الباحث : أ.م.د. ميثم مهدي صالح الحمامي
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 9
السنة : السنة الثالثة - شعبان المعظم 1437هـ / 2016م
تاريخ إضافة البحث : June / 25 / 2016
عدد زيارات البحث : 1492
وحدة النهج في إصلاح الأمة
عند الرسول وآله
ـ نهضة الإمام الحسين مثالاً ـ
أ.م.د. مِيثَم مهدي صالح الحمَّامِيّ
الحمد لله الذي أعزَّنا بأوليائه الطاهرين، ومنَّ علينا برحمته التي لا تخبو محمد وآله الكرام البررة الأطهار، فكانوا أعلام الهدى والعروة الوثقى، سفينة النجاة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى، الذين نذروا وجودهم لطاعة الله ومرضاته، فلم يعصوا الله طرفة عين، حجج الله على البرايا، فالسلام عليهم يوم ولدوا ويوم استشهدوا مرضاة لله ويوم نلقاهم عند مليك مقتدر، وقد خاب من حمل ظلمهم.
المتتبع لبطون كتب التأريخ والسير لكل المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم يجد أنهم قد قدموا الحسين (ع) ـ وهو ابن بنت النبي (ص) وسلم بلا خلاف ، الذي خرج على ظلم يزيد واستشهد في كربلاء ـ بثلاث صور، كل صورة تحكي خلفيات أصحابها ممن يتبناها ويقول بها، الصورة الأولى التي يصورها الإعلام الأموي الذي تبنى أن الحسين خارج على الدين وخارج على الخليفة الشرعي، فهو مارق في عرفهم وفيما أوهموا الناس، فقد ذكرت مصادرهم هذا الفهم فيما روي من بعض ما جرى من كلام بين قادة الجيش الأموي وبين الجند؛ إذ قال : «يا أهل الكوفة ألزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام » ([1])، فرد الحسين (ع) على عمرو : «يا عمرو بن الحجاج أعليَّ تحرِّض الناس أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتّم عليه ؟ أما والله لتعلمن لو قد قبضت أرواحكم ومتم على أعمالكم أينا مرق من الدين ومن هو أولى بصلي النار»([2])، حتى وصلت هذه الأقوال إلى يومنا هذا، كما نجدها عند الشيخ الخضري الذي يقول : «وعلى الجملة فان الحسين أخطأ خطأ عظيما في خروجه هذا الذي جر على الأمة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد ألفتها إلى يومنا هذا ... غاية الأمر أن الرجل طلب أمرا لم يتهيأ له ولم يعدّ له عدته . فحيل بينه وبين ما يشتهي وقتل دونه»([3]) .
وهذا القول فيه ما فيه من المغالطات التي لن نرد عليها بغير ما سيتضمنه هذا البحث، ومثله ما ذكره أحمد العسيري بعد أن ردد كلام الدكتور أحمد شلبي قائلاً: «وكانت هذه الفتنة أيسر ما نقول عنها أنها وسّعت باب الفرقة والتهمت الآلاف والملايين من المسلمين ولا يزال بابها مفتوحا حتى كتابة هذه السطور»([4])، والصورة الثانية هي الصورة التي أظهرت الحسين (ع) ثائراً من أجل الملك وكان من حقه ذلك بيد أنه قد أخطأ فقُتل وانهزم؛ ليؤسس العباسيون لهم الحق في الخروج على الأمويين ويأخذون الملك منهم باسم الثأر للحسين والانتصاف للعلويين جميعا كما كانت تنص شعاراتهم على ذلك (الرضا من آل محمد)، فقد خطؤوه باختياره الكوفة دون غيرها، كما خطؤوه بصحبِه لعياله نساء وأطفالا، وقد تبنى هذه الصورة جمع من المؤرخين ممن كتبوا التاريخ في عهد بني العباس مثل الطبري وغيره، وحذا حذوه فيما بعد الذهبي وابن كثير وغيرهم ([5]).
أما الصورة الثالثة التي تقابل ما تقدم فهي التي تصور الحسين (ع) وارث الأنبياء وإماما من أئمة الهدى، خرج من أجل دحر الظلم وإرساء الدين الذي أقامه جده المصطفى (ص)، وهذا ما ظهر في تراث أهل البيت وأحاديثهم، وما تناقله شيعتهم ومحبوهم وكل من نظر ببصيرة وعدل وإنسانية وأزاح هواه وأمراض النفس التي تُسلّم نفسها إلى الشيطان. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) قوله : «اللهم إني أشهد أن هذا القبرَ قبرُ حبيبك وصفوتك من خلقك، الفائز بكرامتك، أكرمته بالشهادة، وأعطيته مواريث الأنبياء، وجعلته حجة لك على خلقك، فأعذر في الدعوة، وبذل مهجته فيك، ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة والعمى والشك والارتياب، إلى باب الهدى والرشاد. وأنت يا سيدي بالمنظر الأعلى ترى ولا ترى، وقد توازر عليه في طاعتك من خلقك من غرته الدنيا وباع آخرته بالثمن الأوكس وأسخطك وأسخط رسولك (ع) وأطاع من عبادك أهل الشقاق والنفاق، وحملة الأوزار، المستوجبين النار، اللهم العنهم لعنا «وبيلا» وعذبهم عذابا «أليما» ([6])، وهنا تتجسد الصورة التي يصورها أهل البيت عن الحسين (ع) بشكل جلي ([7]).
والمراحل التاريخية التي أحاطت بعمل النبي وأهل بيته في إصلاح الأمة جعلت بعض الباحثين يقسمون هذه المراحل إلى :
المرحلة الأولى: ورجالها علي والحسن والزهراء سلام الله عليهم .
المرحلة الثانية: ورجالها الحسين والسجاد والباقر والصادق سلام الله عليهم.
المرحلة الثالثة: ورجالها الكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري سلام الله عليهم.
المرحلة الرابعة : ورجلها المهدي (ع) ومن معه .
وهنا سيحاول البحث جاهدا بعقد أوجه الشبه في هذه الحركة الإنسانية الإصلاحية بين ما سار عليه النبي الأكرم (ص) وأمير المؤمنين والحسن (ع) وبين ما قام به الحسين (ع) في مشروعهم الرسالي الإصلاحي، ونرجئ الحديث عن نهج الأئمة من ذرية الحسين (ع) إلى مناسبة أخرى بإذنه تعالى .
أولاً: الإيمان الراسخ والإدراك الواعي:
إن من مستلزمات أية رسالة أن يكون صاحبها قد آمن بها بدرجة اليقين الذي يورث ذاك الإيمان من بعد أن تفكّر بها ودرس تفاصيلها وعرف ما فيها من أبعاد تنطبق مع العقل والمنطق وتحقق الأهداف التي يسعى إليها الإنسان والتي قد نظر فيها مرضاة الرب وسعادة البشر ورفاهيتهم، ومن هنا تكون النهضة قد بدأت في نفس ذلك الإنسان فيبدأ برسم خططه وتبدأ خطاه بالسعي من أجل تحقيق الغايات التي يريدها أو أريد له أن ينفذها بوصفه رسولا أو إماما؛ بل وحتى بوصفه إنسانا، فما من إنسان إلا وله رسالة وله أهداف يريد أن يحققها؛ ليشعر بالسعادة من خلال تحقيق ذاته والرضا عما يقوم به .
وقد كان النبي (ص) قد تفكّر طويلا في حال الأمة ومنذ وقت مبكر من حياته الشريفة، فوجد أنها تدين بما لا يرتضيه العقل ولا تقبله الفطرة السليمة؛ ولهذا فقد كان يؤثر اعتزاله عن مجتمعه على الانخراط معهم؛ لأنه قد وجد في نفسه رفضا لما يدينون به، ذلك الانعزال كان نمطا سلوكيا متعقلا أراده النبي (ص) أن يحدد لنفسه أولا أبعاد المشكلة وحدودها؛ وليكون مؤمنا متيقنا بأن ما يستشعره حقيقة يقرها المنطق العقلي والفطرة السليمة وهو بمثابة احتجاج ورفض معلن لما يسير عليه المجتمع بحيث لفت انعزاله انتباه الناس متسائلين عن ذلك وفي هذا ما فيه طبعا، وما أن أدرك النبي (ص) بعقله الحقيقة التي بحثها حتى بدأ يفكر في إيجاد الحلول التي تخرج مجتمعه من ذلك الضياع الذي يعيشه، فتفتحت نفسه وتبسمت روحه؛ لتهتز مورقة لاحتضان نفحات القدس الذي غرس فيها البصيرة المتناهية والفكر الوقاد الذي ينير للآخرين طريق الحياة السعيدة التي رسمتها السماء لخير البشر وسعادتهم، فصدح النبي بصوت السماء مؤمنا به إيمانا تاما لا يدخله الريب قيد أنملة أو دونها بعد كل هذا الاستواء للفكرة في عقله.
وكذا الأمر كان عند أئمة الهدى عندما ساروا فيما أمروا به، يقول أمير المؤمنين صلوات الله عليه : «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»([8])، ما يؤكد قوة إيمانه وصلب عزيمته المتأتية من إيمانه وهي كلمة لا يقوى عليها ولا تليق بأحد بعد النبي (ص) غير علي (ع) فلم يقلها أحد بعده ولا قبله، وهذا الإيمان يلهم الإنسان قوة كبيرة عالية لا يقف أمامها حائل وإن كان أكبر من إمكانات البشر بشكل عام بما يجعل أمر تصديقه محالا كونه يعد ضربا من الخيال، يقول سيد البلغاء وأمير البيان في رسالته إلى سهل بن حنيف (ره) : «والله، ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعاً بقوة جسدية ولا حركة غذائية لكن أيدت بقوة ملكوتية، ونفس بنور ربها مضيئة وأنا من أحمد كالضوء من الضوء»([9]).
هذا الإيمان الذي وصله أمير المؤمنين يترجمه قول النبي (ص) عن ابن عباس (ره) قال: «ما أنزل الله : يا أيها الذين آمنوا، إلاّ علي أميرها وشريفها ولقد عاتب الله أصحاب محمد (ص) في غير مكان وما ذكر عليا إلاّ بخير»([10]). فمن مثل علي في إيمانه ؟!، ولهذا سار على بصيرة من أمره مقتديا بالنبي الأكرم صلوات الله عليهما، وعلى الرغم من كل الفتن والخطوب التي مرت في عهده وكل ما عصف، كان واثقا بما يريد ثابتا لا تأخذه في الله لومة لائم، وما مبيته في فراش النبي وفداؤه له إلا من ذلك الإيمان ومقارعته وبسالته في الحروب إلا ترجمان له حتى قرن بالنبي في آية المباهلة ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران 61).
وهذا ما نجده عند سبطيه الكريمين سيدي شباب أهل الجنة كما وصفهما النبي (ص) ، فالإمام الحسن (ع) كان مؤمنا بالله وبدعوة نبيه منذ نعومة أظافره عندما أخرجه النبي (ص) مع فاطمة وعلي والحسين عليهم سلام الله جميعا قبالة وفد نجران، ذلك الوفد الذي جاء الرسول محمد (ص) للمباهلة والمقارعة الفكرية فأخرج النبي لهم أكثرهم إيمانا ودراية بدعوته وأقربهم منزلة إلى الله سبحانه وتعالى بناء على هذه الدراية وهذا الإيمان، وهذا ما نجده في سيرة الإمام الحسن(ع) بعد وفاة أمير المؤمنين، كيف سار بنهجهم وعزف عن القتال الذي هو شر للناس لأن الأمر دار بين تسنم السلطة وبين حقن الدماء بما يتيح للإمام ممارسة عمله وتكليفه، وهو يشبه ذلك الموقف الذي قام به النبي صلوات الله عليه حينما عرضت عليه السلطة وأباها، وحينما قبل بصلح الحديبية مع ما كان عليه النبي من إمكان هزم المشركين وإنهاء شرهم، والإمام علي (ع) حينما تنازل عن حقه في الخلافة وسنعود إلى ذلك في غير هذا الموضع .
لقد نشأ الإمام الحسن في كنف جده رسول الله (ص)، فتولى تربيته بنفسه وصقل مواهبه وتوسم به الرسول مخائل الفتوة وسيماء الصادقين، وقد بينت أحاديث النبي مكانة الإمام (ع) فقد قال فيه «من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن»([11]) كذلك قرن بينه وبين الحسين (ع) في مواقف عدة، منها قوله (ص) : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما»([12]) ، فهما إمامان قاما أو قعدا لما ذكره النبي عنهما، ولم يكن ما قاله النبي عنهما حــالة عاطفية منه لهمـا؛ بل كان ذاك بنظرة موضوعية يستحقانها، وهو نوع من التهيئة لهمـا في نفـوس المؤمنين؛ ليقوما بأمر الله ويستكملا مسيرة جدهما.
قد اتسمت سيرة الأئمة الهداة بالتقوى والإيمان؛ ولهذا لم تؤثّر الظروف في أدائهم وقوة قرارهم المبني على الإيمان، فكان ذلك الإيمان يقويهم في مسيرتهم مهما كانت الصعاب، قال الإمام الحسين (ع) في أحلك الظروف : «اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقةٌ وعُدّة .. كم مِنْ هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو .. أنزلته بك وشكوته إليك ؛ رغبةً منيّ إليك عمّن سواك، ففرجته عني وكشفته .. فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة»([13]) ، وهذه الكلمة تصدح بإيمانه وهو يقاسي محنة كربلاء بكل تفاصيلها المريرة، إن المضامين التوحيدية، تطفح بها هذه الكلمات الطاهرة من سيد الشهداء (ع)، هاجسه الأول والأخير هو التوحيد . ومن هنا نفهم سر الحسين في تحمله لما لاقاه من أسى دون أن يضعف أو يلين، وهذا نهج تشابه به النبي وأهل بيته الكرام صلوات الله عليهم أجمعين فقد دعا النبي الأكرم (ص) بكلمات تقترب شبها بما تقدم عندما لقي ما لقيه من أهل الطائف فقد قال : – عن علي (ع) – «اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك»([14]) ، ولا يفوتني أن أذكر هنا ما دار من حديث بين الحسين وبين علي بن الحسين الأكبر (ع) حينما استرجع الحسين فقال له يا أبتي أراك قد استرجعت، فقال الحسين بني سمعت هاتفا يقول القوم يسيرون والمنايا تسير وراءهم، فقال له ولده : أ ولسنا على الحق ؟ فقال الحسين إي والذي نفس أبيك بيده، فقال ابنه : إذن لا نبالي إن وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا([15])، وهذا حديث يتفجر منه الإيمان ويشع ضياؤه فيه، وليس ذلك فحسب فكل ما في الحسين من سلوك ومواقف نابع من ذلك الإيمان القوي الذي كان لإمامنا متمثلا له سلوكا وفكرا وكل ما يمكن أن يكون عليه .
ثانياً: التخطيط الستراتيجي والرؤية العميقة لأبعاد القضية:
لابد لكل قيادي من أن يضع نصب عينيه ما يريد تحقيقه من أهداف وغايات، وهنا لابد له من وضع الخطط والبرامج الكفيلة لتحقيق أهدافه كي لا يذهب جهده سدى وليختصر المسافات والجهد وحتى يطمئن من أن جهده لن يذهب هباء، وغير ذلك، لم يكن تحرك النبي ولا أهل بيته بلا تخطيط أو ستراتيجيات لهم؛ بل كانوا مخططين بارعين لتنفيذ رسالتهم وتحقيق أهدافهم، فقد بدأ النبي (ص) بدعوته بعد أن وضع ستراتيجيات متكاملة ورسم تحركاته، فبدأ بأقرب المقربين إليه حدثهم عن رسالته وبدأ يتسع شيئا فشيئا، كانت دعوته السرية يخص بها بعضا من العرب دون غيرهم ليكوّن للدعوة قاعدة يرتكز إليها، فما أن كوّن ذلك حتى وسّع مدى دعوته فأنذر عشيرته، ثم بدأت دعوته تعمُّ أرجاء مكة وتتعدى فضاءها، فبدأ النبي يتنقل من مرحلة إلى أخرى في دعوته المباركة، من تبليغ الأقرب فالأقرب، إلى تعميم الأمر، ولا بد من الإشارة هنا إلى أننا نذهب إلى أن ما سمي بالدعوة السرية ليس لونا من ألوان الخوف الذي يتطلبه الحال الذي يمر به الدين الجديد، وإنما هو من أدب النبي العالي الذي تحلى به صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الكرام الأطهار، لكي لا يقف بوجه عمومته أو أقربائه سيما من يكبره سنا، فيسفّه عقيدتهم ويبيّن ظلالهم، وإنما أراد أن يصلهم الخبر بشكل غير مباشر، حتى يتهيأ له مفاتحتهم وبيان فساد عقائدهم وهدايتهم إلى الحق والصراط القويم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم 4) .
ومن مكة إلى غيرها من البلاد العربية، هيّأ النبي له رجالا أشداء مؤمنين لحمل أعباء الرسالة، كما هيأ من يحمل وهج الرسالة وامتدادها من بعده، ورسم طريقا واضحا بيّنا له ولمن يخلفه، فكان (ص) قد رسم هذه الستراتيجية وسار عليها وحقق ما حقق من تأسيس لدولة إسلامية تعمل بشرع الله وتسير برسم السماء في حياته الشريفة، فرسم للمسلمين طريقهم في حياته وأنبأهم بما يحدث بعد موته، وبصّرهم بما ينتظرهم من فتن وصعاب، ولكنه وضع لهم الأسس التي يرجعون إليها عندما تختلط الأمور عندهم، فقال (ص) قولته الشهيرة : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهم لن تضلوا بعدي أبداً»([16]).
وسار أمير المؤمنين (ع) على نهج النبي (ص) فقد أسس لستراتيجياته من خلال الإيمان التام برسالته واختيار الظرف المناسب لها، كما اتخذ من الكوفة مركزا لدولته وعاصمة لها مثلما اختار النبي يثرب مدينة لدولته، ثم كون له رجالا أشداء يعتمد عليهم في بناء دولته وتحقيق أهدافه، كما هيّأ من يقوم بمهمة رعاية الأمة وتحقيق الأهداف السامية من بعده، فقد أعدّ الإمام الحسن والحسين إعدادا خاصا ليكونا إمامين ينهضان بهذه المهمة التي تهيّؤوا لها، فقد أناط بكل واحد منهما مهماتٍ جسيمة ليتعودوا على تحمل المسؤولية وإتقان تنفيذها، وقد كانا على رأس الجيش في كثير من المعارك التي اصطدم بها المسلمون مع غيرهم ([17])، فقد جعل الإمام الحسن (ع) مرجعاً عاملاً في تحقيق الوعي التكاملي للإنسان المسلم فقلده زمام المبادرة في المهمات الصعبة بما يشير إلى قدرة الإمام القيادية في مثل هذه الظروف الصعبة، ليتولى بعده شؤون الأمة، وهو يمهد لثورة الإسلام الكبرى في كربلاء، فقد أرسل الامام الحسن إلى الكوفة مع عمار بن ياسر لتنفيذ قرار الإمام علي في عزل أبي موسى عن الكوفة الذي كان يخذّل الناس عن علي ويجمعهم على خلافه ويثبط الناس عن الالتحاق به لحرب الناكثين، فأتم المهمة بأفضل صورة، وكان أثره بارزا في فتنة البصرة التي أججها الزبير في أهلها، فاستطاع الحسن أن يطفئها([18]) ،وعندما آل إليه الأمر، فقد كان مجتمعه منهكا نتيجة لدخوله حروبا عدة، ووجد أمامه معاوية لا يواني جهدا من أجل حكمه وملكه، فخيّر بين قتاله وبين دعوة معاوية له بالصلح التي يعرف ما وراءها، فبادر إلى مفاجأة وهي تسليمه السلطة له دهرا قبالة شروط كان يعلم أن معاوية سيوافق عليها مكتفيا بلذة الملك، وقد رضي الحسن بهذا وإن كان يعلم أن معاوية لا ينفذ شروطه، ولكنه قد سحب بساط التأييد منه فعرف الشاميون حقيقته التي طالما أخفاها، وأسس لمشروع أوسع وأكبر وعد العدة لثورة الحسين وبنى قواعدها بمشاركة الحسين، حتى يحين وقتها، فهيّأ الرجال ومن يساند النهضة، ورسما أبعادها، فنفذ الحسين ما خططا له، في هدي ستراتيجية نشهد إلى يومنا هذا امتداداتها الوضاءة التي أعادت للإنسان قيمته التي سحقها الأمويون([19]) .
ثالثا : اختيار البقعة المناسبة لتكون نقطة انطلاق :
من مكة وعند بيت الله الحرام الذي يفده الناس دون انقطاع، بموسم أو بغير، صدح صوت الهادي بذكر الله ودينه، مع القلة التي معه، وهنا ذاع صيت الدعوة، فالنبي كان يعلم أنه لم يك يملك في مكة ما يستطيع أن يحقق به أهدافه ولكنه لا يجد مثلها مدينة تصدّر صوته إلى العالم، ثم إلى مدن أخر، فيثرب التي هيّأ الله لنبيه ظرفا لتكون هذه الأرض الطيبة مرحّبة به بعد رحلة المعاناة التي قاساها بفضل ما أظهره المشركون من غل وحقد على النبي ودعوته فضلا على ما تتمتع به هذه المدينة من مزايا جغرافية مهمة ذكرت مسببة اختيار النبي لها مدينة له فقد بايعه أهلها على نصرته والقتال معه ودعوه إليها، فخرج من مكة إلى المدينة خائفا يترقب ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل﴾ (القصص 21-22). وبفضل الله ومنّه أعاده إلى مكة بعد أن خرج منها خائفا يترقب، عادها عزيزا شامخا([20]) .
وبمثل هذه الحال خرج الحسين من المدينة إلى مكة وهو يتلو الآية المباركة ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ...﴾، وعندما قرر التوجه إلى العراق، بلد علي والحسن (ع) ،بعدما جاءته من هذا البلد العديد من الكتب التي تستقدم الحسين وتطلب منه التعجّل في المجيء إليها أرسل سفيره إلى الكوفة يعلمهم بقدومه، ولم يكن هذا وحده الدافع لاختيار العراق فموقعه الجغرافي المؤثر عالميا منذ ذلك الحين قد كان سببا آخر له في التوجه إلى العراق، وهنا أذكر ما وجه إلى الإمام من نصح في التخلي عن وجهة العراق، من أخيه محمد بن الحنفية، إذ إن الإمام محمد بن الحنفية قد دخل على الحسين (ع)، حين علم أنه عازم على الخروج من المدينة، فقال له ناصحا أن ينزل غير العراق فقال : «تنزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار فذاك، وان تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقهم قلوبا، وأوسع الناس بلادا، فإن اطمأنت بك الدار، وإلاّ لحقت بالرمال وشعب الجبال، وجزت من بلد إلى بلد، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم الله وهو خير الحاكمين، فإنك أصوب ما تكون رأيا وأحزم عملا حين تستقبل الأمور استقبالا ولا تكون الأمور أبدا أشكل عليك منها حين تستدبرها استدبارا»([21]). وقد شكره الإمام الحسين على نصحه ولم يبيّن له خطأ رأيه تأدبا كعادته (ع)؛ لأن الإمام لم يخرج خوفا من يزيد أو أتباعه، إنما خرج من أجل المجتمع لإصلاحه وحريته ورفاهيته، فكيف يذهب إلى اليمن، ولم يكن الخيار الموفق لانطلاق نهضته، لكن الحسين آثر العراق؛ لأنه الأنسب لنهضته ففيه شيعة أبيه ،وهم أرضية النهضة ومادتها، يضاف إلى ذلك أمور لحظها الإمام (ع) في اختياره العراق، منها أن العراق يحتل موقعا جغرافيا مهما في المنطقة يصلح أن يكون نقطة انطلاق النهضة إلى الشعوب . وبهذا يؤسس آل النبي لمشروعهم، متخيّرين الزمان والمكان المناسبين .
رابعا: خلق الامتداد لعمله ومشروعه من خلال تهيئة من يخلفه:
من ضمن التخطيط الستراتيجي لهم صلوات الله عليهم جميعا أنهم لا يتركون مشروعهم دون أن يخلقوا له الامتداد الصحيح؛ لأنّ الإنسان مهما بلغ من العمر فإلى رحيل عن هذا العالم، فلا بد من من يكمل ما بدؤوه، سيما وأن مشروعهم فيه صلاح الأمة ونجاتها، فضلا على أنه مشروع سماوي، فلا بد له من أن يمتد ويستمر .
وهذا ما فعله الرسول الأكرم (ص)، وفكر به منذ أن تلجلجت الدعوة لديه، فقد وجد في علي (ع) من يكون قادرا على تحمل أعباء المشروع بعده فضلا على مساندته له في حياته الشريفة ،وقد رافق الإمام النبي في كل تفاصيل حياته، فقد قال عن نفسه : «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اِتِّبَاعَ اَلْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لاَ يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ اَلْوَحْيِ وَ اَلرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ اَلنُّبُوَّةِ وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ اَلشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ اَلْوَحْيُ عَلَيْهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا اَلشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ»([22])، ما جعله يكتسب من صفاته الكثير الكثير، ومن علمه وشمائله وحنكته وحكمته، حتى كان أعلم الناس به وبدينه وبالقرآن الكريم وهو القائل فيما نقل عن الأصبغ بن نباتة قال: لما جلس علي (ع) على الخلافة وبايعه الناس، خرج الى المسجد متعمما بعمامة رسول الله (ص) واله وسلم، لابسا بردة رسول الله (ص) وسلم منتعلاً نعل رسول الله (ص) وسلم متقلدا سيف رسول الله (ص) وسلم، فصعد المنبر وجلس عليه متمكنا وشبك أصابعه ووضعها أسفل بطنه. ثم قال:
«هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله (ص)، هذا ما زقني رسول الله (ص) زقا زقا، سلوني فإن عندي علم الاولين والآخرين، أما والله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لافتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل الإنجيل بإ نجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في. وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا، فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه ؟ ولولا آية في كتاب الله عز وجل لا خبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب، ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن أية آية في ليل انزلت أوفي نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لا خبرتكم. فقام إليه رجل يقال له ذعلب، وكان ذرب اللسان، بليغا في الخطب، شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد رباً لم أره. قال: فكيف رأيته ؟ صفه لنا قال (ع): ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، ويلك يا ذغلب إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بقيام قيام انتصاب، ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ...»([23]).
فلم يعرف قائل لهذه الكلمة غيره وقالوا لو قالها غير علي لخزي.
فلما أكمل النبي تهيئته لهذه المهمة وتمت تفاصيل الشريعة السمحاء، جاء هاتف السماء ليجعل من علي خليفة منصوصا من الله، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة 67).
وهكذا فعل علي (ع) في مشروعه الإصلاحي، فقد جعل من الحسنين ذلك الامتداد الذي سيكمل ما بدأه، ويسير بنهجه وعلى منواله، وقد كان الإمام علي قد اعتمد الحسن في أمور كثيرة كانت من الخطورة بمكان أنها يمكن أن تقلب الموازين إن أخفق فيها وكان الحسن في كل مرة يثبت قدرته القيادية التي تصنع النجاح تلو النجاح .
كما أن الحسن (ع) قد جعل من الحسين رفيقه في دربه الرسالي، فكان معه خطوة بخطوة، مع أن الجميع كان يهيئ للحسين ولموقفه الذي امتاز بالعظم وبتضحيته التي كانت وما تزال الأكبر والأعظم.
وفعل الحسين ما فعله أسلافه، فقد هيّأ لهذه النهضة العالمية من يحمل أعباءها، فحسب حسابا لكل شيء، ومن هنا تأتي حكمة اصطحابه لعياله ونسائه ولعليله الذي لا يقوى على شيء، فقد كانت أصداء هذه النهضة وما أوصلته هذه القناة من بعد إعلامي قد صدّر أهداف هذه النهضة وحقق مراميها وما نشدته، فبفضل هذا الامتداد كان لهذه النهضة كل هذا الخلود والمكانة السامية في نفوس المؤمنين .
ويمكن أن نجمل أسباب اصطحاب الحسين لعياله ونسائه جميعا في:
ـ الإشارة إلى سلمية النهضة التي خرج فيها أبو عبد الله الحسين على الرغم من هذه المعركة التي جرت على صعيد كربلاء، فهو لم يخرج طالبا القتال لكنه اضطر إلى ذلك أو أن يعطي البيعة أو أن يذل وهذا ما لا يكون من الحسين.
ـ خلق الامتداد الذي سيحقق كل ما أراده الحسين من نهضته .
ـ لفت النظر إلى هذه العيال قبل استشهاده وبعده، وفي كل هذا بصائر لأُولي النهى .
ـ خرج الحسين لتأسيس دولة مدنية لا دولة عسكرية .
خامسا: بناء القاعدة القوية والاهتمام بالنوع لا العدد والتمحيص:
استطاع النبي والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم جميعا أن يكوّنوا لهم ذلك الزخم من الناس الذين اخلصوا لله سبحانه وتعالى ممن كانوا مادة المشروع والطاقة التي تسيّره، وهنا يراودنا حضور شخصيات كريمة كانت موضع عناية النبي وتقديره، فسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر والمقداد وحجر بن عدي وغيرهم من النجباء الذين حملوا الاسلام هما وفكرة وعقيدة، فأخلصوا لله وذادوا عن دينهم بكل ما أوتوا حتى آخر رمق من حياتهم، ولاننسى أن النبي(ص) وسلم قد جابه قريشا ببضع عشرات من المسلمين في معركة بدر الكبرى لكن كل واحد منهم يعدل ألفا بإيمانه .
وهكذا كان علي (ع) قد اقتفى أثر النبي (ص) في ذلك، فقد أوجد له من الصحابة من يفتديه بروحه ولا تغريه الدنيا وزخرفها أبدا، ولا يخشى في ولائه له أي شيء، وما قصة حجر بن عدي في استشهاده هو وابنه على ولاء علي وعدم النيل منه أبدا بخافية، كذلك ما كان من مالك الأشتر، ذلك الرجل العظيم الذي ما خذل قط وما توانى في الذود عن أمير المؤمنين، حتى قال فيه علي بن أبي طالب : «لقد كان لي كما كنت لرسول الله»([24])، ومن كتاب له (ع) إلى أهل مصر لما ولّى عليهم الأشتر :
«مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ غَضِبُوا لِلَّهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ فَضَرَبَ اَلْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى اَلْبَرِّ وَ اَلْفَاجِرِ وَ اَلْمُقِيمِ وَ اَلظَّاعِنِ فَلاَ مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ وَ لاَ مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اَللَّهِ لاَ يَنَامُ أَيَّامَ اَلْخَوْفِ وَ لاَ يَنْكُلُ عَنِ اَلْأَعْدَاءِ سَاعَاتِ اَلرَّوْعِ أَشَدَّ عَلَى اَلْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ اَلنَّارِ وَ هُوَ مَالِكُ بْنُ اَلْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ اَلْحَقَّ فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اَللَّهِ لاَ كَلِيلُ اَلظُّبَةِ وَ لاَ نَابِي اَلضَّرِيبَةَ فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا وَ إِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا فَإِنَّهُ لاَ يُقْدِمُ وَ لاَ يُحْجِمُ وَ لاَ يُؤَخِّرُ وَ لاَ يُقَدِّمُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِي وَ قَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ وَ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ» ([25]).
وقد اصطحب الحسين معه من الرجال من يكون أمة بنفسه، واختبرهم في أكثر من موقف فوجد كلا منهم نعم الصابر، يقول الحسين فيهم : والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بمحالب أمه([26])، وهذا وصف غاية في الروعة فهم بحق خير الأصحاب، وعندما قال لهم الحسين في ليلة العاشر من محرم: أنتم في حل من أمري وهذا الليل فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل واحد منكم برجل من أهل بيتي وليرحل , فما كان جواب أصحابه إلا أن قالوا نقتل دونك يا ابن رسول الله، فهذا زهير بن القين قد أجاب الحسين قائلا : سمعنا يا ابن رسول الله مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ([27])، فهذا أبلغ وصف وأرق تعبير وفيه من الوفاء والصبر ما يفوق التصور، فالإنسان مجبول على حب البقاء وحب الدنيا، أما الباقون من أصحابه فما كان جوابهم إلا أن قالوا والله لو قتلنا ألف مره وذرينا في الهواء على أن نترك هذا الأمر ما تركناه . ولنأخذ موقف آخر وهو الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر رضوان الله عليه عندما سمع أن نساء الحسين قد قلن للحسين هل اختبرت أصحابك فقد أقبل الى أصحابه وقال لهم هلموا إلينا لنذهب الى نساء الحسين؛ لنطيب خاطرهن بكلام فقال مخاطبا نساء الحسين : يا معشر حرائر رسول الله هذه صوارم فتيانكم آلوا ألا يعقدوها إلا في رقاب من يريد السوء فيكم وهذه أسنة غلمانكم أقسموا ألا يركزوها إلا في صدور من يفرق ناديكم([28])، تلك هي حال أصحاب الحسين فإنهم قد صمدوا وصبروا وآثروا وعشقوا الشهادة بعشقهم للحسين فكانوا يتسابقون إلى الشهادة وكانوا يتسابقون في الدفاع عن الحسين، فهذا عمرو بن الحجاج الملعون يخاطب أصحابه، أتدرون من تقاتلون , تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر قوماً مستميتين لا يبرز إليهم أحد إلا قتلوه على قلتهم([29])، هذا وصف أعدائهم فهم البواسل وهم الشجعان وهم أصحاب البصائر والعقول، وما تركوه إلا وهم صرعى في المعركة، فسار بهم على قلة عددهم؛ ليغيّروا مجرى التأريخ الذي خطته يد الظلم والجور، فاستطاعت هذه الجماعة أن تصحح مسيرة التأريخ وأن تعيده إلى نهجه المحمدي الرصين، ضاربين أسمى صور البطولة في التضحية والفداء عن الدعوة والمشروع السماوي الخالد .
سادسا : فهمهم الخاص للرياسة:
مفهوم الرياسة عند النبي وآله ليس اعتلاء كرسي الحكم، فهم صلوات الله عليهم جميعا لا يهمهم هذا الأمر قدر تلق الأمر بصلاح المجتمع، فقد عرضت على النبي الدنيا وما فيها، وقد أرادت قريش أن تجعله سيدها وأن تعطيه مفاتيح الكعبة، فقال قولته الشهيرة : «وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ »([30]).
وقد قعد علي عن المقارعة عن حقه في الخلافة وهو يعلم أن محله منها محل القطب من الرحى، ولكنه آثر حقن دماء المسلمين على أن يطالب بسلطة لا تساوي عنده شيئا، فقال وهو الفارس الألمعي والشجاع الذي ما عرف الخوف في قلبه : «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَ وَ اَللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً اِلْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَ فَضْلِهِ وَ زُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَ زِبْرِجِهِ »([31])، فهذا شرطه وهذا ما يجعله ساكتا عن حقه المسلوب ، فكان يتعامل مع واقع المجتمع على أنه المسؤول منه وأنه إمامهم وقد كانت له في نفوس المؤمنين إمارة وفي قلوبهم عرش التجلة .
وقد علمنا ما علمنا من موقف الحسن (ع) عندما بادر إلى قبول الصلح مع معاوية شرط أن يكف عن الحرب ويحقن الدماء ويسير بنهج يحقق للحسن العمل على إكمال مشروعه ومشروع أبيه؛ لأنه لم يكن (ع) يفهم أن الرياسة هي مسك الحكم والتنعم بالسلطة والجاه، فالهدف أساسا هو بقاء هذا المشروع والعمل على إبقائه، فإن تأتت السلطة مع الحفاظ على ما تقدم فبها ونعمت، وإن لا، فلا .
وقد كان تحرك الحسين إلى كربلاء لا بدافع طلب السلطة كما يتصور من باع ضميره بالخاسر؛ بل كان من أجل صلاح الأمة وإصلاحها والحفاظ على ذلك المشروع الرسالي العظيم، يقول (ع): « إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون »([32]) بعد أن وجد أن الباطل لا يتناهى عنه وأن الحق متروك لا يعمل به، وأن مشروع جده وأبيه وأخيه قد آل إلى الموت والاندثار . وخير دليل على ذلك أنه قد طلب منهم أن يخلوا بينه وبينهم وأن يتجه إلى أي مكان دون أن يقع السيف بينهما، ولكن النفوس الشريرة أبت إلا قتله أو إذلاله، فلم يعطهم بيده إعطاء الذليل .
سابعاً: الحوار والدفع بالتي هي أحسن والالتجاء إلى الأدلة وأن السيف آخر الخيارات :
إن من الأسس التي أرساها النبي محمد (ص)، مبدأ الحوار والدفع بالتي هي أحسن، فقد كان النبي (ص) يحاور حتى المعاندين من أجل أن تكون هذه اللغة هي السائدة في دعوته ولم يلجأ إلى الإكراه في نشر دعوته، فلا إكراه في الدين كما يقول القرآن، كذلك أن الذي يطلع على الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي وبين النبي يعلم أن الحوار أساس من أسس الدعوة المحمدية، وغير ذلك كثير، ولم ينتهج النبي نهج السيف إلا بعد أن وجد أن مشروعه يهدده خطر الوأد فانبرى يصد عنه الخطر وقد كتب القتال على المسلمين وهو كره لهم، ولم يشهر النبي السلاح أو يبتدئ قوما إلا أن يبدؤوه.
استمر هذا النهج السلمي عند الأئمة (ع)، فقد حاور علي الناس من أجل اثبات الحق والصواب لديهم ولكنهم كانوا يجادلون حتى قد تأذى الإمام من فرط ذلك، فقال لقد ملأتم قلبي قيحا، ولكنه بقي محافظا على هذا الخط، وقد أنشأ الحسنين عليه، فقد تقدم كيف أن الحسن التجأ إلى الحوار وإقامة الدليل في حديثه مع أهل الكوفة عندما بعثه أبوه في عزل عامله أبي موسى الأشعري، وفي فتنة البصرة وغير ذلك .
كذلك كان الإمام الحسين محاورا لكل من طلب الحوار؛ بل حاور حتى الجيش الذي خرج لقتاله ،فقال لهم يوم عاشوراء : «أيّها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حق لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النَصَف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوني النصف من أنفسكم، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين»([33])، واستمر الإمام محاورا وواعظا وهو في ذلك الموقف العظيم، وقال لهم :« الحمد لله الذي خلق الدنيا، فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنّكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنبكم رحمته، فنعم الرب ربّنا، وبئس العبيد أنتم .
أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد (ص)، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين .
أيها الناس : انسبوني من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي، وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟
أو ليس حمزة سيّد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الطيار عمّي ؟
أو لم يبلغكم قول رسول الله (ص) لي ولأخي : (هذان سيّدا شباب أهل الجنّة )، فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت، أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني، فإنّ فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (ص) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟»([34]).
وفي كل هذا إلزام للحجة عندهم وإرساء لمبدأ الحوار الذي أمر به الله تعالى ونبيه الأكرم وما سار عليه المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثامنا: الوصول إلى أدنى مستويات التنازل مع الحفاظ على الرسالة دون المساس بها من أجل حقن الدماء:
وهذا ما نجده عند الأئمة صلوات الله عليهم، فقد ذكرنا أن الإمام عليا (ع) قد تنازل عن حقه في الخلافة شرط حفظ الناس ومصالحهم وإقامة الشرع السماوي فقال : «أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَفِي اَلْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً... »([35]) وكذا عند الإمام الحسن (ع) في صلحه مع معاوية، وهذا ما كان يطمح إليه أبي الظيم الحسين (ع) عندما طلب منهم أن يخلوا بينه وبينهم ولهم عليه أن لا يذهب إلى الكوفة « أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض»([36]) ، ولكنهم أبوا إلا قتله أو إذلاله وهيهات منهم الذلة، وهو ما ألهمهم إياه جدهم المصطفى (ص) .
تاسعا: التعايش السلمي مع كل الأحداث إلا ما يهدد الرسالة بخطر الانقراض:
لو لم يؤمن أهل مكة أو سادتها ما كان النبي ليجبرهم، وهو الذي يعمل بنص الكتاب ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون 6)، وعلى هذا أراد منهم أن يتحلوا بشيء من المروءة والإنسانية، ولكنهم كانوا جبارين في جهلم وبطشهم، ومع هذا لم يكل النبي من دعوته ووجد أرضا جديدة لها، وخلق وأسس مبدأ التعايش السلمي مع من يختلف في الرأي والعقيدة معك ولكن ضمن ضوابط وأصول، وثقت وثيقة المدينة بعضا منها.
وهذا نجده عند الأئمة (ع)، سيما علي في تعايشه مع من غصب حقه، ومع من يختلف معه في الرأي، إلا أنه رفع السيف بوجه معاوية الذي أراد للدين الخذلان، وكذلك نجد المبدأ ذاته عند الحسن في تعايشه مع معاوية ضمن شروط ومن أجل غايات ما كان لها أن تتحقق إلا بهذا الطريق، وكذلك الحسين لم يشهر السلاح كما بيّنا إلا بعد أن وجد الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه « إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه» فكان السيف آخر أدواته في نهضته الخالدة.
عاشراً: نزاهة القائد ومثاليته:
لم يكن النبي ولا أهل بيته ممن يأمرون الناس بالخير والعدل والصواب وينسون أنفسهم؛ بل كانوا أكثرهم نزاهة ومثالية وقد وصف القرآن محمدا بالخلق الحسن، وأشارت كتب السير إلى إجماع الناس على أمانته ونزاهته من ذلك نزهاته في تجارة أموال خديجة، وغيرها كثير، ما جعل الناس يحارون في تكذيبه، وحينما صارت الدعوة نجده قد قام بها على أكتافه، ولم يجلس دون عمل مكتفيا بغيره، ما أثار الحماس في نفوس متبعيه.
لقد كان النبي مثاليا في كل شيء، لم يؤثر نفسه على غيره ولم يفضلها على الناس؛ بل كان الزهد والورع باديا عليه، كونه الحجة على الناس في هذه اللذات، وقد كان يعمل بنفسه في كل ما تطلب من المسلمين العمل، شاركهم بناء المسجد بنفسه، وقاتل في الحروب بالطليعة، كان ذلك القائد الميداني الذي يثير حماس صحبه يقول علي بن أبي طالب في وصف النبي : «فَإِنَّ اَللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً ص عَلَماً لِلسَّاعَةِ وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ خَرَجَ مِنَ اَلدُّنْيَا خَمِيصاً وَ وَرَدَ اَلآْخِرَةَ سَلِيماً لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اَللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ»([37]).
غرست هذه الصفات المثالية في شخصية الأئمة صلوات الله عليهم، فقد كان أمير المؤمنين مثال الورع والتقوى والزهد، وقد قال في ما اختير من كلامه في نهج البلاغة «والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل : ألا تنبذها ؟ فقلت : اعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى»([38]).
وقد نشأ أهلوه على ذلك فالحسن والحسين لم يكونا مثل أبناء الأمراء اليوم يتنعمون بالترف والبذخ كما يفعل أبناءهم كل زمان ومكان؛ بل كانا فعلا كما وصفهما النبي (ص) سيدي شباب أهل الجنة.
إحدى عشر : هدم الحواجز بين القائد والصحب:
اعتمد النبي والأئمة صلى الله عليهم أجمعين ما يسمى اليوم بسياسة الباب المفتوح مع رعيتهم وقد كان النبي من التواضع مع رعيته ما جعلهم يتحدثون إليه كحديث بعضهم لبعض حتى نهاههم الله من ذلك، وقد كان مع صحبه وبينهم يشاركهم جميع شؤونهم في السلم والحرب والسيرة العطرة له تشير إلى ذلك بوضوح تام.
وهذا ما وجدناه عند الأئمة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، فالحسين في نهضته مع صحبه وجنده يتفقدهم ويتفقدونه، لم يشرب ولم يأكل قبلهم، وكان يعرفهم واحدا واحدا ويعرفونه حقا ما جعلهم يتفانون في الدفاع عنه وعن عياله .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله.
* هوامش البحث *
([1]) تاريخ الأمم والملوك : الطبري / 3 : 324 .
([2]) المصدر نفسه، وهناك من الروايات الكثير مما يؤكد تبنيهم لهذه الفكرة، بل عد ذلك نصرا من الله إلى أوليائه فوضعت الروايات الكثيرة في أن يوم عاشوراء من أيام الله التي نصر بها أولياءه على أعدائهم، حتى بات الصيام وإظهار الفرح في هذا اليوم من الأمور التعبدية عندهم.
([3]) الدولة الأموية : محمد الخضري / 327 .
([4]) موجز التاريخ الإسلامي : أحمد محمود العسيري / 152، وينظر الحسين في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي (ص) وعلي (ع) : السيد سامي البدري / 13 .
([5]) ينظر الحسين في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي (ص) وعلي (ع) : السيد سامي البدري / 14 .
([6]) كامل الزيارات : ابن قولويه / 223 .
([7]) ينظر الحسين في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي (ص) وعلي (ع) : السيد سامي البدري / 14، 15 .
([8]) سفينة البحار : / 2 : 734 .
([9]) بحار الأنوار / 21 : 26 .
([10]) المعجم الكبير : الطبراني / 11 : 210 .
([11]) البداية والنهاية : ابن كثير / 8 : 37 .
([12]) المعجم الكبير: الطبراني / 3 : 37 .
([13]) الإرشاد : الشيخ المفيد / 217 .
([14]) بحار الأنوار / 91 : 225 .
([15]) ينظر : مقاتل الطالبيين / 76 .
([16]) سنن الترمذي / 3 : 543 .
([17]) ينظر : تاريخ الأمم والملوك : الطبري / 5 : 57، و الإمام الحسن رائد التخطيط الرسالي رؤية معاصرة في قيادية الاستراتيجية : محمد حسين الصغير / 42 .
([18]) ينظر : المصدر نفسه / 48 – 58.
([19]) ينظر : المصدر نفسه / 114، و الحسين في مواجهة الضلال الأموي : سامي البدري 40 .
([20]) ينظر : الحسين في مواجهة الضلال الأموي : سامي البدري 40 .
([21]) الفتوح : ابن أعثم الكوفي / 5 : 19 .
([22]) شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد / 1: 13 .
([23]) بحار الأنوار : المجلسي / 10 : 118 .
([24]) خلاصة الأقوال : العلامة الحلي / 1 : 262 .
([25]) نهج البلاغة / 3 : 63 .
([26]) ينظر : مقتل الحسين : السيد المقرم / 226 والحسين في مواجهة الضلال الأموي: 185- 210 ومصادره .
([27]) ينظر : المصدر نفسه .
([28]) ينظر : المصدر نفسه .
([29]) ينظر : المصدر نفسه .
([30]) سيرة ابن هشام / 1 : 266 .
([31]) شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد / 16 : 166 .
([32]) تاريخ الأمم والملوك : الطبري / 5 : 404 .
([33]) المصدر نفسه .
([34]) المصدر نفسه .
([35]) شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد / 20 : 1 .
([36]) تاريخ الأمم والملوك : الطبري / 5 : 404 .
([37]) شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد / 13 : 12 .
([38]) المصدر نفسه .
* مصادر البحث *
القرآن الكريم .
الإمام الحسن رائد التخطيط الرسالي رؤية معاصرة في قيادية الاستراتيجية : د.محمد حسين الصغير، مؤسسة البلاغ، بيروت، الطبعة الأولى، 2012 م .
الإرشاد : محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي 413هـ، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1377 هـ .
بحار الأنوار : محمد باقر المجلسي 1111هـ، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1386 هـ
البداية والنهاية : عماد الدين إسماعيل بن عمر القرشي 774 هـ، مكتبة المعارف، بيروت، 1966 م .
تاريخ الأمم والملوك : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 310 هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر .
الحسين (ع) في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي (ص) وعلي (ع) : السيد سامي البدري، دار طور سينين للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2006 م، بغداد .
خلاصة الأقوال في معرفة الرجال : العلامة الحلي أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي 648 - 726 هـ، تحقيق فضيلة الشيخ جواد القيومي، الطبعة الأولى، مؤسسة النشر الإسلامي .
الدولة الأموية : الشيخ محمد الخضري، مطبعة دار المعرفة، بيروت، 1418 هـ .
سفينة البحار : الشيخ عباس القمي، الطبعة الثالثة، طهران، 1422 هـ .
سنن الترمذي : الترمذي 379هـ، دار الفكر، بيروت، 1403 هـ .
سيرة ابن هشام، السيرة النبوية : ابن هشام الحميري 218 هـ، مطبعة مكتبة محمد علي صبيح 1383 هـ .
شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد 656 هـ، مطبعة دار إحياء الكتب العربية 1378 هـ .
الفتوح : أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي 314 هـ، تحقيق علي شيري، مطبعة دار الأضواء 1411 هـ .
كامل الزيارات:أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي 367 هـ، مطبعة مؤسسة النشر والثقافة، 1417هـ
المعجم الكبير : سليمان بن أحمد الطبراني 340 هـ، طبعة دار إحياء التراث العربي .
مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الأصبهاني 356 هـ، مطبعة المكتبة الحيدرية، 1385 هـ .
مقتل الحسين : السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم، المكتبة الحيدرية، قم، 1425 هـ .
موجز التاريخ الإسلامي منذ آدم (ع) إلى عصرنا الحاضر 1417هـ : أحمد معمور العسيري، الطبعة الأولى ، الدمام / ١٤١٧ هـ .
نهج البلاغة : الشريف الرضي، تحقيق محمد عبده، المكتبة العصرية، بيروت .