العدد 36

العدد 36

محتويات العدد 

■ افتتاحية العدد:  الفطرة الإنسانيّة و المعرفة الدينيّة

د.  عمار عبد الرزاق الصغير

■ التفكّر والمعرفة الحقّة قلب الإيمان وعقله

الشيخ حسن الهادي

■ برهان الصدِّيقين وإثباته للمبدأ الأول (دراسة تحليلية نقدية للتقريرات المتعددة لبرهان الصديقين)

الشيخ محمد الخالدي      

■ الإحبـاط : دراسة كلاميّة (الحلقة الثانية)

الشیخ روح الله فروغي

 الدراسات والتحقيق

■ تخرّصات الإلحاد الأنثروبولوجي عند لودفيج فويرباخ (مقاربة نقدية لتأليه الإنسان في الفكر الغربي في القرن التاسع عشر)

د. غيضان السيد علي

■ تنزيه الذات الإلهيّة عن التركيب (دراسة مقارنة بين المسيحية والإسلام)

الشيخ د. محمد السوداني

■ صناعة الآلهة (المكانة الدينيّة للمجتمع عند دوركهايم) 

الشيخ علاء السعيدي 

 

افتتاحية العدد 

الفِطْرَةُ الإنسانيّة والمعرِفَةُ الدينيّة

مدخل معرفي

لازمَ التفكيرُ بوجود القوى الغيبيّة المهيمنة على الوجود مدركاتِ الفكر الإنساني؛ إذ كان التفكير في وجود الإله هاجسَ الإنسان منذ فجر نشأته، فقد دفعه نزوعه الفطريّ إلى المعرفة للبحث عنه، بغضّ النظر عن طبيعة المنهج الذي اتّبعه، وغايته ونتيجته، أهو استدلالٌ للإيمان أم حجةٌ للإنكار.

ويدفع حبُّ المعرفة الإنسانَ للتعرّف على الكون، وأسراره ومبتدئه وعِلَلِهِ وعلاقاته ومجمل نظامه، بوصفها أسئلةً تلحّ على العقل البشري- بما له من قدرةٍ على معرفة الحقائق وتبيينها وتوصيفها [1] - وتحفزّه نحو اكتشاف طبيعة انتظام الكون؛ سعيًا وراء اكتشاف اليد المدبّرة له، ومعرفة صفاتها، وقدراتها.

ولعلَّ الدافع إلى ذلك هو الميل الفطريُّ الكامن في الإنسان نحو الإيمان؛ إذ تهديه فطرته، وتُنشئ فيه استعدادًا ذاتيًا لبلوغ السبيل القويم الذي يرى فيه نجاتَه في الدنيا، ويطمئنّ به إلى خلاصه وحُسنِ مصيره في العالم الآخر، ذلك العالم الذي شكّل – منذ وجود الإنسان – الهاجسَ الأكثر إقلاقًا لعقله ووجدانه [2].

كما أنّ للعقل دورًا في سبل الهداية ودفع الشكّ المطلق العبثي، وإنكار وجود الله. فلا تكفي الاستعدادات الفطريّة لتكوين الهداية دون أن يكون الإنسان قد سلك إليها طريقها القويم. وهنا يتآزر عاملان في صيرورة الإيمان، النفسي الحضوري، والذهني الحصولي.

ومهما تصفّحنا أطواء التاريخ البشري، وتأمّلنا مسيرته في تجريب المناهج والأساليب لتجديد الحياة وتنظيمها، وتحديث أنماط التفاعل الإنساني وسط ما شهده من تغيّراتٍ وتحولاتٍ عميقة، يبقى الدين والإيمان حاضرين حضورًا كثيفًا وفاعلًا في إدارة الحياة وتوجيه وعي الإنسان «هذا القدم في الوجود، وهذه الأصالة كاشفة ولا شك عن أنّ (التديّن) والدين يعدّ من العناصر التي تؤلِّف ذات الإنسان، وتعد من غرائزه الأصيلة وحاجاته الروحية والنفسية التي كانت لا تزال معه، بحيث لم تتسلل إليها يد التغيير والتبديل» [3]. ومهما تعدّد الاعتقاد فمعظمه اختلافٌ في كيفيّة الاعتقاد بالله، وليس في أصله والشكّ فيه [4].

إنَّ هذا القدرَ الذي تُنشئه الفطرة في الإنسان هو في جوهره نزوعٌ ذاتيٌّ نحو معرفة الله، فيتحرّى السبل الموصلة لمعرفته، والذهن البشري على الرغم من قصوره ومحدوديته وقابليته للخطأ؛ بل وعجزه عن إدراك المعرفة التامة بسبب ما يعتريه من ملوّثاتٍ إدراكية، فإنّ  الله هيّأ له وسائطَ المعرفة الاكتسابيّة كالوحي، والأنبياء، والعلماء؛ لإيقاظ شعوره الديني عبر معرفة كليّات الحقائق العلميّة والموجودات الغيبيّة، ومن ثم التدرج في المعرفة، والتنامي في إدراك الحقائق، لكنها تبقى معرفة «محدودة، وتتناسب مع مستوى المدركات العقليّة لكلّ إنسانٍ‌، وكما يقول علماء الفلسفة فالعلم المعلول لعلّته هو علمٌ ناقصٌ ومحدودٌ، ونتيجة ذلك أنّ الإنسان بصفته مخلوقًا من قبل الله تعالى ومعلولًا له فهو ذو علمٍ ناقصٍ ومحدود» [5].

يكشف البيان المتقدم أنّ الفطرة الكامنة في أعماق الإنسان هي مَعينٌ صافٍ يُلهمه إدراك الحقيقة، ويحثّه على السعي إليها، وهي مُعينةٌ للهداية القوليّة والدليل الاحتجاجي الذي أقامه الأنبياء والرسل في مهمتهم ووظيفتهم، «والهداية التي هي نوع إيذانٍ وإعلامٍ منه تعالى للإنسان هدايةٌ فطريّةٌ هي تنبيهٌ بسبب نوع خلقته، وما جُهّز به وجوده بإلهامٍ من الله سبحانه على حقّ الاعتقاد وصالح العمل قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)[6] وأوسع مدلولًا منه قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [7]. وهداية قوليّة من طريق الدعوة يبعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع الإلهيّة، ولم يزل التدبير الربوبي يدعم الحياة الإنسانية بالدعوة الدينية القائم بها أنبياؤه ورسله، ويؤيّد بذلك دعوة الفطرة كما قال: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه[8]) إلى أنْ قال: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[9]» [10].

ولا ينافي أن يكون للإنسان فطرةٌ تكوينيّةٌ تهديه، فلا تكون قاهرةً لإرادته، سالبةً لاختياره في الإيمان وعدمه والطاعة وعدمها؛ لأنّ الفعل يصدر من الإنسان بالاختيار وإنْ كان متعلّقًا للقدر بوصف التقدير واقعًا على الأفعال الإنسانيّة من طريق اختياره[11].

وهنا نستظهر بأنّ الطريق الأقرب للمعرفة الإنسانيّة بالله والمشترك بين البشر هو الآثار الإلهيّة والآيات الأنفسيّة والآفاقيّة (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[12] بمستوى قابلياته الإدراكيّة وتحليله العقلي، ممّا يتيح له المعرفة الإجمالية بالله تعالى؛ لاستحالة معرفة تمام الذات الإلهيّة نفسها، نظرًا لمحدوديّة العقل وضعفه، ولعدم تناهي الذات الإلهيّة وسعتها المطلقة، فلا يحيط المحدود باللامحدود (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [13]، «فكلّما خطونا خطوةً إلى الأمام يتعمّق الاعتراف بالجهل أكثر فأكثر» [14].

مع أنّ علماء الكلام لا يرون ضرورة للاعتقاد بالله أن تقام عليه البراهين العقليّة والحجج الفلسفيّة وأدلّتها؛ لأنّ الإدراك الفطري- وفقًا للعلم الحضوري أو الحصولي- قادرٌ على تحقيق المساحة الكافية للإيمان المطلوب بلا براهين ذهنيّةٍ ونظريّةٍ معقّدةٍ مطولّة، «إنّ معرفة الله لا تحتاج إلى أدلّةٍ وبراهين معقّدة؛ لذلك لم يخرج القرآن عن حدود البساطة في تقديم الأدلّة على وجود الله ومعرفته، فيدعو الإنسان نحو التجلّيات الفطريّة الواضحة، ويبيّن ذلك (في مواطن عدّة)، ثم يدعوه إلى الاستجابة والاهتمام بهذه التجلّيات ونتائجها الضروريّة غير القابلة للإنكار» [15]. نعم وظيفة ردّ الشبهات وخلق الإقناع تحتاج إلى عقلنة الأدلة والبراهين. أمّا من حيث أصل الإيمان فالأدلة ستكون توضيحيّةً أو توقظ الوجدان وتحرّك ذاكرة الإنسان به.

وقد تمسّك الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) بفطريّة الإيمان بوجود الله، كما نجد في الدعاء المنقول عن الإمام الحسين (عليه السلام): «كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ  فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟! أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ‌؛ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟! مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟! ومَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟!»[16].

المقاربات المعرفيّة للفطرة دلاليًّا وكلاميًّا

تدلّ مادة (فَطْر) في أصلها اللغويّ على فتح شيءٍ وشقّه وإبرازه [17]. والفِطْرةُ في دلالاتها اللغويّة الكليّة تعني: الابتداء والاختراع [18]، ويقاربها في الدلالة اللغويّة مفردة (النشأة)، وأنشأ الله الخلق أي: ابتدأ خلقهم [19] وأحدثهم، ومن ذلك قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ..... )[20]، فتكون الصلة بين الفطرة والنشأة هي: الإحداث والإبداع؛ إذ إنّه تعالى أنشأهم وأبدعهم من العدم.

وإذا أضفنا الهيأة التكوينيّة التي أوجد الله بها الخلق سيظهر مصطلحٌ مقاربٌ لهما وهو الجبلة، «أي خليقته التي خلق عليها»[21]، وطبيعته المودعة في أصل الخلقة.

وفي إجمالي المقاربات الدلاليّة نستظهر أنّ الفطرة هي الاستعداد التكويني المودع في بنية الإنسان وحقيقته، الكامن في خصائص خلقته - جبلته وطبيعته وهيأته - التي خلق الله عليها الخلق [22]، مثل بعض الميول النفسيّة والماديّة والغرائز، وحبّ الأمان والسلامة، ومنها الميل للإقرار بمعرفة الله والإيمان به [23].

وما زال البحث في تعيين الدلالة يثير القول بأنّ الفطرة (ميل) التساؤل في مهمتها الإيمانيّة لتبيان حقيقة هذا الميل هل هو ميلٌ نحو معرفة الله؟ أم معرفة الله هي أمرٌ فطريٌّ من قبيل العلم الحضوري؟ فعلى الثاني تكون معرفة وجود الله مستغنيةً عن الدليل الاكتسابي، وأيّ تصوّرٍ نحوه أو علم فهو غير قابلٍ للخطأ، وعلى الأول فلا غنى عن الدليل لإثبات وجوده بالعلم الحصولي مهما يكن مستوى الاستدلال وحجمه [24].

والقول بأنّها ميلٌ وشعورٌ لا ينبغي الاشتباه فيه بأنّها مصدرٌ للتجربة الدينية، أو تشكّل حقيقة الدين، ولا سيّما تلك التي قال بها سروش وأمثاله [25]، إذ بينهما فارقان جوهريان في حقيقة كلّ منهما ووظائفه وهما:

أولًا: أنّ الفطرة ليست مصدرًا للمعرفة مثل العقل والوحي، أو طريقًا مستقلًا له؛ بل ليست أمرًا معرفيًّا، ولا يفيد معرفة؛ وإنّما تبع العقل في العلم الحصولي والشهود في العلم الحضوري وتُعِينَهما في نتاجهما للمعرفة، ومن ثَمَّ هي تعمل على نوعي الإدراك الإنساني، وهذا الفارق جوهريٌّ بينها وبين الوحي النبوي الذي يعدّ مصدرًا للمعرفة الدينيّة في مهمته الحضوريّة والحصوليّة في تبليغ حقيقة الدين مع الأنبياء (عليهم السلام).

ثانيًا: مهما اختلفت أوجه التجربة الدينيّة، سواء كانت ميلًا نفسيًّا، أم مكاشفة، أم شعورًا بالتبعية، فإنّها لم تكن ملازمةً للإنسان منذ البداية، ولم تعينه تلقائيًا في تحديد اتجاهه ورؤيته؛ إذ التجربة الدينيّة تحصيلٌ لاحق، خلافًا للأمور الفطريّة. فقد أودع الله في بنية الإنسان منذ تكوينه وظهوره نزعات فطريّة، منها طلب اللذة ونظائرها، ومنها أيضًا الميل إلى معرفة الله، والبحث عنه، ومحبته وعبادته. وأيّ تفسيرٍ أو فهمٍ آخر للفطرة يخالف هذا الأصل يعني التخلّي عن حقيقتها الجوهريّة [26].

أطلق بعض المتكلّمين على حكم الفطرة تسمية العقل السليم أو الفطري، وعدّوه شرطًا من شروط التكليف، وبفضله توجّه للإنسان الخطاب الشرعي، وأنّه حجةٌ على سائر الحجج والإدراكات وبوساطته يحكم الإنسان بعد النظر في الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة بوجود خالقٍ مدبّر [27]. «وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كلّ فردٍ فرد من أبناء البشر، لهو أحد الأدلّة القاطعة على وجود الله، وهذا هو ما يسمّى بدليل الفطرة »[28].

الفطرة في النصوص الدينيّة

عنى المتكلمون بتأثير الفطرة لمعرفة الله بأنّ قلب الإنسان يعرف الله تعالى، وأنّ في عمق روحه توجد إمكانيّات وبذور المعرفة الشعورية بالله، التي تصلح للنمو والاشتداد [29] ففي الكافي قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «كلّ مولودٍ يولد على الفطرة، يعني المعرفة بأنّ الله (عز وجل) خالقه» [30]. أي على التوحيد والمعرفة المودعة في قلبه بالله.

وعن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) [31]؟ قال: «الحنيفيّة من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم على المعرفة به»[32].

وعن أبي جعفر(عليه السلام) في قول الله (عز وجل): (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)[33]، قال: «هو الإيمان، وقول الله (عز وجل): (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [34] قال: هو الإيمان» [35].

وقد سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجلّ): (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[36] فقال: «فثبتت المعرفة ونسوا الموقف، وسيذكرونه ولولا ذلك لم يدرِ أحدٌ من خالقه ورازقه» [37]. وروى عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سألته عن قول الله (عز وجل): (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [38] ما تلك الفطرة؟ قال: «هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: (ألست بربكم)، وفيه المؤمن والكافر » [39].

وعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله (عز وجل): (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [40]،  قال: «فطرهم جميعًا على التوحيد» [41]. «في هذه الآية لم تجعل مسألة معرفة الله والإيمان به فقط أمرًا فطريًا، بل وصف الدين بأُصوله (والتي تعني تلك الأُصول والكليات التي تؤلّف أساس الدين الإلهي) بكونه فطريًا جبليًا. ويشهد الواقع على ذلك إذ نرى أنّ كلّ التعاليم الّتي جاء بها الدين من عقيدة وعمل، تنطبق على مجموع الاحتياجات الفطريّة سواء بسواء» [42].

فالمعرفة التي تقودها الفطرة بالله هي «قدرة الإنسان على الاعتقاد بوجود الله تعالى اعتمادًا على مدركاته الفطرية من دون الحاجة إلى تعليمٍ وتربيةٍ‌، وهذا الاعتقاد يتحقّق تارةً عن طريق العلم الحضوري وتارةً أخرى بواسطة العلوم البديهية والحصولية» [43]، ولعلّ الملامح الأساسية لذلك نلمسها في قوله تعالى: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)[44]؛ «فقد أخذ الله على عاتقه التيسير، وكان على عاتق السالكين اختيار الطريق. فالأصل الأساسي هو أنّ الله ييسر الطريق. فإذا سلك سالكٌ طريق الخير سهّل الله له طريقه ووصوله إلى العاقبة اليسرى والمحمودة...(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[45]. أما غير المؤمن الذي فرض على نفسه طريق الباطل لظنّه أنّه طريقٌ يسيرٌ فلن يكون من نصيبه موفقية التذكر والذكرى... إنّ الله (عز وجل) يعتبر نفسه مذكّرًا، والقرآن ذكرًا، وإرشاداته تذكرة، ويعتبر هذا العمل سهلًا بمعونة الفطرة الإنسانية ويدعو الإنسان إلى هذا العمل اليسير» [46].

خصائص الفطرة الإنسانيّة

وما يميز المعرفة الفطريّة بالله تعالى مجموعةٌ من الخصائص:

أولًا: ثابتٌ مشتركٌ في عموم النوع الإنساني: فتتحقق في جميعه وتنطبق على أفراده وإنْ اختلفت شدةً وضعفًا، فهي مطردٌ طبعيّ يتخطّى الزمن والمكان، وتصنيف المجتمعات، عابرة للمذهبيّة والاتجاهات، وتعدّد الأديان، فجميع النوع يستشعر القدرة الغيبية وعظمتها في وجدانه.

ثانيًا: وجدانيتها في النوع الإنساني: فهي فاعلةٌ حتى لو لم يلتفت الإنسان إليها ليعلم أنّه عالمٌ بها، أو يقرّ ويصرح بذلك، فيستعين بها من غير توجّه، ويلجأ لها من دون التفات، فهي شعورٌ وجدانيّ جُبِل عليه الإنسان، فحصيلة هذا أنّ العلم الوجداني بوجود الله أمرٌ فطريّ.

ثالثًا: غنيةٌ عن التعليم والتحصيل والتعلم: فهي ليست من الأمور الاكتسابيّة.

رابعًا: لا تقبل التبديل والتحوّل، وإنْ كانت تشتدّ وتضعف: إذ يشتدّ وجه الفطرة ظهورًا في الشدائد، والحاجة الإنسانية، وانقطاع العلل المادية، حينما يتعلّق بالقدرة المنجية والأمل الخفي وإن لم يسمّها. فالأمل والرجاء موجودان في نفوس البشر، ومتعلّقهما الوجود اللامتناهي واللامحدود الذي يزداد بتعلقه كلما انفكّ عن المحدود؛ فيزدهر الأمل وهو أمرٌ فطريّ من غير توجّهٍ إليه والتفات [47].

وعلى هذا الأساس فإنّ لتلك الخصائص ملازماتٍ ونتائج يمكن بيانها بالآتي:

الأول: أنّ الفطرة طريقٌ لمعرفة الله والإيمان به؛ إذ تشكّل مقدّماتٍ بديهيّةً توصل الإنسان إلى النتيجة [48].

الثاني: أنّها لا تزول من النفس؛ لأنّها من الطبيعة التكوينيّة في خلق الإنسان.

الثالث: أنّ الضعف والشدة في الفطرة عائدان لتغيّر وتحوّل في جوهر هويّة الإنسان [49]، ونوعها، واهتماماته، ومقدار الانغماس في ملوثات عالم المادة، والتعلّق بأسبابه، وسوء البيئة الاجتماعيّة، وإهمال الاستجابة الطبيعية للروح في نزوحها إلى الفضيلة، والكمال، والحسن، والتقوى، والخير، واستقباح الشر، «وعلى هذا الأساس فإنّ فطرة الإنسان تميل إلى طلب الحقّ، وإنّ النزوع نحو الباطل إنّما يكون بتأثيرٍ من الظروف الطارئة والعارضة عليه. كما أنّ القرآن الكريم يعدّ الاتجاه نحو الحقّ هو الأصل في فطرة الإنسان، وأمّا الميل نحو أيّ نوعٍ من أنواع الباطل فيتمّ التعبير عنه بالانحراف عن الصراط المستقيم؛ بمعنى أنّ فطرة الإنسان تقع في المسار المستقيم، ويعمل الشيطان بإضلاله وإغوائه على حرف هذه الفطرة عن مسارها، وإنّ التعبير بالاستقامة والانحراف خيرُ شاهدٍ على فطريّة الدين لدى الإنسان»[50].

وقد تقدّم كلام العلّامة الطباطبائي بوجود هدايتين في الذات الإنسانية: فطرية وقولية، أبرز مميزاتهما والفرق بينهما هو « أنّ الهداية الفطريّة عامةٌ بالغةٌ لا يُستثنى منها إنسانٌ؛ لأنّها لازم الخلقة الإنسانيّة، وهي في الأفراد بالسويّة، غير أنّها ربما تضعف أو يلغو أثرها؛ لعوامل وأسبابٍ تشغل الإنسان وتصرفه عن التوجّه إلى ما يدعو إليه عقله، وتهديه إليه فطرته، أو ملكاتٍ وأحوالٍ رديئةٍ سيئةٍ تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد واللجاج وما يشبه ذلك، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ)[51]، والهداية المنفية في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله: (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ).

وأمّا الهداية القوليّة وهي التي تتضمنها الدعوة الدينيّة فإنّ من شأنها أن تبلغ المجتمع؛ فتكون في معرضٍ من عقول الجماعة، فيرجع إليها من آثر الحق على الباطل، وأمّا بلوغها لكلّ واحدٍ واحدٍ منهم فإنّ العلل والأسباب التي يتوسّل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف والأزمنة والبيئات من الاختلاف، وكيف يمكن لإنسانٍ أن يدعو كلّ إنسانٍ إلى ما يريد بنفسه، أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذر ذلك جدًّا. وإلى المعنى الأول أشار تعالى بقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [52]، وإلى الثاني بقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) [53]» [54].

الجذور النفسيّة لجوهر الفطرة

يرى المهتمون بتحليل الأبعاد النفسيّة للإنسان بأنّه يمتلك أبعادًا خمسةً في جوهر نفسه، تمثّل فطرته، وكلّ واحدٍ منها يمثّل مصدرًا دافعيًّا لآثار قيميّة وسلوكيّة، وهي:

البعد الأول: الفضول العلمي ودافعيّته نحو المعرفة.

البعد الثاني: صلته بالجمال ودافعيّته نحو الترقّي والكمال.

البعد الثالث: حبّ الخير والفضيلة ودافعيّته نحو القيم السامية.

البعد الرابع: العمل الصالح، واستقباحه الشرّ والفساد.

البعد الخامس: الشعور الديني بوجود قدرةٍ عظيمةٍ خلقت العالم، وتحكمه وتضع نظمه، وبيدها مجريات الأمور وتدبيرها[55].

وهذه الأبعاد المودعة في النفس تخلق فيها الحبّ والشوق والميل والاندفاع نحو آثارها، ويمكن القول إنّها بواعثُ فطريّةٌ جُبِل عليها الإنسان.

من هذا المعنى نفهم كون الدين أمرًا فطريًا؛ لأنّه محببٌ إلى جوهر النفس الإنسانيّة؛ فإنّ الميل للإيمان به سبحانه وتعالى عند الإنسان كسائر الغرائز والصفات المتأصلّة في النفس، وأعمقها أثرًا، فكما يحبّ الإنسان الخير فطريًّا أو يكره الشرّ كذلك، يحبّ أن يبحث عن الله ويؤمن به فطريًّا؛ إذ الميول الفطريّة لمعرفة الله سارية في النوع الإنساني كافة؛ فإنّ «ممّا يدلّ على فطريّة هذه الميول أنّنا لا نكاد نعثر على مجتمعٍ يخلو من آثار البحث عن الله تعالى على اختلاف هذه المجتمعات في أوضاعها وأحوالها، ولا نكاد نجد مجتمعًا يخلو أهله من حالة الخضوع والإكبار التي تعيشها تجاه ما يراه الله»[56].

وقد رتّب بعض الكلاميين برهانًا قياسيًّا في ميل النفس الفطري على وجود الله على النحو التالي:

١. ينجذب الإنسان ويتوق إلى الله (عَزَّ وَجَلَّ) بنحوٍ فطريّ‌.

٢. كلّ انجذابٍ فطريّ في الإنسان يمتلك متعلَّقًا معيّنًا له في الخارج. فلا ميل من دون متعلقٍ موجود.

3. إذًا متعلَّق الانجذاب الفطريّ الإنسانيّ إلى الله (عَزَّ وَجَلَّ) له وجودٌ في الخارج؛ وهذا المتعلَّق هو الله سُبحَانَهُ وَتعالى [57].

وإنْ كانت الفطرة مخبوءةً تحت ضغط الميل والرغبات والأهواء والآمال بيد أنّ لدى النفس الإنسانيّة الاستعداد الإمكاني لتمييز الخير عن الشر، فليست النفس شريرةً بطبيعتها، والذي يفلح هو الذي يتوجّه بها إلى الخير، يقول سبحانه: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [58]. لهذا تأتي الرسل فتبلّغ لترفع الموانع مثل الآثار الشيطانيّة (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ) [59]، وتعيد إحياء الميل والانجذاب في جوهر الإنسان نحو الكمال المطلق، وتبقي الإنسان في مسعى نحو الإيمان به وتوحيده، فعن أمير المؤمنين: «أولُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإخلاصُ لَهُ» [60].

هذا الوجدان الذي سعى الأنبياء(عليهم السلام) إلى إيقاظه وإحيائه بيّنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) [61]، وقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[62] يبين أنّ التذكرة تقيم الإنسان على الهدى والاستقامة، فالله عدّ رسالات الأنبياء تذكرةً لإحياء الميل إلى التوحيد(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[63]. ومعنى التذكرة في الآيات المتقدمة «أنّ في باطن كلّ إنسانٍ رؤيةً توحيديّةً وميلًا نحو الله الواحد. وكذلك يوجد في قرار كلّ البشر نزوعٌ إلى الخلود وتطلع إلى الحياة الخالدة. والنتيجة المهمة للوحي والنبوة هي أنّه: يطّلع الإنسان على ذخائره المكنونة، وثانيًا: يعيّن طريق الوصول إلى تلك الأهداف السامية والكمالات المطلقة» [64].

نعم ليس معنى فطريّة الإيمان بالله تعالى أن يكون الإنسان بالضرورة متوجّهًا إلى الله دائمًا ملتفتًا إليه في جميع حالاته، إذ ربّ عوامل تتسبّب في إخفاء هذا الإحساس في خبايا النفس، وتمنع وتحجب الفطرة عن اكتشاف وجود الخالق تعالى، وعندما يرتفع ذلك الحجاب، فإذا به يسمع نداء الفطرة.

ولا يعني هذا أنّ محبّته لشيءٍ عدم ميوله لنقيضه؛ فقد يميل إلى الشهوات عبر تأثير الحواس وميول الطبع المادي الذي يأنس بالمحسوسات( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ....) [65]، لكنّه يحب الفضيلة بفطرته ( حبّبَ إليكم الإيمانَ وزيّنَهُ في قلوبكم). إذ إنّ «هناك علاقة وجوديّة بين القلب والمعارف والعقائد الصحيحة، وهذه العلاقة الوجودية تسمى بالمحبة؛ لأنّها مقرونةٌ بالإدراك والشعور، فإذا اُنتزع الوعي من هذه الحركة، وطُرح فُقط أساس الميل إلى الكمال الحقيقي، ولم يكن للشعور والوعي اعتبارٌ في معنى المحبة، بأن قلنا إنّ المحبة لم يؤخذ في مفهومها قيد الشعور والإحساس إلى جانب الميل التكويني، فإنّ كلّ العالم حينئذٍ يتحرّك بالمحبة ويدار، ولكن إذا كان معنى المحبة هي العلاقة الواعية، فبما أنّ الإنسان موجود واعٍ وشاعر ومدرك، فإنّه يمتلك ميلًا وانجذابًا واعيًا نحو المعارف والفضائل، ويكون موجودًا محبًّا للكمال» [66].

والاستدلال بالفطرة أمرٌ وجدانيّ يغني عن المقدمات العقليّة المعقّدة، بوصف الفطرة دليلها معها؛ لأنّها كامنةٌ في النفس الإنسانية على نحو العلم الحضوري، مثلًا الرجاء والتعلّق في قدرةٍ فائقةٍ تتعلّق الآمال بها حين الحاجة، هذا الإحساس والميل لا يتطرّق إليه الخطأ والاشتباه؛ لأنّه لا يعتمد على مقدماتٍ تتعلّق النتائج بها- أي ليس كسبيًّا- بل هو شعورٌ أودعه تعالى في جوهر الإنسان ووجدانه [67]، وقد افصح الإمام الصادق(عليه السلام) عن ذلك بقوله: «فأمّا ما فُرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والتصديق والتسليم والعقد والرضا بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحدًا، صمدًا، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأنّ محمدًا(صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله» [68] . فللمعرفة الإيمانيّة درجات، ومنها القلبيّة.

وإذا ثبت لكلّ فرد نوعٌ من معرفة الله لا يحتاج معه إلى تعلّمٍ فهو معرفةٌ فطريّةٌ لا شعورية. إنّ التدين والميل إلى الله والدين من الخصائص النفسيّة للإنسان، تسمّى (الشعور الديني، أو العاطفة الدينيّة) [69]، فإنّ «الحاجة الفطريّة إلى الدين تختلف عن سائر الفطريات المودعة في النفس الإنسانيّة، وبخاصة تلك الغرائز التي توسم بأنّها طبيعيّةٌ أو حيوانيّة، وذلك أنّ الأخيرة تتفتح وحدها، وتدعو الإنسان إلى الاستجابة لها وإشباعها، وأمّا الغريزة الدينيّة إنْ صحّ التعبير فإنّها كثيرًا ما يُغفل عنها؛ ومن هنا أتى الأنبياء عبر التاريخ البشري ليذكّروا الإنسان بما نسي من فطرته، ويذكّروه بالميثاق المأخوذ منه يوم خُلق، ويدعوه إلى الإصغاء إلى نداء الوجدان والباطن» [70].

وهكذا يتبيَّن من دلالة الكتاب والسنّة والآثار واتفاق السلف على أنّ الخلق مفطورون على دين الله الذي هو معرفته به ومحبته والخضوع له، وأنّ ذلك موجب فطرتهم ومقتضاها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضى حصول ضدّه، وأنّ حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء المانع؛ فإذا لم يوجد، فبسبب وجود منافيه، لا لعدم مقتضيه؛ ولهذا لم يذكر النبيّ - صلّى الله عليه وآله - لوجود الفطرة شرطًا، بل ذكر ما يمنع موجبها، حيث قال: «فأبواه يهوّدانه وينصرّانه ويُمَجّسانه». فحصول هذا التهويد والتنصير موقوفٌ على أسبابٍ خارجةٍ عن الفطرة، وحصول الحنيفيّة والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقّف أصله على غير الفطرة، وإنْ توقّف كماله وتفصيله على غيرها.

وقد أوضح القرآن الكريم ــ لو تدبرّناه ـــ في آياتٍ عديدةٍ أنّ الله هو الهادي إلى سواء السبيل، وأنّ الإنسان بما أوتي من حرية الاختيار يرسم خطاه في درب الهداية أو الضلال، أفادت مجموعةٌ من الآيات بأنّ الله تعالى قد جهّز الكائنات الموجودة بهدايةٍ فطريّةٍ تكوينيّةٍ تتبين بموجبها طريقها في الحياة فتأخذ ما يناسبها، وتدع ما لا يناسبها، وتعينها تلك الهداية الفطرية على معرفة ما هو مفيدٌ لها، وما هو مضرّ. من ذلك قوله تعالى: (رَبُّنُا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) [71]، وقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ)[72]، وقوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)[73]. وقوله تعالى: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ) [74].

«والهادي للإنسان في هذا المسير إنّما هو خلقته وتكوينه. وجميع البشر سواسيةً في هذه الموهبة الإلهيّة المعنويّة، ونعني الهداية الفطرية فلم يفضّل الله فيها بعضًا على آخر، ولم يعطها لفريقٍ ويحرم منها آخرين. إنّما هي فطرةٌ فطرَ عليها عامّة البشر بلا استثناء، إذ يقول:(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ). فلم يخلق جماعةً على غريزة الإيمان، وجماعةً أُخرى على غريزة الإلحاد. جماعةً على الميل إلى الخير، وجماعةً أُخرى على الميل إلى الشر... إذ لا ريب أنّه لو لم يقم مجتمع ما على أساس مشترك لما أمكن سوقه إلى هدف الخلقة (ونعني به التكامل). فإذا كانت التعاليم الدينيّة بأُصولها ذات طابعٍ فطريّ وصفةٍ جبلية، فمن الأحرى أنْ تكون مسألة (معرفة الله والإيمان به) التي تعدّ أساس كلّ التعاليم الدينيّة أمرًا فطريًّا كذلك» [75].

اشتمل العدد السادس والثلاثون من مجلة العقيدة التي تصدر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، على أبحاثٍ ناظرةٍ إلى أسس في الإيمان والتوحيد ودور الفطرة فيهما. من ذلك بحث (التفكّر والمعرفة الحقّة)، تناول التفكّر والمعرفة الحقّة في حقولٍ عديدةٍ من الفكر الإسلامي بوصفه طريقًا لتحقيق الإيمان وما يترتّب عليه من مهامٍّ ووظائف، وبحث (برهان الصديقين وإثباته للمبدأ الأول)، الذي يسعى لإثبات الحقّ تعالى مستفيدًا من جملة من الأدلة النقليّة لإثبات البرهان منتهيًا إلى فطريّته وأثره في الإيمان.

وجاء في العدد بحث (الإحباط) في حلقته الثانية بعد أن تقدّم في الحلقة الأولى الكلام على حقيقته وأدّلته العقليّة، لتأتي هذا الحلقة بالأدلة النقليّة والمناقشات حول ذلك.

وفي مقابل البحوث المتقدّمة تأتي بحوثٌ للدفاع عن الإيمان، ونقض الإلحاد، منها (تخرّصات الإلحاد الأنثروبولوجي عند فويرباخ) الذي قدّم مقاربةً نقديّةً لتضخيم دور الذات الإنسانيّة، وجوهره في الفكر الغربي، ومسعى الفكر الغربي في تأليهها؛ لتقوم بمهام ووظائف الخالق المدبّر، وما نتج ذلك من موجاتٍ إلحاديّةٍ في القرن التاسع عشر.

وجاء في حقل الدراسات دراسةٌ بعنوان (تنزيه الذات الإلهيّة عن التركيب، مقارنة بين المسيحيّة والإسلام)، عرضت مباحث في التوحيد بأدلةٍ عقليّةٍ ونقليّةٍ مشيرًا إلى ما يترتّب عليه.

واختتم العدد ببحث (صناعة الآلهة) تناول فيه المكانة الدينيّة للمجتمع عندروكهايم الذي يصنع لنفسه إلهًا ويعبده.

نأمل أنْ تُقدّم أبحاث هذا العدد منفعةً معرفيّةً للقرّاء الكرام وعقيدتهم.

 

-------------------------------------------------

 

[1] يقع العقل في مرحلة تجاذبٍ معرفيّ إبستمولوجي في التعامل مع الحقائق، فإن توفّرت معلوماتٌ كافيةٌ تمكنّه من الاستنتاج لموضوعٍ ما، فإنّه يتمكن من التوصيف، وإنْ كانت المعلومات غير كافيةٍ لا تنتج استنتاجًا فيقف العقل على حدود التبيين. ظ: عسكري سليماني، نقد استحالة البرهنة على وجود الله، 24.

[2] حتى إنّه لو ترك وحال إرادته من غير تأثيرٍ خارجي لاختار العمل الحسن ونفر عن القبيح. ومن ثم انسجامها مع النظام الديني وروح قوانينه التي جعلت متوافقة مع الطبع البشري وحاجاته النفسية السليمة ومقتضياته. ظ، الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 16/288.

[3] السبحاني، مفاهيم القرآن، 1/36.

[4] الشك بالله ينقض نفسه بنفسه، بعد أن يعجز الذهن عن إدراك خلاف ما صدّق، أما لو كان الذهن لم يصل إلى مرحلة العجز، ويحتمل طرفًا آخر لما صدق وان خلاف ذلك ممكن فلا يكون حينها شكًّا مطلقًا. ظ: عسكري سليماني، نقد استحالة البرهنة على وجود الله، 18. ومن الثابت بأنّ الميل النفسي نحو وجود الإله لا يفسح المجال للشك المطلق، إذ يمثّل هذا الميل احتمالًا نسبيًّا للإيمان بالله.

[5] قراملكي، محمد حسن، أجوبة الشبهات الكلامية: التوحيد، ج1/ 17.

[6] الشمس: ٨

[7] الروم: ٣٠.

[8] النساء: 163.

[9] النساء: ١٦٥.

[10] الطباطبائي، العلامة محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 20/123.

[11] ظ: م. ن،20/207.

[12] فُصّلت: 53.

[13] الشورى:11.

[14] الجوادي آملي، عبد الله، التوحيد في القرآن، 32.

[15] م. ن، 29.

[16] المجلسي، بحار الأنوار، ج ٦٤/ ١٤٢.

[17] ابن فارس، مقاييس اللغة، ٤/٥١٠ مادة (فَطْرَ). والفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص٤٥٦-٤٥٧.

[18] ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص 285.

[19] م. ن، ١/١٧٠. مادة (نشأ).

[20] العنكبوت: 19.

[21] ابن دريد، جمهرة اللغة، ١/٢٦٩.

[22] ظ: الجرجاني، علي بن محمد، التعريفات، ص ١٦٨، والكفويٍ، الكليات، ص ٣٥٨، و أحمد مختار معجم اللغة العربية المعاصرة، ٣/٤٦، والسبحاني، مفاهيم القرآن، ج 1، ص 15.

[23] يرى علم المنطق والفلسفة أنّ الفطرة في الإنسان بديهيةٌ تحمل أدلتها وبراهينها معها من دون الحاجة الى أدلةٍ خارجيةٍ أو تعليم، مثل 2 نصف 4، ظ: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 1/219. فهي استعدادٌ ومدركاتٌ مودعةٌ في ذهن الإنسان وجزء من طبيعته، أي: إنّها موجودةٌ فيه بالقوّة، ومن ثمّ فهي على مرّ الزمان تنزل إلى حيّز الفعلية. ظ: مطهري، مجموعة الآثار، 6/262.

ولا يعني هذا الاستغناء عن التفكير والنظر، بل يعني أن يقوم العقل بأبسط استدلال بسيط وحركة ذهنية يسيرة؛ لهذا عبر الشيخ آملي بأن «ما يقال من أنّ هذا الشيء فطريٌّ، ولأنّه كذلك فلا يحتاج إلى دليل، يعني أنّ هذا الشيء لا يحتاج إلى وساطةٍ وعلّةٍ ثبوتية، لا أنّه لا يحتاج إلى وساطةٍ في الإثبات، فقد يكون -بفعل النظريّة – بحاجةٍ إلى دليلٍ وعلّةٍ في مقام الإثبات))»، الدين والفطرة، نقلًا عن (الفطرة في القرآن)، ص23. لأنّها مقرونةٌ بذات الإنسان، ولا تحتاج الى الدليل والعلة الثبوتية. وحتى مثل الإيمان بالله ووجوده، فهي وإن كانت فطرية يميل إليها الإنسان، لكن هذا لا يعني أنّها لا تحتاج لإثباتها الى دليل وبرهان.

[24] ظ: يوسفيان، حسن، دراسات في علم الكلام الجديد، 126.

[25] عدّت العلمانية الدينية الفطرة والتجربة الدينية المصدر الوحيد للدين وجوهره، وأنّ ما يمثّله الوحي والتعاليم الإلهية ليست في الواقع إلّا الشعور الديني الذي ينتاب النبي، ويتهيّأ له أنّها أوامر إلهية.

[26] ظ: زاده، محمد حسين، نظرية المعرفة الدينية، 3/232-235. بتصرّف.

[27] ظ: برنجكار، رضا، علم الكلام الإسلامي: دراسة في القواعد المنهجية، 115-117.

[28] السبحاني، مفاهيم القرآن، 1/114.

[29] ولكن هذه الإمكانيّات الفطريّة في الأفراد العاديين ليست بتلك القوة التي تغنيهم تمامًا عن التفكير والتأمّل والاستدلال العقلي، ظ: اليزدي، محمد تقي مصباح، دروس في العقيدة الإسلامية، 61.

[30] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 2/12، كتاب الإيمان والكفر / باب: فطرة الخلق على التوحيد، ح3.

[31] الحج: 31.

[32] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 2/12، كتاب الإيمان والكفر/ باب: فطرة الخلق على التوحيد، ح3.

[33] الفتح: 4.

[34] المجادلة: 22.

[35] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 2/15، كتاب الإيمان والكفر/ باب: السكينة هي الإيمان، ح1. وروى عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)في قول الله (عز وجل): (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً )البقرة: 138.قال: «الإسلام، وقال في قوله (عز وجل): (فقد استمسك بالعروة الوثقى) ؟ قال: هي الإيمان بالله وحده لا شريك له». الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 2/14، كتاب الإيمان والكفر/ باب: الصبغة هي الإسلام، ح1.

[36] الأعراف: 172.

[37]المحاسن، أبو جعفر البرقي: ج 1، باب جوامع من التوحيد، ح [826] 228

[38] الروم: 30.

[39] الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، 329، باب فطرة الله عز وجل الخلق على التوحيد، ح3.

[40] الروم: 30.

[41] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 2/12، كتاب الإيمان والكفر/ باب: فطرة الخلق على التوحيد، ح2.

[42] السبحاني، مفاهيم القرآن، 1/41-42.

[43] قراملكي، محمد حسن، أجوبة الشبهات الكلامية: التوحيد، ج1/ 263.

[44] عبس: 20.

[45] القمر: 17.

[46] الجوادي آملي، العقيدة من خلال الفطر، 27.

[47] ظ: الجوادي آملي، الفطرة في القرآن، ص11. والسبحاني، مفاهيم القرآن، 1/53.

[48] يأتي بيانه لاحقًا.

[49] أما قوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) الروم:30. فناظرٌ الى الحفاظ على الهوية الإنسانية، وليس مع تغيرها. ظ: الجواد آملي، 39.

[50] الدين والفطرة، نقلا عن (الفطرة في القرآن)، ص28.

[51] الجاثية: ٢٣

[52] فاطر: ٢٤

[53] يس: ٦.

[54] الطباطبائي، العلّامة محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 20/123.

[55] ظ: السبحاني، الإلهيّات، 15-16.

[56] ظ: يوسفيان، حسن، دراسات في علم الكلام الجديد، 122-123. نقلًا عن مطهري، مرتضى، مجموعة آثار (أصول فلسفه)، 6/934. واليزدي، محمد تقي مصباح، معارف قرآن، 1/35. وإدواردز، برهان هاى اجماع عام ،157-158.

[57] ظ: الجوادي آملي، المبدأ والمعاد، 86؛ وخُسروپناه، عبد الحسين، الكلام الإسلامي المعاصر،68.

[58] الشمس: 7-10.

[59] الحديد:19.

[60] الرضي، الشريف، نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

[61] الغاشية: 21

[62] الذاريات: 55.

[63] النحل: 35.

[64] الجوادي آملي، العقيدة من خلال الفطر، 15.

[65] آل عمران: 14

[66] الجوادي آملي، العقيدة من خلال الفطرة في القرآن الكريم، 215. وكذلك: السبحاني، مفاهيم القرآن، 1/65-66.

[67] ظ: الجوادي آملي، العقيدة من خلال الفطر، 78-80.

[68] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 2/39، كتاب الإيمان والكفر / باب: في أن الإيمان مبثوثٌ لجوارح البدن كلها، ح7.

[69] ظ: اليزدي، محمد تقي مصباح، دروس في العقيدة الإسلامية، 60 بتصرف.

[70] يوسفيان، حسن، دراسات في علم الكلام الجديد،76-77.

[71] طه: ٥٠.

[72] الأعلى: ٢ ـ ٣.

[73] البلد: ٨ ـ ١٠

[74] عبس: ١٩ ـ ٢٠.

[75] السبحاني، مفاهيم القرآن، 1/43-44.