البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مشروعية الاستغاثة على ضوء العقل والكتاب والسنة

الباحث :  الشيخ أحمد الدر
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - ذو الحجة 1436هـ / 2015م
تاريخ إضافة البحث :  October / 11 / 2015
عدد زيارات البحث :  4196
تحميل  ( 346.609 KB )
مشروعية الاستغاثة
على ضوء العقل والكتاب والسنّة

الشيخ أحمد الدر

تمهيد:
حفلت المذاهب الإسلامية بالمسائل الخلافيَّة، لاختلاف منابع علومها، وتباين مصادر معارفها، نتيجةَ بُعد معظمِهم عن المنهل العذب الذي شرعه الله سبحانه لهم، وتنكبِّهم الصراط السويَّ الذي أمرهم بسلوكه، وتركِهِم تركَةَ نبيِّهم التي أمرهم بالتمسُّك بها، حينَ قال لهم ـ والحديث متواترٌ ـ: «إنِّي تاركٌ فيكم الثِّقلينِ، كتابَ الله وعترتي أهلَ بيتي، ما إنْ تمسَّكتُم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً»([1]).

وبقيت هذه المسائلُ تتجاذبُها طاولاتُ البحثِ والنِّقاش عبر مرور الأعوام، وتوالي الأيام، تشتدُّ تارةً، وتضعُفُ أخرى، بحسب البيئةِ التي تحتضنُها، والسياسة التي تحكمُها.

وليس لأحدٍ أن يُنكرَ تفرُّدَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بالتمسُّكِ بكتابِ اللهِ وعترةِ نبيِّهِ (ص) ورفضِهِم أيَّ دليلٍ يخالفُهُما، سواءٌ كان قولَ صحابيٍّ أو تابعيٍّ، أو رأيَ عالمٍ من علماء المسلمين.

فلا ترى في عقيدة الشِّيعة الإماميَّة مفردةً إلا ولها دليلٌ في كلام الله وكلام النبيِّ وآله الطاهرين (صلواتُ اللهِ عليهم اجمعين)، فضلاً عن عدم معارضتها لهما.

ومن المسائلِ الخلافيَّة التي دام الاختلافُ فيها إلى يومنا هذا مسألةُ الاستغاثة بغير الله سبحانه، حيثُ عدَّها بعضُ المسلمين ضرباً من ضروب الشرك بقولٍ مطلق!! وبعضٌ جوَّزها بالحيِّ ومنعها بالميت، والبعضُ الآخر رآها سبيلاً من سُبُلِ التقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ.

ومنعاً من الخلطِ بين مسألةِ التوسُّل ومسألة الاستغاثة يحسنُ بنا بيان الفرقِ بينهما، ثمَّ نشرعُ في عرض الأدلَّةِ تِباعاً لنخرجَ بالنتيجةِ التي تصدِّقُ عنوانَ البحث، وهو: مشروعيةُ الاستغاثة على ضوء العقل والكتابِ والسُّنة.


الفرقُ بين التوسُّل والاستغاثة:
إنَّ خفاءَ الفَرقِ بين المسألتين، والجهلَ بمعنى كلٍّ منهما دفعَ بعضَهم إلى إصدار حكمٍ واحدٍ للمتوسِّلِ والمستغيثِ على حدٍّ سواء، فرماهما بالشِّركِ والضَّلالة جهلاً وجهالة.

والحالُ أنَّ التوسُّل لا يُتصوَّرُ الشركُ فيه عقلاً، فضلاً عن تحقُّقِهِ خارجاً، وهذا ممَّا لا يكادُ يخفى على عاقلٍ انتفع بنعمةِ العقلِ، وقليلٌ ما هم!!

وقبلَ أن نُعَرِّفَ التوسُّلَ والاستغاثةَ، لا بدَّ من تعريفِ الشِّركِ أوَّلاً، لنرى كيفيَّة استحالةِ تصوَّرَ الشِّركِ في التَّوسُّل، لنثبتَ لاحقاً استحالةَ تحقُّق الشركِ في الاستغاثةِ بناءً على تعريفِ الإماميَّةِ لها، واعتقادِهم بها.


تعريفُ الشِّرك:
الشركُ: هو أن يُجعلَ مع الله شريكٌ، يشاركهُ في أمرِهِ؛ وبما أنَّ الشركَ يضادُّ التَّوحيدَ، لزمَ انقسامُ الشركِ بحسبِ أقسامِ التَّوحيد.

فقد يكونُ الشركُ في الذَّات الإلهيَّة، كمن يعتقدُ بأنَّ ذاتَ الله مركبَّةً، أو يعتقدُ بمغايرةِ الصِّفات للذات وتأثيرِها مع الذَّات.

وقد يكونُ في العبوديَّة، كمن يعبدُ مع الله سواه، وهو الذي جعلَ مع الله إلهاً آخر.

وقد يكونُ في الفاعليَّةِ والتَّأثيرِ، كمن يعتقِدُ بعدمِ مؤثِّريَّةِ اللهِ وحدَهُ ويضمُّ إليه غيرَهُ، كالَّذين قالوا أنَّ يدَ اللهِ مغلولةٌ، أو الذينَ قالوا بتأثير الكواكب تأثيراً مستقلَّاً عن الله؛ إلى غير ذلك.

والجامعُ لأقسام الشركِ كلِّها هو الاعتقادُ بأنَّ مع الله سواه، والعياذ بالله سبحانه وتعالى عمَّا يشركون.

ولذلكَ نجدُ القرآنَ الكريمَ حرِصَ على استخدام كلمة (مع) في الآيات التي تعرَّض فيها للشركِ والمشركين، ومنها:

)أئنَّكُم لَتَشهَدونَ أنَّ مَعَ اللهِ آلهةً أخرى قلْ لا أشهَدُ قلْ إنَّما هو إلهٌ واحدٌ وإنَّني بريءٌ ممَّا تُشرِكون( ([2]).

) ولا تَجعَلْ معَ اللهِ إلهاً ءَاخَرَ فَتُلقَى في جَهنَّمَ مَلومَاً مَدْحوراَ( ([3]).

) قلْ لو كانَ مَعَهُ آلهَةٌ كما يَقُولونَ إذاً لابتَغَوا إلى ذِي العَرشِ سَبِيلاً( ([4]).

) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إلهاً ءَاخَرَ لا بُرهانَ لهُ بِهِ فإنَّما حِسَابُهُ عندَ ربِّهِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرونَ( ([5]).

) ولا تَجْعَلوا مَعَ اللهِ إلهاً ءَاخَرَ إنِّي لَكُم مِنْهُ نَذيرٌ مُبينٌ( ([6]).

إلى غيرها من الآيات الكريمة، هذا؛ وقد تكرَّرُ قوله سبحانه )أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ( في خمسِ آياتٍ متتاليةٍ من سورة النَّمل ([7]).

إذن اتَّضح بما قدَّمناهُ أنَّ الشِّركَ من المقولةِ العرْضيَّةِ لا الطُّوليَّة، لأنَّ المعيَّة هي جعلُ غير الله في عرْضِ الله سبحانه، أمَّا جعلُ غير الله إلى الله فلا يُتصوَّرُ فيه الشركُ إلا على القولِ باجتماع النَّقيضين، ولا يقولُ به عاقلٌ مطلقاً، لحكمِ العقلِ باستحالة اجتماعِهما.

وبعد أنْ بيَّنا معنى الشرك، ننتقلُ لبيان معنى التوسُّل والفرقِ بينه وبين الاستغاثة، واستحالة اتِّصاف التَّوسُّل بالشرك كما أسلفنا.


التَّوسُّل:
(هو اتخاذُ الوسيلةِ والواسطةِ بينَ المتوسِّلِ والمتوسَّلِ إليه).

فعندما نتوسُّلُ إلى الله، إنَّما نتَّخذُ وسيلةً تقرِّبُنا إلى الله، وتحقِّقُ مُرادنا من الله بشرفِ تلك الوسيلة وجاهِها عند الله سبحانه.

فالتوسُّلُ طلبٌ من الله لا من سواه، لكنَّهُ طلبٌ مشفوعٌ بوسيلةٍ، يعتقدُ الطالبُ أنَّ لها عند الله جاهاً ومقاماً، فإذا قدَّمها بين يدي طلبِهِ وحاجتِهِ من الله كان الطلبُ أكثرَ قَبولاً، والحاجةُ أسرعَ قضاءً.

وذلك ظاهرٌ في أدعية التوسُّل وعبارات المتوسِّلين، كالدُّعاء الوارد في حديث صلاة يوم الغدير: «اللهمَّ إنِّي أسألك بحقِّ محمدِ نبيِّكَ، وعليٍّ وليِّكَ، وبالشَّأنِ والقَدْر الذي خَصَصْتَهما به دونَ خلقِكَ، أن تُصلِّيَ عليهما وعلى ذُرِّيتِهما» ([8]).

والدعاء المشهور، الذي علَّمه الإمامُ الصادقُ (ع) للجعفي، وهو ما رواه الكليني بسند صحيح، عن محمد الجعفي، عن أبيه، عن أبي عبد الله (ع) قال: كنتُ كثيراً ما أشتكي عينَيَّ، فشكوتُ ذلكَ إلى أبي عبد الله (ع) فقال: «ألا أعلِّمُكَ دعاءً لِدُنياكَ وآخِرَتِكَ، وَبَلاغاً لِوَجعِ عينيك»؟ قلت: بلى.

قال: تقول في دُبُرِ الفَجر ودُبُر المغرب: «اللهمَّ إنِّي أسألُكَ بحقِّ محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ عليك صَلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد، واجعل النُّورَ في بَصَري، والبصيرةَ في دِيني، واليقينَ في قلبي، والاخلاصَ في عَمَلي، والسَّلامةَ في نفسي، والسَّعَةَ في رِزقي، والشُّكرَ لك أبداً ما أبقيتني»([9]).

ودعاءِ باقرِ علومِ الأنبياء والأوصياء (صلواتُ اللهِ عليهم اجمعين)، المروي في الكافي بسندٍ صحيحٍ، عن أبي عبيدة الحذَّاء، قال: سمعتُ أبا جعفر (ع) يقول ـ وهو ساجد ـ: «أسألكَ بحَقِّ حبيبِكَ محمِّدٍ إلا بدَّلتَ سيِّئاتي حسنات، وحاسَبْتَني حِساباً يسيراً».

ثمَّ قال في الثَّانية: «أسألُكَ بحقِّ حبيبِكَ محمَّدٍ إلا كَفَيتني مَؤُونةَ الدُّنيا، وكلَّ هولٍ دونَ الجَنَّة».

وقال في الثالثة: «أسألُكَ بحقِّ حبيبِكَ محمَّدٍ لَمَّا غَفَرْت لي الكثيرَ من الذُّنوبِ والقليل، وقبلتَ منِّي عملي اليسير».

ثمَّ قال في الرَّابعة : «أسألُكَ بحقِّ حبيبِكَ محمَّدٍ لَمَّا أدخلتني الجَنَّة، وجعلتني من سُكَّانها، ولَمَّا نَجَّيتني من سَفَعَات النَّار برحمتك، وصلى اللهُ على مُحَمَّدٍ وآلِهِ»([10]).

ومن هنا قلنا: لا يُمكنُ تصوُّرُ الشِّركَ في التوسُّل، لكون الشركِ اتخاذَ غيرِ الله مع الله، أمَّا التوسُّلُ فهو اتخاذُ غيرِ الله إلى الله.

ونكتفي بهذا المقدار في التوسُّلِ لوضوح حاله من جهةٍ، ولكون موضوعِنا هو الاستغاثةُ من جهة أخرى.


الاستغاثة في اللغة:

الغوثُ: مِنَ الإعانةِ والنُّصرةِ عند الشِّدَّة([11]).

وغَوَّثَ الرجلُ، واسْتَغاثَ، صاحَ: وا غَوْثاه، والاسمُ: الغَوْث، والغُواثُ، والغَواثُ.

واسْتغاثَني فلانٌ فأَغَثْتُه، والاسم الغِياثُ، صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها([12]).
الاستغاثة في الاصطلاح:

عُرِّفَت الاستغاثة بتعاريفَ عدَّةٍ، بحسبِ اختلافِ المشارب والمذاهب، ولا يهمُّنا التَّحقيقِ في تلك التَّعاريف، ولا تمييز صحيحِها من سقيمِها، بل المهمُّ تعريفُ الاستغاثة على ضوء عقيدةِ الشِّيعةِ الإماميَّة (أعزهم الله سبحانه)، لنُثبتَ أنَّها موافقةٌ للكتابِ والعترةِ الطاهرة، مؤيَّدةً بالعقلِ وسيرةِ العقلاء.

ومن هنا كان تعريف الاستغاثة عندنا:

«هي طلبُ الغوثِ ممَّن يُعتقَدُ بقدرتِهِ على الإغاثةِ، بإقدارٍ من الله سبحانه».

وبناءً على التعريف المذكور:

أولاً: لا يُتصوَّرُ الشركُ في الاستغاثة بغير الله سبحانه، لأنها ـ كما تبيَّن من خلالِ تعريفها ـ هي استغاثةٌ طوليَّةٌ، وليست في عَرْض الله تعالى، حيث اشترطنا الاعتقاد بكون المُقدْرِ على الإغاثة هو الله لا سواه.

ثانياً: لا تصحُّ الاستغاثةُ بمن لم يُقدْرهُ الله عزَّ وجلَّ على الإغاثة، فلا يصح الاستغاثة من نار جهنم بشخصٍّ لم يُقدره الله تعالى على ذلك، وإلَّا كانت لغواً محضاً، وإن لم تكن شركاً كما لا يخفى.

ثالثاً: لا فرق في تحقُّق الاستغاثة بين أن يكون المستغاثُ به حيَّاً أو ميتاً، بشرط أن تَثبُتَ له القدرة على الإغاثة بعد موته، وهذا ما سنبيِّنه لاحقاً.

ولازمُ التَّعريفِ أنَّ تصوَّرَ الشِّركِ في الاستغاثةِ ممكنٌ إنْ أخلَّ المستغيثُ بالشرط الثاني، وهو الاعتقاد بأنَّ إغاثةَ الغيرِ إنَّما كانت بإقدارٍ من الله سبحانه.

فلو كان المستغيثُ يعتقدُ بأنَّ المستغاثَ به قادرٌ على إغاثتِهِ بقدرةٍ مستقلَّةٍ عن قدرة الله تعالى لكان مشركاً بلا خلاف.

وعدمُ التفريقِ بين المقامين أوقع بعضَ المسلمين بالظلمِ والبهتان، فرموا كلَّ مستغيثٍ بغير الله بالشرك، دون تمييزٍ بين من يعتقدُ بأنَّ القدرة المطلقة لله سبحانه لا لسواه، ومن يعتقدُ بقدرة غير الله مستقلَّاً عن الله.

تنبيه:

لا يخفى أنَّنا بملاحظة تعريف الاستغاثة استغنينا عن استعراض ومناقشة أدلَّة المانعين من الاستغاثة القائلين بحُرمتها، كابن تيمية وأضرابه، لكون جميع أدلَّتهم قائمةً على إرجاع الاستغاثة إلى الشرك!!

وأنت خبيرٌ بأنَّنا بعدما قدَّمناه ـ من تعريف الشرك والتوسل والاستغاثة ـ عادت أدلَّتهم خاويةً بالية، لا تعدو كونها مصادراتٍ وتحريفاً للكَلِمِ عن مواضعِهِ.


أدلَّةُ مشروعيَّة الاستغاثة:

امتازَ مذهب أهل البيت (سلامُ اللهِ عليهم) بتعدُّد الأدلَّة والبراهين على مسائله، فترى القرآن والحديثَ معتضدَيْن بالعقل حاضرين في جميع المسائل الاعتقاديَّة عند الشيعة الإماميَّة. ولا سيَّما الخلافيَّة منها، مع إضافةٍ فيها، وهي جعلُ أدلَّةَ المخالفين دليلاً عليهم لا لهم، مبالغةً في إظهار الحقِّ، وإسداءِ النُّصح، طلباً لمرضاة الله ومرضاة أوليائه الطاهرين (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين).

ومسألتُنا التي نحن فيها من هذا القبيل، وسنستعرضُ أدلَّتها تباعاً، مقدِّمينَ الدليلَ الأعم على غيره، بالترتيبَ التالي:

الأول: الدليل العقلي.
الثَّاني: سيرةُ العقلاء.
الثالث: الدليل النقلي.
القرآن
روايات الإمامية
روايات المخالفين.

الدَّليلُ العقلي:

لَمَّا كانت الإستغاثة من المسلَّمات عندَ العقل والعُقلاء، لم نحتج لبسط الكلام في بيان الدليل العقلي والعُقلائي عليها، فنكتفي بمختصرٍ في كلٍّ منهما، يُثبتُ المرادَ ويُحقِّقُ الغاية.

يحكمُ العقلُ بقبح العقاب بلا بيان، أي يقبحُ من المولى معاقبةُ عبدِهِ على ارتكاب فعلٍ لم يُبَيِّن له النَّهي عنه، أو على ترك فعلٍ لم يُبيِّن لهُ الأمرَ به.

وعليه، فما لم يرد نهيٌّ ـ من الشرع المقدَّس ـ عن فعلٍ ما، نستكشفُ إباحةَ هذا الفعل وعدمَ حرمته بمقتضى القاعدة العقليَّة المذكورة.

نعم، لا إشكال في وجوب البحث والفحص عن الحكم في المسألة قبل اللجوء إلى قاعدة القبح بلا بيان، فإذا كانت نتيجة البحث سلبيَّةً جرت القاعدة، وإلا انتفت بانتفاء الموضوعها.

وستعلم قريباً أنَّ ما استُدلَّ به على حرمةِ الاستغاثة أجنبيٌّ بعيدٌ كلَّ البعد عن الاستغاثة التي نعتقد بها.

ممَّا يحقِّقُ لنا موضوع القاعدة العقلية، وهو انتفاءُ البيان، لعدمِ وجودِ دليلٍ شرعيٍّ ينهى عن الاستغاثة، فيُطبِّقُ العقلُ حكمَهُ: يقبحُ العقابُ بلا بيان؛ وتثبُتُ مشروعيَّةُ الاستغاثة بالدليل العقلي.


الدليل العقلائي:

لقد جَرَت سيرةُ العقلاء على استغاثة النَّاس ببعضهم البعض، فالجاهل يستغيث بالعالم، والمريضُ يستغيثُ بالطبيب، والضعيف يستغيثُ بالقوي، ونحو ذلك.

ولا يستغيثون بهم اعتقاداً بأنَّهم آلهةٌ! أو في عَرْض الله سبحانه!! بل بما هم يملكون ما يفقده المستغيث.

ونفسُ هذه السيرة جاريةٌ بين الموحِّدين والمسلمين والمؤمنين إلى يومنا هذا، فترى الجاهلَ يقصدُ العالمَ ويطلبُ منه تعليمه؛ والمريضَ يقصدُ الطَّبيبَ ويطلبُ منه معالجتَه؛ والضعيفَ يلجأُ إلى القويِّ ويطلبُ منه الانتصار له؛ وهكذا.

ولم يردْ في أيِّ شريعة من الشرائع السماويَّة نهيٌ عن هذه السيرة، كما سننبِّهُ عليه في مناقشة ما زعموه من أدلةٍ على المنع.

وجريان هذه السيرةِ على مرأىً ومسمعٍ من المعصوم (ع) مع عدم صدور الردع عنها، كافٍ في إثبات مشروعيَّتها، إذا لو لم تكن ممضيَّةً عندهم : لردعوا عنها ومنعوا منها.

بل ستعرف قريباً أنَّهم (سلامُ اللهِ عليهم) أدَّبوا المسلمين على هذه السيرة، وحثُّوهم عليها، كما في الأدعية التي كانوا يعلمونهم إيَّاها.


الدليل النقلي:

وهو منحصرٌ بالقرآن والعترة الطاهرة عندنا، لكونهما الناطقَين عن الله سبحانه، كما تفيدهُ الأدلةُ المتواترة، من قبيل حديث الثقلين، وغيره.

وأمَّا عند المخالفين فالدليل النَّقليُّ عندهم سنَّةُ النبيِّ (ص) وقولُ الصَّحابي، على اختلاف بينهم في وجوه حجية قول الصحابي، كما يظهر لمن راجع المطوَّلات من مصنَّفاتهم الفقهية ونحوها.

وها نحنُ نستعرضُ الأدلَّة النقليَّةَ مبتدئين بأشرفها، وهو القرآن الكريم.


القرآن يُقرُّ الاستغاثةَ المذكورة:

إنَّ القرآن الكريم هو المرجعُ الأولُ الذي أُمرنا بالرجوع إليه في أمور ديننا، واتفقَ المسلمون على ذلك رغم اختلاف فِرَقهم، وتعدُّد مذاهبهم، ومن هنا كان الواجبُ على كلِّ مسلمٍ التسليمَ بما جاء في الكتاب العزيز، وعدم ردِّه مطلقاً، إلا في المتشابه فيُرجعُ فيه إلى من كان القرآنُ آياتٍ بيِّناتٍ في صدورهم.

ومن ردَّ شيئاً منه فقد حكم على نفسه بالكفرِ والجحود والعياذ بالله سبحانه، بدليل نصِّ القرآن والسنِّة المتواترةِ وإجماع المسلمين كافَّة.

ونحنُ إذا رجعنا إلى كتاب الله تعالى نجدُهُ صريحاً في إمضاء الاستغاثة، كما في الآيات التي تحكي قصَّة نبي الله موسى (على نبيِّنا وآله وعليه السلام) مع الرجلِ الذي استغاث به.

يقولُ الله سبحانه: )وَدَخَلَ الْـمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ(.

وتقريبُ الاستدلال بهذه الآية الكريمة:

أولاً ـ لقد نصَّ القرآن الكريم على أنَّ الرجل استغاث بموسى (ع)، ولم يستغث بالله تعالى

ثانياً ـ لم ينقل القرآنَ اعتراض موسى (ع) على الرجل، بأنَّه كيف تستغيثُ بي دون الله سبحانه؟!! وسكوتُ نبي الله عن ذلك إمضاءٌ لفعل الرجل.

ثالثاً ـ لقد أخبرنا الله سبحانه بأنَّ موسى استجاب لاستغاثة الرجل، مما يعني أنَّه أقرَّهُ عملاً، فضلاً عن الإمضاء كما تقدم.

رابعاً ـ لم يُسجل القرآنُ اعتراضَ الله سبحانه على استغاثة الرجل بغير الله، ولو كانت شركاً أو ضلالاً لكان ينبغي أن ينبِّـه عليه، لأنَّ القـرآن لا يقرُّ باطلاً والعياذُ بالله.

خامساً ـ لم ترد أيَّةُ آيةٍ في القرآن ـ في موضعٍ آخر ـ تصرِّحُ أو تلْمِحُ إلى الاعتراض على هذه الاستغاثة، أو تنهى عنها، كما جاء النهيُ عن الصلاة على المنافقين.

النتيجة:

أقرَّ القرآن الكريمُ الاستغاثةَ بغير الله سبحانه، ولا بدَّ لنا من إضافة قيدٍ لهذا الإقرار وهو أن تكون الاستغاثةُ جاريةً على السيرة العقلائية، فلا يدخلُ فيها الاستغاثةُ بغير الله اعتقاداً بأنَّ غير الله له قدرةٌ مستقلَّةٌ عن الله تعالى، لكونِ ذلك شركاً بلا خلاف.

وعليه، فمن منع الاستغاثةَ بغير الله مطلقاً فقد ردَّ على القرآن، والرادُّ على القرآن رادٌّ على الله سبحانه، وهو الكفرُ بعينه.

وهناك آياتٌ أُخَرُ تدلُّ على العنوان، كآيات معجزة نبيِّ الله عيسى (على نبيِّنا وآله وعليه السلام)، حيث كانوا يستغيثون بنبي الله لإحياء موتاهم وشفاء مرضاهم، فكان يغيثهم بإذن الله، واستعراض تلك الآيات وتفصيل الكلام فيها يُطلبُ من مظانِّه.

ففيما ذكرنا الكفاية لمن كان طالباً للهداية، مجانباً لسُبُل أهل الغِواية.


السُّنَةُ النبويَّةُ تُقرُّ الاستغاثةَ بل وتأمر بها:

كثيرةٌ جداً هي الروايات الشَّريفةُ الواردةُ عن عِدل الكتاب، وهم النبيُّ وآله (ص) في إقرار الاستغاثة، بل الأمر بها، الدالِّ على استحبابها للشارعِ المقدَّس.

بل كذلك الروايات الواردة عن الصَّحابة الأجلَّاء وغيرهم.

وفيما يلي عرضٌ لِباقةٍ روائيَّةٍ من رياض التراث الرِّوائيِّ الإمامي الشريف، وإنْ كانت مسألة الاستغاثةِ عندنا من بديهيَّات التشيُّع، قولاً وعملا.


روايات الإستغاثة في التراث الإماميِّ:

لا خلاف بين أحدٍ من فقهاء الطَّائفة الحَقَّة في جواز الاستغاثة بالنبيِّ وآله (ص)، بل وبغيرهم بالشرط المتقدِّم في تعريف الاستغاثة.

وقد حفلت كتبهم ومصنَّفاتهم بذكر روايات الاستغاثة، أدعيةً وزياراتٍ ونحوها، بدءاً بأهمِّ كتبها وهو كتاب الكافي وصولاً إلى المؤلَّفات المعاصرة.

ودعونا نتبرَّكُ بذِكر خمس رواياتٍ منها تيمُّناً بالخمسة أصحاب الكساء (سلامُ اللهِ عليهم)، يثبتُ بها العنوان، ويتحققُ المطلوب.


الروايةُ الأولى: نقشُ خاتم الإمام العسكري (ع):

روى الشيخُ الصَّدوق (رضوانُ اللهِ عليه) بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مهزيار ـ وهو من أصحاب الإمام العسكري (ع) ـ حديثَ لقائِهِ بالإمام الحجَّةِ (عجَّل الله فَرَجَه)، وصدرُ الحديث يحكي كيفية لقاء ابن مهزيار برسول الإمام الحجَّة (أرواحنا له الفدا)، وسؤال الرسول عن العلامة التي مع ابن مهزيار، فقال له إبراهيم بن مهزيار: «لعلَّكَ تُريدُ الخاتم الذي آثَرَني اللهُ به من الطَّيِّبِ أبي محمد الحسن بن علي(ع)؟

فقال: ما أردتُّ سواه، فأخرجتُهُ إليه، فلمَّا نَظَرَ إليه استعبر وقَبَّله، ثمَّ قرأَ كتابَتَهُ، فكانت: يا اللهُ يا محمَّدُ يا علِيُّ.

ثم قال: بأبي يداً طالما جِلْتَ فيها...»([13]).

محلُّ الشاهد: جعلُ الإمام المعصوم (ع) نقشَ خاتَمِهِ استغاثةً بالله ونبيِّه ووليِّه.


الروايةُ الثانية: زيارة المعصومة (ع)

وهي السيِّدةُ الطاهرةُ العالمةُ فاطمة بنتُ موسى بن جعفر، أختُ الإمام السلطان عليِّ الرضا (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين)، التي شرَّفت مدينةَ قم مذ نزلت فيها، وبها أصبحت حرماً لآل محمد (ص).


شَرُفَت فكانت في الحديثِ المُسنَدِ


حرماً لآل البيتِ آلِ محمَّدِ

ودَنَت لتلثمَها السَّما مُذ ضُمِّنت


ريحانةً تُنمى لِعِترةِ أحمدِ

هي بنتُ موسى لا الكليمُ بل الذي


خرَّ الكليمُ لنورِهِ المتوقَّدِ([14])


أوردَ زيارتها العلَّامةُ المجلسي (رضوانُ اللهِ عليه) بسندٍ صحيحٍ أعلائيٍّ عن الرضا (سلامُ اللهِ عليه)، قال: «يا سعدُ! عندكم لنا قبرٌ».

قلت: جُعِلْتُ فداك، قبرُ فاطمةَ بنتِ موسى (ع)؟

قال: «نعم، من زارها عارفا بحقها فله الجَنَّة، فإذا أتيت القبر فقم عند رأسها، مستقبلَ القِبلة، وكبِّر أربعاً وثلاثين تكبيرةً، وسبِّح ثلاثاً وثلاثين تسبيحةً، واحْمَدِ ثلاثاً وثلاثين تحميدةً، ثمَّ قل: السلام على آدم صفوة الله... [إلى قوله]: يا فاطمةُ اشفعي لي في الجنَّة...» الزيارة([15]).

وزيارتُها هذه (صلوات الله عليها) عاليةُ المضامين، محكمةُ المباني، مُتقنةُ المعاني، سطورُها تدلُّ على صدورِها، ولنا شرحٌ بليغٌ عليها نسألُ الله التَّوفيقَ لإتمامه.

محلُّ الشاهد: الاستغاثةُ بمولاتنا المعصومة فاطمةَ بنتِ موسى (سلامُ اللهِ عليهما).


الروايةُ الثالثة: دعاء التَّوسُّل:

وهو دعاءٌ جليل في التوسُّل والاستغاثة، مرويٌّ عن أئمَّتنا (صلواتُ اللهِ عليهم)، أورده العلَّامة المجلسيُّ (رضوانُ اللهِ عليه) في بحاره([16])، قائلاً:

وجدت في نسخة قديمة من مؤلفات بعض أصحابنا (رضي الله عنهم) ما هذا لفظه:

هذا الدُّعاءُ رواه محمدُ بنُ بابويه([17]) ; عن الأئمة : ([18])، وقال: ما دعوتُ في أمرٍ إلا رأيتُ سرعةَ الإجابة، وهو:

«اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة محمد (ص)، يا أبا القاسم! يا رسول الله! يا إمام الرحمة! يا سيدنا ومولانا! إنَّا توجَّهنا، واستشفعنا، وتوسَّلنا بك إلى الله، وقدَّمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله! اشفع لنا عند الله...» الدعاء.

وهو يعدِّدُ المعصومين الأربعةَ عشرَ واحداً تلو الآخر، بدءاً برسول الله (ص) وانتهاءً بخاتم الأئمَّة المهدي (عجَّل الله اليُمنَ بلقائه)، ويتوسُّل بهم فرداً فرداً، ثم يتوسَّل بهم جمعاً.

وهذا الدُّعاءُ له قداستُهُ عند المسلمينَ الشيعةِ (أعزَّهم الله)، يدمنون تلاوتَهُ في بيوتهم ومساجدهم وحسينيَّاتهم، ولَكَم فرَّجَ الله به عنهم، وقضى حاجاتهم، ببركةِ محمدٍ وآلِ محمدٍ (ص).


الروايةُ الرَّابعة: يا مولاتي فاطمةُ أغيثيني

روى الفقيهُ الجليلُ الشيخ سليمان بن الحسن الصهرشتي ـ وهو من تلامذة السيد المرتضى وشيخ الطائفة (رضوانُ اللهِ عليهم) ـ في كتابه: قبس المصباح، عن المحدِّث الجليل المفَضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله (ع) قال: «إذا كانت لك حاجةٌ إلى الله، وضِقتَ بها ذَرْعاً، فَصَلِّ ركعتين، فإذا سلَّمت كَبِّر اللهَ ثلاثاً، وسَبِّحْ تسبيحَ فاطمةَ (ع).

ثمَّ اسجد وقل مائة مرة: يا مولاتي فاطمةُ أغيثيني([19]).

ثمَّ ضعْ خدَّكَ الأيمنَ على الأرض، وقل مثل ذلك، ثم عُدْ إلى السجود، وقل ذلكَ مائةَ مرةٍ وعشرَ مرَّات، واذكر حاجتَكَ، فإنَّ الله يقضيها»([20]).

الروايةُ الخامسة: استغاثةُ الأئمَّة بأمَّهم الزهراء (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين)

روى ثِقةُ الإسلام الكليني (رضوانُ اللهِ عليه) بسندٍ صحيحٍ عن علي بن أبي حمزة، عن أبي إبراهيم (ع) ([21])، قال: قال لي: «إنِّي لموعوكٌ منذ سبعةِ أشهر، ولقد وعكَ ابني اثني عَشَرَ شهراً، وهي تَضاعفُ علينا، أشْعَرتُ أنَّها لا تأخذُ في الجسد كلِّهِ، وربما أخذت في أعلى الجسدِ ولم تأخذْ في أسفَلِهِ، وربَّما أخَذَت في أسفَلِهِ ولم تأخذْ في أعلى الجسدِ كلِّهِ».

قلت : جُعِلتُ فداك، إنْ أذنتَ لي حدَّثتُكَ بحديثٍ عن أبي بصير، عن جدِّكَ أنَّهُ كان إذا وعكَ استعانَ بالماء البارد، فيكونُ له ثوبان، ثوبٌ على جسده، وثوبٌ في الماء، يُراوِحُ بينهما، ثمَّ ينادي ـ حتى يُسمَعُ صوتُهُ على بابِ الدار: «يا فاطمةُ بنتَ محمَّد»؟!

فقال: «صَدَقَ».

فقلت: جُعلتُ فداك، فما وجدتُّم للحُمَّى عندَكُم دواءً؟!

فقال: «ما وجدنا لها عندنا دواءً إلا الدُّعاءَ والماءَ البارد.

إنِّي اشتكيتُ، فأرسل إليَّ محمدُ بنُ إبراهيمَ بطبيبٍ له، فجاءَني بدواءٍ فيه قَيءٌ، فأبيتُ أن أشرَبَهُ، لأنِّي إذا قيئتُ زالَ كلُّ مِفصَلٍ عنِّي»([22]).

والمرادُ بالدعاء استغاثتهم : بأمِّهم فاطمة بنت محمد (ص)، وهو محلُّ الشاهد.

ونكتفي بهذا المقدار من الرِّوايات الشريفة في باب الاستغاثة، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتب الأدعية والزيارات فهي عابقة برياحينها فوَّاحةٌ بشذاها.


رواياتُ الاستغاثة في التراث المخالف:

يتعجَّب المتتبِّعُ لأقوال المخالفين وآرائهم في الاستغاثة، فقولٌ حرَّم الاستغاثة بغير الله مطلقاً، وقولٌ خصَّ الحرمةَ بالاستغاثة بالميت دون الحي، وقولٌ جوَّز الاستغاثة بالنبي (ص) دون غيره، إلى غيرها من الأقوال التي تكشف عن الأهوائيَّة التي عبثت بدين الله وشرعه!!

ويزدادُ المرءُ تعجُّباً عندما يجدُ أنَّ مصادرهم حافلةً بالأدلَّة النافيةِ لأقوالهم، المثبتة لنقيضِها، فيثبت التناقض بين الدليل المفترض والنتيجة المعتمدة.

وها نحنُ نستعرضُ شطراً من رواياتهم الدالَّة على مشروعيَّة الاستغاثة مطلقاً، بالنبي (ص) وغيره، حياً كان أم ميِّتاً، مع الالتفات لتعريف الاستغاثة الآنف الذكر.


الرواية الأولى: استغاثة الصحابي بالنبي في قبره!

روى ابن أبي شيبة الكوفي (المتوفى سنة 235ه) في مصنَّفه قائلاً: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن مالك الدار ـ وكان خازنَ عمر ـ قال: أصاب النَّاسَ قحطٌ في زمن عُمَر، فجاء رجلٌ إلى قبر النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم، فقال: يا رسول الله! استسق لأمَّتك، فإنَّهم قد هلكوا.

فأتى الرجلَ في المنام، فقال له ائت عمر... الحديث([23]).

ومحلُّ الشاهد في الحديث هو الاستغاثة بالنبي (ص) في قبره، على مرأى ومسمعٍ من الصَّحابة!! فيدلُّ على مشروعيَّة الاستغاثة عندهم جزماً، مع الالتفات لكونها استغاثة بالميت، وهي غايةُ هذا الباب.

غير أنَّ الاستدلال بهذا الحديث يتوقَّفُ على أمرين:

الأول: إثباتُ صحة السند.

والثاني: معرفةُ هوية الرجل المستغيث.

أمَّا السند: فلا إشكال في صحَّته بناءً على مبانيهم، بل نصَّ إمامهم ابن حجر على صحَّته بقوله: وروى ابن أبي شبية بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمَّان عن مالك الدار...ثم ذكَرَ هذا الحديث([24]).

ومالكُ الدَّار: هو مالك بن عياض، له إدراك، أي كان صغيراً يوم أدرك النبي (ص) ([25])، روى عن أبي بكر وعمر([26])، وروى عنه أربعةٌ من ثقاتهم([27])، بل ذكرهُ ابن حبَّان في الثِّقات([28]).

هذا، ولا مجالَ عندهم للطعن فيه عندهم، لإنَّ الطعنَ فيه طعنٌ في عمر وعثمان، فمالك الدار هذا كان ثقة عمر وعثمان، ولذلكَ ولَّياه بعضَ أمورهم([29])، بل كان عمر يعدُّ مالكاً من آله([30])!!

ومن أراد تفصيلاً أكثر حولَ حجيَّة سند هذا الحديث عندهم فليرجع إلى كتاب (رفع المنارة)، فلقد بحث الرواية سنداً بحثاً وافياً([31]).

وامَّا هوية الرجل المستغيث، فهو الصحابي بلال بن الحرث المزَنِي، ذكر ذلك إمامهم ابن حجر في شرحه([32]).

ولو فرضنا جهالتَهُ فهي لا تقدح في الاستدلال بالرواية، حيثُ أقرَّه سيِّدُهم عمر ـ كما جاء في الحديث ـ ولم يعترض عليه، بل لم يُنقل اعتراضُ أحدٍ من الصحابة عليه، وهذا إقرار لا يتطرَّقُ إليه الإنكار.

أقول: ولو لم يرد في كتبهم غير صحيحتهم هذه لكانت فيها الكفاية وحصول الغاية بثبوت مشروعيَّة الاستغاثة بالنبيِّ (ص) بعد موته، فضلاً عن حياته.


الرواية الثانية:

روى إمامهم البخاري في صحيحه، بإسناده عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): «ما يزالُ الرجلُ يسألُ الناسَ حتى يأتي يومَ القيامة ليس في وجهه مزعة لحم».

وقال: «إنَّ الشمسَ تدنو يومَ القيامة، حتَّى يبلغَ العَرَقُ نصفَ الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، ثمَّ بموسى، ثمَّ بمحمَّد (صلى الله عليه [وآله] وسلم».

وزاد عبد الله، حدثني الليث، قال: حدثني ابن أبي جعفر: «فيشفع، ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذٍ يبعثُهُ الله مقاماً محموداً، يحمَدُهُ أهلُ الجمع كلُّهم»([33]).

وهذا الحديث من أبلغ أحاديثهم في مشروعيَّة الاستغاثة، حيثُ إنَّه يخبرُ بأنَّ الناس يوم المحشر، يوم )لا تَمْلكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً(، يومَ )لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون إلا مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ (، يستغيثون بغير الله، بآدم فلا يؤذنُ له بإغاثتهم، ثمَّ بموسى فلا يؤذنُ له كذلك، ثم بمحمد (ص) فيؤذنُ له.


الرواية الثالثة: استغاثة هاجر (رضوانُ اللهِ عليها)

روى إمامهم البخاري في صحيحه، بإسناده عن ابن عباس، قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيِّها حتى قدم مكة، فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله...

[إلى أن قال]: فذهبَتْ فصعَدَتْ الصَّفا، فنظَرَت ونظَرَت، فلم تحسَّ أحداً، حتى أتمَّت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل، فإذا هي بصوتٍ! فقالت: أغثْ إن كان عندكَ خير.

فإذا جبريل، قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحفر.

قال: فقال أبو القاسم (صلى الله عليه [وآله] وسلم: لو تركته كان الماء ظاهراً...الحديث»([34]).

ومحلُّ الشاهد استغاثتُها بصاحب الصوت الذي سمعته، مع نقل النبيِّ (ص) لاستغاثتها دون الاعتراض عليها.

وتوهُّمُ أنَّها استغاثت بالله سبحانه ظاهرُ الفساد، لكونها استغاثت بمن أصدر صوتاً، مضافاً لقولها: إن كان عندك خير!!


الرِّواية الرابعة: أعينوا عبادَ الله:

روى الطبراني عن الثِّقات، عن ابن عباس، أنَّ رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «إنَّ لله ملائكةً في الأرض سوى الحفظة، يكتبونَ ما يسقطُ من ورَقِ الشَّجرِ، فإذا أصاب أحدَكُم عُرجةً([35]) بأرض فلاة، فليُنادِ: أعينوا عباد الله»([36]).

وأخرجَهُ البيهقي في شُعب الإيمان، وفيه: «فإذا أصابَ أحدَكُم عُرجةً في الأرض، لا يقدرُ فيها على الأعوان، فليَصحْ فليَقُلْ: عبادَ الله أغيثونا! أو: أعينونا رحمكم الله، فإنه سَيُعانُ»([37]).

وروى الطبراني نحوه، وقال بعده: وقد جُرِّبَ ذلك([38]).

وقال الحافظ ابن حجر ـ في حاشيته على إيضاح المناسك ـ: وهو مجرَّبٌ كما قاله الراوي للحديث([39]).

والحديث صريحٌ في مشروعيَّة الاستغاثة بالملائكة، وطلب العون منهم، بل يدلُّ على أنَّ الاستغاثةَ بغير الله قد تكون أدباً من آداب الله، فالنبي (ص) علَّمَ أصحابه هذه الاستغاثة، ووعدهم بالإغاثة.

وسنَدُهُ كما أفدنا، لا غبار عليه، ولو أمكن النقاش في بعض رجال السَّنَد فإنَّ عملَ أئمَّتهم وفقهائهم ـ كالطبراني وابن حجر وغيرهم ـ كاشفٌ عن اعتبار الحديث عندهم، وهذا أبلغُ من تصحيح السند بتوثيق الرواة.

بل رووا بالاسناد الصحيح([40]) عن إمامهم أحمد بن حنبل أنَّه قال: (حَجَجْتُ خمسَ حِجَجٍ منها ثنتين راكباً وثلاثة ماشياً، أو ثنتين ماشياً وثلاثة راكباً.

فَضَلَلْتُ الطريقَ في حِجَّةٍ، وكنتُ ماشياً، فجعلتُ أقول: يا عبادَ الله دلُّونا على الطَّريق، فلم أزلْ أقولُ ذلك حتى وقعْتُ على الطَّريق)([41]).

الرواية الخامسة: استغاثة عائشة، وعام الفتق!

روى الدَّارمي في سُنَنِهِ، بإسناده عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله، قال: قُحطَ أهلُ المدينة قحطاً شديداً، فشَكَوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبرَ النبيِّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم)، فاجعلوا منه كوى إلى السماء، حتى لا يكونَ بينَهُ وبينَ السَّماءِ سقُفٌ.

قال: ففعلوا، فمُطِرنا مَطَراً، حتَّى نبتَ العُشبُ، وسمنت الإبلُ، حتَّى تفتَّقت من الشحم، فسُمِّيَ عامُ الفَتْق([42]).

وسند الحديث صحيح كما يظهرُ لمن راجع رجاله، ومن شاء الوقوف على تفصيل رجال السند وتعديلهم، والجواب على جهالات الألباني فليراجع كتاب رفع المنارة([43]).


أمَّا محلُّ الشاهد في الحديث فهو أمرُ عائشة لأهل المدينة بالاستغاثة بقبر النبيِّ (ص)!!

والقدرُ المتيقَّنُ منه أنَّه استغاثةٌ برسول الله (ص) وهو في قبره، مع أنَّ الظاهر كونه استغاثةً بقبر النبي فضلاً عن الاستغاثة به (ص).

وهو صريح بمشروعية الاستغاثة بل بكونها من بديهيَّات المسلمين منذ ذلك الزمن كما لا يخفى، حيث ساراعوا لامتثال أمرها، وعاينوا أثر الاستغاثة بأعينهم، وتناقلوها كرامةً للنبيِّ (ص).

وبما استعرضناه من روايات الاستغاثة من الطُرُق المعتبرة لدى الشيعة والسنة ثبَتَ العنوان وتحقَّقَ المراد، وبانَ أنَّ الاستغاثةَ سيرةُ المسلمين منذ عهد النبيِّ (ص) وإلى يومنا هذا، لم يردع عنها أحدٌ، بل جاء التأييدُ لها، بل الأمر بها.

نعم، بقي علينا أن نُنبِّهَ على إشكاليَّةٍ أثارها بعضهم، جهلاً بالواقع أو تجاهلاً له وجهالة، وهي إشكالية الاستغاثة بالميت.

مشروعيَّة الاستغاثة بالميِّت والحيِّ سيَّان:

لا يكادُ ينقضي التَّعَجُّب ممَّن فرَّق بين الاستغاثة بالحيِّ والاستغاثة بالميت، فأجازها في الأول وحرَّمها في الثاني، وهو تحكُّمٌ محضٌ، وترجيحٌ بدون مرجِّح.

لأنَّ منشأَ حرمةِ الاستغاثة بغير الله ـ عند القائلين بالحرمة ـ رجوع الاستغاثة إلى الشرك، وليس ثمَّةَ وجهٌ للتفريق بين الشرك بالحيِّ والشرك بالميت!! فالشركُ حرامٌ مطلقاً.

ولو سلَّمنا بوجود الشبهة لديهم، أفلم يجدوا في الأحاديث الصحيحة التي أوردنا بعضها ما ينفي توهَّمَهم ويرفعُ جهلهم؟!

فصحيحة مالك الدَّار التي تقدَّم ذكرها صريحةٌ في جواز الاستغاثة بالنبيِّ (ص) بعد موته، بل ظاهرةٌ في كون ذلك من المسلَّمات عند الصحابة والتابعين، إذ لم يُنقل اعتراض أحدٍ منهم على الصحابي بلال المزَني، حتى سيدُهُم عمر!

بل نقول: حتى لو لم ترد الرواية بمشروعية الاستغاثة بالميت فلا مجال لدعوى الحرمة، إذ الأصل يقتضي الإباحة ما لم يرد النهي.

والجهل بكيفيَّة إغاثته لنا لا يستلزم انتفائها، فقد يكون بدعائِهِ لنا، وقد يكون بغير ذلك، والمهم في المقام أن يكون قادراً على إغاثتنا بإقدارٍ من الله سبحانه، لا لنُثبتَ مشروعيَّة الاستغاثة بالميت، بل لننفي لَغْوِيَّتَها، وقد نبَّهنا على هذه النكتة عند تعريف الاستغاثة.


توهمٌ فاسد:

وأمَّا التمسُّك للحرمةِ بكون الميِّت لا يسمع كما زعمَهُ ابن تيمية وأضرابه فهو ـ مضافاً لكونه لو ثبتَ فلا يُثبِتُ حرمةً، وإنما يثبتُ لغويَّة الاستغاثة ـ بيِّنُ الفساد واضحُ البطلان لمنافاته للصحيح من أحاديث الفريقين، بل لمعارضته لظاهر القرآن.

ولنبسطُ الكلام قليلاً في بيان هذه المسألة تعميماً للفائدة وتشييداً للبرهان، فنقول:


إدراك الميت بعد موته:

إنَّ عالمَ ما بعد الموت عالمٌ غيبيٌّ بالنسبة لنا، لكونه محجوباً عنَّا، إلا بالمقدار الذي وصلنا من جهة السمع والنقل على لسان الوحي وتراجمته.

ولا خلاف في أنَّ الموت عبارةٌ عن خروج الرُّوح من الجسد، لا فناء الروح.

قال العالم النحرير ابن ميثم البحراني (رضوانُ اللهِ عليه): أمّا حقيقة الموت: فاعلم أنّ الَّذي نطقت به الأخبار، وشهَدَ به الاعتبار، أنّ الموتَ ليس إلَّا عبارة عن تغيّر حالٍ، وهو مفارقة الروح لهذا البدن الجاري مجرى الآلة لذي الصنعة.

وأنّ الروحَ باقيةٌ بعده، كما شهدت به البراهين العقليّة في مظانّها، والآثار النبويّة المتواترة.

ومعنى مفارقتها له هو انقطاع تصرّفها فيه، لخروجه عن حدّ الانتفاع به، فما كان من الأمور المدرَكَة لها تحتاجُ في إدراكه إلى آلة فهي متعطَّلةٌ عنه بعد مفارقة البدن، إلى أن تعاد إليه في القبر، أو يوم القيامة.

وما كان مدرَكَاً لها لِنَفسها من غير آلةٍ فهو باقٍ معها، يتنعَّم به، ويفرح أو يحزن، من غير حاجة إلى هذه الآلة في بقاء تلك العلوم والإدراكات الكلَّيّة لها هناك([44]).

ومع بقاء الروح لا يمكنُ أن نشخِّص كيفيَّةَ إدراكها، فضلاً عن دعوى انتفاء الادراك، ما لم ينطق الوحيُ ويزيل الشكَّ باليقين، وإلَّا يبقى إدراك الروح وعدمه في بقعة الإمكان.

فكيفَ والوحيُ قد نطقَ في محكمات آيات الكتاب مصرِّحاً بإدراك الميِّت بعد موتِهِ، وذلك قوله سبحانه: )ولا تَقولوا لِـمَنْ يُقتَلُ في سَبِيْلِ اللهِ أمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُوْنَ( ([45]).

فالله سبحانه ينهانا عن وصف الشهيد بأنه ميتٌ! ويؤكِّد لنا حياتَه، ثمَّ ينفي عنا الشعورَ بحياة الشهيد لانحجابنا عن عالم ما بعد الموت.

وحياةُ النَّفس ملازمةٌ لإدراكِها، بل فسَّروا الحياةَ بالإدراك؛ وقد يُستفادُ من الآية معنىً زائدٌ على أصل الإدراك، فيكون إدراكه أقوى وأسمى من إدراكنا للأشياء.

حيث إنَّه بملاحظة الروايات التي ستأتي يظهرُ أنَّ جميع الأموات لديهم القابلية والقدرة على سماع الأحياء، فيكون تخصيص الشهداء في هذه الآية بالحياة مفيداً لكونهم أكثرَ من مدرِكين بالنحو المعروف، فيثبت لهم إدراكٌ خاص، يميِّزهم عن سائر الأموات.

وهناك آياتٌ أُخَر تفيدُ في هذا الباب، لكنَّنا فضَّلنا عدم نقلها احترازاً من الاطناب، واكتفاءً بهذه الآية حيثُ فيها لبُّ اللباب.

أما الرِّوايات من طُرُق الفريقين فصحيحةٌ صريحةٌ في سماع الميت لكلام الحي، ومن تلك الروايات روايات تلقين الميت، وهي محلُّ وفاق.

وعندنا أحاديث هذا الباب أكثر من أن تُحصى، إذ جميعُ أحاديث الزِّيارات ومجاميعها قائمةٌ على عقيدة سماع النبيِّ وأهل بيته (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين) ومن أُلحِقَ بهم لسلام الزَّائر كما لا يخفى.

بل نصَّت بعض الرِّوايات على أنهم : يرون ويسمعون ويردُّون سلام الزَّائر، كما في حديث الاستئذان عند زيارة المعصوم (سلامُ اللهِ عليه)، على ما رواه الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس والشهيد الأول وابن المشهدي([46]) والكفعمي (رضوانُ اللهِ عليهم اجمعين)، واللفظُ للكفعمي:

«اللّهُمَّ إِنِّي أَعْتَقِدُ حُرْمَةَ صاحِبِ هذا المَشْهَدِ الشَّرِيفِ فِي غَيْبَتِهِ كَما أَعْتَقِدُها فِي حَضْرَتِهِ ، وَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَكَ وَخُلَفائَكَ عَلَيْهِمْ السَّلامُ أَحْياءٌ عِنْدَكَ يُرْزَقُونَ يَرَوْنَ مَقامِي وَيَسْمَعُونَ كَلامِي وَيَرُدُّونَ سَلامِي، وَأَنَّكَ حَجَبْتَ عَنْ سَمْعِي كَلامَهُمْ وَفَتَحْتَ بابَ فَهْمِي بِلَذِيذِ مُناجاتِهِمْ»([47]).

وروينا بسندٍ صحيح، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: «إنَّ المؤمنَ لَيَزُورُ أهلَهُ فَيَرى ما يُحِبُّ، ويُستَرُ عنه ما يَكرَهُ، وإنَّ الكافرَ لَيَزُورُ أهلَهُ، فَيَرَى ما يكرَهُ، وَيُستَرُ عنه ما يُحَبُّ».

قال: «ومنهم من يزورُ كلَّ جُمُعةٍ، ومنهم من يَزورُ على قَدرِ عَمَلِهِ»([48]).

ومن طرُقِ المخالفين ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ واللفظ

للأول ـ قال: اطَّلعَ النَّبيُّ (صلى الله عليه [وآله] وسلَّم على أهل القليب، فقال: «وجدتُّم ما وعَدَ ربُّكُم حقَّاً؟

فقيل له: أتدعو أمواتاً؟

فقال: ما أنتم بأسمعَ منهم! ولكن لا يُجِيبون»([49]).

والمستنكر على النبيِّ (ص) هو عمر بن الخطاب، كما صرَّح بذلك البخاري لاحقاً عندما روى الحديث بشيءٍ من التفصيل([50]).

وروى البخاري أيضا بإسناده، عن أنس بن مالك، قال: «إن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم قال: «إنَّ العبدَ إذا وُضِعَ في قبره، وتولَّى عنه أصحابه ـ وإنَّه لَيَسمَعُ قَرْعَ نعالهم ـ أتاه ملكان فيقعدانه...»([51]).

فتلخَّص مما تقدَّم أنَّ الميتَ يُدرك، يسمع ويرى ويتكلَّم، وإن كانت الكيفية عندنا مجهولة، لفقدانه آلة السمع المعهودة وكذا غيرها.

وبختام هذه المسألة نكون قد أتممنا ما أردنا بيانه، فأثبتنا ـ بالدليل العقلي والنقلي قرآنا وسنَّةً، والسنَّة من طريق الفريقين ـ مشروعيَّة الاستغاثة بغير الله سبحانه ما دام المستغيثُ معتقداً بأن القادر بالذات المُقْدِرِ للغير هو الله لا سواه.

وليكن آخر ما نذكرُهُ قصيدةَ استغاثةٍ بأمير المؤمنين (سلامُ اللهِ عليه) ليكون ختامها مسكاً.

أنسُ المحفل


مَا تمَّ أُنسُ المحفِلِ
ما ذاقَ ثغري طعْمَ لفظٍ
أنا إنْ شكوتُ الهمَّ زالَ
وإذا غزَتْني النّائِباتُ
أنا لستُ أملكُ للإلهِ
أنا مَا عرَفتُ اللهَ إلا


إلا بِذِكرك يا عَلي
كانَ أحلى مِنْ علي
الهمُّ باسمكَ يا علي
زمتُها بكَ يا علي
وسيلةً إلا علي
مُذْ عرفتُكَ يا علي


* * *

إنا رضِيناكَ الخليـ
لم يَعبُدِ الرّحمنَ مَنْ
صِرنا الرّوافِضَ مُذْ رفضـ
عَابُوا علينا قولَنا
لم يجهَلُوا أنَّ الإلـ
حتَّى النَّبيُّ محمدٌ
مِفتَاحُ بابِ إجابِةِ الـ


ـفةَ بعدَ طَهَ يا علي
لا يهتدي بِهُدَى علي
ـنَا حُبَّ خصمِكَ يا علي
في كلِّ شيءٍ يا عَلي
ـهَ يحبُّ إسمَكَ يا علي
مُذْ ضَاقَ نادَى يا علي
ـدعَوَاتِ صرخةُ يا علي


سَنَظلُّ حَتَّى آخر الأنفاسِ نهتِفُ يا علي

وكان الفراغ من تنقيح هذه المقالة وتهذيبها ـ بحمد الله ولطف أوليائه : يوم الاثنين 29 رجب 1436 هجرية.
---------------------------------------------
([1]) الكافي للكليني ج2 ص415، وبصائر الدرجات للصفار ص433، وكمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص240 باب: اتصال الوصية، وقد أورد فيه حديث الثقلين بطرقٍ كثيرة، وغيرها من مصادرنا.

ومن مصادر العامة: صحيح مسلم ج7 ص123، وصحيح ابن خزيمة ج4 ص63، ومسند أحمد ج3 ص14 و17 و26 وج4 ص371، وسنن الدارمي ج2 ص432، وفضائل الصحابة للنسائي ص15 و22، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج3 ص109 وقال في ذيله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بِطُوله، وج3 ص148، والسنن الكبرى للبيهقي ج7 ص30 وج10 ص114، وغيرها.

([2]) سورة الأنعام 19.

([3]) سورة الإسراء 39.

([4]) سورة الإسراء 42.

([5]) سورة المؤمنون 117 .

([6]) سورة الذاريات 51 .

([7]) الآيات 60 و61 و62 و63 و64.

([8]) المقنعة للمفيد ص205، وغيره .

([9]) الكافي للكليني ج2 ص549 ح11.

([10]) المصدر نفسه ج3 ص322 ح4.

([11]) معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج4 ص400.

([12]) لسان العرب لابن منظور ج2 ص174.

([13]) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص445.

([14]) مرآة الشعور ص ، من قصيدة: هي بنتُ موسى.

([15]) بحار الأنوار ج99 ص267.

([16]) نفس المصدر ص247.

([17]) محمد بن بابويه: شيخُ الأجلَّاء الشَّيخُ الصَّدوق (رضوانُ اللهِ عليه)، صاحب المؤلَّفات الجليلة، والمصنَّفات الجميلة، وعلى رأسها كتاب: من لا يحضره الفقيه، وهو أحد الكتب الأربعة التي تدور عليها رحى استنباط الأحكام الشرعية عند فقهاء الإماميَّة الاثني عشرية، وتوفي ; سنة 381 هجرية.

([18]) فما ذهبَ إليه بعضُ المعاصرين من المشكِّكين زاعماً أنَّ دعاء التَّوسُّل من تأليف بعض العلماء إنَّما هو محضُ كذبٍ وافتراء، أراد من خلاله ثنيَ المؤمنين عن التوسُّل إلى الله بسادة العالمين، فلم يزدد الدعاءُ إلا انتشارا، ولم يزدد أهل الريب إلا تَبارا.

([19]) استفزَّت هذه العبارة بعضَ أهل الريب والضَّلالة ممَّن يُظهِرونَ التشيُّع، فسارعوا لمحاربَتِها بمنهجيَّةٍ وهَّابيَّة، معطِّلينَ عقولَهُم، مستغشينَ ثيابَهم، واضعين أصابِعهم في آذانهم، مستكبرينَ استكبارا!!

وانتَ أيُّها العزيز! بعد أن تلونا عليكَ ما تلوناهُ من بيان معنى الاستغاثة وأدلَّتها، بات لك جليَّا بيِّناً أنَّ محاربةَ هذه العبارةِ ونحوها من عبارات الاستغاثة لا يتصدَّى لها شيعيٌّ إماميٌّ إلا إذا كان جاهلاً، أو مبتدعاً!! أعاذنا الله من مُضلات الفتن.

([20]) عنهُ بحار الأنوار ج99 ص254.

([21]) الإمام موسى بن جعفر (ع).

([22]) الكافي ج 8 ص109ح87.

([23]) المصنَّف لابن أبي شيبة الكوفي ج7 ص483 ح35، وأخرجه من هذا الوجه ابن أبي خيثمة كما في الإصابة ج3 ص484، والبيهقي في الدلائل ج7 ص47، والخليلي في الإرشاد ج1 ص313 ـ 314، وابن عبد البر في الإستيعاب ج2 ص464.

([24]) فتح الباري - ابن حجر - ج 2 ص 412.

([25]) الجرح والتعديل - ابن أبي حاتم الرازي - ج 8 ص 213.

([26]) الإصابة - ابن حجر - ج 6 ص 216.

([27]) تاريخ الإسلام - الذهبي - ج 5 ص 224.

([28]) الثقات - ابن حبان - ج 5 ص 384.

([29]) الإصابة - ابن حجر - ج 6 ص 216.

([30]) تاريخ المدينة - ابن شبة النميري - ج 2 ص 751.

([31]) رفع المنارة - محمود سعيد ممدوح - ص 211.

([32]) فتح الباري - ابن حجر - ج 2 ص 412.

([33]) صحيح البخاري - البخاري - ج 2 ص 130.

([34]) صحيح البخاري - البخاري - ج 4 ص 116.

([35]) العُرجة: موضع العرَجَ من الرِّجل. انظر: العين للخليل الفراهيدي ج1 ص223.

([36]) عنه: مجمع الزوائد للهيثمي ج10 ص132، وذيَّله بقوله: رواه الطبراني البزار، ورجاله ثقات.

([37]) شعب الإيمان للبيهقي ج6 ص128 باب53.

([38]) المعجم الكبير للطبراني ج17 ص118.

[39]) الدرر السنية في الرد على الوهابية لزيني دحلان ص33.

([40]) حيث رواهُ إمامهم البيهقي، عن إمامهم الحاكم النيسابوري، عن إمامهم المحدث الفقيه أحمد بن سلمان، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه.

([41]) شعب الإيمان للبيهقي ج6 ص128، و تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج5 ص298،

([42]) سنن الدارمي ج1 ص44.

([43]) رفع المنارة لمحمود ممدوح ص203.

([44]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج3 ص91.

([45]) سورة البقرة 154.

([46]) عنهم في بحار الأنوار للمجلسي ج97 ص160.

([47]) المصباح ص472.

([48]) الكافي للكليني ج3 ص230 باب: أنَّ الميت يزور أهله.

([49]) صحيح البخاري ج2 ص101.

([50]) المصدر نفسه ج5 ص8، وصحيح مسلم ج8 ص163.

([51]) صحيح البخاري ج2 ص92.