البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حديث الرزية - الحلقة الثانية

الباحث :  السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  2
السنة :  السنة الاولى - ذو الحجة 1435هـ / 2014م
تاريخ إضافة البحث :  April / 10 / 2017
عدد زيارات البحث :  1467
تحميل  ( 716.910 KB )
تطرّقت الحلقة الأُولى من هذا البحث إلى صور حديث الرزية وهو حديث طلب النبي (ص) دواة وكتفاً ليكتب للأمّة ما يعصمهم من الضلال.
تتبّع المؤلف صور صدور الحديث في الصحاح والمسانيد وأوصلها إلى خمسة وعشرين صورة برواية أربعة من الصحابة، وتتبع مصادره إلى القرن العاشر الهجري.
وفي هذه الحلقة يستمر المؤلف في بحثه القيّم ويتطرّق إلى ذكر تبريرات القوم في تفسير الحديث والردّ عليها.

وقفة عند الحديث:
لابدّ لنا من وقفة عند ذلك الحَدَث والحديث، لأنّه كان بداية تحوّل في تاريخ المسلمين، أسهم صنّاعه في زرع الفتنة والشقاق، فكان بمثابة رأس الحربة في إعلان تمرّد من بعض المسلمين على الإسلام ونبيّه. ولا زالت الأمة تعاني من آثار ذلك التمرد، وتكتوي بناره، وحتى في تمحيص أخباره.
فبدلاً من أن تكون سيرة الرسول (ص) هي المثلى يهتدي بها المسلمون، ولهم في سنّته قولاً وعملاً وتقريراً خير معين لكن بعضهم وللأسف تغلّبت عليهم رواسب جُبلوا عليها، ولم يقووا على التخلي عنها، حتى كانوا يقولون للرسول بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، كما جاء التنزيل مندّداً بهم، ثمّ طغت تلك الرواسب فصاروا يفصحون عنها حين يلقون إليه بقوارص الكلم.
فبدلاً من أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْـمُفْلِحُونَ(1). فإذا هم يردّون عليه بوقاحة وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَـهُمْ(2).
والآن وقد سبق السيفُ العذَل، فما هو حقيقة موقف أولئك السادة القادة، هل كان ما صدر منهم عفوياً؟ أم عن سابق عنادٍ وتدبير؟ أم كان حدثاً عابراً فتزيّد فيه الرواة؟ أم كان عظيماً فلفـّه الضَباب فلم يستبن منه إلاّ وجهه الباهت؟ وذلك ما أجرى دموع ابن عباس حتى بلّ الحصباء.
ولكي نتلمس الإجابة الصحيحة على تلك التساؤلات (بنعم، أو لا) لابدّ من عرض شامل لمواقف فقهاء الحديث عن حَديث الرزية، خاصة منهم علماء التبرير، بدقة في الاستقراء، وأناة في الرويّة للمدارسة، وبمنتهى التجرّد والموضوعية، وبالتالي نعرف الجواب (بنعم، أو لا) فإنّ تلك اللفظتين المختصرتين تقتضيان كثيراً من البحث والتفكير قبل الإجابة لتلمس الحقيقة الثابتة الّتي لا لبس عليها ولا غبار، وعلى ضوئها توزن القيم والأقدار.
فلنقرأ ما قاله العلماء في ذلك الحديث:

مع علماء التبرير وقراءة بين السطور:
أقضّ حديث الرزية مضاجع العلماء بدءاً منذ عهد الرواة، وانتهاءاً بأصحاب الصحاح والسنن وسائر المصنفات، وإذا كان ابن عباس قال عنه الرزية كلّ الرزية، فإنّ كلمته تركت العلماء يخوضون كلّ مخاضة في سبيل تبرير ما صدر من بعض الصحابة، الّذين جعلوا لهم من الحصانة ما يرفعهم عن الإدانة، فنسج كلٌ على نوله بقوله وأتى بما عنده مكابرةً بحَوله وطَوله.
ولابدّ لنا من وقفة مع أولئك الّذين اشتدّوا مكابرة ومصادرة ليعرف القارئ مبلغ جهاد ابن عباس، وهو أشدّ الرواة أمراً، وأكثرهم ذكراً لحديث الرزية، نصرة لرسول الله (ص) كما ينبغي به أن يعرف مَن هم أولئك النمط الّذين جاهدوه في الطريق المعاكس، فناصروا من عارض النبيّ (ص) ولو على حسابه برد أمره في كتابه.

من هم علماء التبرير ؟
إنّهم كثيرون جداً، ولا يسع المقام استيفاء جميع ما قالوه، لكنا سنختار الواحد والاثنين نماذج من كلّ قرن، بدءاً من القرن الرابع ثمّ القرون الّتي بعده حتى القرن العاشر. ونترك الباقين وتركاضهم فهم من عاقلتهم، وعلى شاكلتهم، وفي سابلتهم.
فمن القرن الرابع: أبو سليمان حمد بن محمّد بن إبراهيم الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ، وهو من ذرية زيد بن الخطاب ـ فيما يزعمون ـ وزيد هذا أخ لعمر بن الخطاب رجل المعارضة، ولا تخفى حمية النسب في أقواله، له تصانيف منها اعلام السنن في شرح صحيح البخاري، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود وكتب أخرى.
ومن القرن الخامس: أبو محمّد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأندلسي المتوفى سنة 456 هـ صاحب التصانيف الكثيرة كالمحلى والإحكام والفصل في الملل والنحل، ولسانه الجارح على حدّ سيف الحجاج كما وصفوه، يقال: إنّ جدّه يزيد كان من موالي يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي وأيضاً: أبو بكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي الشافعي المتوفى سنة 458هـ صاحب السنن الثلاث ودلائل النبوة وغير ذلك.
ومن القرن السادس: محمّد بن عليّ بن عمر المالكي المازري المتوفى سنة 536هـ له عدة كتب منها المعلم بفوائد كتاب مسلم.
وأيضاًًً: القاضي عياض المالكي المتوفى سنة 544هـ مؤلف كتاب الشفاء وغيره.
ومن القرن السابع: ابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هـ صاحب كتاب النهاية في غريب الحديث وغيره.
وأيضاً: محيي الدين النووي الشافعي المتوفى سنة 677هـ صاحب المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج وكتاب الأذكار والأربعين حديثاً وغيرها.
ومن القرن الثامن: ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 728هـ محبوساً بقلعة دمشق بأمر من علماء وحكام الوقت.
وأيضاً: إبراهيم بن موسى بن محمّد الغرناطي الشاطبي المتوفى سنة 790هـ له كتاب الإحكام والموافقات والإعتصام.
ومن القرن التاسع: شهاب الدين ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ له فتح الباري في شرح صحيح البخاري وغيره.
ومن القرن العاشر: شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني المتوفى سنة 923هـ له إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري وغيره. وأخيراً من القرون المتأخرة نذكر ما قاله الدهلوي واللاهوري ومن المعاصرين العقاد والريّس.

ماذا قال علماء التبرير؟
• أوّلاً: الخطابي:
قال:
«إنّما ذهب عمر إلى أنّه لـو نصّ بما يزيـل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعـدم الاجتهـاد ، حكاه عنه ابن حجـر في فتح البـاري»(3).
وقال أيضاً:
«ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنّه توهم الغلط على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو ظن له غير ذلك ممّا لا يليق به بحال. لكنه لمّا رأى ما غلب على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب، خاف أن يكون ذلك القول ممّا يقوله المريض ممّا لا عزيمة له فيه، فتجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين».
كذا حكاه النووي عنه في شرح صحيح مسلم(4)، وحكاه بلفظ آخر وتفاوت يسير في فتح الباري(5)، فراجع.

مع الخطابي:
من المؤسف حقاً تضييع الوقت في ردّ مزاعمه في الدفاع عن عمه. وما ذكره من الاحتمالات الواهية فهي على عروشها خاوية. فما ذكره أولاً من أنّه لو نص النبيّ (ص) بما يزيل الخلاف يبطل فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد، فليته أوضح مراده من فائدة بقاء الخلاف؟ وما قيمة فضيلة العلماء إذا هي لم ترفع الخلاف من بين الأمة؟
وليته استدل لنا على ترجيح الاجتهاد على النص النبوي؟
ما باله يعتذر برمّه وطمّه، ويجعل من منعه فضيلة تفوق أمر النبيّ (ص) ـ الّذي لا ينطق عن الهوى ـ والّذي يضمن لأمته عدم الضلالة أبداً. فهل بعد هذا أعظم فائدة وعائدة؟!
ما أدري بماذا يجيب الخطابي وأنصاره عن المسائل الآتية:
1- أليس كتاب النبيّ (ص) بما يزيل الخلاف أولى بالاعتبار من عدمه وبقاء الخلاف بين الأمة يخوضون في الجهالة وحيرة الضلالة؟
ماذا يبتغي الخطابي وابن الخطاب من بقاء فضيلة العلماء؟ أليس فضيلتهم لهداية الأمة؟ فإذا كان كذلك فكتابه (ص) يغني وهو أولى بالاتباع فلماذا منع منه عمر؟
ثمّ هل كان الخطابي يرى في عمه أنّه أعلم من النبيّ (ص) بما يصلح الأمة؟ ولا أظن مسلماً يقول بذلك، فالنبيّ (ص) حين أمر بالكتاب هل كان يعلم بذهاب فضيلة العلماء أو لا؟ والثاني باطل ومستلزم للكفر، وعلى الأوّل فلابدّ من علمه برجحان مصلحة الكتابة على فضيلة العلماء دون العكس، لأنّه يستلزم أمر النبيّ (ص) بالمرجوح وترك الراجح، وهذا ممنوع من النبيّ لعصمته وتسديده بالوحي وطلبه الأصلح للأمة.
ثمّ هل كان أمر النبيّ (ص) من عند نفسه أو من عند ربّه، والأوّل مدفوع بقوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْـهَوَى(6)، والثاني مسموع لقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحَى(7)، و قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ(8)، و قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي(9).
وبعد هذا كلّه لو سلّمنا جدلاً أنّ الخطابي علم بمراد عمه عمر من منعه كتاب النبيّ (ص) لأنّه يلغي فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد، فمن أين له أنّ كتابه (ص) سوف يشمل جميع الحوادث والأحكام. لأنّ نص الرسول (ص) على شيء أو أشياء مخصوصة لا يبطل فضيلة العلماء ولا يعدم الاجتهاد، لأنّ الحوادث لا يمكن حصرها، فليعدم الاجتهاد فيما نص عليه خاصة، ويبقى لاجتهادهم سائر المجالات الأخرى. وبهذا كان تعقـّب ابن الجوزي للخطابي فيما حكاه عنه ابن حجر حيث قال: وتعقبه ابن الجوزي: بأنّه لو نص على شيء وأشياء لم يبطل الاجتهاد، لأنّ الحوادث لا يمكن حصرها.
هذا كلّه فيما ذكره أوّلاً. وأمّا ما ذكره ثانياً:
1- لماذا لا يجوز أن يحمل قول عمر على أنّه توهم الغلط الخ؟ وقوله: هَجَر، أهجر، يهجر... إلى غير ذلك، من ألفاظ الهجر الّتي فاه بها عمر، كلّها أو بعضها تدل على أنّ مراده ذلك.
2- وما المراد من قوله: «لمّا رأى ما غلب رسول الله (ص)»؟ فهل مراده أنّ الوجع غلب عليه حتى سلبه اختياره ـ والعياذ بالله ـ فان كان ذلك فهذا ما فرّ منه واعتذر عنه لكنه وقع فيه. وإن أراد غلبته على جسمه كاصفراره ونحو ذلك ممّا يورثه المرض في بدن صاحبه، فليس في ذلك شيء يخشى منه ممّا خاف منه الخطابي وعمّه. وليس ذلك بمانع من إجراء أيّ حكم من الأحكام، والّذي يبدو لي أنّ مراد الخطابي هو الأوّل وشاهد ذلك قوله: «خاف أن يكون ذلك القول ممّا يقوله المريض ممّا لا عزيمة له فيه» وهل معنى (ما لا عزيمة له فيه) سوى الهجر والهذيان ويعني صدور ما لم يرد فعله ويعزم عليه. هذا هو المعنى الحرفي والعرفي للعزيمة، وهو نفس المعنى اللغوي الّذي يعني لم تكن له الإرادة المؤكدة المتقدمة لتوطين النفس على ما يرى فعله أو الجد في الأمر. وهذا الوجه يدفعه ظاهر الأمر في الإلزام، وما أمره بإحضار الدواة والكتف إلاّ كسائر أوامره الوجوبية، خصوصاً بعد بيان النفع المترتب عليه، وهو عصمة الأمة من الضلالة إلى الأبد.
3- ما معنى قوله: «فيجد المنافقون بذلك سبيلاً... الخ» إذ ليس الموجب لكلام المنافقين هو قرب الوفاة منه (ص) ولا ما اعتراه من الكرب كما يقول الخطابي، بل إن حال المنافقين كانت معلومة لديه أيام حياته، ومعرفته بالكثير منهم وقد نزل القرآن في التحذير منهم. وقد آذوه يوم رجع من غزاة تبوك فآذوه في نفسه وآذوه في أهله، وتقاعدوا عنه، وتقاعسوا متخاذلين ومخذلين كلما أراد الغزو. فهل كان يومئذ قرب وفاة؟ وهل كان مرض؟ أو هل كان اعتراه كرب؟
4- ولو سلمنا أنّ المنافقين كانوا يجدون سبيلاً، فمن أين للخطابي وأضرابه إثبات علم عمر بذلك، وإذا قالوا أدركه بفطنته ففي بقية الصحابة الحاضرين يومئذ من فاقه فطنة وعلماً وحكماً وفهماً، لماذا لايدرك أُولئك ما أدركه عمر؟ فإن هم سكتوا لعلمهم أنّه ليس لهم حقّ الاعتراض فكان على عمر مثل ذلك.
5- ثمّ يا ترى ما هو موقف الخطابي من اعتراف عمر بمراده، وهو يدفع ما قاله هو وغيره من علماء التبرير فانتظر، وسنوافيك به، حينئذٍ ستجده يعترف بأنّ النبيّ (ص) إنّما أراد عليّاً للأمر فمنعه هو من ذلك.
• ثانياً: ابن حزم الظاهري :
ذكر ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام في جملة كلامه في إبطال القياس في أحكام الدين قارب في بعضه وسدّد، وشذّّ في بعضه وأبعد، ومهما يكن فقد ذكر حديث الرزية وعقبه بقوله:
«هذه زلّة العالم الّتي حذّر منها الناس قديماً، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف، وتضلّ طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى، فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، ممّا كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الّذي لو كتبه لم يُضل بعده. ولم يزل أمر هذا الحديث مهماً لنا، وشجىً في نفوسنا، وغصة نتألم لها وكنا على يقين من أنّ الله تعالى لا يدع الكتاب الّذي أراد نبيه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن يكتبه فلن يضل من بعده دون بيان، فيحيا ـ كذا ـ من حيّ عن بيّنة، إلى أن منّ الله تعالى بأن أوجدناه فأنجلت الكربة، والله المحمود.
وهو ما حدّثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب ابن عيسى ثنا أحمد بن محمّد ثنا أحمد بن عليّ ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبيد الله بن سعيد ثنا يزيد بن هرون ثنا إبراهيم بن سعد ثنا صالح ابن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في مرضه: ادعي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتاباً، فإني أخاف أنّ يتمنى متمنٍ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والنبيّون إلاّ أبا بكر».
قال أبو محمّد ـ هو ابن حزم ـ هكذا في كتابي عن عبد الله بن يوسف، وفي أم أخرى (ويأبى الله والمؤمنون).
وهكذا حدّثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمّد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن محمّد بن سلام الطرطوسي ثنا يزيد بن هارون ـ إلى آخر السند المتقدم ـ بمثله وفيه: «إنّ ذلك كان في اليوم الّذي بدئ فيه (ع) بوجعه الّذي مات فيه» بأبي هو وأمي.
قال أبو محمّد ـ هو ابن حزم ـ فعلمنا انّ الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بأربعة أيام ـ كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا ـ إنّما كان في معنى الكتاب الّذي أراد (ع) أن يكتبه في أوّل مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال، لأنّه (ع) ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين، وأراد الكتاب الّذي قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد أن اشتدّ به المرض، ومات (ع) يوم الاثنين، وكانت مدّة علته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إثنى عشر يوماً، فصح أنّ ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الأمة بعده (ع).
فإنّ ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف؟ فإنّما معناه: لو كتب الكتاب في ذلك»(10).
أقول: إلى هنا انتهت الحاجة من نقل كلامه الطويل العريض الّذي نفى فيه تقديم أبي بكر للخلافة قياساً على تقديمه للصلاة ـ كما يروي القياسيون ـ وقالوا به. حتى قال: «فيأبى الله ذلك، وما قاله أحد قط يومئذ، وانما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس، الّذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم، مع أنّه أيضاً في القياس فاسد ـ لو كان القياس حقاً ـ لما بينا قبل، ولأن الخلافة ليست علتها علة الصلاة، لأن الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والّذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاضلة.
وأمّا الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلاّ قرشي صليبة عالم بالسياسة ووجوهها، وإن لم يكن محكماً للقراءة (؟) وإنّما الصلاة تبع للإمامة، وليست الإمامة تبعاً للصلاة فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة الّتي هي أصل على الصلاة الّتي هي فرع من فروع الإمامة؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس».
وسيأتي عن ابن حزم أيضاً مثل ما تقدم من الكلام، وهناك يحاول اثباته بالقسم والأيمان وهذا من الطرافة بمكان.
وقفة مع ابن حزم:
من المضحك ـ وشرّ البلية ما يضحك ـ أن يكون مثل ابن حزم المتحرر من كثير الرواسب المقيتة عند قومه، وهو ينعى عليهم التقليد، ويعترف صريحاً بما هو الصحيح في أنّ قول عمر إنّما هو زلة العالم الّتي حُذّر الناس منها قديماً، ثمّ هو يكبو كبوة يقع فيها لوجهه حين يحسب أنّه زالت عنه دياجي الظلماء أن كشف له الغطاء بوجدانه حديث عائشة المزعوم، ولقد أغرب كثيراً حين زعم أنّ ذلك نص على خلافة أبي بكر، فقد قال في كتابه الفِصَل: «فهذا نص جليّ على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده»(11). وكأنّه نسي أو تناسى بأنّ أبا بكر وقومه، ومن أتى بعده كلّهم لم يقولوا بالنص في أمر الخلافة، وإنّما قالوا بالاختيار، وما دعاهم إلى ذلك إلاّ الإضطرار، حيث لا نص ثابت عندهم.
وربما يفاجأ القارئ إذا وجد ابن حزم في كتابه جوامع السيرة يدين عملية المنع من إحضار الدواة والكتف فيقول:
«فلمّا كان يوم الخميس ـ قبل موته (ص) بأربع ليالِ ـ اجتمع عنده جمع من الصحابة فقال (ع): (ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لاتضلون بعدي) فقال عمر بن الخطاب كلمة أراد بها الخير، فكانت سبباً لامتناعه من ذلك الكتاب فقال: إنّ رسول الله (ص) قد غلب عليه الوجع، وعندنا كتاب الله، وحسبنا كتاب الله. وساعده قوم حتى قالوا: أهجر رسول الله (ص)، وقال آخرون: أجيبوا بالكتف والدواة يكتب لكم رسول الله (ص) كتاباً لا تضلون بعده، فساء ذلك رسول الله (ص) وأمرهم بالخروج من عنده؟ فالرزية كلّ الرزية ما حال بينه وبين ذلك الكتاب، إلاّ أنّه لا شك لو كان من واجبات الدين ولوازم الشريعة لم يثنه عنه كلام عمر ولا غيره... ا هـ».
هذا ما ذكره ابن حزم في جوامع السيرة(12)، ومرّ عنه ما ذكره في كتابيه الإحكام والفصل فبأيّهما يأخذ القارئ؟ وأيها هو الصحيح؟ وهل ذلك منه إلاّ استغفال لعقول الناس!؟ فالحديث الّذي زعم أنّه وجده فانجلت به الكربة فكأنّه عمي أو تعامى أنّ الحديث صورة ممسوخة لحديث الرزية، وليته كان كحديث الرزية في تظافر نقله لتتكافأ الكفتان، وينظر عند التعارض لأيهما الرجحان، وليختر هو معنى ذلك المزعوم، ثمّ كيف يخفى هذا على مَن سبقه ممّن خرّج الحديثين مثل مسلم وغيره؟ وسيأتي الكلام في ذلك مفصّلاً عند حديثنا عن عملية التزوير والمسخ، وسيقف القارئ على قول ابن أبي الحديد المعتزلي وضعوه ـ البكرية- في مقابلة الحديث المروي عنه (ص) في مرضه: (إئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً)، فاختلفوا عنده وقال قوم منهم: لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله، وسيعود ابن حزم مرة أخرى إلى الحديث المزعوم يحاول اثباته بالأيمان؟
ويكفي في تزييفه أنّه لم يظهر يوم السقيفة حين كان أبو بكر أحوج إليه من كلّ ما احتج به، فأين كانت عائشة عن رواية ذلك؟ ولماذا لم تناصر أباها به في أحرج وقت كان محتاجاً لنصرتها بمثله؟
مضافاً إلى ما سيأتي من كشف حال رجاله فانتظر.
• ثالثاً: البيهقي :
في أواخر كتابه دلائل النبوة بعد ذكره لحديث الرزية بأسانيده إلى عليّ ابن المديني والحسن بن محمّد الزعفراني عن سفيان بن عيينة عن سليمان عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس: «يوم الخميس وذكر الحديث إلى قوله وسكت عن الثالثة أو قالها فنسيتها» ثمّ قال البيهقي: هذا لفظ حديث عليّ بن المديني وهو أتم، زاد عليّ قال سفيان: إنّما زعموا أراد أن يكتب فيها استخلاف أبي بكر. ثمّ قال البيهقي رواه البخاري ومسلم في الصحيح(13)...
ثمّ ذكر الحديث بسند آخر وصورة ثانية وفيه قال ـ ابن عباس -:
«لـمّا حُضر رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبيّ (ص): (هلمّوا أكتب لكم لن تضلوا بعده أبداً) فقال عمر: إن رسول الله (ص) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله ومنهم يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله (ص) قال النبيّ (ص): (قوموا).
قال عبدالله : فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزيـة كـلّ الـرزية مـا حـال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم».
ثمّ ذكر رواية البخاري له في الصحيح عن عليّ بن المديني وغيره. ورواية مسلم عن محمّد بن رافع وغيره عن عبد الرزاق. ثمّ قال:
وإنّما قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله (ص) حين رآه قد غلب عليه الوجع، ولو كان ما يريد النبيّ (ص) أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم ولغطهم لقوله تعالى: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ(14) كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وإنّما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر ثمّ ترك كتبته اعتماداً على ما علم من تقدير الله تعالى ذلك، كما همّ به في ابتداء مرضه حين قال: وارأساه، ثمّ بدا له أن لا يكتب وقال: يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر، ثمّ نبّه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها...
إلى آخر ما قال(15)، وكله من الدفع بالصدر.
وقد روى نفسه في سننه الكبرى في كتابة العلم في الصحف، حديث جابر:
«انّ رسول الله (ص) دعا بصحيفة في مرضه ليكتب فيها كتاباً لأمته لا يَضلون بعده ولا يُضِلون، وكان في البيت لغط وتكلم عمر فتركه»(16).
وهذا الّذي رواه بتر من آخره ما يدين عمر، ثمّ ذكر بعده في كتابة العلم في الألواح والأكتاف بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس قال رسول الله (ص): (إئتوني باللوح والدواة والكتف والدواة لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) قالوا: رسول الله (ص) يهجر»(17).
مع البيهقي في دعاواه:
وتتلخص دعاواه في الأمور التالية:
1- زعمه أنّ حديث عليّ بن المديني أتم لأنّه زاد قول سفيان إنّما زعموا أراد أن يكتب فيها استخلاف أبي بكر.
2- زعمه أنّ قصد عمر هو التخفيف على رسول الله (ص) فقال الّذي قال.
3- زعمه أنّ النبيّ (ص) أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه.
4- زعمه بل كذبه على سفيان في حكايته قوله.
5- زعمه تنبيه النبيّ (ص) لأمته على خلافة أبي بكر استخلافه إياه في الصلاة.
أمّا زعمه الأوّل أنّ حديث عليّ بن المديني أتم وقال: زاد عليّ قال سفيان: إنّما زعموا... الخ فهذا كذب وهراء ومحض افتراء، فحديث سفيان لقد رواه عنه خمسة عشر إنساناً كما مرّ في الصورة التاسعة، وكلهم من الحفاظ وأئمة الحديث، وكان عليّ ابن المديني واحداً منهم. وحديثه لم يقتصر على رواية البيهقي بأسانيده فقط، بل رواه عنه البخاري أيضاً وليس فيه هذه الزيادة(18)، كما لم ترد في أحاديث الرواة الآخرين عن سفيان فمن أين ألصق البيهقي بابن المديني هذه الزيادة؟
وأمّا زعمه الثاني أنّ عمر قصد التخفيف على رسول الله (ص). فينفيه ما سيأتي عن عمر نفسه من بيان قصده في منعه، ولو سلمنا جدلاً، فهل أنّ عمر كان أبصر بنفس النبيّ (ص) منه بنفسه؟
وأمّا زعمه الثالث أنّ النبيّ (ص) أراد أن يكتب لأمته ما هم مستغنون، مدفوع للحكمة الّتي بيّنها النبيّ (ص) في كتابة ذلك الكتاب وهي قوله (ص): (لن تضلوا بعده أبداً) فإنّ ذلك يدل على احتياجهم إلى عاصم يعصمهم من الضلالة إلى الأبد، وليس من تأمين على السلامة والصيانة لهم غير كتابة ذلك.
ولو سلّمنا جدلاً ـ ولا نسلّم ـ صواب قول البيهقي أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه، فيلزم منه أن ينسب القائل بذلك إلى مقام الرسالة ما لايليق بها من العبث، حيث أنّ ذلك الكتاب لا يزيدهم فائدة ولا يعود عليهم بعائدة، وهو منافٍ للعصمة عند من يقول بها، ومناف للحكمة عند من لا يقول بها.
وأمّا ما استدل به على مقالته فهو مردود بعد أن انتفت الفائدة المتوخاة والّتي كان يعلمها (ص)، حيث فتح عمر باباً واسعاً للطعن فيما يكتبه، ويدل على ذلك ما جاء في بعض صور الحديث ممّا رواه ابن سعد وغيره وفيه: فقال بعض من كان عنده: إنّ نبيّ الله ليهجر، قال: فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: أو بعد ماذا؟ قال: فلم يدع به(19).
وأمّا زعمه الرابع أنّ سفيان حكى عن أهل العلم قبله. فهذا كذب على سفيان، وما روي عن سفيان على اختلاف صور نسخه الخمس عشرة حسب عدد الرواة عنه فلم يأت في واحدة منها انّ سفيان حكى ذلك عن أهل العلم قبله. وإنّما الوحيد الّذي روى ذلك عنه فيما أعلم ـ هو البيهقي ـ ومهما يكن فان الّذي حاول إثباته من الكتابة باستخلاف أبي بكر فقد مرّ الجواب عنه في رد ابن حزم فراجع.
وأمّا زعمه الخامس أنّ النبيّ (ص) نبّه أمته على خلافة أبي بكر باستخلافه إياه في الصلاة فيكفي في دحض ما زعمه ما قاله ابن حزم في كتابه الإحكام آنفاً ـ وقد مرّ نقل ذلك عنه قبل هذا فراجع ـ مضافاً إلى قوله: واحتجوا باجماع الأمة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة، وان ذلك قياس على تقديم النبيّ (ص) له إلى الصلاة... وهذا من الباطل الّذي لا يحل، ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلاّ انّ رسول الله (ص) قدّمه إلى الصلاة لما كان أبو بكر أولى بالخلافة من عليّ. لأنّ رسول الله (ص) قد استخلف عليّاً على المدينة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته (ع) فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والأحكام أولى من قياس الاستخلاف على الصلاة وحدها... إلى آخر ماذكره من مناقشة(20).
• رابعاً: المازري :
قال:
إنّما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال ذلك عن غير قصد جازم، فظهر ذلك لعمر دون غيره.
هكذا حكاه النووي في شرح صحيح مسلم، وابن حجر في فتح الباري، والقسطلاني في المواهب اللدنية، والبدر العيني في عمدة القارئ(21)، وغيرهم.

مع المازري:
يتلخص اعتذار المازري في النقاط التالية:
1- اختلاف الصحابة في امتثال أمر النبيّ (ص) إنّما كان لأنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار.
2- تصميم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنّه (ص) قال ذلك عن غير قصد جازم.
3- ظهور ذلك لعمر دون غيره؟
وبين النقطة الأولى والنقطة الثالثة نحو تضاد، إذ إنّ عمر هو الّذي ظهر له أنّ الأمر عن غير قصد جازم، وهذا مختص به دون غيره كما يزعم المازري، ويعني ذلك أنّه خفي على الآخرين، وإذا كانوا كذلك فما بالهم يختلفون في امتثال الأمر ما دام لم يظهر لهم ما ظهر لعمر دون غيره، ثمّ إنّ قول المازري: «عن غير قصد جازم» يعني ترك الباب مفتوحاً أمام الصحابة فمن شاء أن يمتثل امتثل ومن شاء تخلف، لأنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار وهذا ما أكده بقوله: «عن غير قصد جازم» والآن لنا أن نسائله.
1- ما معنى بيانه (ص) لمصلحة الحكم الشرعي من أمره بقوله: (لا تضلون بعدي أبداً). فلو كان على سبيل الاختيار فمن شاء فعل ومن شاء ترك، لما ترتب أمر العصمة من الضلالة لهم جميعاً، بل كان يختص ذلك بمن امتثل ويحرم منه من خالف، ولما كان الخطاب للجميع فلابدّ أنّه (ص) توخى هداية الجميع وبذلك تتم فائدة العصمة من الضلالة وإلاّ فلا.
2- ما معنى قوله (ص) في آخر الحديث: (قوموا عني)، وذلك يعني طردهم عنه ولو كان أمره الأوّل عن غير قصد جازم وليس على التحتم، بل على الاختيار لما كان لطردهم عنه معنى، وان تنطّع متنطع فقال: «انّ طردهم عنه إنّما كان بعد تنازعهم ولغطهم فتأذى بذلك فقال: (قوموا عني) ». وهذا لا يدل على الوجوب في الامتثال. هنا نقول له انّ ذلك النزاع هو وحده كاف في الدلالة على لزوم الأمر، وإلاّ لو كان الأمر اختيارياً لما حدث النزاع ولما استلزم الطرد.
3- ما معنى قول عمر «حسبنا كتاب الله»؟ أليس يدلّ على فهمه أمر النبيّ (ص) أنّه كان للوجوب فأراد دفع من يقوم بالامتثال عنه، وإسقاط حجة قول النبيّ (ص) بالكلية. ولو لم يكن فهم لزوم الامتثال لما احتاج إلى قوله: «حسبنا كتاب الله».
4- ما معنى بكاء حبر الأمة عبدالله بن عباس وقوله: «الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين كتابة الكتاب»؟ أليس يدل ذلك على فوات أمر عظيم وخطير، وله أثر كبير في حياة الأمة فاستدعى فواته ذلك البكاء حتى يبلّ دمعه الحصى. ولو كان الفائت أمراً اختيارياً لما لزم ذلك البكاء؟ ولما لزم التعبير عنه بـ(الرزية كلّ الرزية) ولعيب عليه ذلك التوجع والتفجع، فكم هناك من أمور مندوبة وأحكام مستحبة تركها الناس في أيامه، بل وحتى تغيير بعض الفرائض فلم ينعها ولم يذكر عنه أنّه بكى لها، ولم ينقل التاريخ عنه أنّه عبّر عن فوت واجب آخر بأنه رزية فضلاً عن المندوب.
5- وأخيراً من أين للمازري إثبات فهم عمر دون غيره بأنّ أمر النبيّ (ص) كان عن غير قصد جازم، وهذا لا يعلم إلاّ من قبل عمر نفسه، ولم يرد عنه في ذلك شيء.
ثمّ إنّ ما ذهب إليه المازري لم يتابعه عليه أحد يعتد به ـ فيما أعلم ـ إلاّ رجل واحد من المتأخرين هو السيد عبدالرحيم الطهطاوي(22).
أمّا باقي أعلام قومه كالقاضي عياض والقرطبي وابن حجر وغيرهم فقد ذهبوا إلى عكس ما قاله المازري وقالوا بان عمر فهم الوجوب، وإنّما قال الّذي قاله إنكاراً على من تخلف عن الامتثال، وستأتي مقالاتهم التافهة وما أسسوه من مقدمات لنتائجهم المردودة وقياساتهم الباطلة..

• خامساً: القاضي عياض:
قال: في كتاب الشفاء:
فصل: فإن قلت: قد تقررت عصمته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أقواله في جميع أحواله وأنّه لا يصح منه فيها خُلفٌ ولا اضطراب في عمد ولا سهو ولا صحة ولا مرض ولا جدّ ولا مزح ولا رضىً ولا غضب، ولكن ما معنى الحديث في وصيته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم...
ثمّ ذكر حديث الكتف والدواة بسنده إلى قوله:
فقال بعضهم: انّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد غلبه الوجع... الحديث.
ثمّ قال:
وفي رواية: (إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) فتنازعوا فقالوا: ما له أهجر استفهموه ، فقال: (دعوني فإنّ الّذي أنا فيه خير).
وفي بعض طرقه:
إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: يَهجَر.
وفي رواية هجر، ويُروى:
أهُجراً. وفيه فقال عمر: إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد اشتد به الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، وكثر اللغط فقال: (قوموا عني).
وفي رواية:
واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً، ومنهم من يقول ما قال عمر.
قال أئمّتنا: في هذا الحديث النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غير معصوم من الأمراض وما يكون من عوارضها من شدة الوجع وغشي ونحوه ممّا يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته، ويؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان واختلال كلام.
وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث هَجَرَ إذ معناه هذي يقال هَجَرَ هجراً إذا هذى وأهجر هجراً إذا أفحش وأهجر تعدية هَجَرَ، وانما الأصح والأولى أهَجَرَ على طريق الأنكار على من قال لا يكتب، وهكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرّوات في حديث الزهري المتقدم، وفي حديث محمّد بن سلام عن ابن عيينة، وكذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه وغيره من هذا الطريق، وكذا روينا عن مسلم في حديث سفيان وعن غيره، وقد تحمل عليه رواية من رواه هَجَرَ على حذف ألف الاستفهام، والتقدير أهجر، أو أن يحمل قول القائل هجراً أو أهَجَرَ دهشةً من قائل ذلك وحيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول (ص) وشدة وجعه وهو المقام الّذي اختلف فيه عليه، والأمر الّذي همّ بالكتاب فيه حتى لم يضبط هذا القائل لفظه وأجرى الهُجر مجرى شدة الوجع، لا أنّه اعتقد أنّه يجوز عليه الهجر، كما حملهم الإشفاق على حراسته والله يقول: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ(23) ونحو هذا، وأمّا على رواية أهجُراً وهي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير عن ابن عباس من رواية قتيبة فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ومخاطبةً لهم من بعضهم أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين يديه هجراً ومنكراً من القول، والهُجر بضم الهاء الفَحش في المنطق.
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث وكيف اختلفوا بعد أمره لهم صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن يأتوه بالكتاب فقال بعضهم: أوامر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن فلعل قد ظهر من قرائن قوله (ص) لبعضهم ما فهموا أنّه لم تكن منه عزمة، بل أمر ردّه إلى اختيارهم، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: استفهموه، فلمّا اختلفوا كفّ عنه إذ لم يكن عزمة ولـمّا رأوه من صواب رأي عمر.
ثمّ هؤلاء قالوا ويكون امتناع عمر إمّا إشفاقاً على النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب وأن تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم اشتدّ به الوجع.
وقيل: خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ورأى أنّ الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد وحكم النظر وطلب الصواب، فيكون المصيب والمخطئ مأجوراً.
وقد علم عمر تقرّر الشرع وتأسيس الملة وان الله تعالى قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ(24) وقوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (أوصيكم بكتاب الله وعترتي). وقول عمر: حسبنا كتاب الله، ردٌ على من نازعه لا على أمر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم.
وقد قيل: إنّ عمر خشي تطرّق المنافقين ومَن في قلبه مرض ما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل، كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.
وقيل: إنّه كان من النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لهم على طريق المشورة والاختبار هل يتفقون على ذلك أم يختلفون فلمّا اختلفوا تركه.
وقالت طائفة أخرى: إن معنى الحديث انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان مجيباً في هذا الكتاب لما طُلب منه، لا أنّه ابتداء بالأمر، بل اقتضاه منه بعض أصحابه فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل الّتي ذكرناها.
واستدل في هذه القصة بقول العباس لعليّ: انطلق بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فإن كان الأمر فينا علمناه، وكراهة عليّ هذا، وقوله: والله لا أفعل... الحديث.
واستدل بقوله: (دعوني فإنّ الّذي أنا فيه). أي الّذي أنا فيه خير من إرسال الأمر وترككم وكتاب الله وأن تدعوني ممّا طلبتم، وذكر أنّ الّذي طلب كتابة أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك(25).
أقول: هذا كلّ ما ذكره في هذا الفصل من كتابه الشفاء وليس فيه من النافع إلاّ شفى ـ القليل ـ إذ هو إمّا تكرار للسابقين أو تلفيق المتخرصين. ولابدّ لنا من محاسبته على بعض ما ذكره ممّا لم يُسبق إليه من وجوه الاحتمالات والتمحلات وإنّما نقلناه بطوله لأن جماعة ممّن على شاكلته تبعه على رأيه فإنهم بين من نقل جميع كلامه كما صنع النويري في نهاية الإرب(26)، ومنهم من لخصه كالقرطبي ولخص من تلخيصه ابن حجر في فتح الباري(27) كما سيأتي تلخيصه.

مع القاضي عياض:
لقد كانت غاية محاولة القاضي هي تبرير ما صدر من عمر بن الخطاب في ذلك اليوم التعيس، يوم الخميس، ولكنها محاولة بائسة ويائسة. فهو استعرض:
أوّلاً: تحقيق الصيغة اللفظية الّتي كانت سبب الاختلاف، ثمّ التشكيك في تعيين قائلها وذلك من خلال ما ذكره من سياق الروايات المختلفة. حتى أنهاها إلى ثماني روايات كما يلي:
1- فقال بعضهم: انّ رسول الله (ص) قد غلبه الوجع.
2- وفي رواية: فتنازعوا فقالوا ما له أهجر استفهموه.
3- وفي بعض طرقه: إنّ النبيّ (ص) يَهجَرُ ـ (بفتحتين هكذا في النسخة المُعربة المطبوعة بإسلامبول سنة 1304 هـ) -.
4- وفي رواية: هَجَر.
5- ويروى: أهَجرٌ.
6- ويروى: أهُجراً.
7- وفيه فقال عمر: إنّ النبيّ (ص) قد اشتدّ به الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا وكثر اللغط.
8- وفي رواية: واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم رسول الله (ص) كتاباً، ومنهم من يقول ما قال عمر.
أقول: وهذه الروايات الّتي أشار إليها تترك القارئ في حيرة من أمر القاضي، وكأنه يحاول التعتيم على الحقيقة، فيعرض لها دون بيان الصحيح منها، فهو يترك القارئ في دروب من المتاهات.
لكن الباحث الواعي لا يعدم الرواية الصحيحة بينها، وانّها هي الثالثة الّتي ورد فيها: «انّ النبيّ يَهجَر» وما تحريكه لها بفتحتين إلاّ نحو من التعتيم المتعمد، لأن الصحيح «يَهجُر» فانها من باب (نصر ينصر) وتحريكها بفتحتين يخرجها عن المعنى الأصلي للكلمة، وانحراف بمسارها الصحيح، وذلك انّ القراءة بفتحتين تكون بمعنى هجرك الشيء، أي تركه كما نصت على ذلك بعض قواميس اللغة. ولكن ذلك لم يعجب الملا علي القاري شارح كتاب القاضي المذكور فقال في المقام: «يَهجِر» بكسر الجيم مع فتح أوّله بتقدير استفهام إنكار(؟).
وهذا من غرائب الأغراب في مسائل الإعراب، وإنّما حدث بعد زمان الحديث والحدث، تبريراً لمواقف المعارضة عند الحساب.
أمّا الّذي قلناه أنّه الصحيح وهي الرواية الثالثة فقد ذكرها القاري وقال هو الموجود في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن خلاد عن سفيان. كما ذكرها غيره(28) وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في محله إن شاء الله.
ثانياً: استعرض ما قاله أئمّته في الحديث. ولا يعنينا معرفة أئمّته بأعيانهم سواء كانوا هم المالكية، أو الأشعرية، أو أهل السنّة والجماعة كما ذكرهم شارح كتابه الملا عليّ القارئ الحنفي.
والّذي يعنينا أن نعرف ماذا قالوا؟ لم يأتوا بشيء جديد، ولم يخرجوا عن إطار التبرير وإن باؤا بإثم التزوير. فكلّ ما مخض سقاؤهم أنّ الروايات المختلفة آنفة الذكر يجب تخريجها على نحو الاستفهام الإنكاري، ولم يخرج عن تلك الروايات، إلاّ الرواية الثالثة الّتي لم يذكر لهم فيها رأياً ولم يعلّق عليها هو بشيء، لكنّ شارح كتابه لم تفته المشاركة في الحلبة، فحشرها مع سابقها ولاحقها فعلّق عليها بقوله: بتقدير استفهام إنكار..
ثالثاً: ذكر اختلاف العلماء في معنى الحديث، فذكر أربعة آراء كلّها تدور في فلك التبرير:
أوّلها: إنّ الأوامر إذا اقترنت بقرينة تخرجها من الوجوب إلى الندب والإباحة، فلعلّه ظهر من قرائن قوله (ص) لبعضهم ما فهموا منه أنّه لم يكن عزمة، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: استفهموه، فلمّا اختلفوا كفّ عنه إذ لم يكن عزمة، ولما رأوه من صواب رأي عمر.
وهؤلاء قالوا عن امتناع عمر إمّا إشفاقاً عليه (ص)، وإمّا خشي أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحسون بالحرج في المخالفة، فرأى الأرفق بالأمة سعة الاجتهاد الخ.
ثانيها: إنّ عمر خشي تطرق المنافقين إلى أن يقولوا فيما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة(؟) وأن يتقولوا الأقاويل كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.
ثالثها: انّ النبيّ (ص) إنّما قال لهم ذلك عن طريق المشورة والاختبار ليراهم هل يتفقون أم يختلفون، فلمّا اختلفوا تركه.
رابعها: انّ النبيّ (ص) كان مجيباً لما طـُلب منه ولم يكن ذلك منه ابتداء، فأجاب رغبة الطالب، وكره غيره ذلك للعلل الّتي ذكرها في الرأيين الأوّل والثاني.
وفي كلّ هذه الآراء مواقع للنظر نذكر بعضها:
أمّا الأوّل وهو احتمال وجود قرينة في المقام عرفها بعضهم ولم يعرفها آخرون، فهو من واهي الاحتمالات وقد مرّ مثله والجواب عنه فراجع ما مرّ عن المازري وقبل ذلك ما قلناه مع الخطابي.
وأمّا الثاني وهو إمّا احتمالاً أن يكون عمر أشفق على النبيّ (ص) فمنع من امتثال أمرِهِ، فهذا من قبيل المثل (اكوس عريض اللحية) فكيف يكون مشفقاً عليه وهو يعلن ردّ أمره ويشغب عليه؟ وأين منه الشفقة وقد سمّاه رسول الله (ص) مكلّبا. كما في حديث ابن عمر الّذي أخرجه الدارقطني في سننه قال: «خرج رسول الله (ص) في بعض أسفاره فسار ليلاً فمرّوا على رجل جالس عند مقراة له(29) فقال عمر: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبيّ (ص): (يا صاحب المقراة لاتخبره هذا مكلـِّب، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور)... ا هـ»(30).
أقول: والمكلـِّب ـ بكسر اللام ـ معلم الكلاب للصيد، وبفتحها المقيّد ولما كان معروفاً بالغلظة والشدة، وإذا لاحاه بعض أهله اصطلم أذنه شبّهه النبيّ (ص) بالمكلّب معلّم الكلاب، إذ لا يكون معلّمها إلاّ من هو أكلب منها لتخافه، فمن كان كذلك أين منه الشفقة المزعومة؟
وأمّا احتمال خشية تطرق المنافقين فيجدوا سبيلاً إلى الطعن فيما لو كتب (ص) فهذا مرّ عن الخطابي ومرّ الجواب عنه. وأمّا تمثيله لتطرق المنافقين بادعاء الرافضة الوصية، فليس ادّعاؤهم من دون دعوى البكرية أنّه (ص) أراد أن يكتب لأبي بكر بالخلافة، بل ادّعاؤهم كان هو الحقّ الّذي لا مرية فيه، لأنّه قد اعترف بصحة دعواهم عمر بن الخطاب حين قال لابن عباس أراده رسول الله (ص) للأمر فمنعته من ذلك.
وأمّا الثالث وهو الجديد ـ فيما أعلم ـ إذ لم يأت في زبر الأولين، وهو انّ النبيّ (ص) قال لهم على طريق المشورة والاختبار، هل يتفقون فيكتب لهم، أو يختلفون فيتركه، فلمّا اختلفوا تركه.
وصاحب هذا الرأي الفطير من الغباء بمكان، إذ تخيل أنّ النبيّ (ص) وهو في أخريات أيامه بعد لم يعرف أصحابه معرفة تامة، وهو الّذي عايشهم طيلة ثلاثاً وعشرين سنة فلم يعرفهم وما كان عليه بعضهم من المخالفة له، وكأن تلك التجارب الّتي مرّت عليه في اختلافهم عند المشورة لم تترك في نفسه أثراً يذكر حتى احتاج إلى اختبارهم مرة أخرى؟
ألم يستشرهم في حرب بدر فكان منهم السامع المجيب، ومنهم المخذّل المريب الّذي يقول له: إنّها قريش ما ذلّت منذ عزّت.
ألم يستشرهم في أسارى بدر؟ فكان منهم من يرى قتل الأسارى، ومنهم من يرى أخذ الفداء حتى نزلت الآية فحسمت الموقف المترجرج وذلك في قوله تعالى: حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً(31).
ألم يختلفوا عليه في وقعة أحد؟!
ألم يختلفوا عليه في وقعة الأحزاب؟!
ألم يختلفوا عليه في قضية بني النضير؟!
ألم يختلفوا عليه في صلح الحديبية؟!
ألم وألم؟ وكلّ ألمٍ فيها ألم!!
وأمّا الرأي الرابع ـ وهو كشف جديد كسابقه ـ ما أنزل الله به من سلطان، إذ يقول صاحبه أنّ النبيّ (ص) لم يكن مبتدءاً بأمره، بل قال إئتوني أكتب لكم كتاباً لمن طلب منه ذلك، واستدلّ على ذلك بقول العباس لعليّ: إنطلق بنا إلى رسول الله (ص) فإن كان الأمر فينا علمناه، وكراهة عليّ هذا وقوله: لا أفعل... الحديث.
وهذا من الغرابة بمكان فإن قول العباس لعليّ ـ لو صح ـ إنّما كان صبح يوم الوفاة كان بعد حديث الرزية يوم الخميس بأربعة أيام، فكيف يكون هو السبب لتقديم الطلب ويكون النبيّ (ص) مجيباً لا مبتدءاً، كما في تاريخ ابن الأثير وغيره فراجع.

• سادساً: ابن الأثير الجزري:
قال في كتابه النهاية: (هجر) ومنه حديث مرض النبيّ (ص): قالوا ما شأنه أهجر، أي اختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الاستفهام، أي هل تغيير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض، وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل إخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر ولا يظن به ذلك(32).
التبرير الفطير عند ابن الأثير:
ليس من القسوة عليه ما وصفناه به، فهو إذ لم يأتنا بجديد من عنده، وكلّ ما بذله من جهده، أنّه اجترّ أقوال السابقين من علماء التبرير، واستحسن ذلك، وحيث مرّت بنا نماذج من أقوالهم وردّها، فلا نطيل الوقوف ثانياً عندها. إلاّ أنّ من حقنا أن نسأله لماذا ذكر الحديث أوّلاً مبهِماً أسماء القائلين وهم جماعة. ثمّ صرّح أخيراً باسم عمر وهو مفرد؟ فهل كان عمر هو الجماعة؟ (كلّ عضوٍ في الروع منه جموع)؟
ولماذا قال أخيراً: ولايظنّ به ذلك؟ أليس ذلك من ابن الأثير هو التبرير الفطير، فلماذا لا يظن بعمر ذلك وهو رأس الحربة الّتي طعنت النبيّ (ص) في فؤاده، إذ عارضه فلم يمكنه من بلوغ مراده.
فهل أنّ مقامه فوق مقام الرسول الكريم، فيجب أن يحترم ولو على حساب كرامة النبيّ (ص)، اللّهم إن هذا الرد بهتان عظيم.

• سابعاً: النووي:
قال في شرحه صحيح مسلم بعد مقدمة في عصمة النبيّ (ص) ممّا يخل بالتبليغ: وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها، ممّا لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سحر (ص) حتى صار يخيّل إليه أنّه فعل الشيء ولم يكن فعله، ولم يصدر منه (ص) وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام الّتي قرّرها.
ثمّ قال: فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الّذي همّ النبيّ(ص) به.
فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن.
وقيل: أراد كتاباً يبيّن فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه وكان النبيّ (ص) همّ بالكتاب حين ظهر له أنّه مصلحة أو أوحي إليه بذلك، ثمّ ظهر أنّ المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك، ونسخ ذلك الأمر الأوّل.
وأمّا كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنّه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره، لأنّه خشي أن يكتب (ص) أموراً ربّما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ(33) وقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ(34)، فعلم أنّ الله تعالى أكمل دينه فأمن من الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله(ص) فكان عمر أفقه من ابن عباس(35).

مع النووي:
لابدّ لنا من وقفة مع النووي!
أوّلاً: في المقدمة الّتي ذكرها في عصمة الرسول (ص) في التبليغ وعدمها من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام فقال في ذلك: وقد سحر صلّى الله عليه (وآله) وسلّم حتى صار يخيّل إليه أنّه فعل الشيء ولم يكن فعله، وقد اعتبر ذلك غير مضرّ برسالته.
فنقول له: إن ما ورد من أخبار القصّاص الجهال بأنه سحر حتى صار كيت وكيت لا يمكن التصديق بها، وإن رواها البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة وغيرها، فهي أشبه بحديث خرافة، ويكفي في ردّها جملةً وتفصيلاً قول الله تعالى حيث أنكر على الكفّار الظالمين قولهم:وَقَالَ الظَّالِـمُونَ إِنْ تَتبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً(36) والمسحور هو الّذي خبل عقله، فأنكر الله تعالى ذلك. وذلك لا يمنع من جواز أن يكون بعض اليهود قد اجتهد في ذلك فلم يقدر عليه، فأطلع الله نبيّه على ما فعله، حتى استخرج ما فعلوه من التمويه، فكان ذلك دلالة على صدقه ومعجزة له.
قال ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد وقد ذكر الحديث عن عائشة فقال: «وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفاً مفرداً حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه ان قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء، قال: لأن النبيّ (ص) لا يجوز أن يسحر فإنّه يكون تصديقاً لقول الكفّار: إِنْ تَتبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُورًا(37)، قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً(38)، وقال قوم صالح له: إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْـمُسَحَّرِينَ(39)، وقال قوم شعيب له: إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْـمُسَحَّرِينَ، قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإنّ ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين»(40).
ثانياً: ما ذكره من اختلاف العلماء فذكر قولين:
أولهما: وهو الحقّ الّذي أباه عمر؛ لأنّه أعترف بعد ذلك أمام ابن عباس بأن رسول الله (ص) أراد عليّاً للأمر فمنعته من ذلك فتبيّن المراد عندما تبين العناد.
وأمّا ثانيهما: فهو من نسج الخيال ولا نطيل فيه المقال لكننا نسأل النووي عن مزاعمه التالية:
1- قوله اتفق العلماء؟ فأين وقع؟ ومتى وقع؟ ثمّ كيف يزعم ذلك وهو الّذي سبق منه أن قال: «اختلف العلماء» في المراد من الكتاب، فهم حين اختلفوا في المراد كيف اتفقوا على أنّ الحديث من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنّه خشي أن يكتب أموراً... الخ وفهم عمر على زعمه لا يتفق مع أصحاب القول الأوّل ولم يرده عمر. وإنّما يتفق مع أصحاب القول الثاني فقط. فكيف يكون اتفاق مع هذا الاختلاف؟
2- قوله: «إنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره». فكيف يزعم له ذلك ولازمه أن يكون عمر أبصر بمصلحة الأمة من نبيها؟ ولعل النووي يرى ذلك! ولكن لم يجرأ على البوح به فقال الّذي قال، ومهما كان عمر فليس يُصدّق زعم من يرى فيه أنّه خشي أن يكتب أموراً ربّما عجزوا عنها، لأنّ مبنى عذر النووي هو الخشية والاحتمال لا التحقق، ومع ذلك ربّما تكون النتيجة العجز ولربما لا تكون، ولو سلمنا جدلاً أنهم عجزوا عنها فهم معذورون ولا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا(41).
ثمّ إنّ عمر لم يكن مسدّداً بالوحي ورسول الله(ص) كان ينزل عليه الوحي، فهلا احتمل بدقيق نظره؟ ـ كما يحلو للنووي وصفه بذلك ـ أنّ ما أمر به رسول الله(ص) كان من أمر الوحي فهو مأمور بالتبليغ عند الإطاعة، فإذا هم عصوا تركهم وتركاضهم في الضلال فلماذا منع عمر من امتثال أمر رسول الله(ص)؟
3- كيف يكون عمر أفقه من ابن عباس لأنّه قال: «حسبنا كتاب الله». ومن المعلوم يقيناً أنّ الكتاب المجيد لم يتكفل ببيان جميع أحكام الشريعة بتفاصيلها، فخذ مثلاً حكم فريضة الصلاة الّتي هي عمود الدين فلم يرد في الكتاب المجيد ما يبين جميع فروضها وأركانها وسائر أحكامها وسيأتي مزيد بيان حول عدم الاستغناء في الأحكام بالكتاب وحده، ولابدّ من أخذ السنّة معه.
ولنعد إلى تفضيل النووي لعمر على ابن عباس في فقاهته. ولنسأله أين كانت فقاهة عمر غائبة عنه يوم يقول لابن عباس: «قد طرأت علينا عُضَل أقضية أنت لها ولأمثالها»(42).
وأين كانت فقاهته حين يقول له: «غص غواص»(43).
فكيف يكون عمر أفقه من ابن عباس؟ وعمر هو القائل: «من كان سائلاً عن شيء من القرآن فليسأل عبد الله بن عباس»(44)، وأين غابت عنه فقاهته يوم سئل عن مسألة فقال فيها، فقام إليه ابن عباس فساره فقال: يا أميرالمؤمنين ليس الأمر هكذا، فأقبل عمر على العباس ـ وكان عنده ـ فقال له: يا أبا الفضل بارك الله لك في عبد الله إنّي قد أمّرته على نفسي فإذا أخطأت فليأخذ عليَّ(45)... إلى غير ذلك ممّا قاله عمر وغير عمر في علم ابن عباس.
ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أنّ النووي لم يكن بدعاً في قومه فله أمثال ابن بطال والقسطلاني من شرّاح البخاري الّذين يذهبون مذهبه فقد قالوا: وعمر أفقه من ابن عباس حيث اكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به! ولا حاجة بنا إلى إبطال أقوال ابن بطال وغيره فهم في التزوير أبطال، ولكن لابدّ من وقفة قصيرة للموازنة بين فقه عمر وبين فقه ابن عباس، بعد معرفة معنى الفقه.
فأقول: لقد جاء في (المفردات في غريب القرآن الكريم) للراغب الأصبهاني، مادة: فقه: (الفقه): هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم... ويعني بذلك أنّ فقه الشيء يحتاج إلى جهد ذهني من الإنسان ليصل إلى فهم أمره، إمّا باستنباط من أمر، أو ظاهر نص يجده. أمّا العلم فهو قد يحصل دون جهد وتفكير، وقد يحصل ببذل جهد أيضاً، فالفقه أخص من العلم، فكم من عالم ليس بفقيه، ولذلك قال علماء اللغة: الفقه هو الفهم، أي فهم حقيقة الشيء وإدراك معناه، ولهذا نفى الله تعالى الفقه عن الكفّار فقال: لَـهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا(46). وإذا عرفنا معنى الفقه وأنّه الفهم لحقيقة الأمر، فلنرجع إلى مقالة ابن بطال والنووي لنرى مَن هو الأفقه من الرجلين ابن عباس أو عمر؟
أيهما أفقه عمر أم ابن عباس؟
لا أريد استباق الشواهد الدالة على أفقهية ابن عباس وللحديث عنها مجال آخر. ولكن لابدّ لي من ذكر شاهد واحد يصلح للموازنة بين الرجلين وذلك ما أخرجه جملة من أئمّة الحديث ممّن لا يتهمون في نقله كابن الجوزي والحاكم والبيهقي وابن كثير وابن حجر والسيوطي وغيرهم.
عن عكرمة قال: قال ابن عباس: «دعا عمر بن الخطاب أصحاب النبيّ (ص) فسألهم عن ليلة القدر؟ فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. فقلت لعمر: إنّي لأعلم وإنّي لأظن أيّ ليلة هي، قال: وأيّ ليلة هي؟ قلت سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر.
قال: ومن أين تعلم؟
قال قلت: خلق الله سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام وإنّ الدهر يدور في سبع، وخلق الإنسان فيأكل(؟) ويسجد على سبعة أعضاء، والطواف سبع، والجبال سبع.
فقال عمر لقد فطنت لأمر ما فطنـّا له.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال: أرأيتم قول رسول الله(ص) في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر وتراً أي ليلة ترونها؟ فقال بعضهم: ليلة إحدى وقال بعضهم: ليلة ثلاث، وقال بعضهم: ليلة خمس، وقال بعضهم: ليلة سبع، وأنا ساكت فقال: مالك لا تتكلم؟ قلت: إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا. فقال: ما أرسلت إليك إلاّ لتتكلم فقلت: إني سمعت الله يذكر السبع، فذكر سبع سموات ومن الأرض مثلهن، وخلق الإنسان من سبع، ونبت الأرض سبع.
فقال عمر: هذا أخبرتني ما أعلم، أرأيت ما لم أعلم قولك: (نبت الأرض سبع) قال: قال الله (عزّ وجل): ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلا ً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً(47).
قال: فالأبّ ما أنبتت الأرض ممّا تأكله الدواب والأنعام ولا يأكله الناس.
قال فقال عمر لأصحابه: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الّذي لم تجتمع شئون رأسه، والله إنّي لأرى القول كما قلت»(48).
هذا شاهد واحد ممّا يرويه أصحاب الحديث ممّن لا يتهمون على عمر. ثمّ دع عنك ابن عباس فإنّه حبر الأمة وترجمان القرآن، وهلم إلى سائر الناس الّذين كانوا أعلم وأفقه من عمر باعترافه، وإليك جملة من اعترافاته:
1- قال: «كلّ الناس أفقه منك يا عمر»(49).
2- قال: «كلّ الناس أفقه من عمر» قالها في واقعتين(50).
3- قال: «كلّ أحد أفقه مني قالها ثلاثاً»(51).
4- قال: «كلّ واحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر»(52).
5- قال: «كلّ واحد أفقه منك يا عمر»(53).
6- قال: «كلّ الناس أعلم منك يا عمر»(54).
7- قال: «كلّ الناس أعلم من عمر»(55).
إلى غير ذلك من أقواله.
فكيف يمكن تصديق الزعم بأنّه في تصرفه الشاذ يوم الخميس وكلمته النابية في حقّ النبيّ (ص) وأخيراً قوله حسبنا كتاب الله يكون أفقه من ابن عباس؟!
ولست في مقام المفاضلة ولكن أود تنبيه القارئ إلى أنّ ابن عباس كان قد حفظ المحكم على عهد النبيّ (ص). وعمر لم يحفظ سورة البقرة إلاّ في اثنتي عشرة سنة(56).
ثمّ أليس عمر هو الجاهل والسائل من أبي واقد الليثي: «بأي شيء كان النبيّ(ص) يقرأ في مثل هذا اليوم»(57) ـ وكان ذلك يوم العيد ـ فمن كان يجهل ما كان يقرأه النبيّ في صلاة العيد كيف يمكن أن يُزعم له بأنّه أفقه من ابن عباس؟
اللّهم إنّ ذلك من أكبر الشطط والغلط.
وأخيراً لا آخراً فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في المائة المختارة والخوارزمي في الجامع عن إبراهيم التيمي قال: «خلا عمر ذات يوم فأرسل إلى ابن عباس فقال له: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟
قال ابن عباس: إنّا اُنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل، وأنّه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيم نزل، فيكون لكلّ قوم فيه رأي، وإذا كان كذلك اختلفوا...»(58).
وأخرج أحمد في مسنده(59)، والبيهقي في السنن الكبرى(60) بعدة طرق: عن كريب عن ابن عباس أنّه قال له عمر: «يا غلام هل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟
قال: فبينما هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف قال فيم أنتما؟
فقال عمر: سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: (إذا شك أحدكم...) الحديث».
فعمر الخليفة وهو لا يعرف حكم الشك في الصلاة ـ وهي فريضة يأتي بها المسلم كلّ يوم خمس مرات ـ حتى يسأل عن حكم الشك فيها من ابن عباس وهو بعد غلام. ولم يكن عند ابن عباس في ذلك سماع في الحكم. كيف يكون هو أفقه؟

• ثامناً: ابن تيمية:
قال في كتابه منهاج السنّة بعد حكايته قول العلاّمة ابن المطهر الحلي في حديث الكتف والدواة فقال رداً عليه:
والجواب أن يقال: أمّا عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر، ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّه كان يقول: قد كان في الأمم قبلكم محدّثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر (!؟).
قال ابن وهب: تفسير: (محدّثون ملهمون)... إلى آخر ما ذكره من سياق وشواهد على إلهام عمر بما لا ينفعه بل عليه أضرّ.
ثمّ قال:
وأمّا قصة الكتاب الّذي كان رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يريد أن يكتبه فقد جاء مبيناً في الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله(ص) في مرضه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبابكر.
ثمّ ساق حديثاً آخر عن البخاري نحو ما سبق، وأتبعه بثالث:
عن مسلم عن عائشة وسئلت: من كان رسول الله(ص) مستخلفاً لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثمّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: ثمّ مَن بعد عمر قالت: أبو عبيدة عامر بن الجراح ثمّ انتهت إلى هذا. ثمّ قال: وأمّا عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبيّ (ص) من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال: ما له أهجر، فشك في ذلك ولم يجزم بأنّه هجر، والشك جائز على عمر، فإنه لا معصوم إلاّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، لاسيما وقد شك بشبهة، فإنّ النبيّ (ص) كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان من كلامه المعروف الّذي يجب قبوله.
ولذلك ظن أنّه لم يمت حتى تبين أنّه قد مات، والنبيّ (ص) قد عزم على أن يكتب الكتاب الّذي ذكره لعائشة، فلمّا رأى أنّ الشك قد وقع، علم أنّ الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة.
وعلم أنّ الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر).
وقول ابن عباس: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين أن يكتب الكتاب، يقتضي أنّ هذا الحائل كان رزية، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك.
فأمّا من علم أنّ خلافته حقّ فلا رزية في حقه ولله الحمد.
ومن توهم أنّ هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنّة والشيعة (؟). أمّا أهل السنّة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه.
وأمّا الشيعة القائلون بأنّ عليّاً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنّه قد نُص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب.
وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى.
وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كـان ما يكتبه في الكتـاب ممّا يجب بيانه وكتابته لكان النبيّ (ص) يبيّنه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنّه أطوع الخلق له، فعلم أنّه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ، إذ لو وجب لفعله.
ولو أنّ عمر اشتبه عليه أمر ثمّ تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممّن يفتي ويقضي بأمور، ويكون النبيّ (ص) قد حكم بخلافها مجتهداً في ذلك، ولايكون قد علم حكم النبيّ(ص) فإنّ الشك في الحقّ أخف من الجزم بنقيضه، وكلّ هذا باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الّذي رفع المؤاخذة به(61)...
إلى آخر ما ذكره من تهويش وتشويش لا يسمن ولا يغني.

مع ابن تيمية:
وفي كلامه مواقع كثيرة للنظر نشير إلى بعضها:
أوّلاً: زعمه فضل عمر على الأمة بعد أبي بكر وانه كان محدّثاً ملهما؟ وهذا منطق علماء التبرير في كلّ زمان، ولكن لنا أن نسأل أين يغيب عنه ذلك الفضل والإلهام حين تعتاص عليه الأمور، فلا يجد مخرجاً إلاّ عند الآخرين، فيلجأ إلى الإمام أمير المؤمنين (ع)، وما أكثر المواطن الّتي قال فيها: «لولا عليّ لهلك عمر»، و«لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن»؟
وأين يكون ذلك الفضل المزعوم والإلهام الموهوم حين تطرأ عليه العضل وهو لا يعرف لها مخرجاً، فيدعو ابن عباس فيقول له: «قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها»؟
وخلّ عنك عليّاً وابن عباس فالأوّل باب مدينة علم النبيّ (ص)، والثاني حبر الأمة، ولا غضاضة عليه لو رجع إليهما. ولكن كيف يفضل على جميع الأمة عدا أبي بكر، وهو دون مستوى الكثير الكثير من الصحابة وقد مرّت بنا أقواله الّتي قالها: «كلّ الناس أفقه منك يا عمر»(62). وقوله الآخر: «كلّ أحد أفقه من عمر»(63). لكن علماء التبرير يأبون ذلك لا عن حجة ولكن دفعاً بالصدر.
ثانياً: زعمه أنّ الّذي أراد أن يكتبه النبيّ (ص) هو خلافة أبي بكر، وهذا قد مرّ مثله عند ابن حزم وغيره، فلا حاجة إلى الوقفة عنده طويلاً سوى إنّا نود أن نسأل ابن تيمية الّذي استدل بثلاثة أحاديث كلّها عن عائشة فالأوّل عن الصحيحين ثمّ الثاني عن البخاري وحده وهذا ما استدل به غيره أيضاً ومرّ ما عندنا فيهما، ولكن ما رأي علماء التبرير وابن تيمية منهم في الحديث الثالث الّذي رواه عن مسلم. وفيه ترشيح أبي عبيدة للخلافة من بعد عمر؟ فأين كان الرواة عنه يوم السقيفة لحسم النزاع بين المهاجرين والأنصار وأحسبه لم يختلق بعد، بل أحسبه من الموضوعات أيام النفرة بينها وبين عثمان حين كانت تقول: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر»(64)، ولو كان له أدنى نصيب من الصحة لذكر فيه عثمان بعد عمر لأنّه الّذي تولى الخلافة، وعلماء السلطان يروون في ترتيبهم ما ينسبونه إلى النبيّ (ص) في مثل ذلك.
ثالثاً: زعمه أنّ عمر اشتبه عليه الأمر، لماذا ذلك وهو صاحب الإلهام المزعوم وأنّه لو كان من المحدّثين أحد في هذه الأمة لكان هو؟
ثمّ كيف يشتبه عليه قول النبيّ (ص) هل كان من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة؟ فهل أنّ النبيّ (ص) قال مبهِماً ومتمتمِاً؟ أو لم يقلها كلمة صريحة فصيحة (إئتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً)؟ أين الكلام الّذي يوجب الاشتباه؟
ثمّ لماذا لم يشتبه ذلك على غير عمر ممّن حضر عنده؟ ولماذا أحصر عمر عندما اشتبه عليه الحال إلاّ أن يقول: «إنّ النبيّ ليهجر»؟
نعم كلّ ما يهدف إليه ابن تيمية هو تبرئة عمر من وزر الكلمة وإن تم ذلك على حساب قدسية النبيّ (ص) وكرامته. ولكن الاعتذار باشتباه عمر لا يرفع عنه الوزر ما دام هو يقرّ لابن عباس بأنه عرف مراد الرسول (ص) من الكتاب وأنّه أراد أن يكتب لابن عمه فمنع منه وفيما تقدم في الصورتين الثالثة والرابعة من صور الحديث ما يؤكد منعه عن معرفة بالمراد، وكان المنع منه عن سبق إصرار وعناد فراجع.
رابعاً: زعمه أنّ قول ابن عباس: «الرزية كلّ الرزية» إنّما هو في حقّ من شك في خلافة أبي بكر أو اشتبه عليه الأمر، فأمّا من علم أنّ خلافته حقّ فلا رزية في حقّه؟
ولنا أن نسأل ابن تيمية عن ابن عباس صاحب الكلمة هل كان شاكاً أو مشتبهاً عليه الأمر؟ أو كان عالماً بحقيقة خلافة أبي بكر؟ والثاني منفي لأنّه هو صاحب الكلمة وهو يتحدث عن نفسه ويعبر عن شعوره، إذن هو من الشاكين أو المشتبه عليهم الأمر في تحديد ابن تيمية. وإذا كان كذلك، فابن عباس غير مؤمن بحكم ما يرويه البخاري عن عائشة من حديث إرادة استخلاف أبي بكر
وفيه: يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر. فهل يقول بذلك ابن تيمية؟ وإذا قال بذلك فليعطف عليه كلّ من أبى خلافة أبي بكر من سائر الصحابة. ثمّ بعد ذلك ليبحث ابن تيمية وأضرابه عن حجة لإثبات عدالة جميع الصحابة خصوصاً من أبى خلافة أبي بكر ولم يبايعه حتى مات مثل الزهراء وسعد بن عبادة، أو تخلّف عن البيعة إلى ستة أشهر كعليّ وجميع بني هاشم وآخرين من شيعته من الصحابة كما ستأتي أسماؤهم، أو يتخلّوا عن مقولة الصحابة كلّهم عدول.
خامساً: زعمه أنّ من توهم أنّ هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس الخ. إذا كان هذا حكم ابن تيمية فيمن توهم ذلك، فما هو حكمه فيمن تيقن وقطع به؟ فهل يبقى ضالاً أم يزيد في عقوبته؟
ومهما يكن حكمه فإنا نقول له لقد حكمت على إمامك عمر بالضلالة من دون أن تشعر. لأنّ عمر كان يقول بذلك جازماً غير شاك ولا مرتاب، وقد اعترف به لابن عباس كما أشرنا إلى ذلك مراراً، وذلك من عمر اعتراف خطير يدمغ رؤوس علماء التبرير.
سادساً: زعمه اتفاق عامة الناس، وتلفيقه الاتفاق من أهل السنّة الذين يقولون بتفضيل أبي بكر وهذا لا كلام لنا فيه، ولكن هلمّ الخطب فيما زعمه اتفاق الشيعة معهم على أنّ الكتاب لم يكن بخلافة عليّ بتقريب أنّ الشيعة يقولون بالنصّ الجلي على عليّ قبل ذلك اليوم، فهو لا يحتاج إلى الكتاب يومئذ.
وهذا من مناوراته الخبيثة، وكأنّ تأكيد النص كتابة بعد أن كان شفاهاً ممنوع عقلاً أو شرعاً.
فليكن الشيعة وهم يذكرون النص السابق الجلي الظاهر ـ وهو بيعة يوم الغدير ـ وما سبقها منذ بدء الدعوة وما لحق بها، لكن لا مانع من تأكيد ذلك بالكتاب ليكون أقوى حجة في دفع الخصوم الّذين سوّلت لهم أنفسهم فنابذوه وأضبّوا على عداوته مع وجود النبيّ (ص) بين ظهرانيهم.
ولماذا لا يكون الكتاب ـ لو تمّ ـ أقوى حجة وأظهر دليلاً وهو المتكفل بعصمة الأمة من الضلالة.
لكن عناصر الشغب الّذين أظهروا كوامن أحقادهم عرفوا أنّه لو تمّ الكتاب فلا يبقى لهم حساب، لذلك أصروا على التمرد والعناد، وعدم امتثال أوامر النبيّ(ص)، وكانت الصلعاء والشوهاء منهم تخلفهم عن جيش أُسامة والنبيّ (ص) ينادي: (أنفذوا جيش أُسامة، لعن الله من تخلف عن جيش أُسامة)(65)، وما كان ذلك منهم إلاّ بعد أن تيقنوا انّ المراد بالكتاب هو خلافة عليّ، فألقحها ابن الخطاب فتنة عمياء حين قال كلمته الرعناء: «انّ النبيّ ليهجر» فنسف كلّ ما أراده النبيّ (ص)، لذلك (غمّ) أغمي عليه من شدة الصدمة، ووقع الاختلاف والنزاع، فأفاق (ص) وطردهم وقال: (قوموا عني).
ولمّا قال له بعض أهل بيته: ألا نأتيك بالّذي طلبت وإن رغمت معاطس؟ فقال: (أبعد الّذي قال قائلكم) هذا بعض ما في كلام ابن تيمية من شطط في القول وخطل في الرأي.

• تاسعاً: الشاطبي:
قال في كتاب الاعتصام:
ولقد كان (ع) حريصاً على أُلفتنا وهدايتنا، حتى ثبت من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أنّه قال: لمّا حُضر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ فقال: (هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) فقال عمر: انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول كما قال عمر، فلمّا كثر اللغط والاختلاف عند النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال: (قوموا عني) فكان ابن عباس يقول: الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحياً أوحى الله إليه أنّه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة عن مقتضى قولـه: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ بدخولهـا تحـت قـوله : إِلّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ(66). فأبى الله إلاّ ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم. رضينا بقضاء الله وقدره، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنّة ويميتنا على ذلك بفضله(67).

مع الشاطبي:
لعل القارئ أدرك كيف حاول الشاطبي استغفال القرّاء في تبريره، ومراوغته، فهو حين يبدو حريصاً على إظهار نفسه بواقعية مقبولة يكسب فيها قارئ كلامه، لكنه سرعان ما تطغى عليه جبريته في سبيل تبرئة عمر، فيلقى اللوم على السماء، وبتعبير أصح يلتمس العذر له من السماء. فانظر إلى قوله: «إنّ النبيّ (ص) كان حريصاً على ألفتنا وهدايتنا»، واستدلّ بحديث ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو حديث الرزية. وهذا صحيح في واقعه ولا غبار عليه.
وانظر إلى قوله في تعقيبه على ذلك:
«فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحياً أوحى الله إليه إنّـه إن كتـب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ بدخولها تحت قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ(68)».
وهذا أيضاً من مقبول القول وبه كسب القارئ إلى قبول ما يقوله. فسرعان ما استغفله بقوله: «فأبى الله إلاّ ما سبق به من علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم».
فانظر إلى هذا التبرير الفجّ!
الله سبحانه وتعالى هو الّذي أوحى إلى نبيّه (ص) بأن يأمر بالكتاب الّذي لايضلون بعده، والنبيّ (ص) بدوره يأمر بذلك. وعمر يمنع من ذلك، ويُحدث الفرقة في الحاضرين، ثمّ يقع الخصام وينتهي بطرد النبيّ (ص) للمنازعين. ومع ذلك كلّه يقول: «فأبى الله إلاّ ما سبق في علمه من اختلافهم».
ومن الغريب العجيب ينأى عن إدانة السبب في المنع، ويحمّل السماء تلك الإدانة، وإنّ الله أبى إلاّ ما سبق في علمه؟
وهل هذا إلاّ استغفال للقراء واستخفاف بالعقول!! وليس لنا إلاّ أن نقول كما قال: رضينا بقضاء الله وقدره.

• عاشراً: ابن حجر العسقلاني:
قال في فتح الباري كلاماً كثيراً نثره وكرّر أكثره في أجزاء كتابه، تبعاً لصحيح البخاري لورود الحديث في مختلف أبوابه، لكنه أطال الكلام في موضعين: في كتاب العلم باب كتابة العلم(69)، وفي كتاب المغازي باب مرض النبيّ (ص) (70)، ولم يأتنا بشيء جديد، ولم نتجن عليه في ذلك فقد اعترف بذلك في الموضع الثاني فقال: وقد تكلم عياض وغيره على هذا الموضع فأطالوا، ولخصه القرطبي تلخيصاً حسناً ثمّ لخصته من كلامه وحاصله، فذكر ما لخصه، ولما كنا نحن قد ذكرنا كلام عياض بطوله، وناقشناه فيه، لذلك أعرضنا عن ذكر كلام القرطبي إلاّ عرضاً، وكذلك نعرض عن ابن حجر إلاّ ما جاء به من عند نفسه. فقد قال وهو ينقل الاحتمالات الّتي ذكرها القرطبي في تعريف قائل الكلمة:
ويظهر منه ترجيح ثالث الاحتمالات الّتي ذكرها القرطبي ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أنّ من اشتدّ عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك. ولهذا وقع في الرواية الثانية فقال بعضهم: أنّه قد غلبه الوجع. ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمّد ابن خلاد عن سفيان في هذا الحديث فقالوا: ما شأنه يهجر؟! استفهموه، وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير: إنّ نبيّ الله ليهجر، ويؤيده أنّه بعد أن قال ذلك استفهموه بصيغة الأمر بالاستفهام، أي اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الّذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى، أو لا.

مع ابن حجر العسقلاني:
من الغريب أمر هذا الرجل فهو يختار مرجحاً انّ القائل لكلمة الهجر سواء كانت إخباراً أو إنشاءاً هو من بعض قرب دخوله في الإسلام؟ مع أنّه سبق منه في تفسير معنى الهجر والهذيان فقال: «والمراد به ـ يعني الهجر ـ في الرواية ما يقع من كلام المريض الّذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع ذلك من النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم مستحيل، لأنّه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْـهَوَى(71)، ولقوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (إنّي لا أقول في الغضب والرضا إلاّ حقاً)، وإذا عرف ذلك، فإنّما قاله من قاله منكر على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة.
فكأنّه قال كيف تتوقف؟ أتظن أنّه كغيره يقول الهذيان في مرضه وأحضره ما طلب فإنّه لا يقول إلاّ الحقّ... ا هـ».
أقول: فأين صار ترجيحه بأنّ القائل هو من قرب دخوله في الإسلام وكان يعهد أنّ من اشتد عليه الوجع الخ؟ ثمّ ما باله يشرّق تارة ويغرّب أخرى بين الرأيين، بينما يعترف هو بنفسه تبعاً لما ورد في صحيح البخاري في الموارد الآتية بأنّ القائل هو عمر. فأي أقواله هو الصحيح؟ ليس ذلك منه إلاّ استماتة في الستر على مقولة عمر. وهل هذا منه إلاّ كذباً من القول وتمويهاً على القارئ وتشويهاً للحقيقة.
وما أدري كيف استساغ أن يقول ذلك، وفي صحيح البخاري الّذي هو يشرحه قد ورد التصريح بأنّ القائل هو عمر، ورد ذلك في ثلاثة مواضع، وهي كما يلي:
1- في كتاب العلم باب كتابة العلم: قال عمر: «انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا...»(72).
2- في كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عني: فقال عمر: «انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر...»(73).
3- في كتاب الاعتصام باب كراهية الاختلاف قال عمر: «انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر...»(74).
هذه هي الموارد الّتي صرّح فيها بإسم عمر، وقد شرحها ابن حجر في كتابه وصرّح بها بذكر عمر تبعاً للبخاري، أمّا الموارد الأربعة الأخرى الّتي غمغم فيها البخاري أو الرواة قبله فلم يذكروا اسم عمر. نجد ابن حجر في شرحه لها يورد اسم عمر مدافعاً عنه.
ثمّ إذا كان في نظره أنّ القائل (هو بعض من قرب دخوله في الإسلام)، فهل يعني بذلك أنّ عمر كان كذلك؟ وهذا ما لا يكاد تصديقه ولا يمكن أن يكون مراده، لأنّ عمر أسلم قبل ذلك اليوم بأكثر من خمس عشرة سنة، وليس هو بقريب عهد بالإسلام وإذا لم يكن يعني عمر فمن هو ذلك الرجل المزعوم الذي قرب دخوله في الإسلام؟ وما اعتذاره إلاّ استخفاف بعقول الناس واستجهال لهم على غير استحياء، فهو إذ لم يصب الهدف المنشود يكشف عن بلادته أيضاً حين جانب الدقة في كلامه، فتخيل بهذه الفهفهة الفجّة يغطي ما لا يضمّه ستر، وأنى له ذلك، فهو مهما أوتي من براعة التزييف وامعان في المغالاة لا يستطيع التستر على اسم القائل، ولا الإعتذار عنه، ولكن ما الحيلة معه ومع أمثاله، وهذا شأن من يقول ما يشاء من دون تورّع، ولا يبالي بما يقال فيه، وهذه سجية علماء التبرير إذ يسوقهم خطأ التقدير، إلى مهاوي التحوير والتزوير.

• الحادي عشر: القسطلاني:
وهذا الرجل لدة قومه يدلي بدلوهم ويمتح من غربهم، ولا يجاوز طريقتهم في تضارب الأقوال، فهو وبعبارة أوضح يجترّ أقوال السابقين، من دون التفات لما فيها من هنات وهنات. لذلك كثر عنده التناقض، وأظن أنّ القارئ يكتفي ببعض الشواهد على ذلك:
1- فمثلاً قال في كتابه إرشاد الساري في شرح (أكتب لكم كتاباً): «فيه النص على الأئمّة بعدي أو أبين فيه مهمات الأحكام»(75).
ولكنه جاء بجديده فيما يحسب في شرح (ولا ينبغي عند نبيّ تنازع) فقال:
«والظاهر إنّ هذا الكتاب الّذي أراده إنّما هو في النص على خلافة أبي بكر...»(76)، وأبطل قول من قال إنّه بزيادة أحكام...، لكنه عاد في شرح (لكم كتاباً) فقال: «فيه استخلاف أبي بكر بعدي أو فيه مهمات الأحكام»(77).
فأنظر إلى أقواله هذه: فهو أوّلاً جعل المراد كتابته النص على الأئمّة أو بيان مهمات الأحكام، ثمّ استظهر أنّ الكتاب إنّما هو في النص على خلافة أبي بكر قال ذلك بضرس قاطع وقد جاء بأداة الحصر (إنّما) وأبطل زعم أنّ فيه زيادة أحكام، ثمّ عاد ثالثاً فجعل المراد مردداً بين استخلاف أبي بكر أو مهمّات الأحكام.
2- وشاهداً آخر على تناقضه قال: (فاختلفوا) أي الصحابة عند ذلك(78).
وقال:
(فاختلف أهل البيت) الّذين كانوا فيه من الصحابة لا أهل بيته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم(79).
لكنه قال مرة أخرى:
(فاختلف أهل البيت) النبوي(80)؟
فانظر إلى تناقضه!!
فهو أوّلاً قال: «هم الصحابة»، وأكد ذلك ثانياً ونفى أن يكون أهل بيته (ص) من أولئك الّذين جاؤا بالاختلاف، ولكنه فجأة وبجرة من القلم بوعي أو غير وعي قال: «فاختلف أهل البيت» النبوي!!
ولا نطيل المقام عنده فمن شاء أن يستزيد من عجائب تناقضاته فليرجع إلى كتابه(81) ليرى كيف حب الشيء يعمي ويصمّ. ولا عجب من علماء التبرير خصوصاً شرّاح الصحيحين فكم لهم من تأويلات وتمحلات لو أتينا على جميع ما قالوه لاحتجنا إلى تأليف مخصوص في ذلك، والآن ولا نبخل على القارئ ببعض الأسماء منهم وشيء ممّا عندهم، فعسى أن يقيض الله لنصرة دينه من يجمع جميع ما قالوه ويفنّد ما زعمه أولئك الخصوم نصرة للحق المهضوم والولي المظلوم.
• الثاني عشر: الوشتاني الآبي المالكي:
ومن علماء التبرير أيضاً أبو عبد الله محمّد بن خلفة الوشتاني الآبي المالكي المتوفى سنة 828 هـ قال في كتابه إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم في شرح قوله:
«قـال ابن عبـاس (رضي الله عنه) يـوم الخميس ومـا يـوم الخـميس» قلت هو ـ والقائل هو ـ استعظام وتفجع باعتبار ما اتفق فيه من موته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وانقطاع الوحي وخبر السماء...(82)؟

مع الوشتاني وفتحه الجديد!
أُنظر بربّك إلى قوله مفسراً سرّ بكاء ابن عباس هو لموت النبيّ (ص) كيف يزعم ذلك وهو يقول: «يوم الخميس» وهذا اليوم قبل يوم موته (ص) بأربعة أيام، إذ أنّ وفاته كانت يوم الاثنين راجع كتب السيرة والتاريخ؟ أليس هذا تهرباً من كشف الحقيقة؟
ثمّ اقرأ واضحك ـ وشرّ البلية ما يضحك ـ قال: «قوله: بكى حتى بلّ دمعه الحصى، قلت ـ والقائل هو أيضاً -: يحتمل بكاؤه لموته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، أو لما ذكر من شدة وجعه وهو يدل على أنّ شدة المقاساة والنزع عند الاحتضار لا تدل على المرجوحية كما يعتقد بعض العوام...»(83).
والآن إن شئت أيها القارئ أن تبكي فابْكِ على إبل حداها غير حاديها، فهذا الرجل جاء بما يضحك الثكلى، لكنه يبكي من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فاقرأ ما يقوله أيضاً: «قوله: (لا تضلوا بعدي)، قلت ـ وهو القائل -: لا يعني بالضلال الضلال بعد الهدى، لأنّه تقدم في تأويل ما أراد أن يكتب أنّه ما يرفع الخلاف بين الفقهاء في المسائل، أو ما يرفع ذلك الاختلاف في الخلافة، والخلاف الواقع في كلّ منهما إنّما هو عن اجتهاد، والخطأ في الاجتهاد ليس بضلال... ا هـ»(84).
أقول: وهذا هو بيت القصيد كما يقولون. فكل ما حدث من خلاف في الخلافة وأريقت بسببه دماء المسلمين، ليس فيه مؤاخذة، فجميع أهل الجمل وصفين والنهروان وما بعدها من حروب طاحنة، كلّهم معذورون فالقاتل والمقتول في الجنة، يا سلام؟!
وعلى هذا الوتر كان ضرب الباقين من علماء التبرير، فلا عجب إذا ما تبعه السنوسي الحسيني المتوفى سنة 895 هـ في كتابه مكمل إكمال الإكمال قال: « (لن تضلوا بعدي) قيل: أراد أن ينصّ على خلافة إنسان معين حتى لا يقع فيها نزاع ولا فتن.
وقيل: أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة، ليرتفع نزاع العلماء فيها بعد، فالضلال إذن على الوجهين ليس ضلالاً عن هدى، إذ المخطئ في الاجتهاد على القول بالخطأ ليس بضال»(85).
أقول ـ ومن دون تعليق ـ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(86) فهل تجدون للضلال معنى غير الضلال عن الهدى. فدونكم كتب اللغة والتفسير ستجدون الضلال ضدّ الرشاد وهو بمعنى الباطل والهلاك.

• الثالث عشر: البدر العيني:
وهذا من شراح صحيح البخاري ومعاصر لابن حجر، وقيل في كتابه (عمدة القاري) سطو على فتح الباري، ولا يعنينا هذا بقدر ما يعنينا ما جاء فيه من قوله:
«قوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (لا ينبغي عندي التنازع)، فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال الأمر وإن كان ما اختاره عمر صواباً»(87)؟
أقول: أتريد تهالكاً في التبرير أكثر من هذا، الأولى المبادرة إلى امتثال أمره (ص)، وإن كان ما اختاره عمر صواباً؟ لماذا؟ فإن كان مراده لفظ(لا ينبغي) إنّما يدل على الكراهة، كما أنّ لفظ ينبغي يدل على الاستحباب، فمن أجل ذلك يكون فيه إشعار بأولوية المبادرة، فيكون ما اختاره عمر صواباً وان كان خلافاً لما هو أولى، فهذا إنّما يتم له لو كان خالياً عن القرينة، فكيف والقرينة حالية ومقالية. فالحالية زمان ومكان الصدور والمقالية:
أوّلاً: قوله (ص): (إئتوني) هو أمر والأمر ظاهر في الوجوب إلاّ أن تكون قرينة صارفة وليست في المقام.
ثانياً: قوله (ص): (لن تضلوا بعده أبداً) وهذا نص في أنّ الحقّ هو إمتثال أمره وعند عدمه لابدّ أن يبقوا عرضة للضلال، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال. وهل ترك المندوب يوجب الضلال؟
ثالثاً: قوله (ص): (قوموا عني) فلو لم يكن أمره للوجوب لما كان لتنازعهم معنى، كما لا موجب لطردهم من بيته.
رابعاً: بكاء ابن عباس حتى يبلّ دمعه الحصى. فهل كان لفوات امتثالهم أمراً ندبياً؟ أم أنّ بكاءه يدل على تفويتهم أمراً وجوبياً يعصمهم وجميع الأمة من كلّ ضلالة؟...إلى غير ذلك، ولكن علماء التبرير لا تقنعهم القرائن ولو كانت ألف قرينة.
وقال أيضاً في عمدة القاري: «واختلف العلماء في الكتاب الّذي همّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بكتابته، قال الخطّابي يحتمل وجهين:
أحدهما: أنّه أراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين. وقيل أراد أن يبيّن كتاباً فيه مهمات الأحكام ليحصل الاتفاق على المنصوص عليه، ثمّ ظهر للنبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّ المصلحة تركه، أو اُوحي إليه به. وقال سفيان بن عيينة أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع منهم الاختلاف، ويؤيده أنّه عليه الصلاة والسلام قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة رضي الله عنها: (ادعو لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإنّي أخاف أن يتمنّى متمّنٍ ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر). أخرجه مسلم، وللبخاري معناه، ومع ذلك فلم يكتب.
قوله: قال عمر: إنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، قال النووي: كلام عمر هذا مع علمه وفضله لأنّه خشي أن يكتب اُموراً فيعجزوا عنها فيستحقوا العقوبة عليها، لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، وقال البيهقي: قصد عمر التخفيف عن النبيّ عليه الصلاة والسلام حين غلبه الوجع ولو كان مراده عليه الصلاة والسلام أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم..
وقال البيهقي: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قيل إن النبيّ عليه الصلاة والسلام أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ثمّ ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى، وذلك كما همّ في أوّل مرضه حيث قال: وارأساه ثمّ ترك الكتاب وقال: يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر، ثمّ قدّمه في الصلاة، وقد كان سبق منه قوله(ع): إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره، وفي تركه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الإنكار على عمر دليل على استصوابه.
فإن قيل: كيف جاز لعمر أن يعترض على ما أمر به النبيّ عليه الصلاة والسلام.
قيل له: قال الخطابي: لا يجوز أن يحمل قوله إنّه توهم الغلط عليه أو ظن به غير ذلك ممّا لا يليق به بحاله، لكنه لما رأى ما غلب عليه من الوجع وقرب الوفاة خاف أن يكون ذلك القول ممّا يقوله المريض ممّا لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين، وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم يراجعون النبيّ عليه الصلاة والسلام في بعض الاُمور قبل أن يجزم فيها كما راجعوه يوم الحديبية، وفي الخلاف وفي الصلح بينه وبين قريش، فإذا أمرنا بالشيء أمر عزيمة فلا يرجعه أحد. قال: وأكثر العلماء على أنّه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه الوحي، وأجمعوا كلّهم على أنّه لا يقرّ عليه.
قال: ومعلوم أنّه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وإن كان قد رفع درجته فوق الخلق كلّهم فلم يتنزه من العوارض البشرية، فقد سها في الصلاة فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الاُمور في مرضه فيتوقف في مثل هذه الحال حتى يتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها توقف عمر وأجاب المازري...». ثمّ ذكر ما تقدم من أقوال المازري، وختم الكلام فقال:
«بيان استنباط الأحكام:
الأوّل: فيه بطلان ما يدعيه الشيعة من وصاية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالإمامة. لأنّه لو كان عند عليّ (رضي الله عنه) عهد من رسول الله عليه الصلاة والسلام لأحال عليها (كذا).
الثاني: فيه ما يدل على فضيلة عمر وفقهه.
الثالث: في قوله: (إئتوني بكتاب أكتب لكم) دلالة على أنّ للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظراً للأُمة.
الرابع: في ترك الكتابة إباحة الاجتهاد لأنّه وكّلهم إلى أنفسهم واجتهادهم.
الخامس: فيه جواز الكتابة والباب معقود عليه»(88).
أقول: هذا بعض ما جادت به قريحته من تعقيب وتصويب، مضغ طعام الأولين فلم يحسن مضغه، وقد سبق منا ذكر ما قاله الخطابي والبيهقي والمازري، وبيّنا ما في أقوالهم من ملاحظات، فلا حاجة بنا فعلاً إلى إعادة ما قد سبق.
ولكن الّذي ينبغي التنبيه عليه في كلام العيني من تفاوت في نقله عن سفيان بن عيينة، حيث حكي عن الخطابي أوّلاً انّه قال سفيان بن عيينة: أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع منهم الاختلاف. ثمّ حكى عن البيهقي قوله: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم، قيل انّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر... ومن البيّن الواضح الفاضح ما بين القولين من تفاوت! ففي الأوّل النص على أسماء الخلفاء بعده. وفي الثاني أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر... فأي القولين هو الصحيح، أو لا صحيح في المقام، وإنّما ذلك من أضغاث الأحلام؟!
وبعد أن شرق وغرب، وفي جميع ذلك أغرب، ختم كلامه ببيان استنباط الأحكام، ومنه يعرف القاري مدى تضلّعه والأصح ضلوعه مع فقهاء الحكم، فقال: الأوّل: فيه بطلان ما يدعيه الشيعة من وصاية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالإمامة، لأنّه لو كان عند عليّ (رضي الله عنه) عهد من رسول الله عليه الصلاة والسلام لأحال عليها (كذا). ولا نرد عليه إلاّ بما قاله عمر ولا نزيد عليه وحسبنا به شاهداً عليه وحاكماً: قال: «ولقد أراد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أن يصرح باسمه -يعني عليّاً ـ فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام»(89).
وستأتي أقوال لعمر في هذا الشأن نذكرها إن شاء الله فيما يأتي.

• الرابع عشر: الدهلوي:
وهو الشاه ولي الله الدهلوي من علماء المسلمين في الهند في القرن الثاني عشر الهجري وله مؤلفات عديدة أشهرها كتابه حجة الله البالغة ومن مؤلفاته شرح تراجم أبواب صحيح البخاري وهو مطبوع مكرراً، وما ننقله عنه هنا فمن طبعة حيدر آباد الدكن الطبعة الثانية.
قال:
«إعلم إنّ هذا المقام، من مزالق الأقدام، كم زلّت فيه الأعلام، وصغت فيه الأفهام، وإنّي قد تحققت بعد تتبع طـُرُق هذا الحديث ـ يعني أمره صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بالكتاب أنّ قول ابن عباس: الرزية كلّ الرزية، إنّما كان بطريق الشبهة مثل سائر شبهاته، لأنّه ثبت في الروايات الصحيحة أنّ كبار الصحابة مثل أبي بكر وعليّ وغيرهما كانوا حاضرين، ففهموا من أمره صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّ مقصوده بالكتابة ليس إلاّ ما جاء في القرآن والتوثيق به، ولو كان شيئاً آخر لأمرهم به ثانياً وثالثاً. لأنّه عاش صلّى الله عليه (وآله) وسلّم مفيقاً بعد ذلك أياماً، ومع ذلك روي أنّه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أمر عليّاً باحضار القرطاس والدواة، فخاف عليّ فوته بعد أن يذهب، فقال يا رسول الله: أسمع وأعي، فبيّن له رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من أحكام الصدقات، واخراج الكفّار من جزيرة العرب، وإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، والإستيصاء بالأنصار خيراً، وغير ما بيّن أكثره قبل ذلك أيضاً.
فبعد ذلك لم يبق مجال في أن يتمسك بشبهة ابن عباس (رضي الله عنه)، ويقال ما يقال في خيار الصحابة، لأنّه كان حديث السن مناهز البلوغ، والاعتبار بما فهمه كبّار الصحابة(90).
إلى هنا انتهى ما قاله الدهلوي.

مع الدهلوي:
هذا قول الدهلوي، وهو محقٌّ في أوّله ومبطلٌ في آخره!
وبيان ذلك: انّ المقام من مزالق الأقدام ويكفي ما قدّمناه من نماذج لعلماء التبرير أمثال الخطابي وابن حزم والبيهقي والمازري وعياض وابن الأثير والنووي وابن تيمية وابن حجر والقسطلاني والوشتابي والعيني وغيرهم ممّن ورد ذكرهم تبعاً كابن بطال والنويري والقرطبي والطهطاوي وأضرابهم. فجميع هؤلاء الأعلام ممّن زلّت قدمه في سبيل تبرير عمر من سوء كلمته. ولم يكن الدهلوي آخرهم، بل هو أسوأ فهماً منهم، فقد خبط خبط عشواء، واستدل مكابراً بالهباء، وذلك منه منتهى الغباء، ولو لم يكن غبيّاً لما قال: إنّ الاعتبار بما فهمه كبّار الصحابة وضرب مثلاً بعليّ وأبي بكر. وهم فهموا مراده بالكتابة ليس إلاّ تأكيد ما جاء في القرآن والتوثيق به. ونحن نقول له ما دام كبار الصحابة فهموا ذلك فلماذا إذن اختلفوا وتنازعوا؟ وما ضرّهم لو أنهم امتثلوا أمره (ص) فكتب لهم ذلك التأكيد؟ وما داموا هم ملتزمين بالقرآن، فالقرآن يأمر بإطاعة أمره إذ فيه: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(91)، وفيه: اسْتَجِيبُوا لِله وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(92) فلماذا لم يستجيبوا ولم يطيعوا؟
ومن الغريب والغباء أن يستدل على مرامه بقوله: «ولو كان شيئاً آخر لأمرهم به ثانياً وثالثا؟!». إنّما لم يأمرهم به ثانياً وثالثاً لعدم الجدوى في ذلك حتى ولو كرر ذلك مائة مرة ومرة، فقد سبق السيف العَذَل- كما يقول المثل- فعمر حين قال إنّه يهجر أصاب مرماه وضيّع الهدف المنشود للنبيّ (ص)، ولو أنّه (ص) كرّر ذلك، لصدّقت مقولة عمر زمرة المنافقين وكان مجالاً للطعن في شخصه الكريم. لذلك طردهم وقال: (قوموا عني).
وإنّ ما ذكره من وصاياه الّتي خص بها الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، تثبت أنّ عليّاً وصيّ رسول الله(ص)، فكيف يزعم قومه عن عائشة بأنّ النبيّ مات ولم يوص، ثمّ هي القائلة: «متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري»(93). والآن فقد استبان أنّ عليّاً أوصى إليه رسول الله(ص)!!
وبعد هذا أوليس ابن عباس كان على حق في قوله: «الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده»؛ أفهل كان على شبهةٍ أم كان على يقينٍ؟
• الخامس عشر: اللاهوري:
هذا هو الملا يعقوب اللاهوري أحد شراح صحيح البخاري واسم كتابه (الخير الجاري في شرح صحيح البخاري)، فقد قال فيه في كتاب العلم باب كتابة العلم:
لا شك في أنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم رأى المصلحة في كتابة الكتاب، بدليل قوله (ع): (لن تضلوا بعدي).
ولا شك أيضاً: أنّ عمر نهى الأصحاب عن إحضار الدواة والكتف.
ولا شك أيضاً: أنّ أهل البيت ألحّوا على إحضارها، وطال النزاع بين الفريقين حتى أخرجهم النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم جميعاً.
وهذا القدر ممّا يتبادر إلى الذهن من نص الحديث، ولا يرتاب فيه أحد(94).

مع اللاهوري:
وليس من تعليق على ما لا شك فيه، غير أنا نقف عند قوله: «أخرجهم جميعاً» كيف يصح ذلك، وكتب الحديث والتاريخ والسيرة تقول: انّ الّذين طردهم رسول الله(ص) هم الّذين تخلّفوا عن امتثال أمره وتنازعوا مع أهل البيت في ذلك، أمّا أهل البيت فلم يخرج منهم أحد، وبقوا عنده، ومنهم الّذي قال له بعد خروج أولئك الّذين لم يستجيبوا لرسول الله(ص): «ألا نأتيك بما طلبت؟» فقال: (لا، أو بَعدَ الّذي قال قائلهم)؟!
وفي بعض المصادر أنّ القائل كان هو عمه العباس: «ألا نأتيك بالذي طلبت وإن رغمت فيه معاطس».
وإلى هنا نطوي كشحاً عن استعراض ما قاله علماء التبرير فهم
عمريون أكثر من عمر !
لقد أوردنا نماذج من أقوال علماء التبرير، فوجدناهم في اندفاعهم يركبون الصعب والذلول، ويقولون المقبول وغير المقبول، بل وحتى غير المعقول، في سبيل تبرئة عمر من معرّة كلمته الجافية النابية، والّتي لم يتبرأ هو منها، ولكن القوم على مقولة: «ملكيون أكثر من الملك». فعمر قال كلمته دون استعمال تورية أو كناية. بملء فيه، متحدياً شعور النبيّ (ص)، ومشاعر الشرعية النبوية الّتي تؤيدها رسالة السماء.
ولنقرأ ثانيةً بعض ما قاله في روايته لحديث الرزية، وقد مرّ في الصورة الرابعة: قال: «لمّا مرض النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال: (إئتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي)، فكرهنا ذلك أشد الكراهية...».
لماذا يا أبا حفص كرهتم ذلك أشد الكراهية؟! ولا عليك من الإجابة، فان علماء التبرير مستعدون للدفاع عنك، ولو كان ذلك على حساب قدسية الرسالة، وقد مرّت بنا نماذج من أقوالهم فليرجع القارئ إليها.
وعمر يقول لابن عباس بعد لأيٍّ من الزمن: «ولقد أرادَ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أن يصرّح باسمه ـ يعني عليّاً ـ فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام»(95).
وعلماء التبرير يقولون في تبريرهم: ربّما أراد أن يكتب شيئاً من الأحكام، أو أن يكتب خلافة أبي بكر من بعده لا كما يقول الرافضة؟ فليرجع القارئ ثانية إلى أقوالهم.
وعمر يقول أيضاً لابن عباس في كلام بينهما في شأن عليّ: «إن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله؟! أو كلّ ما أراد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان»(96).
وعلماء التبرير يقولون: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنّه توهم الغلط على رسول الله... كما قال ذلك الخطابي وأضرابه.
وعمر يقول ثالثة لابن عباس: «لقد كان من رسول الله(ص) ذرواً من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً»(97).
وعلماء التبرير يقولون: كان ذلك من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، كما مرّ عن النووي.
ورابعة عمر يقول لابن عباس في كلام في شأن عليّ أيضاً: «أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر»(98).
وعلماء التبرير يقولون: ومهما كانت كلمته فلا يظن به ذلك. كما مرّ عن ابن الأثير.
وعمر يقول خامسة لابن عباس في كلام في شأن عليّ أيضاً: «أوّل من راثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة»(99).
وعلماء التبرير يقولون: فإن عمر اشتبه عليه هل كان قول النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من شدة المرض فشك في ذلك فقال: (ما له أهجر؟)، كما مرّ عن ابن تيمية.
وبالتالي يقولون: وإنمّا قصده التخفيف عن النبيّ (ص). كما مرّ عن البيهقي.
ويقولون: كان ما اختاره عمر صواباً، كما مرّ عن العيني.
وهكذا ظهرت كوامن نفوسهم على ألسنتهم فخطوها بأقلامهم، وبانت عمرّيتهم أكثر من عمر. إنّ ذلك لعجيب.
وأعجب من ذلك كلّه ، ما سال به قلم العقاد في عبقرياته من مكابراته ، ولابدّ من المرور به ولنقرأ ما يقول، فإنّه جاوز القوم في عمريته ، وأتى بالعجاب في عبقريته!!
مع العقّاد ونظراته:
قال في عبقرية محمّد (ص):
«يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبيّ (ع)، لنعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب، ونُكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب، ونلتمس لها العذر الّذي يجمل بامرأة أحبّها محمّد ذلك الحب وأعزها ذلك الإعزاز.
فقد قيل في الخلافة بعد النبيّ كثير: قيل فيها ما يخطر على بال الأكثرين، وما يخطر على بال الأقلين، وما ليس يخطر على بال أحد إلاّ أن يجمَحَ به التعنّت والاعتساف أغرب جماح. قيل: إنّ وصول الخلافة إلى أبي بكر إنّما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها؟
وقيل: انّه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه، بما كان لهما من الحظوة عند رسول الله، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين: أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح، وهم الّذين أسرعوا – من المهاجرين ـ إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.
وقيل: انّ هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحداً بعد واحد: أبوبكر فعمر فأبو عبيدة. ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حياً لعهدت إليه لأنّه أمين هذه الأمة. كما قال فيه رسول الله؟ وهذا زعم روّجه بعض المستشرقين ولقي بين القراء الأوربيين كثيراً من القبـول، لأنّه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والائتمار»(100).
وقال في عبقرية عمر:
«ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس الّتي تدعم علم الأخلاق من الأساس، وهي ذلك الصرح الشامخ الّذي ننظر إلى أساسه فكأننا تسلقنا النظر إلى ذروته العليا، لأنّه قرّب بين الآمال والقواعد أوجز تقريب، إذ هو التقريب الملموس»(101).
وقال بعد ذكره ما صدر من عمر في صلح الحديبية: «هذه المراجعة كانت من خلائق عمر الّتي لا يحيد عنها ولا يأباها النبيّ (ع) (؟) وكثيراً ما جاراه واستحبّ ما أشار به وعارض فيه (؟).
فلا جرم يراجع النبيّ في كلّ عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار. اللّهم إلاّ أن تستعصي المراجعة ويعظم الخطر، فهناك تأتي الخليقة العمرية بآية الآيات من الاستقلال والحب والحزم الّذي يضطلع بجلائل المهمات. فلمّا دخل النبيّ (ع) في غمرة الموت ودعا بطرس يملي على المسلمين كتاباً يسترشدون به بعده، أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير (؟) وقال: انّ النبيّ غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، ومال النبيّ إلى رأيه (؟) فلم يَعد إلى طلب الطرس وإملاء الكتاب، ولو قد علم النبيّ أنّ الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذٍ أوّل المجيبين»(102).
وقال في عبقرية الإمام عليّ (ع):
«وربما كانت أصح العلاقات المعقولة لأنها وحدها العلاقة الممكنة المأمونة، وكلّ ما عداها فهو بعيد من الأمكان بُعده من الأمان.
فهو يحبّه ويمهّد له وينظر إلى غده، ويسرّه أن يحبّه الناس كما أحبّه، وأن يحين الحين الّذي يكلون فيه أمورهم إليه..
وكلّ ما عدا ذلك، فليس بالممكن وليس بالمعقول..
ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة.
وليس بالممكن أن يحبهما له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة..
وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه، فليس بالممكن أن يرى ذلك ثمّ لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع.
وإذا كان قد جهر به، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره إنّهم لا يريدون ذلك مخلصين، وإنّهم إن أرادوه لا يستطيعونه بين جماعة المسلمين، وإنّهم إن استطاعوه لا يخفى شأنه ببرهان مبين، ولو بعد حين.. فكلّ أولئك ليس بالممكن وليس بالمعقول..
وإنّما الممكن والمعقول هو الّذي كان، وهو الحب والإيثار، والتمهيد لأوانه، حتى يقبله المسلمون ويتهيأ له الزمان»(103).
هذا ما تفتقت عنه عبقرية العقاد، ولا نطيل عند أقواله. ولكن لنا أن نسأل منه. ونحن أيضاً نكبر فيه ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب. حين حاول جاهداً دفع معرّة النشاط المحموم الّذي كان من عائشة في تهيئة الأجواء لأبيها وصاحبيه، فدفع ذلك بالصدر دون حجة، بينما هي الّتي تقول كما رواه مسلم في الصحيح واحتج به ابن تيمية ـ كما مرّ ـ وقد سئلت عمن كان يستخلف النبيّ (ص) لو استخلف فسمت أباها ثمّ عمر ثمّ أبا عبيدة بن الجراح ثمّ انتهت إلى هذا. فلماذا جعل هذا زعماً روّجه بعض المستشرقين؟
وأين هم من عائشة ومعنى ما رواه مسلم عنها، ومن أين لها علم ذلك إن لم يكن ثمة تدبير وتمهيد، وتواطؤ وائتمار؟!
ثمّ الّذي قاله في عبقرية عمر من أنّ نفس عمر هي تلك النفس الّتي تدعم الأخلاق من الأساس وهي ذلك الصرح الشامخ... كيف يتم له صدق ذلك وهو الّذي يقول بعد هذا ـ في مراجعة عمر للنبيّ (ص) في صلح الحديبية -: «انّها كانت من خلائق عمر الّتي لا محيد عنها ولا يأباها النبيّ؟ وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه (؟) ».
أليس هذا من زخرف القول؟ فهذه كتب السيرة والتاريخ تذكر انّ عمر كان فظاً غليظاً ولا يهمنا ذلك بمقدار ما يهمنا تنبيه القارئ إلى انّ هذه نفس عمر الّتي كانت تدعم علم الأخلاق من الأساس كما يقول العقاد.
ثمّ ليت العقاد تروّى قليلاً ولم يرسل القول على عواهنه، وراجع الكلمة قبل أن يكتبها.
فقوله: «وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه»؟ لماذا لم يوثق دعواه بشاهد صدق واحد من ذلك الكثير الّذي زعمه. وأين كان ذلك المستحب من مشورته الّذي جاراه فيه النبيّ (ص).
وما أدري هل أنّ ما كان من إعراض النبيّ (ص) عن أبي بكر وعن عمر حين شاور الناس في يوم بدر فتكلما فأعرض عنهما، كان ذلك من شواهد الكثير الّذي زعمه(104)؟
وما أدري لماذا تغيّر وجه رسول الله(ص) حين قال أبو بكر وحين قال في أناس من قريش: «إنهم جيرانك وحلفاؤك... الخ»(105) فهل هذا من شواهد ذلك الكثير الّذي زعمه!
وما أدري لماذا قال (ص) بعد الّذي مرّ: (يا معشر قريش والله ليبعثنّ الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين أو يضرب بعضكم)، فقال أبو بكر: «أنا هو يا رسول الله؟» قال: (لا)، قال عمر: «أنا هو يا رسول الله؟» قال: (لا، ولكن ذلك الّذي يخصف النعل)ـ وكان أعطى عليّاً (ع) نعلاً يخصفها(106). وهل هذا من شواهد ذلك الكثير الّذي زعمه، ثمّ إنّ قوله أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير وقال إنّ النبيّ غلبه الوجع... الخ.
كيف يكون قد أشفق من المراجعة، وهو الّذي صدّه عن الكتابة وشاق الكلمة وشطر الحاضرين إلى فريقين فريق معه وفريق عليه، حتى وقع النزاع والخصومة فطردهم النبيّ (ص) وقال: (قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع)؟ فهل هذا كان من الإشفاق؟ أو هو من تعلان الشقاق؟
ثمّ يقول العقاد من دون استحياء: «ولو قد علم النبيّ انّ الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذٍ أوّل المجيبين»؟
يا لله أهكذا تقلب الحقائق ويتلاعب بالعقول؟
أمّا ما قاله في عبقرية الإمام فقد أتى فيه بالمغالطة الفاضحة حيث أنكر النص وتنكّر لجميع ما قاله النبيّ في حقّ الإمام عليّ (ع)، مصحراً وجهراً بالقولُ، بدءاً من يوم حديث الإنذار: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(107) ومروراً بيومي المؤاخاة ويوم المناجاة بالطائف وأيام براءة وحجة الوداع والغدير كلّ ذلك لم ير العقاد فيها نصاً بل هو إلماح وتأهيل للمستقبل وأقصى ما تدل على الحب والإيثار والتمهيد لأوانه(!) وخل عنك كلّ ذلك ولكن هلمّ فاسأل العقاد عن حديث الكتف والدواة فيم كان التنازع بين الصحابة فمنهم من قال القول ما قال النبيّ، ومنهم من قال القول ما قال عمر؟

* هوامش البحث *
(1) النور /51.
(2) النساء /46.
(3) فتح الباري 1/219 ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1378 هـ.
(4) شرح صحيح مسلم للنووي 11/91 ط مصطفى الحلبي.
(5) فتح الباري 9/198- 199.
(6) النجم /3.
(7) النجم /4.
(8) الكهف /110، فصلت /41.
(9) الأعراف /203.
(10) الإحكام في اُصول الأحكام 7/122 ط السعادة بمصر.
(11) الفِصَل 4/108.
(12) جوامع السيرة /263.
(13) دلائل النبوة 7/181- 182 ط بيروت بتحقيق د عبد المعطي قلعجي.
(14) المائدة /67.
(15) دلائل النبوة 7 /183.
(16) السنن الكبرى 3/435 ط بيروت سنة 1411هـ.
(17) نفس المصدر.
(18) أنظر صحيح البخاري /6 و 9.
(19) أنظر الصورة الحادية عشرة من صور الحديث.
(20) أُنظر كتابه الإحكام 7/119 ـ 120.
(21) شرح صحيح مسلم 11/91، فتح الباري 9/198، المواهب اللدنية 2/367، عمدة القارئ 2/171.
(22) أُنظر كتابه هداية الباري 1/8.
(23) المائدة /67.
(24) المائدة /3.
(25) أُنظر الشفاء 2/185 ـ 186 ط اسلامبول سنة 1304هـ.
(26) نهاية الإرب 18/373 ـ 378.
(27) أُنظر فتح الباري الجزء التاسع.
(28) جاء في سر العالمين للغزالي /9 ط بومبي الهند عليّ الحجر سنة 1314: «إن الرجل ليهجر».
(29) المقراة: كل ما أجتمع الماء فيه ـ القاموس.
(30) سنن الدارقطني 1/26.
(31) محمّد /4.
(32) النهاية في غريب الحديث والأثر 4/255 ط الاُولى مطبعة الخيرية بمصر سنة 1322 هـ (مادة هجر).
(33) الأنعام /38.
(34) المائدة /3.
(35) شرح صحيح مسلم للنووي 11/90 ط مصر.
(36) الإسراء /47.
(37) الإسراء /101.
(38) الشعراء /153.
(39) الشعراء /185.
(40) بدائع الفوائد 2/223.
(41) البقرة /286.
(42) روى ابن سعد قول عمر عن سعد بن أبي وقاص بلفظ آخر: ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثمّ يقول عندك قد جاءتك معضلة ثمّ لا يجاوز قوله وان حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار (طبقات ابن سعد 2 ق2 / 122)، وراجع فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1913.
(43) طبقات ابن سعد (الطبقة الخامسة) 1/141 تحـ السُلمي، وسير أعلام النبلاء 3/246 ط مؤسسة الرسالة، وفضائل الصحابة 2/681 ط مؤسسة الرسالة.
(44) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1893 ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1403.
(45) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/982 برقم 1942 ط مؤسسة الرسالة.
(46) الأعراف /179.
(47) عبس /26 ـ 31.
(48) أنظر مسند عمر /87، مستدرك الحاكم 1/438 وصححه، سنن البيهقي 4/313، تفسير ابن كثير 4/533، تفسير السيوطي 6/374، فتح الباري 4/211.
(49) العقد الفريد 3/416.
(50) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 1/61، ونور الأبصار للشبلنجي /79.
(51) الرياض النضرة 2/196.
(52) نور الأبصار /65.
(53) الرياض النضرة 2/57.
(54) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/277.
(55) تفسير الكشاف 2/445.
(56) في شرح الموطأ للزرقاني 2/194 ما لفظه: وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال: تعلم عمر في أثنتي عشرة سنة فلمّا ختمها نحر جزوراً.
جاء في ربيع الأبرار 2/77 ط الأوقاف ببغداد: حفظ عمر سورة البقرة فنحر وأطعم.
(57) هذا ما أخرجه عنه أصحاب الصحاح والسنن كمسلم في صحيحه 1/242، وأبي داود في سننه 2/280، ومالك في الموطأ 1/147، وابن ماجة في سننه 1/188، والترمذي في صحيحه 1/106، والنسائي في سننه 3/184، والبيهقي في سننه 3/294.
(58) كنز العمال 2/215 ط حيدر آباد (ثمانية)، ومفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنّة للسيوطي 1/46 ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ط الثالثة، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي 2/194 ط مكتبة المعارف بالرياض.
(59) مسند أحمد 1/190و 195.
(60) السنن الكبرى 2/332.
(61) منهاج السنّة 3/134 ـ 135 ط أفست بولاق سنة 1322هـ.
(62) كشف الخفاء للعجلوني 1/466 و 2/153و 155 ط مؤسسة الرسالة بيروت.
(63) سنن سعيد بن منصور 1/195 ط دار العصيمي بالرياض، وكتاب الزهد لابن أبي عاصم 1/114 ط دار الريان للتراث بالقاهرة.
(64) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/97 و 114 ط الأولى بمصر.
(65) أنظر الملل والنحل للشهرستاني 1/23 ط الثانية سنة 1395 هـ.
(66) الحديد /7.
(67) الاعتصام 3/12.
(68) الحديد /7.
(69) فتح الباري 1/219.
(70) نفس المصدر 9/197.
(71) النجم /3.
(72) صحيح البخاري 1 /30.
(73) نفس المصدر 7/120.
(74) نفس المصدر 9/111.
(75) إرشاد الساري 1/207.
(76) نفس المصدر 5/169.
(77) نفس المصدر 8/355.
(78) نفس المصدر 1/207.
(79) نفس المصدر 6/463.
(80) نفس المصدر 8/355.
(81) نفس المصدر 6/462 ـ 463.
(82) إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم 4/352.
(83) نفس المصدر 4/353.
(84) نفس المصدر 4/357 في أدنى الصفحات.
(85) مكمل إكمال الإكمال 4/353.
(86) النحل /43.
(87) عمدة القاري 2/172.
(88) عمدة القاري 2/171 دار إحياء التراث بيروت.
(89) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/97 ط الاُولى بمصر.
(90) شرح تراجم أبواب صحيح البخاري للدهلوي /14، ط حيدر اباد.
(91) النساء /59.
(92) الأنفال /24.
(93) أنظر صحيح البخاري (كتاب الوصايا باب الوصايا) 4/3.
(94) نقلا عن تشييد المطاعن /411 ط الهند.
(95) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 3/97 ط الأولى.
(96) نفس المصدر 3/114 ط الأولى.
(97) نفس المصدر 3/97 ط الأولى.
(98) أنظر محاضرات الراغب 2/213 ط مصر الأولى.
(99) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 4/497.
(100) موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية (العبقريات الإسلامية) /180.
(101) نفس المصدر /438.
(102) نفس المصدر /444.
(103) نفس المصدر /795.
(104) أنظر مسند أحمد 3/ 219 و 257.
(105) نفس المصدر 1/155.
(106) أنظر الخصائص للنسائي /11.
(107) الشعراء /214.