البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

معاني الحرّيّة

الباحث :  الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي(رحمه الله)
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  33
السنة :  شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 26 / 2025
عدد زيارات البحث :  45
تحميل  ( 498.306 KB )
الملخّص[1]
تعنى هذه الدراسة البحث عن معاني الحرية ودلالاتها، لاسيّما التربوية والاخلاقية وفلسفة العلوم، وتناقشها بتحليلٍ موضوعيّ، وتقويمٍ علميّ دقيق.
فتأتي على عشرة معانٍ متنوعةٍ منها حرية الاختيار وعدم إجباره على خياراته، وتعين بأنّ معنى الاجبار مرفوضٌ لتعارضه مع فلسفة تأسيس نظامٍ قيميّ تربويّ قائمٍ على اختيار الحسن ورفض القبيح؛ إذ لا يقوم ذلك إلّا بحرية إرادة الانسان المحدودة.
ومن المعاني الاستقلال الوجودي، فلا تتقيد بالإنسان مسؤولية يكون مجبرًا عليها؛ بل هو يحدد مسؤولياته باختياره، ويضع لنفسه تكاليفه بحسب اقتضائاته وقابليته. وهذا المعنى يتعارض مع التوحيد وعقيدة المملوكية والعبودية لله على الإنسان، فهو تعالى العلّة الإيجادية للإنسان، وبيده مقدراته وأفعاله.
ومن المعاني الأخرى هو عدم تعلّق الانسان بالأشياء فطريًّا، والحرية الشمولية المطلقة، والاستقلال بالشخصيّة الحقوقية.
وغير ذلك مما سيتناوله البحث بالتحليل والنقد، وتمييز المعنى السليم من غيره.

الكلمات المفتاحية : الاختيار، الحرية، الانسان .

توطئة:
لمّا كانت الحرّيّات الفرديّة تكوّن المحور الإسلامي للإعلان العالمي لحقوق الإنساني، يُعدّ البحث عن معاني الحرّيّة من المباحث الهامّة في العلوم الإنسانيّة لا سيّما حقوق الإنسان. وفي الواقع أنّ كلمة الحرّيّة اليوم تحمل معنًى قيميًّا، وتتلقّاها جميع المجتمعات كقيمةٍ ثابتةٍ ومطلقة. كما يُبحث في فلسفة الحقوق أيضًا عن الحرّيّة وتأثيرها في القوانين والأحكام الاجتماعيّة والحقوقيّة. ومع قطع النظر عن هذا فإنّ جميع العلوم الإسلاميّة لها ارتباط بهذا المفهوم؛ لذا كثرت البحوث والدراسات حول هذه الكلمة ومعانيها الاصطلاحيّة، وتمّ تأليف كتب كثيرةٍ في تاريخ الثقافة والمعرفة البشريّة حول هذا الموضوع.
ولكن مع هذا ما زالت هناك أمورٌ غير مذكورةٍ، ومشاكل مغلقةٍ وإبهامات؛ لذا ولأجل حلّ بعض المسائل من قبيل: منشأ الحرّيّة، وهل للحرّيّة قيمة مطلقة أم محدودة؟ نعتقد في البداية بلزوم تشخيص المعاني الاصطلاحيّة المختلفة لهذه الكلمة في الأدبيّات والثقافة قبل كلّ شيء، كي لا يحصل أيّ خطأ، وتصان النقود والآراء من الفوضى والخطأ.

تكشف الدراسات المختلفة أنّ لكلمة الحرّيّة اثني عشر معنى مختلفًا، بعضها فلسفي، وبعضها يرتبط بالأخلاق والتعليم والتربية، ويدخل بعضها الآخر في نطاق العلم أو فلسفة الحقوق. علمًا بأنّ بعض هذه المعاني مقبولةٌ من وجهة نظرٍ إسلاميّة. وسنشير إليها فيما يلي:

الاختيار
قد يراد من (حرّيّة الإنسان) أنّ الإنسان موجودٌ مختارٌ تكوينًا، وله إرادةٌ حرّة، بمعنى أنّ له حرّيّة العمل والاختيار في أيّ حالةٍ وموضوعٍ كيفما شاء، وهذا المعنى من الحرّيّة مثار البحث والجدل في قسم علم نفس الفلسفة - علم النفس الفلسفي لا التجريبي -، فقد أنكره بعض الفلاسفة والمتكلّمين، وذهبوا إلى أنّ الإنسان لا اختيار له في أفعاله كالجماد والنبات وسائر الحيوانات، وقد أذعن البعض الآخر بأصل حرّيّة الإرادة والاختيار، فليس الإنسان مجبرًا على طي طريقٍ خاصٍّ في الحياة، وأنْ ينمو كما يتمّ إنماؤه.
ولا شك في عدم وجود أيّ مجالٍ للبحث عن نظام القيم (الأخلاقيّة، التعليم والتربية والحقوق) في الاتّجاه الجبري، وبعبارةٍ أُخرى لو لم يكن ثمّة اختيارٌ وحرّيّةٌ التكوينيّة، بل كانت جميع أفعال الإنسان جبريّة، لما أمكن جعل مفهوم ومعنى للينبغي واللاينبغي، والحسن والقبح، والمدح والذم، والثواب والعقاب، والتكليف والمسؤوليّة؛ لأنّه لا يمكن تأسيس أيّ نظامٍ أخلاقيّ وتربويّ وحقوقيّ إلّا بعد قبول أصل الاختيار وحرّيّة إرادة الإنسان. وعليه فمن يبدع نظامًا قيميًّا أو من يدافع عن ذلك النظام القيمي وينضوي تحته، يكون مذعنًا لاختيار الإنسان التكويني. وبعبارةٍ أخرى أنّ الرؤية التكوينيّة المبتنية على الجبر عقيمةٌ لا تولد إيديولوجيًّا إطلاقًا.
هذا المعنى من الحرّيّة الذي يُعدّ أساس جميع المباحث الحقوقيّة والتربويّة والأخلاقيّة، مفهومٌ فلسفيّ صِرْف، ولا يرتبط بنطاق الحقوق ارتباطًا مباشرًا، وقد تمّ قبوله في جميع الأنظمة القيميّة ومنها الحقوقيّة كأصلٍ موضوعي، وتتكفّل الفلسفة إثباته.
إنّ اختيار الإنسان عندنا أمرٌ مسلّمٌ به ومقبول، ولكن لا بدّ من عدم الإفراط في تعيين حدود الاختيار، إذ كما أنّ شبهات الحرّيّة قابلةٌ للدفع، فإنّ حرّيّة إرادة الإنسان أيضًا محدودة، وخلافًا لزعم بعض أنصار الوجوديّة، فإنّ اختيار الإنسان التكويني وحريّته ليسا مطلقين، بمعنى عدم لا يُسمح للإنسان بفعل أيّ شيءٍ يريده في كلّ حالٍ ووضع. إذ الحرّيّة محدودةٌ بقوّةٍ منحها الله تعالى للإنسان، إنّ الإرادة المطلقة لله وحده، ولا تتقيّد بأيّ قيدٍ وحدٍّ.

الاستقلال الوجودي
قد يُراد من (حرّيّة الإنسان) أنّ الإنسان حرٌّ ومستقلٌّ من حيث الوجود، وليس في عنقه أيّ نوعٍ من العبوديّة التكوينيّة حتّى لله تعالى؛ لذا لا تتوجّه إليه أيّ مسؤوليّةٍ وتكليف، ولمّا كان الإنسان يولد حرًّا ومن دون مسؤوليّة، فله أنْ يتقبّل المسؤوليّات باختياره فقط، فكلّ إنسانٍ يمكنه رفض أيّ مسؤوليّةٍ أخلاقيّةٍ أو حقوقيّةٍ استنادًا إلى حريّته منذ الولادة.
هذا المعنى من الحرّيّة مفهومٌ فلسفي، ويبحث في الفلسفة الأولى، وهو مرفوضٌ تمامًا لنفيه التوحيد. ونحن نعتقد بعبوديّة الإنسان تكوينًا، بمعنى أنّ وجوده عين الفقر والحاجة إلى ذات الحقّ المقدّسة، فكيف فلإنسان المتعلّق في جميع وجوده وشؤونه الوجوديّة بالله تعالى وملكيّته المطلقة، أنْ يكون حرًّا ومستقلًّا؟

نحن نعتقد أنّ تعلّق الإنسان بالذات الإلهيّة المقدّسة وعبوديّته له، تنفي حرّيّته بالمعنى الاستقلال الوجوديّ تمامًا. وهذا الأصل الفسلفي مفيدٌ جدًّا في تبيين وتبرير النظم الأخلاقيّة والحقوقيّة الإسلاميّة، وللأسف تمّت الغفلة أو التغافل عنه. وسنشير هنا إجمالًا إلى أهميّة هذا الأصل في مجال الحقوق الإسلاميّة.
تعدّ المملوكيّة أساس التكليف والمسؤوليّة، والإنسان يمكنه رفض المسؤوليّة قبال موجودٍ مّا إذا لم يكن مملوكه، فمع لحاظ أنّ الإنسان ملكٌ محض لله تعالى، لا يمكنه أنْ يتنحّى عن المسؤوليّة أمامه. ولم يكن الإنسان بحيث يملك نفسه وسائر ما يتعلّق به، بل إنّه مملوكٌ تكوينًا لله تعالى ويعتمد عليه، لذا يكون مسؤولًا أمامه. وبعبارة أخرى لمّا كان الإنسان لا يمكنه التحرّر والاستقلال من الله تعالى، فإنّ التكليف أمام الله تعالى يُعدّ من لوازم الإنسان الوجوديّة. والخلاصة أنّ المدعى القائل بقدرة الإنسان في رفض أيّ تكليفٍ ومسؤوليّةٍ حتّى تّجاه الله تعالى، مع لحاظ أنّه مخلوقٌ ومملوكٌ له تعالى، خيالٌ ساذجٌ وزعمٌ باطل.

إنّ الله تعالى لم يكن ليسأل عن النعم والمواهب التي تحت اختيار الإنسان فحسب، بل إنّ الإنسان مسؤول أمام أيّ موجودٍ آخر أسهم في تكوينه أيضًا. وعلى سبيل المثال فإنّ الأبوين مساهمان في تكوينه (وإنْ كان على نحو الإعداد)؛ لذا للإنسان نوع تعلّقٍ وجوديّ بهما، وهذا التعلّق الوجودي نفسه يكون منشأً لسلسلة من التكاليف والمسؤوليّات. وما ورد عن النبيّJ في جواب من شكى إليه أباه الذي يدخل إلى بيته من دون استئذان، ويتصرّف في أمواله، فقال له النبيّJ: «أنت ومالك لأبيك»[1] يُفهم من هذا المنظار.

وكذلك الأمر في الارتباط الروحي والفكري والمعنوي الموجود بين الإنسان ومعلّمه ومربّيه، والموجب لنوع ٍمن العلقة الوجوديّة، توجد مسؤوليّات وتكاليف، ولا ينبغي حمل كلام أمير المؤمنين(عليه السلام): (من علّمني حرفًا صرت له عبدًا) على المبالغة، لأنّ المعلّم منشأ ظهور العلم والمعرفة لدى المتعلّم؛ لذا يكون له نوعٌ من الملكيّة بخصوص بعض شؤون الطالب، فلا يمكن تبيين وتبرير بعض كلمات أولياء الدين -سلام الله عليهم أجمعين- الدالّة على مملوكيّة الإنسان وعبوديّته لما كان علّة إعداديّة لبعض شؤونه الوجوديّة إلّا عن هذا الطريق.
وخلاصة القول أنّ الله تعالى هو العلّة الإيجاديّة للإنسان، وأنّ الإنسان وجميع نعمه ومواهبه الماديّة والمعنويّة التي تحت اختياره مملوكة لله تعالى. وكما أنّ لجميع الموجودات التي لها نوع تأثيرٍ في مراحل الإنسان النازلة، وكانت علّة (إعداديّة) لبعض شؤونه، لها نوعٌ من الملكيّة لبعض شؤون الإنسان. علمًا بأنّ هذه المالكيّة بأجمعها تسبّب إيجاد الحقّ، وهذه الحقوق تضع على عاتق الإنسان المسؤوليّات، وبناءً على هذا فكلّ إنسانٍ مضافًا إلى المسؤوليّة الأساسيّة التي عليه أمام الله تعالى، مسؤولٌ أمام أبيه وأمّه ومربّيه وجميع أفراد المجتمع الذين أسهموا في حياته واستقراره، الذين لولاهم تعذّرت الحياة على الإنسان أو صعبت على الأقل. نعم إنّ أصل ومبنى جميع المسؤوليّات مسؤوليّة الإنسان أمام الله، فالحريّة بمعنى أنّ الإنسان ليس له أيّ مسؤوليّةٍ تجاه أيّ موجود؛ لأنّه حرٌّ وجودًا ومستقلٌّ من جميع الموجودات، لا أساس له إطلاقًا. بل الإنسان مملوكٌ لله تعالى، ومن هذه المملوكيّة تنشأ المسؤوليّات.

عدم تعلّق الإنسان بالأشياء فطريًّا
قد يدّعي البعض أنّ الإنسان بإمكانه أنْ يكون فارغًا من أيّ شيءٍ، ومن دون تعلّق بأيّ شيء. وبعبارة أخرى أنّ الإنسان بحسب فطرته الأولى غير قابلٍ للتعلّق، إذ تقتضي فطرته عدم التعلّق والمحبّة لأيّ موجود، وأنْ يكون حرًّا من أيّ شيء.
لهذا المعنى من الحرّيّة صبغةٌ فلسفيّةٌ أيضًا تتعلّق بعلم نفس الفلسفة، ولا علاقة له بالمباحث الحقوقيّة إطلاقًا (خلافًا للمعنيين السابقين اللذين وإنْ كانا فلسفيّين غير أنّهما يرتبطان بفلسفة الحقوق).

نحن نعتقد بطلان هذا المعنى أيضًا؛ لأنّ الإنسان خُلق بنحوٍ يكون متعلّقًا بالغير قلبًا. ولا يمكنه التخلّي عن التعلّق التامّ، إنّ فطرة الإنسان تقتضي التعلّق ببعض الأشياء والأمور تعلّقًا قلبيًّا، نعم إنّ التحقيق في أصل هذه العلاقة، كيفيّة حبّ الإنسان للأشياء، يستلزم بحوثًا نفسيّةً عميقةً ودقيقة، ولا بدّ من متابعة تفاصيل هذا الأمر في علم النفس، والقدر المتيقّن أنّ الإنسان يمتلك حبّ الذات، ويتعلّق بأيّ شيءٍ يوجب لذّته ومنفعته ومصلحته وكماله. ويمكن القول أنّ أصل كثيرٍ من التعلّقات إنّما هو حب الإنسان الفطري للكمال، بمعنى أنّ الإنسان يطلب الكمال بالفطرة، ويتعلّق بكلّ شيءٍ يحسبه كمالًا أو وسيلة لاستكماله، وغاية ما يقال أنّ حبّ الكمال هذا لا يؤثّر دائمًا عن علم ومعرفة، إنّ ما يتعلّق بمعرفة الإنسان ظواهر الكمال، ويتجلّى في أعمال الآخرين وسلوكهم، وعلى أيّة حالٍ فإنّ أصل كثيرٍ من التعلّقات والمتطلّبات غير العالمة - إنْ لم نقل كلّها - هذا الحبّ للكمال.
والخلاصة أنّ المدّعى القائل باقتضاء فطرة الإنسان عدم التعلّق بأيّ شيء، وعدم الإنس مع أيّ موجود، مردود. وما يطرح كقيمةٍ سلبيّةٍ في الارتباط والتعلّق القلبي مع الآخرين، هو أنّ التعلّق بالأشياء أو الأشخاص الذين يصدّون طريق الكمال أمام الإنسان غير مطلوب.

والحاصل:
إنّ الإنسان طالب للكمال فطرةً، ويتعلّق بكلّ ما فيه كمالٌ أو يكون وسيلةً للاستكمال. ولكن الإنسان لم يكن مصيبًا دائمًا في تشخيصه، وربّما يوقع في الخطأ ويزعم الكمال لما لا يكون كذلك. وما أكثر الأمور الموجبة للّذّةٍ آنيةٍ أو منفعةٍ عابرة، يتبعها ضررٌ دائمي ومصائب ثابتة، وما أقلّ من يدرك عند التقييم عواقب الأمور وتبعاتها ويحافظ على مصالحه الحقيقيّة.
وعلى أيّ حال ينبغي للإنسان قبل كلّ شيءٍ التعرّف على كماله الحقيقي، ثمّ في ضوء هذه المعرفة يلتفت إلى كلّ ما يوجب كماله الحقيقي، ويغضّ الطرف من جهةٍ أخرى عن كلّ ما يمنع من الوصول إلى الاستكمال ويصرفه عن الالتفات والتمسّك الباطني بالكمال. والخلاصة أنّه لا ينبغي أخلاقًا التعلّق بما يسدّ طريق الكمال، كما لا يمكن التحرّر من جميع التعلّقات، ولا يكون مطلوبًا أيضًا. والمطلوب التخلّص والتحرّر من التعلّقات التي تمنع سالك طريق الكمال من التكامل.

هذا المعنى من الحرّيّة مقبولٌ من وجهة نظرٍ إسلاميّةٍ ومؤكّدٌ عليه، وقد جعل العلم والفلسفة والأخلاق الإسلامي الكمال الحقيقي في التقرّب إلى الله تعالى، ويطلب من الإنسان بلسانٍ بليغٍ ومؤكّدٍ رفض كلّ ما يمنع الوصول إلى الكمال، يقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
ففي هذه الرؤية يترتّب العذاب والحرمان لحبّ الأبوين والأولاد فيما لو غلب حبّ الله ونبيّه، ومنع الإنسان عن أداء وظائفه الدينيّة. ولا تلازم في نظر الأخلاق الإسلاميّة بين ما يوجب اللّذة والاستكمال، وعليه لا ينبغي متابعة اللذّة للذّتها، بل لا بدّ من التأمّل في كلّ لذّةٍ بشكلٍ جيّد كي يعرف أنّها هل توجب تكامل الإنسان أو تكون عامل سقوطه؟ فلا بدّ من اختيار اللذّة التي لا تمنع التكامل، وعليه لا بدّ التحرّر من كثيرٍ من اللذّات والصداقات والتعلّقات كي نتمكّن من المضيّ نحو طريق الكمال.

والحاصل لا ينبغي للإنسان - كأصل أخلاقي - التعلّق بما يمنعه من الوصول إلى الكمال، وإلّا فأصل التعلّق لا يمكن إنكاره، ولا بدّ للإنسان أنْ يتعلّق بالله تعالى.
ثمّ إنّ هذين المعنيين المذكورين للحرّيّة ـ وقد رددنا الأوّل وقبلنا الثاني ـ لا يتعلّقان بالحقوق، وذكرناهما لمجرّد التعرّف على المعاني الاصطلاحيّة المتداولة حول الحرّيّة.

الحرّيّة الشموليّة
لقد ظهر في القرن الماضي اتّجاهٌ جديدٌ في العلاج النفسي وعلوم التربية، وأدّى في مقام العمل إلى نتائج إيجابيّة، وهو إعطاء الحرّيّة الكاملة للمريض الذي يقع تحت العلاج أو التربية، كي تزدهر قواه واستعداداته الخاصّة. وقد أُطلق على هذا الاتّجاه في علوم التربية عدّة أسماء من قبيل: محوريّة المتعلّم، ومركزيّة المتعلّم، ومدارية المتعلّم، وعلم النفس العلاجي، والعلاج المركزي.

ويؤكّد أيضًا هذا الاتّجاه لا سيّما في مجال التربية، على أنّ المربّي لا بدّ أنْ يعطى الحرّيّة الكاملة للمتعلِّم، لا أنْ يسعى كيفما كان إلى إدخاله في القوالب الذهنيّة الجاهزة عنده من ذي قبل. وينبغي الالتفات في التربية الصحيحة إلى الخصائص المميّزة لكلّ شخصٍ عن الآخرين، ويسمح له بالحركة في المسير الذي تقتضيه قواه واستعداده الشخصي، فلا طريق لتفعيل واستكمال الاستعدادات الشخصيّة التي لم تكن غاية التربية سواها، من إعطاء الحرّيّة للمتعلّم.
هذا المعنى من الحرّيّة يحتوي على مفهومٍ نفسيّ وتربوي، ولا يتعلّق بالحقوق أبدًا. ولا مجال لنا هنا للبحث عن صحّة هذا الاتّجاه أو عدم صحّته، ولكن نقول إجمالًا بأنّ هذه النظريّة الإفراطيّة جاءت مقابل النظريّة التفريطيّة الموجودة في مناهج بعض القدامى، والحقّ في الأمر التفصيل والاعتدال. إذ لا ينبغي من تحديد الشخص والتضييق عليه بحيث لا يتمكّن من إبراز استعداده الثامن، كما لا ينبغي إعطاء الحرّيّة له بحيث ينطلق من أيّ تقييد، ويستسلم للغرائز الحيوانيّة التي تظهر في البداية ويخرج عن طريق الاستكمال الصحيح.

نعم لا ينبغي الزعم بإمكان تربية جميع البشر بطريقةٍ واحدة، بل لا بدّ من رفض القوالب التربويّة الجامدة، ولحظ خصائص كلّ شخص، ولكن لا بدّ أيضًا ألّا يغفل عن هذه الحقيقة، وهي أنّ وظيفة المربّي تربيةُ إنسانٍ عارفٍ بوظائفه، لا الإنسان الباحث عن رغباته النفسيّة، والمربّي يكون موفقًا فيما لو ربّى المتعلّم بحيث يكون احترام القيم الإنسانيّة الرفيعة وأداء الوظائف عنده جزءًا من متطلّباته، وهذا لا يتأتّى إلّا عن طريق بعض القيود للمتعلّم. والخلاصة أنّه توجد قيودٌ لهذه النظريّة، ولا بدّ أنْ يصل المربّي إلى توازنٍ مطلوبٍ بين الحرّيّة والتقييد.

الاستقلال في الشخصيّة الحقوقيّة
يُعدّ حقّ الاستقلال في الشخصيّة الحقوقيّة من الحقوق المدنيّة الواردة أيضًا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بمعنى حقّ الحرّيّة أمام العبوديّة والرقّ. فكلّ إنسانٍ حرٌّ بالأصالة، ولا يحقّ لأيّ شخصٍ استرقاق الآخرين.
ومن وجهة نظرٍ إسلاميّةٍ أيضًا لم يُخلق أيّ إنسان رقًّا ولا ينبغي استرقاقه، وهناك كثيرٌ من الأمور تكون ممنوعةً أوّلًا وبالذات في الإسلام، وتكون جائزةً ثانيًا وبالعرض. وعلى سبيل المثال يمنع قتل الإنسان أصالةً وفيه عقوبةٌ شديدة، ولكن إذا ارتكب شخصٌ جريمةً توجب القتل؛ لجاز قتله بل قد يجب. وكذلك الأمر في استرقاق الإنسان فإنّه عملٌ غير قانوني في الأصل، ولكن ربّما يصبح قانونيًّا بسبب عوامل خارجيّة. فإذا أصبح قتل الإنسان في بعض الأحوال قانونيًّا، فأيّ ضيرٍ في جواز استرقاقه أيضًا في بعض الحالات؟

وبعبارة أخرى إذا أمكن تخصيص حقّ الحياة وهو من الحقوق الأساسيّة والأوّليّة والمهمّة لكلّ إنسان، لماذا يستثنى حقّ الاستقلال في شخصيّته الحقوقيّة؟ إنّ قتل الكافرين والمشركين الذي هجموا على البلاد الإسلاميّة للإطاحة بالنظام الحقّ وقاتلوا المسلمين، جائز بل واجب. فحينئذٍ كيف يقال بعدم جواز استرقاق أُسرائِهم في الحرب؟ نريد أنْ نقول بمقبوليّة استرقاق من قام بأعمالٍ إجراميّة، وقد تمّ بيان هذه المسألة بشكل تفصيلي في الكتب الفقهيّة. نعم إنّ الإسلام لا يسمح بالاسترقاق بسبب اللون أو العرق ونحوهما، ولكن هذا لا يعني رفض الاسترقاق في جميع الأوضاع والأحوال.

الحرّيّة من طاعة الآخرين
لا يحقّ لأيّ إنسانٍ التأمّر على إنسانٍ آخر وأمره ونهيه، وأنْ يضع له قانونًا إلّا إذا منح الإنسان هذا الحقّ باختياره إلى الآخرين وأذعن بطاعته له. هذا المعنى من الحرّيّة لا هو صحيح بنحوٍ مطلقٍ ولا باطل، ولا بدّ من التفصيل. إنّ من يتعلّق بهم الإنسان تعلّقًا وجوديًّا، يحقّ لهم التحكّم على الإنسان بمقدار تلك العقلة، ومن لا تعلّق وجودي له على الإنسان بأيّ نحو، لا يحقّ له التحكّم به بطبيعة الحال. وعليه يمكن لأمثال الأب والأم والمعلّم والمربّي أمر الإنسان ونهيه نوعًا مّا وطلب الطاعة والانقياد منه، بسبب نوعٍ من العلّيّة الوجوديّة الموجودة لهم عليه. أمّا من لا يملك هذا الدور، فأيّ حقٍّ له في التأمّر على الإنسان وطلب الانقياد منه طبقًا لآرائهم؟

ومع قطع النظر عن هذا، فإنّ لله تعالى الربوبيّة والمالكيّة التكوينيّة على الإنسان، بمعنى عدم امتلاك الإنسان أيّ شيءٍ لنفسه وكلّ ما عنده فمنه تعالى. وعليه فليس للإنسان حقٌّ بالأصالة على أيّ شيء، وتكون جميع تصرّفاته في الكون مشروطةً بإذن الله تعالى بطبيعة الحال. ولله الحقّ في أنْ أمر الإنسان، وتحديد حدود تصرّفاته. وعليه لو أذن الله تعالى لمجموعةٍ ونصبهم آمرين على الناس ووضع القانون لهم، لأصبح لهم حقّ الحكومة على الناس.

والحاصل أنّ مع قطع النظر عن أشخاصٍ من قبيل الأب والأم والمعلّم والمربّي الذي لهم دور في شأن الإنسان الوجودي، ولهم حقّ الأمر والنهي بتلك النسبة، ومع قطع النظر عن أولياء الله المنصوبين من قبل الله تعالى لوضع القانون وحقّ الحكومة على الناس، مع قطع النظر عن هؤلاء لا يمتلك سائر الناس حقّ الملكيّة والحكومة على الناس.

إذن فالمدّعى القائل: (لا يحقّ لأيّ إنسانٍ الحكومة على إنسانٍ آخر) لا يصحّ. والأكثر خطأ من ادّعى (لا يثبت لأيّ موجودٍ حقّ الحاكميّة على الإنسان). وبعبارة أخرى لا يكون أيّ إنسانٍ مكلّفًا أمام أيّ موجود. نعم هناك من يزعم أنّ الإنسان لا يتحمّل ذاتًا أيّ مسؤوليّةٍ أمام أيّ موجودٍ إلّا إذا اختار ذلك بنفسه ذلك. وهذه العقيدة تستفاد من كلمات كثيرٍ من طالبي الحرّيّة في الغرب وإنْ لم يصرّحوا به.
هذه العقيدة غير مقبولةٍ بتاتًا، مضافًا إلى أنّ الإنسان مسؤولٌ أمام وجدانه، كما أنّ الله تعالى خالق الإنسان والكون، وله حقّ الربوبيّة والمالكيّة التكوينيّة على جميع الموجودات لا سيّما الإنسان، وتنشأ ربوبيّته التكوينيّة هذه الربوبيّة التشريعيّة، وتقتضي ربوبيّته التشريعيّة عبوديّة الإنسان. وبعبارةٍ أُخرى أنّ جميع الموجودات ومنها الإنسان ملكٌ لله تعالى. فالإنسان لا يحقّ له أصالةً التصرّف في أيٍّ من الموجودات حتّى في نفسه، ويصبح له الحقّ بعد إذنه تعالى فقط.

وبناءً على هذا فإنّ تعيين كميّة التصرّفات وكيفيّتها من حقّ الله تعالى أيضًا، بمعنى لزوم تعلّم طريقة الحياة وكيفيّتها منه تعالى، وكلّ تصرّفٍ لا بدّ أنْ يكون وفقًا لما إذن به الله تمامًا؛، لذا يحقّ لله أنْ يسأل الإنسان عن أيّ عمل، فالإنسان مسؤولٌ من قبل الله في كلّ لحظاته، أيّ مسؤول أمام الله وهذه المسؤوليّة تنفي حرّيّة الإنسان أمام الله تعالى بقوّة. وعليه يمكن القول بأنّ الإنسان مسؤولٌ أمام الله أصالة؛ ولذا كان مسؤولًا أمام آخرين، فإنّها ناشئةٌ من مسؤوليّته أمام الله.

ولا بأس هنا بإعادة ما قلناه في مباحث فلسفة الأخلاق. كثيرًا ما يقال أنّ للإنسان ثلاث مسؤوليّات: مسؤوليته أمام الله، ومسؤوليته أمام نفسه، ومسؤوليته أمام المجتمع. ولكن لم تكن مسؤوليّة الإنسان من وجهة نظرٍ إسلاميّةٍ إلّا واحدة: أي المسؤوليّة أمام الله تعالى. منها تنشأ المسؤوليّة أمام النفس والمجتمع. بيان ذلك:
إنّ أركان المسؤوليّة ثلاثة دائمًا: السائل، والمسؤول، والمسؤول عنه أو مورد المسؤوليّة، فالسائل له حقّ التكليف والسؤال والمؤاخذة. والمسؤول من يُلقى عليه التكليف ويُؤاخذ عند المخالفة. والمسؤول عنه هو متعلّق المسؤوليّة بمعنى أنّ سؤال السائل من المسؤول يتعلّق به [أي المسؤول عنه]. يرى الإسلام أنّ الله تعالى هو السائل الوحيد والإنسان هو المسؤول، أمّا المسؤول عنه يمكن أنْ يكون الإنسان أو المجتمع أو الطبيعة أو غيرها. ولله وحده حقّ مساءلة الإنسان لِمَ فعلت؟ أو لِمَ لمْ تفعل كذا بخصوص نفسك، أو المجتمع، أو الطبيعة أو غيرها؟! إنّ الله تعالى جعل حقوقًا لنفسه، وللإنسان، والمجتمع، والطبيعة وغيرها، وكلّف الإنسان برعاية هذه الحقوق؛ لذا له الحقّ في أنْ يسأله دائمًا هل راعى حقوق نفسه والمجتمع والطبيعة أم لا؟ فالسائل دائمًا هو الله تعالى، ولا يحقّ السؤال لأيّ موجودٍ آخر أصالةً.

ففي الرؤية الإسلاميّة الدالّة على عبوديّة الموجودات كلّها تكوينًا لله لا سيّما الإنسان، الذي مضافًا إلى عبوديّته التكوينيّة لله فهو يعبده تشريعيًا أيضًا، ومسؤولٌ أمامه تعالى، في هذه الرؤية الإسلاميّة تكون حرّيّة الإنسان المطلقة تجاه جميع الموجودات خطأ تمامًا؛ إذ لا يكون الإنسان حرًّا أمام الله، يفعل ما يحلو له. فعبوديّة الإنسان التشريعيّة تعدّ من أصول ومباني الحقوق الإسلاميّة، ولا تنسجم مع نفي مسؤوليّة الإنسان بشكل مطلق. فالمدعى القائل بحرّيّة الإنسان وعدم مسؤوليّته أمام أيّ موجودٍ إلّا إذا اختار ذلك بنفسه مدّعًى باطل، ولا يعد ضمن مباني الحقوق، فالأصالة في حياة الإنسان للمسؤوليّة لا الحرّيّة.

الحرّيّة في الالتزام بالقانون وطاعة الحاكم
إنّ من لوازم الاعتقاد بعدم مسؤوليّة الإنسان أمام أيّ شيءٍ إلّا إذا تقبّل مسؤوليّة باختياره، أنّ له الحقّ في عدم الالتزام بأيّ قانونٍ وعدم طاعة أيّ حاكم، إلّا القانون أو الحاكم الذي يختاره. هذا المعنى من الحرّيّة الذي يعلّق طاعة القانون والحاكم باختيار الإنسان، ينفي ضرورة القانون والحكومة مطلقًا؛ إذ إنّ القانون الذي يعيّن حقوق أفراد المجتمع وتكاليفهم في الحياة الاجتماعيّة، إنّما وُضع للعمل به، فما هي حاجة وضع قانونٍ يُخيّر الإنسان في العمل به أو عدم العمل به؟ وما هي ضرورة قانون كهذا؟ فاعتبار القانون لا يعني إلّا تكليف الناس بالعمل والالتزام به.
فالقول بضرورة القانون من جهة، والاعتقاد بحريّة العمل به من جهةٍ ثانية، لا يكون إلّا تناقضًا. بل بالدليل نفسه الذي نثبت به ضرورة القانون نثبت لزوم العمل أيضًا. نعم هذا لا يعني لزوم التزام الناس بأيّ قانونٍ وإنْ وضعه من ليس له أهليّة ذلك، ففي الرؤية الإسلاميّة تنحصر مشروعيّة القانون وتكليف الناس بالعمل به بالقانون المستند إلى الله تعالى، و الكلام نفسه يجري بخصوص الحاكم أيضًا.
ومع قطع النظر عن هذا فإنّ ربوبيّة الله التشريعيّة تقتضي بانحصار حقّ تعيين القانون والحاكم به، فيلزم طاعة القانون والحاكم الذي ينصبه الله تعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب: 36).

فالتحرّر من القانون الذي وضعه الله، والتحرّر من طاعة الحاكم الذي نصبه الله أو ارتضى حكومته؛ مردودٌ تمامًا، ولا يجوز الخروج من حكومة القانون والحاكم الإلهي بأيّ وجه.

حرّيّة الإنسان في وضع القوانين ونصب الحكّام
هذا المعنى من الحرّيّة الذي يُعدّ الركن الأساس لنظريّة الديمقراطيّة السياسيّة، قد ورد التأكيد عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل أنْ يُخصّص له مكانًا في الإعلان كمادّة أساسيّة. فلو دقّقنا النظر في الإعلان لرأينا أنّه يؤكّد في كثيرٍ من الموارد تلويحًا ويشير إلى أنّ حقّ وضع القانون وتنصيب الحاكم يعود إلى الإنسان أصالةً، وليس لأيّ مصدرٍ آخر صلاحيّة تعيين هذين الأمرين المهمّين. فيحقّ لأفراد كلّ مجتمعٍ طاعة أيّ حاكمٍ وأيّ قانونٍ شاؤوا، وليس لأيّ مقامٍ آخر حقّ التدخّل في ذلك.
وخلافًا لهذه الرؤية نحن نعتقد بأنّ حقّ تعيين القانون والحاكم ينحصر في الله تعالى أصالةً، وليس للإنسان أيّ حقٍّ في ذلك، وعليه لا يحقّ لأفراد المجتمع الاعتراض على أيّ موردٍ وضع الله فيه قانونًا أو نصب حاكمًا. وفي غير هذه الصورة هناك من له صلاحيّة حقّ وضع القانون ونصب الحاكم بشرط ألّا يخالف عملهم أحكام الله أوّلًا، ويراعي مصالح الناس الواقعيّة ونفس الأمرية الدنيويّة والآخرويّة بشكلٍ كاملٍ ثانيًا. وثالثًا ــ وهو الأهم ــ أنْ يكون مأذونًا من قبل الله تعالى.

ففي الموارد التي لم يضع الله قانونًا أو لم ينصب حاكمًا، يحقّ للمؤذونين عنه التصدّي لهذين الأمرين المهمّين مع رعاية جميع أحكام الله ومصالح الناس المادّيّة والمعنويّة، وعليه فأفراد المجتمع غير أحرارٍ في اختيار أيّ قانونٍ أو حاكمٍ شاؤوا، وبهذه المنهجيّة يمكن شرح وتبيين ولاية الفقيه وحكومته زمن غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام).

الحرّيّة في الحياة الفرديّة
المعنى الآخر للحرّيّة عدم تدخّل القانون في الأحوال الشخصيّة، إنّ أنصار هذه الرؤية رغم اعترافهم بحاكميّة القانون في الأمور الاجتماعيّة، يخالفون تدخّله في الحياة الفرديّة. وبعبارةٍ أُخرى أنّ الإنسان وإنْ وجب عليه اتّباع القانون في الحياة الاجتماعيّة ولا يحقّ له عدم الالتزام به، لكنّه يجب أنْ يكون حرًّا في حياته الفرديّة من قيود القانون، فالبشر مسؤولون في نطاق الحياة الاجتماعيّة، ولكنّهم أحرارٌ في الحياة الفرديّة وليست لهم أيّ مسؤوليّة. وقد ورد التأكيد على الحرّيّة بهذا المعنى في الإعلام العالمي لحقوق الإنسان أيضًا.
وعند تقييم هذا المعنى من الحرّيّة لا بدّ من لحاظ معنى القانون الذي يرفضون تدخّله في الحياة الخاصّة، فلو أرادوا القوانين الحقوقيّة فهذا المدعى صحيح متّفقٌ عليه. وإذا أرادوا مطلق القوانين ليشمل القوانين الأخلاقيّة والتكاليف الشرعيّة، فهو ادّعاءٌ خاطئٌ وغير مقبول.
بيان ذلك: إنّ القوانين الحقوقيّة تقتصر على الارتباطات والمناسبات الحاكمة على الحياة الاجتماعيّة، ولا تتدخّل في الحياة الفرديّة، وعليه فكلّ شخصٍ حرٌّ في حياته الخاصّة وأحواله الشخصيّة من أمرٍ ونهي وإلزامٍ وإجبار القوانين الحقوقيّة، ولا تتوجّه له أيّ مسؤوليّة تجاهها.
ولكن عدم المسؤوليّة أمام القوانين الحقوقيّة يختلف عن عدم تقبّل المسؤوليّة أمام مطلق القوانين. ولا يعني تحرّر الإنسان من قيود القوانين الحقوقيّة في حياته الفرديّة، تحرّره من جميع القوانين؛ إذ إنّ نفي سيطرة القوانين الاجتماعيّة وحاكميّتها، لا يعني نفي سلطة جميع القوانين وحاكميّتها.

ففي الوقت الذي يتحرّر الإنسان عن القوانين الحقوقيّة ولا تكون له مسؤوليّة أمامها، فإنّه مسؤولٌ أمام القوانين الأخلاقيّة (بحسب التعبير الدارج)، أو التكاليف الشرعيّة (بحسب تعبيرنا)، وليست له حرّيّة إزاءها. صحيح أنّ الإنسان في حياته الفرديّة غير مؤاخذٍ من قبل القوانين الحقوقيّة كيفما عاش، لكنّه معاقبٌ شرعًا في عالم آخر، وعليه لم تكن حرّيّة الإنسان في حياته الفرديّة مطلقة. فمن يعصي الله تعالى في البيت لا يكون تحت مراقبة وعقوبة السلطة القضائيّة، لكنّه لا يُصان من عقوبة الله وعذابه الآخروي. وعلى سبيل المثال فإنّ (منع الانتحار) لم يكن قانونًا حقوقيًّا، لأنّ القانون الحقوقي ينظر أوّلًا إلى المناسبات الاجتماعيّة، وثانيًا يكون مضمون التنفيذ من قبل الدولة، وثالثًا عقوبة للمخالفين، والحال أنّ (منع الانتحار) لا علاقة له بالمناسبات الاجتماعيّة، ولا يتضمّن الدولة تنفيذه، كما لا يمكن عقوبة المخالف (إذ قد مات).

فبما أنّ الانتحار لم يكن ممنوعًا حقوقيًّا واجتماعيًّا، فيحقّ لكلّ أحدٍ أنْ يقتل نفسه من وجهة نظرٍ حقوقيّة، ولكن هل يسمح الأخلاق أو الشرع بهذا الحقّ؟ لا يسمح بذلك شرعًا قطعًا، فالذي ينتحر سيعاقب في الآخرة، وإن لم يكن يكن له عقوبة قانونيّة في هذا العالم.
إنّ حرمة التجسّس على الحياة الخاصّة والتحقيق في أحوال الناس الشخصيّة، ينشأ من هذه الحقيقة أنّ القوانين الحقوقيّة ليس لها سلطة على حياة الإنسان الفرديّة.
نعم إنّ أصل حرمة التجسّس لم يكن مطلقًا، ولا يمنع أيّ نوعٍ من التدخّل في الحياة الخاصّة. نفترض أنّ شخصًا يزور شخصًا آخر ويراه في حالة الانتحار، فإنّه مكلّفٌ بمنعه من هذا العمل بأيّ نحوٍ كان، وإلّا سيقع تحت طاولة الملاحقة القانونيّة ولا يتمكّن من الاستناد على قاعدة حرمة التجسّس. والخلاصة أنّ الإنسان ليست له مسؤوليّةٌ حقوقيّةٌ في حدود حياته الخاصّة، ولكن له مسؤوليّةٌ أخلاقيّةٌ أو تكاليف شرعيّة.

الحرّيّة في حدود القوانين الاجتماعيّة الصحيحة
هذا المعنى من الحرّيّة يخالف رؤية الأنظمة التوتاليريّة كالشيوعيّة والفاشية؛ إذ إنّ هذه الأنظمة تحاول مهما تمكّنت من إحكام سيطرة رقابة الدولة على حياة أفراد المجتمع، ولا شك في أنّ رقابة الدولة كلّما اتّسعت انحسرت حرّيّات الناس وتحدّدت. لذا نرى تقييد الحرّيّات الفرديّة في أنظمةٍ كهذه يومًا بعد يوم، بحيث لا يرى كلّ شخص إلّا طريقًا واحدًا أمامه، وإنّ الانحراف عن هذا المسير يوجب العقوبة الشديدة. نعم إنّ هذه الأنظمة تواجه موانع عدّة في توسّع سيطرة الدولة على حياة الناس، ولكن رغم هذا يسعون كثيرًا لتحقيق أهدافهم.

إنّ رؤية الدين الإسلامي، وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يتّخذان موقفًا سلبيًّا تّجاه هذه الرؤية، ويحاولان من تقليل دور الدولة مهما أمكن، والدفاع عن حرّيّات الناس.
إنّ الإسلام يؤكّد كثيرًا حقَّ الحرّيّة الفرديّة بوصفه أساسًا من أسس المباني الحقوقيّة، ويبني كثيرًا من قوانينه الاجتماعيّة على هذا الأساس. فالأصل في الرؤية الإسلاميّة حرّيّة الإنسان في حياته الخاصّة، ولا بدّ من تحقّق الأعمال الفرديّة حتّى الدراسة واستيفاء المصالح العامّة على نحوٍ حرٍّ وطواعية. وللدولة حقّ التدخّل فيما لو لم تكف الأعمال التطوعيّة حصرًا، بأنْ تلزم الناس على أداء وظائفهم، وسبب هذا إنّ الإنسان خُلق لأجل التكامل ولا بد أنْ يستكمل في أيام حياته، ولا يتحقّق الاستكمال إلّا بالأفعال الاختياريّة والتطوّعيّة.

وبناءً على هذا فالأصل في حركة الإنسان أنْ تكون حرّةً واختياريّة، وتقتضي حكمة الله تنعّم الإنسان بنعمة الحرّيّة كي يسلك طريق السعادة أو الشقاء باختياره. فلو كان القانون بحيث يجبر الناس على السير في طريقٍ واحد - وإنْ كان صحيحًا - ويسلب حقّ الانتخاب عنهم، لكانت هذه الحركة إجباريّةً وغير استكماليّة في مآلاتها. ولو كان محيط المجتمع بحيث يفقد الإنسان القدرة على الذنب، سوف يُحرم من الاستكمال المعنوي، وإنْ لم يصدر منه بحسب الظاهر سوى الأعمال الصالحة.
فالمجتمع لا بد أنْ يكون بحيث من يريد الصلاة إنّما يؤدّيها عن حبٍّ وإرادةٍ ولم يرد المعصية، وأنْ يتمكّن من يريد معصية الله ترك الصلاة من دون خوف، وكذلك الأمر في الصوم والحج وسائر العبادات. وعليه يلزم فتح طريق الاستكمال والتعالي، وكذلك طريق السقوط والهلاك، كي يختار كلّ إنسانٍ طريقه من بينهما.

قلنا إنّ الأصل في الرؤية الإسلاميّة حرّيّة الإنسان في اختيار نمط حياته، وهنا يمكن أنْ نتساءل ونقول: هل يمكن العدول عن هذا الأصل في وقتٍ مّا؟ وبعبارةٍ أخرى هل يمكن تحديد حرّيّة الإنسان؟ الجواب نعم، إنّ ما يحدّد حرّيّة الإنسان هو مصالح المجتمع المادّيّة والمعنويّة. فالإنسان حرٌّ طالما لم يضرّ بمصالح المجتمع؛ لذا فإنّ من يراعي في المجتمع قوانين الإسلام تمامًا، بألّا يظلم أحدًا ولا يتظاهر بالفسق و...، ولكنّه يترك الصلاة في خلواته ولا يصوم ويشرب الخمر، فهذا الشخص وإنْ كان مكلّفًا أمام الله تعالى، ويعاقب في الآخرة، غير أنّه لا يلاحق قانونيًّا ولا يعاقب؛ لأنّه لم يرتكب الجريمة علنًا، ولكن من يتجاهر بالإفطار وشرب الخمر يجري عليه الحدّ والتعزير؛ لأنّ هذه الجرائم وإنْ لم توجب ضررًا ماديًّا، لكن لها أضرارٌ معنويّةٌ وروحيّةٌ كثيرةٌ للمجتمع.
وبالدليل نفسه فإنّ الإسلام لا يسمح بالتجسّس على حريم الإنسان الخاصّ، وهذا الأمر من الأهميّة بمكان بحيث لو شهد ثلاثة أشخاص مثلًا على شخص بارتكاب الفاحشة، ولم يكتمل العدد بشهادة رجلٍ رابع أو امرأتين أُخريين، يتمّ تطبيق عقوبة حدّ القذف على هؤلاء الثلاثة، نعم لو ثبتت الفاحشة أو شرب الخمر يُجرى الحد؛ لأنّ شهادة رجلين عادلين في شرب الخمر وأربعة رجال عدول في الفاحشة، يدلّ على أنّ الجريمة أخذت طابعًا اجتماعيًّا وتعدّ تجاوزًا على المجتمع معنويًّا.

في الرؤية الحقوقيّة الإسلاميّة لا متابعة قانونيّة لمخالفة التكاليف الشرعيّة والأحكام الإلهيّة ما دامت لا تضرّ بمصالح المجتمع ماديًّا أو معنويًّا. ولا يمكن أيضًا حسب هذه الرؤية إجبار أيّ شخصٍ على أداء التكاليف الشرعيّة حتّى في خلواته. نعم إنّ الله تعالى قد أوجب أداء أو ترك بعض الأعمال على الإنسان، يستدعي مخالفتها العذاب والعقاب الآخروي، ولكن مع هذا لم يسمح إطلاقًا بوضع رقيبٍ مثلًا لكلّ مكلّفٍ ليجبره على أداء تكاليفه، ويعاقبه عند التخلّف.

والحاصل يرى الإسلام أنّ طريق استكمال الإنسان المعنوي لا يتحصّل إلّا عن طريق الاختيار؛ لذا يؤكّد على موضوع الحرّيّة القانونيّة والحقوقيّة أكثر من سائر المدارس الحقوقيّة والسياسيّة الأخرى، ويجعلها من أهم مبانيه الحقوقيّة، وما يقيّد هذه الحرّيّة لا يكون سوى مصالح المجتمع المادّيّة والمعنويّة، فما دام لا يضرّ الشخص بمصالح المجتمع، يكون حرًّا في سلوكه من وجهة نظر القانون والحقوق، وهذا لا ينافي مسؤوليّته الإلهيّة والآخرويّة.
ولا بدّ من رعاية هذا الأصل في جميع شؤون المجتمع: السياسية، والاقتصاديّة، والتعليميّة، والتربويّة وغيرها، ولا بدّ من وضع القوانين وتنفيذها بحيث يتمّ تأمين الحرّيّات الفرديّة بالحدّ الممكن، وينحصر تدخّل الدولة في الموارد الاستثنائيّة والضروريّة فقط، أي حينما تتعرّض مصالح المجتمع للخطر.

إنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتوافق معنا في جعل الأصالة لحريّة الفرد لا الدولة، لكنّه يعجز في تبيين وتبرير هذا الأصل، لزعم مدوّنيه أنّه مقتضى الحرّيّة المطلقة التي يطلبها الجميع، ويرون أنّ هذا الأصل يرجع إلى حبّ الإنسان للحرّيّة المطلقة، ولكن بلحاظ ما تمّ بيانه آنفًا يتبيّن ضعف هذا الكلام.

ومع قطع النظر عن هذا، فإنّ الإعلان يجعل حدّ حرّيّة كلّ أحدٍ مرتبطًا بحريّة الآخرين، بمعنى حريّة كلّ شخصٍ ما دامت لا تضرّ بحريّة الآخرين، والحال أنّ الإسلام يجعل حدّ الحريّة مصالح المجتمع المادّيّة والمعنويّة. ونحن نعتقد فيما لو تمّ وضع بعض القيود القانونيّة، بأنْ يُمنع مثلًا من العمل الفلاني، أو تقام الحدود والتعزيرات على جماعة، إنّما هو لأجل وجود حقّ التكامل لجميع أفراد المجتمع، ولا بدّ من منع حدوث الجريمة بشكلٍ علني كي لا تمنع آثارها السيّئة المجتمع من التكامل.
ويتبيّن الاختلاف بين هاتين الرؤيتين بشكلٍ أكثر حينما يرتضى جميع أفراد المجتمع بما يتضادّ مع مصالحهم الواقعيّة ونفس الأمريّة، وعلى سبيل المثال لو ارتضى الجميع الشذوذ والانفلات الجنسي، وأنْ يرتبط كلّ رجلٍ من أيّ امرأةٍ شاء، وكذا العكس فحينئذٍ لا يقدّم أيّ أحد الشكوى للسلطة القضائيّة بطبيعة الحال، بأن تعدّى الشخص الفلاني على أمّه أو أخته أو زوجته أو ابنته، فهنا لو تعدّى رجلٌ على امرأةٍ لم يضرّ بحريّتها، ويصادق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على هذه الحالة؛ لأنّها لا تزاحم حرّيّات الآخرين، ولكن نحن نعتقد أنّ هذا العمل ممنوع؛ لأنّه يخالف هدف الخلقة في الاستكمال المعنوي للإنسان.

إنّ خلافنا مع مدوّني الإعلان مبنائي، إذ نعتقد باعتبار القوانين المتطابقة مع مصالح الإنسان الواقعيّة ونفس الأمرية، ولكنّهم يعتقدون باعتبار القوانين المتوافقة مع أهواء الإنسان، إنّهم يرون آراء الناس وأهوائهم منشأ اعتبار القانون، ونحن نرى أنّها المطابقة مع المصالح المادّيّة والمعنويّة، ونحن نرى أنّ الإنسان عبدٌ لله تعالى في التكوين والتشريع، وهم يفتون بحريّته أمام الله تعالى. والخلاصة أنّنا نعتقد أيضًا بالحريّة التي تعني حرّيّة اختيار الإنسان في إطار القوانين الاجتماعيّة الصحيحة.

---------------------------
[1] -الكليني، الكافي، 5: 135.