البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نهضة الإمام الحسين (ع) وملامح التأليف فيها قراءة تحليلية في كتاب (فاجعة الطف)

الباحث :  أ.د. محمد السيد محمود زوين
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  9
السنة :  السنة الثالثة - شعبان المعظم 1437هـ / 2016م
تاريخ إضافة البحث :  June / 25 / 2016
عدد زيارات البحث :  3268
تحميل  ( 357.577 KB )
نهضة الإمام الحسين (ع)
وملامح التأليف فيها
قراءة تحليلية في كتاب (فاجعة الطف)
أ.د. محمد السيد محمود زوين
كلية الفقه – جامعة الكوفة

المقدمة
الحمد لله الذي منّ على عباده بآل محمد (ص)، ونزه قلوبهم من سلطة ظالميهم ،وكمل أعمالهم بولايتهم (ع)، وأعلى مراتبهم بمودتهم والتمسك بهم، وصلى الله على نور الأنوار ومصباح الجلال محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين سفن النجاة وشرعة الهداة وعلى من اعتصم بحبلهم وسلك نهجهم إلى يوم الدين.

وبعد..
ليس غريبا أن تحظى الحوادث الإنسانية باهتمام أقلام الكتاب، وذاكرة التأريخ، ولا ريب في أن أبعاد الوقائع التأريخية تختلف بحسب أهميتها ،وسعة مداراتها ،وقيمة أثرها، وتجدد نتائجها، واستمرار مصاديقها، وحركية استذكارها .
وعاشوراء الحسين (ع) لم تكن مجرد حدث تأريخي عظيم فحسب ،إنما جسد واقعة لها من الفرادة والخصوصية ما يميزها من غيرها، وتجاوز بها حد الزمان والمكان بما امتلكته من قيم الإنسانية، ومثلته من منهج في العطاء والتضحية لله تعالى، وأرسته من فهم جديد للحياة الحقيقية مصداق الخلافة الإلهية.
وقد كان لصدى عاشوراء في التأليف والتصنيف مقام لا يدانى، وتجدد لا يخفى، من هنا جاءت هذه الدراسة؛ لتكشف عن بعض خصوصية واقعة الطف بما تحمل من معان ودلالات، ووقفت عند كتاب يستحق النظر والتحليل بما قدمه من فهم دقيق معاصر لعاشوراء، فجاءت هذه الوريقات على مبحثين: تحدث الأول عن سمات التأليف في نهضة الإمام (ع)، وانعقد المبحث الثاني على قراءة تحليلية لكتاب ( فاجعة الطف ) للسيد محمد سعيد الحكيم (دام عزه) المرجع الكبير، وكانت خاتمة البحث بأهم التوصيات التي هي موضع الضرورة.
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين..

فرضيات البحث:
يمكن القول أن مجموعة من التساؤلات تصلح أن تكون مدار البحث وهي فرضيات قابلة للتطبيق والمناقشة يتبنى الباحث أطرها في مطلبين وهما:
1) هل نستطيع القول أن المادة العلمية التأليفية في أبعادها المختلفة (الدينية, التاريخية، الإنسانية... ) حول قضية نهضة الإمام الحسين (ع) قد استنفدت على مر القرون أو لا ؟
* إذا كان الجواب بـ(لا) فمال المؤلفات والمقالات والموسوعات تترى كلما هلّ عاشوراء الحسين (ع) استفاقت القلوب وتفطرت أرضها بأنواع وأشكال المؤلفات والمقالات.
* وإذا كان الجواب بـ(نعم) فما هو سر هذا التجدد لعاشوراء؟
2) ما هي الفضاءات الجديدة في نهضة الإمام الحسين (ع) التي لم تستوعبها السنون والقرون, وما زالت إلى اليوم مدار التجدد والعطاء والمواهب .
3) ما الذي تقدمه نهضة الإمام الحسين (ع)اليوم لنا ؟ وكيف لنا أن نوظفها في حياتنا لتكون (كل أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء) ؟

المبحث الأول
التأليف في نهضة الإمام الحسين (ع)
الناظر المتأمل في المصنفات والمؤلفات القديمة أو الحديثة والمعاصرة في نهضة الإمام الحسين (ع)، يلحظ اهتماما كبيراً في أبعاد واقعة عاشوراء, فقد انصب الحديث في بعضها على سيرة الإمام (ع), وتتبع الآخر واقعة الطف واستشهاده, واستقصى الثالث أثره في الآداب والفنون, وتناول غيرها تاريخ المرقد الحسيني وهكذا تقرأ العنوان تلو العنوان فيما يتعلق بالإمام الحسين (ع) .
والتأليف في أية واقعة أو موضوع يستدعي من المؤلف سبباً من جهة، وآلية للعمل من جهة أخرى مع إمكان المؤلف توسيع دائرة الموضوع ليوصل ما هو جديد فيه.
وإذا نظرنا لموضوع الإمام (ع) بلحاظ حيثيات الحركات والثورات والحوادث التاريخية الأخر التي لربما توازي واقعة الطف بملامحها البشرية, وحدودها المكانية والزمانية, وشهرتها الإعلامية لا نجد ذلك التفاعل معها تأليفا, وذكراً؛ بل قد ترى أن موضوع الوقائع العسكرية الكبيرة والمهمة في تاريخ البشرية قد تستوعبها مؤلفات أو مصنفات كثيرة لكنك تصل إلى حدّ في الكثرة من جهة العدد مرة أو استهلاك المعلومة مرة ثانية, فتتحدد معالم الموضوع بعدد من المؤلفات وبطابع من المعلومات النوعية المركزية أو الهامشية وعلى كل حال فهي ضمن حدود موضوع تكاملت أبعاده بحثاً ودراسةً.

وإذا تعاملنا مع عاشوراء الحسين (ع) في أي بعد من ابعاد قضيته ضمن حدود هذا المفهوم، والتصور البشري ؛ يقتضي منا ان يكون شأن التصنيف فيه يستوي مع حدود أمثاله( المقيد بالحوادث التاريخية زماناً ومكاناً, واستهلاكاً لموارد المعلومة وآفاق دلالاتها ) إلا أن هذا التصور لا يتطابق مطلقاً مع ملامح التأليف في نهضة الإمام (ع) ولهذا أسبابه ومسوغاته.

تتجدد في كل عام مشاريع البحوث والدراسات في نهضة الإمام (ع) وكأنما الواقعة جديدة العهد, وحوادثها ما زالت طرية لم تأخذ المعلومة حقها من العناية والاهتمام, وأشخاص القضية يتفاعلون مع أحداثها, وآثار الطف تجذب الأنامل؛ ليستحيل المداد دماً شاهداً حاضراً حياً على الفداء والتضحية بكل ما هو مقدس، وهنا يحضر السؤال الوجيه, ما السر في تجدد عاشوراء؟ والإجابة على ذلك تحدده عوامل قراءة ما كتب عنها والإشارة إلى ما خفي منها إلى الآن, ولا أشك مطلقاً أن ما لم يكتب عن عاشوراء أكثر مما كتب ولعل ذلك مرجعه من جهة عدم الالتفات، أو الغفلة عن الإحاطة بجزئياتها، فضلاً عن قصور ما ذكره المؤلفون لتاريخ الواقعة، وبعبارة أخرى إن ما ذكر عن الطف لا يمثل الفاجعة كلها وإنما هو جزء يسير منها، ولي الحق في الاعتقاد بذلك من جوانب متعدّدة منها:

ما أثر عن المعصومين وعن الإمام الحسن (ع) قوله (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله)، وقد لا يغيب عن القارئ الفطن اطلاق دلالة هذا النص وعمومه حتى يتسع مداره؛ ليستوعب عدم مماثلة أي واقعة في تفاصيلها الكثيرة في اسبابها ومقدماتها وفي حدوثها وجزئيياتها الفكرية والإنسانية وفي نتائجها وثمراتها الممتدة حتى هذا اليوم والى ما شاء الله تعالى, حتى استحالت فاجعة كربلاء مثالاً عجيباً يحاول التاريخ ان يتمثله ويسعى إلى ان يعقد وجها للمشابهة معه, وأضحى الإمام الحسين واهل بيته (ع)، واصحابه في كربلاء سلوة لكل ارباب العزاء, وسكينة لكل الثائرين والناهضين الذين وطّنوا انفسهم على الموت, وخلد يوم عاشور؛ ليكون مثالاً وعنواناً للتضحية وتلوح على خطاه رايات ورايات كلها تلوذ بكربلاء شاهداً حاضراً في الفداء والقلوب تلهج بالذكر اين نحن من الحسين (ع) ﴿ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوب﴾.

إنّ النتائج العظيمة التي اوجدتها فاجعة الطف تدل على عظم واقعتها وعلو شأنها فهذه الثمرات الكبيرة إنما هي جزء من تلك الحادثة ولا ريب في ان النتائج تاتي على سنخ المقدمات والحوادث, وإذا كنا نعيش آثار عاشوراء بعد قرون نقرأ ونحلل ونستنتج فما بالك في تفاصليها المهمة وجزئياتها العظيمة كونت وجسدت هذه النتائج من هنا نعتقد بأنّ الكثير من تفاصيل كربلاء ما زالت غائبة عن واقع معرفتنا وقصور مداركنا.

قد يحق لمن راود التأليف أو القراءة في الملحمة الحسينية ان يعلن عن ذهوله وعجزه, فالقضية الحسينية لها مدارات وابعاد لا يمكن استيفاء جزئياتها الظاهرة بكتاب, أو تقييد ظاهرتها بالأسطر؛ لا لأنها جرت في زمان ومكان لا يمكن تحديده لسعته وتعدد جهاته ؛ وإنما بسبب تضمن القضية الحسينية قيماً ودلالات لم تشهدها واقعة على مر الزمان، وخلود القيم والمعاني أعمق وأثبت جذراً من خلود الوقائع والحوادث العسكرية؛ فالأولى لا يحدها الزمان والمكان والثانية لا يمكن خروجها عن الزمان والمكان, والقيم والمعاني لعاشوراء نبضها الخالد فطرة الحرية في قلوب الأحرار؛ إذ لا يجد تجسيداً حياً ومصداقاً أوفى وأكمل في الوجود منها, حيث ارتبطت بخالق الوجود وموجد الحياة الحقة .

ومن هنا قد يأتي من يقارن عاشوراء بلحاظ جانبها العسكري والحربي بأية معركة جرت في تاريخ البشرية سواء أكانت قبلها او بعدها في الإسلام او غيره في العصور السابقة او العصر الحديث, ولتكن المقارنة بالحرب العالمية الأولى أو الثانية مثلاً, فهل تجد تصوراً يمكن ان يمثل وجهاً للمقارنة بينهما من جهة الخلود أو تجدد الذكرى وتمثل القيم والمعاني لكل من الحادثين، فهذا أمر يستحيل تصوره كما يصعب تماماً تصور وجه المشابهة في الزمان والمكان للحرب العالمية الأولى والثانية .

لقد ارتبطت عاشوراء بكل ما في مسالك الإخلاص والارتباط بالله تبارك وتعالى وهذا ما تفتقده أو تتفاوت فيه امثال عاشوراء من الوقائع بغض النظر عن حجمها وزمانها ومكانها.

فالمسألة في الخلود ليست كماً وحجماً؛ وإنما هي قيم سامية في الاخلاص والفداء والتضحية لله عز وجل، هذا هو معيار الخلود من عدمه، فيحظى بالقبول الحق أو التنقل في مدارج القبول، فينعكس مقامه وتصوره على واقع الحياة.

لقد تحولت عاشوراء الطف إلى ظاهرة بشرية([1])تتعدد أبعادها وتختلف تجلياتها, ففي كل اتجاه تجد الحسين (ع) حاضراً مقصوداً بالفكر والعمل والمنهج, فإذا جاء وقت عاشوراء رأيت عجباً, وأبصرت حباً يتجدد ويتجذر عاماً بعد عام, فليس لطول الزمان عن الحادثة حاجب، ولا بعد المكان عنها صارف؛ لأن عاشوراء تتجسد لأهلها قيماً إلهية يعيشون افياءها لا يستطيعون الانفلات من فطرتهم التي تسبح في أفلاكها وتنتظم في عقدها .

إن سر تجدد عاشوراء كل عام في القلوب, وتجديد العهد مع الحسين (ع) بمصاديق شتى، وطرائق مختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر سمة التأليف والتعبير بالكلمات عن الفاجعة لا يقف عند حدٍ, ولن يتوقف إلا ما شاء الله تعالى؛ لأنها تعجز عن تمثل وتجسيد عاشوراء بمضامينها وقيمها الحقيقة عند الله تعالى التي تنعكس في صورتها البشرية ومدارها الإنساني هو فناء في الله تعالى وارتباطا بالمطلق بالباقي بالحي بالغني بالوارث ولا يبقى بعد هذه الصفات لكلمة الخلود غير دلالتها اللغوية، فهي ذائبة في الصفات الإلهية؛ ولذا فإن الأقلام لن تجف والأنامل لن تكل ما دام المشهد إلهياً والحضرة والمقام قٌدسي ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف 110).

لقد قام البحث بأخذ عينة من المؤلفات التي كتبت عن الإمام الحسين(ع) وعاشوراء وهي مجموعة لا تقل عن مائة عنوان من خلال فهارس المكتبة المتخصصة بالإمام الحسين (ع) الموجودة على موقع العتبة الحسينية ([2]) والنظر فيها وفي مادتها وموضوعاتها، فذهلت لما وجدت وتواصلت عندي فرضيات البحث مع نتائجه .

فقد تعددت مواطن التأليف في موضوعات وجزئيات كثيرة تؤدي بك الى توقع ان عاشوراء قد استوعبتها المؤلفات واحتوتها المصنفات وانتهت بعد ذلك الى دائرة اشباع الموضوع بحثاً وتأليفاً، لكنك سرعان ما تحصل على الجديد ممن كتب والجديد والأصيل فيما ألف, فتخلص الى الاعتقاد بأن سمة التأليف في عاشوراء متواصلة متجددة ؛ لتكون جزءاً من الظاهرة الحسينية البشرية التي تسعى الى الارتشاف من عين الصفاء والنقاء قيم التضحية والفداء في سبيل الحق وإقامة دين الله على ارضه واحياء شريعة الإنسان الحر المستخلف.

وعلى الرغم من ذلك كله تبقى لنا مع عاشوراء الحسين (ع) حاجات وحاجات عصرية لا تستقيم إلا من مصداق الإمام (ع) الذي وحّد المفاهيم المتعددة في مثاله, وجسّد أسرار الخلود والبقاء بدمائه, فمازال بنا الى عاشوراء فقر لا يسده إلا تمثل عطاء الإمام الحسين (ع) في فدائه العظيم، ونهضته المباركة، فكيف نوظف ذلك في وقتنا الحاضر ؟ ونتحول به الى منظومة حركية تعادل في حيويتها تحديات العصر، ومشاريع انحراف الامة الاسلامية عن نهجها المحمدي, وتوازن – وهذا من اسرار الشهادة فيما اعتقد- الحياة الحقيقية (الحقة) بلحاظ إحياء الدين والإخلاص في الفداء وطلب الحرية والكرامة، وإن كان نتيجتها موت الجسد، وفناء الجسم الإنساني من جهة، مع الموت الحقيقي الذي تحيطه حياة الذلّ والاستعباد والابتعاد عن الله تعالى، وإن حظي ببقاء الجسد وتعاظم الاجسام والهياكل الإنسانية ؛ فإن مصيرها موت مضاعف فوق التراب وعلى الارض, وتحت الثرى تأكل جسده مسارب التراب وديدان الارض على عكس الأول تماماً .

وبعباره اخرى من اهم ما يراد منا معرفته وتوظيفه مع عاشوراء الحسين (ع) أدراكنا لجدلية (الموت والحياة) في مدارها الحسيني فليست شهادة الحسين (ع) إلا حياة حقيقة بلحاظ الخلود, وليست حياة قاتليه وأمثالهم إلا موت مضاعف بلحاظ الحياة، وحيثيات النتائج، وثمرات المواقف ؛ وعلى اساس من هذه القاعدة لا بد من الاعتقاد الجازم بأن نهضة الإمام الحسين (ع) إنما هي نهضة حياة لا نهضة موت, فقيامه (ع) للإحياء والاصلاح لا للموت والشهادة غاية في ذاتها ؛ إنما هدف الشهادة والموت, الحياة الصالحة المرضية عند الله تعالى وهي قوله (ع) (ما خرجت إلا لطلب الإصلاح في أمة جدي).

إن أهم دلالة في النهضة المباركة انها نهضة صلاح في الحياة التي اغتالها بني امية في سلطانهم، فكان موقفه وشهادته اصل نقض بني أمية ودولتهم الباطلة ودمار اسسهم على قاعدة (الحياة الحقة ابقى وأكثر أثرا من الموت) .

إن منهج او حركية الإمام الحسين (ع) – إذا جاز لنا التعبير عنها- في نهضته الإلهية تستلزم منا قراءة عصرية جديدة نوظف من خلالها تلك المعاني والقيم والدلالات في حياتنا المعاصرة سواء أكان ذلك في اتجاه واقعنا العملي، ومواطن التواصل مع الآخر أياً كان، او في اتجاه واقعنا المعرفي العلمي الذي يهدف الى الكشف عن حقائق عاشوراء الإمام (ع) معرفياً، وتوكيد سمتها واهميتها في وقتها زماناً، ومكاناً، وآثارها ونتائجها الى اليوم، ولا سيما ونحن نعيش تفهماً عالمياً ونشراً إنسانياً لقضية الإمام (ع)، اكثر سعة مما سبق .

وعلى أي حال من الاحوال حري بنا ان ننظر بعين باصرة لتجانس مفاصل نهج النهضة المباركة من جهة الإعداد والمقدمات مرة والتعامل الفعلي مع العدو مرة ثانية.




المبحث الثاني

كتاب (فاجعة الطَّف) للسيد محمد سعيد الحكيم(دام عزه)

قراءة تحليلية


من بين أهم الكتب التي صدرت في نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) كتاب (فاجعة الطف أبعادها, ثمراتها, توقيتها) وهو (بحث تحليلي في النهضة الحسينية ودورها في وضوح الحقيقة الدينية) كما جاء في عنوان الكتاب وبياناته للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم المرجع الكبير من مراجع الدين في النجف الأشرف، وإذا جاز للباحث أن يوجز الحديث في مقدماته فحسبه أن صاحب هذا الكتاب علم من أعلام النجف الأشرف سجل التاريخ الإسلامي اثره فكراً وجهاداً .

وليست بي حاجة للقول في صاحب الكتاب (دام عزه) فهو علم من أعلام الإمامية في هذا العصر([3]) . وقبل الشروع في دراسة الكتاب لابد من معرفة.


السمات المنهجية للكتاب والمؤلف:

يمكننا الوقوف عند أهم المعالم المنهجية التي بنى المؤلف عليها كتابه، واسس لأفكاره الموصلة لتحقيق أهدافه وغاياته من خلال النقاط الآتية :

1ـ يأخذنا السيد الحكيم (دام عزه) في أفق واسع من معالم نهضة الإمام (ع), ويسبر اعماق هذه المواطن ليحلل احداثها, ويقلب بواطن مفاصلها ويوقفنا على عقد وقائعها الحقيقة, وهذا منهج صعب.

أن تجمع بين عدة مساحات من البحث بشكل أفقي, وتمضي مدركاً ملامح حقائقها بشكل عمودي معمق؛ لتحصل النتائج وتربطها بالمقدمات تشكلها فكراً خالصاً .

أقول هذا الأمر ليس باليسير مطلقاً وغير متاح لمن يكتب أو كتب في نهضة الإمام (ع) أن يعزز هذه القناعة المنهجية ذلك بالتتبع للمصادر والمراجع والوقوف عند جزئيات النهضة, ومسارات الواقعة فيما بين السطور, ولعلي لا أبالغ في القول إن من تجتمع فيه القدرة على الاستثمار والتوظيف للمصادر على هذه الشاكلة وعى وادرك مفردات الموضوع وصدر عن فهم موسوعي لحادثة عاشوراء ومكانتها في التراث الاسلامي المختلف في تصوراته لها .

2 ـ الموسوعية والاستطراد سمة واضحة على أسلوب المؤلف ولك أن تنظر المقصد الثاني من الكتاب بفصوله ومباحثه لتجد عناصر الموسوعية والاستطراد واضحة بارزة.

3 ـ التلازم الموضوعي بين مفاصل الكتاب ومقاصده وعنواناته بشكل منطقي ممنهج يخرج القارئ من باب الى آخر بحسن تخلص, بما يربط المقدمات بالنتائج والفوائد والثمرات .

4 ـ الوقوف عند جزئيات الفاجعة وتتبع حلقاتها وتوظيف كل شاردة ونادرة تتصل بعاشوراء وفي هذا قدرة وافية في معرفة الموضوع وكيفية التعامل مع مفرداته.

5 ـ التوثيق الدقيق للحوادث التاريخية والروايات وكل ما من شانه تأييد آراء المؤلف وما يذهب إليه.

6 ـ الأسلوب التعبيري من باب (السهل الممتع) وإظهار المعاني بالصياغات المعتبرة ذات الدلالات العالية الرفيعة.


كتاب فاجعة الطف :

أما الكتاب فهو يقع في أكثر من ستمائة وسبعين صفحة من القطع الوزيري طبع للمرة الثالثة عام (1431هـ - 2010م) وصدر عن مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية.

ينتظم الكتاب في مقدمة وثلاثة مقاصد وخاتمة توزعت على فصلين فضلا عن تقديم عرض فيه المؤلف منهجه, وستة ملاحق تضمنت خطب مهمة وقائمة للمصادر والمراجع زادت على ثلاثمائة وثلاثين عنواناً.

لم يرغب السيد الحكيم (دام عزه) في أن يبتدأ الكلام عن عنوان الكتاب ومنهجه من دون ان يقرر في الاذهان أمرين؛ بل ثلاثة، هي :

الاول: إن هذه النهضة النادرة الفريدة لا في الإسلام فحسب؛ بل في العالم أجمع قد حظيت بالاهتمام والتقييم بشكل جعلها من الفرادة بمكان غير مسبوق ولا ملحوق.

الثاني: على الرغم من كل ما تميزت به من الاهتمام ما زالت جوانبها المباركة مدار البحث والدراسة؛ وذلك لأنها كانت بأمر الله تبارك وتعالى ولها من الاهداف والثمرات والفوائد ما لايدرك إلا في الوقت المناسب؛ لأنها في علم الله تبارك شأنه ﴿وَلا يُحِيْطونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلّا بِمَا شَاءَ﴾.

الثالث: إن نهضة الإمام أحدثت تحولا في المجتمع الإسلامي وفكره نحو قضاياه الدينية والدنيوية, وفجرت فيه روح الاسلام المحمدي الحي, ومازالت الى الآن منهلاَ يرتوي منه الاحرار ومنارا يستضاء به في ظلم الطغيان, وفكرا يوظف- في كل زمان ومكان – لاسترداد الحقوق ونبذ الباطل, وهذا مصداق من مصاديق الخلود.

والإشارة بادئ ذي بدء الى كل ذلك إنما يطهر الأذهان من الشبهات ويستلزم قبول الحقائق نقية حية, فلا جدلية بين القلة والكثرة في التأليف بشأن عاشوراء الحسين (ع), وليس أمر النهضة بعد ذلك من شان السياسة أو الدنيا كما يتصوره من لا حريجة له بالدين؛ إنما هو (عهد معهود منه تعالى) وهذا يفسر سرّ خلود عاشوراء .

ويسترسل المؤلف (دام عزه) في تقديمه المنهجي ويعرض للعنوان ومفاصل الكتاب ويحكم الصلة بين العنوان والمعنون بعد ان يحدد معالم العنوان بسبب دلالاته المقصودة, وأهدافه المنشودة القائمة على فرضية بحثية تقوم على ثنائية العاطفة والفكر, او الفاجعة (المأساة) الدينية والإنسانية وملامحها الحزن والألم والبكاء, وقضية الحياة الحرة الكريمة وملامحها نقض الاستعباد والظلم والطغيان؛ ليكون العنوان على بعدين :

الأول: يستعرض الفاجعة «وبيان المفردات المأساوية المثيرة التي تجمعت فيها, وجعلتها في قمة المآسي الدينية والإنسانية وبالحجم المناسب لخلودها» ([4]).

الثاني: يظهر الوجه الآخر لها من جهة إحياء الدين وتاسيس قواعد الحياة الحرة وتحويل العواطف الى مواقف حية توظف وتستثمر في الحياة؛ لذا جاء البعد الفكري عنواناَ تفصلياَ (لفاجعة الطف)، وهو (أبعادها, ثمراتها, توقيتها)، وهذا العنوان التفصيلي قامت على أساسه مقاصد الكتاب الثلاثة التي يسبقها السيد الحكيم (دام ظله) بمقدمة يؤسس فيها بالادلة والبراهين لنظرية التخطيط الإلهي لواقعة الطف بما ينقض تماماَ فرضية النظرية المقابلة لها ومفادها (ان التخطيط لواقعة الطف بشري) فهذا أمر مردود مستنكر معارض بالحجج الدامغة التي لا سبيل الى رفضها, كونها حقائق تسالم عليها اهل العلم في مصادر استنادها وثبوت وقوعها بحسب تواتر نقلها, ولا خلاف في هذا بين المسلمين إنما يوهم بالخلاف او بالمخالفة بعض من ينظر بعين واحدة ويفكر بلحن خفي.

من هنا يوثق المؤلف هذه الحقيقة بالنصوص الروائية عن النبي واهل بيته (صلوات الله عليهم) وعن بعض اعلام الصحابة والتابعين ومن خلال الاستدلال بالحوادث التاريخية وفي كل ذلك ينقل عن مصادر عامة المسلمين تفاصيل وافية يدعم فيها نظرية التخطيط الإلهي لواقعة الطف بما لا يدع سبيلا للمقارنة مع غيرها, ولا مجالا للشك في ابعادها, فياتيك بالشاهد تلو الشاهد والحادثة تلو الاخرى بدءا من زمن الرسالة حتى شهادته (ع), ينتقل بين العناوين المختلفة؛ ليوظفها على أحسن ما يتصور طلبا لإيضاح الحقيقة وبيان المطلب فلا يدع نصا او حادثة إلا ويستثمرها في اتجاهات مختلفة يخلص منها الى نتيجة واحدة وهي إن نهضة الإمام الحسين (ع) عهد معهود ولا يصلح غير هذا الراي يقينا مع مقام نهضة ما تزال الى اليوم منبع الثورات ومعتمد الحراك الإنساني ضد الظلم والطغيان .

لقد استحصل المؤلف (دام عزه) ثمرة ما قدم من الادلة, وغاية ما اراد من البراهين فقناعة القارئ وإيمانه بفرضية البحث إنما يتطلب عرض الحقائق والربط بين اجزائها وهو عين ما سعى إليه السيد الحكيم (دام عزه) فقدم اكثر من خمسة وعشرين عنوانا استدلاليا على حقيقة فرضية البحث ليصل بانتقال منهجي منطقي الى مقاصد البحث التي تشخص امام القارئ بتراتبية منسقة متواصلة يفضي احدها الى للآخر ويستكمل أولها نتائجه في الثاني, ويسطع المقصد الثالث ليميز التناسب الزماني لأحداث وثمار المقصدين .

وعلى أية حال فقد عنون المؤلف (دام عزه) المقصد الاول: (ابعاد فاجعة الطف وعمقها ورردود الفعل المباشر لها)، وجعل هذا العنوان على فصلين اختص الاول بابعاد الفاجعة وعمقها, وقام الفصل الثاني على ردود الفعل المباشر لها.

ولا يخفى على قارئ الكتاب ان هذا الفصل تأسيسي بالنسبة للمؤلف ومنه انطلق الى بناء مدارات الكتاب عليه, فالوجه الدامي للفاجعة اعطاها الأثر الاكبر والمدى الابعد في الكشف عن الحقائق وتاكيد ملامحها في اتجاهين :

الاول: حقيقة مقام الإمام الحسين (ع) ومكانته وما له من خصائص إلهية فرادة إنسانية لا يدانيه فيها احد ولا يقاربه فيها بشر, فليس على وجه الارض ابن بنت غيره فهو وراث النبوة المحمدية قولاً وفعلاً وتقريراً وهي حية شاهدة في قلوب المسلمين ما زال المسلمون يعيشون اجوائها بلحاظ المكان والزمان فالعهد من النبي (ص) قريب, وعلى الرغم من كل ذلك لم يرعَ بنو امية مقام الإمام (ع) ولا أهل بيته وكانوا بذلك معلنين عن حال واقعهم الحقيقي الذي تجسد في الاتجاه الثاني.

الثاني: صورة النهج العدواني الدموي لبني أمية الذين لا يرقبون في المسلمين إلّا ولا ذمة، فإذا كان من بمقام الحسين واهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) يفعل بهم هكذا فكيف بالناس والمسلمين .

هذان الاتجاهان وظف السيد الحكيم (دام عزه) فيهما كل ما استطاع الحصول عليه من الادلة والحوادث التاريخية والبراهين على خصوصية الوجه الدموي العدواني تجاه الإمام وحاول ان يظهر – وقد وفق في ذلك- تلازم المشهدين في الطف بما يقدم من خلالهما صورة الفاجعة التي أخذت أبعادا مختلفة في التحذير منها وتنبيه المسلمين عليها قبل حدوثها, وفي أحداث وقوعها وبشاعة جزئياتها .

وقد أنتجت آثارا مختلفة على صعيد الكون والطبيعة والناس والفكر وهو نتيجة ذكية قادنا إليها المؤلف (دام عزه), فالسماء التي أمطرت دماً والأشجار التي انبعثت منها الدماء أو التي سالت من حيطان القصور أو الدم الذي تحت الحجر والصخور أو ظهور الحمرة في السماء وغير ذلك كثير من تغيير الكون والطبيعة ويخصص لآثار عاشوراء وفاجعته في الناس الفصل الثاني من المقصد الأول على حين يناقش باستفاضة ثمرات الطف وفاجعته في الفكر والمنهج الديني والإصلاحي فضلا عن آثارها في الواقع المجتمعي والسلطوي, ومهما يكن من أمر فقد أوقفنا المؤلف (دام عزه) في الفصل الثاني من المقصد الأول على آثار وردود الفعل المباشرة لفاجعة الطف وقد تمثلت في مقامين :

الأول: رد فعل الناس .

الثاني: رد فعل السلطة.

ولا ريب في أن عملاً إجراميا في أبعاده المختلفة تحتم ردود فعل مختلفة, لا تقتصر على الأفراد او الجماعات، بل تعدت إلى الأمصار والبلدان مما حدا بالقتلة السفاحين من اكبر هرم السلطة إلى أدناها أن يندموا (ولا حين مناص) والندم أدنى مصاديق الجرم والكبائر التي لا يجبرها ندم ولا حسرة, لقد استوعب السيد الحكيم (دام عزه) جميع الموارد التي أظهرت تحولاً في أفعال أو أقوال الناس والسلطة وجمع بينهما في غاية واحدة تؤكد قصوراً وتقصيراً في حق الإمام (ع) من جهة المتخاذلين عن نصرته (ع), وتجسد تنصلاً عن الجرم العظيم من جهة قاتليه (لعنهم الله) ولكل جانب منهما مظهر نصت عليه المصادر التاريخية التي تتبعها البحث بدقة وإيجاز وقدّمها في إطار عنوانات صغيرة جمع فيها الدلائل على فوات الآوان على النادمين فضلاً عن تأييد حقيقة الآثار الكونية والمجتمعية لشهادة الإمام الحسين (ع) والتي أضحت تقلق السلطة وتهز أركانها؛ لينطلق بنا الى المقصد الثاني من الكتاب والذي تناول ثمرات فاجعة الطف وفوائدها، وقبل الحديث عن هذا الجزء المهم من الكتاب لا بد من أن اذكر ان المقصد الثاني قد تجاوز نصف الكتاب, وكانت لعنواناته المهمة التي أنبأت عن استطراد موسوعي للمؤلف (دام عزه) ربط فيها بين مطالب البحث وقضاياه الحسينية بسياقاتها وأصولها التاريخية السابقة وعمقها بالنتائج التي افرزتها عاشوراء الطف بعد شهادة الإمام (ع) وقدمها في فصلين كانا اهم فصول الكتاب.

وبعبارة اخرى : يقدم المؤلف اطروحة مهمة جدا يركز فيها على نتائج فاجعة الطف وفوائدها بالنسبة للدين الاسلامي بشكل عام وللتشيع بوجه خاص, ويرى – باستدلاله الدقيق- ان هذه الواقعة العظيمة لم تكن حادثة عارضة في وقتها منبثقة عما قبلها من تاريخ الرسالة واهل البيت (ع)؛ إنّما كانت لها من الاصول التاريخية والاسباب الفكرية العمق الاكبر محركة التاريخ متوالدة عن تراكم وليست عن فراغ من هذه النقطة المهمة يرصد السيد الحكيم (دام عزه) تلك العلاقة بين عاشوراء وبين ما جرى على المسلمين من حوادث من بعد شهادة النبي (ص) الى عام (60) للهجرة في اتجاهين :

الأول: ما تعرض له الدين الإسلامي من بوادر انحراف عن الجادة التي رسمها النبي (ص) للمسلمين, وكيفية انتقال السلطة ومدى شرعيتها فضلاً عن جدلية العلاقة بين السلطة ومستقبل الإسلام .

ويؤكد ان النتائج التي افرزتها حركية السلطة آنذاك هي التي مهدت باستيلاء بني امية وتوليهم رقاب المسلمين وانحرافهم بالاسلام المحمدي الى مدار آخر وهي امتداد لما سبق ولم تأت النتائج من دون ذلك الاصل.

الثاني: بيان مقام اهل البيت ودورهم في ايقاف وكبح جماح الانحراف وهي مهمة رسالية, تقتضيها الامانة الإلهية التي حملوها بإزاء الدين الإسلامي، فقاموا (صلوات الله عليهم) بما كلفهم الله تبارك وتعالى ونهضوا بالأمر وذبوا عن حياض الدين وبذلوا ما استطاعوا من اجله, فمواقفهم المؤيدة المسددة منه تعالى صدرت عن اليقين وهي مواقف في عرفنا المتواضع يظهر لنا وجه الحكمة في بعضها مرة, وقد يخفى عنا في بعضها الآخر([5]).

لقد كانت رسالة نهضة الإمام الحسين (ع) إنها استنقاذ للعباد من الجهالة وحيرة الضلالة, وإنها الفتح الجديد بالدين الإسلامي بعد ان خلق من انحراف السلطة واصبح في مهب التشويه والضياع وليس له إلا الحسين (ع) .

من هنا يضعنا المؤلف (دام عزه) أمام مسارين لهما آثار وثمار الى اليوم على الرغم من البون الشاسع بينهما ينظر لها من جهة ثانية, وتقابل المسارين تقابل تضاد يفترق فيهما الحق عن الباطل والمساران هما:

مسار الانحراف عن الإسلام الذي قاده معاوية بصورة أوضح وبنهج مباشر وإن كانت له اصول فيما سبق ومن بعض مصاديقه تولية العهد، وقد استنكره عليه المسلمون ـ في وقته- لكنه فتح الباب على من بعده يقول (دام عزه): (فإنّ من الظاهر ان النهضة المباركة لم تمنع من استمرار العمل على نظام ولاية العهد في الخلافة من دون مراعاة اهلية المعهود له, واستمر ما سنه معاوية في دول الاسلام المتعاقبة حتى تم إلغاء الخلافة في العصور القريبة, وإذا كان كثير من المسلمين قد استنكروا على معاوية – في وقته – فتح هذا الباب، فإنّهم قد سكتوا عمن بعده وتأقلموا مع النظام المذكور أمراً واقعاً؛ بل أقر فقهاء الجمهور الخلافة المبتنية عليه كما أقروا خلافة الأولين ) ([6]) .

هذا المسار أدى إلى آثار سيئة على الرغم من كبح جماح جماعة وإيقاف طغيانه بالنهضة المباركة فقد (جرّأت الأمويين على الدماء كما توقع الإمام الحسين(ع) وجرى على ذلك من بعدهم من الحكام في الدول المتعاقبة)([7]).

أضف إلى ذلك ان هذا المسار حَفّز السلطات المتعاقبة باسم الإسلام على الظلم والتعدي على حرماته وأحكامه, وزاد في تفريق المسلمين وتدهور أوضاعهم في كل المجالات دينياً واجتماعاً وعمق الخلاف بين شيعة أهل البيت وكثير من الجمهور, وعلى الرغم من كل ذلك كانت للنهضة المباركة وقعها المؤثر والفاعل في استمرار تقييد طغيان هذا المسار وكبح جماحه وإبطال أكذوبته وتضعيف أركانه كل ذلك بما تحقق من ثمار المسار الثاني.

مسار الموقف والتضحية للدين التي جسدها الحسين (ع) فهو المؤتمن على الدين المقوّم لانحرافه الذي أسس قواعده ودعمت أركانه بني أمية فكان (صلوات الله عليه) يقف بوجه مسار الانحراف بما يتناسب وجسامة الموقف وخطر البدع والحوادث فحركته (ع) تبعاً لتكليفه الإلهي في الصبر مرة والرفض والإعداد ثانية والنهضة والتضحية ثالثة، فقد قدّم في سبيل دين الله وحرمته كلَّ ما عنده ومصداق هذا (الكل) فاجعة الطف بدقائقها وجزئيات أحداثها؛ لتتحول وتثمر عن منهج إلهي مهمته وغايته مصلحة هذا الدين في مقارعة الانحراف وكشف التزييف.

من هنا كان ارتباط(فاجعة الحسين (ع)) بإحياء (دين الله) مؤسساً لوعي وادراك متجدد لمرجعية (الدين الحق) الذي يتعدى حدود الزمان والمكان ويستعصي على الطغاة وجبابرة الارض محوه أو إخماده ما دام في نبض هذا الدين دم الحسين (ع) الفاتح, قال (ع) في رسالته لبني هاشم «أما بعد فإن من لحق بي استشهد, ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام»([8]) .

لذلك يقرر السيد الحكيم (دام عزه) هذا المعنى مراراً بطرائق مختلفة واساليب شتى وعنوانات متعددة كلها تفضي الى حقيقة ارتباط عبد الله (الإمام الحسين(ع)) المؤتمن بـ(دين الله) المعرض للضياع والمحو والاستبدال بدين جديد (الاسلام الأموي بدلاً عن الإسلام المحمدي) المنهج وطريق ينقض دين الله تعالى من داخله بتعطيل الحدود والاحكام وتغيير المفاهيم؛ ليكون الانقلاب من الداخل؛ لأن نسخ الدين يؤدي بالضرورة الى الضياع, ولا بد من موقف وتضحية تكون بمستوى المؤامرة على الدين وهذا ما لا يقوم به إلا المعصوم صلوات الله عليه المؤتمن الراعي للدين وهذا المعنى حدده البحث في الموازنة بين الانحراف في الاتجاه من جهة وما من شانه ان يترتب على الانحراف لو لم يعطل مشروعه وهذا أولاً، وثانياً: جهود أهل البيت(ع) في مقارعة الانحراف والدفاع عن حياض الاسلام([9]), وكلا الامرين اجراهما المؤلف (دام عزه) في مبحثين جعلهما قاعدة تأسيسية لواقعة الطف. ولعل التعرض لبعض عنوانات المبحث الأول تكشف عن مدى صواب وصحة ما ذهب إليه، فالشواهد التاريخية حاضرة والاحداث المترتبة عليها واضحة العلاقة بها.

يستدل البحث على رعاية المعصومين لهذا الدين بوصفه خاتمة الاديان والمصحح لما سبقه وليس ينتظران يصحح بدين او نبوة إذا اختلف فيه العلة؛ لذا كان المعصومون هم الموكلون بحفظه وعلى ذلك جاءت النصوص الموثقة في وجوب معرفة الإمام والاذعان بإمامته وطاعته ومولاته والنصيحة له, ولزوم جماعة المسلمين والمؤمنين وحرمة التفرق, ولهذه المفردات مقام عظيم في نظم امور الدين وأهله؛ لأنها محمودة العاقبة تستوجب اللطف الإلهي إلا ان ما جرى بعد شهادة النبي (ص) على عكس ذلك تماماً، فتعثرت الامة وانحرفت عن الخط الرسالي, واستبعدت اهل البيت (ع) عن مقامهم المنصوص عليه, واعطت مقاليد السلطة الى غيرهم فأصبح معيار الإمامة والولاية بالقسر والقهر بخلاف حكم الله ورسوله فانكر اهل البيت (ع) (علي والزهراء صلوات الله عليهم) ذلك واضطروا الى مسالمة السلطة فأسلمت أمور المسلمين وبدأ استغلال السلطة بخصوصيات اهل البيت فوضعت الاحاديث لصالحها، ثم ما لبثت حتى تمسكت باحاديث وجوب طاعة الامام ونصرته مع تحريف مصداق الامام الى غير اهله فضلاً عن استعانة السلطة بمفاهيم زائفة منها أن ذلك قدر منه تعالى وقضاء، وعلى ذلك نما جيل جديد على الطاعة العمياء للسلطة واخذ التحريف بعداً بتولي الجهلاء للفتوى والقضاء وختم المبحث بنماذج من التحريف في زمن بني أمية تجاوزت الثلاثين تحريفاً؛ لينتقل الى المبحث الثاني الذي اختط المؤلف له منهجاً تراكمياً في الاحداث كانت غايته بيان جهود اهل البيت (ع) في ردّ الانحراف التي قامت على ثلاثة مقامات، اهتم الأول بجهود الامام علي (ع) والخاصة من اصحابه والتابعين الذين كانوا معه في صدّ الانحراف مقابل ضغط السلطة المتواصل عليه وعلى اصحابه صلوات الله عليهم وتابعيه .وفي هذا المبحث سرد غني للحوادث التاريخية المسكوت عنها او المفعولة وهي مهمة للباحثين عن الحقائق والمتصدين لمعرفة واقع المسلمين آنذاك

وجاء المقام الثاني على بيان رد فعل السلطة على جهود الإمام علي (ع) وخاصته في ردع الانحراف فكان لإهمال معاوية بالقضاء على خط اهل البيت(ع) أساس في هذا المقام فقد نكل بالشيعة وحجر نشر السنة النبوية ومنع الروايات المؤيدة لأهل البيت (ع) ووضع الاحاديث المزيفة في فضل الصحابة والخلفاء واستبعادها عن آل البيت وعن علي (ع) خصوصاً مقابل تقديس الخلفاء, وانعقد المقام الثالث على أثر فاجعة الطف في الاسلام بكيانه العام وابتدأ باشارة الى قوة الدولة التي اقامها معاوية بالترهيب والترغيب وبالإعلام والتثقيف المنحرف وإثارة العصبية والنعرات الجاهلية وكيف تعامل الناس مع واقع السلطة التي تمثل انحرافا دينيا, يستوي مصداقه الأكمل ببيعة يزيد لعنه الله بعد ان أرسى معاوية قواعدها واحكم بنيانها في امة متخاذلة أنساها دينها ومثلها ([10]) .

«واتخذ نهج التدرج في الانحراف والمخالفات بنحو لا يستفز الجمهور, وكلما آلف الجمهور مرتبةً من الانحراف انتقلت للمرتبة الأعلى وهكذا حتى يألف الجمهور حكم السلطة في الدين وتحويرها له »([11]) .وعند ذلك تكون تبعية الدين للسلطة فيضمر وقعه في نفوس الناس، وقد ينتهي التحريف بتحول الدين إلى أساطير وخرافات؛ لذلك لابد من موقف يفقد السلطة توازنها؛ لتقوم بجريمة نكراء تنكشف فيها على حقيقتها وتستفز جمهور المسلمين, وتذكرهم بدينهم وتستثير غضبهم وتفصلهم عن السلطة وتخسر ثقتهم بها, وبذلك تفقد السلطة فاعليتها وقدرتها على التحريف ([12]).

لقد كانت التضحية بأوحد أهل الدنيا على وجه الأرض الطريق الى نقض بناء السلطة مدة عشرين سنة، فقد سنحت الفرصة بعد ان وصل الاستخفاف والاستهتار بالدين والناس أعلى مراتبه باتخاذ يزيد الخلافة مرتعا له ولأمثاله، فلم يكن والحال هذه إلا صورة واحدة في مشهدين :

إظهار وجه السلطة السيّئ البغيض بعد نزع القناع عنه والتجرؤ على حرمة الإمام (ع) وبما جرى في فاجعة الطف بكل ما هو وحشي لا يمت للإنسانية بجانب.

والمشهد الآخر :صورة التضحية والفداء للدين بكل ما يملك الإمام (ع) والصبر على كل ما يجري عليه واهل بيته وأصحابه الخلص احتسابا للأجر عند الله تبارك شأنه وهو إحياء الدين, في إسقاط أكذوبة بني امية واستحالة هذه التضحية شريعة ومنهاجا تجدد لحفظ الدين والدفاع عن حياضة حتى صدق « كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء», وقد حرر المؤلف (دام عزه) عددا من الدلالات والآثار المباشرة للدين ومنها :

تشابه حركة وفداء الإمام الحسين (ع) لمواقف الأنبياء والأوصياء وجميع المصلحين .

التلازم الحيوي بين دعوة النبي الخاتم (ص) وفاجعة الطف بغاياتها واهدافها .

ظهور نشاط وحركية الفرقة المحقة التي تلتزم بالاسلام الحق المتمثل بخط اهل البيت (ع) وظهور الاختلاف العميق بين المسلمين بسبب الانحراف.

قيام بوادر انهيار الدولة القائمة على الظلم والجبروت بعد ان تزعزعت اركانها وبان زيفها وانحرافها .

فقدان السلطة شرعتها واسقاط فرضياتها في انها من القضاء والقدر, وكسر حالة الخوف منها, وتهيئة المناخ الصحيح للثورات عليها والخروج على ظلمها وجبروتها, ومنها قامت ثورة اهل المدينة وخروج ابن الزبير, والتوابين, والخوارج وغيرهم فالخروج على السلطة لم يعد مقتصراً على جهة دون اخرى

البراءة من اعمال السلطة؛ بل البراء منها؛ لأنها حق مغصوب وهو ما قام به معاوية الثاني بعد ان عهد اليه يزيد بولاية العهد, فاعلن البراءة من جده وابيه ورفضه لها .

وضوح فكرة عزل الدين في الصراع على السلطة .

وضوح فكرة ان بيعة الخليفة لا تقتضي شرعية خلافته, وان وجوب الطاعة والجماعة لا يعني الانصياع للسلطة؛ لأنها لا تمثل الشرعية الدينية.

تعاظم التوجه الديني في المجتمع الاسلامي نتجية فاجعة الطف, وظهور طبقة الفقهاء والمحدثين وشياع الاتفاق على مرجعية الدين بالكتاب والسنة واستبعاد السلطة عنها مما ادى إلى تعامل السلطة مع الواقع بشكل آخر تمثل في اقدامها على تدوين السنه والتقرب من بعض الفقهاء طلبا لكسب الشريعة منها ([13]).

هذا وغيره من اهم مكاسب الاسلام لفاجعة الطف التي وقف عندها السيد الحكيم (دام عزه) مدققا مستدلاً ببصره وبصيرته جامعا لأهداف الفاجعة من جهة وتلازمها مع النتائج التي حققتها في واقع الامة، ولم يقتصر على ذلك فحسب انما اخذنا حيث المكاسب الخاصة التي تجلى عنها عاشوراء لمنهج التشيع وللشيعة من المسلمين بوجه خاص ويمكن ان نوجز ذلك بالنقاط الآتية :

1ـ انحصار مرجعية الدين بالكتاب والسنة انما هو انتصار لمباني التشيع ولهذا الامر ابعاد أخر في الحد من اثر المباني الفكرية الشيعية على تحولات الافكار الاسلامية إليهم نظرا لطبيعة مصدرهم ولقوة استدلالهم ومواردهم.

2ـ الاستدلال على رفض الإمام الحسين (ع) لنظام الخلافة واسقاط شرعيته المصطنعة, ولاسيما انه صلوات الله عليه قد رفع شعار الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد زعزع نظام الخلافة عند الجمهور وكانت فاجعة الطف العقبة امام نظام الخلافة وعقدة السلطة دائماً.

3 ـ فوز التشيع بشرف التضحية في اعظم ملحمة دينية, وهو ما حدا بالظالمين والسلطويين في النقمة على الشيعة في احياء فاجعة الطف مما ادى الى تجذرها بنحو يؤكد ظلامتهم على نهج ظلامة إمامهم وهو – ولاشك ـ يعود في صالحهم على الأمد البعيد([14]), وما الى ذلك من المكاسب التي يستثمر السيد الحكيم (دام عزه) .

المقام الثالث يعرض بقية المكاسب فيها من خلال الإعلام والاعلان عن فاجعة الطف تعني الدعوة الى التشيع ونشر ثقافته من خلال رثاء الإمام الحسين(ع) او زيارته او التاكيد على ظلامته وإحياء مراسيم المناسبات المتعلقة بأهل البيت وإذا كان التشيع مرتبطاً بأهل البيت ففيه استثمار له لنشر ثقافته والتأكيد على حقوقهم مما أدى إلى تجذر مناسبات أهل البيت عموما من خلال إحياء عاشوراء وهي على مدار عام تجدد كل عام وهذا يعطي – للشيعية ـ زخماً من الحيوية والنشاط والتواصل من جهة وجمع كلمتهم وتثبيت وحدتهم من حهة ثانية, ولا يخفى ما في ذلك على تثبيت الهوية الشيعية ونشر الثقافة الدينية الحقة .

ويصل بنا المقام الى الفصل الثاني (في العبر التي تستخلص من فاجعة الطف) من المقصد الثاني في مقامين نطل منهما في الحديث عن آلية العمل العظيمة الشريفة العالية التي اتبعها الإمام الحسين (ع) في نهضته المباركة المتناسبة في الدعوة إلى الإصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مواقفه التي أعلن فيها عن نهضته بدءاً من خروجه من المدينة حتى شهادته في كربلاء, ويلاحظ المؤلف (دام عزه) ان سلامة الآلية في العمل والصبر وانتظار أمره تعالى والشهادة بين يديه عز شانه وعدم البدء بالقتال كل ذلك من آليات العمل عند المصلح الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر([15]), وهي مواقف سايرت طريق الحسين(ع) ولم تنفك عن نهضته حتى صارت من معالمها العامة وطريقة أدائها الرسالية.

وفي المقام الثاني يتوقف السيد الحكيم (دام عزه) عند نتائج فاجعة الطف ويحدد اهمها مشيرا لإمكان الاستفادة منها في وقتنا المعاصر, وقد لا تكون بعض هذه النتائج في ابعادها العملية صورة مرضية للمجتمع الاسلامي آنذاك لكنها ترصده بشكل واقعي حقيقي وقد كشفت فاجعة الطف عن إكمال مشروع امير المؤمنين (ع) في ايضاح معالم الدين, وسلب شرعية السلطة التي كانت تتحكم فيه وتعذر إصلاح المجتمع بالوجه الكامل وهذه النتيجة امتداد لنتيجة تجربة علي(ع) مع المجتمع الاسلامي؛ لذا ينحصر الأمر في شان الاصلاح بمحاولة الاصلاح النسبي وعدم الاغترار باندفاعات الناس العاطفية وهذا نهج اهل البيت وما هم عليه في شان تعاملهم مع السلطة وما يظهر من مسالمتهم لها .

وناقش السيد (دام عزه) دعوى ان هذه الرؤية لا تتناسب مع قابلية الاسلام للتطبيق وخلص الى ان الإصلاح الكامل يتعذر بعد حصول الانحراف، وقد زاد الأمر تعقيدا في زمن الغيبة ومع كل هذا لا يسقط الميسور من الاصلاح بالمعسور.

وفي آخر مقاصد الكتاب - الثالث في الترتيب الأول في اعتبار الأهمية- حيث يثير السيد الحكيم (دام ظله) أمراً مقصوداً في الاذهان، وهو ان اهل البيت (ع) باجمهم يشتركون في مسؤولية رعاية الدين والجهاد في سبيل صلاحه وحمايته, فلابدّ من أن يكون لانفراد الإمام الحسين (ع) من بينهم بنهضته التي انتهت بفاجعة الطف لاختصاصه بظروف ودواع الزمته بذلك لم تتحق لهم (ع)؛ لذا حاول السيد الحكيم (دام عزه) ان يقدم لنا رؤيته فيما تميزت به نهضة الإمام الحسين (ع) بحيث الزمه النهوض ولم يسعه القعود، وقد فصلّ السيد الحكيم (دام عزه) الاجابة عن هذا الاشكال بطريقة جمعت مقاصد اهل البيت (ع) في اتجاه واحد, على الرغم من تعدد اساليب تعاملهم مع احداث عصرهم، فلكل امام منهم (صلوات عليهم) ظرفه الخاص؛ لذا كان الحديث في فصول ثلاثة: تخصص الأول في الامام أمير المؤمنين (ع)، والثاني في موقف الامام الحسن (ع)، والثالث في الأئمة من ذرية الحسين صلوات عليهم ومن خلالهم سوف نجد فارق التكليف واختلاف حيثيات الاحداث التي توجب النهضة والقيام او المسالة والمصالحة او المهادنة والانتظار والصبر.

في الفصل الأول :عرض المؤلف (دام عزه) اولويات الامام بعد خروج السلطة وانحرافها عن احكام الدين وهي الحفاظ على كيان الاسلام العام والحفاظ على حياته وحياة الثلة الصالحة من شيعيته فهذه المهمة التاسيسة لابدّ منها في وقت الدين احوج ما يكون فيه الى (الاسلام الحق) الذي يحمله هؤلاء من دون تشويه وتحريف؛ لتثبيت دعائم الدعوة المحمدية على وجه الارض وهذا يختلف عن وقت الامام الحسين (ع) حيث كان هناك كيان اسلامي اثبت وانتشار اوسع .

لذا فان القيام او النهضة يعرض حياة الامام (ع) واصحابه للخطر وضياع الدين والمذهب معاً. على الرغم من ذلك كان لأمير المؤمنين (ع) الكثير من المحاولات في تعديل مسار السلطة لكنه افتقد الناصر ولم تغب عنه صلوات الله عليه تفاصيل الاحداث وخصوصيات عصره وكانت على ذلك خارطة حركته الاصلاحية .

وفي الفصل الثاني طاف بنا السيد الحكيم (دام عزه) في مواقف الامام الحسن المجتبى واحداث عصره وبيان مظلوميته صلوات الله عليه. فعرض لصلح الامام الحسن (ع) مع معاوية واسبابه وتناسبه مع الاحداث التي زامنها, وكيف كان خروج الامام (ع) من الصراع بصلح خير من الهزيمة العسكرية الذي سوف يحصد شيعيته المخلصين وشيعية ابيه (ع)، ومهما يكن من امر فقد استدل المؤلف (دام عزه) باحاديث اهل البيت والاحداث التاريخية واقوال الامام الحسن (ع) حول صواب وصحة راي الامام صلوات الله عليه في الهدنة والصلح مع معاوية ومن هنا يفرّق (اعزه الله) بين موقف الامام الحسن(ع) «في دفاعه العسكري عن خلافته التي ثبتت له ببيعة اهل الكوفة كما هي بنظر جمهور المسلمين . وموقف الامام الحسين (ع) فهو الامتناع عن البيعة والانكار للباطل من دون أن يسعى للحرب وانما فرضت عليه فرضا, والامام الحسن (ع) كان يقود حربا خاسره بنظر الناس لا يبررها إلا الإصرار الانفعالي والعناد, وليس كالامام الحسين (ع) في موقف حرب ظالمة تريد أن تفرض عليه بيعة يأباها, ولا مبرر لإلزامه بها»([16]) .

وفي الفصل الثالث : دار الحديث في موقف الأئمة من ذرية الحسين (ع) من السلطة وهو امتداد لموقف الامام(ع)، وقد فتح باب استنكار السلطة وتعريتها عن اية شرعية اصطنعتها لنفسها وزيفتها للتسلط على رقاب الناس, فكان من مهماتهم (ع) الحفاظ على شيعتهم وتقوية كيانهم, وقد أثمر ذلك بعدم التفريط بطاقات شيعتهم فضلاً عن التركيز على فاجعة الطف وظلامة أهل البيت (ع), وتقوية صلات الشيعة بالإمام الحسين (ع) بمختلف الوجوه وتأكيد صلتهم بشيعتهم وحثهم على إحياء دينهم والتفقه فيه, وبث تعاليمهم السامية وثقافتهم في العقائد والفقه والأخلاق والأدعية والزيارات الى غير ذلك حتى قامت الحوزات الشيعية العلمية، فهذه معالم وآثار موقفهم (ع)، وهو ـ ولاشك ـ قد أثمر عن هذا التواصل والترابط بين منهجهم ومنهج الإمام (ع) في غاياته ومقاصده على الرغم من اختلاف الأساليب والأزمان .

فإذا انتهينا من مقاصد الكتاب وفصوله يخلص بنا السيد الحكيم (دام عزه) الى خاتمة الكتاب الذي أراد أن يوظف معالمها في فصلين: كان الأول منهما في أثر فاجعة الطف في تعديل مسار الفكر الديني والإنساني عامة, وإيضاح الضوابط التي ينبغي أن ينهجها طالب الحقيقة .

فقد أكد هذا الفصل على أن وضوح معالم الإسلام بعد استبعاد أثر السلطة المنحرفة عليه أدى بالضرورة الى الحيلولة دون تحكمها في الدين وقيام الحجة على (الدين الحق) المبتنية على امامة أهل البيت (ع) وثقافتهم الرفيعة المنكرة للظلم والطغيان وتشويه الحقائق وتحريف مفاهيم الدين فساهم ذلك بأن دافعت ثقافة (الإسلام الحق) عن الاديان السابقة ونبهت لتحريفها وذهبت بتنزيه رموز تلك الأديان عن الانحراف فيها بوصفه الاسلام ديناً خاتماً للأديان، ولو فتح المجال والباب لانحرافه لضاعت معالم الحق ومعالم الرسالات الإلهية على البشرية، فكان الفداء والتضحية في صد الإنحراف؛ إنما هو إقامة للرسالة الإلهية في تثبيت الحقيقة الدينية الداعية الى الله تعالى وفقاً للفطرة الإنسانية السليمة على اختلاف الرسالات والديانات السماوية, أما الفصل الثاني من الخاتمة فقد جاء في غاية مهمة جداً وهي (إحياء فاجعة الطف) وبهذا الختام للكتاب يعود السيد الحكيم (دام عزه) الى مطابقة بدء الكتاب مع خاتمته؛ لأنه افتتح الكتاب بالبعد الدامي لعاشوراء وجانبها المفجع، وهنا يعود ليتواصل مع ما بدأ به في الحديث عن ضرورة إحياء فاجعة الطف مع تاكيد أهل البيت (ع) عليها واختلاف الناس في مظاهر التعبير عنها تبعاً لعواطفهم وشعورهم بإزاء الاحداث؛ لذا كانت لكل بيئة وبلد طريقته الخاصة في الاحتفاء بعاشوراء تتناسب مع مداركها واحاسيسها وخصوصياتها وترك الحرية لكل فئة في ان تختار لنفسها الطريقه التي تناسبها في التعبير عن شعورها وعواطفها ما لم يتجاوز الحد المشروع .

ويؤكد المؤلف أهمية مشاركة عامة الناس في الحفاظ على الشعائر فبهم تحفظ هذه الشعائر حيث لا يسهل بسبب كثرتهم القضاء عليها من اعداء الدعوة, ولا يستطيعون تجميد وايقاف مدهم وعليه فلا بدّ للخاصة من افراد المجتمع دعمها وتهيأة الظروف المناسبة لها ولا مانع فيما يرى السيد الحكيم (دام عزه) من الممارسات الصارخة لشعائر الإحياء؛ لأنها تلفت الأنظار وتعرف بالفاجعة، وهي الاحرى بإظهار عواطف الجمهور وتجذرها في اعماقهم واستنكارهم للظلم الذي تعرض له الإمام(ع) كما تعرض له شيعتهم تبعاً لهم على امتداد التأريخ وهي كذلك مدار السؤال والاستفسار من الآخرين؛ لأنها تنبّه على الحدث وتظهر الفاجعة.

أمّا قضية تطوير طريق إحياء المناسبة يرى السيد الحكيم (دام عزه) إن إيجاد وسائل تناسب التطوير المذكور يجب أن يكون مصاحباً لهذه الشعائر بواقعها المعهود المأمون لا بدلاً عنها ويشير السيد الحكيم (دام ظله) الى أنه قد تختلف وجهات النظر حول بعض الممارسات لاختلاف الحكم الشرعي اجتهاداً او تقليداً, أو قد يدور الاختلاف في حصول ما يؤكد رجحانها ويقتضي التثبت بها أو يوجب مرجوحيتها ويقتضي الاعراض عنها من العناوين الثانوية، فالحل المفترض واللائق واللازم على كل طرف من اطراف الخلاف الاقتصار على بيان وجهة نظره, أو محاولة الاقناع به بالتي هي احسن, ولا ينبغي تجاوز ذلك الى الارغام على تقبل وجهة نظره أو الصراع الحاد أو التهريج والتشنيع والتوهين, والهدف من كل هذا هو ان تكون هذه المراسم في المناسبات والإحياء موجبة للتوحد ونبذ الصراعات والاختلافات غير الموضوعية فإحياء الفاجعة ليست مسرحاً للنزاعات؛ و إنما هي مقام لطلب الأجر العظيم وثبوت في الناس منهج الإمام (ع) الذي قدم نفسه وأهل بيته فداءً للدين الحق والذي تستوجب منا الالتزام به في وحدة الكلمة والمشاركة الفاعلة في سبيل ذلك([17]) .

هذه إطلالة سريعة على ما خطته أنامل مخلصه لقضية الإمام الحسين(ع) جمعت بين ابعاد الفاجعة التأريخية والفكرية فضلاً عن العاطفية والشعائرية, تتبع فيها ذلك التلازم والتفاعل الحقيقي فيما بينهما الى الحد الذي تستحيل أثراً يصح؛ بل يجب توظيفه واستثماره في واقعنا المعاصر فلنهضة الإمام (ع) إنما هي متجددة فاعلة في الحياة لا يحدها زمان ولا يقيدها مكان وكل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء. والسلام.




التوصيات


يتوجب على القائمين على المؤسسات التعليمية في العراق سواء في وزارة التربية أو التعليم العالي الاستفادة الحقيقية من نوادر المؤلفات في نهضة الإمام الحسين (ع) ومنها هذا الكتاب, وتضمين بعض اطروحته في المناهج الدراسية.

دعم المؤسسات والمراكز البحثية المتخصصة بالإمام الحسين (ع) من خلال طباعة نتاجها الحسيني فضلاً عن تقديم المشورة البحثية لها من خلال الجامعات والمؤسسات العلمية الأخر.

إقامة الندوات والملتقيات والمؤتمرات؛ لدراسة واقع التأليف أو النتاج الحسيني على اختلاف ألوانه وتعدد أنواعه .

تقديم الفكر الحسيني في مختلف الأساليب هدفاً في ترسيخ العقائد والمبادئ الحسينية.

الدعوة إلى التأليف والبحث في نهضة الإمام (ع) بصورة عصرية, والاستفادة من الجوانب الروحية من جهة والعلمية من جهة أخرى من خلال الاعلان عن المسابقات والجوائز التأليفية في هذا المجال.



* هوامش البحث *

([1]) من جواهر ما كتب عن قضية الإمام الحسين (علية السلام) كتاب (الظاهرة الحسينية) للعلامة السيد محمد على الحلو.

([2]) ظ/موقع العتبة الحسينية.

([3]) ظ:موقع مكتب السيد الحكيم .

([4]) ظ: فاجعة الطف:7.

([5]) ظ:فاجعة الطف:138-139.

([6]) فاجعة الطف:139-140.

([7]) فاجعة الطف:140.

([8]) بصائر الدرجات:502

([9]) ظ: فاجعة الطف: 154.

([10]) ظ: فاجعة الطف:354.

([11]) ظ: فاجعة الطف: 360.

([12]) ظ: فاجعة الطف:362 ـ363 .

([13]) ظ:فاجعة الطف:363ـ 406.

([14]) ظ:فاجعة الطف:407ـ 433.

-[15]) ظ:فاجعة الطف:435ـ 456.

([16]) ظ: فاجعة الطف:480- 481.

([17]) ظ:فاجعة الطف:535- 559.