البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حقيقة التجربة الدينية

الباحث :  الدكتور الشيخ عبد الحسين خسروبناه - ترجمة: محمد حسين الواسطي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - جمادى الآخره 1437هـ / 2016م
تاريخ إضافة البحث :  April / 17 / 2016
عدد زيارات البحث :  3515
تحميل  ( 253.120 KB )
تمهيد:

لمّا كانت حقيقة الدين هي تلك الحقيقة المبيِّنة للمآل الأخروي والملكوتي لعقيدة الإنسان وأفعاله الدنيوية، وطالما أنّ إثبات هذا يحصل في الأعمّ الأغلب من خلال النصوص الدينيّة، وما دام الوحي الإلهي هو أهم تلك النصوص، فإنّ السؤال عن العلاقة بين الدين والتجربة الدينيّة إنما هو سؤال يعود إلى الصلة بين الوحي والتجربة الدينيّة.

ومن أهمّ المسائل المطروحة في موضوع التجربة الدينيّة البحث عن واقع الصلة بينها وبين الدين؛ فهل حقيقة الدين هي ما يُسمّى بالتجربة الدينيّة؟ وهل الوحي الإلهي تجربة دينيّة؟ وهل التجربة العرفانية هي تجربة دينيّة أيضاً؟

تتطلّب منّا الإجابة على هذه التساؤلات فتح ملفّ يدرس كلّاً من «التجربة الدينيّة»، و«التجربة العرفانية»، و«الوحي».

أمّا الوحي فتُعرف ماهيّته وحقيقته من الكتاب والسنّة، وأمّا التجربة العرفانية فالطريق إليها يمرّ عبر العرفاء وأهل الشهود، وأمّا التجربة الدينيّة فنقف على تفاصيلها حسب ما أفاده المفكّرون والمنظّرون.

وسوف نسعى في هذه البحوث إلى إثبات التغاير بين حقيقة الدين والتجربة الدينيّة. أما التغاير بين الوحي والتجربة الدينيّة فأمره موكول إلى بحوث باب النبوّة.

ماهية التجربة الدينيّة وأنواعها:

المنهج المتّبع في مسألة تطابق الدين أو عدم تطابقه مع التجربة الدينيّة هو منهج ظاهراتيّ؛ بمعنى أنّنا سوف ندرس - بادئ ذي بدء - الظواهر المنتمية لكلّ من الدين والتجربة الدينيّة؛ لنتعرّف عى معانيها، ثمّ نقف من خلال ذلك على تغايرها أو اتحادها.

وسوف تنتهي هذه الدراسة - من خلال مطالعتها لظواهر التجربة الدينيّة كما صوّرها شلايرماخر، وألستون، وبراودفوت، والأنواع التي فصّلها سوينبرن، ومن خلال معطيات البحث عن حقيقة الدين - إلى الحكم بتغاير الدين والتجربة الدينيّة.

ماهية التجربة الدينيّة:

تقدّم أنّ الوقوف على معنى التجربة الدينيّة يتأتّى من خلال استعراض رؤى المفكّرين والمنظّرين في هذا الصدد؛ إذ سننتهي من ذلك إلى تعريف دقيق عن هذه الظاهرة، ممّا يسمح لنا بعدئذٍ بعقد مقارنة بينها وبين الوحي.

التجربة الدينيّة عند شلايرماخر:

يُعدّ شلايرماخر أوّل من تناول مصطلح «الشعور الدينيّ»، ثمّ كتب بعده وليام جيمس (1910م) كتاباً عنوانه «تنوع التجارب الدينيّة». وقد ذكر شلايرماخر السبب الذي دعاه إلى خوض غمار هذا البحث في ضمن مقدّمة كتابه المسمّى ﺑ«حول الدين»([1])؛ حيث قال إنّ بعض أصدقائه الذين حضروا حفل عيد ميلاده ذات يوم عاتبوه بالقول: إنّ الإلحاد واللادينيّة قد بلغا حدّ الذروة في القرن التاسع العشر، وقد تمايل أغلب الناس والعلماء نحو النزعة الإلحادية؛ فلِمَ لا تحرّك ساكناً وأنت متكلّم لاهوتيّ لتذبّ عن حياض الدين؟ لم لا تعلن أنّ من حقّ الدين أن يبقى حيّاً؟ لماذا لا تُبيّن دوره وفاعليّته؟ وهذا هو دفع بلاشيرماخر ليكتب كتاباً موجزاً خصّصه للحديث عن الدين، فأوضح فيه ما يجب معرفته من معنى الدين.

وقد تطرّق شلايرماخر في هذا الكتاب إلى مجموعة من الفرضيّات، وناقشها، ليخلص في النهاية إلى رؤيته في هذا المقام. وقد بدأ في استعراض برهانه من خلال الفرضيّات الآتية:

1. هل الدين هو الميتافيزيقا ([2]) ؟ الجواب: الدين مختلف عن الميتافيزيقا.

2. هل الدين هو الأخلاق؟ يقول: هاتان حقيقتان منفصلتان؛ خلافاً لما يزعمه باركلي؛ حيث اصطنع تلفيقة معيّنة جمع فيها الأخلاق والدين.

3. هل الدين هو العرفان أو التصوّف؟ يرفض شلايرماخر هذا الفرض أيضاً.

ويخلص شلايرماخر في نهاية المطاف إلى أنّ الدينَ تجربةٌ دينيّة، ويُعرّف التجربة الدينيّة بأنها الشعور بالاعتماد على موجود مطلق، وحقيقة مطلقة([3]). ويرى أنّ هذا الشعور بالاعتماد على الموجود المطلق هو شعور بالاعتماد الكامل الشامل على جهة أو قوّة تمتاز عن العالم.

وعلى هذا الأساس، يرى أن التجربة الدينيّة هي من جنس الإحساس والشعور؛ لا من سنخ العلم أو المعرفة. ويضيف إلى ما تقدّم: وفقاً لهذا التعريف، ليس الدين من جنس العلم، وهو لا ينتمي إلى الأمور المعرفية. ومن ثمّ: فإنّ لغة الدين ليست لغةً معرفيّةً، والدين لا يتّصف بأيّ صبغة علمية أو معرفية، بل إنه يمنحنا شعوراً روحانياً عبّر عنه بعض علماء النفس بأنه شعور يُخرج المرء من وحدته، ويرمي به في أحضان أجواء روحانية معيّنة.

وقد وافق رودولف أوتو على تعريف شلايرماخر بحذافيره، ساعياً إلى إسقاط تفاصيله على الأديان السماوية والإبراهيمية.

لقد ذهب شلايرماخر في نظريّته التي تزعم الانسجام والتناغم بين الدين والتجربة الدينيّة إلى أنّ كلّ إنسان متديّن؛ حتّى إنسان القرن التاسع عشر، وأنهم جميعاً يمتلكون تلك التجربة الدينيّة، وليس هناك من البشر من لا يشعر في قرارة نفسه بالاعتماد على الموجود المطلق الذي وصفه بأنه ما وراء هذا العالم. ولم يستثنِ شلايرماخر الفنّانين الذين اشتهروا في ذلك العصر بأنهم أكثر الناس بُعداً عن الدين؛ حيث عدّهم من أشدّ الناس تديّناً؛ لأنهم حسب وصفه يمتلكون هذا الشعور بالاعتماد على الموجود المطلق أكثر من غيرهم. وكما يعبّر ستيس في كتابه «التصوف والفلسفة» فإنّ هذه الحالة مشهودة حتّى عند المدمنين على المخدِّرات.

وفي الختام، ردّ شلايرماخر على أصدقائه بألّا يتحسّروا على الدين، أو يهابوا لادينيّة القرن التاسع عشر([4]).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التجربة الدينيّة تنتمي إلى أحاسيس الإنسان ومشاعره، ولا يخفى أنّ الشعور ينطوي على مراتب ودرجات، فلا يبعد أن يُدّعى القائلون بالتجربة الدينيّة أنّ المرتبة العليا من هذا الشعور هي المرتبة المسمّاة ﺑ «الوحي»، وهو ما أرسله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ وتقّاه الإنسان منه.

التجربة الدينيّة عند ألستون:

يرى ألستون أنّ التجربة الدينيّة أمر علميّ؛ وليس من سنخ الشعور والأحاسيس. وإذا انتهينا إلى أنّ التجربة الدينيّة تنتمي إلى جنس الأحاسيس فمن اللازم عندئذٍ أن يكون الشخص صاحب الإحساس موجوداً. أمّا متعلق هذا الشعور فلن يكون أمراً وارداً في البحث؛ لفرط غموضه، فالفرد المدمن على المخدّرات مثلاً لديه شعور وإحساس معين، لكنّ متعلّق هذا الإحساس أمر مجهول، فلعلّه يحسّ بالوحدة، وبحاجته إلى من يمدّ يد العون له، لكن من هو هذا الشخص المعين الذي يحتاجه؟ وما هي صفاته؟ ذلك أمر غير معلوم، وليست الصورة واضحة حياله، ولهذا لا يدخل متعلق الإحساس في خضمّ البحث. وعليه، فإنّ الشعور يتكوّن من ثلاثة عناصر؛ هي: الشعور، وصاحبه، ومتعلق هذا الشعور. ولا يجري الحديث عن متعلق الشعور لشدّة غموضه،.

أمّا لو كانت التجربة الدينيّة من جنس العلم والإدراك (وهي العلاقة بين المدرِك والمدرَك)، فلا محيص إذن من وجود مدرِك ومدرَك (متعلّق الإدراك)، ولا مفرّ أيضاً من وجود مدرَكين: مدرَكاً أو معلوماً بالذات (الصورة الذهنية)، ومدرَكاً أو معلوماً بالعَرَض (الخارج)؛ فإذا كان المدرَك بالذات متطابقاً مع المدرَك بالعَرَض فالإدراك حينئذٍ صادق، وإلا فهو كاذب.

التجربة الدينيّة عند براودفوت:

يرى براودفوت أنّ التجربة الدينيّة - سواء كانت من جنس الإحساس أو الإدراك – حقيقة قابلة للبيان والتفسير. ومن ثمّ هو لا يفصل بين التجربة الدينيّة وتفسيرها([5]). ويذهب أيضاً إلى أنّ الإدراك أو الشعور الروحيّ وكذا إدراك الموجود السامي أو الشعور بالاعتماد على المبدأ أو الحقيقة الممتازة عن الكون لا يمكن له أن يتحقق من دون تفسير صاحب التجربة نفسه.

وفي واقع الأمر، فإنّ التجربة الدينيّة عنده مركّب يجمع بين إدراك صاحب التجربة أو شعوره زائداً تفسيره لذلك.

ولا يخفى على المتتبع تأثّر أبحاث براودفوت هنا عما يدور في أروقة الهرمنيوطيقيا الفلسفية؛ فوفقاً لبعض الأصول الموضوعة المفترضة مسبقاً تتبلور التجربة لصاحبها جرّاء مجموعة من العلل والعوامل، ثمّ يقوم الفرد على ضوء تلك المفترضات بتفسير شعوره أو إداركه. وتركيب هاتين الخطوتين هو ما يعبّر عنه بالتجربة الدينيّة. ولهذا، ليس هنالك تجربة دينيّة عارية عن التفسير.

ولعلّ هذا القول مشابه لما ردّده كانط (1804م) حين ذهب إلى امتلاك الإنسان لقوى ثلاثة؛ هي: الحساسة، والواهمة، والفاهمة. وأنّ هناك وقائع موجودة خارج الذهن تترك آثارها علينا؛ فالإنسان يدرك بعض الأمور عن طريق حواسه، لكنه يجهل ماهية ما يدركه في الواقع؛ فالمواد المدرَكة تلك تمتزج بفضل قواه الواهمة والفاهمة مع عنصري الزمان والمكان، أو قل: تمرّ هذه المواد من خلال معبر يكوّنه الزمان والمكان. ثمّ يتحدّث عن المقولات الاثني عشر، وما تصنعه القوّة الفاهمة أو العاقلة؛ أي: مرور تلك المواد من ذلك المعبر، واستقرارها في إحدى المقولات المشار ليها. ثمّ يستصدر من هذه المقولات أحكاماً اثني عشر. والأحكام الكلية والجزئية أو الشخصية إنما تصدر من هذه المقولات الاثني عشر.

ويرتكز ما ذهب إليه كانط (1804م)  إلى نقطتين: أوّلاً: أنّ هنالك وقائع موجودة في الخارج (الأنطولوجيا عنده)، وثانياً: أنّ هنالك أحكاماً أيضاً (الإبستمولوجيا عنده)، ثمّ يفتح باباً يخص العلاقة بين بحوث معرفة الوجود (الأنطولوجيا)، ونظريّة المعرفة (الإبستمولوجيا) يسمّيها ببحوث معرفة الذهن.

ولا يخفى أنه لم يُشر في نسخته الأولى من كتاب «نقد العقل المحض» إلى موضوع «معرفة الذهن»، بل اكتفى هناك بالإشارة إلى القوة الحساسة والفاهمة. وفي معرض الر على مناقشة مفادها السؤال عن كيفية الولوج في بحث المقولات فجأةً، يقول: يرتبط عنصرا الزمان والمكان بالقوى الواهمة، ومن خلال ذلك تتبلور حقيقة مّا لتلك المواد والمقولات، تُطلق عليها اسم «الأحكام».

وكما أسلفنا فيما مضى، فقد ذهب شلايرماخر إلى أنّ عنصري الزمان والمكان وكذلك المقولات أمور ذهنية، وأنّ المواد تأتينا من الخارج. ومن هنا، فإن المركب الناتج عن هذه العناصر الثلاثة (الزمان والمكان + المقولات + المواد) هو ما نطلق عليه اسم المعرفة. وبعبارة أخرى: المعرفة مركب ناتج عن مواد متخذة من الخارج، وتاثيرات تركتها قوى الذهن الفعالة على هذه المواد.

ويرى براودفوت أنّنا كما لا نملك مواداً محضةً، فإننا لا نملك أيضاً تجربة دينيّة صرفة خالصة. وإذا جاز لنا أنطولوجياً أن نذعن بوجودها، فإننا عاجزون عن بيانها أو الإفصاح عنها. ومن ثمّ: إذا نجحت عمليّة التبيين في التجربة الدينيّة، فتغيرت حالات الشخص، وبدأ يذرف الدموع، أو يسرد الأبيات الشعرية، فإنّ هذا مركب نتج عن شعور هذا الشخص أو إدراكه ممتزجاً بتفسيره لذلك؛ وليس مجرّد الشعور أو الإدراك المحض؛ لأنّ الشعور والإدراك لا ينفكان عن التفسير([6]).

وبناء على ذلك، فإنّ التجربة مقرونة بالتفسير على الدوام، سواء كانت من جنس الأحاسيس، أو انتمت إلى فئة الإدراكات. كما أنّ التفسير الذي تجري عملياته بفعل من صاحب التجربة نفسها هو الآخر لا ينفصل عن الشعور أو الإدراك.

أنواع التجربة الدينيّة:

التجربة مشترك لفظي يدل على التجربة الحسية، والتجربة العُرفية، والإدراك الحسي، والتجربة الأخلاقية، والتجربة العرفانية، والتجربة الدينيّة.

والمراد بالتجربة الدينيّة الشعور أو الإدراك الذي ينتاب الإنسان إزاء أمر معنوي أو روحي وحقيقة غائيّة.

ويرى سوينبرن أنّ للتجربة الدينيّة - أو تجربة الله حسب تعبيره - خمسة مراتب؛ هي:

1. تجربة الحقيقة الغائية بواسطة شيء محسوس: وهي أمر متاح لكل شخص، ويقع في نطاق التجربة العامة، ومثالها: تجربة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ أو الحقيقة الغائية برؤية صورة لشخص مقدّس مثلاً؛ كما لو تداعى ذلك لمن شاهد صورة السيّد المسيح (ع) وهو يرزح تحت التعذيب ضمن أحداث عرض سينمائيّ، أو من خلال مشهد حيّ لغروب الشمس مثلاً، وفي هذين المثالين تحصل للإنسان حالة روحانية ناتجة من التجربة المحسوسة العامة.

2. تجربة الحقيقة الغائية بواسطة شيء محسوس غير مألوف لكنّه عامّ: كما في مشاهدة نبتة تلتهمها النيران، لكنّها لا تحترق، أو كواقعة إلقاء إبراهيم (ع) وسط الحريق دون أن يمسّه سوء؛ فهاتان تجربتان بصريّتان (محسوستان عامّتان)، لكنّهما غير مألوفتين.

3. تجربة الحقيقة الغائية بواسطة ظاهرة شخصية قابلة للوصف باللغة الحسية المألوفة: والمقصود بها هنا تلك التجربة المنطلقة من الظواهر الشخصية؛ لا العامة، كما هو الحال في مثل الأحلام والمكاشفات.

4. تجربة الحقيقة الغائيّة بواسطة ظاهرة شخصية لا تقبل الوصف باللّغة الحسّيّة المألوفة في الغالب: كما هو الحال في الكشف والشهود العصيّ على البيان.

5. تجربة الحقيقة الغائيّة من دون توسيط أمر حسّيّ (ظاهريّ أو باطنيّ): ومثاله: الإنسان الذي يرتبط بالله عَزَّ وَجَلَّ ، وهذا يعني: انعدام أيّ أمر محسوس في البين رغم وجود التجربة الدينيّة([7]).

لقد استعرض سوينبرن هذه المراتب المختلفة للتجربة الدينيّة ليؤكّد على أنّ التجربة الدينيّة - سواء كانت من جنس الإدراك أو الشعور، أو كانت قابلة للتفسير أو عصيّة عليه - مظلّة كبرى تشمل أدنى المراتب؛ وهي ما قد يحدث لأيّ شخص، وصولاً إلى أسماها مقاماً؛ مثل ما كان يحدث للسيد المسيح (ع)، أو للرسول الأعظم (ص)؛ وهو المسمّى بالتجربة الوحيانية.

وبناءً على ذلك فالتجربة الدينيّة التي تناولها سوينبرن تشتمل على التجربة الروحانية والعرفانية - بما يعمّ القابلة للوصف والعصيّة عليه - وكذلك التجربة الوحيانية التي نجدها عند الأنبياء.

ماهية التجربة العرفانية وأنواعها:

التجربة العرفانية هي كشف أو شهود قلبي يحصل عليه العارف نتيجةً لتزكية النفس وترويضها عملياً. وفي معرض دراستنا لهذه الظاهرة وفقاً للمنهج الظاهراتيّ فإننا لا نسعى هنا إلى ممارسة أيّ برهنة عقلية  أو أي إثبات عرفاني على وجود هذه الظاهرة، بل يجب أن يكون أحدنا ذلك العارف الذي يمرّ بتجربة تلك الظاهرة، أو أن نطرق باب العرفاء مستفسرين منهم عن حقيقتها، أو مراجعين لمصنفات عرفانية مثل: «منازل السائرين»، و«التمهيدات»، و«الفتوحات»، و«الأربعون مجلساً» لعلاء الدين الكرماني، وغيرها.

وقد عبّر العرفاء عن المعرفة العرفانية بمفردات مثل: «الكشف» و«المكاشفة»، و«الشهود»، و«المشاهدة»، و«المعرفة القلبية»، وما سوى ذلك. وقسّموها إلى أقسام. يقول الكاشاني: «الشهود رؤية الحق بالحق» ([8]). وهذا يعني أن الإنسان إذا أدرك الحقيقة التي مفادها أنّ العالم بأسره ما هو إلا مظهر وتجلّ من مظاهر الحقّ وتجلّياته، حصل له شهود الحق بهذه المظاهر والتجليات، فقد بلغ حقيقة الشهود وجوهره. وقد قسّم الكاشاني بعد ذلك الشهود إلى مجمل في مفصّل، ومفصّل في مجمل. وأشار إلى أنّ الشهود المجمل في المفصّل يتلخّص في رؤية الأحدية في الكثرة؛ أي أنّنا إذا استطعنا أن نرى أحديّة الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ في كثرة العالم، فقد بلغنا شهود المجمل (الأحدية) في المفصّل (الكثرة).

أمّا شهود المفصل في المجمل فيتلخّص في رؤية الكثرة في الذات الأحديّة؛ وهو يعني السير من الحقّ إلى الحقّ في مسلك مسير الصعود للوصول إلى الذات الأحديّة (مقام الأحديّة)، ورؤية الكثرة في هذا المقام، ذلك لأنّ الكثرة الموجودة في الأعيان الخارجيّة لها وجودها في الأعيان الثابتة، وفي علم الله جَلَّ وَعَلا.

وعليه، فإنّ مقام شهود العلم الإلهيّ ينطوي على شهود المعلومات الإلهيّة أيضاً؛ لا أنّ الأعيان الخارجيّة موجودة هناك بماهيّاتها، بل هي حاضرة جميعاً بكمالاتها، والعلم بها في أعيان الحقّ سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ.

يقول القيصريّ (751ﻫ): «الكشف لغةً رفع الحجاب، يُقال: كشفت المرأة وجهها؛ أي: رفعت نقابها. واصطلاحاً هو الاطّلاع على ما وراء الحجاب من المعاني([9]) الغيبية، والأمور الحقيقية([10]) وجوداً أو شهوداً» ([11]).

 وبعبارة أخرى: إذا بلغ الإنسان مقام عين اليقين، وشاهد الحقائق الغيبية فقد حصل على مرتبة الكشف، وإذا بلغ مقام حق اليقين فإنّ وجوده في واقع الأمر قد اتحد بوجود سائر الموجودات بنحو ما، وعندئذٍ فالمقام ليس مقام الشهود، بل مقام الوجود؛ وهو ما عبّر عنه العرفاء بوحدة الوجود التي هي مرتبة تلي مقام وحدة الشهود. وبعد ذلك، يقسّم القيصري الكشف قائلاً:

«وهو معنويّ([12]) وصوريّ، وأعني بالصوريّ: ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواسّ الخمس([13]). وذلك إما أن يكون على طريق المشاهدة([14])؛ كرؤية المكاشف صور الأرواح([15]) المتجسّدة، والأنوار الروحانية([16]). وإمّا أن يكون عن طريق السماع؛ كسماع النبيّ (ص) الوحي النازل عليه» ([17]).

وهذا يعني أنّ الإنسان عندما يرتبط بعالم المثال المنفصل والبرزخ يحصل على مشاهدات مشابهة لما هو في الخيال المتصل، فيمكن للإنسان أن يشاهد صوراً لا يراها الآخرون، ولهذا يمكن للعارف أن يرتبط بالخيال المنفصل، وهو مرتبة من مراتب العالم المجرّد (التجرّد غير التامّ)، وأن يرى أو يسمع أموراً؛ كما نجد في قول الرسول الأعظم (ص) لأمير المؤمنين (ع): «إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى»([18])، وهذا هو الكشف الصوريّ. ويمكن هذا عن طريق الذوق؛ كما في السالك الذي يحصل له شهود بطعام يتناوله، فيطّلع به على معان غيبية، وفي بعض الأحيان قد يأكل الإنسان طعاماً في الخيال المنفصل، ويمكن أيضاً أن يكون هذا الكشف من خلال سائر الحواس الأخرى.

وحسب ما ذهب إليه العرفاء فإنّ الحواس الخمس موجودة في باطن النفس، باعتبار وجودها البرزخي والمثالي، وإنّ حواسنا المادية تستفيد من النوافذ المفتوحة لها من الحواس الموجودة في الخيال.

والقسم الآخر الذي استعرضه القيصري هو الكشف  المعنوي (في قبال الصوري)، مثاله: أن يطّلع الإنسان على مقام الأحدية الإلهيّة، أو ظهور الوحدة في الكثرة([19]). وقد قسّم العرفاء أيضاً التجلي إلى نوعين: ثبوتيّ، وإثباتيّ.

أمّا التجلي الثبوتي فهو وجودي أنطولوجي، ومعناه ن يُعرف الحق عَزَّ وَجَلَّ بصفته هوية غيبية غير متعينة. والهوية الغيبية له تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ تظهر في قوس النزول على هيئة التعيّن الأول بدايةً (الحضرة الأحدية)، ثمّ التعين الثاني (الحضرة الواحدية)، ثم التعينات الخلقية (عوالم العقل، والمثال، والمادة).

وأما التجلي الإثباتي فهو الشهود أو الكشف العرفاني.

والعارف في عرفانه العملي يمضي في سيره وسلوكه ليتجاوز منازل عدّة في قوس الصعود، فيرتقي من اليقظة، ليبلغ مقام الفناء. وآخر مراحل السلوك الوحدة في الشهود؛ بمعنى أن يجد الله جَلَّ وَعَلا في كلّ شيء، أو الوحدة في الوجود؛ أي: إنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ هو الوجود الأوحد.

لقد خلص العرفاء قبل ابن عربي إلى أنّ أقصى مراتب الكمال هي مرتبة الوحدة الشهودية، لكنّ ابن عربي ذهب إلى وحدة الوجود. فكلّ ما سوى الله متحقق في وحدة الشهود، لكنّ العارف لا يتلفت إليه، بل يرتكز شهوده على الوحدة، ففي وحدة الوجود لا وجود لأي شيء غير الحقّ عَزَّ وَجَلَّ، وغيره ما هي إلا تجليات له. وقد استطاع ابن عربي بنظريته هذه في وحدة الوجود أن يبني رؤيته في العرفان النظري، وأن يبيّن العرفان العملي الذي يُعدّ طريقة الوصول إلى الكمال والوحدة بشكل ممنهج، وتمكّن بعده صدر الدين الشيرازيّ (..) أن يكمل ما بدأه ابن عربي (..)، وأن يبرهن على مجموعة مدعياته العرفانية.

هذا، ولا يختلف العرفاء جميعاً في أنّ الشهود  هو منطلق العرفان. وهو ينتمي إلى العلم الحضوريّ، ويُعدّ مرتبةً من مراتبه إلى جانب المراتب الأخرى؛ مثل: الشعور بالألم، أو العطش، وما شاكل ذلك. ويصرّح العرفاء أنفسهم بأنّ منطلق الشهود وأصله قد يكون إلهياً تارةً، وشيطانياً تارة أخرى. وفي واقع الأمر، فإنّ الشهود الشيطاني ليس بشهود أصلاً، بل هو ارتباط مع الخيال المتصل والذهن البشريّ؛ إذ يمكن للفرد أن ينغمس في خياله لأسباب نفسانية أو شيطانية، فيخال له أن صوره الذهنية شهود عرفاني، أو خيال منفصل، فيختلط عليه الأمر.

وللوصول إلى الشهود المنفصل أي إلى الواقع الخارجي والملكوتي للعالم، وتمييز الشهود الإلهيّة عن النفساني أو الشيطاني اقترح أهل العرفان طرائق متعددة؛ منها: موازين العقل، والسؤال من العارف الواصل، وكذلك عرضها على الكتاب والسنة.

وهنا ننوّه بأنّ العرفاء المتشرّعين ليس أنهم يؤمنون بأنّ القرآن الكريم هو الأصل والمنطلق الوحيد لاكتشاف صدق الشهود أو كذبه وحسب، بل إنهم يرون فيه المصدر الأنطولوجي للعرفان أيضاً. وبتعبير آخر: يرى العرفاء أن جميع مراحل العرفان موجودة في الكتاب والسنة. ومن ثمّ، فإنّ آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لم تبالغ فقط في بيان أحكام الشريعة، بل أوغلت أيضاً في تناول المقامات العرفانية، وطرق الوصول إليها. ومن هنا، فقد رفضوا ألوان الرياضة الصوفية، وجعلوها خارج دائرة الكتاب والسنة، وعدّوها في واقع الأمر بوصفها حلقة من خلقات الإلقاءات الشيطانية.

هذا، ويدّعي  العرفاء في معرض بيانهم لشهودهم أنّ بياناتهم وإفصاحهم عمّا رأوه لا يعدو كونه أمراً شخصياً، وليس له منطلق إلهي. وعليه، طرحوا قضية ضيق الخناق في التعابر اللغوية، ووجدوا أنفسهم عاجزين في الإعراب عن مشاهداتهم. وقد عزوا هذا العجز إلى ضعف القدرة على البيان عند العارف، وانخفاض مستوى قدرة الفهم عند المخاطب، وإشكالية المعاني عندما يروم العارف إلى بيان المعارف العرفانية السامية، وهذا هو الذي أدّى إلى ظهور توجّهات معيّنة عند بعض العرفاء، انتهت بهم إلى إبراز ما وُصف بالشطحيّات([20]).

وفي المحصلة نقول: اتّضح من وقوفنا على التجارب العرفانية وما تبين لنا بشأن التجربة الدينيّة وأقسامها - لا سيّما التجربة الدينيّة في نظريّة سويبرن - أنّ الشهود العرفاني لون من ألوان التجربة الدينيّة. ومع اتضاح حقيقة الدين التي ذكرنا أنها تلك الحقائق المبيِّنة للمآل الملكوتي الذي ستؤول إليه الرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية، واتضاح معنى التجربة الدينيّة التي هي شعور أو إدراك روحيّ وقدسيّ، ينقشع الضباب عن إجابة السؤال المثار آنفاً؛ ألا وهو: هل يمكن القول بأنّ التجربة الدينيّة هي حقيقة الدين؟ فالإجابة هي بالنفي طبعاً؛ لأنّ التجربة الدينيّة وليدة للعوامل الداخلية والخارجية، وهي تتأثر بالمتغيرات التي تحيط بحالات صاحب التجربة وشؤونه الاجتماعيّة؛ فكيف يمكن لأمر مثل هذا أن يتّحد مع حقيقة الدين التي لا منشأ لها إلا الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ؟! نعم؛ يمكن عدّ التجارب العرفانيّة لوناً من ألوان التجربة الدينيّة، لكنّ حقيقة الدين تتفاوت مع التجربة الدينيّة تفاوتاً ماهويّاً وحقيقيّاً.


*  هوامش البحث  *

([1]) On Religion. [م]

([2]) المراد بها هنا الإلهيات بالمعنى الأخص، وهي الأبحاث المرتبطة بمعرفة الله، ومعرفة الدين، وفلسفته.

([3]) الإطلاق هنا بمعنى الكمال والشموليّة، والشعور المشار إليه في التعريف هو شعور ينطوي على ضرب من ضروب الوحدة، وهو شعور ينتاب كل كيان الإنسان، وهو إحساس يتعلّق بقوّة تفوق هذا العالم، ولا يتطرّق إلى أنها الله .

([4]) وبعبارة أخرى: إنه أفاد هنا من مجاز السكاكي حينما تصرّف في معنى الدين، ليصبح الجميع متديّناً؛ كما صنع السكاكي في مجازه فتصرّف في معنى الأسد ليشمل كل إنسان شجاع أيضاً.

([5]) التفسير هنا هو الانطباع الشخصي لصاحب التجربة الدينيّة عما جرّبه، سواء ظهرت هذه التجربة في هيئة ألفاظ، أم لم تتحمّلها قوالب اللغة لضعف الأخيرة، أو لأنّ قابلية المتلقّي لشرحها غير محرَزة. وبشكل عام فإنّ صاحب التجربة له معرفة بتجربته؛ وهذا هو تفسيرها.

([6]) تأثّر براودفوت بإلقاءات كانط في التمييز بين ما أسماه بالشيء بذاته أو النومين Noumen من جهة، والظاهرة Phenomenon من جهة أخرى، وكذا تأثر بآراء هايدغر وغادامر الهرمنوطيقيّة الفلسفية، ناهيك عما لاحه من تأثيرات البراغماتيكية (المذهب النفعيّ).

([7]) العقل والإيمان الدينيّ، مصدر سابق، فصل التجربة الدينيّة.

([8]) اصطلاحات الصوفية، عبدالرزاق الكاشانيّ (القاساني)، ج2، ص 152، مصطلح شهود.

([9])    يقول العلامة حسن زاده الآملي في تعليقته:  أي من الأسماء والصفات. راجع التعليقة على شرح فصوص الحكم للقيصري، ج1، ص 127. [م]

([10]) أي: الموجودة خارجاً؛ أي: صيرورة المكاشف متصفاً بحقيقة المكشوف. لاحظ: المصدر السابق. [م]

([11])  وجوداً أي: وجداناً لها بحيث لا يصير المكاشف متحقّقاً بحقيقة المكشوف، وهذا مقام حق اليقين. ووجداناً أي: ورؤيةً، وهذا مقام عين اليقين. شرح فصوص الحكم للقيصري، ج1، ص 127. [م]

([12])  أي: عقليّ. لاحظ: المصدر السابق. [م]

([13])  الحواسّ الخمس الباطنة. م.س. [م]

([14])  وهو الاطلاع الشهوديّ. م.س. [م]

([15])  أي: أرواح الأناسيّ. م.س. [م]

([16])  أي: العقول. م.س. [م]

([17])  المصدر السابق، ص 127-128. [م]

([18])  نهج البلاغة ص 417، ط شرح محمّد عبده. [م]

([19])  راجع: شرح فصوص الحكم، القيصري، الفصل الرابع في مراتب الكشف وأنواعها إجمالاً، وراجع كذلك شرح مقدّمة القيصري، ص 536.

([20]) نُقل عن البسطاميّ أنه قال: «لا إله إلا أنا فاعبدني»، ومنها أيضاً مقولة الحلّاج الشهيرة: «أنا الحق».