويّ الذي سوف يؤول إليه أمر أتباع الأديان المتعدّدة، والإجابة على السؤال القائل: هل إنّ جميع المؤمنين بهذه الأديان السماوية (الإلهيّة) والأرضيّة (البشريّة) هم من أهل الفلاح والنجاة؟ أم من الممكن أن يكون بعضهم من أصحاب النار وعذاب جهنّم؟

3. السؤال الحقوقيّ الأخلاقيّ: يتمحور هذا الاستفهام حول حقوق المؤمنين بالأديان، ويتناول نوعيّة السلوك الذي يجب على أتباع الأديان المتعدّدة أن يمارسوه نسبةً إلى بعضهم البعض، وهل هناك حقوق يتحلّى بها أتباع الأديان الأُخر يتوجّب عليهم مراعاتها، أم لا؟ وهل يتحتّم عليهم أن يكونوا من أهل التسامح والتساهل مع الآخر، أم يجوز لهم أن يمارسوا  العنف ضدّهم. وهل ينبغي الاعتراف بالآخر رسميّاً، أم لا؟ ونذكّر هنا بأنّ الأبحاث المرتبطة بمصطلح «التسامح»([1]) وعلاقته ﺑ «العنف»([2]) تنتمي إلى السؤال الثالث، ولا يصحّ الخلط بين التسامح والتعدّديّة الدينيّة كما صنع بعض الكتّاب المعاصرين([3]).

أمّا السؤالان السابقان المتعلّقان بالجانب المعرفيّ والأخرويّ، فينطويان على أربع إجابات مختلفة، والإجابات الأربع التي قدّمها فلاسفة الدين في هذا الصدد هي ما عُرفت ﺑ : «التعدّديّة الدينيّة»([4])، و«الانحصاريّة الدينيّة»([5])، و«الشموليّة الدينيّة»([6])، و«الطبيعيّة الدينيّة»([7]). ولأجل الإشارة إلى هذه الرؤى، وتمييز الجانب المعرفيّ عن الجانب الأخرويّ فيها، نميّز بينهما بمصطلحي «الصدق»، و«النجاة»:

1. مسلك الطبيعيّة الدينيّة: وهي رؤية تذهب إلى أنّ جميع الأديان والمعتقدات الدينيّة أمور باطلة وغير صحيحة. وقد شدّد أرباب هذه النزعة - مثل: فويرباخ، وماركس، وفرويد، ودوركايم - على أنّ نظريّات أهل الأديان حول الوجود الأسمى ليست إلا منتجاً صاغته يد الإسقاطات([8]) المحضة التي يمارسها الإنسان.

2. مسلك الشموليّة الدينيّة: وهي رؤية آمنت بحقّانيّة دين واحد، لكنّها حكمت بأنّ الأديان الأُخر لها حظّ من الحقّانيّة بالقدر الذي تقترب به من الدين الحقّ. وبالتالي: فإنّ الأديان الأُخر لا تُحرم من النجاة بعد نزول الرحمة والبركة والمغفرة الإلهيّة عليها([9]).

3. مسلك التعدّديّة الدينيّة: وهي رؤية تنقسم إلى قسمين: أوّلاً: التعدّديّة الدينيّة في الصدق؛ وهي تُفتي بحقّانيّة جميع الأديان الموجودة، وثانياً: التعدّديّة الدينيّة في النجاة؛ وهي تحكم بأنّ جميع أتباع الأديان من أهل السعادة والنجاة.

4. مسلك الانحصاريّة الدينيّة: وهي رؤية تنقسم إلى القسمين المذكورين آنفاً؛ فالانحصاريّة في الصدق تعني أنّها تُفتي بصدقيّة دين واحد له الحقّانيّة الحصريّة، وترى بطلان سائر الأديان الأُخر. أمّا الانحصاريّة في النجاة، فهي تحكم بسعادة أتباع الدين الحقّ ونجاتهم وحدهم؛ دون سائر المؤمنين بالأديان الأُخر، فهم - حسب هذه الرؤية - خارجون من دائرة الفلاح والنجاة. وقد ربطت الانحصارية قضيّة النجاة والخلاص عند الإنسان بتقليد دينيّ خاصّ تنحصر فيه، وقد آمن أصحاب الاتجاه الانحصاريّ في رؤيتهم تجاه العقائد الدينيّة والأبحاث المرتبطة بالإيمان بأنّ النجاة منحصرة في مذهب معيّن، وأنّ سائر الناس خارجه غير معنيّين بذلك، وأنّهم مستثنون من دائرة الفوز والفلاح. ولعلّ أبرز الخطابات حماسيّةً وأشدّها تأثيراً في الكشف عمّا يدور في أروقة الانحصاريّة هو المقولة التي عبّرت عن عقيدة كاثوليكيّة دوغماتيّة مفادها: «لاوجود للنجاة والفلاح خارج إطار الكنيسة». وإلى جانب ذلك، أطلقت الحركة التبشيريّة البروتستانتيّة في القرن التاسع عشر مقولتها: «لا تُتصوَّر أيّ نجاة خارج المسيحيّة»([10]). وتوضيح ذلك: أنّ الانحصاريّة ترتبط بمجالين؛ هما: الصدق والنجاة. أمّا الانحصاريّة في الصدق فهي الرؤية التي تذهب إلى أنّ تعاليم دين واحد فقط هي التعاليم الصادقة برمّتها، وتعاليم جميع الأديان الأُخر غير صحيحة بنحو تامّ، هذا عند بروز أيّ لون من ألوان التعارض. وأمّا الانحصاريّة في النجاة فهي رؤية تذهب إلى أنّ ديناً واحداً هو الذي يعرض منهجاً مؤثّراً في النجاة والخلاص([11]). وبعبارة أخرى: يرى الانحصاريّون أنّ الفلاح والخلاص والكمال أو أيّ أمر يُعدّ هدفاً نهائيّاً (غايةً) للدين لا يوجد إلا في دين معيّن واحد، أو يمكن الحصول عليه من خلال دين معيّن واحد، والدين الحقّ ينحصر في دين واحد، هو الدين الوحيد الذي يفتح آفاق الفلاح والخلاص أمامنا([12]).

وبناءً على ما تقدّم فإنّ التعدّديّة الدينيّة لا تعني الاعتراف الرسميّ بالأديان المتعدّدة([13])، بل هي قضيّة اجتماعيّة وحقوقيّة؛ فالتعدّديّة الدينيّة أمر معرفيّ وكلاميّ، والتعدّديّة الدينيّة إلى جانب اتجاهين آخرين؛ هما: الشموليّة والانحصاريّة ليست في معرض شرح الأسباب التي أدّت إلى كثرة الأديان وتعدّدها؛ لأنّها عندئذٍ ستكون قضيّة أنطولوجيّة؛ بمعنى أنها ستتحدّت عن وجود التكثّر والتعدّد في الأديان. وقد ظنّ بعض الكتّاب المعاصرين أنّ بحث التعدّديّة الدينيّة لا يصبو إلى تمييز الحقّ عن الباطل، ولا يدّعي حقّانيّة جميع الأديان، وإنّما ينصبّ البحث على بيان الكثرة والتعدّد في الأديان؛ سواء أكانت هذه الكثرة مشتملةً على حقائق، أم كانت مزيجاً من الحقّ والباطل([14]). وهو تفسير غير تامّ للتعدّديّة الدينيّة؛ فهي - كما نقلناها من لسان مؤسّسها جون هيك([15]) (2012م) - تدّعي حقّانيّة جميع الأديان، وتسعى لإثبات الفلاح والنجاة لجميع أتباع الأديان بنحو عامّ.

حقيقة التعدّديّة الدينيّة:

تمثّل «التعدّديّة الدينيّة» أحد أبحاث فلسفة الدين والكلام الجديد، وهي - كغيرها من منتوجات المدارس الغربيّة - مفهوم مستورد من العالم الغربيّ.

ومصطلح «التعدّديّة الدينيّة» - في لغته الأصليّة (البلوراليزم) - مشتقّ من المفردة اللاتينيّة «plural» التي تعني الكثرة، وهو يدلّ على النزوع نحو الكثرة والتعدّد والزيادة الكمّيّة. والتعدّديّة الدينيّة بصفتها رؤية كلامية ومعرفية هي إجابة على استفهامات تخصّ الأسباب التي أدّت إلى التنوّع والتكثّر في الأديان والمذاهب المتعدّدة في عالمنا المعاصر. وإنّ كثرة الأديان وتنوّعها في وقتنا الراهن - بما يشمل الأديان الإلهيّة والبشرية، المحرّفة وغير المحرّفة - واقع لا يمكن إنكاره. وهي كثرة تتماثل مع الكثرة التي نجدها في اللغات والثقافات والأفكار والمذاقات في كونها غير قابلة للمحو والإزالة. ولهذا فإنّك لا تجد الأديان المتعددة في أي من الأزمنة الغابرة منزويةً بنحو كامل، بل كان كلّ منها يترك بصماته على الآخر حتّى على مستوى الحياة الاجتماعيّة عند الإنسان.

ويشهد التاريخ أيضاً بوجوه شبه بين الأديان؛ حيث يتشابه أتباع الأديان المتعددة في طقوسهم ومناسكهم الدينيّة في عددٍ من معتقداتهم. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ اختلافات مهمّة تفصل بينها؛ فالتوحيد عند المسلمين، والثنوية عند الزرادشتية، والتثليث عند المسيحية، وتعاليم تعدد الآلهة عند الهندوس، ما هي إلا نماذج واضحة لمجموعة من الاختلافات والتمايزات القائمة بين هذه الأديان.

خلفيّات التعدّديّة الدينيّة:

ما من شكّ في أنّ التنوع والتعدد في الأديان ليس بالأمر الجديد والحديث في المجتمعات البشرية، السؤال عن حقّانيّة جميع الأديان أو بعضها كان مطروحاً على بساط البحث في الماضي أيضاً. والأمر المستحدث هنا هو محاولات فكرية قام بها بعض فلاسفة الدين المعاصرين؛ مثل: كانتويل سميث([16]) (2000م)، وجون هيك (2012م) ، لإثبات حقّانيّة الأديان المتعددة قاطبةً.

والمهم اللافت في الموضوع هو الانتباه إلى أنّ التعدّديّة الدينيّة فكرة أولدها التاريخ المسيحي، تلك المسيحية التي يعجّ تاريخها بالثبات والصمود على موقف «الانحصاريّة»! والسر الذي يكمن في اعتناق فكرة الانحصاريّة عند المسيحيين هو ما تعرّضت له المسيحية في أواخر عهد القديم من موجات التعذيب وهجمات الانتقاد، ناهيك عن التأثير الذي تركته الكلمات المنسوبة للسيد المسيح (ع)  التي توحي بمضامين داعمة لمزاعم الانحصاريّة؛ منها على سبيل المثال المقولة التي تنصّ على ما يلي: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الأبِ إِلاَّ بِي»([17]).

لقد ظهرت الانحصاريّة بصيغتها المتطرّفة في القرن الثالث الميلاديّ؛ حتّى بات السواد الأعظم من أتباع الديانة المسيحية يؤمن بأنّ الخلاص والفلاح غير موجود خارج كنيستهم. وقد أدّى هذا الفكر المتطرّف إلى اشتباكات وقعت بين المسيحيين الأوروبيين في القرون الوسطى من جهة، وأتباع الأديان غير التوحيديّة وكذا اليهود والمسلمين - الذين كانوا يعيشون ذروة حضارتهم الإسلاميّة - في الجهة الأخرى. وقد أفضى هذا الفكر وما استتبعه من ممارسات إلى تضاؤل حجم التعاطي المتبادل بين المسيحيين والمسلمين واليهود وغيرهم.

وفي تلك الحقبة التاريخية لم يستفد من أمثال ابن ميمون (1204م)، أو ابن سينا (428ﻫ) إلا شرذمة قليلون من مفكّري المسيحيين؛ مثل: توماس أكويناس (1274م). وبعد أن استولى المسيحيّون على السلطة في عصر التنوير الأوروبي، أو ما يسمّى بعصر النهضة، ساقتهم نزعاتهم الانحصاريّة المتطرفة إلى الميل نحو التمدّد الاستعماري، فانتشرت قوافل المبشرين المسيحيين في شتى أرجاء العالم، هادفين في الأساس إلى تغيير الأديان. وعلى الرغم من ذلك، اضطر بعض المسيحيين في القرن العشرين لنفض اليد عن الانحصاريّة، والنزوع إلى الشموليّة أوّلاً، ثم التعدّديّة من بعد ذلك.

وقد دخلت قضية التعدّديّة الدينيّة دائرة الضوء بصفتها إجابةً على التساؤل عن حقّانيّة الأديان المتعددة أو بطلانها، وذلك من خلال تناولها في الصحافة من قبل بعض التنويريين المسلمين المعاصرين، تبعاً لأسلافهم من روّاد التنوير في الغرب. وقد طُرق هذا الباب في إيران لأوّل مرّة في العدد الأوّل الصادر من فصلية «حوزه ودانشگاه» في مقال لم يُذكر اسم كاتبه، يحمل عنوان «كتاب في مقالة»؛ حيث حاول الكاتب في مقاله هذا أن يُعرِّف بكتاب رئيس قسم الدراسات الدينيّة في جامعة ستريلنغ البروفسور غلين ريتشاردز الموسوم ﺑ «نحو لاهوت ناظر إلى جميع الأديان»، ثم قامت مجلة «كيان» في عددها رقم 28 بنشر ندوةٍ دافعت عن التعددية الدينيّة. وقد قام كاتب هذه السطور بكتابة مقال يناقش تلك المقالة، وما تضمنته الندوة المشار إليها، نُشر في فصلية «حوزه و دانشگاه» تحت عنوان «التعدّديّة الدينيّة في رؤية خارجة عن النطاق الدينيّ». وقد أدّى نشر مقالة «الصراطات المستقيمة» لكاتبها عبدالكريم سروش (مواليد 1945م) في العدد رقم 36 من مجلة «كيان» إلى لفت أنظار المهتمّين والقرّاء بنحو أكبر إلى هذه القضية، مما أدى إلى تبلور معسكرين مختلفين حيالها؛ أحدهما يواليها، والآخر يعارضها. ثمّ توالت بعد ذلك المقالات والمؤلفات الموافقة والمخالفة لها.

أدلّة التعدّديّة الدينيّة:

تمسّك أنصار التعدّديّة الدينيّة في إثبات مزاعمهم بأدلة دينيّة داخلية، وأخرى خارجة عن الأطر الدينيّة. وسنحاول هنا أن نستعرض الأدلة، ثم نحللها ونقيمها. وإليك فيما يلي مجموعة من الأدلة والأسس التي ابتنت عليها فكرة التعدّديّة الدينيّة في مجالي الصدق والنجاة:

أساس حوار الأديان:

تشبّث البعض من أنصار التعدّديّة الدينيّة في استدلالهم على مزاعمهم بضرورة إيجاد حوار مفتوح بين الأديان؛ فالمجتمع البشري يزخر بعدد كبير من الأديان والمذاهب المتنوعة التي يجب أن تعيش مع بعضها بأمن وسلام، ولا يمكن الوصول إلى هذا المبتغى من دون حوار بين الأديان، شرطه انشراح الصدر ورحابته؛ لمزيد من التناغم والانسجام؛ بما يُفضي إلى رفض الانحصاريّة ومدّعياتها.

والحقّ أننا لا نشكّ في وجود ضرورة اجتماعيّة معاصرة مفادها حوار بين الأديان، تسوده رحابة الصدر، وروح التناغم والانسجام، لكنّ هذا لا يدلّ على التعدّديّة الدينيّة، ولا حقّانيّة جميع الأديان الموجودة على الساحة برمّتها، ولا يؤدّي إلى إبطال الانحصاريّة الدينيّة، أو إلى إثبات الإلهيّة العالمية؛ لأنّ هذا لو تمّ لانتقض أساس الحوار الدينيّ، ولأصبح أمراً عبثياً([18]).

أساس التمييز بين النومن([19]) والفنومن([20]):

يبتني أحد الأسس المعرفية للتعدّديّة الدينيّة على مرتكز مستورد من فلسفة كانط (1804م) ، ومفاده: التمييز بين النومن (الواقع في نفسه)، والفنومن (الواقع الظاهر). وهو مرتكز ينتهي بمن يتبنّاه في نهاية المطاف إلى السقوط في أحضان الشكاكية والنسبية؛ فهو يقرّ بمبدأ وجود «الواقع في نفسه» رافضاً لوجود أيّ معيار، فيضع التعدّديّة الدينيّة ونظرية المعرفة الكانطية في بوتقة الشكاكية، فلا يبقى عندئذٍ ما يميّز بين الكفر والإيمان، أو الدين واللادينيّة، أو الإلحاد والتديّن.

وعلى أساس من هذه الرؤية فإنّ التعدّديّة الدينيّة والانحصاريّة والشموليّة ليست إلا ثلاثة ظهورات وتجليات لواقع واحد؛ فلا معنى للإصرار على حقّانيّة التعدّديّة الدينيّة بعد ذلك!

أمّا التمثيل الذي ورد على لسان جلال الدين الروميّ (672ﻫ)  المتعلّق بقصّة الفيل في الغرفة المظلمة، فهو لا يُسمن ولا يغني من جوع، كما أنه أجنبيّ عن بحث التعدّديّة الدينيّة من الأساس. لقد ذكر الشاعر في قصيدته قصّة رهط من الناس اجتمعوا في الظلام الدامس حول فيل، فظنّ الذي لمس قدم الفيل أنه أمام عمود ضخم، وزعم الذي اقترب من الخرطوم أنه بجانب ميزاب تجري فيه المياه، وذهب الآخرون إلى مذاهب أُخر لا صلة لها بالفيل، فأطلق القوم تفسيرات متعددة ومتنوعة عن واقع واحد. وقد حاول جون هيك (2012م) أن يستفيد من هذه القصة لإثبات صحّة التعدّديّة الدينيّة؛ في حين أنّ هذا التمثيل لا ارتباط له بحقّانيّة الأديان؛ لأن التعدّديّة الدينيّة تدل على حقّانيّة جميع الأديان، وتطابقها مع الواقع، في حين أنّ هؤلاء القوم لم يبلغوا واقع الفيل كما هو؛ بل ذهب الجميع إلى خلاف ذلك!

أساس الهرمنيوطيقيا ([21]) الفلسفيّة:

يعتمد أحد الاستدلالات التي لجأ إليها أنصار التعدّديّة الدينيّة على نظرية الهرمنيوطيقيا الفلسفية، وما يكتنف النصوص الدينيّة من حالة صامتة، علاوةً على ما تتركه الافتراضات المسبقة والتوقّعات التي يحملها المفسّر تجاه النصوص الدينيّة من آثار. وهنا نقول: حتّى وإن آمنّا بأنّ هذا الاستدلال يجدي نفعاً في بيان تعدّد الفهم والتفاسير والتجارب الدينيّة، فإنّه غير كافٍ لإثبات حقّانيّة هذا التعدد، وما تدعو إليه فكرة التعدّديّة الدينيّة، ناهيك عمّا تعانيه الهرمنيوطيقيا الفلسفية عند غادامر من إشكاليات ألسنيّة متعددة في موضوع تعدد التفاسير؛ فليس كلّ نصّ يعاني من الغموض حتّى يتطلّب منّا تفسيراً، أو إقحاماً لافتراضات مسبقة! بل المطلوب من المفسّر أن يبتعد عن ليّ عنق النصّ لكي يتناسب مع افتراضاته، وأن يكتفي في محاولاته لبلوغ المعنى بمعلوماته المسبقة؛ سواء كانت معلومات استخراجية، أو استفهامية.

ولا يخفى أنّ انطواء القرآن الكريم على «بطون» ومعانٍ توصف بأنها باطنية لا يدلّ - بأيّ نحو من الأنحاء - على نظرية «القبض والبسط في المعرفة الدينيّة»، ولا على «التعدّديّة الدينيّة»، بل إنّ الكتاب والسنة لا يتّفقان مع فرضيّة «صمت النصوص الدينيّة»، ويصرّحان بأنّ القرآن الكريم «تبيان لكلّ شيء»، ويصفانه ﺑ«المبين»، وما شاكل ذلك من الصفات([22]).

أساس تكافؤ الأدلّة:

استدلّ بعض أنصار التعدّديّة الدينيّة لإثبات حقّانيّة جميع الأديان بما يسمّى ﺑ«تكافؤ الأدلّة»؛ أي: تساوي أدلة القضيّتين المتعارضتين. والردّ على ذلك:

1. أنّ تكافؤ الأدلّة لا يحصل إلا بعد نظرة معرفية من الدرجة الثانية؛ في حين أنّ حقّانيّة الأديان أو بطلانها هي معرفة من الدرجة الأولى، وهي أمر يجب حسمه بمنهج فلسفيّ.

2. لا يمكن الوصول إلى حقّانيّة أمر ما أو إلى بطلانه من خلال تكافؤ الأدلة، بل الذي يمكن أن يُصار إليه من ذلك هو الطعن في الطرفين معاً.

3. لا تجوز دعوى تكافؤ الأدلّة من خلال نظرية معرفية من الدرجة الثانية؛ فإنّ غاية ما يصل إليه صاحب هذه النظرة عند البتّ في حقّانيّة الأديان أو بطلانها هو التوقّف. هذا ناهيك عن أنّ الاستدلال من خلال تكافؤ الأدلّة يستلزم اجتماع النقيضين.

الأساس الدينيّ الداخليّ:

تمسّك أتباع التعدّديّة الدينيّة لإثبات مدعياتهم بأدلة دينيّة داخلية، فذكروا - على سبيل المثال - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾([23])، فاستنتجوا من هذه الآية الشريفة التعدّديّة الدينيّة؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ اشترط في فلاح الإنسان ونجاته من العذاب الأخروي، وتنعّمه بالأجر والثواب أموراً ثلاثة؛ هي: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. وبناءً على ذك فإنّ المسلمين واليهود والنصارى والصابئين إذا توافروا على هذه الشروط فقد حازوا الخلاص. وبالتالي: فإنّ اتّباع دين معيّن بعينه ليس هو الشرط الذي يؤكّده القرآن الكريم، بل هو يعلّمنا أنّ جميع الأديان سواء في سيرها إلى إسعاد الإنسان، وسوقه نحو الفلاح والنجاة!

استدلّ بهذا الدليل - لأوّل مرّة - بعض المستشرقين، واستبشر به المتغرّبون. ولكنّه يعاني من خلل توضحه المناقشات التالية:

1. لا تدلّ هذه الآية على التعدّديّة الدينيّة التي تعني حقّانيّة جميع الأديان وتطابقها مع الواقع، بل تنحصر دلالتها في الحكم على المؤمنين بالله، وباليوم الآخر، والعاملين صالحاً بأنهم من أهل الفوز والنجاة. وعليه: كيف يمكن أن تُستنبط منها التعدّديّة الدينيّة في الصدق والحقّانيّة؟

2. لا يدلّ مفاد الآية الكريمة أنّ مجرّد انتماء الإنسان إلى الإسلام أو اليهودية أو النصرانية أو دين الصابئة يُفضي إلى الفلاح والنجاة، بل صرّحت بأنّ شرط النجاة هو الإيمان الحقيقي والعمل الصالح. وبطبيعة الحال، فإنّ العمل الصالح لا يتحقّق من دون معرفة واتّباع الشريعة الحقّة. وبالطبع، فإنّ المؤمنين بالشرائع المحرّفة إذا تخلّفوا عن اتّباع الشريعة الحقّة، لكنّ تخلّفهم هذا لم يكن عن عناد وعدوان، بل نشأ من الجهل والغفلة، فإنّ أعمالهم الصالحة تُجزى عند الله عَزَّ وَجَلَّ بالخير. وبعبارة أخرى: سوف يؤثّر الحُسن الفاعليّ إيجابيّاً في نجاة جهلة المؤمنين الذين لم يعملوا عملاً صالحاً.

3. الإيمان بالله يستلزم إيماناً بما تضمّنه الوحي الإلهيّ، فلا يمكن للمؤمنين بالأديان المتعدّدة أن يفوزوا بالسعادة والفلاح من دون أن يؤمنوا بمضامين الوحي الإلهي، وهذا يعني ضرورة إيمانهم بالإسلام، وأن يسلموا وجهم لله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ، فيؤمنوا في عصر إبراهيم (ع) بشريعة إبراهيم، وفي عصر نوح (ع) بشريعة نوح، وفي عصر موسى (ع) بشريعة موسى، وفي عصر عيسى (ع) بشريعة عيسى، وفي عصر النبيّ الخاتم محمّد 9 بشريعته الخاتمة. وعليه: فإنّ الإنسان لن ينال الفلاح من دون إيمانه بالوحي الإلهي. وبناءً على ذلك، فإنّ مفاد هذه الآية الكريمة هو أنّ الانتماء الدينيّ إلى الإسلام أو اليهودية أو النصرانية - أو قل: التديّن بالهويّة - لا يكفي لبلوغ مرتبة الفلاح والسعادة، بل يلزم لذلك الوصول إلى إيمان واقعي بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ ، وباليوم الآخر، وإلى عمل صالح، أو قل: إلى الإيمان بما أنزل الله جَلَّ وَعَلا. ولهذا، نجد أنّ إبليس رغم اعترافه وإيمانه بوجود الله وباليوم الآخر، ورغم ذلك الكمّ الهائل من العمل الصالح - الذي تمثّل بعبادة استمرّت آلاف السنين - قد خرج عن الرحمة الإلهيّة؛ لمخالفته أمراً من أوامر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ.

4. لو ادّعى أحدهم أنّ ظاهر هذه الآية يدلّنا على أنّ الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ وباليوم الآخر، مضافاً إلى العمل الصالح كافٍ في إيصال الإنسان إلى الفلاح والسعادة، ولا أثر للإيمان بما أنزل الله في ذلك. نقول: يتعارض هذا الفهم مع آيات قرآنيّة أُخر صُرّح فيها بكفر أصحاب العقائد الباطلة من أهل الكتاب، وبُيّن فيها أنّهم معذّبون. قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾([24]).

5. العمل الصالح شرط ثالث للفلاح والسعادة، وتحقّقه من دون فهم يقينيّ وشريعة سماوية حقّة غير ممكن؛ فإذا أراد المرؤ أن يُسجّل لنفسه عملاً صالحاً، لا بدّ له من أن يتمسّك بشريعة إلهيّة حقة غير محرّفة.

معايير التقييم عند جون هيك:

تشبّث جون هيك (2012م) للخلاص من شِراك النسبيّة بمعايير أخلاقية وتجريبيّة وبراغماتية وما سُمّي بالانسجام الداخليّ. ورغم أنه بعد تناوله لهذه المعايير يستنتج - في نهاية المطاف - أن تقييم الموروث الدينيّ الضخم في هذا العالم أمر غير ممكن، لكنّه على أيّ حال يأتي على ذكرها.

وهنا نقول: إضافةً إلى أنّ هذه المعايير لا تنسجم مع المتبنّيات المعرفية التي يؤمن بها جون هيك فإنّ التمييز بين النومن والفنومن، وكذا ما ذكر من الانسجام الداخلي أو البراغماتية أو غيرها من المعايير الأخلاقية والتجربة الدينيّة لا يمكن لها أن تكون معياراً صائباً للكشف عن وجه المعرفة الحقيقية وتمييزها عن المعرفة الزائفة؛ فالانسجام الداخلي يتلاءم أيضاً مع المنظومة الكاذبة المنسجمة، والنفع العمليّ لا يدلّ على حقّانيّة المدّعى أو بطلانه؛ لأنه أعمّ منه، وتوضيح ذلك: أن الانسجام إذا صحّ كونه معياراً للصدق، فهذا يعني: أنّ منظومتين منسجمتين فيما بينها يجب أن تكونا صادقتين؛ وإن لم تكونا منسجمتين داخلياً؛ في حين أنّ هذا الفرضيّة تؤدّي إلى اجتماع النقيضين.

ومن جهة أخرى، فإنّ النزعة النفعية البراغماتية لا يمكن لها أن تصدر حكماً بحقّانيّة الأديان المختلفة؛ لأنّ الأديان وغيرها من المدراس البشرية كلها مفيدة نافعة، ولهذا فهي جميعاً حقّة! بغضّ النظر عن كونها ديناً ، أو مدرسة فكرية بشرية؛ وهي نتيجة لا يرتضيها جون هيك (2012م).

وأمّا المعايير الأخلاقية فهي حاضرة أيضاً في بعض الشخصيات التي تنتمي إلى مدارس فكرية باطلة ومنحرفة.

وفي كلمة واحدة نقول: كان من المفترض بجون هيك (2012م) أن يقوم - بدايةً - بمراجعة نظامه المعرفيّ، وأن ينال فهم الحقيقة من خلال سلوك المنهج البنيوي، والارتكاز على الأمور البديهية للكشف عن الأمور النظريّة.

تحليل التعدّديّة الدينيّة:

يمكن تقييم التعدّديّة الدينيّة من زاويتين؛ هما:

1. من خلال المضمون الذي تنطوي عليه هذه النظرية؛ لنعرف هل إنّ مزاعم التعدّديّة الدينيّة صائبة أم خاطئة، بغضّ النظر عمّا عرضته من أدلّة؟

2. هل إنّ الأدلّة التي أقامها أرباب هذه النظرية لإثبات مدّعياتهم تامّة أم غير تامّة؟

وحسب رؤيتنا فإنّ مزاعم التعدّديّة الدينيّة - مع غضّ الطرف عن أدلتها التي ساقتها، وأسسها التي ابتنت عليها - غير معقولة، وهي تستلزم التناقض؛ لأنّ الأديان إذا كانت جميعها حقّة ومطابقة للواقع، فهذا يعني أنّ نظرية التناسخ والمعاد في موضوع «الحياة بعد الموت»، وكذلك التوحيد والثنوية والتثليث في باب «الإلهيات» يجب أن تكون صحيحة برمّتها! وهذا ما يستلزم اجتما ع النقيضين، واجتماع النقيضين باطل؛ فلا يصحّ إذن أن تكون جميع الأديان حقّة.

إن قلتَ: كلٌّ من هذه الأديان حقّ عند المؤمنين به؛ فلا يجري التناقض.

قلنا: إنّ الحقّانيّة التي تثبت في هذه الحالة هي ما قد يُعبّر عنها بالحقّانيّة الأخلاقية، أو الحقّانيّة الثابتة للأشخاص، وهذا يعني: تطابق القضية مع المعتقد الشخصيّ؛ وليس مع الواقع. وهذا لا علاقة له بالحقّانيّة الواقعية المعبَّر عنها ﺑ«نفس الأمرية»، وهذا هو ما يدّعيه جون هيك (2012م) وأنصار التعدّديّة الدينيّة.

وبناءً على ما تقدّم، فإننا إذا لاحظنا بطلان أساس المدّعى الذي تنادي به التعدّديّة الدينيّة، فلا يبقى بعد ذلك مجال للقبول بأيّ دليل يُقام لصالحها في مقام الإثبات. ومع ذلك، فإنّ مراجعة الأدلة والأسس التي تقوم عليها التعدّديّة الدينيّة يُظهر لنا أنّ هذه النظرية عاجزة عن إثبات ما زعمته من حقّانيّة جميع الأديان.

وعلاوةً على الدليل العقليّ، من الممكن أن يُستدلّ أيضاً بالدليل النقليّ لإبطال التعدّديّة الدينيّة، ومنه: آيات قرآنيّة عديدة، وأحاديث شريفة كثيرة رفضت التعدّديّة الدينيّة بدلالاتها الالتزامية؛ منها على سبيل المثال: الآيات 137 من سورة البقرة، و 8، و19-22 من سورة آل عمران، والآية 65 من سورة المائدة؛ حيث أكّدت على ضرورة الإيمان بنبوّة الرسول الخاتم محمّد 9 في عصر الخاتميّة.

وفيما يلي نشير إلى الأدلّة النقليّة بشيء من التفصيل:

آيات عالميّة الإسلام:

وردت في القرآن الكريم آيات دلّت على عالميّة الدين الإسلاميّ، ولهذا فقد خاطب القرآنُ الناسَ بشكل عامّ، داعياً إيّاهم إلى الإسلام، معبِّراً عن الرسول الأعظم 9 بأنّه رسول الله إلى جميع الناس. قال تعالى:

1. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾([25]).

2. ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾([26]).

3. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾([27]).

4. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([28]).

5. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾([29]).

6. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾([30]).

12/7/2. آيات عالميّة القرآن

عبّرت بعض الآيات الشريفة عن القرآن الكريم بتعابير دالّة على عالميّته وعموميّته للناس أجمعين. قال تعالى:

1. ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾([31]).

2. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾([32]).

3. ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ﴾([33]).

4. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾([34]).

5. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾([35]).

بطلان معتقدات الأديان المحرّفة:

توجد بين أيدينا آيات قرآنية متعدّدة أنكرت على أهل الكتاب بعض معتقداتهم، ووجّهت إليهم نقداً لاذعاً؛ منها قوله تعالى:

1. ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾([36]).

2. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾([37]).

بطلان اتّباع الأديان الأُخر:

دلّت آيات القرآن الكريم على ضرورة اتّباع الإسلام ديناً، ونهت عن اتّباع غيره من الأديان المحرّفة. قال تعالى:

﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾([38]).

وفي معرض بيانه لدلالات هذه الآية، قال العلامة المطهّريّ (1399ﻫ):

«إذا قيل أنّ مراد الإسلام ليس هو خصوص ديننا، بل المقصود به التسليم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ، فإنّ الإجابة على هذا هي أنّ الإسلام هو التسليم من دون شك، والدين الإسلاميّ هو دين التسليم، لكنّ حقيقة التسليم تتمظهر بنحو ما في كلّ زمن ، وفي زماننا هذا ظهرت على هيئة ذلك الدين الحنيف الذي دعا له خاتم الأنبياء والمرسلين 9، ومفردة الإسلام تنطبق عليه لا محالة. وبعبارة أخرى: يستلزم التسليم لله عَزَّ وَجَلَّ الانصياع لأوامره، ومن الواضح أنّ الاستجابة إلى آخر أوامره أمر واجب، وآخر أوامره هو ذلك الشيء الذي جاء به آخر الرسل» ([39]).

الآيات التي دعت أهل الكتاب للإسلام:

دعت بعض الآيات القرآنيّة أهل الكتاب إلى الإيمان بالإسلام، موبِّخةً الذين ابتعدوا عن تعاليمه. قال تعالى:

1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([40]).

2. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([41]).

3. ﴿وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾([42]).

4. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾([43]).

*  هوامش البحث  *

([1])  Tolerance. [م]

([2])  Violence. [م]

([3])  لاحظ: الصراطات المستقيمة [النسخة الفارسية]، عبد الكريم سروش، ص 71.

([4])  Religion pluralism.

([5])  Religion exclusism.

([6])  Religion inclusivism.

([7])  Religion naturalism.

([8])  Projections. [م]

([9])  Routledge, encyclopedia of philosophy, religious pluralism, genral editor: Edward Cralg, London and New York, 1998, Vol. 8.

([10])      مباحث التعدّديّة الدينيّة [النسخة المترجمة للفارسية]، جون هيك، ص 64-65.

([11])      Routledge, religious pluralism.

([12])      العقل والإيمان الدينيّ، مايكل بطرسون وآخرون، ص 402 [المصدر بالفارسيّة].

([13])      مقالة الصراطات المستقيمة (بالفارسيّة)، عبدالكريم سروش، مجلّة كيان، العدد 36، ص 9.

([14])      الصراطات المستقيمة، عبدالكريم سروش، ص 72، 91 [المصدر بالفارسيّة].

([15])      John Hick. [م]

([16])      John Hick. [م]

([17]) إنجيل يوحنّا 14: 6.

([18]) للاستزادة: الكلام الجديد، عبدالحسين خسروبناه، ص 170-174. [بالفارسيّة]

([19])      Noumen. [م]

([20])      Phenomenon. [م]

([21])      Hermeneutics. [م]

([22]) للاستزادة: أسس المعرفة الدينيّة، محمد حسين زاده، ص 159-172. [بالفارسيّة]

([23]) سورة البقرة: 62.

([24]) سورة المائدة: 73.

([25]) سورة الحجّ: 49.

([26]) سورة النساء: 79.

([27]) سورة الأعراف: 158.

([28]) سورة سبأ: 28.

([29]) سورة الأنبياء: 107.

([30]) سورة الفرقان: 1.

([31]) سورة إبراهيم: 1.

([32]) سورة آل عمران: 138.

([33]) سورة إبراهيم: 52.

([34]) سورة النساء: 174.

([35]) سورة الفرقان: 1.

([36]) سورة التوبة: 30.

([37]) سورة النساء: 171.

([38]) سورة آل عمران: 85.

([39]) العدل الإلهيّ، مرتضى المطهّريّ، المطبوع ضمن الأعمال الكاملة، ج2، ص 278. [النسخة الفارسيّة]

([40]) سورة المائدة: 15-16.

([41]) سورة المائدة: 19.

([42]) سورة البقرة: 41.

([43]) سورة آل عمران: 71.