الباحث : ولفرد مادلونج / عرض ونقد: السيد هاشم الميلاني
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 1
السنة : السنة الاولى - شعبان 1435هـ / 2014م
تاريخ إضافة البحث : April / 10 / 2017
عدد زيارات البحث : 802
يُعدّ مادلونج من أكبر المستشرقين المعاصرين، وله مساهمات علمية كثيرة في دراسة الفكر الإسلامي عموماً والشيعي خصوصاً، وتخرَّج على يده كثير من المستشرقين.
ولد مادلونج عام 1930م في مدينة شتوتغارت الألمانية ودرس المقدمات هناك، ثم انتقل مع أسرته بعد الحرب العالمية الثانية إلى أمريكا وأكمل دراسته في جامعة جورج تاون، وبعدها في عام 1951م ذهب إلى مصر ودرس في جامعة القاهرة لمدة ثلاث سنوات وتخرّج منها في مادة الأدب العربي والتاريخ الإسلامي، وكان تلميذاً للعالم المصري محمد كامل حسين، وأخذ شهادة الدكتوراه عام 1957م من جامعة هامبورغ الألمانية.
كان مادلونج لفترة قصيرة (1958ــ1960) مدير الملحقية الثقافية الألمانية في بغداد. واستمر في عطائه العلمي في جامعات مختلفة إلى أن أخذ تقاعده وأصبح عضواً في مؤسسة الدراسات الاسماعيلية بلندن عام 1999م وإلى يومنا هذا.
آثاره: تأليف أو تصحيح أكثر من 15 كتاباً، 60 دراسة في مجلات مختلفة، 130 دراسة أيضاً في دوائر المعارف المختلفة، 160 نقداً لدراسات الآخرين فيما يخص التاريخ الإسلامي(1).
***
تمهيد:
يهدف المؤلّف الى دراسة جذور الخلافة الإسلامية منذ نشأتها الأولى بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقسيم المسلمين الى شيعة وسنـة ، ويـذهب الى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينصّ على أحد بالخلافة، لكنه وبالاستناد إلى آيات قرآنية كثيرة يستنتج أنّ المفهوم من هذه الآيات الدالّة على توارث النبوّة والخلافة في الأنبياء السابقين، لزوم تولّي عليّ للخلافة،ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يمهله الأجل لإعلان ذلك، وعليه يخالف الرأي السائد عند المستشرقين من أنّ انتخاب أبي بكر للخلافة كان هو الانتخاب الطبيعي للمسلمين.
ثم يسلّط الضوء في عدّة فصول على حياة كلّ خليفة، وينتهي الى تأسيس الملوكية الجائرة من قبل معاوية، ويُلحق في نهاية الكتاب مجموعة ملاحق تخصّ التاريخ الإسلامي في الصدر الأول، من قبيل دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإرثه، ومسألة أولاد وأزواج الإمام الحسن (عليه السلام) ، وكذلك عثمان، وغيرها من الملاحق المفيدة.
ونحن هنا نسلّط الضوء على أبرز أفكار المؤلّف في كتابه القيّم هذا، مع الإشارة إلى بعض الثغرات الموجودة وإبداء الملاحظات المطلوبة.
مقدمة المؤلف:
يفتتح المؤلّف كتابه بقوله: «لم يحدث في تاريخ الإسلام خلاف أعمق وأبقى من مسألة خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث أصبح حق استخلاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واستلام زمام أمور الأمة بعد رحيله، واحداً من أهم المسائل الدينية التي سبّبت افتراق المسلمين إلى شيعة وسنة حتى يومنا الحاضر..
إنّ مسألة الحق والباطل كانت من الأمور التي سكنت في خلد المسلمين منذ قرون، فكان أبو بكر ـ أي الخليفة الأول ـ عند أهل السنة، هو الخليفة الحق؛ لأنّه أفضل الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو وإن لم ينصبه بالصراحة خليفة له، ولكن انتخابه لإمامة الصلاة في آخر مرضٍ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يدلّ على أولويته، مضافاً إلى أنّ إجماع المسلمين عليه كان كاشفاً عن رضى الله تعالى بذلك.
ولكن عند الشيعة فإنّ عليّاً (عليه السلام) ـ ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصهره ـ هو المعيّن للخلافة من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقرابته ولسوابقه في الإسلام، وعليه فإنّ أبا بكر غصب حقّه مستعيناً بأكثر الصحابة.
ورغم خطورة هذا الخلاف في تاريخ الإسلام، نرى قلّة من اهتمّ من المؤرخين المعاصرين بدراسته كمّاً وكيفاً، ودراسة الملابسات التي حدثت حوله، ويبدو ابتناء عدم الاهتمام هذا على أساس النظرية القائلة بأنّ الخلاف بين الشيعة والسنة وإن كان مداره الخلافة، لكنّه أمر طرأ فيما بعد، وهذا ما يُؤَيّد من قبل المؤرّخين المغرضين القدامى من أهل السنة أمثال سيف بن عمر (ت 180)، حيث روى أنّ علياً بعد ما علم بانتخاب أبي بكر (خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً كراهية أن يبطئ عنها حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه، فتخلّله ولزم مجلسه)(2).
وكان هذا إلى أن أظهر عبد الله بن سبأ ـ اليهودي الذي أسلم وكان من أهل صنعـا ـ الخلاف على عثمان ـ الخليفة الثالث ــ، وبعد مقتلـه أشاع عقائـد غاليـة في علي (عليه السلام) ، بأنّ لكل نبي وصياً، وأنّ علياً وصي محمد.
وهكذا أصبح ابن سبأ مؤسّس تشيعٍ يرى أنّ علياً هو الخليفة الحق للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لسوابقه وفضائله.
ثم إنّ عدد المؤرّخين المعاصرين الذين اعتقدوا بأسطورة سيف بن عمر في عبدالله بن سبأ وإن كان قليلاً للغاية، ولكـن باتت نظرية : (كـون خلافة أبي بكر لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عدا محاولة بعض أنصار المدينة للوصول الى الخلافة ـ لم تكن بذاتها مورداً للاختلاف، وكون هذا الخلاف ظهر من قبل الشيعة بعد مقتل علي (عليه السلام) ومن دون أن يكون راضياً بذلك في حياته)، مورداً لقبول الجميع.
فإذا كان المسلمون على نسق واحد حتى خلافة عثمان، وكان الخلاف بين السنة والشيعة قد ظهر بعد خلافة علي (عليه السلام) ، فيبدو حينئذٍ أن لا داعي للاهتمام بعمق الحوادث ودراسة مسألة الاستخلاف وتأسيس الخلافة»(3).
ثم يشير المؤلّف الى نظريّتين متخالفتين عند المستشرقين، الأولى نظرية لامنس في دراسته بعنوان: (مثلث القوة: أبو بكر، عمر وأبو عبيدة) حيث يذهب الى أنّ ما تمّ تمهيده من قبلهم في زمن حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيما من خلال عائشة وحفصة، أقدرهم على تسلّم الخلافة فيما بعده وإقصاء بني هاشم، وهو وإن لم يتطرّق الى وجود مؤامرة، ولكنّه يشير إليها من طرف خفي.
والنظريّة الثانية نظريّة كايتاني المطروحة في موسوعته تاريخ الإسلام، حيث ذهب الى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو كان مستخلفاً لاستخلف أبا بكر، وأنّ انتخاب أبي بكر للخلافة كان الانتخاب الطبيعي للمسلمين، وأنّ خلاف بني هاشم له كان ناتجاً من حب الجاه والحقد.
ثم إنّ مادلونج بعد ما يذكر أنّ هذه النظريّة أصبحت هي المتداولة عند أكثر المستشرقين، يتساءل ويقول: «وهنا ربما يتساءل بصير ثاقب النظر ويقول: هل أنّ مسألة الخلافة كانت بهذه السذاجة؟!»(4).
ثم يشير إلى عرف العرب آنذاك من اعتماد مبدأ الوراثة السببية في تصدّي رئاسة القبيلة، ويعترف بأنّ مسألة خلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن تقاس بخلافة سلطان أو رئيس قبيلة، ولكن مع هذا وبالاستناد الى القرآن وما ورد في قصص الأنبياء السلف واهتمامهم بعشيرتهم وآلهم وتوريث الحكم والنبوة بينهم، وكذلك ما ورد من الاهتمام بقربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يتوقّف عن قبول هذا الرأي السائد عند المستشرقين ويقول: «لذا وفي الوهلة الأولى لنا دليل معتنى به يوجب التردّد في صحّة النظريّة المشتركة بين المستشرقين بالنسبة الى خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يدعونا الى أن نلقي نظرة جديدة الى المصادر لمعرفة صحتها أو سقمها، يلزم علينا في البداية مراجعة القرآن لمعرفة رأي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الخلافة بشكل عام، ومعرفة رأي أصحابه حول الخطوط العريضة الاحتمالية لهداية الأمّة.
إنّ القرآن لم يكن فيه أي تنبّؤ أو حتى إشارة لمسألة خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولذا فإنّ المؤرّخين من غير المسلمين غضّوا طرفهم عنه في هذه المسألة تقريباً، ولكن هذا القرآن يشتمل على أوامر خاصة في حفظ أواصر القرابة والوراثة، وفيه قصص وحكايات عن خلافة الأنبياء السلف وأسرتهم، أمور لم تكن بمعزل عن مسألة خلافة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)»(5).
◘ أقول: اتبع المؤلّف هنا النظريّة السائدة عند أهل السنة في عدم دلالة القرآن على مسألة الإمامة، ولذا نفى وجود حتى إشارات قرآنية عليها.
ولكن نحن الشيعة نستند في مسألة الإمامة وخلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقل والقرآن والسنة. صحيح أنّ القرآن لم يقل أنّ علياً (عليه السلام) هو خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المنصوص عليه، كما لم يرد فيه أيضاً كثير من التفاصيل والجزئيات المهمّة الأخرى، بل اكتفى بالاشارات والاجمال.
يلزم على المؤلّف لمعرفة رأي القرآن حول الإمامة، أن يقف أولاً على لغة الخطاب القرآني من حيث الاجمال والتفصيل والايجاز والاطناب، ثم يحكم بأنّ القرآن لم يتطرّق الى مسألة الخلافة لا من قريب ولا من بعيد.
كيف وقد استدلّت الشيعة ـ وبالاعتماد على المصادر والأسانيد الموثوقة في شأن النزول ـ بعشرات الآيات الدالّة على إمامة علي (عليه السلام) أو المؤوّلة فيه، ويكفينا قوله تعالى: (يا أَيـُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(المائدة:67)، النازلة في الأمر بتبليغ إمامة علي (عليه السلام) في حجة الوداع، وعندما تم التبليغ في غدير خم نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) (المائدة:3).
وليس هنا مجال سرد عشرات المصادر عند الشيعة والسنة الدالّة على نزول الآيتين بشأن أمر الإمامة، وهو أمر متروك الى مظانّه، ولكن المتوقّع من المؤلّف المحترم الذي ينتهج المنهج الأكاديمي في دراسته وأبحاثه ـ والذي يعتمد على دراسة ومتابعة الجزئيات وإعطائها الأهميّة القصوى في التحليل والفحص، إذ ربما تكون صحيحة وقد غُيِّبَت آنذاك لمصالح وظروف خفيت علينا ـ أن يلقي نظرة جادة إلى هذه التفاصيل الكثيرة الموجودة في كتب الفريقين، ويتعرّف على المنهج الصحيح في فهم القرآن بالرجوع الى الروايات الصحيحة والمتواترة المفسّرة له.
حقوق القرابة وأسرة الأنبياء في القرآن:
يضع المؤلّف هذا العنوان ويسرد تحته أوّلاً اهتمام القرآن بحفظ أواصر العلاقة مع القرابة ولزوم الإحسان إليهم، كما في قوله تعالى: (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:215) وسرد آيات أخر بنفس المضمون يستنتج منها أنّ تقدّم ذكر اسمهم على سائر الأسماء يعني تقدّم حقّهم ولزوم الاهتمام بهم أكثر من الغير.
ثم في المرحلة الثانية يذكر بعض الآيات حول قربى الأنبياء والتوارث المعنوي والمادي الموجود بينهم، حيث أنّ الأنبياء كانوا في الواقع من سلالة واحدة: (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَـمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران:33ــ34)، وكما في آية أخرى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْـمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسَـى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّـبُوَّةَ)(الأنعام:84ــ89).
ثم يستشهد بدعاء إبراهيم (عليه السلام) أن يجعل الله تعالى عهد الإمامة في ذريته في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، حيث تدلّ على وصول العهد إلى العدول من ذرّيته.
وهكذا يسرد المؤلّف ما ورد في قصص الأنبياء (عليهم السلام) ودور ذريتهم في الدفاع عنهم وخلافتهم.
ثم في المرحلة الثالثة يصل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: «وللتشابه الموجود في القرآن بين منزلة أولاد الأنبياء وذريتهم وبين منزلة ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يلزم أن يكون قد أولى مقاماً ومنزلة رفيعة لذريته»(6).
ثم يستشهد بعدة آيات لإثبات مدعاه، منها آية المودة وآية التطهير وآية المباهلة.
وبالنسبة إلى آية التطهير: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33)، يتساءل المؤلّف عن المراد من أهل البيت في الآية، ويذكر أنّ تغيير الضمير من المؤنّث الى المذكّر ولّد روايات متعدّدة بالنّسبة الى أهل الكساء، ثم يقول: «وبقطع النظر عن رأي الشيعة الواضح في معناها، فإنّ الطبري(7) يؤيّد تفسيرهم نقلاً عن أكثر الرواة»(8).
ثم يقول: «من المستبعد جداً كون هذا المقطع وحياً مستقلاً اُلحق بالآية فيما بعد، كما أشارت إليه الروايات.... المراد من أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما هو المتعارف من استعمالها آنذاك ـ هم قرباه في النسب أولاً من قبيل بني هاشم الذين حرمت عليهم الصدقة حفاظاً على طهارة منزلتهم، وأزواجه ثانياً»(9).
◘ أقول: أولاً إن استبعاده نزول ذيل الآية منفصلاً؛ لم يستند إلى دليل بل هو مجرد استبعاد لا يمتّ إلى الواقع بصلة، رغم اعترافه بورود روايات تؤيّد استقلاليتها، وقد ذكر أيضاً أنّ الطبري يؤيّد تفسير الشيعة، فهو يترك الدليل المعتمد ويتمسّك بمجرد الاستبعاد.
فلو أردنا الأخذ بكلامه لزم حصر معنى الآية بالأزواج رغم تذكير الضمير، لأنّ السياق يقتضي ذلك، ويلزم منه التناقض في الآية، لأنّ الحصر والتأكيد في إرادة التطهير وإذهاب الرجس يقتضي عدم صدور المخالفة المستقبلية عنهنّ، وهذا لا يمكن إثباته بأيّ وجه من الوجوه، فقد صدرت مخالفات من بعض نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، مضافاً إلى وجود آيات أخر تدلّ على إيذاء بعضهنّ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكذلك ما ورد من تضاعف السيئة منهنّ، كلّها تدلّ على عدم استمرار الطهارة المطلوبة الواردة في الآية، وعليه يبقى تفسير الشيعة سليماً واستدلالهم في لزوم عصمة المشار إليهم في الآية صحيحاً.
ثانياً: ما ذهب إليه من شمول أهل البيت للأزواج أيضاً غير صحيح، وذلك أنّ للألفاظ معاني لغوية ومعاني اصطلاحية أو شرعية، كما هو الحال في كلمة الصلاة والزكاة والحج، حيث تمّ التأسيس الشرعي لها لمعانٍ مختلفة عن معناها اللغوي، والحال هنا كذلك أيضاً، حيث أنّ جملة أهل البيت في الاستعمال اللغوي تشمل الأولاد والأزواج وكل من يمتّ إلى رب البيت بصلة سبباً أو نسباً أو بالتبنّي أو الرقّيّة وما شاكل، غير أنّ معناها الاصطلاحي أو الشرعي بخصوص آية التطهير يختلف تماماً عن مرادها اللفظي، وكأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أسّس لها معنى شرعياً بخصوص أهل الكساء (عليهم السلام) كما ورد في صحاح الأخبار، وكما اعترف المؤلّف بها أيضاً.
فلا وجه حينئذٍ لخلط المنهج، فهو إمّا أن يعتمد الروايات الصحيحة في شأن النزول وحصر معاني الآيات في موردها وتخصيص عمومها اللغوي، أو لا يعتمد من الأساس، أمّا التلوّن وتغيير المنهج بحسب المذاق والأهواء والاستبعادات، فهو أمر غير صحيح ومنهج غير علمي.
ونحن إذ نقول هذا لا ندّعي أنّ كلّ جملة وردت في القرآن حول أهل البيت فهي تعني الأولاد أو الذرية خاصّة، كي لا يُنتقض علينا بقوله تعالى لزوجة إبراهيم: (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود:73) إذ أنّها استعملت بمعناها اللغوي لتشمل الزوجة، ولكن ما نحن بصدده من قوله تعالى في آية التطهير: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33) يختلف عن هذا تماماً لاستعمالها بالمعنى الاصطلاحي الذي أسّسه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل الكساء في روايات صحيحة من قوله: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»(10).
ثم بعد ما يسرد المؤلّف هذه الآيات يستنتج أنّ القرآن قد رفع منزلة قربى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما هو الحال في ذرية سائر الأنبياء ـ على منزلة كل المؤمنين وطهّرهم تطهيراً، ثم يقول ابتناء على مجموع هذه الآيات:
«ما يدلّ عليه القرآن من نوعية أفكار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يتضح أنّه لم يرد أن يكون أبو بكر هو خليفته الطبيعي بل لم يرتض بذلك، نعم إنّ القرآن لم يبيّن بوضوح رؤية محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى الرجال والنساء الذين كانوا حوله، ولكن على أية حال فإنّه لم ير خليفته إلاّعلى ضوء هدي القرآن الذي تمّ بيانه بالنسبة إلى الأنبياء السلف، كما وفّق في إبلاغ رسالته رغم عداء الناس له، وكما تحقّق نجاحه وفوزه في ظل اللطف الإلهي، وعلى ضوء علمه بقصص الأنبياء السلف الذين حكى قصصهم القرآن، كان الأنبياء السلف يرون أنّ من كمال اللطف الإلهي بالنسبة لهم، أن يجعل خلفاءهم من ذرّيتهم وقرابتهم نسباً، وكانوا يطلبون ذلك من الله.
ولكن المدافعون المعاصرون من أهل السنة يرفضون هذا الكلام استناداً إلى الآية:40 من سورة الأحزاب، والتي تنصّ على أنّ محمداً خاتم الأنبياء، ويذهبون إلى عدم لزوم استخلاف شخص من ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي أصبح خاتم الأنبياء، ولذا قد قدّر الله إماتة جميع أولاده الذكور في صباهم(11)، لذا لم ينصب محمد خليفة لما بعده، لأنّه كان يريد ترك أمر الخلافة إلى الناس بالاعتماد على أصل الشورى القرآني.
وفي الواقع فإنّ هذا الفهم بعيد جداً عن حاقّ عبارة (خاتم الأنبياء)، لأنّنا حتى لو فسّرناها بمعنى آخر الأنبياء، لا يوجد فيها دليل على عدم تمكّن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من انتخاب خليفة من ذرّيّته لقيادة أمور الأمة الإسلامية الدينية ـ عدا مرتبة النبوة ـ والدنيوية. فالقرآن يدلّ على أنّ أولاد وقربى الأنبياء في النسب يرثون منهم الملك والحكم والحكمة والكتاب والإمامة، ثمّ إنّ استنباط أهل السنة من مسألة الخلافة، كونها خلافة النبي في جميع الأمور سوى أمر النبوة. وعليه فلم لا يستلم الخلافة واحد من قرباه على غرار الأنبياء السلف؟! فلو كانت إرادة الله توجب حقيقةً عدم استخلاف أيٍّ منهم، فلِمَ لم يقدّر إماتة أسباطه وسائر قرباه كما أمات ولده؟!
وعليه يوجد مجال واسع للشك فيما يقال من أنّ محمداً ترك الاستخلاف لأنّ إرادة الله استقرّت على نفي وراثة الخلافة في نسبه، وكان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد التزام الناس بالشورى في نصب الخليفة.
إنّ القرآن يوصي المؤمنين بإرجاع بعض أمورهم إلى التشاور، ولكن في غير مسألة الاستخلاف، فإنّ هذا الأمر يتمّ تعيينه بالاختيار الإلهي بنص القرآن، حيث أنّ الله كان عادة يختار الخلفاء من ذوي قربى الأنبياء، سواء كان المنتخبون أنبياء أو غير أنبياء.
وعليه فلماذا قصّر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لتنظيم برنامج صحيح لخلافته، حتى لو افترضنا أنّه كان يطمع أن يكون خليفته من عشيرته؟! أيّ جواب لهذا السؤال ربما يكون ناشئاً من الحدس والتخمين، نعم ربما يجاب في إحدى الوجوه البسيطة أنّه كان بانتظار الوحي الإلهي لتفعيل هذا الأمر الخطير، ولكن لم يوح إليه هكذا وحي.
ربما يميل المؤرّخون من غير المسلمين إلى القول بأنّ تردّد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ناشئاً من علمه بحدوث مشاكل كثيرة لخليفته فيما لو كان من بني هاشم، نظراً للتنافس الممتد بين قبائل قريش حول الرئاسة والزعامة.
إنّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل علياً (عليه السلام) في السنة العاشرة من الهجرة إلى اليمن نيابة عنه، وقد شكاه بعض عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنوع تعامله معهم، وبعد مرجعه رأى محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقبل ثلاثة أشهر من رحيله ـ أن يدعم جانب ابن عمه في اجتماع عظيم عقده آنذاك، ويظهر أنّ الوقت كان غير مناسب لاستخلافه، ويحتمل أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمل أن يمتدّ عمره إلى أن ينصب واحداً من أسباطه، ولذا أخّر آنذاك الاستخلاف.
كانت وفاة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً غير متوقّع بين أمّته رغم مرضه الشديد، ولعلّه أيضاً لم يتوقّع دنوّ رحيله، فذهبت الفرصة عليه لتعيين الخليفة»(12).
◘ أقول: رغم نقاط القوة الموجودة في كلام المؤلّف، ولكن لنا ملاحظات حول بعض فقرات كلامه نوردها فيما يلي:
1ــ ما ذهب إليه من تقصير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عدم تنظيم برنامج للخلافة، غير تامّ إذ أنّ المتابع لسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ البداية وحتى النهاية، يرى خارطة الطريق التي رسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والبرنامج الذي نظّمه لما بعده، حيث انّه في البداية تكفّل تربية علي (عليه السلام) تربية إلهية، فكان يصطحبه معه إلى مواطن العبادة وإلى غار حراء ليشهد نور الوحي، كما قال (عليه السلام): «وقد علمتم موضعي من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه.. ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته. إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير»(13).
ثم ما حدث يوم الدار بعد البعثة ونزول قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) حيث جعله وزيراً ووارثاً ووصياً وخليفةً، ثم في مناسبات أخر دلّ على فضله ومنزلته وسابقته وأولويته إلى أن انتهى إلى واقعة الغدير، وهي خاتمة الأدلّة والنصّ الصريح. فكيف يقال بعد هذا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصّر في تنظيم برنامج لما بعده؟!
2 ـ إنّ قوله في الإجابة عن تساؤله عن تقصير رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وحاشاه ـ من أنّ «أيّ جواب لهذا السؤال ربما يكون ناشئاً من الحدس والتخمين» غير تامّ أيضاً، إذ مع وجود الأدلّة الكثيرة التي تقيمها الشيعة وتستدلّ بها على مدعاها، كيف تكون النتيجة حدسية ومشكوكة؟!
3 ـ إنّ مدّعاه في عدم نزول وحيٍ حول الخلافة محلّ إشكال، إذ أنّ آيتي التبليغ والإكمال كانتا بخصوص أمر الخلافة، وهذا أمر متسالم عليه عند الشيعة طبقاً لما صحّ عندهم عن أئمتهم (عليهم السلام)، ومؤيّد بما ورد في بعض مصادر أهل السنة أيضاً.
4ــ ما سرده من إرسال علي (عليه السلام) إلى اليمن في السنة العاشرة وحديث الشكوى، وتجييره حادثة الغدير العظمى لصالح هذه القضية أي شكوى الجيش عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفوة علي (عليه السلام) ، ثم نصرة النبي لعليّ والدفاع عنه يوم الغدير، وإعلان لزوم محبته ونصرته في حديث الغدير، مغالطة واضحة، وقد وقع في فخّها المؤلّف تبعاً لما يردّده إخواننا أهل السنة فراراً من مدلول حديث الغدير الحقيقي في إمامة علي (عليه السلام) وخلافته.
ونقول للمؤلّف الكريم ولغيره من قرّائنا الكرام: إنّ حديث شكوى الجيش من علي (عليه السلام) لا علاقة له بحديث الغدير لا من قريب ولا من بعيد، ولعلّ من أقدم من تعرّض لهذه الشبهة وروّج لها أبو الهذيل العلاّف (ت226 أو235) عن بعض العلماء، قال القاضي عبد الجبار: (وذكر ـ أي أبو الهذيل ـ أنّ بعض العلماء حمله على أنّ قوماً نقموا على عليّ بعض أموره وظهرت معاداتهم وقولهم فيه، فأخبر (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يدلّ على منزلته وولايته دافعاً لهم عمّا خاف فيه الفتنة) (14).
ثم جاء بعده البيهقي (ت:458هــ) وأوضح هذا الإجمال، ونسب ذلك إلى ما حصل باليمن حيث قال: (إنّه لمّا بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأظهروا بغضه، فأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر اختصاصه به ومحبته إيّاه، ويحثّهم على محبته وموالاته وترك معاداته) (15).
وقبل الإجابة عن هذه الشبهة نورد نصوص الشكوى:
1 ـ الجند. 2 ـ بريدة. لأنّها أساس الشبهة، ثم نتكلّم عن أصل الشبهة.
قال ابن كثير فيما خصّصه لواقعة الغدير: (قال محمد بن إسحاق في سياق حجة الوداع: حدّثني عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، قال: لمّا أقبل عليّ من اليمن ليلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، تعجّل إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسى كلّ رجل من القوم حلّة من البز الذي كان مع عليّ، فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انزع قبل أن ينتهي به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال: فانتزع الحُلل من الناس فردّها في البزّ، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن إسحاق: فحدّثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عُجرة، عن عمته زينب بن كعب، وكانت عند أبي سعيد الخدري، عن أبي سعيد، قال: اشتكى الناس علياً فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فينا خطيباً، فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا علياً، فوالله إنّه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله من أن يُشكى.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا الفضل بن دكين، ثنا ابن أبي غنية، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلمّا قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرت علياً فتنقّصته، فرأيت وجه رسول الله يتغيّر، فقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه)(16).
وفي مسند أحمد عن ابن بريدة عن أبيه قال: بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سرية، قال: لما قدمنا قال: كيف رأيتم صحابة صاحبكم؟ قال: فإما شكوته أو شكاه غيري قال: فرفعت رأسي وكنت رجلاً مكباباً قال: فإذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد احمرّ وجهه قال وهو يقول: من كنت وليه فعلي وليه(17).
وفي رواية أخرى عن عبد الله بن بريدة عن أبيه يسرد قصة الوصيفة التي أصابها علي (عليه السلام) ثم ذهابه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مشتكياً فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أتبغض علياً؟ قال: قلت: نعم، قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة(18).
وفي رواية أخرى تدلّ على نفس الواقعة بشكل تفصيلي أكثر، وفيها: لا تقع في علي فإنّه منّي وأنا منه، وهو وليكم بعدي(19).
هذا أساس الواقعتين، وجميع الروايات الواردة تدور نفس المدار، مع بعض الاختلاف من حيث التفصيل والإجمال، وإذا عرفت هذا فنقول في الجواب:
أوّلاً: ما رواه ابن كثير عن ابن إسحاق عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة في إقبال علي (عليه السلام) من اليمن وإسراعه الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم إنزاع الحلل وشكوى الجيش، مرسل إذ أنّ يزيد بن طلحة توفي عام 105 في بداية ولاية هشام بن عبد الملك(20)، فمن أين علم كل هذه التفاصيل وأنّ الجيش شكوا ذلك و... مع الفجوة الزمنية الكبيرة الموجودة؟! وعلى فرض الصحة فالرواية ساكتة عن ردة فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمامهم، فلماذا التقوّل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وخلط الأوراق، واحتساب هذا على ذاك؟! وهو القائل: «من يقل عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» (21).
مضافاً إلى أنّ الرواية عند الحافظ البيهقي ـ التي رواها عنه ابن كثير ـ تدلّ على أنّ الجيش قدّم شكواه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة بعد رجوعه من حجة الوداع(22) ـ إذ أنّهم لم يدركوا حجة الوداع ولم يأتوا إلى مكة ـ وعليه انهار بنيانهم من الأساس، إذ لا ربط لشكوى الجيش بواقعة الغدير.
ثانياً: الرواية الثانية المروية عن إسحاق عن أبي سعيد الخدري، لا علاقة لها بواقعة الغدير لا من قريب ولا من بعيد، بل تدلّ على قضية في واقعة انتهت بوصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النـاس بعـدم الشكايـة من علي (عليه السلام) ، فإيرادها ضمن روايات الغـديـر لا معنى له سوى محاولة حشد الروايات لخلط الأوراق وتقليب الأمور، ولو سلّمنا وتنزّلنا أنّ هذا كان في واقعة الغدير، فهو لنا لا علينا، إذ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أجاب المشتكين بقوله ذلك، فلا علاقة لهذه الشكوى بحديث الغدير، بل كانت هناك شكوى من بعض الصحابة عن علي (عليه السلام) أدّوها أمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجابهم بما فيه الكفاية، ثم بعد هذا كانت واقعة الغدير لتنصيب الأمير للإمامة والخلافة.
ثالثاً: الرواية الثالثة التي رواها ابن كثير عن أحمد وفيها قضية بريدة، وأنّه تنقّص علياً أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ما ذكره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفس ألفاظ حديث الغدير، فهو إن صح تأييد لنا لا علينا، إذ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلّغ إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) لبريدة ـ لاقتضاء المقام ـ قبل أن يبلّغها لجميع الناس، وبيّن له أنّ علياً أولى بالتصرّف في الصدقات ـ إذ كانت الواقعة لأجل اصطفاء علي جارية لنفسه ـ لأنّه الإمام بعده والخليفة له والقائم مقامه، وذلك أنّ بريدة رأى من جهةٍ أنّ علياً اصطفى لنفسه الجارية وتصرّف في الخمس قبل استئذان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن جهةٍ ثانيةٍ رأى أنّه انتزع الحلي من الجيش واعترض عليهم بتصرّفهم في الغنائم قبل استئذان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأدّى هذا الى تساؤل في نفسه، كان جوابه أنّ علياً أولى بالتصرّف وحاله حال الرسول في ذلك بقوله لبريدة: «يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم». هذا على تسليم اتحاد الواقعتين وصحة الروايتين، إذ يُحتمل أنّ هذه الواقعة كانت في السفرة الأولى لعليّ (عليه السلام) إلى اليمن، لا التي تزامنت مع حجة الوداع. ولنا كلام يأتيك في النقطة التالية.
رابعاً: نعتقد أنّ علياً (عليه السلام) ذهب إلى اليمن لعدّة مرّات، وهذا ما نستفيده من سياق الروايات، فمثلاً تدلّ إحدى روايات ابن إسحاق المروية عن عمر بن شاس الأسلمي أنّه كان مع عليّ في اليمن حيث قال: «كنت مع عليّ في خيله التي بعثه فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن، فجفاني عليّ بعض الجفاء، فوجدت عليه من نفسي، فلما قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وعند من لقيتُه...» (23).
فهذه الواقعة غير واقعة بريدة حين ذهب مع خالد بن الوليد إلى اليمن، وغير الواقعة الأخرى التي ذكرها ابن إسحاق أيضاً من شكوى الجيش لمّا رجعوا من اليمن ووافوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة في حجة الوداع، ولذا قال ابن هشام (ت218) في السيرة: «وغزوة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه اليمن، غزاها مرتين»(24). بل أكثر من مرّتين فيما يبدو.
والذي أريد أن أصل إليه من خلال هذه الروايات المتضاربة، هو أنّ شكوى بريدة من عليّ (عليه السلام) لمّا كان مع خالد بن الوليد في اليمن لما أصاب عليّ الجارية، كانت قبل واقعة الغدير، وهي حادثة مستقلّة، ولمّا رأى بريدة ردّة فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمسك عن النكير وأصبح علي (عليه السلام) عنده من أحبّ الناس إليه، حيث قال: «فما كان أحد من الناس أحب إليّ من عليّ»(25).
ثم بعد هذا حضر بريدة حجة الوداع مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وشهد غدير خم وروى حديث الغدير حاله حال سائر من روى الحديث، وصادف هذا؛ شكوى الجيش الذي كان مع علي (عليه السلام) في اليمن في بعثة أخرى بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسمعوا أيضاً الجواب، ورأوا موقع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عليّ، وليس فيه ذكر لحديث الغدير ولا ألفاظه، فهنا حصل خلط ربما متعمّد بأغراض سياسية طائفية بين حديث شكوى بريدة الذي كان قبل حجة الوداع ـ كما في الإرشاد للمفيد: فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يعني بالمدينة(26) ـ وبين روايته لحديث الغدير الذي حضره وشهده، وعليه لا يدلّ هذا على ما ذهبوا إليه من أنّ سبب حديث الغدير هو شكوى بريدة من علي (عليه السلام) أو شكوى الجيش، ويبقى الحديث دالاً على الإمامة.
خامساً: إنّ القاضي عبد الجبار (ت415) الذي نقل هذه الشبهة عن أسلافه، ما ارتضاها هو كدليل على رد ما تدّعيه الشيعة، فلذا قال بعدما سرد مجموعة أسباب لصدور حديث الغدير: «والمعتمد في معنى الخبر على ما قدّمناه، لأنّ كلّ ذلك لو صحّ وكان الخبر خارجاً عليه، لم يمنع في التعلّق بظاهره وما يقتضيه، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه في أنّ وجه الاستدلال بالخبر لا يتغير»(27).
فهو بقوله: (لو صحّ) يغمز في صحة هذه الأخبار أوّلاً، وثانياً يرى أنّ ذكر الأسباب لا يغيّر من الاستدلال بالخبر على المدّعى.
سادساً: إنّ رواية شكوى الجيش وشكوى بريدة، ـ لو سلّمنا تزامنهما مع واقعة الغدير ـ تدلاّن على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عالج الموقف فوراً أمام المشتكين حيث نهى بريدة عن بغض عليّ (عليه السلام) وأمره بالالتزام به، وكذلك نهى الجيش عن الشكوى، وبهذا تمّت الشكوى وعلم المشتكي أنّه على خطأ وأنّ علياً (عليه السلام) على الحقّ، ثم بعد هذا حدثت واقعة الغدير، ولا علاقة ولا ترابط بين هذه الأحداث.
5 ـ أما ما ذكره المؤلّف أخيراً من عدم علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدنوّ أجله، فمردود أيضاً لما ورد في نصوص صحيحة وكثيرة تنبّؤه بدنوّ وفاته من قبيل قوله: «يوشك أن أدعى فأجيب» في نفس خطبة الغدير، أو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة: «إنّ جبرائيل كان يعارضني القرآن كل سنة مرّة، وأنّه عارضني العام مرّتين، ولا أراه إلا حضر أجلي»(28). فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم بدنوّ وفاته، وأعلن إمامة ابن عمّه ونصّ عليه من الله تعالى.
***
ثم إنّ المؤلّف اختتم المقدمة بباب عقده تحت عنوان: (شاهدان للواقعة: عائشة وعبد الله بن عباس) وقال: «في ضمن الروايات الموجودة حول الخلافة الأولى، تمتاز الروايات المنسوبة إلى عائشة بنت أبي بكر، وعبد الله بن عباس ابن عم محمد وعلي عليهما السلام بأهمية خاصة»(29).
وسبب هذه الأهمية أنّ كلاهما كان قريباً من الوقائع، وكان كلّ واحد منهما في الصف المقابل للآخر، وعليه يتردّد في قبول ما نسب إليهما حول الموضوع، لاعتقاده بأنّ كلاًّ منهما كان بإمكانه وضع رواية لصالحه وردّ الطرف الآخر، وهذا ما حصل بالفعل على حدّ زعم المؤلّف، حيث يستشهد لتأييد مدّعاه بعدّة شواهد، منها مسألة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجر عائشة حيث كانت تدّعي ذلك، ولكن ابن عباس كذّبها وروى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات في حجر علي (عليه السلام) (30)، ومنها أيضاً قضيّة الدواة والكتف اللذان طلبهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكتب للأمة ما يعصمها من الضلال، وكان يتأسّف ابن عباس من عدم كتابة هذا الكتاب ومن ممانعة المانعين، ولكن روت عائشة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرها أن تحضر كتاباً ليكتب فيه لزوم خلافة أبي بكر بعده، وأنّ الله والمؤمنين لا يرتضون سواه(31). ويذكر المؤلّف شواهد أخر لمدّعاه.
◘ أقول: نحن نؤيّد المؤلّف في اختلاق أخبار كثيرة لصالح هذا أو ذاك، سيّما الفترة التي مرّت بها السنة النبوية حيث مُنعت من التدوين، ولكن هذا لا يعني رمي الجميع بعصى واحدة وإن كانوا في صَفّين متقابلين، بل هناك مقاييس وشواهد وقرائن بإمكانها تأييد أحد الجانبين، سيما لو كان أحدهما ضعيفاً مقهوراً والآخر قوياً متغلّباً بيده المال والسوط، فهنا يكون الترجيح لقبول قول الضعيف، عدا سائر المرجّحات السندية والدلالية.
وعليه فلا وجه لتضعيف رواية ابن عباس بالنسبة إلى واقعة الدواة والكتف المؤلمة، وتصديق عائشة بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يكتب كتاباً باستخلاف أبي بكر، إذ أنّ هذا غير صحيح إطلاقاً، كيف ولم يستشهد به أبو بكر في أحرج الظروف وعند أمسّ الحاجة إليه، عند احتدام الصراع مع الأنصار حول الخلافة، ولا استشهد به أحدٌ من مؤيّديه.
ونحن لم نكن نتوقّع من المؤلّف الكريم هذه السذاجة، وجعل رواية عائشة الموضوعة عليها؛ بإزاء رواية ابن عباس الصحيحة.
* هوامش البحث *
(*) ملاحظة: تم الاعتماد في الترجمة العربية على النسخة الفارسية المترجمة والمطبوعة من قبل مركز دراسات العتبة الرضوية المقدسة. وأضفنا ألفاظ الصلاة والتسليم على النبي وآله.
(1) مقتبس من مقدمة الناشر للكتاب.
(2) تاريخ الطبري: 3/447.
(3) خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 27 ـ 28.
(4) خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 31.
(5) م.ن: 32 ـ 33.
(6) خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 41.
(7) تفسير الطبري: 22/5 – 7.
(8) م.ن: 43.
(9) م.ن: 43 ـ 44.
(10) مسند أحمد ج:4 ص:107، ج:6 ص:292، سنن الترمذي ج:5 ص:30 ح:3258، ج:5 ص:328 ح:3875، ج:5 ص:361 ح:3963، وقال: حديث حسن صحيح، المستدرك للحاكم ج:2 ص:416 وصححه على شرط البخاري ومسلم، السنة لابن أبي عاصم ص:589 ح:1351، الخصائص للنسائي ص:49، وغيرها.
(11) انظر: جولد تسيهر، دراسات إسلامية ج:2 ص:105ــ106، فريدمن، (الخاتمية عند أهل السنة) الدراسات العربية الإسلامية ج:7 ص:177ــ215.
(12) خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 45 ـ 48.
(13) نهج البلاغة، الخطبة:192، القاصعة.
(14) المغني، كتاب الإمامة ج:1 ص:153.
(15) الاعتقاد للبيهقي ص:416، ونحوه البداية والنهاية لابن كثير ج:5 ص:228، والتحفة الاثني عشرية للدهلوي ص:421، وأصول مذهب الشيعة للقفاري ج:2 ص:312، وغيرها من كتب أهل السنة.
(16) البداية والنهاية لابن كثير ج:5 ص:228و229.
(17) مسند أحمد ج:5 ص:350، ونحوه ج:5 ص:35، 361.
(18) م ن ج:5 ص:350، ونحوه ج:5 ص:359.
(19) م ن ج:5 ص:356.
(20) راجع تعجيل المنفعة لابن حجر ص:451.
(21) صحيح البخاري ج:1 ص:35.
(22) البداية والنهاية لابن كثير ج:7 ص:332 وفيه: «فلما فرغ علي وانصرف من اليمن راجعاً، أمر علينا إنسانا فأسرع هو فأدرك الحج، فلما قضى حجته قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ارجع الى أصحابك (ثم يذكر رجوع علي (عليه السلام) وغضبه على الجيش ونزع الحلل الى أن يقول أبو سعيد سعد بن مالك: ) فقلت: أما إنّ لله علي إن قدمت المدينة وغدوت الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأذكرنّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأخبرنّه ما لقينا من الغلظة والتضييق، قال: فلما قدمنا المدينة...». ولم يغمز ابن كثير في سنده، بل روى له شواهد ومؤيدات.
(23) البداية والنهاية لابن كثير ج:7 ص:333.
(24) السيرة النبوية لابن هشام ج:4 ص:290.
(25) مسند أحمد ج:5 ص:351.
(26) الإرشاد للمفيد ج:1 ص:160.
(27) المغني، كتاب الإمامة ج:1 ص:154.
(28) صحيح البخاري ج:4 ص:183 باب علامات النبوة.
(29) خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 49.
(30) خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 55.
(31) م.ن : 55 ـ 56.
* مصادر البحث *
1 ـ معالم التنزيل، البغوي، تحقيق: خالد عبدالرحمن، دار المعرفة ـ بيروت.
2 ـ صحيح البخاري، طبع عام 1401هـ، دار الفكر.
3 ـ صحيح مسلم، دار الفكر ـ بيروت.
4 ـ فتح الباري، ابن حجر، دار المعرفة، بيروت.
5 ـ تاريخ الطبري، محمد بن جرير، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
6 ـ السيرة النبوية، ابن هاشم، الطبعة الثالثة 1431هـ، دار صادر ـ بيروت.
7 ـ البداية والنهاية، ابن كثير، الطبعة الأولى 1408هـ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
8 ـ الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار صادر، بيروت.
9 ـ الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الدينوري، تحقيق طه محمد الزيني، مؤسسة الحلبي وشركائه.
10 ـ الكامل في التاريخ، ابن الأثير، طبع عام 1386هـ، دار صادر، بيروت.
11 ـ نهج البلاغة، الشريف الرضي، تحقيق هاشم الميلاني، العتبة العلوية المقدسة.
12 ـ المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، تحقيق يوسف المرعشلي.
13 ـ خلافة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولفرد مادلنج، الآستانة الرضوية المقدسة، إيران.