البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأئمّة من قريش دراسة تحليليّة نقديّة

الباحث :  الشيخ الدكتور محمد شقير
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  32
السنة :  خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2024
عدد زيارات البحث :  332
تحميل  ( 678.990 KB )
الملخّص
يتناول هذا البحث ما نصّ عليه الموروث الروائي -السني والإمامي- جعل الخلافة من قريش، وعدد الخلفاء في ذلك النص الروائي، وتعيين ذواتهم وتحديدها ، ويأتي لبيان ذلك تحليلا ونقدا على قسمين الأوّل منهما: مدى استقامة أن تكون الإمامة في قريش بالشّكل الّذي يتَّسع لمجمل قريش وبطونها وأفرادها، ويأتي الثّاني منهما: على مناقشة الاقتصار في تحديد الإمامة على صفة القرشيّة، مع عدم بيان أنَّ هذه الإمامة في أيّ من قريش وبطونها وعائلاتها وأفرادها تقع، على أنْ ننتهي بخاتمة تتضمّن ملخصًا وأهمّ النتائج المترتّبة، لكنّنا سنبدأ بتمهيد نضيء فيه على أهمّ النّقاط الّتي تساعد على تشخيص هذا البحث، وتحديد جملة من قضاياه ذات الصِّلة.

الكلمات المفتاحية : الخلافة، القرشية، الأئمة، الإمامة.


Abstract
This research addresses the narrative heritage—both Sunni and Imami—that stipulates the caliphate should be from Quraysh. It examines the number of caliphs mentioned in these narratives, identifies their specific individuals, and provides an analysis and critique in two parts. The first part explores the extent to which the imamate can be broadly applied to all of Quraysh, its clans, and individuals. The second part discusses the limitation of defining the imamate solely by the Qurayshite attribute, without specifying which part of Quraysh, its clans, families, or individuals it pertains to. The study concludes with a summary and the most significant results, beginning with an introduction that highlights the key points aiding in the diagnosis of this research and outlines several related issues.

Key words: Caliphate – Qurayshite – Imams – Imamate

توطئة :
تُعدّ الأحاديث الواردة عن النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، الّتي تتضمَّن جعل الإمامة في قريش من المواضيع الإشكاليّة، والّتي تحتاج إلى كثير تحليلٍ ونقد، لمعرفة ما إنْ كان من نقصٍ أو تحريفٍ فيها، فضلًا عن مورد هذا التّحريف وخلفيّاته[1].
والّذي يدعو أكثر إلى طرح السّؤال الأساس في بحثنا هذا، هو أنَّ ما ورد في مصادر مدرسة الخلافة حول هذا الموضوع، يُستفاد منه أمران: الأوّل أنَّ الأئمّة من قريش، والثّاني أنَّ عدد هؤلاء الأئمّة هو اثنا عشر إمامًا.
أمَّا ما يُستفاد من مصادر مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، فهو ثلاثة أمور: الأوّل أنَّ الأئمّة من قريش، الثّاني أنَّ عددهم اثنا عشر إمامًا، والثّالث هو تحديد هؤلاء الأئمّة وتعريفهم بأشخاصهم وأعيانهم وأسمائهم، بنحوٍ لا يبقى أيُّ لَبسٍ أو إبهامٍ في تحديدهم وتشخيصهم.

وعليه؛ فإنَّ السّؤال الأساس في بحثنا هذا هو: هل مِنَ الصّحيح جعل الإمامة في قريش، بنحو تكون القرشيّة -بشكل أساس، ولو مع إضافة بعض الاعتبارات القيميّة- موضوعًا لجعل الإمامة؟ وهو ما يتفرَّع منه سؤالان اثنان:
الأوّل، ويرتبط بجعل الإمامة في قريش، من حيث يقوم على أساس عصبويّ – ماديّ، ومدى انسجامه مع نصوص مدرسة الخلافة والخلفاء في السّقيفة وما بعدها، وأيضًا من حيث تاريخ قريش مع النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وموقفها منه ومن رسالته، ومشروعها الّذي كانت تحمله، وموقف النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) منها، ورؤيته للمستقبل، ولكيفية التّعامل مع قريش، ودفع مخاطر إعادة تمكينها.
الثّاني، ويرتبط بالاقتصار في تحديد الإمامة على صفة القرشيّة، وعدم الذّهاب أبعد من ذلك في تشخيصها وتحديدها في أيّ من بطون قريش، وأفخاذها، وعشائرها، وعائلاتها، بل أشخاص تلك العائلات وأعيانهم وأسمائهم.

تمهيد عام:
سنشير في هذا التمهيد إلى النقاط الآتية:
أوّلًا: إنَّ موضوع بحثنا هو الإمامة العُظمى؛ أي خلافة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في بُعدها السّياسيّ بنحوٍ أساس، وإنْ كنّا نعتقد أنّ للإمامة أبعادًا أخرى لا تقلّ أهميةً عن هذا البُعد.
ثانيًا: سنتجنَّب البحث السّنديّ اعتمادًا على ما توصَّل إليه الباحثون من تصحيح مجمل تلك الأحاديث، والقول بحجِّيّتها، بمعزلٍ عن أيّ تفصيلٍ في هذا الشّأن.
ثالثًا: في بحثنا لهذا الموضوع، سنعتمد المنهج التّحليليّ والنّقديّ، والمقارَن موضعيًا؛ وذلك لنبيّن مدى مواءمة مضمون تلك الأحاديث للموازين والمعايير الإسلاميّة الأساسيّة؛ فإنْ كانت توافقها فسيكون هذا شاهدًا إضافيًّا على صحّة تلك الأحاديث ومضمونها، وإنْ كانت تخالفها، فسيكون شاهدًا إضافيًا على عدم صحّة تلك الأحاديث، من حيث ما تتضمَّنه من دلالة أو أخرى؛ وهو ما يعني ورود تلك الإشكالات الّتي طُرحت وتُطرح على هذه الأحاديث ودلالاتها.
رابعًا: إنَّ المتَّفق عليه -في مقام المقارنة- بين مدرسة الخلافة ومدرسة أهل البيت(عليهم السلام) أمران: الأوّل كون الأئمّة في قريش، والثّاني أنَّ عددهم اثنا عشر إمامًا. أمَّا المختلف فيه، فهو أيضًا أمران: الأوّل، هل القرشيّة هي مقتضي جعل الإمامة؟ أم إنّ هذا الجعل يرتبط بمقتضيات معنويّة وعلميّة وقيميّة وغيبيّة أيضًا؟ والثّاني في تشخيص أعيان وأسماء هؤلاء الأئمّة الاثني عشر؛ إذ لا تجد في مدرسة الخلافة نصًّا على هؤلاء الأئمّة بأعيانهم وأسمائهم، بل تجد النّصّ – والوصيّة - من النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) يبيّن هؤلاء الأئمّة بأعيانهم، وأشخاصهم، وأسمائهم، بنحو لا يبقى أيُّ لَبسٍ في تحديد هؤلاء الأئمّة، ومعرفتهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم، ومجمل أوصافهم وفضائلهم، ابتداءً من الإمام عليّ ابن أبي طالب(عليه السلام)، وصولًا إلى الإمام المهديّ(عج) خاتَم الأئمّة وآخرهم.
خامسًا: إنَّ هذا البحث قد يتداخل فيه الرِّوائيّ مع التّاريخيّ، والدّينيّ مع الاجتماعيّ – السّياسيّ، وقد يتكاتف فيه بُعده المنهجيّ التّحليليّ مع النّقديّ، والمقارَن، لكن يبقى الهدف هو تبيين تلك الدّلالات من حيث مدى مواءمتها الموازين والمعايير الإسلاميّة ذات الصِّلة، وورود الإشكالات المطروحة عليها، وخصوصًا بلحاظ تلك المفارقات الّتي أشرنا إليها بين مدرسة الخلافة ومدرسة أهل البيت(عليهم السلام).

قرشيّة الإمامة؛ سؤال التأسيس والتّاريخ والمشروعيّة:
ليس البحث هنا في إمكانية أنْ تكون الإمامة في قريش؛ بل في أن تكون القرشيّة بمفهومها العصبويّ-النَّسَبيّ - الماديّ، والمطلق الواسع، الّذي يشمل جميع قريش، هي مورد تلك المشروعيّة الدّينيّة-السّياسيّة، أي أنْ تكون القرشيّة هي المقتضي للإمامة، بنحو يكون «الأئمّة من قريش» نصًّا يهدف إلى البيان الاقتضائيّ، وليس إلى البيان التّعريفيّ؛ فعلى الأوّل القرشيّة مقتضي للإمامة، وعلى الثّاني ليست المقتضي للإمامة، بل المقتضي هو أمرٌ معنويّ قيميّ معرفيّ غيبيّ اصطفائي، وما بيان أنّ «الأئمّة من قريش»، من بني هاشم، ومن أهل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلّا لتحديد من يتوافر فيهم ذلك الأمر المعنويّ والقيميّ والمعرفيّ والغيبيّ بأشخاصهم وأعيانهم وأسمائهم، بحيث يكون هناك نصّ دينيّ عليهم، يرتكز على ذاك البُعد القيميّ والمعنويّ والمعرفيّ فقط، دون العصبويّ والماديّ- النَّسَبيّ.

إنَّ جعل الإمامة في قريش، بنحو يكون الإطار القرشيّ هو الأساس في تلك الإمامة بالشّكل الّذي يُطرح، يترتَّب عليه أكثر من نقاش:
أوّلًا: هل يصحّ أنْ يكون الأساس الّذي ترتكز عليه الإمامة، أساسًا عصبويًّا مادِّيًّا، له علاقة بهذا النّسب أو بذاك النّسب؟ وهل يجوز، بحسب المعايير الدّينيّة والإسلاميّة، أن نقول إنّ فلانًا هو المؤهَّل فقط لتلك الإمامة، لمجرَّد أنّه وُلد من فلان من النّاس؟ وهل من المنطقيّ أنْ يكون التولّد المادّي هو المرتكز لأهليّة الإمامة العُظمى؟ ألا نقول إنَّ الإسلام قد أتى لمواجهة العصبيّة في مجملها، وإنّ ميزان الأكرميّة عند الله تعالى هو التقوى[2]؛ فكيف ندَّعي ذلك، ثمّ نقول في المقابل إنَّ أساس الإمامة هو أساس عصبويّ–مادِّيّ؟ ثمّ كيف نُبيّن للنّاس أنَّ الإسلام يقوم في مجمل مرتكزاته على أُسس قيميّة وإيمانيّة وعقلانيّة، ثمّ نقول، في المقابل، إنّ أخطر قضيّة في الإسلام -الإمامة العُظمى- تقوم على أساسٍ مادِّيّ نَسَبيّ عصبويّ، وليس على أساسٍ قيميّ إيمانيّ عقلانيّ؟

إنَّ ما يجب قوله في هذا السّياق، هو إنَّ الدِّين الّذي يقوم على القِيَم الإيمانيّة والمعنويّة والعقلانيّة وفلسفة الاصطفاء والهداية، لا يمكن أن تقوم الإمامة العُظمى فيه على أساس البُعد المادِّيّ والتّوالد الفيزيولوجيّ. وإنَّ الدِّين الّذي أتى لمحاربة العصبيّات المادِّيّة، لا تستقيم لديه أنْ تقوم الإمامة العُظمى على أساس من تلك العصبيّات القبليّة والأنساب المادِّيّة.

ثانيًا: إنّ الجدل الّذي اشتعل في السّقيفة بين الأنصار من جهة والمهاجرين من قريش من جهة أخرى؛ كان يدور بشكلٍ رئيسٍ حول المشروعيّة الدّينيّة – السياسيّة لتولّي الخلافة، حيث من الملاحظ أنّ المقولات الّتي استندت إليها قريش لإثبات أحقيّتها بالخلافة تدور حول الأقربية من النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «نحن أولياؤه وعشيرته»[3]، وأيضًا نسب قريش، ومكانتها في العرف السّياسيّ العربيّ يومها «لن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا[4]». ولم يذكر أيّ من رجال قريش يومها أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال إنّ »الأئمّة من قريش»، رغم احتدام ذلك الجدل، وسعي كلّ طرفٍ فيه إلى استخدام جميع أسلحته المعرفيّة لإثبات أحقيّته من الآخر في تولّي الخلافة، كون ذلك المفصل التّاريخيّ مصيريًا لأطرافه؛ وهذا إنْ دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل هذا الحديث بالشكل الّذي ذُكر لاحقًا، وإلّا لو كان النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قاله قبل مدة قصيرة -فضلًا عن أن يكون قد كرّر مضمونه في أكثر من موقف- لكان من الأهمية بمكان أنْ يعمد رجال قريش إلى الاستفادة منه بقوّة في جدليّات السّقيقة، وأنْ يستندوا إليه لحسم نقاش المشروعيّة السّياسيّة يومها، لكن لمّا لم يفعلوا ذلك - رغم توفر جميع الدّواعي لذلك، وعدم وجود ما يمنع من ذكره - دلّ على أنّ هذا الحديث لم يكن له وجودٌ حينذاك بالكيفية الّتي ظهر عليها لاحقًا في المدوّنات والمصنّفات الحديثيّة وغيرها.

ثالثًا: ماذا عن تلك النّصوص الواردة في مصادر مدرسة الخلافة، الّتي يُستفاد منها أهليَّة مَن يكون من غير قريش لتولِّي تلك الإمامة، من قبيل قول الخليفة الثّاني: «لو أدركت سالمًا مولى أبي حذيفة، لاستخلفته»[5]، مع أنّه لم يكن من قريش؛ بل لم يكن عربيًّا. وكذلك قوله أيضًا: «لو أدركت معاذ بن جبل، ثمّ ولَّيته، ثمّ قدمت على ربِّي، فقال لي: مَن ولَّيت على أُمَّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ لقلت: إيه ربّي، سمعت عبدك ونبيّك يقول: إنَّ معاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة»[6]، مع أنّ معاذ هذا لم يكن من قريش، بل كان من الأنصار.
إنَّ أمثال هذه النّصوص يُستفاد منها أنَّ الوعي الدّينيّ-السّياسيّ لدى الخلفاء يومها، لم يكن قائمًا على أساس حبس الإمامة في قريش، وإلّا لو كانت محبوسةً في قريش، لما كان هذا الجزم - ولو الفرضي- بأنّه لو أدرك سالمًا لاستخلفه، أو أنّه لو أدرك معاذ بن جبل، ثم ولّاه، لكان يمتلك مبرّره الدّينيّ عند الله يوم القيامة؛ وتاليًا سيُطرح السّؤال حول مدى صدقيَّة نصوص الأئمّة في قريش، الّتي تجعل الإمامة في قريش على أساس ماديّ-نسَبيّ، مع وجود نصوصٍ كهذه في مدرسة الخلافة، تتضمّن أهليّة من لم يكن قرشيًا لتولّي الإمامة،مع التّأكيد على أنّ هذا النّقاش مبنيٌّ على ما هو موجودٌ في مدرسة الخلافة، وليس ما هو مطروحٌ في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).

رابعًا: ماذا عن كثيرٍ من النّصوص الدّينيّة، الّتي ذُكرت في مختلف المصادر الإسلاميّة، والّتي تذمّ قريشًا[7]، وتتحدَّث عن جملة من المخاطر والتّهديدات الّتي قد تتأتّى منها؟ فهنا أيضًا: كيف يمكن أنْ يستقيم ذاك المستوى من الذمّ الّذي ورد في تلك النّصوص، مع جعل الإمامة العُظمى في قريش، وكون القرشيّة هي المقتضي لتلك الإمامة؟
وإنْ قيل بأنَّ تلك الرّوايات قد ذمَّت فئاتٍ بعينها من قريش، وليس جميع فئاتها؛ فهنا نطرح السّؤال الآتي، وهو أنَّ ذمّ تلك الفئات، إنْ كان على أساسٍ قيميّ إيمانيّ، فهذا ما يحيل الموضوع إلى البُعد الإيمانيّ والمعتقديّ والقيميّ، ليعود السّؤال من جديد، وهو أنّه إنْ كان البُعد الإيمانيّ والمعتقديّ والقيميّ هو الأساس في الإمامة، وهو الغالب على بقيّة الأُسس المادِّيّة؛ فلماذا جعل هذا الأساس المادِّي (القرشيّة) ليكون مرتكزًا للإمامة العُظمى ومقتضيًا لها؟ أمَّا الجمع ما بين القيميّ والمعتقديّ والإيمانيّ من جهة، وبين المادِّيّ – النّسبيّ من جهة أخرى؛ فهو ما لا يدفع ذلك السّؤال؛ إذ سيبقى مطروحًا حول دخالة ذلك البُعد المادِّيّ والنّسبيّ في الإمامة، مع وجود البُعد القيميّ-الإيمانيّ، وكونه الحاكم في هذا الإطار.

هذا فضلًا عن أنّ تلك النّصوص إنّما تشير إلى مستوى من المخاطر على الدّين ورسالة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) تتأتّى من فئات قريش تلك؛ وعليه، هل من الحكمة أنْ يقدّم النّص الدّيني مستندًا لتلك الفئات لاستثماره في تحقيق أهدافها؟ (وهو ما سوف نبحثه في نقطةٍ لاحقة).
خامسًا: كيف يمكن أنْ تكون المشروعيّة السّياسيّة للإمامة، في قومٍ أظهروا -في مجملهم- عداءً شديدًا للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسالته، وأهل بيته(عليهم السلام)، وقاتلوه بكلّ شراسةٍ لسنواتٍ طوال، وأخرجوه من قريته، وحاولوا اغتياله وقتله مرارًا، وبقوا على عداوتهم وشركهم إلى أن هُزموا وأُسقط ما في يدهم؟ بل هم بقوا على ضغائنهم وعداوتهم، حتَّى بعد هزيمتهم، حتّى تمكنهم الفرصة في يوم ما من إخراج ضغائنهم تلك وعداوتهم.
وهنا أيضًا إنْ قيل: إنَّ مورد تلك المشروعيّة السّياسيّة هي تلك الفئة الصّالحة والمؤمنة من قريش، فيستحيل عندها الأمر إلى البُعد الإيمانيّ والقيميّ مجدّدًا؛ ليطرح السّؤال: أنّه إنْ كان هذا البُعد هو الحاكم وهو الفيصل في الأمور، فلماذا يُبنى هذا البُعد على بُعدٍ مادِّيّ نسبيّ، فيقال مثلًا: الصّالحون من قريش، أو المؤمنون من قريش؟ فلماذا دخالة القرشيّة عندئذٍ؟ ولماذا لا يُكتفى بذاك البُعد القيميّ والمعتقديّ والإيمانيّ فقط؟ وهل يستقيم هذا القول: إنَّ دينًا يقوم على الأساس القيميّ والمعتقديّ والإيمانيّ، وجاء للارتقاء على العصبيّات المادِّيّة والنّسبيّة وتجاوزها، أنْ يبني واحدةً من أخطر القضايا لديه، وهي المشروعيّة السّياسيّة للإمامة العُظمى، على أساس من تلك العصبيّات المادِّية والنّسبيّة وقيمها؟
سادسًا: كيف يمكن أنْ يجعل النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) موطن الإمامة العُظمى، ومورد مشروعيّتها السّياسيّة -بل الدّينيّة أيضًا- في إطار عصبيّةٍ اجتماعيّةٍ (قريش) تملك أيديولوجيا دينيّة وقيميّة، تخالف ما جاء به النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته ورسالته، وتتبنّى مشروعًا سياسيًّا اجتماعيًّا ثقافيًا، يتنافى مع المشروع السّياسيّ الاجتماعيّ الثّقافي، الّذي جاء به النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعمل عليه بقوّةٍ لعقود من الزّمن؟
وهل يمكن لقائدٍ حكيمٍ كالنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنْ يفتح منفذًا لمشروع قريش السّياسيّ ليستعيد حضوره، ولأيديولوجيّتها الدّينية لتستعيد دورها، بعد أنْ انتصر على ذاك المشروع وهزمه، مع ما لذلك النّصر من تداعياتٍ على المستوى الدّينيّ والاجتماعيّ وغيره؟

قد لا نحتاج إلى ذاك البيان، لنوضح أنّ الصّراع مع قريش قد كان أيديولوجيًّا دينيًّا قيميًّا، ومن ثمّ كان سياسيًّا عسكريًّا... ويخطئ من يعتقد أنّ هذ الصّراع قد انتهى بدخول مكَّة. نعم، قد همد لفترةٍ أو أخرى من الزّمن، لكنّه أخذ ينتظر فرصته ليتّخذ أشكالًا ووسائل مختلفة في المواجهة، من أجل أنْ تستعيد قريشٌ حضورها ودورها، وهو ما أثبتته وقائع التّاريخ بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه؛ كيف يصحّ بالمنطق السّياسيّ والدّينيّ والتّاريخيّ، أنْ يعمد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التّمهيد لعودة ذلك المشروع، وإلى إعطائه مرتكزًا، ونوع مشروعيّة دينيّة-سياسيّة، لينهض من جديد، مع ما يشكّله هذا الأمر من خطورةٍ كبيرةٍ على الرّسالة والدّعوة؟

نعم، إنْ قيل إنّ المقصود بقريش هم أولئك الصّالحون المؤمنون، فهذا أوّل ما يحيلنا إلى البُعد القيميّ والإيمانيّ؛ ليكون هو الأساس والحاكم، ليُطرح السّؤال عندها إذًا لماذا يذكر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا البُعد العصبويّ-المادّيّ (قريش) بهذه الكيفيّة «الأئمّة من قريش»، بنحو يكون النّص مقتصرًا على المقتضي القرشي، مع ما يمكن أن يترتّب عليه من محاذير ومخاطر، من حيث إنّ قريشًا قد تستغلّ هذه النّصوص، لتبني عليها سرديَّـتها الدّينيّة والسّياسيّة، لتوظّفها في بناء مشروعيّةٍ دينيّةٍ سياسيّة، تؤسّس لاستعادة حضورها ودورها بشكلٍ أو بآخر؟ فهل سيكون من الحكمة عندها أنْ يقدّم النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا المُعطى الدّينيّ بهذه الكيفيّة «الأئمّة من قريش»، الّتي تمهّد الطريق لعودة المشروع المعادي، وتسمح لقريش باستغلاله وتوظيفه في سياق استعادة حضورها الدّينيّ والسّياسيّ؛ بل تُمكّن قريشًا من الإضرار برسالته(صلى الله عليه وآله وسلم) وقيمها ومعانيها، وتساعد على أكثر من تحريفٍ أو تبديل أو انقلابٍ على دينه ومشروعه؟
ألا يمكن القول: إنّ وقائع التّاريخ الّتي حصلت لاحقًا، تُظهر كيف استفادت قريش من هذه النّصوص الدّينيّة، وكم عملت على توظيفها واستثمارها لصالح استعادة ملكها المفقود، ودورها الذي سلبه منها محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومشروعها الّذي خبت جذوته مع فتح مكّة؟ فهل من المعقول أنْ يؤسّس النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيانه الدّينيّ لعودة قريش تلك، ولذاك الاستثمار الذي مارسته دينيًّا وسياسيًّا، وترتّب عليه كثيرٌ من الكوارث والأضرار؟

الإمامة العظمى؛ تحديد غير مكتمل:
في تحديد من ينبغي أنْ يتولَّى الإمامة العُظمى؛ إمّا أنْ يكون التّحديد شورويًّا -بمعزل عن مجمل مفردات هذه الشورى وتفاصيلها- فنذهب مع هذه الشّورى إلى حيث تأخذنا، من دون أيّ تحديدٍ لها في إطارٍ عصبويّ (قريش) أو آخر؛ وإمَّا أنْ يكون التّحديد إلهيًّا: ﴿بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾[8]، فنذهب مع هذا التّحديد الإلهيّ إلى آخر مطافه؛ أي إلى تشخيص من يتولَّى هذه الإمامة ومعرفته بشخصه (ومجمل أوصافه)، بنحوٍ لا يبقى أيُّ لَبسٍ في معرفة من هو الإمام بعد الإمام.
أمَّا أنْ يكون لدينا نصف تحديدٍ إلهي، ونصف شورى، فهو ما يحتاج إلى نقاشٍ علميّ معمَّق، أنّه عندما يعمد النّصّ الدّينيّ الإسلاميّ إلى تحديد مَن يتولَّى هذه الإمامة العظمى، أنّه من قريش وليس من غيرها؛ فلماذا يقف هذا التّحديد عند قريش؟ ولماذا لا يكمل طريقه ليبيّن لنا في أيٍّ من بطون قريش تكون الإمامة، وفي أيٍّ من أُسرها وعائلاتها، بل في أيٍّ من أشخاصها ورجالها؟ أي إنّ تحديد من يتوَّلى هذه الإمامة، عندما بدأ النّصّ الدّينيّ يرسم مساره وحركته؛ فلماذا يقتصر على الوصف القرشي، ولا يتعدّاه إلى ما هو أشدّ غورًا فيه، وأكثر تشخيصًا منه؛ ليصل به إلى أقصى غايته، وبيان جميع تفاصيله ومعطياته؟

وعليه؛ نحن نحتاج إلى مناقشة هذا الاقتصار في التّحديد من خلال ما يلي:
أوّلًا: قد يخالف بعض الأحاديث الشّريفة الّتي أكملت بيان مسار التّفضيل ذاك إلى بني هاشم، وإلى أهل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى أشخاص محدّدين من أهل بيته وذرِّيّته؛ من قبيل تلك الأحاديث التي تُبيّن فضل بني هاشم[9]، لتصل إلى بيان فضائل أهل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)[10]، ولتكمل في بيان فضائل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)[11]، والأئمّة من ذرِّيّته؛ أي إنّ هذا التّحديد يصل -بناءً على هذه الأحاديث- إلى غايته القصوى في تحديد أشخاص الأئمّة والتّعريف بهم، ولم يقف عند حدٍّ يفضي إلى جهالة من هو الإمام، أو الّلبس فيه، أو الشّكّ في شخصه وعدم معرفته؛ أي إنّ منظومة الأحاديث هذه تكمل البيان في تحديد الأئمّة والتّعريف بأشخاصهم، ولا ترتضي أنْ يكون البيان ناقصًا في هكذا قضيّة، تُعدّ من أخطر القضايا في الدِّين والاجتماع العام والمستقبل الحضاري للمشروع النّبويّ، بما يقطع الطّريق على أيّ التباسٍ قد يُفضي إلى أكثر من اختلافٍ وتنازع، وبما يغلق الباب على أيّ استغلالٍ لأيّ إبهامٍ أو نقصٍ في البيان، من قِبَل الطّامعين في الرئاسة، والطّامحين من قريش إلى استعادة دورهم وحضورهم.

ويجب الإلتفات إلى أنّ من يتمعَّن في منظومة أحاديث الفضائل الّتي وردت عن النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بحقّ الإمام عليّ(عليه السلام) والأئمّة من ذرِّيّته (عليهم السلام)، في معانيها وأبعادها وشموليّتها؛ يدرك تمامًا أنّ منظومة الفضائل هذه لا تُعبّر عن نوعِ ترفٍ دينيّ، ولا تفصح عن سياقٍ مبتورٍ عن دلالاته الدّينيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة؛ وإنّما هي منظومة فضائل جاءت لتقوم بأمرين: الأوّل، وهو أنْ تبيّن بأسلوبٍ فضائليّ من هو الإمام بشخصه واسمه، بعد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بل من هو الإمام الخلف بعد السلف-، والثّاني، أنْ تقدّم تسويغًا فضائليًّا عقلانيًّا منطقيًّا لتحديد الإمامة في شخص فلان أو فلان من النّاس؛ أي إنّ تلك الأحاديث قد جاءت لتقول إنّ فلان هو الإمام، هذا أوّلًا، وثانيًا إنّ مسوّغ كونه إمامًا هو أنّ لديه من هذه الفضائل -الّتي يتقدَّم بها على الجميع- ما يجعله الأفضل لتولّي سدّة الإمامة، وإدارة مختلف شؤونها في بُعديها الدّيني والسّياسي.
ثانيًا: هل من الحكمة أنْ يقف مسار تحديد من هو الإمام - ومن هم الأئمّة - عند قريش، ولا يكمل مساره إلى خواتيمه الأخيرة؟ إذ إنّه عندما نأتي إلى حكمةٍ أو أخرى لهذا التّحديد، فلن تبلغ هذه الحكمة غايتها، إنْ كان مسار التّحديد ناقصًا وقاصرًا عن الوصول إلى أبعد مداه.

وإنّ السؤال المتقدّم يقود إلى سؤالٍ آخر حول الحكمة من هذا التّحديد؛ فلو قلنا إنّ الحكمة هي الحؤول دون التّنازع على الإمامة، ودون الاختلاف على الرّئاسة العامّة، فإنَّ هذه الحكمة لا تُدرك إنْ كان البيان ناقصًا والتّحديد قاصرًا؛ فعندما يُقال إنّ «الأئمّة من قريش»، فقد يؤسّس هذا البيان لمنع التّنازع - معرفيًا فقط - بين قريش وغيرها، لأنّ النصّ الدّينيّ قد حصر الإمامة في قريش، لكنّه -من دون شكّ - لا يؤسّس لمنع التّنازع داخل قريش؛ بل إنّ أقصى ما يفعله هذا النصّ هو حصر التّنازع في قريش، لكنّه لا يؤسّس - بالاعتبار الدّينيّ المعرفيّ، وليس بالاعتبار السياسيّ والاجتماعيّ - لمنع التّنازع من أصله. وتاليًا، فإنّ هذه الحكمة ستبقى قاصرةً عن بلوغ أقصى غايتها، وهو التّأسيس لمنع التّنازع؛ بل ستكون غير ذات جدوى على الإطلاق؛ وذلك أنّ حصر التّنازع على الإمامة في قريش، سيفضي إلى أنْ يبدأ التّنازع في قريش، لكن لن ينتهي عندها، بل سيشمل الأمّة كافّةً؛ أي إنّ العمل على حصر التّنازع في قريش لحماية الأُمّة من التّنازع، لن يؤدّي إلى حماية الأُمّة من هذا التّنازع؛ لأنّ اشتعال التّنازع على الإمامة إنْ بدأ في قريش، فإنّه سيمتدّ ليشمل الأُمّة بأكملها، وتاليًا، فإنّ هذا التّدبير سيكون غير ذات جدوى على الإطلاق.
أليس هذا الّذي حصل في التّاريخ الإسلاميّ؟ ألم تتمسّك قريش - لاحقًا - بهذه المقولة بهدف حصر الإمامة بها دون الآخرين، لكن أقصى ما استطاعت هذه المقولة أنْ تفعله -إلى مدّةٍ من الزمن- هو أنّها حصرت الصّراع على السّلطة في قريش، لكن هذا الصّراع الّذي نشب داخل قريش، سرعان ما امتدَّ ليشمل الأُمّة، كلّ الأُمّة؛ فقد بدأ في قريش، لكنّه اتّسع ليشمل الجميع، وليستولد ديناميّات صراعيّة، كان لها كثيرٌ من التّداعيات والنتائج على أكثر من مستوى، وفي أكثر من ميدان.

وخلاصة القول: إنّه إنْ كان مردّ الأمر إلى سدّ أبواب التّنازع، فإنّ هذا البيان الناقص لا يسدّ أبواب التّنازع.
وإنْ كان مردّ الأمر إلى إقفال الطّريق على قريش ومشروعها الرّامي إلى استعادة دوره وحضوره، فإنّ هذا البيان النّاقص - وعلى العكس من ذلك - يؤسّس لاستغلال قريش لإبهامه ونقصه، بهدف توظيفه في خدمة مشروعها.
وإنْ كان مردّ الأمر إلى اختيار من هو الأفضل للحفاظ على الدّين، وإقامة القسط والعدل، وديمومة المشروع النّبويّ نقيًّا مستقيمًا في قيمه ومعانيه، كما جاء به النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل به الوحي؛ فإنّ هذا البيان الناقص لن يفضي إلى هذه الغاية؛ إذ إنّ حصر الأمر داخل قريش، سوف يؤدي إلى تحريك مراكز القوى داخلها بهدف الاستحواذ على الإمامة، حيث لن يضرّ هذه المراكز أن تلجأ إلى استخدام الدّين لبناء سرديتها في المشروعيّة، واختلاق نصوصٍ دينيّةٍ بهدف توسيغ إمساكها بالسّلطة السّياسيّة، كما حصل في حرب المشروعيّات الدّينيّة والسّياسيّة في التّاريخ الإسلاميّ.
أي إنّ عدم كمال ذلك البيان، قد يتيح لمراكز الثقل الاجتماعيّ والماليّ -وليس مراكز الثقل المعنويّ والدّينيّ- أنْ تسيطر على تلك الإمامة، بنحو تغدو إمامة المسلمين خاضعةً لمنطق الدّاروينيّة الاجتماعيّة، والسّياسيّة، والعسكريّة -كما حصل في التّاريخ الإسلاميّ- وليس لمنطق الحقّ والعدل والصلاح؛ وعليه، لن تبلغ هذه الحكمة غايتها.

وكذلك الأمر لو قلنا إنّ حكمة أخرى - ممّا له علاقة بقضيّة الإمامة والرّئاسة العامّة - هي المرادة من هذا التّحديد، فستكون هذه الحكمة أيضًا قاصرةً عن بلوغ غايتها، في ما لو كانت ناقصة، ولم تبلغ نهاية أمدها ومسارها، في تحديد موردها وتشخيص موضعها؛ إذ إنّه لا يُعقل أن تقتضي حكمة البيان النبويّ - أيًّا كانت - تحديد الإمامة في أيّ من قبائل العرب، ولا تقتضي حكمة هذا البيان تحديدها في أيّ من بطون هذه القبيلة وعائلاتها ورجالها.
ثالثًا: قد يحمل الأمر شيئًا من التّناقض أو التّهافت، بمعنى أنّه إمّا أنْ تكون مشروعيّةً إلهيّةً وإمّا مشروعيّةً بشرية؛ أي إمّا أنْ يكون الاختيار للنّصّ الدّينيّ، وإمّا يكون للفعل البشريّ. وبتعبير آخر: إمّا أنْ يكون التّعيين للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) - بوصفه مبلّغًا عن الله تعالى - وإمّا يكون التّعيين لمن سوى النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل الشّورى - كما يُطرَح -. أمّا الذّهاب إلى المناصفة، فيكون لدينا نصف مشروعيّةٍ إلهيّة، ونصف مشروعيّةٍ بشرية؛ فهو ما ينطوي على شيءٍ من التّهافت؛ لأنّ كلًّا من هاتين المشروعيّتين تنفي، في مسوّغاتها، المشروعيّةَ الأخرى وتلغيها؛ لأنّ هذا الخلط ما بين الاختيار الدّينيّ والاختيار البشريّ، هو خلطٌ قاصرٌ عن تقديم مسوّغاته الفكريّة والمعرفيّة.
ويمكن القول - ببيان آخر - إنّ تحديد الإمامة العُظمى في قريش فقط، يقود إلى البحث في الأُسس الفكريّة الّتي يقوم عليها هذا التّحديد، فهل يرتكز على كون المشروعيّة الدّينيّة والسّياسيّة في الإمامة هي مشروعيّة إلهيّة؟ فإنْ كان الأمر كذلك، فهو ما يتطلَّب انتفاء أيّ وجودٍ للمشروعيّة البشريّة في أيٍّ من تجلّياتها؛ لأنَّ المشروعيّة الإلهيّة في موضوع الإمامة لا حدَّ لها، ولا ينبغي أنْ تكون ناقصة، ولا يصحّ أنْ تقصر عن الوصول إلى غايتها. وكذلك الأمر لو قلنا إنّ هذا التّحديد يرتكز على المشروعيّة البشريّة.

أمّا أنْ يكون لدينا نصف مشروعيّةٍ إلهيّة، ونصف مشروعيّةٍ بشريّة؛ فهو ما لا يستقيم مع الأُسس الفكريّة ذات الصِّلة؛ أي أنْ يُقال إنّ النّصّ الدّينيّ يُحدّد مشروعيّة الإمامة في قريش، ثمّ يأتي دور الاختيار البشريّ (الشورى) ليحدّد من يكون الإمام من قريش؛ فهو ما لا يصمد أمام النّقد والنّقاش؛ لأنَّ هذا المزج في المشروعيّة، ما بين إلهيّة وبشريّة (الشورى)، قاصرٌ عن تسويغ هذا الخلط ما بين المشروعيّة الإلهيّة، والمشروعيّة البشريّة.
وعليه، إنّ الذهاب إلى الخلط ما بين المشروعيّتين، يفضي إلى التّنافي والتّهافت ما بين المرتكزات الفكريّة لكلّ منهما؛ لأنّه لو تأمّلنا في مرتكزات كلٍّ من هاتين المشروعيتين ومداها، لوجدنا أنّ هذا المدى ينبغي أنْ يصل إلى أقصى غايته في تحديد مورده ومراده. أمّا أنْ تُحبس تلك المرتكزات في مداها، ونقصرها على حدٍّ أو آخر منه، فهو ما يضرّ بتلك المرتكزات، ويتنافى مع التسويغ الفكريّ الذي تقدّمه، لبيان قيمتها العلميّة والعمليّة، وتحديد مداها، ومجمل ما يرتبط بها.
وخلاصة القول: إنَّ هذا الجّمع ما بين هاتين المشروعيّتين، والخلط ما بين الاختيار النّبويّ (الدّينيّ) والاختيار البشريّ، هو جمعٌ لا يمكن تسويغه، وخلطٌ لا يمكن الركون إليه؛ لأنّ وجود أيٍّ من هاتين المشروعيتيّن ينفي بالضّرورة وجود الأخرى، ما يدفع إلى الجزم بتهافته، ويؤسّس للعدول عنه إلى آراء وأقوال أخرى في هذا السياق.

رابعًا: إنّ معنى أنْ يحدّد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) – بوصفه مبلّغًا عن الله تعالى - المشروعيّة السّياسيّة في قريش، هو أنّ مرجعيّة تحديد هذه المشروعيّة السّياسيّة هي النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والبيان النّبويّ. وإنْ كان مصدر المشروعيّة السّياسيّة في تولّي الإمامة العُظمى هو النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فهذا يعني أنّ هذه المشروعيّة السّياسيّة - على مستوى دورها ومسارها - يجب أنْ تكون كاملةً غير ناقصة، وأنْ تتقدَّم على أيّ مشروعيّةٍ أخرى، وأنْ تؤدّي دورها كاملًا غير منقوص. إذ كيف يستقيم القول إنْ يكون البيان النّبويّ -أي النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بوصفه مبلّغًا عن الله - مرجعيّة تحديد تلك المشروعيّة السّياسيّة في أيٍّ من القبائل هي، ولا يكون ذلك البيان هو المرجعيّة نفسها، عندما يكون الأمر مرتبطًا بذاك التّحديد في أيٍّ من بطون هذه القبيلة، أو في أيٍّ من عائلاتها، أو في أيٍّ من رجالها وأشخاصهم؟
ويمكن القول ببيان آخر، إنْ كان النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ذكر أنّ الإمامة في قريش، فمن المنطقيّ جدًّا أنْ يُسأل أنّ بيان النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا، لماذا لم يُكمل مساره؟ ولماذا لا يكمل البيان النّبويّ إلى آخر مطافه، لتشخيص من يملك المواصفات الأفضل، والأهليّة الأرقى، على المستوى الرّوحيّ والمعنويّ والعلميّ والدّينيّ والتّقوائيّ والشّخصيّ وغيره، لتولّي المشروع النّبويّ، والقيام بذلك الدّور دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، من خلال الإمامة العظمى، ومجمل وظائفها ومهامها؟ ولماذا لم يُحدّد ذاك البيان في أيٍّ من بطون قريش وعائلاتها وأشخاصها تكون الإمامة؟ وهل من المعقول أنْ يكون مشروعًا للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُبيّن في أيٍّ من قبائل العرب تكون الإمامة، ولا يكون مشروعًا له أنْ يُبيّن في أيٍّ من بطون هذه القبيلة وأُسرها ورجالها تكون هذه الإمامة؟

فهل يُعقل أنْ تسري هذه المشروعيّة الإلهيّة، عندما يكون الأمر مرتبطًا بالقبائل، ولا تسري هذه المشروعيّة، عندما يكون الأمر مرتبطًا ببطون القبيلة وعوائلها ورجالها؟ وما هو مبنى هذا التّفكيك؟ وما الدّليل على هذا الفصل؟ لأنّه لا تفكيك في المشروعيّات، فعندما تكون المشروعيّة إلهيّة، فيجب أنْ تكون كاملةً غير ناقصة، وعندما تكون المشروعيّة بشريّةً -لمن يقول بها- يجب أنْ تكون كاملةً غير ناقصة، أي إمّا القول بالمشروعيّة الإلهيّة كاملة، وإمّا القول بالمشروعيّة البشريّة كاملة؛ لأنّ المقتضيات الفكريّة لهذه المشروعيّات هي مقتضيات تستلزم كمالها وشمولها ووصولها إلى أقصى غايتها، وعدم إمكانيّة الفصل فيها، أو النّقص في مداها، أو التّفكيك لديها.
أي إنْ كان الأمر مرجعه إلى الاختيار الإلهيّ، فلماذا يقف هذا الاختيار عند قريش، ولا يكمل بيانه لتحديد من أيّ بطونها وعائلاتها وأشخاصها؟ وإنْ كان مرجعه الاختيار البشريّ، فلماذا لا يكون مسموحًا لهذا الاختيار أنْ يتجاوز قريشًا إلى غيرها؟ ولماذا تقييده - بناءً على ما ورد في ذلك النص - بقريش، مع أنّ هذا الاختيار قد يرى خلاف ذلك؟ مع الإلتفات إلى أنّ هذا النقاش يَرِدُ على مبنى من يقول بالمشروعيّة البشريّة، أمّا على مبنى من يقول بالمشروعيّة الإلهيّة والاختيار الإلهيّ، فإنّ هذا النقاش كلّه يصبح لا أساس له.

وعليه، لا يمكن أنْ نتعقّل فرضيّة أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد شرع في تحديد مورد الإمامة العُظمى، فبيّن في أيّ من القبائل تكون، ثمّ وقف عند هذا الحدّ، ولم يكمل بيانه؛ لأنّ معنى البدء بهذا البيان النّبويّ، هو أنْ يصل إلى نهايته. ومقتضى المشروعيّة الإلهيّة أنْ تصل إلى غايتها؛ لأنّ هذا الأمر إنْ كان من اختيار الله تعالى، فلا يُعقل أنْ يكون هذا الاختيار ناقصًا غير تامّ، ولا يكمل التّشخيص إلى آخر المطاف.

الخاتمة:
سوف نعمل: أولًا على تقديم ملخّصٍ لبحثنا، وثانيًا على بلورة بعض الاستنتاجات المهمّة.
أمّا في الخلاصة، فيمكن القول إنّ البحث يدور حول الحديث الّذي نسب إلى النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا النص «الأئمّة من قريش»،إذ يثير هذا النصّ سؤالًا جوهريًا في مدى صحة جعل الإمامة في قريش بهذه الصورة - تأسيس ماديّ مبتور - الّتي تفهم من الحديث؛ ما يقود إلى سؤالين اثنين، الأوّل يتصل بتبرير هذا الجعل للإمامة في قريش، ما يفضي إلى دخالة الأساس الماديّ -النسبيّ فيه، والثاني يتصل بالاقتصار على صفة القرشيّة، دون الذهاب أبعد منها في تحديد هذا الجعل في أيٍّ من بطون قريش وأُسَرها وأشخاصها؛ حيث كان الانشغال على معالجة هذين السّؤالين، من بعد تمهيدٍ ذي صلة.
ذكرنا في التّمهيد أنّ الإمامة مورد البحث هي الإمامة العظمى؛ وأنّنا تجنّبنا البحث السّندي اعتمادًا على ما ذُكر من تصحيح لهذا الحديث في مدرسة الخلافة؛ وأنّنا اعتمدنا المنهج التّحليليّ والنقديّ بشكل أساس؛ وأنّه، في مقام المقارنة بين مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ومدرسة الخلافة، المتّفق عليه هو كون الأئمّة من قريش، وأنّ عددهم اثنا عشر إمامًا، والمختلف فيه أنّ صفة القرشيّة ترتكز على أساس ماديّ -نسبيّ، أم على أساس معنويّ -علميّ -فضائليّ (الاصطفاء)، وأيضًا في تحديد أعيان وأشخاص أولئك الأئمّة، بين من يهمل هذا التّحديد، وبين من يتبنّاه، حتّى لا يبقى أيُّ لَبس فيه.

أما السّؤال الأوّل في البحث، فيمكن القول إنّ جعل الإمامة في قريش، بناءً على التّأسيس الماديّ – النسبيّ، يقود إلى ما يلي من ملاحظات:
أوّلًا، هل يصح أنْ يكون الأساس الّذي تقوم عليه الإمامة أساسًا ماديًا- نَسَبيًا، في حين أنّ الإسلام قد واجه هذه العصبيات الماديّة، وجعل معيار التّفاضل والأهلية في الصّفات المعنويّة والإيمانيّة من التّقوى، والعقل، والمعرفة، وغيرها من الصّفات ذات الصّلة؟ ثانيًا، قد وردت نصوص عن بعض الخلفاء تفيد، بوضوح، أهلّية من لم يكن قرشيًّا -بل من لم يكن عربيًّا- لتولّي الخلافة، وهو ما يتعارض مع مضمون ذلك الحديث؛ ثالثًا، توجد العديد من النصوص الدّينيّة الّتي يستفاد منها ذمّ قريش، والّتي قد تشير - في دلالاتها - إلى أكثر من تهديدٍ لرّسالة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد يتأتّى منها، ما يجعل من الصّعب تقبّل فكرة أنّ يجعل النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المشروعيّة الدّينيّة السّياسيّة فيها؛ رابعًا، لم يرد في جداليّات السّقيفة أي ذكر لهذا الحديث، مع كون ذاك الموقف (في السّقيفة) الأشدّ أهمية وحاجة لذكره فيه، وتوظيفه في جداله، مايدلّ على عدم وجوده حينها؛ خامسًا، هل يُعقل أن يجعل النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) موطن المشروعيّة السّياسيّة للإمامة العظمى في قومٍ كان تاريخهم مع النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) تاريخ عداء، وقتلٍ، وقتالٍ، ومحاولات اغتيال لشخصه(صلى الله عليه وآله وسلم) ومشروعه، إلى أنْ هُزموا عسكريًا يوم دخول مكة؟! سادسًا، أيضًا، كيف يمكن أنْ تكون تلك المشروعيّة السّياسيّة الدّينيّة للإمامة في قومٍ لديهم أيديولوجيّا دينيّة – سياسيّة، تناقض ما جاء به النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته ودينه؟

أما في ما يرتبط بالسّؤال الثاني، حول الاقتصار في تحديد من هم الأئمّة على كونهم من قريش، وعدم الذهاب في التّحديد أبعد من ذلك، لبيان في أيٍّ من بطون قريش وعائلاتها، بل وأشخاصها، ورجالها، تكون هذه الإمامة؛ فهو - أي الاقتصار في التّحديد - ما تُسجّل عليه الملاحظات التّالية:
أوّلًا، هذا يخالف بعض الأحاديث الشّريفة الّتي أكملت مسار التّفضيل إلى بني هاشم، وإلى آل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والأئمّة من ذريّته.
ثانيًا، هل من الحكمة أنْ يقف بيان تحديد من هم الأئمّة عند قريش، ولا يكمل أبعد منها؟ لأنّه أيًّا تكن حكمة هذا البيان هنا، فلن تبلغ هذه الحكمة غايتها، ما لم يكمل هذا البيان إلى نهاية المطاف، فيحدّد من هم الأئمّة بأشخاصهم وأعيانهم.
ثالثًا، إنّ الاقتصار في تحديد من هم الأئمّة على قريش يحمل شيئًا من التّهافت، إذ إنّ مشروعية الإمامة، إمّا أنْ تكون إلهيّة، وإمّا تكون بشريّة، ولكلٍّ من هاتين المشروعيّتين مرتكزاتها الفكريّة، وهذه المرتكزات تتنافى فيما بينها، أي إنّ المرتكزات الفكريّة للمشروعيّة الإلهيّة تنفي البشريّة، والعكس صحيح؛ ولذا لا يمكن الجمع بينهما، بأنْ نقول إنّ الإلهيّة تحدّد الإمامة في القبائل فتجعلها في قريش، في حين أنّ البشريّة تحدّدها داخل قريش فيكون لها أنْ تجعلها في أيٍّ من بطونها ورجالها شاءت!
رابعًا، إنْ كان مشروعًا للبيان النّبويّ أنْ يحدّد في أيٍّ من القبائل تكون الإمامة؛ فلماذا لا يكون مشروعًا لهذا البيان أنْ يحدّد في أي من بطون القبيلة، وعائلاتها، ورجالها، تكون هذه الإمامة؟ وهل يُعقل أنْ تكون مشروعيّة البيان هذه مشروعيّةً ناقصةً ومبتورة، فيكون مسموحًا لها أنْ تحدّد الإمامة في قريش، ولا يكون مسموحًا لها أنْ تحدّدها أبعد من ذلك؟ وكيف يمكن تبرير هذا البتر والنقص في البيان؟

أما في الاستنتاج؛ فيمكن أنْ نذكر ما يأتي:
سوف يكون من الصّعب - بناءً على الملاحظات السّابقة- القبول بصيغة الحديث مورد البحث، وهي أنْ يكون النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال هذا الحديث مبيّنًا أنّ الأئمّة من قريش، من دون أنْ يذهب أبعد من ذلك؛ وهي الصّيغة الناقصة من الحديث -أي الّتي ينقصها بيان من هم الأئمّة بأشخاصهم وأعيانهم- الّتي تمثل الفرضيّة الأوّلى من الحديث.
أما الفرضية الثانية - فيما يتصل بهذا الحديث - وهي ألّا يكون النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قاله من الأساس؛ فهي فرضية غير مطروحة، لأنّ مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ومدرسة الخلافة يُجمعان على أصل هذا الحديث ومضمونه، بمعزل عن النقاش في متنه ودلالته، وما تعرَّض له من تحريف.

أما الفرضية الثالثة، وهي أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال هذا الحديث كاملًا غير ناقص، فبيّن من هم الأئمّة الاثنا عشر بأشخاصهم وأعيانهم، ما يحقّق كامل الغرض من البيان، ويدفع عنه أيّ لَبسٍ أو إبهام؛ فهي الفرضية الصّحيحة، لأنّها - فضلًا عن كونها تتجاوز جميع الملاحظات الّتي ذُكرت - تنسجم مع ما جاء في القرآن الكريم في هذا الخصوص[12]، ومع ما جاء في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، ومع المنهج العقلاني في تحليل مضمون ذلك الحديث، هذا المنهج الّذي لا يرتضي - في أبعاده الدّينيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة - أنْ يكون ذلك المضمون قاصرًا عن تقديم مسوّغاته الفكريّة، كما سلف في الملاحظات،في حين أنّ جعل الإمامة في أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) يقوم على تبريرٍ فضائليّ دينيّ عقلانيّ خلّاق، يرتكز على فلسفة الاصطفاء والاجتباء.
أما تسويغ الأمر بعصبيّة قريش وغلبتها، فهو - فضلًا عن كونه موردًا لمجمل الملاحظات المذكورة - بمنزلة تفسيرٍ ماديّ – علمانيّ، يدفع باتجاه نوع داروينيّة غلبة، تتنافى والمبادئ الإسلاميّة ذات الصّلة، الّتي تقوم على المنطق المعنويّ (الحقّ، الاصطفاء...)، وليس على منطق الغلبة وقيم الجاهلية، فضلًا عن أنّ الدّين لا يأتي لتكريس العصبيّات الماديّة القائمة، وإنّما لاقتلاعها، لصالح عصبيّة الإيمان والحقّ، وتولّي أئمّة القسط والعدل.

لا يمكن النظر إلى هذا المعطى الحديثيّ بمعزلٍ عن الصّراع السّياسيّ والأيديولوجيّ الذي كان قائمًا بين قريش من جهة، والبيت النبويّ من جهة أخرى، والّذي - أي هذا الصراع - كان من أهم مفاصله قضية المشروعيّة السّياسيّة والدّينيّة للإمامة العظمى، فأتى هذا النصّ من أجل أن يمنح قريشًا مشروعيّة سياسيّة للإمساك بهذة الإمامة، والإطباق عليها.

إنّ ما ينبغي الإلتفات إليه، هو أنّ هذا النصّ قد طُرح في سياق احتدامٍ سياسيّ – دينيّ لتحقيق هدفين:
الأوّل: حصر الإمامة في قريش، بهدف إبعاد من ليس منها.
الثاني: توسعتها في قريش، بهدف إبعاد آل النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عنها.
أي إنّ ما حصل هو تحريف هذا الحديث ليخدم أهداف قريش، إذ إنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ذكر هذا الحديث كاملًا غير ناقص، وتامًا غير مبتور؛ فبيّن من هم الأئمّة من قريش بأسمائهم، وأشخاصهم، وصفاتهم، وأنّهم من أهل بيته، أولهم علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وآخرهم المهدي(عليه السلام)، لكن ما فعلته قريش أنّها اجتزأت النص، فأخذت المقطع الأول منه الّذي يخدم أهدافها وأبقت عليه، وغيّبت المقطع الثاني الّذي يضرّ بأهدافها وحذفته؛ لأنّ هذا المقطع يحصر المشروعيّة السّياسيّة الدّينيّة في آل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ما لا ترتضيه قريش ومشروعها السّاعي إلى الإمساك بالسّلطة، والوصول إلى الخلافة.

أي إنّ ما قامت به قريشٌ كان تحريفًا لحديث النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوظيفًا له، بهدف إخراج الخلافة من أهل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإعادتها إلى قريش وبطونها، لكن هذه المرة بناءً على المشروعيّة الدّينيّة وتوظيفها، وإنْ كان الدّافع، في المضمون، هو التّقليد الجاهليّ وقيمه.
بناءً عليه، كيف نبرّر الأحاديث الواردة في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، الّتي تجعل الإمامة في قريش، وفي أهل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) تحديدًا؛ ألّا يقوم هذا الجعل على التّأسيس الماديّ - النسبيّ؟
والجواب: إنّ هذا الجعل لا يقوم على التّأسيس الماديّ – النسبيّ. وما جاء في تلك الأحاديث هو بيانٌ تعريفيّ، وليس بيانًا اقتضائيًا؛ أي إنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) كانوا أئمّة، ليس لأنّهم من قريش، بل لأنّهم الذين اصطفاهم الله تعالى وفضّلهم؛ وما ذُكر في الحديث أنّهم من قريش -أو بني هاشم...- ليس إلّا للتّعريف بهولاء الأئمّة، وتشخيص أعيانهم.
أي مرّة يُسأل: من هم الأئمّة؟ فيأتي الجواب من قريش، من بني هاشم، من آل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلان وفلان من الناس؛ ومرّة أخرى يُسأل: لماذا جعلهم الله تعالى أئمّة؟ فيأتي الجواب بالاصطفاء والعلم والتّفضيل، وجميع ذلك المنطق الفضائليّ العقلانيّ والقيميّ، الّذي يذهب إلى تبرير جعلهم هم الأئمّة -دون غيرهم-؛ لأنّ الله تعالى أعطاهم من الصّفات والفضائل، ما جعلهم متقدّمين على غيرهم في ذلك الشأن الدّينيّ والمعرفيّ والغيبيّ، والاجتماعيّ السّياسيّ.

إنّ آليات التّحليل والنقد الّتي استخدمت في حديث «الأئمّة من قريش»، يمكن استخدامها نفسها فيما يرتبط بما جاء في مدرسة الخلافة، من أحاديث نصّت على أنّ عدد هؤلاء الأئمّة اثنا عشر إمامًا -أو خليفة-؛ مِن تشخيص مَن هم هؤلاء الأئمّة، وتحديدهم بأسمائهم وأعيانهم، ومجمل أوصافهم، حيث يمكن القول، بالإجمال، إنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بيّن عدد هؤلاء الأئمّة، فلماذا لم يبيّن - بناءً على ما ورد في مدرسة الخلافة - من هم؟ أيُعقل أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم عددهم، ولا يعلم مَن هم؟ وإذا كان يعلم مَن هم، وأسماءهم، وأشخاصهم؛ فلماذا يسكت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيان أشخاصهم وأسمائهم؟ إذ ما الحكمة من بيان العدد، وإهمال الأسماء؟ في حين أنّ الحكمة، الّتي تُتصور في هكذا مقام، إنّما تترتب على التّعريف بالأشخاص وبيان الأسماء، وليس فقط العدد؛ لأنّه إنْ كان من حكمة أو غاية لهذا البيان، فهو تعريف الأمّة من يجب أنْ ترجع إليه في أمور دينها ودنياها، وهو ما لا يحصل إلّا من خلال التّعريف بأشخاص الأئمّة، وليس فقط بيان عددهم؛ وإنْ كانت الحكمة قطع الطريق - معرفيًا وليس واقعيًا - على التّنازع والاختلاف، فهو ما لا يتحقّق إلّا من خلال التّعريف بالأشخاص، وليس فقط بيان العدد؛ وإنْ كانت الحكمة انتظام شؤون الأمّة، فهو أيضًا لا يتحقّق إلّا من خلال التّعريف بالأشخاص، وليس فقط بيان العدد؛ في حين أنّ التّعمية على الأسماء، سوف تؤدي إلى إتاحة الفرصة للطامعين في الدّنيا والرئاسة لاستغلال هذا الإبهام للوصول إلى الخلافة. كما تؤدي إلى الضياع والاختلاف في مورد المشروعيّة السّياسيّة والدّينيّة للخلافة، وإلى مزيد من التّنازع والاحتراب، وإلى تحريك ديناميات صراعيّة بين قوى الاجتماع الإسلاميّ وأحزابه.

أي إنّ إهمال البيان والإبهام سيفضي إلى الكثير من المفاسد، بدل أن يفضي إلى إقفال الباب عليها، وهو ما حصل في مجمل مراحل التّاريخ الإسلاميّ، نتيجة لهذا العبث بنصوص الخلافة وتحريفها، عندما عُمل على إبهامها وإجمالها، لإبعاد أهل بيت النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عنها، فأضحت الإمامة ميدانًا لاحتراب مستديم بين مختلف قوى الأمّة وأحزابها، حيث «أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة، مثل ما سُلّ على الإمامة، في كل زمان»[13]؛ فكان من أشدّ ما أضرّ بالأمّة، وسبّب لها الكثير من المفاسد، وأراق منها كثيرًا من الدّماء، وحرمها من كثيرٍ من بركات الهداية ومصالحها؛ ما أصاب نصوص الإمامة وأحاديث الخلفاء والخلافة من تحريفٍ أرادته قريش، ليكون تأسيسًا دينيًا لإرجاع السّلطة إليها، والاستحواذ عليها، بعد أنْ حرمها الإسلام منها، لكنّها أعادت الأمّة القهقرى، وأفرغت الخلافة من أبعادها الغيبيّة والمعنويّة، فأضحت مُلكًا عضوضًا، أقصت الدّين، وفتكت بالأمّة.

قائمة المصادر
القرآن الكريم
ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، 1378ه‍ - 1959م.
أحمد بن حنبل، المسند، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1413هـ - 1993م.
الأميني النجفي، عبد الحسين، الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، ط1، 1397هـ ‍- 1977م،
الذهبي، شمس الدين، سير أعلام النبلاء، دار الحديث- القاهرة،1427هـ - 2006م
الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد گيلاني، دار المعرفة للطباعة والتوزيع، بيروت.
الطبري، محمد بن جرير ، تاريخ الرسل والملوك، (تاريخ الطبري)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، ط 2، ١٣٨7هـ - ١٩٦٧م،
القمي، محمد بن الحسن، العقد النضيد والدّر الفريد في فضائل أمير المؤمنين وأهل بيت النّبيّ (عليهم السلام)، دار الحديث للطباعة والنشر، ط 1، قم،1423ق.
المجلسي محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسسة الوفاء، بيروت – لبنان، ط 2، 1403هـ – 1983م.
مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت – لبنان.
النميري البصري، ابن شبة، تاريخ المدينة، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، دار الفكر، بيروت.


------------------------------------------------------
[1]- تدور هذه الأحاديث حول مضمون أنّ «الأئمّة من قريش» (كما في صحيح أحمد بن حنبل، ج:4، ص:185)؛ وهو ما يحتاج إلى دراسةٍ سنديّة؛ وإلى دراسةٍ تاريخيّة؛ وأيضًا إلى دراسةٍ مقارنةٍ تفصيليّة بين ما جاء في مصادر السّنّة، وبين ما جاء في مصادر الشّيعة؛ لكن سوف نتجاوز في دراستنا هذه مجمل ما تقدّم وغيره، لنعمل على تركيز البحث على البُعد التّحليليّ النقديّ، الّذي قد يستفيد من بعدٍ أو آخر، وخصوصًا البعد المقارَن، لكن ضمن هدفه المتمثّل في تقديم معالجةٍ نقديةٍ تحليليّةٍ لذلك المضمون ودلالاته.
[2] ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾: سورة الحجرات، الآية: 13.
[3] الطبري، محمد بن جرير ، تاريخ الرسل والملوك، (تاريخ الطبري)، ج3، ص 220.
[4] الذهبي، شمس الدين، سير أعلام النبلاء، ج2، ص 367.
[5]- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 190؛ النميري البصري، ابن شبة، تاريخ المدينة، ج 3، ص 886.
[6]- الأميني النجفي، عبد الحسين، الغدير، ج 10، ص 10.
[7]- يمكن الرجوع مثلًا إلى: القمي، محمد بن الحسن، العقد النضيد والدّر الفريد في فضائل أمير المؤمنين وأهل بيت النّبيّ (عليهم السّلام)، ص 18.
[8]- سورة المائدة، الآية: 67.
[9]- من قبيل قول النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (أبو الحسين مسلم، صحيح مسلم، ج4، ح 2276، ص 1782؛ المجلسي محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار،2 ج 16، ص 323.)؛ فهنا، لماذا لا تترتّب تلك النّتائج السّياسيّة والدّينيّة على اصطفاء بني هاشم؟ فكما أنّ اصطفاء النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من بني هاشم ترتّبت عليه تلك النّتائج الدّينيّة والسّياسيّة في قيادته الدّينيّة والسّياسيّة، فكان من الصّحيح، بل من المطلوب، أن تترتّب أيضًا نتائج سياسيّة ودينيّة على اصطفاء بني هاشم من قريش.
[10]- إنّ الرّوايات الّتي تحدّثت في فضائل أهل البيت(عليهم السلام) هي من الكثرة والشّهرة ما يغني عن بيانٍ أو آخر فيها، فضلًا عن المصنّفات الّتي أُفردت لهذه الفضائل حصرًا.
[11]- إنّ المتأمّل في فضائل الإمام عليّ(عليه السلام)، لن يجد بُدًّا من تقديمه على الجميع بعد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فمن باب المثال يراجع الكتاب التّالي: علاء عبيد، فضائل أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، مركز رحمة للعالمين، القاهرة.
[12] كما في قوله تعالى:﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ...﴾، [سورة يونس: الآية 35]، فالاتباع والطاعة مرتبطان بالهداية، وليس العصبيّة الماديّة؛ وفي قوله تعالى في تبرير جعل طالوت ملكًا: ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، [سورة البقرة: الآية 247]، فالأساس للاصطفاء الإلهيّ، وليس للاعتبارات البشريّة القاصرة؛ وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [سورة السّجدة: الآية 24]، حيث ترتبط الإمامة بالصبر واليقين بآيات الله؛ وغيرها من الآيات الّتي تفيد أنّ الإمامة ترتكز على أسس قيميّة معنويّة غيبيّة علميّة دينيّة، وليس على أسس عصبويّة نَسَبيّة.
[13] الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، ج 1، ص 24.