البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قراءة نقديّة في كتاب (نقد الخطاب الدّيني) لنصر حامد أبو زيد (الحلقة الاولى)

الباحث :  الشيخ مازن المطوري
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  33
السنة :  شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 26 / 2025
عدد زيارات البحث :  35
تحميل  ( 533.971 KB )
الملخّص
تعرّضت هذه الدراسة بالتفكيك والنقد لكتاب (نقد الخطاب الديني) للدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي كان في الأصل بحثاً تقدّم به الدكتور نصر إلى جامعة القاهرة ليحصل على رتبة أستاذ، وقد خصّصه لبيان آليات الخطاب الديني، ومنطلقاته الفكرية، مركّزاً على دراسة أنماط الدلالة في النصوص الدينية، وكيفية إنتاجها وقراءتها.
وقد جاءت دراسة الكتاب مركزةً على الإثارات الأساسيّة في كتاب (نقد الخطاب الديني)، مع تحليل بنيتها ومرتكزاتها، والتأشير على التهافت والتناقض، وفقر المعرفة بالفكر الإسلامي واتجاهاته، وشِراك الاختزال التي وقع فيها الدكتور أبو زيد، فضلاً عن الانتقائية والأحادية، وإسقاط الرؤية العلمانية في التعامل مع النصوص الدينية. إضافةً إلى المصير إلى النتائج والمؤاخذات نفسها التي سجّلها سلفاً الدكتور أبو زيد على كُتّاب الخطاب الديني.
وقد اتّخذت الدراسة في نقد الأفكار الأساس في الكتاب الطريقة المُركَّزة في عرض الملاحظات، وتسجيل المؤاخذات، وبيان التهافت، وابتعدت قدر الإمكان عن التماهي مع التفصيل والتوسّع، إلّا في الموارد التي تطلّبت ذلك.

الكلمات المفتاحية: المعرفة الدينية، الفكر الإسلامي، التأويل، الخطاب الديني، العلمانية، الحاكمية، التراث، النص القرآني، التاريخية، صمت النص.

توطئة
شهدت عقود القرن العشرين، لا سيّما الأخيرة منها، اهتمامًا ملحوظًا وكبيرًا بالدّين والظاهرة الدّينيّة، على مستوى المعرفة وعلى مستوى السّلوك. وبفعلِ كثيرٍ من التحوّلات الثقافيّة، والسياسيّة، اهتمّت الدراساتُ الغربيّة بالمعرفةِ الدّينيّة فهمًا وتفكيكًا ونقدًا، بنحوٍ لو أراد الباحث في هذا الشأن إجراء مسحٍ، وإحصاءٍ لعديد الدراسات الغربيّة المنجزة، لأعجزته كثرتُها، وتنوّعُها!

وعلى غِرَار العالَم الغربي، شهد العالَمُ الإسلامي كتاباتٍ انصبّت على الاهتمام ذاته، وقدّمت تصوراتٍ ونظراتٍ مختلفة في شأن المعرفة الدّينيّة، تتعلّق بحقانيّتها، ونسبيّتها، ودرجة الوثوق فيها، ومصادرها، وآليّات وطرق تفسيرها وتأويلها. وحاول أصحاب تلكم الدراسات -وفق المُدّعى- إعادة صياغة عقليّة المسلم في التعامل مع المعرفة الدّينيّة، واكتشاف الثغرات المنهجيّة، واقتراح منهجيّاتٍ جديدة للتفكير الدّيني، تبتغي كشف النواقص، والحؤول دون اجترارها، والوقوع في محاذيرها. ورافق كلّ ذلك ردّاتُ فعلٍ مختلفة، مرحّبة ورافضة.
في ضمن هذا السياق يأتي الدّكتور نصر حامد أبو زيد (1943- 2010م)، ويقدِّم دراساتٍ متعدِّدة في مجالاتٍ مختلفةٍ، وقد خصّ كتاب نقد الخطاب الدّيني لبيان آليّات الخطاب الدّيني، ومنطلقاته الفكريّة، مركّزًا على دراسة أنماط الدلالة في النّصوص الدّينيّة، وكيفيّة إنتاجها وقراءتها.

كانت حصيلة قراءة كتاب نقد الخطاب الدّيني، مجموعة ملاحظاتٍ ومؤاخذاتٍ، توزّعت بين مناقشاتٍ منهجيّة، وأخرى تخصّ قضايا ومسائل أثارها الدّكتور في طيِّ كلامه، قادتني فسحةٌ من الوقت إلى تدوينها على الورق، آملًا أنْ تعمَّ فائدتها.

وهنا قد يُثار سؤال مفاده: أنّنا وبعد كلّ الرُّدود والأعمال التي تناولت كتاب نقد الخطاب الدّيني، والزوبعة التي أحدثها، ما الّذي يمكن تقديمه في دراسته مجدَّدًا؟ وما هي مبرّرات معاودة البحث في إثاراته؟
وفي الواقع، ثمّة مجموعةٌ من المبرّرات التي تسوّغ لنا هذه الدراسة، أوّلها المبرّر المعرفي الاجتهادي؛ لأنّ دعاوى نقد الخطاب الدّيني، وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين من الزمان على ظهورها، ورواجها، ما زالت حاضرةً ومؤثّرةً في مساحةٍ كبيرةٍ من دائرة المثقّفين والمتعلّمين، وتمثّل تحدّيًا وسلاحًا تُواجَه به المنظومة الدّينيّة في جوانبها كلّها، ومن ثَمَّ فالضّرورة المعرفيّة، والإيمانيّة، تُحتِّمان الدرس الاجتهادي والنقدي.

وثاني المبرّرات، أنّنا بحاجةٍ إلى دراسةٍ تتناول إثارات الكتاب، منطلقة من بيئةٍ جديدة، وإطارٍ مختلف، عن البيئة والإطار اللّذين صارا ساحةً للصخب حول الدّكتور نصر حامد، وكتابه.
وثالثُها: لا شكَّ في حاجة المعرفة الدّينيّة، وطرقِ وآليّاتِ الفهم الدّيني للمراجعة وإعادة النّظر، والدّرس النقدي، حتّى يتوصّل الباحث في هذا الشأن إلى الوقوف عند الأمراض والآفات التي تعاني منها، وتفتُك فيها، ومن ثَمَّ المسير باتجاه معالجتها، ومكافحتها.

ومن دون شكّ تمثّل مراجعة أفكار خصوم الفكر الدّيني وإثاراتهم، لونًا بارزًا من ألوان الدرس للمعرفة الدّينيّة؛ ذلك أنّ الإثارات حتّى الخاطئة منها تضخّ الدّماء في أوْردة البحث المعرفي، وتوجب التأصيل للمسائل الفكريّة المختلفة بالاستدراك، وتتميم النواقص، رغم ما تخلّفه أحيانًا من آثارٍ سلبيّةٍ في جوانب أُخرى، فالإثارة وردّ الإثارة تمثّل عنصرًا مهمًّا في حركة المعرفة الدّينيّة، وفي خروجها عن حالة الجمود والتكرار، وغيرهما من الآفات التي تبتلى بها هذه المعرفة. وهذا يُحتِّم أن يكون التعامل مع الإثارات -أيًّا كانت- بروحٍ علميّةٍ متفائلة، وفي أبسط مراجعة لتاريخ العلوم، والتطوّرات الأساس في المعرفة، نلاحظ إسهام الإثارات الخاطئة في تطوير الحقول المعرفيّة، فهل غاب عنّا ما تركته إثارات الحركة الأخباريّة من تطوير وتنضيج لعلم أصول الفقه الشيعي!
نعم، الخشية على المعرفة الدّينيّة هدفٌ مشروع، ولا يمكن لمتديّنٍ، ولا لحريصٍ على المعرفة أن يختلف في ذلك، فهذه الخشية أمرٌ نبيل، لكن المرفوض أنْ نتحوّل من مرحلة الخشية إلى مرحلة الانسداد في المعرفة الدّينيّة، وإلى تصنيم كلِّ الأفكار والرؤى التي يجمعها وصف الفهم الديني، وإلى تحنيط العقل، وسدِّ باب الاجتهاد عمليًّا.

إنَّ فتح باب الاجتهاد - وهو غير مختصٍّ بالفقه بل يشمل الجوانب الأُخرى، لا سيّما التي تمثّل البناء التّحتي في المعرفة الدّينيّة - مِنّةٌ من المشرّع الحكيم، وما امتنّ به المشرّع على عباده لا يمكن تعطيله، ولا تخصيصه؛ إذ لسان فتح باب الاجتهاد آبٍ عن التخصيص والتقييد. وإذا كان مِنّة من المشرّع الحكيم فلا يملك الناس، مهما كانت منزلتهم، أن يُحنّطوه ويضربوا عليه بأقفال الانسداد بداعي الخشية على المعرفة الدّينيّة. علاوةً على أنّ خطر الانسداد في المعرفة الدّينيّة، لا يقلّ سوءًا عن عمليات العبث غير المنهجي بهذه المعرفة، تحت ذريعة ممارسة الاجتهاد، وحقّ الفهم!
هذه ثلاثة مبرّراتٍ، وقد توجد غيرها من قبيل تحريك الرّاكد، ومعاودة السؤال، في ظلّ الفوضى المعرفيّة التي نعاني منها، تمثّل مسوّغًا مُلِحًّا للتوقّف عند هذا الكتاب، عرضًا ودراسةً ونقدًا. وأُنبّه هنا إلى أن نقد الأفكار الأساس في هذا الكتاب سيتخذ الطريقة المُركَّزة في عرض الملاحظات، وتسجيل المؤاخذات، وبيان التهافت، ويبتعد قدر الإمكان عن التماهي مع التفصيل والتوسّع.


مدخل
يمثّل كتاب (نقد الخطاب الدّيني) بحثًا تقدّم به الدّكتور نصر حامد أبو زيد، إلى جامعة القاهرة ليحصل على رُتبة أُستاذ. ولم يكن يعرف، أو كان يعرف، أنّ هذا البحث سينتج معركة!
يتألّف الكتاب من مقدّمةٍ وثلاثة فصول، جاء الفصل الأوّل بعنوان الخطاب الدّيني آليّاته ومنطلقاته الفكريّة، والثاني التراث في التأويل والتلوين قراءة في مشروع اليسار الإسلامي، والثالث قراءة النصوص الدّينيّة دراسة استكشافية لأنماط الدلالة.
والفصل الثاني في حقيقته سجالٌ وجدالٌ مع مشروعاتٍ يساريّةٍ مصريّة، تغلب عليه المماحكات الجزئيّة، والمناكفات السياسيّة، ولا يشكّل أهميّةً في أطروحة الكتاب، ولسنا معنيين به. على أننا في الأصل نتحفّظ على أُطروحات اليسار؛ لذا نركّز الحديث على المقدّمة والفصلين الأوّل والثالث [1].

أُشير هنا إلى وجودِ نكهةٍ ضبابيّةٍ في عنوان الكتاب، وعدم وضوح، فماذا يقصد بالخطاب الدّيني؟ هل هو خطاب الدّين نفسه؟ أم خطاب المتديّنين في عرض الدّين وترويجه والتنظير له؟ لأنّ المفردة تناسب المعنيين وتستعمل فيهما بلا مشاحّة. ولا شك في أنّ الخطاب كآليّةٍ مشترك بين الدّين وبين المعرفة الدّينيّة أو الفكر الدّيني؛ لأنّ الخطاب هو مجموعة الركائز والمميّزات التي يعتمدها تيّار ما للتعبير عن ذاته والترويج لها، فهو مفردات التعبير عن الذّات، وعند إضافته للدّين يكون الآليّات التي يعتمدها الدّين للتعبير عن ذاته والترويج لها؛ لذلك نحتاج أنْ نعرف على وجه الدقّة المقصود بالعنوان. على أنّ الدّكتور أبو زيد أجرى مقابلةً في بعض كلماته بين الخطاب الدّيني والخطاب الصوفي، كما سنعرف.

ثمّة ملاحظة أخرى تتعلّق بالعنوان والمعنون، وهي أنّ العنوان مطلقٌ غير مقيّد، وهو لا يطابق المعَنون؛ إذ يفهم من إطلاق العنوان أنّ مؤلِّفه بصدد نقد الخطاب الدّيني بنحوٍ عامٍّ في منطلقاته، وآليّاته، وقد أكدّ الدّكتور نصر هذا المعنى في بداية الفصل الأوّل، فكتب: "تعتمد هذه الدراسة مجمل الخطاب الدّيني موضوعًا لها، وذلك دون الأخذ في الاعتبار تلك التفرقة المستقرة إعلاميًّا، بين المعتدل والمتطرّف في هذا الخطاب"[2].
بينا يركّز واقع الكتاب على نقد توجهاتٍ معيّنة، هي الحركات السنيّة ذات الطابع السّلفي، ممثّلةً بسيّد قطب، وحركات اليسار الإسلامي، ممثّلةً بحسن حنفي. ومن الواضح أنّ هذه التوجّهات، ومع صرف النظر عن الموقف منها، فكرًا وعقيدةً وممارسةً، وتقييمنا لمجمل تحرّكاتها، لا تمثّل الخطاب الدّيني كليًّا. كما أنّها وإنْ تشاركت في بعض المنطلقات والآليّات الفكريّة مع حركات ومشاريع أخرى، إلّا أنّها تختلف في منطلقاتٍ وآليّاتٍ غير قليلة؛ فاتّخاذ النصوص مرجعيّةً ومنطلقًا في الخطاب الدّيني يختلف بين السنّة إلى الشيعة، من مدارس الحديث في المذهبين إلى أصحاب علم الأصول فيهما. ومن ثَمَّ فطريقة عرض الدّكتور، وبلغته الإطلاقيّة والجزميّة، تبسيطٌ لمسألةٍ معقّدة، وإيهامٌ للقارئ غير المطّلع أنّ هذه المسألة عميمة البلاء في الخطاب الدّيني كلّه، والواقع خلاف ذلك، كما ألمحنا.

أوّل العَجَل!
عرض الدّكتور أبو زيد في مقدّمة الكتاب موضوع المدّ الإسلامي، أو الصحوة الإسلاميّة، وذكر ثلاثةَ اتجاهاتٍ في هذا المجال بالنسبة إلى تقييم هذه الظاهرة: اتجاه ينظر إليها بإيجابيّة، ويمثّله رجال الأزهر ورجال الدّين من المعارضة. واتجاه يرى في الظاهرة خصوصيّةً تعكس الرفض للتبعيّة، لكنّها تكتفي بالجري وراء الجذور والأصول، ويمثّل هذا الاتجاه اليسار السياسي والفكري. والاتجاه الثالث رافض لشعار (الإسلام هو الحل)، ويُمثّله العَلمانيّون. وفيها مطالب تستحق الوقوف:

ثنائيّة الدّيني والعقلاني
من جملة الأمور التي ذكرها الدّكتور في المقدّمة، قوله: «ولأنَّ النِّزال غالبًا ما يتمّ بآليّات السجال الأيديولوجي، دون البدء في تحقيق وعي علمي بطبيعة النّصوص الدّينيّة، وبطرائق قراءتها وتأويلها، تظلُّ الغلبة على هذا المستوى من السجال للخطاب الدّيني على الخطاب العقلاني. وقد آن الأوان للخروج من هذا المأزق، والتخلّص من عُقدة التأويل، والتأويل المضاد للنّصوص؛ بتحديد طبيعة النصّ الدّيني، وآليّاته في إنتاج الدلالة، وهذا هو المشروع الاستكشافي الذي يحاولُه الفصلُ الثالث. وهو مشروع في حالة تخلّق يحتاج إلى جهودٍ كثيرةٍ مخلصة، ودائبةٍ كيما يتحقّق، وينهض على أساس علميّ مكين»[3].

هو مأزقٌ حقًّا أنْ يُصدِّر الدّكتور أبو زيد للقارئ والمتلقّي، هذه الثنائيّة والمقابلة بين الخطاب الدّيني والخطاب العقلاني، في محاولة للإيهام والاحتكار! وكأنّ الخطاب الدّيني بمجمله لا يُعنى بالعقل من الأساس، ولا يهتم به، ولا يعتبره، وأنّ العقلانيّة لا توجد إلّا في الخطاب العَلماني! صدقًا كيف ساغ له أنْ يختزل كلَّ هذا التاريخ من الجدل حول العقل والعقلانيّة، وفي كلّ الاتجاهات والمدارس، والتجلّيات الفكريّة المختلفة، في ثنائيّة ساذجة يُقابَل فيها بين الخطاب الدّيني والخطاب العقلاني!
لا أُريد الخروج عن رسم الاقتضاب، والوقوف عند إشكاليّة العلاقة بين الدّين والعقل، الإشكاليّة المزمنة قديمًا وحديثًا، وعرض جوانبها المختلفة، وسائر التصوّرات عنها فيما يرتبط بدور العقل في إثبات القضايا الدينية، وتسويغها والدفاع عنها، وشرحها وبيانها ونقدها، وغير ذلك، مرورًا بتصوّرات المدارس الإسلاميّة بأجنحتها الفكرية المختلفة، فلهذا كلّه مظانّه، لكنّي أردت الإشارة إلى طبيعة الأحكام المرتجلة، والمبتسرة، والمختزلة، والتعميمات الفاقدة للمعطيات التي أطلقها الدكتور نصر حامد في هذا الشأن، جريًا على عادة وسائل الإعلام!

على أن الدّكتور في حديثه عن المنطلقات الفكرية، كتب نصًا يناقض الثنائيّة التي قرّرها في المقدّمة، وقد جاء فيه: "وقد ظلّ الخطاب الدّيني في تاريخ الثقافة الإسلاميّة - بتيّاراته واتجاهاته المختلفة- حريصًا على نفي أيّ تعارضٍ يمكن أنْ ينشأ - بحكم حركة الواقع المستمر وثبات النّصوص- بين الوحي والعقل. واتفق الجميع تقريبًا على أنّ النقل إنّما يثبت بالعقل، والعكس ليس صحيحًا، العقل هو الأساس في تقبّل الوحي، ثم كان الخلاف فيما بعد ذلك: هل يستقل العقل بعد أنْ قام بدوره في إثبات النقل، أم يظلّ يمارس فاعليته في فهم النّصوص وتأويلها، لكن هذا الخلاف ظلّ خلافًا نظريًّا، واستمر الخطاب الدّيني يحرص على إثبات (موافقة صريح المعقول لنريح المنقول) كما عنون ابن تيمية أحد كتبه الهامّة، وهو الفقيه السنّي الأصولي المحافظ. وقد ساهم علماء أصول الدّين والفقه في تأسيس مجموعةٍ من المبادئ المهمّة - كالقياس ومراعاة المقاصد والمصالح المرسلة- في مجال فعاليّة العقل الإنساني في فهم النّصوص وتأويلها، وظلّت الثقافة العربيّة الإسلاميّة حيّةً نشطةً طالما ظلّ تأسيس العقل شاغلها الأساسي.."[4].
زِد على ذلك، أنّ ما ذكره الدّكتور من تحديد طبيعة النصوص الدّينيّة، وآليّات إنتاج الدلالة فيها، كما ذكر أنّه حاول ذلك في الفصل الثالث، ليس فتحًا، ولا حاسمًا للنزاع؛ لأنّنا في المحصّلة أمام قضايا غير تجريبيّة، وغاية ما يمكن أنْ يوصف به هذا المسعى أنّه رؤيةٌ اجتهاديّةٌ على أقل تقدير، وهي غير ملزمةٍ للآخرين؛ ولذا لم يتحقّق الهدف منها، وفي مقابلها رؤى اجتهادية، تقوم على تأسيس دلالي ولُغوي. اللّهم إلّا إذا كان يدّعي لرؤيته المطابقة للواقع، فهذا شأنٌ آخر! لكنّه يرفض إلغاء المسافة بين الذّات والموضوع، كما ستعرف.

الدّين والتأويل العَلماني
وفي نصوص أُخرى من المقدّمة، تحدّث عن النهضة، والعَلمانية، وعلاقتهما بالإسلام، فقال: "لا خلاف على أنّ الدّين، وليس الإسلام وحده، يجب أنْ يكون عنصرًا أساسيًّا في أيّ مشروعٍ للنهضة. والخلاف يتركّز حول المقصود من الدّين: هل المقصود الدّين كما يطرح ويمارس بشكلٍ أيديولوجي نفعي من جانب اليمين واليسار على السّواء، أم الدّين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلًا علميًّا ينفي عنه الأسطورة، ويستبدله بما فيه من قوّةٍ دافعةٍ نحو التقدّم والعدل والحرّية؟".
ثم قال:"والعَلمانيّة في جوهرها ليست سِوى التأويل الحقيقي، والفهم العلمي للدّين، لا ما يُروّج له المبطلون من أنّها الإلحاد الذي يفصل الدّين عن المجتمع والحياة "[5]. يمثّل هذا النّص حديثًا في الهواء الطلق من جانب، وتزويرًا من آخر!

بدايةً، وحتّى لا نضيع في متاهة المفردات السيّالة، لا بُدَّ من تحديد المقصود من النهضة وطبيعتها، وغايتها وأهدافها، وعناصرها ومقوّماتها، ثُمَّ نعرف هل الدّين جوهريٌّ فيها أم ليس جوهريًا! أمّا إطلاق الكلام في الهواء الطّلق كما صنع الدّكتور فلا يفيد أحدًا، ولا يُنتج معرفةً، ولا يختلف عمّن انتقدهم من اليمين واليسار! ذلك أنّ كلّ حضارةٍ فيها جانبٌ مادّي يتمثّل في وسائل المعيشة وأساليب الحياة والتِّقانة، وفيها جانبٌ فكريّ وخُلْقِي، وهو يرتبط بروافد كثيرةٍ تُسهم في تشكيله، فالدّين وأعمال المفكّرين والتقاليد الاجتماعيّة، وغيرها، تسهم جميعًا في بلورة الجانب الفكري في كلّ حضارةٍ ونهضة. وإذا كان من السهولة مطالبة الإنسان بترك اعتماد الوسائل البدائيّة في توفير متطلّبات الحياة، أي تغيير الجانب المادّي، إلّا أنك لا تستطيع بتلك السهولة أنْ تُقنعه بترك فكرةٍ، أو اعتقادٍ، أو تقليدٍ ورثه من أسلافه، واستحكم في عقله ووجدانه وسلوكه؛ لأنّه يرى في تلك الأفكار والتقاليد ذاتَه، وهويّته، ومقوّم وجوده.

أمّا دعوى أنّ العَلمانيّة هي التأويل الحقيقي، والفهم العلمي للدّين، فهي طُرفةٌ أطلقها الدّكتور نصر حامد، وهذه الطُرفة لا يستسيغها الخطاب العَلماني نفسُه:
أوّلًا: لا تتحدّد العَلمانيّة بفصل السّلطة السياسيّة عن السّلطة الدّينيّة، وإنّما هذا الفصل نتيجةٌ وهدفٌ في العَلمانيّة، بشهادة مفكّرين عَلمانيين، كما ستعرف.
ثانيًا: إذا كان النزاع بين العَلمانيّة والدّين (الإسلام)، في كيفية إدارة الشأن العام، وطبيعة التشريعات ومصدرها، فكيف تكون العَلمانيّة التي تريد إزاحة الدّين عن الشأن العام تأويلًا علميًّا للدّين؟!

لا شك في أنّ العَلمانيّة ترتبط بآليّة التفكير عند الإنسان، وبمرجعيّته الوحيدة والنهائيّة في شتّى مجالات الحياة العامّة، وهي مرجعيّةٌ دنيويّةٌ لا دينيّة. وأحد أغراض العَلمانيّة فصل السّلطة الدّينيّة عن السّلطة السياسيّة، فهذا الفصل من أغراض العَلمانيّة وليس العَلمانيّة نفسها، فهي تريد إزاحة الدّين عن المجالات العامّة كالنظام السياسي، والاجتماعي، والثقافي، وأنْ يعتمد الإنسان في تدبير هذه المجالات على عقله وخبرته بصورةٍ مستقلّةٍ عن الدّين، فهي (تُحرِّر) الإنسان من الدّين في المجالات العامّة.
وربطًا بهذا، يتّضح خطأ الفكرة التي ترى أنّ العَلمانيّ قد يكون متديّنًا، لكنّه يعتقد بضرورة فصل الدّين عن الدّولة، وبعدم إمكان تطبيق تشريعاته في الحياة! والوجه في خطئِها أنّ المنظور في العَلمانيّة ليس جانب التطبيق، وإنّما المرجعيّة الفكريّة، والتسويغ لمظاهر الحياة الاجتماعيّة وقوانينها، فهي تؤكّد على أنْ تكون دوافع العمل بعيدةً عن الله والإيمان، وضرورة أنْ يكون الإيمان بالأفكار ورؤى الحياة (عقليًّا) صرفًا، أمّا لو آمن الإنسان بفكرةٍ لا تسويغ لها سِوى الإيمان وقول الإله فليس عَلمانيًّا!

ولذلك يستغرب بعض الكُتّاب العلمانيين، من محاولاتِ تبرير الموقف العَلمانيّ بالاستناد إلى نصوصٍ دينيّة، ويراها من التناقض الصارخ مع العَلمانية [6]! وهو محقٌّ في استغرابه؛ إذ ترفض العَلمانيّة أنْ يكون الدّين مبرِّرًا ومسوّغًا لأيّ شيءٍ في الحياة الزمنيّة، فكيف يكون الدّين نفسه مسوّغًا للعَلمانية نفسها! فلُبُّ العَلمانيّة تأليه الإنسان تشريعًا، وإعطاؤه المركزيّة في قبول أيّ شيءٍ أو رفضه، فإذا شاء صار، وإذا لم يشأ لم يصر.
أمّا محاولة الدّكتور نصر حامد تصدير العَلمانيّة بوصفها الفصل بين السُّلطتين، فغير دقيقة؛ وللتدليل على ذلك، أكتفي هنا بعيّنةٍ من كلماتٍ لكُتّاب عَلمانيين:

1- قال الدّكتور عبد الكريم سروش: "وجميع هذه الكتابات على اختلافها تشترك في عنصرٍ واحدٍ من العناصر الفرعيّة للعَلمانيّة، وهو: فصل الدّين عن الدّولة، أو على حدّ تعبيرهم: فصل state عن church، ويعتبر ذلك بمثابة العلّامة التي ترمز إلى العَلمانيّة. وكما قلنا إنّ هذا المعنى يعتبر من الثمار الفرعيّة للعَلمانيّة، ولكن بما أنه يشكّل العنصر البارز والملموس من ثمار هذه الشجرة، ولذلك يشار إليه بالبنان. ولكن التوقّف على هذا العنصر وحصر العَلمانيّة بهذه المقولة يُفضي إلى التوغّل في الخطأ"[7].
2- وقال عادل ضاهر: "إنّ الغرض من هذا الكتاب هو المساهمة في إزالة هذا النقص الفاضح في فكرنا العَلماني؛ ولذلك فإننا نحاول هنا أنْ نبيّن بصورةٍ منهجيةٍ، ولأول مرّة، ما هي الاعتبارات الفلسفيّة التي يقوم عليها، أو ينبغي أنْ يقوم عليها الموقف العَلماني. وما نفهمه بالعَلمانيّة هنا، كما سنوضّح في الفصل الثاني، هو شيءٌ أعمق من القول بفصل الدّين عن الدولة، أو بمنع رجال الدّين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء. إنّ العَلمانيّة بحسب فهمنا لها، وكما سنوضّح من خلال فصول هذا الكتاب، هي موقفٌ شاملٌ ومتماسكٌ من طبيعة الدّين، وطبيعة العقل، وطبيعة القيم، وطبيعة السياسة"[8].
3- وقال أيضًا: "الفهم السائد للعَلمانيّة في أوساطنا المثقّفة، وغير المثقّفة المؤمنة بالعَلمانيّة، والمناهضة لها، هو فهمٌ سطحي جدًّا يقوم على تعريف العَلمانيّة بالأغراض التي استهدفت تحقيقها الحركات العَلمانيّة في الغرب. إنّه لا ينظر إلى العَلمانيّة من منظور كونها في المقام الأوّل موقفًا من الإنسان والقيم والدّين، ولا من منظور كونها موقفًا أبستمولوجيًا، أي موقفًا من طبيعة المعرفة العملية ومن طبيعة علاقتها بالمعرفة الدّينيّة. فلأن هذا الموقف لا يتجاوز فهم العَلمانيّة من خلال الأغراض التي قامت الحركات العَلمانيّة في الغرب لتحقيقها، تصبح القضية الجوهرية التي تثيرها العَلمانيّة، من هذا المنظور، قضية تحديد وضبط العلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الدّينيّة، بين الدولة والكنيسة (أو المؤسسة الدّينيّة، كائنة ما كانت). إلّا أنّ القضية الأخيرة، كما سنحاول أنْ نبيّن في الفصل الثاني، ليست على أهميّتها القضية الجوهرية. إنّ القضية أعمق من هذه بكثير، إنّها قضية تتعلّق بما هو الموقف الصحيح من طبيعة الدّين، وطبيعة الإنسان، وطبيعة القيم، وبكيف يجب أن نفهم العلاقة على المستوى الأبستمولوجي بين الدّين والقيم"[9].
4- وفي كتاب ما العَلمانيّة: " ويمكننا أنْ نُجيب بشكلٍ مختصرٍ عن السؤال: ما العَلمانيّة؟ بتلخيص لمحتوى الكتاب، والدراسة التالية ليست إلّا تأسيسًا عقلانيًّا للإجابات المتعلّقة بهذا السؤال، تأسيسًا يستند إلى قراءة للنصوص المؤسسة للعَلمانيّة من الزاوية الفلسفيّة. وسنتبّنى أمرًا بسيطًا كنقطة انطلاق، حتّى لو كانت العَلمانيّة لا تنحصر - كما سنرى فيما بعد - في مسألة العلاقة بين المجال السياسي ومجال الاعتقادات الدّينيّة، بل أكثر من ذلك مسألة حريّة الاعتقاد أو عدمه، إلّا أنّ هذه العلاقة هي المؤسِّسة للعَلمانيّة وتفتح الباب لتناولها بشكل أكثر وضوحًا"[10].

وجاء في هذا الشأن أيضًا: "إنّ العَلمانيّة هي طريقة تصوّر وتنظيم تعايش الحريّات، خاصّة حريّة الرأي والعبادة والاعتقاد؛ لهذا فهي تحتل مكانًا في الحقل السياسي الكلاسيكي، ممّا يستدعي مقارنتها بأشكالٍ أخرى لتصور وتنظيم التعايش بين هذه الحريات، فعلى الرغم من تشابه العَلمانيّة جزئيًّا مع التسامح فإنّ طريقة التنظيم العلماني تختلف عنه كآلية فكريّة"[11].
وجاء كذلك: "تفترضُ العَلمانيّةُ أنّ القانون لم يكن ليوضع إلّا نتيجة لعلاقة نقديّة للفكر الإنساني مع نفسه. هذا الموقف سُجّل في المأثور الفلسفي المعروف لمثول الفكر، دون الاحتياج للجوء إلى عالَم آخر ليعطي نسخة حديثة، ومعاصرة، لهذا الفكر على شكل نظريّة الثقافة"[12].
وإذا كانت المسألة بهذا النحو عند العَلمانيين أنفسهم، فكيف يدّعي الدّكتور نصر بتبسيطٍ فجٍّ أنّ العَلمانيّة هي «التأويل الحقيقي، والفهم العِلمي للدّين»؟!
حقًّا كيف تسوغ دعوى أنّ العَلمانيّة «التأويل الحقيقي، والفهم العِلمي للدّين»، والحال أنّ العلاقة بينهما هي علاقة إزاحةٍ وضِدّية، فهما يتنازعان للسيطرة على أرضٍ واحدةٍ هي الشأن العام؛ إذ تريد العَلمانيّة أنْ تزيح الدّين وتحلّ محلّه، وتتمدّد إلى جميع أبعاد شؤون الحياة! ألا يدخل تصدير العَلمانيّة للقارئ العام بهدفٍ من أهدافها، في خانة النِّفاق والدّجل الذي يمارسه الخطاب العَلماني!

إنّ العَلمانيّة رؤيةٌ ماديّةٌ صرفة، تنظر إلى الإنسان بمعزلٍ عن مبدئه وآخرته، وتُلاحِظُه بعيدًا عن خالقه، ومحدودًا في الجانب المادّي الصّرف، فهي محتضنةٌ للنزعة المادّية، ومُشبعةٌ بها بحكم ثلاثة عوامل رافقتها منذ ولادتها وانطلاقتها، وهي: المذهب التجريبي في المعرفة الذي شاع مع بدايات العصر الصناعي، واحتكر المعرفة بالحاصلة من التجربة فحسب، وسيادة نزعة الشكّ والاضطراب الفكري نتيجة انقلاب الرؤى المتعلّقة بالكونيّات، إضافةً إلى روح السّخط والتمرّد والانقلاب على نمط الدّين الذي كان شائعًا ومتسلّطًا في أوربا، والذي جمّد العقول والأفكار، وتملّق إلى الظالمين والمستبدّين، وكَبَتَ روحَ البحث والتطلّعَ عند الناس، فولدت العَلمانيّة رؤيةً ماديّةً، جرّدت الإنسان عن مبدئِه ومنتهاه، وفَصلت دنياه عن آخرته، ونَظَرت إلى الحياة الدّنيا والسُّلوك فيها بشكلٍ منفصلٍ عن الآخرة؛ لذلك فهي تعمل على دفع الدّين عن متن الحياة إلى هامشها، فكيف يقال هي «التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدّين»! بل هي متعارضة مع الدّين دومًا وأبدًا.

دعاوى سائلة
يمثّل الفصل الأوّل لُبّ الكتاب وجوهره، وأفكاره الأساس. وفيه نقطتان: الأوّلى في بيان آليّات الخطاب الدّيني، والثانية في بيان المنطلقات الفكرية للخطاب الدّيني. وقبل الشروع في النقطتين توقّف الدّكتور نصر عند مدخلٍ أو توطئةٍ لأبحاث الفصل، رفض فيها التمييز بين الخطاب الدّيني المعتدل والمتطرّف، وذكر أنّهما درجتان لخطابٍ واحدٍ، هو الخطاب الدّيني بآليّاته ومنطلقاته، وليسا نوعَي خطاب، ويتمركز الفرق بينهما في نقطة تكفير الحاكم والمجتمع. قال: "تعتمدُ هذه الدراسةُ مجملَ الخطاب الدّيني موضوعًا لها، وذلك دون الأخذ في الاعتبار تلك التفرقة المستقرّة إعلاميًّا، بين المعتدل والمتطرّف في هذا الخطاب. والحقيقة أنّ الفارق بين هذين النمطين من الخطاب فارقٌ في الدرجة لا في النّوع. والدليل على ذلك أنّ الباحث لا يجد تغايرًا أو اختلافًا من حيث المنطلقات الفكريّة، أو الآليّات"[13]. "إنّ الخلاف بين المعتدلين والمتطرّفين يكمن إذن في تكفير الحاكم والمجتمع، وإنْ كنّا سنكتشف بعد قليل أنّ هذا الخلاف خلافٌ هامشيّ، وليس خلافًا جوهريًّا "[14].

وهنا نلاحظ:
1- معنى هذا الرفض أنّ الاختلاف بين المعتدل والمتطرّف تفاوتٌ صُوْرِي، وهو بهذا يعتمد أُحاديّة التصنيف، وفيه يجانب الموضوعية العلميّة، وحقائق الواقع ممثّلة في خطاب وسلوك. والسؤال: هل يوافق الدّكتور على رفض وجود معتدلٍ ومتطرّفٍ في الخطاب العَلماني بعد اتّحادهما في المنطلقات والآليّات؟ وأيّ جوابٍ مفترضٍ يشمل الخطابَ الدّيني؛ إذ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد. والتطرّف والاعتدال في أيّ خطاب، دينيًّا كان أو غير دينيّ، نابعان من البيئة والتربية، وعوامل الاجتماع، وتدافعات الواقع، ولا يمكن اختزاله في المنطلقات والآليّات.
ولا غرابة في تسجيل مثل هذه الأحكام الجاهزة والمتسرّعة؛ فقد تحوّل (التنوير) عند دُعاته إلى لاهوتٍ عَلماني حديثٍ يُمارس أشكال الأُحاديّة والتسفيه لخصومه، ويختزلهم في وصفٍ ومسمّى واحدٍ، سعيًا في سبيل الاستحواذ والسيطرة على المُناخ الفكري والثقافي، والواقع!

ويروق لي في هذه النقطة تحديدًا، نقل بعض نصوص الدّكتور جورج قَرْم من كتاب (المسألة الدّينيّة في القرن الواحد والعشرين)، التي سلّط النقدَ فيها على أولئك الذين يغضّون الطّرف عن مختلف العوامل التي تسهم في إنتاج العنف، ويذهبون صوب البحث في النّصوص والخطاب، والمنطلقات والآليّات والآيات! فقال: «في كلِّ حالٍ لا شيء يُبرِّر الخلط بين الإسلام، الدّين التوحيدي ذي التقاليد الفقهيّة الكلاميّة السياسيّة والفلسفيّة التي لا تقلّ نفوذًا عن تقاليد الدينَيْن التوحيديَّين الآخرين، وبين العنف الإرهابي. وسنرى في خاتمة هذا الكتاب، أنّ العنف الإرهابي الذي يرفع راية الدّين إنّما يجري في سياقاتٍ محلّيةٍ بالغة التنوّع ولأسبابٍ مختلفة، الأمر الذي يجعل (التحليلات) التي تقوم بإدراجها كلّها في ظاهرةٍ واحدةٍ، تحليلاتٍ لا جدوى لها سوى الإثارة"[15].

وقال في نصٍّ آخر: "لكنّما السعي إلى إيجاد أسباب الإرهاب (العابر للقوميّات) المعاصر في القرآن، أو في الشريعة، يبدو سورياليًّا تمامًا. فما هذا البحث سوى ثرثرةٍ تحول دون استيعاب المشكلات الحقيقيّة وهي دنيويّة كلّيًا: احتلال عسكري، استيطان في فلسطين، تهميشات اجتماعيّة عميقة، توزيع مجحف تمامًا للمداخيل والثروات في اقتصادات الريع النفطي، أنظمة استبداديّة تُمارس الخلط بين السياسي والدّيني (الأمر الذي يستثير أيضًا ردّة فعل سياسيّة- دينيّة)، وأخيرًا ثقل الخطاب الغربي، المغذَّى إلى حدٍّ كبير بمصطلحات دينيّة منذ بضعة عقود"[16].
وأخيرًا: "في زمن الكفاح ضدّ إرهاب اليسار المتطرّف، هل تم الانكباب يومًا على أهميّة النصوص الماركسيّة الهوى التي كانت تنتجها تلك الحركات؟ والحال، لماذا ينبغي اليوم أنْ نأخذ كثيرًا على محمل الجدّ النصوص المزدانة بآياتٍ قرآنيّةٍ يتزيّن بها الإرهابيّون الذين يضعون أنفسهم تحت راية إسلاميّة؟ في مكافحة العنف الإرهابي ليس المهم تحليل المعجم الإيديولوجي الدِّيني، بل تحليل القلق الاجتماعي والسياسي والوجودي الذي يعبّر عنه العنف. فوق ذلك وهذا ما ننساه في الأغلب، لهذه الظواهر خصائص شديدة الاختلاف بحسب المكان والسياق الاجتماعي-السياسي: إنّ هجمةً إرهابيّةً في مدينة الرياض لها طبيعةٌ مختلفةٌ عن هجمةٍ في تل أبيب أو ضد مستوطنين إسرائيليين، وهذه مختلفةٌ عن هجومٍ على مركز شرطة في العراق، المختلف بدوره عن هجومٍ أعمى في مدريد أو في لندن. إنّ رفض هذه الملاحظ الحسّية السليمة يعني القيام بلعبة المنظّرين لحرب عسكرية بين الحلف الأطلسي ومنظمة القاعدة، المجهولة الارتباطات والتكوين، ويعني المساهمة في إبقاء الأمر الواقع الحالي الذي يُقلق البشريّة قاطبة"[17].

2- أهمل الدّكتور نصر استحضار الرؤية الشيعيّة في مختلف مواضيع الكتاب، التي تطرّق فيها إلى رؤية الخطاب الدّيني، وهو إهمالٌ غير مبرّر. ولا شكّ في أنّ في الخطاب الشيعي توجهات ورؤى لو اطّلع عليها الدّكتور أبو زيد، لغيّرت بعض قناعته ونظرته للخطاب الدّيني، توجّهات من أمثال مرتضى مطهّري، ومحمّد باقر الصّدر، وغيرهما. لكن الخيلاء العَلماني الذي يرفض التفرقة بين المتطرّف والمعتدل، هل يستطيع التنازل عن كبريائه والنظر إلى بيئةٍ غير بيئته، لرؤية ما يزلزل الحسم الفكري في ذهنه!

آليّات الخطاب الدّيني
ذكر الدّكتور نصر حامد أن آليّات الخطاب الدّيني خمس، نعرضها بصورةٍ مجملةٍ، مركّزين على لُبّ الأفكار فيها، مع التعليق عليها بما تستحقّه.

أولًا: التوحيد بين الفكر والدّين
هذه هي الدعوى الأوّلى للدّكتور نصر، فهو يفترض أنّ الخطاب الدّيني يعتمد آليّة التوحيد بين الفكر الدّيني وبين الدّين، والحال هما متمايزان متغايران. كتب: "منذ اللحظات الأوّلى في التاريخ الإسلامي- وخلال فترة نزول الوحي وتشكّل النّصوص- كان ثمّة إدراكٌ مستقرٌ أنّ للنصوص الدّينيّة مجالات فعّاليتها الخاصّة، وأنّ ثمّة مجالاتٍ أخرى تخضع لفاعليّة العقل البشري والخبرة الإنسانيّة، ولا تتعلّق بها فعاليّة النّصوص. وكان المسلمون الأوائل كثيرًا ما يسألون إزاء موقف بعينه ما إذا كان تصرّف النبي محكومًا بالوحي أم محكومًا بالخبرة والعقل. وكثيرًا ما كانوا يختلفون معه، ويقترحون تصرّفًا آخر إذا كان المجال من مجالات العقل والخبرة. الأمثلة على ذلك كثيرة وتمتلئ بها كلّ وسائل الخطاب الدّيني وأدواته: من كتبٍ ومقالاتٍ وخطبٍ ومواعظ وبرامج وأحاديث. ورغم ذلك يمضي الخطاب الدّيني في مدّ فعاليّة النّصوص الدّينيّة إلى كلّ المجالات، متجاهلًا تلك الفروق التي صيغت في مبدأ (أنتم أعلم بشؤون دنياكم). ولا يكتفي الخطاب الدّيني بذلك، بل يوحّد بطريقةٍ آليّةٍ بين هذه النّصوص وبين قراءته وفهمه لها. وبهذا التوحيد لا يقوم الخطاب الدّيني بإلغاء المسافة المعرفيّة بين الذّات والموضوع فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادّعاء ضمني بقدرته على تجاوز كلّ الشروط والعوائق الوجوديّة والمعرفيّة، والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النّصوص"[18].
إذن، دعوى الدّكتور: أنّ الخطاب الدّيني يوحّد بين الدّين والفكر الدّيني. وهنا نسأل: ما المقصود بالدّين؟ أجاب الدّكتور في الفصل الثالث، وقال: "ولا بُدَّ هنا من التمييز والفصل بين الدّين والفكرِ الدّيني؛ فالدّين هو مجموعةُ النّصوصِ المقدّسة الثابتة تاريخيًّا، في حين أنّ الفكرَ الدّيني هو الاجتهاداتُ البشريّة لفهم تلك النّصوص وتأويلها، واستخراج دلالتها. ومن الطبيعي أنْ تختلف الاجتهاداتُ من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعي أيضًا أنْ تختلف من بيئةٍ إلى بيئة"[19].

لا شكّ في أنّ هناك توجّهاتٍ وباحثين، يعاملون كلَّ استنتاجٍ توصلوا إليه بعد البحث النظري، في مجال الفكر والعقيدة والفقه، بوصفه الدّين الذي نزل مِن عند الله تعالى، وهذا السّلوك مورد تحفّظ، ولا نرتضيه (في الجملة) وفق مُبرّرات موضوعيّة، ولكن الفكرة التي ذكرها الدّكتور يلاحظ عليها:
1- لا نسلّم أنّ الدّين يغاير الفكر والمعرفة الدّينيّة دومًا وبالجملة، وإنّما نعتقد بذلك إجمالًا (في الجملة)؛ لأنّه في موارد المستقلّات العقليّة، والإدراكات البديهيّة التي يتكفّل العقل إثباتها، والمرتبطة بالتوحيد، والعدل، والمعاد، تكون المعرفة الدّينيّة مساوقةً للدّين. وحينئذٍ، فالمعارف التي يدركها العقل بتلك الشاكلة تكون من صلب الدّين وجزءًا منه، وليست معرفةً دينيّةً مغايرة للدّين، إذ الإيمان بالإله الواحد بوساطة البرهان العقلي جزءٌ من الدّين وأساسُه، وليس معرفةً دينيّة. بمعنى لا يصح أنْ ندّعي أنّ قضيّة (الله واحد) فكرٌ دينيّ بشريّ، وليست دينًا!

2- من حقّنا أنْ نسأل عن المراد من كون الواقع غير إدراك الواقع؟ وبتعبيره (المسافة المعرفيّة بين الذّات والموضوع)؟ فهل يقصد به المعنى الذي قرّره الفيلسوفُ الألماني عمانوئيل كانط من الفرز بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا، والذي يلازمه إنكار التطابق بين ما في الذهن وما في الخارج والدخول في نفق النسبيّة المطلقة! وتكون النتيجة حينئذٍ أنّ إدراك الواقع والعلم به متعذّر، بل يكون للقوالب الذهنيّة والماهيّات الموجودة في الذهن من أصل خلقته، والتي لم يأخذها من الخارج، الدور الأساس في تشكيل الواقع الخارجي. أمّا العلم به فهو الناتج عن تلك العملية التي يمتزج فيها ما هو ذاتي (القوالب الذهنية)، وما هو من الخارج، وهو ظاهر الشيء. وبناءً على هذا لن يكون الدّين في متناول الإنسان أبدًا، ولن يصل إليه دومًا، وإنّما يملك عنه ظاهره فقط!

لاشكَّ في أنّ الواقع يختلف عن إدراكه (العلم به)، من حيث الآثار وسنخ التحقّق، ولكن لا يعني مثل هذا الاختلاف قطع الصِّلةِ الماهويّة، والارتباط بين الواقع والعلم به على نحوٍ يجعلهما مختلفين دومًا، أو شيئين منفصلين عن بعض. على أنّ رفض مقولة كانط، لا يلازمه أنْ تكون معارف الإنسان وعلومه مصيبةً ومطابقةً للواقع دائمًا وأبدًا، على تفصيل يترك إلى نظريّة المعرفة.
3- رأى الدّكتور نصر أنّ الدّين عبارةٌ عن النّصوص المقدّسة الثابتة تاريخيًّا. وهنا نلاحظ: أنّ إحراز كون (النصّ الفلاني) من نصوص الدّين أو لا، يتوقّف على جملة معارف بشريّة، من قبيل علم الرجال، والدراية، وأصول الفقه (بحث حجية خبر الواحد مثلًا).
وحينئذٍ، فإنْ أحرزنا ذلك دخل النصُّ في الدّين، وإنْ لم نحرز خرج عن كونه من الدّين، ممّا يعني أنّ الدّين نفسه الذي عدّه الدّكتور نصر حامد ثابتًا مقدّسًا، قد خضع للتغيّر بالزيادة والنقصان من باحثٍ إلى آخر، وطاله الاجتهاد أيضًا!

وفي سبيل إيضاح الفكرة أكثر، نقول: إنّ النصّ الذي نسبته بعض كتب الحديث السنّي إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، والقائل: (أنتم أعلمُ منّي بشؤون دنياكم)[20]، والذي استند إليه الدّكتور نصر في كلامه السابق، لتقرير جهالة النبي (حاشاه) بأمور الدنيا، يعدّ من الدّين وفق تعريف الدّكتور، لكن بما أنّ البحث العلمي الموضوعي يوصلنا إلى عدم ثبوت النسبة للنبيّ، وأنّه موضوعٌ على لسانه، فمعنى ذلك أنّ الدّين نفسه قد نقص منه هذا النصّ، وخضع للاجتهاد ولم يكن ثابتًا، ومرجع هذا النقص مجموعة من المبّررات العلميّة التي أسهمت في تكوينها علومٌ بشريّة، مثل علمي الرِّجال والحديث، فكيف يُدّعى أنّ الدّين ثابت لا يتغيّر! وأنّ المتغيّر هو الاجتهاد في الدّين فقط!
وبجملةٍ ثانية: إذا كان الباحث يؤمن في علم أصول الفقه بحجيّة خبر الواحد، فهذا الإيمان يقوده إلى توسعة دائرة النّصوص التي هي الدّين، أي توسعة الدّين نفسه؛ لأنّ الدّين هو النّصوص عند الدّكتور نصر. أمّا إذا كان لا يبني على حجيّة خبر الواحد تمسّكًا بأصل عدم حجية الظنّ من جهة، وعدم تماميّة ما يدّعى من أدلّة على التعبّد بالظن، أو مَن يبني على الحجيّة لكنّه لا يؤمن بصدور أخبار آحاد معيّنة لمشاكل في طرق وصولها، فعدم إيمانه يُنتج سقوط عددٍ كبيرٍ من النّصوص الدّينيّة أي أجزاء الدّين عن الاعتبار، وخروجها عنه. فكيف يدّعي الدّكتور أنّ الدّين ثابتٌ ولم يطرأ عليه تغيير، وأنّ التغيير يختصّ بالاجتهاد البشري! وأنّ مجال الاجتهاد هو المعرفة الدّينيّة وليس الدّين نفسه!

4- بناءً على ما تقدّم، تعريف الدّين بالنصوص المقدّسة خاطئ جدًّا، ولا يمكن قبوله بحال، وهذا الخطأ متداول بين المثقّفين، ويشترك فيه الدّكتور أبو زيد مع الدّكتور عبد الكريم سروش، فهو يرى كذلك أنّ الدّين نصوص! [21]
والصحيح أنّ الدّين مجموعةٌ من الحقائق والقضايا، والقيم، والتشريعات التي طُولب الناسُ بالإيمان والالتزام بها. ويُعدّ الإيمان بالنصّ الدّيني (القرآن الكريم) من أجزاء الدّين وقضاياه الاعتقاديّة، فكيف يكون الدّين هو النصّ؟ وحينئذٍ يكون الدّين ثابتًا، وليس متغيّرًا.
إن النصّ الدّيني ليس مرادفًا للدّين، والعلاقة بينهما علاقة الكاشف بالمنكشف؛ فالنصّ الدّيني كاشف عن تلك القضايا والقوانين التي طُلب من الإنسان الإيمان بها، أما المنكشِف فهو القضايا والحقائق والقيم والقوانين، التي تشكّل بدورها الدّين.
نعم، تمثّل النّصوص الدّينيّة أهم مصادر الدّين، لكنّها ليست المصدر الوحيد في الكشف عنه، فإلى جانب النصّ هناك المستقلّات العقليّة والمدركات البديهيّة. والفرق بين الدّين والنصّ الدّيني كالفرق بين الخطاب والحكم، الذي هو مدلول الخطاب.

5- وصف الدّكتور أبو زيد الفكر الدّيني بالاجتهاد البشري، وهو يقول ذلك في مقابل الدّين المقدّس الثابت. وكأنّه جاء بالفتح، أو يريد الانتقاص من الفكر الدّيني، والتقليل من شأنه! ونحن نتّفق مع الدّكتور أبو زيد، وغيره، في أنّ الفكر الدّيني والمعرفة الدّينيّة بشريّة، لكنّنا نقول ذلك (في الجملة)، أي على مستوى الموجبة الجزئية، ونرفض التعميم الذي أطلقه (على نحو الموجبة الكليّة).
وبغية الإيضاح أكثر نقول: توصيف المعرفة الدّينيّة بالبشريّة فيه احتمالان:
تارة يقصد به أنّ نمو المعرفة بالدّين لا يكون إلّا على أيدي البشر، ولا توجد إلّا عندهم، وفقًا للأدوات والوسائل التي يمتلكونها، وهذا المعنى تامٌّ وصحيح. وتارةً أخرى يراد ببشريّة المعرفة الدّينيّة، أنّ صفات الإنسان وخصائصه تنعكس على المعرفة التي يمارسها، من قبيل الكره والحسد والتعصّب والأهواء، والمؤثّرات القَبْليّة، والظروف والمناخات الثقافيّة التي يعيشها الباحث الدّيني. ومعناه اكتساب المعرفة الدّينيّة الهويّة البشريّة، من قصور عن إدراك الحقائق، وصعوبة الوصول إليها، وسائر أحوال الإنسان وشؤونه. ومن ثمَّ لا تخضع المعرفة الدّينيّة للقوة العاقلة فقط وإنّما لسائر قوى الإنسان وميولاته وحالاته النفسيّة، والمؤثّرات الثقافيّة، فالبشريّة في هذا الاحتمال معناها غير المعصومة، في مقابل الدّين المعصوم المقدّس.

وهذا الاحتمال تحديدًا هو مراد الدّكتور نصر، ولذا قرّر أنّ الاجتهادات تختلف من عصرٍ إلى عصر، ومن بيئةٍ إلى بيئة، ومن واقعٍ تاريخيّ وجغرافيّ وعرقيّ إلى غيره، ومن مفكّرٍ إلى آخر في البيئة الواحدة، ولأجله انتقد فهمي هويدي؛ لأنّه قال لا يوجد تعدّد إسلامات، كما سيأتي.
ويلاحظ: أنّ هذا المعنى غير تامٍ في نفسه بنحوٍ مطلق، كما سيتضح. ومن جهةٍ ثانية، فإنّ استعمال هذا التوصيف (اجتهاد بشري) لوسم الفكر الدّيني، كثيرًا ما يكون مضلّلًا، خصوصا لمّا يطرح في سياق الانتقاص من المعرفة الدّينيّة، والفكر الدّيني.

ومن جهةٍ ثالثة، نرى أنّ الصحيح في مقاربة المسألة الفصلُ بين (بشريّة) المعرفة الدّينيّة، وبين (حجّيتها) و(تبريرها). بمعنى أننا وإنْ سلّمنا ببشريّة المعرفة الدّينيّة (إجمالًا)، لكن لا يلازمه الإذعان بحجيتها جميعًا، وكونها مبرّرة، وإنّما ينبغي أنْ ينصب البحث على أي معرفةٍ بشريّةٍ هي المبرّرة والحجة؟ وأيّها لا يتسم بالحجية والتبرير؟ وأيّها لا تكون قريبةً من مقاصد وأهداف الدّين ومراداته؟

أمّا طرح الكلام على عواهنه، وإطلاقه في الهواء الطلق، والقول إنّ الفكر الدّيني اجتهادٌ بشري، فهو تضليلٌ وتزييفٌ ليس إلّا.
لا شك في أنّنا مُخطِّئةٌ نرفض التصويب، فاجتهاد المجتهد قد يصيب الواقع، وقد لا يُصيبه، وهذا الاجتهاد وإنْ كان فعلًا بشريًّا، ولكنّنا نؤمن أنّ الشريعة أعطته الحجيّة بالنسبة إلى المجتهد، وبالنسبة إلى مَن يرجع إليه من غير المختصين في شؤون الشريعة، إلّا أنّ التمسّك بتوصيف (البشري) وإغفال جانب (الحجيّة)، و(التبرير)، سلوكٌ غير منهجي، ومُضَلِّل، يهدف إلى التقليل من قيمة وحقيقة الاجتهاد في أرجاء الشريعة، لغاية سلب الاعتبار عنه، ومساواته مع تعامل آحاد المثقّفين في الشأن الدّيني.
كما يلاحظ، أنّ الدّكتور نصر لم يقدّم برهانًا، أو شواهد تجريبيّة، على صحّة تعميم توصيف (البشري) على الفكر الدّيني كلّه، وغاية ما يمكن إثباته بمدّعاه أنّ بعض الفكر الدّيني (بصرف النظر عن مساحته) هو اجتهادٌ بشريّ غير معصوم، أما التعميم فيحتاج إلى برهان.

والحقّ كثيرًا ما يستعمل الدّكتور نصر مغالطةَ التعميم، وإلّا هل تصح دعوى أنّ تحريم نكاح الأم في الإسلام المستند إلى قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم)[22]، اجتهادٌ بشريّ وفكرٌ دينيّ، وليس جزءًا من الدّين! وغير هذا المورد أمثلة كثيرة، لا سيّما الضّرورات العقديّة، والفقهية، فهناك خطابات استعملها القرآن الكريم في تبليغ جملة من التشريعات، واضحة صريحة، قاطعة لا يلفّها إجمالٌ أو إبهام، ولا تفسح مجالًا لتعدّد التفسير أو اجتهاد المجتهدين، كما نجده في الخطابات التي تُشرّع وجوب الصلاة، والصيام، والزكاة، والميراث، وآيات الأحكام الجزائيّة كالقذف، والزنا، والقتل، وغيرها.
من هذا نعرف، أنّ الدّكتور كان قاصرًا عن إدراك كلمات فهمي هويدي، حين قال الأخير: " ليس هناك إسلامٌ تقدّميّ وآخر رجعيّ، وليس هناك إسلامٌ ثوريّ وآخر استسلامي، وليس هناك إسلامٌ سياسيّ وآخر اجتماعيّ، أو إسلامٌ لسلاطين وآخر للجماهير، هناك إسلامٌ واحدٌ، كتابٌ واحد، أنزله الله على رسوله، وبلّغه رسوله إلى الناس "[23].

ويعقّب الدّكتور نصر قائلًا: «وهو قول ينقضه تاريخ الإسلام ذاته، ذلك التاريخ الذي شهد تعدّدًا في الاتجاهات التيارات والفرق، التي قامت لأسبابٍ اجتماعيّةٍ اقتصاديّةٍ سياسيّة، وصاغت مواقفها بالتأويل والاجتهاد في فهم النّصوص. ولكن هذا الإصرار على وجود إسلامٍ واحدٍ ورفض التعدديّة الفعليّة، يؤدّي إلى نتيجتين بصرف النظر عن نوايا هذا الكاتب أو ذاك:
النتيجة الأوّلى: أنّ للإسلام معنى واحدًا ثابتًا لا تؤثر فيه حركة التاريخ، ولا يتأثّر باختلاف المجتمعات، فضلًا عن تعدّد الجماعات بسبب اختلاف المصالح داخل المجتمع الواحد. النتيجة الثانية: أنّ هذا المعنى الواحد الثابت يمتلكه جماعةٌ من البشر - هم علماء الدّين قطعًا- وأنّ أعضاء هذه الجماعة مبرّأون من الأهواء، والتحيّزات الإنسانيّة الطبيعية[24].
وهذا التعليق غريبٌ جدًّا؛ إذ كيف غاب عنه فهمُ كلامٍ لم يكتب بلغةٍ اصطلاحيّةٍ ولا علميّة، وإنّما كُتب بلغةٍ عامّة! فهذا الكاتب، أعني هويدي، لا يقصد إنكار وجود واقع فعلي معاش تتعدّد فيه الإسلامات اجتماعيًّا، وسياسيًّا، وفكريًّا، فهناك إسلامٌ تركي، وإسلامٌ سعودي، وإسلامٌ ماليزي، وإنّما يقصد الإسلام الذي جاء به النبيّ من عند الله تعالى، الإسلام كما هو، هو مجموعة من القضايا الاعتقاديّة والأحكام والتعاليم، بصرف النظر عن كيفية تلقّي المسلمين لهذه القضايا، ومقدار اقترابهم منها، وتجاربهم معها، فهذا حديث آخر!

وإذا لاحظنا تتمّة كلام هويدي، تكون المسألة في غاية الوضوح، فقد قال: "وبعد البلاغ صارت الأمانة في أعناق الناس، ومن مسؤوليّاتهم، فإذا تعدّدت الاجتهادات يمينًا ويسارًا، وإذا تراوحت الممارسات صعودًا وهبوطًا أو سقوطًا، وإذا أحسن البعض فهم الإسلام أو أساء، فذلك شأن المسلمين أوّلًا وأخيرًا، وينبغي ألا يُحمَل بأي حال على الإسلام"[25].
علاوةً على أنّه وفق تعريف الدّكتور نصر للدّين بالنّصوص المقدّسة، فالمُفترض ألا يتعدّد الإسلام إذا كان هو النصّ المقدّس الثابت تاريخيًّا! فكيف يُنكر على هويدي رفضه تعدّد الإسلام؟

ثانيًا: ردّ الظواهر إلى مبدأ واحد
هذه هي الآليّة الثانية في الخطاب الدّيني وفق مدّعى الدّكتور، فالخطاب الدّيني يُرجع كلَّ الظواهر في العالَم، وفي كلِّ المجالات إلى مبدأ واحد، هو الحاكميّة الإلهيّة، لذا يقول: "إنّ الحديث عن إسلامٍ واحدٍ ثابت المعنى لا يبلغه إلّا العلماء، يمثّل جزءًا من بنية آليّة أوسع في الخطاب الدّيني، وليست هذه الآليّة من البساطة والبداهة التي تبدو بها في الوجدان والشعور الدّيني العادي والطبيعي، بل نجدها في الخطاب الدّيني ذات أبعاد خطيرة تهدّد المجتمع، وتكاد تشلّ فاعليّة العقل في شؤون الحياة والواقع. ويعتمد الخطاب الدّيني في توظيفه لهذه الآليّة على ذلك الشعور الدّيني العادي، فيوظّفها على أساس أنّها إحدى مسلّمات العقيدة التي لا تناقش. وإذا كانت كلّ العقائد تؤمن بأنّ العالَم مدينٌ في وجوده إلى علّة أولى، أو مبدأ أوّل - هو الله في الإسلام- فإنّ الخطاب الدّيني، لا العقيدة، هو الذي يقوم بتفسير كلّ الظواهر، الطبيعية والاجتماعية، بردّها جميعًا إلى ذلك المبدأ الأوّل. إنّه يقوم بإحلال (الله) في الواقع العيني المباشر، ويردّ إليه كلّ ما يقع فيه. وفي هذا الإحلال يتم تلقائيًّا نفي الإنسان، كما يتم إلغاء القوانين الطبيعيّة والاجتماعيّة، ومصادرة أيّة معرفةٍ لا سند لها من الخطاب الدّيني، أو من سلطة العلماء"[26].

أما نتيجة هذه الآليّة في الخطاب الدّيني؟ فهي أنْ تبدو أجزاء العالم مشتتة، وتبدو الطبيعة مبعثرة، إلّا من الخيط الذي يشد كلّ جزءٍ من العالَم، أو من الطبيعة إلى الخالق والمبدع الأوّل. ولا يمكن لمثل هذا التصوّر أنْ ينتج أية معرفةٍ علميةٍ بالعالم، أو بالطبيعة، ناهيك بالمجتمع أو بالإنسان [27].
وأمّا مصدر هذا التصوّر؟ فهو امتداد للموقف الأشعري القديم، الذي ينكر قوانين السببية في الطبيعة والعالَم لحساب جبريةٍ شاملة، تمثّل غطاءً أيديولوجيًا للجبرية الاجتماعية والسياسيّة في الواقع[28].
وفي الواقع، وفّر علينا الدّكتور نصر عناءً كبيرًا في هذه النقطة تحديدًا؛ لأنّه يتحدّث عن تفكيرٍ عند اتجاهٍ من المسلمين هو الاتجاه الأشعري، وهو غير ملزمٍ للتوجّهات الأخرى، في هذه المسألة المعروفة التي اختلفت فيها أنظار المذاهب والمدارس الفكريّة، قديمًا وحديثًا.

من الواضح أنّ الدّكتور - في هذه الفكرة بالتحديد- لم يكلّف نفسه عناء البحث والمراجعة، لمعرفة التوجّهات الأخرى، ومن غير الصحيح التمسّك بموقف الأشاعرة للهجوم على الخطاب الدّيني بلغة إطلاقية، وبمغالطة التعميم، ومحاولة إظهار توجّهات المدارس الفكرية الغربيّة بصفة المظلوم، الذي لم يُفهم حقًّا وصدقًا من قبل رجال الخطاب الدّيني! رغم أنّها تمثّل (اجتهادات العقل الإنساني في محاولته لتفسير الظواهر الطبيعيّة، أو الاجتماعية، وفهمها)، وفق تعبيره [29]!
وفضلًا عن هذا، تحافظ الرؤية الفلسفيّة التي نؤمن بها، على رجوع تسلسل العلل والمعلولات إلى مبدأٍ واحدٍ متعالٍ، وتحافظ من جهةٍ أخرى على فاعليّة الإنسان وحركة عقله في الكشف عن القوانين المودعة في عالَم الطبيعة، والتي يجهد علماء الطبيعة في مختلف المجالات أنفسهم في الكشف عنها، ولا نؤمن أنّها لا تؤخذ إلّا من سندٍ في الخطاب الدّيني.

ويطيب لي أنْ أختم هذه النقطة بنصٍّ أقتبسُه من الفقيه الكبير، والمفكّر الفذّ السيّد محمّد باقر الصّدر، حيث أجاب عن تصوّرات الدّكتور نصر قبل عقودٍ من الزمان، وقال في كتاب (فلسفتنا) تحت عنوان تصحيح أخطاء: «أنّ المفهوم الإلهي للعالَم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعيّة، أو التمرّد على شيءٍ من حقائق العلم الصحيح، وإنّما هو المفهوم الذي يعتبر الله سببًا أعمق، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة والمادّة. وبهذا يزول التعارض بينه وبين كلّ حقيقةٍ علميّةٍ تمامًا؛ لأنّه يطلق للعلم أوسع مجال لاستكشاف أسرار الطبيعة ونظامها، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهي في نهاية المطاف، وهو وضع السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادّة. فليست المسألة الإلهيّة- كما يشاء أنْ يصوّرها خصومها- مسألة أصابع تمتد من وراء الغيب، فتقطر الماء في الفضاء تقطيرًا، أو تحجب الشمس عنا، أو تحول بيننا وبين القمر، فيوجد ذلك المطر والكسوف والخسوف، فإذا كشف العلم عن أسباب المطر وعوامل التبخير فيه، وإذا كشف عن سبب الكسوف، وعرفنا أنّ الأجرام السماويّة ليست متساوية الأبعاد عن الأرض، وأن القمر أقرب إليها من الشمس فيتّفق أن يمرّ القمر بين الأرض والشمس فيحجب نورها عنّا، وإذا كشف العلم عن سبب الخسوف وهو: وقوع القمر في ظل الأرض، الذي يمتد وراءها إلى مسافة 900 ألف ميلٍ تقريبًا. أقول: إذا كملت هذه المعلومات لدى الإنسان، يُخيّل لأُولئك الماديين أنّ المسألة الإلهيّة لم يبقَ لها موضوع، وأنّ الأصابع الغيبيّة التي تحجب الشمس أو القمر عنّا عوَّض عنها العلم بالتعليلات الطبيعيّة، وليس هذا إلّا لسوء فهم للمسألة الإلهيّة، وعدم تمييز لموضع السبب الإلهي من سلسلة الأسباب"[30].

ثالثًا: الاعتماد على سلطة التراث
اعتماد سلطة التراث هو ثالث آليّات الخطاب الدّيني وفق الدّكتور نصر، وهو اعتمادٌ بنحوٍ لا يُناقش! حيث يوحّد الخطاب الدّيني بين التراث والسّلف وبين الدّين معتمدًا على الآليّات السابقة!
وحين اختلط المنبع القرآني بثقافاتٍ أخرى، توجّه الخطاب الدّيني صوب منهجٍ انتقائي من التراث، موظفًا اجتهادات مساويًا إيّاها بالإسلام رغم خطورتها. ومن أمثلتها ما يورده سيّد قطب في نصوصه بشأن حدّ السرقة، حيث يقول أبو زيد متحدّثًا في شرط المسروق الذي يقام فيه الحدّ: «أنْ يكون في مكانٍ مغلق»، أو بتعبير الفقهاء: «أن يكون محرزًا وأنْ يأخذ السارق من حرزه، ويخرج به عنه». وهذا معناه أنّه لا يُعدّ سارقًا يقام عليه الحد كلّ من يهرب من البلاد، بعد أنْ يستولي على أموال المواطنين مادامت هذه الأموال لم تكن مُحرَزة[31]!

"وثمّة شرط آخر أشدّ خطورة، وهو ألّا يكون للسارق في المال المسروق نصيب، أي أنّ يكون المال مملوكًا ملكيّةً خاصّةً للمسروق منه. وبدهي أنّ هذا الشرط لا يتوافر في بيت مال المسلمين، أو الخزينة العامة، فكلّ من يستولي على بعض هذا المال العام - أو كلّه - لا يقام عليه الحد؛ لأنّ (له نصيبًا فيه ليس خالصًا للغير). وهكذا ينحصر مجال تطبيق حدّ السرقة على النصّابين وصغار اللّصوص، وهذا هو الإسلام الذي يطرحه الخطاب الدّيني على الناس، ويبشرهم بأنّه قادرٌ على حلّ مشكلات الواقع"[32].

وهنا يجب أنْ نلاحظ الأمور الآتية:
لا يُفرّق الدّكتور بين الاستعانة البيانيّة بلغة الفقهاء، وبين كونها مصدرًا للدّين والفقه والشريعة، خصوصًا من أمثال سيّد قطب غير الفقيه، الذي يضطر حين يريد بيان مسألة فقهيّة إلى الاستعانة بما ذكره الفقهاء بلغتهم، لكن هذا لا يعني أنّها تُعامل بلا نقاش، أو نقدٍ ممّن يمتلك أدوات الفقه.

تعامل الدّكتور مع مسألة حدّ السّرقة وضوابطه وقيوده بتبسيطٍ لا مثيل له، لكنّه متوقّعٌ جدًّا من شخصٍ لم يدرس الفقه دراسةً تخصصيّة. وهذا واضحٌ من عدم تفريقه بين ضوابط انطباق عنوان السّرقة من الناحية القانونيّة الفقهيّة، وبين حكم التعامل مع الأموال الأخرى إذا لم ينطبق عليها عنوان السّرقة، فتوهّم جواز الأخذ وعدم العقاب في حال لم ينطبق فيه عنوان السرقة! والحال لا توجد مثل هذه الملازمة، أي لا ملازمة بين عدم تحقّق عنوان السّرقة من الناحية الشرعيّة، وبين جواز الأخذ وعدم العقوبة، كما هو الحال بالنسبة إلى قطّاع الطرق، ففي قطّاع الطرق لا ينطبق عنوان السّرقة!

لكن هل يعني عدم انطباق عنوان السّرقة جواز سلب الناس وأخذ أموالهم، وأنّه لا عقوبة؟ والجواب بالسّلب، فالمسألة على العكس من ذلك تمامًا، ولا علاقة لها بالإنسان، كما عزف الدّكتور على هذا الوتر.
والحقّ، أنّ أمثال هذه الأحكام الارتجاليّة، والتبسيط، والدعاوى الإنشائيّة، حاضرةٌ بشكل كثيفٍ في الكتاب.
لم يكن الدّكتور نصر أمينًا في نقل حكم المسألة، فطبيعة طرحه للمسألة توهم القارئ أنّ المتجاوز على المال العام يترك بلا عقوبة، وهو غير صحيح، وكان الأجدر به نقل تتمّة كلام سيّد قطب، حيث ذكر: "والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع؛ لأنّ له نصيبًا فيه فليس خالصًا للغير كذلك.. والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع، وإنّما هي التعزير.. والتعزير عقوبة دون الحدّ بالجلد، أو بالحبس، أو بالتوبيخ، أو بالموعظة، في بعض الحالات التي يناسبها هذا، حسب رأي القاضي، والظروف المحيطة"[33].

وهذا الفرع موجودٌ في الفقه الشيعي، قال الفقيه السيّد أبو القاسم الخوئي: "ألّا يكون المال مشتركًا بينه وبين غيره، فلو سرق من المال المشترك بقدر حصته، أو أقل لم تُقطع يده، ولكنّه يعزّر. نعم لو سرق أكثر من مقدار حصته وكان الزائد بقدر ربع دينار من الذهب قُطعت يده. وفي حكمِ السرقة من المال المشترك السرقةُ من المغنم أو من بيت مال المسلمين"[34].
والمسألة، كما أوضحت في النقطة الثانية، أنّ الفقهاء أكثر دقّة ممّا يتصوّر الدّكتور نصر، فلأن الأحكام الشرعيّة تثبت للعناوين وهي الموضوعات للأحكام، فهم يبحثون عن ضوابط تحقّق الموضوع بشروطه حتّى يثبت له حكمه الخاص؛ لأنّ الحكم مُناط به، وهو في محلّ البحث عنوان السّرقة والسّارق ليثبت في حقّه القطع، فإذا وجد العنوان ثبت حكمه، وإلّا فلا، لكن الانتفاء لا يعني ولا يلازمه عدم وجود عقوبةٍ في حال الاعتداء على الأموال، كما توهّم الدّكتور نصر، إلّا أنّها عقوبة تثبت بسبب عنوانٍ آخر غير عنوان السّرقة الذي فرضناه منتفيًا.

وإذا كان الحال على هذه الشاكلة، فكيف يتوقّع الدّكتور نصر، وأمثاله، أنْ نتعامل مع مخرجات البحث التخصصي في الدراسات الدّينيّة، بالمعنى المعروف في الحوزات والمعاهد الدّينيّة، بالقدر نفسه من التعامل مع مخرجات البحث الثقافي كما يطرحه الدّكتور وغيره! وأنْ نضع الجميع في سلّةٍ واحدةٍ تُسمّى بالفكر البشري تضليلًا. فهل يجوز التعامل بالمساواة بين مَن شاخ في هذه العلوم، وغاص في أعماقها، وأفنى عمره في تفاصيلها، وبين السّابح على ضفافها!

رابعًا: اليقين الذهني والحسم الفكري
المدّعى هنا، أنّ هذه الآلية تتلاحم بنحوٍ عفويّ مع آلية توحيد الفكر والدّين، وبها يتم تكفير وتجهيل الخصوم، مع ما يوافق مزاعم امتلاك الحقيقة الشاملة، والرفض لكلّ قولٍ لا يستند إلى تأصيل إسلامي. وفي الواقع، يحتاج هذا الموضوع إلى معالجةٍ خاصّة، علاوةً على اشتراكه بين المتديّن وغير المتديّن، فالحسم الفكري واليقين الذهني ظاهرة تُصاب بها كلّ مدارس الفكر، بصرف النظر عن توجهاتها، ومعالجتها تحتاج إلى ولوج ميدان نظريّة المعرفة، فضلًا عن ميادين أخرى.

ومن جانبٍ آخر لا يمكن التعامل مع هذه المسألة تعامل الدّكتور نصر، الذي اتّسم بالبساطة والاختزال، وإنّما لا بُدَّ من تفصيل الموضوعات فيها لنعرف أي موضوع يمكن التنظير فيه دون تأصيل إسلامي، وأيّها لا يمكن ذلك.

على أنّ الدّكتور أبو زيد لم يسلم من هذه الآليّة، وهاك نماذج من ذلك:
1- أكد الدّكتور في أكثر من موضع، وبطريقةٍ ساخرة، على أن كُتّاب الخطاب الدّيني يجهلون النظريات العلمية، والأفكار والثقافات التي يوردونها في سياق نقدها، في نرجسيّةٍ واضحةٍ لإبراز حيازته الفهم الدقيق، متبعًا آليّة الحسم الفكري واليقين الذهني، فمن الطرائق التي باتت معروفةً هذه الأيام لإبراز المقدرة العلمية اللجوء إلى تسخيف فهم الآخر، واتّهامه بالقصور، أو التقصير، دون ذكر شواهد على ذلك.

فتارةً يورد نقدًا كتبَه سيّد قطب ضدّ الاشتراكيّة أو الشيوعيّة، ويشكّك في فهم قُطب لحقيقة هذين الاتجاهين بشكل واضح [35]. ويدَّعي تارةً أخرى أنّ الخطاب الدّيني يقوم بعملية اختزال لتلك النظريات والأفكار بغية إظهارها بشكلٍ منفّر، كحيوانيّة الإنسان بالنسبة للداروينيّة، واختزال الفرويديّة في وحل الجنس [36]. وثالثة يؤكِّد: "أنّ الدّقة العلميّة ليست مطلبًا في الخطاب الدّيني"[37]! ورابعة يجزم - وقد عاب الجزم في الخطاب الدّيني- مؤكّدًا: "أنّ رجال الدّين وعلماءه ليسوا من أهل الاختصاص في مجال مناقشة القيمة الأدبيّة للروايات، والكتابة الأدبيّة"[38]!
ومن الواضح أنّ هذه الدعاوى، وإنْ كانت ممكنةً ومتحقّقةً ومقبولةً في الجملة أي بنحوٍ جزئي، ولكن تعميمها من الخطأ الفادح، ويفتقد مثل هذا التعميم لمبرّرات قبوله، فهل نسي الدّكتور أنّ سيّد قطب – مثالًا - كان ناقدًا أدبيًّا، وأديبًا أريبًا، قبل أنْ يكون كاتبًا إسلاميًّا! على أنّها دعاوى قابلة للانعكاس على الدّكتور نصر، سواء في النظريات العلميّة والفكر الحديث، ودقّة فهمه له، أم في الفكر الإسلامي.
إنّ دعوى عدم الفهم وافتقاد الدقّة سيّالة؛ إذ بإمكان كلّ خصمٍ أنْ يدّعيها في حقّ خصمه، وما لم تُقدَّم مبرّراتٌ علميّةٌ بلغة الشواهد والأرقام على عدم الفهم، تدخل مثل هذه الدعاوى في خانة التسفيه الأيديولوجي. علاوة على أنّها لا توصل إلى مقاربة تلمّ الشمل، أو تُضيّق من هوّة الخلاف، أو تحلّ مشكلًا، أو تنتج معرفةً، بقدر ما تدخل الجميع في دوائر الاتّهام، والجدل المستدام. ويمكن، من باب المساجلة، أنْ نذكر نماذج من كتابه لم تحظ بالدقّة:

من الموارد النادرة التي جاء فيها ذكر الشيعة، ادّعى الدّكتور: " أنّ الاجتهاد الفقهي الشيعي في مسألة الإرث، يساوي بين الذّكر والأنثى في الميراث، أو على الأقل جعل البنت الوحيدة تحجب كما يحجب الذّكر"[39].
لا أُريد عرض مسألة الحجب، والدخول في افتراضاتها وتفاصيلها، إذ المطلب المتعلّق بحاجبيّة البنت صحيح إجمالًا، فلو كان للميّت بنتٌ أو ابنٌ ولم يكن معهما وارثٌ آخر من طبقتهما (الزوج والأبوان)، فالبنت المنفردة أو الابن المنفرد يحجب الإرث عن الطبقتين الثانية (الأجداد والجدّات وإنْ عَلَوا، والأخوة والأخوات وأولادهم وإنْ نزلوا)، والثالثة (الأعمام والأخوال وإنْ علوا وأولادهم وإنْ نزلوا). فالمساواة بهذا المعنى أي حاجبيّة البنت منفردة، والابن منفردًا، لبقية الطبقات صحيحة. لكنّ دعواه أنّ الفقه الشيعي يساوي بين الذّكر والأنثى في مسألة الميراث، لا مستند لها، وعلى خلاف الفقه الشيعي؛ لأنّ الفقه الشيعي في هذه المسألة لم يخرج قيدَ أنملةٍ عن قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)[40]. وهو موقفٌ مبثوثٌ في المدوّنات الفقهية الشيعيّة في باب المواريث، ولو كلّف الدّكتور نفسه مراجعة كتب الفقه الشيعي، لوقف عند المسألة التي تقول: "إذا اجتمع الابن والبنت منفردين [أي لا يوجد وارث آخر من طبقتهم وهم الأب والأم والزوج]، أو الأبناء والبنات منفردين، كان لهما أو لهم تمام التركة، للذّكر مثل حظ الأنثيين".

من جملة الأخطاء العلميّة التاريخية التي وقع فيها الدّكتور، دعواه أنّ المعتزلة يقولون بأنّ الصفات عين الذّات، في المسألة الخلافيّة المعروفة في التوحيد الصّفاتي [41]. وفي أدنى مراجعة لمدوّنات علم الكلام، نعرف أنّ المعتزلة يقولون بنيابة الذّات عن الصفات، بمعنى أنّ ذاته تعالى نائبةٌ مناب الصفات، فيترتب على مجرّد ذاته ما يترتب على الذّات مع الصفة، وقالوا: خاصيّة العلم مثلًا إتقان الفعل، وهو أي إتقان الفعل يترتّب على ذاته تعالى بلا صفة علم حقيقيّة. والذي دعاهم إلى هذا القول هو خشية الوقوع في إشكاليّة تعدد القدماء فيما لو قالوا: بثبوت الصفات له، وكونها قديمة بقدم الذّات. قال الدّكتور بدوي في (مذاهب الإسلاميين)، تحت عنوان ما اتفقت عليه المعتزلة: «ونفوا الصّفات القديمة أصلًا، فقالوا: هو عالمٌ بذاته، قادرٌ بذاته، حيٌّ بذاته، لا بعلمٍ وقدرةٍ وحياةٍ هي صفات قديمة، ومعانٍ قائمة؛ لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخصّ الوصف لشاركته في الإلهيّة "[42].

وهذا المعنى مبثوثٌ في مدوّنات علم الكلام، ويمكن لكلّ أحدٍ مراجعته.
2- اتبع الدّكتور آليّة الحسم الفكري واليقين الذهني في تفسير الصّراع الذي دارت رحاه بين معسكر الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) ومعسكر معاوية، ووسمه جازمًا بالصراع السياسي الاجتماعي، وأفرغه من كلّ بعدٍ عقائديّ ودينيّ[43].
يتنكّر الدّكتور - في هذا الحسم الفكري- لنصوصٍ تاريخيةٍ كثيرةٍ تؤكّد الجانب الدّيني والعقائدي في ذلك الصراع، وتصفه بالصراع مع الفئة الباغية، والقاسطين، وصراع تأويل التنزيل، وهي مضامين أكّدها الإمام عليّفي ساحة المعركة، إذ كان ينبري أفراد لسؤاله عن مسائل كلاميّةٍ وعقديّة، وكان بعض أصحابه يعترضون، لكنّه يقول إنّنا نقاتل القوم من أجل ذلك.
ومن اللّافت هنا، أنّ الدّكتور نقل نصًّا للإمام عليّ(عليه السلام) يعارض فكرته في تحويل الصراع إلى سياسي، حيث نقل عن (تاريخ الطبري) قول الإمام وهو يخاطب معسكره: »عباد الله امضوا على حقّكم وصدقِكم [في] قتال عدوّكم؛ فإنَّ معاوية وعمرو بن العاص.. ليسوا بأصحاب دينٍ ولا قرآن. أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالًا وصحبتهم رجالًا، فكانوا شرّ أطفال وشرّ الرجال.. ويحكم إنّهم ما رفعوها لكم إلّا خديعةً ودهنًا ومكيدةً " [44].

خامسًا: إهدار البعد التاريخي
ادّعى الدّكتور نصر، أنّ الخطاب الدّيني يعيش وهم التطابق بين المعنى الإنساني وبين النّصوص الأصليّة، والتوحيد بين الفكر والدّين، وهو في الحقيقة توحيد بين الإنساني والإلهي، وتوهّم الوصول إلى القصد الإلهي، وأنّ الماضي يجب حلوله في الحاضر. وهذا ينتج ألّا يتصالح المسلم مع واقعه [45]! ويقول: "وإذا كنّا في مجال تحليل النصوص الأدبية وهي نتاج عقلٍ بشريّ مثلنا، لا نزعم تطابق التفسير مع النصّ أو مع قصد كاتبه، فإنّ الخطاب الدّيني لا يكتفي بإهدار البعد التاريخي الذي يفصله عن زمان النص، بل يزعم لنفسه القدرة على الوصول إلى القصد الإلهي"[46].
تُشَمُّ من نصوص الدّكتور في هذا الموضوع، رائحة أنّ الدّين وشريعته تاريخيّة، وإنْ حاول الخروج من المأزق بمأزقٍ آخر هو الجوهري وغير الجوهري في الدّين، الذي لا تُعرف له ضابطة حاسمة! وسيأتي في مسألة النصّ التعليق على فكرة الوصول إلى القصد والمراد، لكن من المهم هنا تسجيل بعض النقاط:

ماذا يقصد الدّكتور من التصالح مع الواقع؟ هل يراد من ذلك أنْ يخضع المسلم للواقع مهما كان بكلّ ظروفه الاجتماعيّة وتيّاراته الفكريّة، ويستسلم له حتّى لو كان يخالف عقيدته وثوابت إسلامه! والمسلم حينئذٍ يكون بالتسمية وليس مسلمًا حقيقيًّا. فهل يراد للمسلم أنْ يكون على شاكلة ذلك القسّ الذي يأتيه الناس نهارًا إلى الكنيسة للاعتراف بخطاياهم، لكنّه يشاركهم ليلًا حفلةَ الرقص والسُّكر!
نعم، لا شك في أنّ من الحكمة أنْ يوازن الإنسان بين الأهم والمهم في تعاطيه مع مشكلات حياته، ويراعي نظام الأولويّات وهذا من الواقعيّة، لكن من دون أنْ نخلط بين الواقعيّة وبين الاستسلام للأمر الواقع؛ فالواقعيّة لا تعني الاستسلام للأمر الواقع مهما كان، وأنْ نتعايش معه كيفما كان، وإنّما الواقعيّة أنْ نستمر في محاولة تغيير الواقع بأدوات الواقع، وأنْ نجترح كلّ يومٍ منفذًا وطريقةً لدفع الواقع الفاسد ورفع أنقاضه، دون أنْ نستسلم له، وأنْ نتماهى مع خطواته، ثم نقول: هذه واقعيّة! وإذا كانت ثمّة خطوةٌ تستنفد وجودنا وقدرتنا دون أنْ تُنتج شيئًا ملموسًا، فالواقعيّة تقتضي تركها والتحوّل إلى خطوةٍ ثانيةٍ لتحقيق الأهداف نفسها التي رسمناها مسبقًا، وسعينا إلى تحقيقها بخطواتنا السابقة.

أما مسألة الجوهري وغير الجوهري، أو الجوهري والعرضي، الفكرة التي ذكرها الدّكتور نصر، وغيره من الكُتّاب المحدَثين الإيرانيين، فهي في الواقع لم تستند إلى تأصيلٍ نظريّ حاسم، يبيّن لنا الضابطة التي على أساسها نعدّ شيئًا جوهريًا في الدّين، ويكون على أساسها شيءٌ آخر عرضيًّا. هل يراد أنّه كلّما انحرفت مسيرة البشريّة، وارتكبت شيئًا، وتنازلت عن شيءٍ، فلا بُدَّ من مسايرتها ومشايعتها في ذلك! فهل الستر بالنسبة إلى المرأة جوهري في الدّين أو غير جوهري؟ وهل حرمة أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا جوهريّ في الدّين أو عرضي؟ وهل الجوهري هو العبادات دون المعاملات؟ وهل الجوهري هو العقيدة دون الشريعة؟ وهل الجوهري هو المنسجم مع مزاجنا الشخصي والعرضي ما تأباه التربية الأوربيّة؟
وهكذا، عشرات الأسئلة التي ترد على هذا الخطاب الشِعري، الذي يطلقونه في الهواء الطلق بعنوان الجوهري والعرضي في الدّين.

ومن المهم أن نُلاحظ هنا، أنّ تبنّي الفصل الكلّي بين الدّين وبين المعرفة الدينيّة، وإمكان القراءات المختلفة للدّين، بحكم أنّ النصوص صامتة، وأنّ القارئ والمفسّر يتأثّر في تلقّيه للنصّ بظروفه الاجتماعيّة، وثقافة عصره، واستعداده النفسي، يُنتج نفي الرسالة الأساس والأصليّة للنصّ، وتكون عملية الفرز والفصل بين الجوهري والعرضي في الدّين عبثيّة ليس لها معنى!

وإذا كانت هناك رسالةٌ جوهريّةٌ في الدّين، تمثّل ذاتيّاته، وما دونها عرضي بنحو يتمكّن فيه الدّين من التعايش مع كلّ واقع اجتماعي، وسياسي، وثقافي، ويكون المسلمُ فيه متصالحًا مع واقعه دون إهدار للبعد التاريخي، فما الحاجة في أنْ يبعث الله تعالى الأنبياء بشكلٍ واسعٍ جدًّا، ويتحمّلوا كلّ تلك المعاناة والمشاق والقتل من أجل تغيير الأوضاع والبُنيات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة؟
لا شكّ في أنّ هذا التنظير يؤدّي إلى نقضِ أغراض الرسالة الإلهيّة، وعدّ الدّين عبثًا ولغوًا، وإلى حيرةِ البشر وضلالهم! والنزول بالإسلام وتقليصه إلى مستوى التجربة الذاتيّة الشخصيّة!

ذكر الدّكتور في سياق حديثه عن إهدار البعد التاريخي مفهوم الجهل مثالًا، وادّعى أنّ الجهل في لغة ما قبل الإسلام يعني الخضوع لسطوة الانفعال والاستسلام لقوة العاطفة، دون الاحتكام إلى رزانة العقل وقوّة المنطق [47]. وبما أنّ الإسلام يمثّل النقيض، وكلمة الجاهليّة تدلّ على المرحلة التاريخيّة التي قبل الإسلام، فمعنى ذلك أنّ الإسلام يمثّل جوهريًا موقف الاحتكام إلى العقل والمنطق، حتّى في فهم نصوصه ذاتها [48]. ولكن عبر تطبيق آليّة إهدار البعد التاريخي، يعدّ الخطاب الدّيني الجاهليّة هي الاعتداء على سلطان الله، والاحتكام إلى العقل! أي صارت الجاهليّة نقيض الحاكميّة، وهي الخضوع لحكم البشر في مقابل الخضوع لحكم الله [49]!
وهنا يلاحظ، أن الدّكتور يخلط بين المعنى الموضوع له وبين المستعمل فيه؛ فلو سلّمنا أن مفردة الجهل تستعمل في الاستسلام لقوة العاطفة قبل الإسلام، فلا يعني ذلك كونه المعنى الوحيد والموضوع له، وأبسط مراجعة لمعاجم اللّغة توقف القارئ على ذلك، كما سيأتي.
زِد على هذا، مَنْ ينكر أنْ يكون العقل أداةً في فهم النصوص الدّينيّة حتّى يأتي الدّكتور ليشجب هذا الإنكار؟ وكيف ساغ له أنْ يدّعي بكلِّ حسمٍ وإطلاقيّة أنّ الخطاب الدّيني يعدّ الجاهليّة هي الاحتكام للعقل! وكيف ساغ له مثل هذا التعميم، وهناك مدارس إسلامية تعدّ العقل من جملة الأدلّة إلى جانب القرآن والسنّة، بل ولا يثبت الشرع إلّا بعقل! بل جعلت بعضُ النّصوص الدّينيّة العقلَ الحُجّةَ الباطنة [50].

قائمة المصادر
الإتقان في علوم القرآن، جلال الدّين السيوطي، اعتنى به وعلّق عليه: مصطفى شيخ مصطفى، مؤسسة الرسالة ناشرون، لبنان، الطبعة الأولى، 1429هـ.
حيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأوّلى، 1424هـ.
لعين، الخليل الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، إيران، الطبعة الثانية، 1409هـ.
فلسفتنا، السيّد محمّد باقر الصّدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصصيّة للشهيد الصّدر، قم، الطبعة الأوّلى، 1424هـ.
في ظلال القرآن، سيّد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة والثلاثون، 1425هـ.
القبض والبسط في الشريعة، عبد الكريم سروش، ترجمة: دلال عبّاس، دار الجديد، بيروت، الطبعة الثانية، 2010م.
القرآن والسلطان، فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1999م.
لكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، دار الحديث للطباعة والنشر، قم، الطبعة الأولى، 1430هـ.
العَلمانيّة، كاترين كنسلر، ترجمة: محمّد الزناتي، جيوم ديفو، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2017م.
المحصول في علم الأصول، فخر الدّين الرازي، علّق عليه ووضع حواشيه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت، الطبعة الأولى، 1420هـ.
مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأوّلى، 1996م.
الأُسس الفلسفيّة للعَلمانيّة، عادل ضاهر، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية، 2015م.
المزهر في علوم اللّغة وأنواعها، عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، شرحه وضبطه وصحّحه وعنون موضوعاته وعلق حواشيه: محمد أحمد بك ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة الثالثة.
المسألة الدينيّة في القرن الواحد والعشرين، د. جورج قرم، تعريب: د. خليل أحمد خليل، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأوّلى، 2007م.
مسند أحمد، أحمد بن حنبل، مؤسّسة الرسالة، لبنان، الطبعة الأوّلى، 1416هـ.
معجم مقاييس اللّغة، أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام محمّد هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1404هـ.
المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ضبط: هيثم طعيمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأوّلى، 2002م.
مقدّمة جامع التفاسير، الرّاغب الأصفهاني، حقّقه وقدّم له وعلّق حواشيه: د. أحمد حسن فرحات، دار الدعوة، الكويت، الطبعة الأولى، 1405هـ.
منهاج الصالحين، السيّد أبو القاسم الخوئي، مؤسسة الإمام الخوئي، الطبعة الثانية والثلاثون، 1424هـ.
نصوص معاصرة، مجلّة فصليّة تعنى بالفكر الدّيني المعاصر، السنة الرابعة، صيف وخريف 2008م.
نقد الخطاب الدّيني، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، المغرب- بيروت، الطبعة الثالثة، 2007م.
نهج البلاغة، الشريف الرّضي، ضبط نصّه: الدّكتور صبحي الصالح، دار الحديث للطباعة والنشر، قم، الطبعة الثالثة، 1426هـ
أصول التفسير وقواعده، الشّيخ خالد عبد الرحمن العَك، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثانية، 1406هـ.
30. هرطقات عن الديموقراطيّة والعَلمانيّة والحداثة والممانعة العربيّة، جورج طرابيشي، دار الساقي بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، بيروت، الطبعة الأوّلى، 2006م.
اقتصادنا، السيّد محمّد باقر الصّدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصصيّة للشهيد الصّدر، قم، الطبعة الأوّلى، 1424هـ.
تاريخ الرسل والملوك، محمّد بن جرير الطبري، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979م.
التراث والعَلمانيّة، البنى والمرتكزات، الخلفيّات والمعطيات، د. عبد الكريم سروش، ترجمة: أحمد القبانجي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأوّلى، 2009م.
التفسير والمفسرون، الشّيخ محمّد هادي معرفة، الجامعة الرضويّة للعلوم الإسلاميّة، مشهد، الطبعة الثانية، 1425هـ.
سنن ابن ماجة، محمّد بن يزيد القزويني، تحقيق: بشّار عواد، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأوّلى، 1418هـ.
سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأوّلى، 1420هـ.

-------------------------------------------------
[1] دُوّنت الخطوط العامّة لهذه المراجعة في سنة (1436هـ)، ثم أعدتُ تحريرها سنة (1444هـ).
[2] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 13.
[3] م.ن، 10.
[4] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 62- 63.
[5] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 11.
[6] عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعَلمانية، 5.
[7] د. عبد الكريم سروش، التراث والعَلمانيّة، 91.
[8] الأُسس الفلسفيّة للعلمانية: 6.
[9] م، ن، 9.
[10] كاترين كنسلر، ما العَلمانيّة،10، ترجمة: محمّد الزناتي، جيوم ديفو.
[11] م، ن،10.
[12] م، ن،11.
[13] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 13.
[14] م، ن، 16.
[15] جورج قرم، المسألة الدّينيّة في القرن الواحد والعشرين، 311.
[16] م.ن، 357.
[17] جورج قرم، المسألة الدّينيّة في القرن الواحد والعشرين، 376- 377.
[18] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 29- 30.
[19] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 195- 196.
[20] صحيح مسلم: 1175، ح 6022، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً.. الخ.؛ مسند أحمد 20: 19، ح 12544.؛ سنن ابن ماجة 4: 108، ح 2471، باب تلقيح النخل.
[21] عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، 29، 31.
[22] القرآن الكريم، سورة النساء، الآية: 23.
[23] فهمي هويدي، القرآن والسلطان، 7.
[24] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 31.
[25] هويدي، القرآن والسلطان، 7.
[26] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 33- 34.
[27] م.ن.
[28] م.ن.
[29] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 35- 36.
[30] الصّدر، السيّد محمّد باقر، فلسفتنا، 233- 234.
[31] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 44.
[32] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 44- 45.
[33] سيّد قطب، في ظلال القرآن، 2: 884.
[34] منهاج الصالحين 2: 46، تكملة المنهاج.
[35] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 73.
[36] م.ن، 37.
[37] م.ن، 35.
[38] م.ن، 25.
[39] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 133.
[40] النساء، الآية: 11.
[41] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 167.
[42] بدوي، عبد الرحمن، مذاهب الإسلاميين، 1: 47.
[43] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 40، 63.
[44] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 63، نقلاً عن تاريخ الطبري 5: 48- 49.
[45] م.ن، 54- 55.
[46] م.ن، 55.
[47] أبو زيد، نصر حامد، نقد الخطاب الدّيني، 56.
[48] م.ن، 57- 58.
[49] م.ن، 58.
[50] الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني 1: 277، كتاب العقل والجهل، ح 12.