البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الثقافة التابعة والثقافة الرائدة

الباحث :  الشيخ محمد تقي الجعفري
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  32
السنة :  خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2024
عدد زيارات البحث :  62
تحميل  ( 920.930 KB )
الملخّص[1]
يسلّط البحث الضوء على الثقافات التبعيّة والحريّات العبثيّة وفوضى العقل الإنساني حينما يسلم نفسه إلى رغباته الجامحة والمتحرّرة من جميع القيود المفروضة، والثقافة التبعيّة تعني الانقلاب على القوانين السليمة والوقوع في شراك القوى الظلاميّة التي تزيّن له أفعاله بمصطلحاتٍ كاذبةٍ وخدّاعةٍ ومزيّفة، وتطرّق راقم هذه السطور إلى تقسيم الثقافات إلى تصنيفات عديدة بحسب طبيعتها ، ومنها الثقافة الرسوبيّة والذاتيّة التبعيّة، والثقافة الحيوية الهادفة الرائدة. كما تناول الباحث عناصر تشكّل وإيجاد الثقافة الرائدة الهادفة مثل العنصر النفسي المحض، و العناصر الداخلية والخارجية. ثم جاء البحث على البعد الشفّاف غير الملموس من الثقافة وجذورها كحب الأنا، و السلطة، و الوطن السلبي وغيرها، وسلّط الباحث الضوء على طريقة إصلاح أبعاد الثقافة الشفّافة، وسعى أيضًا إلى بيان الثقافة في الاسلام التي تأتي من الحياة الهادفة، والتي تعمل على تفعيل الأبعاد الجمالية والإنسانية، مبينًا علاقة الثقافة الإسلامية بالثقافة الغربيّة، وذاكرًا المباني الأصليّة للثقافة الغربيّة المعاصرة، كالحياة الدنيوية والحرية المطلقة، وأصالة القوة وغيرها. مشيراً إلى انّ السبب الرئيس في انحطاط الثقافة في الغرب الفساد الأخلاقي. وفي نهاية البحث نحى إلى بيان عوامل استقرار الثقافات وبقائها طوال التاريخ، وانتقال أنواع الثقافات، والتأثّر الثقافي، وأسبابه، وغيرها من الأمور التي سوف تطلّع عليها في البحث.


الكلمات المفتاحية: الثقافة الرائدة، الثقافة التبعيّة، بقاء الثقافات، سقوط الثقافات، الفساد الاخلاقي.

Abstracts
This research highlights dependent cultures, frivolous freedoms, and the chaos of the human mind when it surrenders to its unrestrained desires, free from all imposed restrictions. Dependent culture means the overthrow of sound laws and falling into the traps of dark forces that adorn actions with false, deceptive, and fabricated terms. The author divides cultures into various classifications based on their nature, including sedimentary and self-dependent cultures, and purposeful leading cultures. The researcher also discusses the elements that form and create purposeful leading culture, such as pure psychological elements, and internal and external factors.

The research addresses the intangible, transparent dimension of culture and its roots, such as self-love, love of power, negative patriotism, and others. The researcher sheds light on ways to reform the dimensions of transparent culture and also seeks to explain culture in Islam, which comes from purposeful life and works to activate aesthetic and human dimensions. It explains the relationship between Islamic culture and Western culture, mentioning the original foundations of contemporary Western culture, such as worldly life, absolute freedom, and the primacy of power. The research states that the main reason for the decline of culture in the West is moral corruption. At the end of the research, it seeks to explain the factors of cultural stability and continuity throughout history, the transfer of types of cultures, cultural influence, its causes, and other matters covered in the research.

Keywords: leading culture, dependent culture, cultural continuity, moral corruption.

المقدّمة:
من خلال البحث والتحقيق في التاريخ الطويل والمتنوّع لحياة الأمم والشعوب، نشاهد قسمين رئيسين من الثقافات، وهما: الثقافة التبعيّة، والثقافة الرائدة.
الثقافة التبعيّة: تطلق هذه الثقافة على ذلك النوع من كيفيّات وأساليب الحياة الماديّة وغير الماديّة التي لا تستند إلى أيّ أصلٍ أو قانونٍ ثابتٍ على نحوٍ سابق، وإنّما يكتسب صحته ومقبوليته من مطالب الناس ورغباتهم.

بمعنى أنّ هذا النوع من الثقافة إنّما ينشأ من أفعال ورغبات الناس أيًّا كانت الدوافع والأسباب، ولا شأن له بتطابقها مع الحقائق الواقعيّات المستقلّة عن الأهواء والرغبات الطبيعية للأشخاص؛ وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ عنصرٍ من عناصر الإفساد في الدين والأخلاق والشرف والمنطق (الحياة المعقولة) يمكن أنْ يكتسب عنوان الثقافة بوصفه داخلًا ضمن مطالب الناس ورغباتهم! وهذا ما يتمّ الترويج له في عصرنا منذ مدّة باسم الثقافة[3]، والذي سوف يؤدّي إلى تحطيم الإنسانية قطعًا.
من الواضح بداهة أنّ مصطلح (الثقافة التبعيّة) في هذه الموارد، وإنْ كان يعني مباشرة التبعيّة للرغبات والأهواء البشريّة، ولكن علينا في الوقت نفسه ألّا نغفل عن أنّ هذا النوع من الثقافة (التبعيّة)، يعدّ خير وسيلةٍ لنشاط المتسلّطين والمستبّدين في المجتمعات أيضًا.

وفي الحقيقة يمكن القول: إنّ هذه الثقافة تابعةٌ للأهواء والرغبات الطبيعيّة المحضة لأغلب الناس، كما أنهّا تابعةٌ لرغبات المتسلّطين على المجتمعات الذين يستطيعون تبرير رغبات الناس وأهوائهم، وأنْ يزيّنوا كذلك جميع العوامل والعناصر المنافية للأخلاق والدين والشرف الإنساني باسم الثقافة أيضًا.

يبدو أنّ نظام الحقوق التبعيّة من أجل تزويد الناس في المجتمع بحقوقٍ نافعة، قابلٌ للإصلاح وأكثر تناسبًا من نظام الثقافة التبعيّة؛ وذلك لأنّ (الحقوق) إنّما ترتبط بالمتن الأصلي لحياة الناس؛ ولذلك تكون على الدوام بسبب الحاجات الجدية للناس في معرض تصحيح الحقائق والواقعيات وتنظيمهما، في حين أنّ (الثقافة) التبعيّة لما كانت تشمل الجماليات والظواهر الممتعة والدقائق والتجملات غير الحيويّة أيضًا، لا يمكن العمل على إصلاحها وتنظيمها من جهة العوامل الذاتية والاحتياجات الماسّة للناس؛ ولذلك نرى إمكانية الترويج لجميع أنواع النشاطات والظواهر الماجنة والمنافية للأخلاق باسم (الثقافة).
قال أحد المنظِّرين في العلوم الإنسانيّة في الغرب: «إنّ الطبيب ليس نادلًا في مطعم؛ فأنت إذا دخلت مطعمًا سوف يعمل النادل على تلبية جميع مطالبك دون إبطاءٍ أو تعلل، في حين أنّ الطبيب يعمل على طبق القوانين والمباني العلميّة التي يعرفها، فيصف لك الدواء دون أنْ يعير أدنى انتباهٍ لرغبتك. ومن هنا فإنّ السياسي المحنّك والطليعي هو بمنزلة الطبيب وليس النادل».

لو دققنا في العبارات أعلاه، سوف نصل إلى نتيجةٍ مفادها: أنّ الرائد الثقافي بنّاء، وأنّ حامل لواء الحضارة الإنسانية طبيبٌ وليس نادل مقهى.
في كلّ موردٍ سار الناس عليه في ضوء النظام الطليعي كان التقدّم والتطوّر حليفًا لهم. ولا بأس في توضيح هذا الأصل الحيوي من خلال بعض الأمثلة الواضحة جدًا:
أ . هل يمكن للشخص العامّي المحض أنْ يتدخّل في المسائل العلميّة العالية من خلال التمسّك بالحريّة والثقافة التبعيّة؟
ب . هل يسمح المجتمع الطبيّ لغير الطبيب بأنّ يعمل على تشخيص أعراض المرضى ووصف الدواء لهم بحجّة الحريّة والثقافة التبعيّة؟!
ج . هل يمكن لكلّ شخصٍ بحجّة الحريّة والثقافة التي يرغب بها أنْ يقتحم غرفة العمليات الجراحيّة، وأنْ يمسك بالمشرط والمبضع الجراحي، ويشقّ بطون المرضى، ويفتح جماجمهم، ويقطّع أيديهم وأرجلهم؟!
د. هل يمكن تصوّر أنْ يقوم كلّ شخصٍ بدخول مصانع إنتاج السلاح؛ ليقدّم ما يحلو له من النصائح والمقترحات؟ أو أنْ يستخدم آلات هذه المصانع وأدواتها؟ وعندما يُسأل عمّا يفعله هناك؟ يقول: (إنّما استعمل حقّي في الحريّة والثقافة التبعيّة، فقد مضى زمن حرمان الناس من الحريّة والثقافة المطلوبة! ولم يعدْ من المقبول حاليًا الرضوخ للرجعيّة).
هـ. هل يمكن أنْ يأتي يومٌ يقوم فيه كلُّ شخصٍ بإبداء وجهة نظره في أيّ نوعٍ من أنواع التكنولوجيات والعلوم؟ وإذا سُئل عن ذلك وقيل له: أنت لا تمتلك معلوماتٍ، وليس لديك تخصّصٌ في هذا النوع من الأمور، وعليه لا يحقّ لك أنْ تبدي رأيًا أو تدخّلًا في ما ليس لك به علم. قال في الجواب: بل لدي كلّ الحقّ في أنْ أستفيد من الحريّة والثقافة التي أختارها لنفسي، وأبدي كلّ ما يحلو لي من الأفكار، وأتدخّل وأتصرّف كما أشتهي! فقد مضى ذاك الزمن الذي كان فيه الرجعيّون يستغلون جهل الناس وما يفرض عليهم من القيود القهريّة والجبريّة، وبذلك يغلقون عليهم باب التفكير؟!
و. إنّ الحريّة والثقافة مذهلان للغاية؛ فلو أنّ شخصًا اتبع رغبةً كامنةً في نفسه، وارتدى بزّةً عسكرية، ووضع على كتفيه رتبة جنرال، ورصّ على صدره كثيرًا من الأوسمة، من دون أنْ يخوض معركةً أو أنْ يتلقّى تدريبًا عسكريًا أو يدخل كلّيةً عسكرية، ثم اعترض عليه شخصٌ بسبب انتحاله لهذه الصفة، فهل يحقّ له أنْ يقول في الجواب: اغرب عن وجهي أيّها العدو للحريّة، وانصرف عنيّ يا عدوّ الثقافة؟!

من الواضح بداهة أنّ جميع الفئات والأشخاص الآنف ذكرهم من الذين يقتنون كتابًا يحمل عنوان (الحرية)[4]، ويستندون إليه في إثبات وجهة نظرهم، سوف يتمّ إرسالهم إلى المصحّات العقلية، لكي يكملوا تحقيقاتهم النهائيّة حول الحريّة والثقافة المطلوبة والتبعيّة هناك!
وفيما يأتي نعود إلى صلب الموضوع: إنّ كلّ موردٍ تلقته البشريّة بوصفه ضرورةً في الحياة الطبيعيّة والبقاء على قيد الحياة، مع انتهاج أصل الثقافة الرائدة، تمكّن الناس فيه من بلوغ الرقي والازدهار المنقطع النظير، من قبيل: العلوم المرتبطة بالعلاقات الحيوية للناس فيما بينهم، وإدارة العمال لمصلحتهم، وتوجيه المجتمع نحو الأهداف المنشودة، والنشاطات السياسية وتوظيف الثقافات من أجل الوصول إلى السلطات المطلوبة وما إلى ذلك. كما وصل الإنسان في حقل الطب والجراحة، وإدارة الحروب الدامية، ومصانع انتاج الأسلحة الفتاكة، والإدارة العسكرية، والإعلام في مسار أهدافه وتطلعاته وغاياته، إلى تطوّرٍ ملحوظٍ وازدهارٍ منقطع النظير، في حين أنّ تقدّم هوية الناس أمرٌ ممكنٌ من خلال الالتزام بالحقائق المرتبطة بتطوّرهم وتكاملهم، لكنّهم إنّهم بدلًا من الالتزام بالحقائق المرتبطة بكمال الإنسان، صاروا ينادون بالحريّة والثقافة الحرّة والفن الحرّ، وبهذا النداء أوقفوا البشريّة ـ بحسب مصطلحهم ـ في مقابل مرحلة وعصر ما قبل الاستطيان في الكهوف. لماذا نقول: ما قبل عصر الكهوف؟ لأنّ الإنسان في عصر الاستيطان في الكهوف لم يحصر تقدّمه في أنانيته وحبّه لنفسه، وكان قد بدأ انطلاقته وحركته بوعي أو بغير وعي نحو استقبال واحتضان ازدهار طاقاته.

وسنذكر فيما يأتي بعض مصاديق ونماذج ثقافة الحقائق المهدورة في عالم المجتمعات، وهذه النماذج هُدرت؛ ليس لأنّ تلك المجتمعات لم تكن تمتلك القدرة على المقاومة والتوجيه التكاملي للناس، بل لأنّ الإدارات المستبدة كانت تعمل على توظيف الأوهام التلقينيّة تحت شعار الحريّة والثقافة الحرّة والتبعية، والفن الحرّ وما إلى ذلك من أنواع السحر والشعوذة، من أجل السحق على تلك الحقائق في إطار فرض أهدافهم وغاياتهم المشؤومة. فمن هذه النماذج ما يأتي:

ثقافة المودّة الأصيلة لأبناء البشر، وليس التكسّب بوساطة إظهارها.
أصالة الوجدان الأخلاقيّ، الذي يعمل بوصفه بوصلةً دقيقةً من أجل توجيه دفّة سفينة الوجود البشريّة نحو أسمى الأهداف المنشودة في الحياة.
الثقافة هي الهدف والغاية العليا في الحياة.
إنّ ثقافة الصداقة والوفاء بالعهود، إنّما تراد لذاتها، لا من أجل التكسّب بها.
ثقافة الحريّة المسؤولة، والتفكير، والنشاط العادل.
ثقافة تقديس العلم والمعرفة.
ثقافة التعاون والتكافل في الاستفادة من أنواع القدرات التي هي من أكبر النعم الإلهيّة علينا.
ثقافة تعميم الفنون البنّاءة والرائدة.
ثقافة الإعلام والدعايات المستندة إلى الحقائق، واجتناب ما يخالف الوقائع وتفسيرها وتبريرها عن نحو خاطئ.
ثقافة الاقتصاد العالي وتوفير حقّ المعيشة العادلة لجميع الناس.

إنّ مرادنا من القول: (إنّ الإنسان في كلّ موردٍ تحرّك ضمن النظام الطليعي، حقّق نجاحًا في التكامل). ليس هو أنّ بمقدور البشر أنْ تكون له ـ من خلال تجريد وتنظيم عددٍ من القضايا الكليّة بوصفها من القوانين ـ حركةٌ وتحوّلاتٌ تكامليّة، بل مرادنا بذلك هو: أنّ الإنسان في كلّ مرحلةٍ من التاريخ إذا كان حصل في كلّ موضوعٍ على وعي واطلاعٍ وعلمٍ بجميع الأبعاد المتنوّعة لذلك الموضوع، فقد توصّل إلى بعض الحقائق وعمل على تحويلها إلى قانونٍ، وقام باتباعها، دون أنْ يُدخل الرغبات والمطالب الشخصيّة للناس في تلك الحقائق؛ لذا كانت حركته وتحوّلاته تكاملية؛ ولذلك فإنّ الإنسان سواء في العلم والتكنولوجيا أم جميع الموضوعات التي كانت لصالح حياته الطبيعية وعنايته بمختلف الأشكال التي توفّر عليها من خلال تبعيته للثقافة الرائدة؛ قد حصل على التكامل. في حين أنّه في دائرة بناء الذات التكامليّة للأشخاص التي تقع على عاتق الأخلاق والدين الإلهي، لو أنّه عمد إلى تجاهلها بالكامل، وجعل من نفسه تابعًا للظواهر والتجلّيات والنشاطات شبه الثقافية، زاعمًا: (أنا أتبع الثقافة الحرة)، يكون قدّ منّى نفسه. وسوف نقدم في البحث القادم توضيحًا حول نوعَي الثقافة التبعيّة والثقافة الرائدة.

تقسيم الثقافات
يمكن تقسيم الثقافات بلحاظٍ ما إلى أربعة أنواعٍ رئيسةٍ:
1 . الثقافة الرسوبيّة: الثقافة الرسوبيّة عبارةٌ عن تلوين شؤون الحياة وتوجيهها بوساطة عددٍ من القوانين والسُنن العرقيّة، والنفسيّة الثابتة، والبيئة الجغرافيّة، والجذور التاريخيّة الراسخة التي تقاوم جميع أنواع المتغيّرات، وتعمل على تغيير جميع التحوّلات لصالحها أو تعمل على إلغائها، في حين لو لم يكن عنصر رسوب الثقافة والقوانين الطبيعية والإنسانية ثابتًا؛ فإنّ الإصرار على إبقاء تجلياتها ونشاطاتها سوف يكون مستندًا إمّا إلى جبر العوامل البيئيّة وإمّا إلى العجز النفسي لأفراد المجتمع عن تطبيق موقعيّتهم مع المتغيّرات المفيدة والبنّاءة.

2. الثقافة السائلة وعديمة اللون: إنّ هذا النوع من الثقافة عبارةٌ عن تلك التلوينات والتزويقات التي لا تستند إلى أيّ جذورٍ نفسيةٍ وأصولٍ أساسيّةٍ وثابتة، وتكون على الدوام عرضةً للتحوّل والتبدّل. وبطبيعة الحال قلّما يمكن العثور على هذا النوع من الثقافة في المجتمعات ذات الهوية التاريخيّة؛ إذ كما نعلم فإنّ النزعة الثقافيّة تنبثق عن عاملٍ نفسيّ أساسيّ وفعّال.
إنّ كلّ مجتمعٍ يسعى بشكلٍ طبيعيّ على امتداد التاريخ إلى نقل تفسيراته وأفهامه الثقافيّة عن الحياة إلى أجياله القادمة، وما دامت هذه الظاهرة ـ أو بعبارة أوضح: الجذور النفسيّة لهذه النزعة ـ لم تتعرّض للجفاف والذبول، فإنّ الثقافة سوف تحظى بمجموعةٍ من الظواهر والتجلّيات والنشاطات الثابتة بشكلٍ وآخر.

أجل، يمكن بيان نقطتين في هذا الشأن، وهما:
أ . لا توجد هناك أيّ ضرورةٍ منطقيةٍ تستوجب أنْ يكون هناك انسجامٌ وتناغمٌ وترابطٌ بين العناصر الثقافيّة في المجتمع؛ ولذلك يمكن لبعض العناصر أنْ تكون سائلةً، ومن دون شكلٍ أو أساس، وتقع سريعًا في مجرى التحوّل والتبدّل، وبعضها الآخر يكون دائمًا ومستمرًّا؛ كما نشاهد في بعض المجتمعات الغربية كثيرًا أنّ ثبات الثقافة الأخلاقية يكون مقرونًا بتحوّلات الثقافة السياسيّة.
ب . إنّ طبيعة الثقافة وإنْ كانت ظاهرةً ثابتةً نسبيًا، ولكنّها مع ذلك مهما كانت مفيدةً وبنّاءةً وأصيلة، إذا أريد تطبيقها على الحياة الاجتماعية بوساطة الإدارات الميكافيليّة، فإنّها سوف تكون في معرض السيلان وانعدام اللون. كما أننا نعلم بهذه الحقيقة أيضًا وهي أنّ الإنسان رغم ما حصل عليه من الإمكانات والطاقات والامتيازات على نحوٍ هائلٍ ومذهل، فإنّه تحت براثن الأساليب الميكافيليّة يفقد يومًا بعد يوم القدرة على تحديد وتقييم (الوسيلة والغاية). ولا سيّما الأشخاص أو المجتمعات العاجزة عن الإدارة الإنسانية للقوّة والسلطة. وفي الحقيقة فإنّ السلطة أوالقوّة تكون هي المالكة لهم، ولا يستطيعون في هاتين الحقيقتين (الغاية والوسيلة)، الاستناد إلى الأصول والقوانين؛ ولذلك فإنّ ثقافتهم الأكثر أصالة عبارة عن: تدمير وإزالة كلّ أصلٍ وقانونٍ وثقافةٍ تساعد على استهدافهم.

3. الثقافة المحوريّة أو الغاية الذاتيّة التبعيّة: هذا النوع من الثقافة كانت التجلّيات والنشاطات المبرّرة والمفسّرة لحقائق الثقافة مطلوبةً بالذات، وكانت تتكفّل بإشباع الأهداف والغايات الثقافية. إنّ هذه (الهدفيّة الذاتيّة) كانت مختصّةً بالثقافة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية لأكثر المجتمعات في القرن التاسع عشر والقرن العشرين للميلاد.
إنّ هذه (الهدفيّة الذاتيّة)، أدّت إلى ركود الطبيعة الأصليّة للثقافة التي هي عبارةٌ عن خلاقيّة وانتشار أهداف الحياة في أبعاد (الأنا الإنسانية). وإنّ الأمر الآخر الذي قامت به الهدفيّة الذاتيّة للثقافة ـ الذي لا يقلّ خطرًا عن الإخلال في الطبيعة الأساسية للثقافة ـ هو: بدلًا من أْن يكون الإنسان موجدًا للعلم والتكنولوجيا، ومديرًا وموجّهًا لهما، قد أصبح جزءًا غير مسؤولٍ من التيارات الجبريّة لهاتين الظاهرتين!
علينا ألّا ننسى هذه القاعدة العامّة أيضًا: عندما يتّخذ ظهورٌ أو عددٌ من الظهورات المعيّنة من شؤون الحياة الإنسانية ـ من قبيل: فن التجميل ـ صبغة الهدفية الذاتية، فإنّه حيث لا يمكنه الاستجابة لسائر أبعاد الثقافة المطلوبة للإنسان، من قبيل البحث عن الحقيقة، فسوف يؤدّي ذلك إلى ظهور نوعٍ من الازدواجيّة في الشخصيّة، حيث تكون إحدى تلك الشخصيتين جزءًا مختلطًا بذلك الظهور المعيّن؛ إذ بسبب هدفيته الذاتيّة، سوف يستحيل في ذات ذلك الظهور، والآخر الناظر للركود الإجباري والحتمي لسائر أبعاد الثقافة المطلوبة للإنسان، قد يتّجه نحو الزوال التدريجي، وذلك الجانب من الشخصية الذي هو جزءٌ ممزوجٌ بظهور الهدفية الذاتية، سوف يختزل الإنسان في ذلك الظهور المعيّن.

لحسن الحظ فإنّ الذي أثبتته المشاهدات والتجارب هو أنّه لا يمكن لجميع أفراد المجتمعات البشرية أنْ يرزحوا تحت أصفاد (الأهداف الذاتيّة) لظهورٍ واحدٍ أو عددٍ من الظهورات؛ ولذلك يمكن العثور على كثيرٍ من العقلاء في جميع المجتمعات من الذين يشجبون حبس شخصيّة الأشخاص في بعض مظاهر شؤون الحياة، وكذلك إبطال مفعول الأبعاد الأخرى للثقافة المطلوبة للإنسان أيضًا.
وإنّ صرخة ألكسيس كارل في القرن العشرين للميلاد في فرنسا، وتامس أليوت في إنجلترا، ووليم جيمز في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرهم من المفكّرين في المجتمعات الأخرى، ليست سوى تمرّدٍ على القيود والأصفاد المذكورة.

4. الثقافة الحيويّة الرائدة: إنّ هذا النوع من الثقافة لا يسقط بفعل محاصرته من قبل تلك الظهورات والنشاطات المتحقّقة تحت تأثير العناصر المتحرّكة في الحيات والشرائط العابرة للبيئة والمجتمع؛ وذلك لأنّ العنصر المحرّك لهذه الثقافة هي الحقائق المستمرّة للطبيعة والأبعاد الإنسانيّة الأصيلة، والغاية منها عبارة عن: الأهداف النسبية التي تحمل الإنسان على ممارسة النشاط والصراع في ضوء جاذبيّة الهدف الأسمى من الحياة. ويمكن القول بكلّ ثقةٍ واطمئنان: هذه هي تلك الثقافة الإنسانية حيث لا تتحقق أيّ حضارةٍ إنسانيةٍ أصيلةٍ في مسار التاريخ من دون وجود هذه الأرضية الثقافية، وهذه هي الثقافة التي يمكن لها تحرير تلابيبها من براثن الطغاة المستبدين، وأنْ تؤدّي رسالتها في المجتمع.

وإّن من بين الخصائص الأخرى لهذه الثقافة عبارة عن: تكثيف صبغة تلك الأخلاق والتقاليد الناتجة عن القصور الفكري، وإشباع خلأ الواقعية في الحياة، ونتيجة مجموعة أخرى من العوامل المحلية العابرة والخالية من الأفكار والأهداف الأصيلة.
نستطيع بالنظر إلى ماهيّة وخصائص الثقافة الخلّاقة والرائدة، أنْ ندرك أسباب سقوط أو زوال الثقافات التي ظهرت في المجتمعات البشرية ثم بادت بنحوٍ وآخر. إنّ أكثر الأسباب الجوهريّة لسقوط الثقافات وزوالها عبارة عن: ترسّب الظواهر والنشاطات الثقافيّة التي تظهر بشكلٍ متزامنٍ مع اضمحلال العوامل والأسباب الموجدة لها، أو أنْ تستند هذه العلل لمحورية غاية الثقافة التي بدلًا من أنْ تجعل الإنسان مفسّرًا للظهورات والنشاطات، تعمل على إسقاطه عن التحرّك التوجيهي، وتضغطه في ذاته؛ ولذا فإنّ النتائج الثقافية الحاصلة من هاتين العلتين إنْ استطاعت مواصلة وجودها وبقائها، فسوف تتحوّل بالتدريج إلى شكل أيقونةٍ أخلاقية، ثم تزول شيئًا فشيئًا من الأفق الثقافي للمجتمع.

عنصر إيجاد الثقافة الرائدة
سوف نعمل في هذا البحث أولًا على استذكار العامل والدافع إلى النزعة الثقافيّة، لنعمل بعد ذلك على استنتاج الجذور الأساسيّة للثقافة الرائدة.
كما أظهرت تواريخ عامّة الناس، وكما أثبتته التجارب العلميّة والفلسفيّة بشأن نفسياتهم، فإنّ الإنسان لا يستطيع الاكتفاء والاقتناع بما وفرّته له طبيعة العالم الخارجي والعيني والخصائص العضويّة والبيلوجيّة له بنحوٍ قهري، ويواصل حياته على طريقة النحل والنمل. وبحسب تعبير العامّة: عندما تمتلىء معدته، ويتوفّر له الملبس والمسكن، فما حاجته إلى المحراث والمعول؟ ما أنْ يصل إلى ظاهرةٍ من الظواهر حتى يعمل جاهدًا، ليقوم بتشريحها والتنقيب فيها، وقلبها بطنًا لظهر، ولو افترضنا بقاء باب رؤيته الفكريّة والعقليّة والحسيّة مفتوحًا، فإنّه لن يصل إلى أيّ هدفٍ نسبيّ إلّا وسوف يتساءل قائلًا: (ثم ماذا؟).
لو دققنا جيدًا سوف ندرك أنّ هذا السلوك المغامر، وعدم الاقتناع المقدّس جدًا في المواقف المستمرّة، معلولاتٌ تنبثق عن علّةٍ أو عللٍ أساسية، ونحن إذا لم ندرك تلك العلّة أو العلل الأساسيّة لن نستطيع فهم دافع العوامل الموجدة للثقافة الرائدة، وحتى سائر أقسام الثقافة، فهمًا صحيحًا. ولو أنّنا لم ندرك الجذور الأصلية للنزعة الثقافيّة، لن يكون بمقدورنا أنْ نفهم عوامل ظهور الثقافات وازدهارها، وسقوطها وزوالها، وكذلك من خلال تجاهل تلك الجذور، لن يكون بمقدورنا أنْ ندرك علل انتقال بعض الثقافات من بعض المجتمعات إلى المجتمعات الأخرى، كما أنّه من دون التوصّل إلى العامل الأساسي، لن يكون الحصول على ثقافةٍ هادفةٍ وطليعيةٍ أمرًا ممكنًا بالنسبة لنا. ويبدو أنّ النزعة الثقافيّة للبشر تستند إلى جذورٍ أوليةٍ، وجذورٍ ثانوية:

جذور النزعة الثقافيّة
أولاً:- الجذر الأوّلي: الجذر الأولي عبارةٌ عن: ذلك العنصر النفسيّ الفعّال الذي يعمل على تحفيز الإنسان؛ لكي يعمل على تحويل مساحة الطبيعة وتيّاراتها القهريّة إلى شكل عشٍّ يصنع هيأته بيديه، على أنْ يكون كلّ جزءٍ من أجزاء تلك الهيأة ملبّيًا لبُعدٍ من الأبعاد المتقبّلة أو الخلّاقة له.
ثانياً:- الجذر الثانوي: الجذر الثانوي عبارةٌ عن: العوامل الداخليّة والخارجيّة الخاصّة بالأمم والشعوب التي تعمل على توجيه الجذر الأولي (العنصر النفسي الفعّال)، الذي يعمل على تلوين وتوجيه شؤون حياتهم.
وبالنظر إلى الجذر الأولي والأساسي للنزعة الثقافيّة يمكن لنا القول: إنّ تنوّع الثقافات بمقدار عدد الأبعاد الصانعة الإنسانية التي تروم تحويل عالم الوجود بمساعدة تلك الأبعاد إلى عشٍّ مثاليّ صنعته وجبلته بيدها. ومع ذلك نعلم أنّ الأشخاص عادة كانوا عاجزين عن بناء ثقافةٍ تستطيع إشباع جميع أبعادهم، ولا يمكنهم الوصول إلى تشكيل ومناغمة جميع الأجزاء الثقافية المتنوّعة لهم. يمكن مشاهدة هذا النقص المؤسف في جميع المجتمعات ومنذ المراحل الأولى إلى الآن.
لا ينبغي تفقد السبب الرئيس لهذا الإخفاق في التسامح أو العوامل القهرية لظهور الصانعين للثقافة، بل يبدو أنّ العلّة الأساسيّة لهذا الإخفاق تكمن في عدم اهتمام بُناة الثقافة بذلك العنصر النفسي الفعّال الذي يسعى إلى تحويل مساحة الطبيعة وتياراتها القهرية عشًا قابلًا للسكن، والعمل في الوقت نفسه على إيجاد ذلك في مسار المتغيّرات الإيجابية. ومن ناحيةٍ أخرى نعلم أنّ توقّف المجتمع متسمّرًا في الآثار الفنيّة القديمة ـ على سبيل المثال ـ التي ظهرت في العصور الغابرة على أساس عوامل تلك الحقبة الزمنيّة، ولم يعدْ لها اليوم أدنى أثر، لا ينسجم مع حيوية عشّ الحياة المعاصرة. وكذلك كيف يمكن لحفنةٍ من الأخلاق المقدّسة التي كانت موجودةً في الأزمنة السحيقة بسبب دوافع وعوامل بلا أساس، أو لها أساس ولكنها ترتبط بذلك الماضي البعيد ولا تشتمل اليوم على أيّ مفهومٍ أو معنى، كيف يمكن لها أنْ تشبع الأبعاد الواسعة للإنسان في مجرى التحوّلات والمتغيّرات؟

أجل، إنّ هذا النوع من الفنون والأخلاق والمعتقدات وزخارف الحياة، إنّما يمكنها أنْ تؤدّي الدور الفعّال في الثقافة الملبيّة للمرحلة المعاصرة من جهتين:

الجهة الأولى: استنباط الأصول والقوانين الكليّة الاجتماعيّة والنفسيّة من تلك الفنون والأخلاق والمعتقدات، فيما لو حظيت بهذا الامتياز.
الجهة الثانية: التوظيف التاريخيّ ومعرفة كيفيّة تلوينات حياة تلك المراحل بوساطة تلك الآثار، والتجلّيات الثقافيّة، وإدراك كيفيّة عبور المجتمع من مسارٍ محدّدٍ ومعروفٍ إلى عشٍّ مطلوبٍ بناه الناس بأيديهم.
لو أردنا الحصول على ثقافةٍ أصيلة، وجب علينا ربط نشاطاتنا وتجلياتنا المثاليّة بذلك العنصر النفسي الفعال، الذي يعمل ـ في عين الثبات والخلّاقية ـ على ضمان وجود تلك الأهداف والتطلعات وتجسيدها. إنّ هذا العنصر النفسي الفعّال لا يمكنه القيام بأيّ عملٍ معقولٍ من دون الامتزاج بالبُعد الشفّاف الذي تحصل عليه الحاكمية والهيمنة من ثقافة الهدف الأعلى للحياة في باطن الإنسان. وفي بيان هذه الحقيقة يجب أنْ نأخذ بنظر الاعتبار تفسيرًا مختصرًا للبُعد الشفاف من الثقافة:

بُعد الثقافة الشفّاف وبُعدها الملموس
إنّ المراد من البُعد المحسوس والملموس من الثقافة هو: الأفكار والتطلّعات وسائر التوجّهات المتبلورة للحياة، التي تصبح مشهودةً ومحسوسةً بفعل النشاط الفكري والعضلي في العالم الخارجي، من قبيل: الآثار الفنيّة المتجسّمة التي يمكن إدراكها بالعين أو الأذن، أو السلوك الأخلاقي والعلم المتجسّم في التكنولوجيا المشهودة والملموسة لتوفير متطلبات الحياة.
إنّ البُعد الشفّاف من الثقافة هو: الغايات والعواطف والأخلاق والأهداف التي يتمّ اختيارها في الحياة، وتعمل بوعي أو من دون وعي على توجيه حياة الإنسان في المساحة الفرديّة والاجتماعيّة.

إنّ التعبير بالشفّاف عن هذا النوع من أبعاد الثقافة إنّما يأتي من حيث إنّ الفضاء الواضح والعدسات الصافية ذات اللون الخاصّ تستوجب رؤية الأجسام بشكلٍ خاصّ، من دون أن تكون بنفسها منظورةً بوصفها تجلّيًا وظهورًا خارجيًّا محسوسًا وملموسًا. عندما يقوم المؤرّخ الفرنسي بوضع نظارةٍ ذات بُعدٍ شفّافٍ من العنصريّة على عينيه، ويقوم بكتابة تأريخ السيرة الذاتيّة لحياة نابليون بونابرت، وسوف يكون نابليون في تأريخه وسيرته بطل الأبطال في التاريخ. كما أنّ المؤرّخ الإيراني العنصري لن يستطيع بدوره تقديم الجانب الحقيقي لسيرة خشايار شاه ـ على سبيل المثال ـ متجرّدًا من البُعد العنصري الشفاّف والواضح. وقد أشار وايتهيد إلى هذه الحقيقة عند تقييمه لتاريخ غيبون بشأن ازدهار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها؛ حيث قال: «لقد ألّف غيبون كتابًا جيدًا في التاريخ، ولكن كان في حينها يضع على عينية نظارة القرن الثامن عشر للميلاد»[5].
منذ القرن الثامن عشر فصاعدًا، أخذ البُعد العلمي يقوم بإثاراتٍ ذهنيّةٍ شديدةٍ من جهتين، فمهّد الطريق بذلك للوضع الراهن في العالم الغربي من جهتين:
الجهة الأولى: إنّه كان حقيقةً ساميةً وإنسانيةً فريدةً من نوعها وهي عبارة عن: الشغف والتعلّق باكتشاف الحقائق التي كانت تمثّل منذ الأحقاب القديمة واحدةً من أسمى غايات الإنسان وتطلعاته، التي كان يطلق عليها اسم (العلم). إنّ هذا البُعد العلمي حيث يبقي الإنسان على تواصل مع الحقائق، يندرج كواحدٍ من القيَم الحيوية، ومن هذه الناحية كان يستحث أسمى الطاقات الذهنيّة والنفسيّة لجميع الأمم نحو النشاطات العلميّة.

الجهة الثانية: لقد تمخّض هذا البعد المثالي (العلم ونتائجه) عن وليدٍ باسم التكنولوجيا؛ إذ قام بتوفير أدوات الحياة المؤدّية إلى الرفاهيّة والراحة لعامّة الناس. إنّ المجتمعات التي ظهرت فيها التكنولوجيا، قد أغرمت وتولّهت بمنافعها الماديّة والاعتباريّة بنحوٍ لم تنسَ الإنسان وحياته المعقولة فحسب، بل قد جعلت العلم وحده الذي هو الموجد للتكنولوجيا في خدمته وتحت قيادته، الأمر الذي أدّى إلى إفلاس العلم[6]، وتجاهل الحياة المعقولة للإنسان، ثم قام بترسيخ بُعدٍ شفّافٍ باسم (عرقنا هو أفضل الأعراق)، و(عرقنا عنوان التكامل البشري) في أذهان تلك المجتمعات! وإنّ هذا البُعد الشفاف يقوم حاليًا بنشاط محموم.
إنّ النتيجة غير المتوقّعة التي أفرزها هذا البُعد الشفّاف، تتجلّى في الشعار القائل: (حيث إنّ التكنولوجيا تحت تصرّفي، إذن يكون عرقي أفضل من جميع الأعراق! وعليه تدخل جميع المواطن وجميع الأشياء ضمن مصالحي، ويمكن لي أنْ أستولي على جميع تلك المصالح!). إنّ هذه الثقافة هي التي أدّت شيئًا فشيئًا إلى إزالة الثقافات الإنسانيّة الأصيلة لشعوب الأرض، واتّخذت اليوم شكلًا واضحًا في مناهضة الثقافة.

إنّ قائمة الأبعاد الثقافيّة العالية التي كانت ضحيةً للبُعد الشفّاف لـ (عرقنا من أفضل الأعراق)، تشمل: المشاعر الإنسانيّة العليا، وسعة الرؤية في الحياة، والغاية العليا من الحياة، والشعور بالتعاطف، وتعديل القدرات والامتيازات لمصلحة الناس. إنّ هذا البُعد الشفّاف القائل بأنّ (عرقنا أفضل من جميع الأعراق) هو الذي أدّى إلى إحياء نظرية التنازع من أجل البقاء، وهو الأمر الذي كافح آلاف الأنبياء والحكماء والفلاسفة من ذوي العقول الثاقبة في مشارق الأرض ومغاربها من أجل القضاء عليه وتهذيبه وتعديله، لتطهير وجه الإنسانيّة من وصمة عار هذا الشعار القائل بـ (التنازع من أجل البقاء)[7].

أنواع البُعد الشفّاف من الثقافة
إنّ الأبعاد الشفّافة وغير الملموسة من الثقافة التي تعمل على إشباع وتوجيه الأبعاد الملموسة منها، تحتوي على أقسامٍ مختلفة، حيث تنقسم من زاوية ماهيتها وسعتها وحدود نشاطها إلى أقسامٍ متنوّعة:
إنّ ماهيّة بعض الأبعاد الشفّافة من الثقافة المؤثّرة في توجيه أبعادها الملموسة، تنشأ عن الطبيعة الاعتياديّة للإنسان، من قبيل: حبّ الأنا، وحبّ السلطة وما إلى ذلك، حيث يقوم كلّ واحدٍ من هذه الأمور ـ على أنحاء متنوّعة ـ بوضع نظارةٍ على عين الإنسان، وحيث تنبثق هذه الأبعاد من الطبيعة الاعتياديّة للإنسان، فإنّها تحظى بدائرةٍ أوسع وأشمل بكثير، إلى الحدّ الذي يضطرّ معه توماس هوبز إلى القول: (الإنسان ذئبٌ للإنسان).
وبطبيعة الحال لا ننسى أنّه ليس هناك شخصٌ أو مجتمعٌ مدركٌ للعوامل الإنسانيّة والتضحيات الكثيرة التي وقعت طوال التاريخ من أجل العدالة والعواطف الإنسانيّة، لا يعترف بقانونيتها وتأثّرها بالبُعد الأناني والسلطوي فحسب، بل يعدّ نفسه معارضًا لذلك أيضًا.
إنّ العنصريّة وعبادة الوطن ـ وليس الحبّ المعقول للوطن ـ يعدّ واحدًا من الأبعاد الثقافيّة الشفّافة وغير الملموسة التي تترك تأثيرها بوعي أو بغير وعي في توجيه سائر المظاهر والأبعاد الثقافيّة، وتعمل على تلوينها.
التطلّعات والأهداف الكلّية المتّفق عليها من وجهة نظر الوسطيين من الناس عبر التاريخ، من قبيل: العلم، والفن، والحضارة، والحياة الطبيعية، وما إلى ذلك.
إنّ هذا النوع من الأبعاد الشفّافة فيما لو تمّ تفعيله بماهيته الحقيقية من دون أنْ يشوبه حبّ الذات وحبّ السلطة، فإنّه سوف يكون نافعًا قطعًا. بيد أنّ هذه الأبعاد للأسف الشديد ـ كما تقدّم أنْ ذكرنا في بداية هذا البحث ـ قد عملت على إيجاد أولادٍ على الرغم من السجل الناصع والمشرّف لآبائهم، قاموا بإهدار قيَمهم ومآثرهم العظيمة.
يبدو أنّه لا يوجد من طريقٍ للنجاة من هذه الأبعاد الشفّافة ـ التي تعمل في البداية على اجتذاب الأشخاص بوساطة الأوجه المثالية، ثم تعمل على ضلالهم ضمن أمواجٍ عاتيةٍ من الأنانيات وحبّ الذات، لتنشط بعد ذلك بالتدريج على شكل عناصر مضرّة ـ سوى تعيين الهدف الأسمى من الحياة والتحرّك في مسار ذلك الهدف.

طريقة إصلاح أبعاد الثقافة الشفّافة وتناغمها مع أبعاد الثقافة الملموسة
إنّ طريقة إصلاح الأبعاد الشفافة من الثقافة، في الوقت الذي تكون من أكثر الطرق استقامةً وبساطة، تكون كذلك من أكثرها ضرورةً وحصرية؛ إذ يمكن للعقلاء المفكّرين أنْ تقديم بيانٍ لها. كما أنّها في الوقت نفسه من أبعد الطرق وأكثرها تعقيدًا أيضًا؛ إذ يمكن أخذها بنظر الاعتبار من أجل إصلاح الأبعاد الشفّافة من الثقافة. إنّ هذه الطريقة من أكثر الطرق استقامةً وبساطة؛ وذلك لأنّها تمثّل طريق الإنسان إلى الذات، حيث لا يمكن تصوّر طريقةٍ أكثر منها استقامةً وبساطةً للوصول إلى الغاية، وهي في الوقت ذاته من أبعد الطرق وأكثرها تعقيدًا؛ وذلك لأن الإنسان أمسى فيها كثير البُعد عنها وعن تصوّر حدودها.
حيث تكون الأبعاد الثقافية الشفّافة مفسّرةً ومبرّرةً لجميع التجلّيات والنشاطات الثقافية، سوف تكون في الواقع من قبيل النظّارات والعدّسات الملوّنة، إذ يمكن لـ (أنا) الإنسان رؤية الشؤون العينيّة والواقعيّة لحياته من خلف تلك العدسات. لا شك في أنّ الأبعاد الشفّافة للثقافة لا يمكن أنْ تكون انعكاسًا محضًا للظواهر والعلاقات العينيّة في بُعدَي الإنسان والعالم؛ وذلك لأنّ الصوَر المنعكسة عن الظواهر والروابط الواقعية والعينيّة، ليست أكثر تحريكًا من ذات تلك الواقعيات العينية، كما أنّ التصوّر المحض للجمال ليس أكثر تحفيزًا وإثارةً من ذات الجمال العيني والمشهود.

إنّ تحريك هذا التصوّر (الصورة المنعكسة عن الظواهر والروابط العينية)، إنّما يبدأ حيث تكون على نحو ما يريده المتصوِّر، كأنْ يريد ـ على سبيل المثال ـ أنْ يقتني ذلك الجميل، أو أنْ يرسم لوحةً تحتوي على صورةٍ لتلك الظاهرة الجميلة.
وكذلك فإنّ الانعكاس المحض للحريّة في الذهن أكثر تحريكًا وإثارةً من الحريةّ الواقعيّة العينيّة؛ إذ إنّ ذلك الانعكاس إنّما يمكنه أنْ يعمل على التحريك من حيث إثبات مطلوبيّته بالنسبة إلى المتصوّر.

وعلى هذا الأساس يجب أن نفرّق بين البُعد الشفّاف للثقافة وبين التصوّرات المحضة للواقعيات؛ إنّ هذا الفرق هو وجود التحريك والتفسير والتوجيه في البُعد الشفاف، وعدم وجوده في الانعكاسات والتصوّرات المحضة. وعلاوةً على ذلك فإنّ التصوّرات والانعكاسات المحضة تعمل على بيان ما له عينيّةٌ في عالم التجلّيات والظهورات كما لو كانت مرآةً صافية، دون أنْ يكون لها شأنٌ بارتباطها فيما بينها وأهدافها والعوامل الجوهرية لها، في حين أنّ البُعد الشفّاف من الثقافة، يعمل على تفسير جميع الواقعيّات الملموسة وتوجيها مع الارتباطات والأهداف المعقولة.
وعلى هذا الأساس فإنّ الأبعاد الشفّافة من الثقافة، تأخذ في الحقيقة على عاتقها تفسير الحياة في جميع شؤونها. بمعنى أنّ اللذات، والآلام، والمعرفة، والإرادة، والمنطق، والخيال، والأخلاق، والانتماءات المذهبيّة والأيديولوجيّة، والإبداع الفني وما إلى ذلك من الأمور، يتمّ العمل على توضيحها وبيانها بأجمعها من خلال تلك الأبعاد الشفافة. فلو كانت هذه الأبعاد مجرّد حاكيةٍ ومعبّرةٍ عن الحقائق التي تعمل بوساطة مقدارٍ من الحركات الجبريّة ومقدارٍ من الحريات البسيطة وغير المحسوبة، على بلورة حياة الإنسان، لن تكون شيئًا سوى الانعكاسات المحضة التي تقوم بنشاطها بمساعدة من العوامل المحرّكة الطبيعيّة.

والنتيجة هي: أنّ الأبعاد الثقافيّة الشفّافة يجب أنْ تعمل على تلبية الأهداف والغايات العليا من الحياة الإنسانيّة، لكي تتمكن من تقديم إجاباتٍ شافيةٍ لأسباب وكيفيات الحياة. ولهذا السبب نقول: إنّ كلّ ثقافةٍ لا تستطيع العمل على تعيين الهدف الأسمى من الحياة، سوف تكون كذلك عاجزةً عن تلبية الأهداف والغايات العليا في الحياة أيضًا.
إنّ الغاية الأعلى من الحياة دون ازدهار الأبعاد البنّاءة من الحياة، لا يمكن لها في حدود الإمكان أنْ تحتوي على حالة ٍحيويةٍ وخلّاقة. إنّ حياة الفرد والمجتمع إذا كانت تخلو من الهدف التكاملي، فإنّها حتى لو تمكنت من إيجاد أيّ تبلورٍ ثقافي، لن يكون لها نصيبٌ من الحريّة الرائدة التي تضمن بقاء الثقافة الأصيلة. وفي هذا الأثناء سوف تكون جميع أنواع التجلّيات والنشاطات الثقافيّة حفنةً من الآثار والأفعال القهريّة، وسوف تكون عاجزةً عن إشباع الشعور بتحقيق الأهداف والغايات وبناء الملاذات في الحياة. إنّ تلك الآثار الفنيّة الجميلة والممتعة للغاية، إذا لم تكن لتنطوي على هدفٍ وغاية، فإنّ بمقدورها أنْ تلهب شعورنا الباطني للحظةٍ واحدة فقط، ولكنّها لن تحدّد لنا وظيفة ما بعد تحفيز الشعور في داخلنا. لو أنّنا تقبّلنا ذلك العنصر الهادف في الثقافة الأصيلة، لن يكون هناك شكٌّ في أنّ أرضيّة ثقافتنا سوف تعمل على تحويلنا من التقليد الجاف والتسمّر عند الآثار الراكدة والفاقدة للروح إلى الثقافة الأصيلة والبنّاءة.

إنّ الثقافة في الدائرة الرائدة هي تمامًا مثل الروح في الحركة الرائدة. والحقيقة هي أنّ ثقافة المجتمع تعمل على تنوير الطريق لروح ذلك المجتمع، وأنّ التجليات والنشاطات الثقافيّة بمنزلة الظواهر والأفعال التي تتمخّض عن الروح.
وعلى هذا الأساس ليس أمامنا لإيجاد الثقافة الأصيلة والرائدة من طريق سوى العمل على تعزيز وتقوية إحساس أفراد المجتمع وتفكيرهم، والعمل على التوفيق بين هذين الأمرين بحيث يقوم الناس أنفسهم من خلال شخصيتهم الحرّة بإيجاد الثقافة التي ينشدونها.

وكما سبق لنا أنْ أشرنا فإنّ الحريّات الحقيقيّة للشخصيّة من دون أنْ يكون هناك هدفيّةٌ وغايةٌ عليا في البين، لن يكتب لها التحقّق، وسوف ترمي بالمجتمع ـ من خلال دفعه في مستنقع الانحلال والحريات المزعومة والموهومة ـ نحو اللاثقافيّة أو الثقافة الباهتة التي تتلاشى عند أوّل صِدامٍ مع الثقافات الأخرى، ثم تؤول نحو الزوال والفناء. هذا في حين أنّنا نحتاج في إيجاد الثقافة الأصيلة والرائدة إلى تفسيرٍ للهدف والغاية العليا من الحياة على نحوٍ جاد، وعلينا أنْ نرى ما هي الرؤية الكونيّة والأيديولوجيّة التي يمكنها العمل على توضيح وإثبات الهدف الأسمى من الحياة بنحوٍ عقلاني؟
منذ بداية التاريخ إلى الآن، قامت جميع أنواع المذاهب الفلسفيّة والأيديولوجيّة بنشاطاتٍ في سياق إظهار الهدف السامي من الحياة، وعملت على تقديم الآراء والعقائد المتنوّعة في هذا الموضوع، بيد أنّ التحقيق اللازم والكافي في مجموع تلك الآراء والعقائد إنّما يُظهر حقيقةً واحدةً متفقًا عليها، يقبل بها جميع المنظّرين، على النحو الآتي: بمقتضى القانون القائل: (كلّ هدفٍ وغايةٍ يجب أنْ يكونا أسمى من الموقع الذي يقف فيه الإنسان الهادف)، يجب أنْ تكون غاية الحياة أعلى وأسمى حتمًا من الظواهر والشؤون القهريّة والعابرة للحياة، لكي تتمكن من العمل على تفسير وتوجيه مجموع الأصول الأساسيّة والظواهر الفوقيّة للحياة واجتذابها إلى ناحيتها.

لا شك في أنّ هذا الانجذاب نحو الغاية الأسمى لا ينسجم مع ركود مقدار من التجلّيات وتكرار بعض النشاطات بوصفها ثقافة، بل إنّه بناءً على قانون العلّة والمعلول، يضع الثقافة ـ التي هي معلولة ـ في المسار التكاملي. إنّ آراء المنظّرين تختلف في توضيح هذه الغاية تحديدها، ولكن هذا المبحث لا يتسع للمزيد من التفصيل في هذا الشأن.
لو تجاوزنا أصحاب مذهب اللذة والعدميين، فإنّ جميع المفكّرين يتفقون على الاعتقاد بالقانون القائل: (كلّ هدفٍ وغايةٍ يجب أنْ يكونا أسمى من الموقع الذي يقف فيه الإنسان الهادف). وعلى هذا الأساس لا يمكن لأيّ مذهبٍ أنْ يعمل على تعريف ذات الشؤون والظواهر ـ أو على حدّ تعبير جلال الدين محمد المولوي: ظلال الحياة ـ بوصفها هدف الحياة، ليتمّ العمل على إيجاد الثقافة الأصيلة والخلّاقة:

لطف شير و انگبين عكس دل است
هر خوشي را آن خوش از دل حاصل است
پس بُوَد دل جـوهر و عالم عرَض
ســايه دل چــون بُــوَد دل را غــرَض[8]

إنّ من أهم مختّصات الثقافة الرائدة وأكثرها قيمةً التي تسعى إلى تحقيق الحياة الرائدة، هي التبلور المنطقي لعناصر الثقافة الذي يُعدّ من أسمى الأهداف والتطلّعات الإنسانية. إنّ هذا التبلور الثقافي الذي يتجلّى عن العامل الهادف، يُشبه تمامًا التبلور المنطقي للنشاطات النفسيّة والروحية للأهداف، حيث تنبثق عن العنصر الهادف للروح.
واليوم حيث نشاهد تفكّك العناصر المكوّنة للثقافة في أكثر المجتمعات البشريّة، علينا ألّا نتعجّب؛ إذ لم تسفر جهود الفلاسفة والمفكّرين في حقل العلوم الإنسانيّة من أجل إظهار الهدف الحقيقي من الحياة عن نتيجةٍ تذكر، وقد عبّروا عن عجزهم في هذا الشأن؛ وعليه من الطبيعي عندما تتقطع أوصال الروح الإنسانيّة على يد علماء الاقتصاد وعلماء الحقوق وعلماء النفس المتخصّصين والمحترفين الظاهريين والتكنولوجيين النفعيين، ألّا يكون هناك أملٌ بتوقّع ثقافةٍ تتألّف من العناصر العقلانيّة.

بعد ملاحظة مجموع هذه المسائل لا يبقى أمامنا من طريقٍ سوى أنْ نعمل أولًا على حلّ (لغز هدف الحياة)، ثم نعمل بعد ذلك على وضع أسس وقوانين الثقافة الأصيلة. يبدو أنّه يجب على المؤسسين لثقافتنا أنْ يعملوا ـ من أجل الحيلولة دون السقوط القطعي لثقافتنا الأصيلة ـ على تحديد موقفهم تجاه الهدف العالي من الحياة، وإلّا فإنّ الحياة الآلية والحضارة غير المدروسة التي يتمّ وضعها اليوم أمام البشر، لن تؤدّي إلى غايةٍ غير العبثية.

الهدف الأعلى من الحياة إيجاد الثقافة الأصيلة والرائدة
إنّ الهدف الذي يمكن تفسير حياة الإنسان في مرحلةٍ زمنيّةٍ تشكّل متوسّط عمر الإنسان في هذه الحياة، في ظلّ الظروف والشرائط البيئيّة والاجتماعيّة التابعة إلى التاريخ والمعلومات والطاقات والرغبات والمطالب المستمرّة والمتواصلة له، من الواضح بداهة أنّ هذا التفسير لن يكون ممكنًا أبدًا من دون الإجابة عن هذه الأسئلة الأربعة الرئيسة، وهي: (من أنا، ومن أوجدني، وما هو سبب وجودي؟ وما هو مصيري؟).
عندما يعمل الإنسان على طرح هذا النوع من الأسئلة، فإنّه يريد بذلك قطعًا أنْ يفهم معنى تبعيّته إلى العالم الذي يعيش فيه. ليس مهمًا ما هو فهمه للعالم، بل يكفي بالنسبة إلى الإنسان أنْ يطرح عليه عالم يوجد فيه، ويتعرّف عليه إلى حدٍّ ما، ويجد من نفسه شغفًا من أجل التكامل، ثم يمضي في هذا الاتجاه.

لو لم يكن موضوع الشغف موجودًا في تفسير التبعيّة إلى العالم الذي يعيش فيه الإنسان، لمَا ظهرت كلّ تلك الثقافات المدهشة والمترامية الأطراف على طول التاريخ، ولمَا تجلّت جميع تلك الأفكار العظيمة والعقائد البنّاءة والفنون الرائعة التي تمثّل بُعدًا من أبعاد التكامل والرقيّ في وجود الإنسان. إنّ هذا البحث عن الكمال والارتقاء الذي ينشده الإنسان بعد الوصول إلى كلّ مرحلةٍ كماليةٍ كانت تشكّل هدفًا للإنسان، لن يمكن إشباعه بأيّ امتيازٍ ثقافيّ آخر إلّا من خلال التعرّض إلى الجاذبة الإلهيّة التي يكون مدخلها عبارةً عن روح الإنسان، إلّا إذا قام في تجلٍّ أو نشاطٍ ثقافيّ بتجسيد عملية التلوين والامتياز وعظمة التمثيل بحيث يقحم الروح اللامتناهية في إطارها.
إنّ الأشخاص الذين يعملون ـ من خلال هذا الهدف بشأن الحياة ـ على إيجاد ثقافة، سوف تكون تلك الثقافةً حيّةً، وليست ثقافةً من روحٍ ولونٍ، ورسوبية ومحورية.

بعد التدقيق اللازم والكافي في هذه الأبحاث، يتمّ إثبات هذا المطلب وهو أنّ الثقافة الحيّة، لا يكون ممكنًا إلا بوساطة العامل الأيديولوجي والديني الذي يوجد بوساطة الحياة الرائدة عند من يمتلك هذه الحياة الرائدة. عندما نقول: (العامل الأيديولوجي) لا يكون المراد مجموعةً من العقائد التي لا يمكن إثباتها والأعمال البعيدة عن المنطق، بل المراد هو الوعي ونشاط روح الإنسان في مجال التكامل باتجاه منطقة الجاذبية الإلهية. لقد مهّد إقبال اللاهوري الطريق إلى الثقافة الخلّاقة بهذا البيت القائل:

چيست دين؟ برخاستن از روي خاك
تــا كه آگه گـردد از خود جان باك[9]

إنّ الإنسان في هذا المجال من خلال العلم والاطلاع المذكور في البيت أعلاه، يعدّ العالم كروحه العزيزة، ويثبت نقوشه وكتابته ونشاطه الثقافي على أبواب وجدران هذا البيت المحبوب. وفي الحقيقة فإنّ البيت المحبوب ليس سوى عالم الـ (أنا)، ولكن لا لكي يعيش في هذا البيت لبضعة أيامٍ ثم يغادره، بل هو داخل الـ (أنا)، وسوف يصحبني ويذهب معي نحو الأبدية.

الثقافة التي بناها الإسلام
إنّ الثقافة التي أسس لها الإسلام، تأتي في إطار حياةٍ هادفةٍ تعمل على تفعيل الأبعاد الجماليّة، وطلب العلم والمنطق، والتطلّعات الإنسانية بشدة، وتعمل على تشكيل جميع العناصر الثقافيّة، ولا تفصل العنصر الثقافي العلمي عن عنصر الأخلاق الإنسانيّة العالية، ولا تفكّك بين عنصر الثقافة الفنيّة وبين عنصر ثقافة الإرشاد الاقتصادي، وتجعل وحدة الثقافة تابعةً لوحدة روح الإنسان، وتحول دون تجزئتها وتلاشيها. إنّ عناصر الثقافة الإسلاميّة الواردة في المصادر المعتبرة تحت عنوانات من قبيل: الأدب، والخصال، والعلم، والأخلاق بمفهومها العام، ممّا يُسمّى بمحاسن الأمور، تندرج بأجمعها ضمن مفهومٍ عالٍ باسم (الحكمة).

إنّ هذه الحكمة تشمل كلّ نوعٍ من أنواع التجلّي والنشاط الذي يستطيع تعزيز وتقوية الحياة الرائدة لكلّ شخصٍ ومجتمع. إنّ أوّل مؤسّسٍ وداعمٍ رئيس لهذه الثقافة هو الله سبحانه وتعالى الذي جهّز الإنسان بالقلم، والبيان، والقريحة، والذوق، وطلب الكمال، واكتشاف الأصول الثابتة في مجرى نهرٍ دائمٍ من الأحداث، وزوّده بجناحي الشعور والتفكير، ومهّد له سبل التحليق والطيران.
إنّ نتيجة ظهور هذا النوع من الثقافة الرائدة، تتجلّى في الأمر الآتي: «بعد ثلاثة قرونٍ من رحيل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت مدينة قرطبة مدينةً عامرةً يسكنها مليون نسمة، وتحتوي على ثمانين مدرسة عامّة (كلية)، ومكتبة تحتوي على ستمائة ألف كتاب، وأصبحت اللغة العربية لغة العلم في العالم، وفي هذه اللحظة بدأ انتشار العلم من جديد. وقام زكريا الرازي (251 ـ 313 هـ) بتوصيف مرض الجُدَري، وقام مساعده أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (المتوفى حوالي 913 ـ 1003) بتشخيص مرض السل وأمراض العمود الفقري بشكلٍ كامل. وعمل أمير العلوم ابن سينا (370 ـ 428 هـ) على تطوير علم الطبّ في العالم الإسلامي، بحيث اضطرّ أحد ملوك كاستيل بعد إصابته بالجدري إلى الذهاب إلى مدينة قرطبة لتلقي العلاج عند أعدائه. وكانت مؤلّفات محمد بن جابر بن سنان البتّاني (المتوفة سنة 317 هـ) موضع فخرٍ واعتزازٍ لأبناء بلده. لقد كان البتّاني رجلًا عظيمًا ومن طبقة الأشراف، وكان يبدي تعلقًا واحترامًا لبطلميوس، وهو الذي تقدم من حيث الدقّة في دراسة تقويم الاعتدالين على بطلميوس أيضًا، وكان هو أوّل من أحل جيب (سينوس) في علم المثلثات محل الوَتَر، وظهرت جميع المثلثات كنتيجةٍ لهذا التغيير»[10].

إنّ الثقافة الأدبيّة بمعناها العام الذي يمثّل اللغة الناطقة لكلّ غايةٍ ثقافية، قد تمّت تقويتها في المجتمعات الإسلامية وتحوّلت إلى عاملٍ خلّاقٍ، بنحوٍ يمكن القول: من خلال تربية رجالٍ من أمثال جلال الدين محمد المولوي، قد تأثّرت به الثقافات المفيدة والبنّاءة لسائر الشعوب والأمم إلى الحدّ الذي ذهبت معه كلّ مدرسةٍ أدبيّةٍ إلى التعريف بالرؤية الفلسفيّة للمولوي بوصفها جزءًا من مدرستها، في حين لا وجود لمثل هذا التكوين في الثقافات العادية لسائر المجتمعات.
دققوا في هذه العبارة لبيير روسو التي يقول فيها: «إنّ التجديد الأدبي والفني، يعمل على إيقاف تطوّر العلم»[11]، ثم طالعوا البحث الخاصّ بهذا العنوان القائل: «تم الإعلان عن إفلاس العلم»[12] في المصدر الخاصّ بهذا الشأن، وانظروا إلى أيّ نتيجةٍ سوف تصلون؟

وفي الحقيقة لو تمّ في البناء والاستمرار والتحوّلات الثقافيّة أخذُ ضرورة تكوين وإشباع جميع الأبعاد النفسيّة للناس بنظر الاعتبار، لما أدّى تطوّر أيّ واحدٍ من العناصر الثقافيّة ـ دون أدنى شك ـ إلى ركود أو توقّف سائر عناصرها الأخرى، بمعنى أنّ التجديد الأدبي والفن لم يؤدّيا إلى توقّف العلم أو تطوّره. وكذلك لما أعلن عدم الاهتمام بعنصر الرؤية الكونية للثقافة عن إفلاس العلم.
لقد ذكرنا في مستهلّ هذا البحث أنّ الثقافة التي أرسى الإسلام دعائمها إنّما كانت في إطار تحقيق الغاية من الحياة، حيث عمل الإسلام على تفعيل الأبعاد الجماليّة وطلب العلم والمنطق وهدفيّة الإنسان إلى حدٍّ كبير، وعمل على تكوين جميع العناصر الثقافيّة.

إنّ التجلّيات الفنيّة التي تجسّدت في الأندلس وفي الهند وإيران والشام التي يقرّ جميع خبراء الفنّ بأنّها قد بلغت الحدّ الأعلى من الجمال والفن، تشكّل دليلًا واضحًا على إثارة وتحريك البُعد الجمالي في الإسلام. ولقد أشار القرآن الكريم في سبعة مواضع إلى وجود البُعد الجمالي المتعلّق بالمشيئة الإلهية، كما في قوله تعالى:

ـ ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾[13].
ـ ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾[14].
ـ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾[15].

إنّ المراد من الزينة ـ بالنظر إلى هذه الآيات والآيات الأخرى التي ورد فيها استعمال كلمة الزينة ـ هي الزينة والجمال بمعناه الخاصّ والعام؛ فإنّ الزينة التي ورد استعمالها في الآية الأولى والثانية أعلاه هي الزينة بمعناها الخاصّ، بمعنى الجمال. وفي الآية الثالثة بمعناها العامّ الشامل لجميع الظواهر البديعة والنافعة.
إنّ الآيات الكثيرة التي وردت في الحثّ على التعقّل وشحذ التفكير، والحثّ على الفهم والعلم، كان لها من التأثير العميق في روح المسلمين بنحو لم تمضِ سوى مدّةٍ قصيرةٍ جدًا حتى تحوّلت المجتمعات الإسلامية إلى عواصم للعلم والمعرفة. في ظلام العصور الوسطى حيث كانت جميع الشعوب ترزح تحت وطأة الحرمان من العلم والبصيرة، كان قبس العلم مرفوعًا على أيدي المسلمين، وكذلك فإنّهم قد رفعوا سائر العناصر الثقافية الأخرى ـ من قبيل: الأخلاق والهدفيّة ـ إلى أعلى مراتب الازدهار.
إنّ جميع هذه العناصر الثقافيّة الحيويّة، كانت تمضي في هذا الاتجاه على نحوٍ منتظم، حيث كانت تنبثق من جذورٍ أصيلةٍ للحياة الرائدة. وحيثما تمّ تجفيف هذه الجذور في أيّ نظامٍ ثقافيّ، فإنّ كلّ ظهورٍ وعنصرٍ يتجلّى باسم الثقافة سوف يكون مستندًا إلى عامل قهري، وإنّ كلّ ما يبديه من طراوةٍ سوف يكون من قبيل تلك الطراوة التي تظهر بفعل رشّ الماء على باقةٍ من الأزهار المجتثّة من جذورها.

هل يمكن للثقافة الإسلاميّة أنْ تنسجم مع الثقافة الغربيّة؟
إذا كان المراد من الثقافة هي الظواهر التي تجعل الحياة البشريّة المعقولة قابلةً للفهم، ويكون القبول بها مستوجبًا للانشراح النفسي للأشخاص في الحياة الرائدة، فلا شك في أنّ هذه الثقافة لن تكون منسجمةً مع الثقافة الإسلاميّة فحسب، بل إنّ الثقافة الإسلاميّة تعمل على تأييدها وتقويتها أيضًا. إنّ المعيار العامّ في هذا المورد هو: هل يمكن للثقافة الغربيّة أنْ تجعل من الإنسان والعالم الهادف محورًا لنشاطها أم لا؟

إنّ الذي نراه في هذه المرحلة المعاصرة (العقد الأخير من القرن العشرين) في الأقاليم الغربيّة بمعناها العام، هو أنّها تعمل على تعريف الهدف من حياة الناس بوصفه مذهب اللذة[16] ومذهب المنفعة[17]. وبطبيعة الحال فإنّ هذا لا يعني أنّ جميع التاريخ والنشاطات في الغرب قد دار ولا يزال حول هذين المحورين فقط؛ وذلك لأنّ إنكار وجود الشخصيّات العظيمة في تلك الأصقاع يتنافى مع الحقائق الثابتة، كما أنّ الإنكار المطلق للنوايا المخلصة والخيّرة في تلك البلدان، يُعدّ ضربًا من إنكار البديهيّات. بيد أنّ الفضاء الثقافي الحاكم والمهيمن حاليًا على تلك البيئة هما المذهبان المذكوران آنفًا؛ (مذهب المتعة، ومذهب المنفعة)، حيث أضيفت إليهما السلطات المتنوّعة أيضًا.
وباختصار فإنّ مبنى الثقافة الإسلاميّة يقوم على أساس (الحياة المعقولة)، وهي الحياة التي تُسقى من الجامع المشترك للدين الإلهي الكلّي (الملّة الإبراهيميّة)، وتكون الحقوق والأخلاق الإنسانيّة العالمية من نتائجها وثمارها. إنّ كلّ ثقافةٍ تنسجم مع هذا المبنى والجامع المشترك، سوف يكون بمقدورها قطعًا من خلال التناغم بنحوٍ كاملٍ مع الثقافة الإسلاميّة أنْ تؤثّر بشكلٍ ملحوظٍ في إحياء المجتمع البشري سواء أكان غربيًّا أم شرقيًّا، أم كان من الجيل القديم أم من الجيل المعاصر.

من الضروري هنا أنْ نشير إلى مباني الثقافة الغربيّة الراهنة، لنرى ما إذا كانت هذه المباني مقبولةً في الثقافة الإسلامية أم لا؟
يجب علينا أولًا أنْ نعلم أنّ المباني الثقافيّة للغرب ولا سيّما بالنظر إلى التعاريف الصحيحة التي نراها في الموسوعات والمعاجم اللغويّة المعروفة في العالم الغربي، لا تعبّر عن جميع الأفكار والعواطف الموجودة لدى الغربيين، بل إنّ هذه المباني المذكورة في هذا البحث حقائق موجودةٌ حاليًا في أسس الحياة الثقافيّة لتلك المجتمعات، أو تمّ فرضها على تلك المجتمعات من قبل المستبدّين؛ وعلى هذا الأساس لو شوهد أشخاص أو ظواهر في حياتهم، تبطل المباني المذكورة أو تبطل بعضًا منها، فإنّ هذا لا يتنافى مع هذا المطلب.

بعض المباني الأصليّة لثقافة الغرب المعاصرة:
الحياة الدنيويّة، آخر منازل الإنسان
إنّ هذا المبنى الذي ورد التصريح به في بعض الكتب والمصادر الخاصّة بالعالم الغربي، تشمل أكثر الثقافة العمليّة للبشر في تلك الأصقاع. بل ونرى أحيانًا وللأسف الشديد أنّهم يعملون على توظيف سوط العلم الأمضى والأكثر لا إنسانية من سوط التكفير القروسطي من أجل إثباته، ومن الواضح أنّ ضرر الإظهار العلمي لهذا المفهوم أشدّ بكثيرٍ من ضرر صورة التمظهر شبه العلمي له.
وعلى هذا الأساس فإنّه بالنظر إلى شهادة الوجدان والأدلّة العقليّة الواضحة على أنّ هذه الحياة الدنيوية لا يمكن أنْ تكون هي المنزل الأخير للناس، فإنّ التمسّك بالعلم لنفي ذلك، لا يسقط العلم عن الاعتبار فحسب، بل يحوّله بشكلٍ وآخر إلى وسيلةٍ للتخدير أيضًا.

2. الحرية المطلقة
إنّ هذه الحريّة مضمونةٌ لكلّ فرد، بشرط ألّا تتعارض مع حقوق الآخرين. إنّ لازم هذا المبنى هو أنّ حياة الفرد لا تتقيّد بأيّ قانون، وأنّه لو ارتكب أقذر الأعمال الشنيعة فهو حرّ، ولا يحقّ لأيّ شخصٍ أنْ يمنعه أو يردعه عن ارتكاب تلك الأعمال!

لا بأس بأنْ يقرأ هؤلاء ـ الذين يعدّون أنفسهم من أنصار مزج الثقافة الغربيّة بالثقافة الإسلاميّة ويرون أنفسهم من أصحاب النظر في هذا النوع من المسائل ـ هذه العبارات التي ننقلها عن المدّعي العام السابق لديوان الولايات المتّحدة الأمريكيّة روبرت هاوغوت جاكسن، وعندها إذا كانوا من المنظّرين في هذا النوع من المسائل عليهم أنْ يبدو وجهة نظرهم في هذا الشأن. يقول روبرت جاكسن: «إنّ الاختلافات الجوهريّة من وجهة نظر الشخص الأمريكي هي تلك التي تقوم بين القانون والدين. وفي الغرب نجد حتى تلك البلدان التي لا تؤمن كثيرًا بالفصل بين الدين والسياسة، ترى أنّ النظام القانوني شأنٌ دنيوي، حيث تلعب مقتضيات الوقت الدور الأكبر فيها ... فقد تمّ التأسيس للمجالس التشريعيّة من أجل تشريع القوانين، والمجالس التنفيذيّة والقضائيّة من أجل تنفيذها، وتعدّ هذه الأمور من المؤسّسات الخاصّة بهذا العالم حيث ترتبط بمؤسّسات الدولة، وهي مسؤولةٌ تجاهها، وليست مدينةً بشيءٍ إلى الدين والكنيسة؛ ومن هنا فإنّ القانون عندنا في الولايات المتّحدة الأمريكية لا يعمل على تشريع التكاليف الدينيّة، بل يعمل بذكاءٍ وحذقٍ على إلغائها.

ليس للقانون في الولايات المتّحدة الأمريكية سوى الحدّ الأدنى من الارتباط مع تطبيق الوظائف الأخلاقيّة. وفي الحقيقة فإنّ الشخص الأمريكي في الوقت الذي يمكن له أنْ يكون مطيعًا للقانون، يمكن له في الوقت نفسه أنْ يكون من الناحية الأخلاقيّة من أقذر وأفسد الأشخاص»[18].
هل يمكن للثقافة التي تأخذ مجرّد التعايش الإنساني وحقوق الناس بنظر الاعتبار أنْ تنسجم مع تلك الثقافة التي تضع جميع أبعادهم في مسار (لحياة المعقولة) تحت ظلّ القوانين والحقوق؟

3 . أصالة القوّة
على الرغم من أنّنا لا نرى هذا المصطلح في الآراء العامّة لثقافة العالم الغربي، ولا تزال بعض الكتب الأخلاقيّة والأدبية في تلك الأصقاع تعدّه من الأمور المرفوضة، بيد أنّ جميع أبعاد الثقافة السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة في العالم الغربي ـ للأسف الشدسد ـ ولا سيّما في الجانب العملي زاخرةٌ بتجلّيات هذا الأصل المبيد للإنسان. وللأسف الشديد لم يكونوا في الحدّ الأدنى يمتلكون ذلك المقدار من الشفقة على الإنسان بحيث يقولون: (إنّ التعاون وحبّ أبناء النوع، وتحمّل الإرادة المشروعة للآخرين، تُعدّ بدورها من أشكال السلطة والقوّة أيضًا).

وبالنظرة الشاملة إلى هذه المسألة يتضح أنّ المسار الثقافي الراهن في العالم الغربي لم يقتنع بهذا المفهوم القائل: (إنّ الموت للشخص الضعيف أمرٌ طبيعي، وإنّ كلّ قوي إنّما يضعف أولًا ثم يموت)، بل إنّ الأقوياء يبذلون كلّ ما بوسعهم من أجل إضعاف وتعجيز الناس في مسار رغباتهم الحيوانيّة؛ كي يعملوا على فتح ميدان جولانهم لتتمّ إبادتهم بذلك الأمر الطبيعي الذي يُسمّى بالموت!

4 . أصالة المتعة
إنّ الثقافة الراهنة في العالم الغربي تنصح بالحصول على المتعة الأكبر في الحياة، ويتذرّعون بما يدعونه (علمًا)، للأسف الشديد، ويقولون: (إذا تمّ كبت الحصول على اللذة والمتعة، فإنّ ذلك سوف يؤدّي إلى ظهور العُقد الروحية وسائر الاختلالات النفسيّة الأخرى!)، في حين أنّ هؤلاء العاشقين للشهرة يقرّون بأنفسهم أنّ ترك حبل نشاط الغرائز على غاربه من دون قيودٍ أو شروطٍ يؤدّي إلى ركود وتراجع النشاطات الذهنيّة والعقليّة. يقول جلال الدين المولوي:

جز ذَكَر، ني دين أو ني ذِكر او .. سوي اسفل بُرد أو را فكر او[19]
إنّ هؤلاء لم يعملوا على عدم توسيع مفهوم المتعة واللذة بحيث يشمل متعة العلم والمعرفة وخدمة أبناء النوع وإقامة العدل والتقوى فحسب[20]، بل وحملوا هذه اللذات المعقولة على التوهّم والخيال أيضًا!

5 . أصالة المنفعة
إنّ مذهب المنفعة في العالم الغربي ليس خافيًا على أحدٍ كي تمسّ الحاجة معه إلى توضيحٍ واستدلالٍ وتوظيف الاحصاءات من أجل إثباته. إنّ هذا المبنى الثقافي يقول: (إنّ الإنسان يبحث عن المنفعة، وعلى هذا الأساس لا ينبغي لأيّ فردٍ أو جماعةٍ أو مجتمعٍ أنْ يُشكّل عقبةً أمام مصلحتي، وحيثما يمكن تصوّر مصلحتي ومنفعتي، يكون لي الحقّ التام في استيفائها، حتى وإنْ أدّى ذلك إلى الإضرار بالآخرين). فهل الأصل كذلك، أم الأصل هو: (لا يحقّ لأيّ شخصٍ أنْ يُلحق بي الضرر؟).

لا شكّ في أنّ الأصل المنطقي والأخلاقي والحقوقي والفلسفي والديني، هو الأصل الثاني؛ بمعنى أنّه ليس من حقّ أحدٍ أنْ يُلحق بي ضررًا. فهل لو كنت أمتلك القدرة، فسوف يمكن لي بل ويجب علي أنْ أجعل كلّ شيءٍ حيثما كان من ممتلكاتي ومختصاتي تحت عنوان المنفعة؟! وهل يمكن لك القول: إنّ كلّ شيءٍ حيثما يكون ويحتوي على منفعةٍ لي، فلي الحقّ القانوني بأنْ أجعله حقًّا خاصًّا بي؟ يمكنكم القول بطبيعة الحال: حيثما يلحقني ضرر، فسوف يكون من حقي أنْ أدفع الضرر عن نفسي.

6. الطريقة الميكافيليّة في الثقافة السياسيّة
إنّ هذه الطريقة تعمل على إسقاط جميع الأصول والقواعد الإنسانّية في قبال أهداف الساسة من الذين لا يمتلكون قطعًا المعلومات اللازمة والكافية حول الشؤون والأبعاد والاحتياجات الحقيقيّة والمجازيّة للناس، عن الأصالة والاستحكام، بنحو يكون وجودها وعدمها من وجهة نظرهم سواء.

لو ادّعى شخصٌ قائلًا: (إنّ حقيقة الإنسانيّة والاعتراف بها رسميًا قد خفت بريقها؛ حيث تمّ إقرار السياسة الميكافيليّة في إدارة شؤون الناس)، يكون ما ادّعاه صحيحًا. وفي هذه الخصوص هناك مسألةٌ يتمّ بيانها ضمن المطلب أدناه (رقم: 7).

7 . انتشار البراغماتيّة دون تفسيرٍ صحيحٍ لها
لو تمّ تفسير هذا المنهج والأسلوب على النحو الآتي: (لا ينبغي في معرفة حقائق عالم الوجود ووضعها في مسار العمل، الاستناد إلى مجرّد المفاهيم التجريديّة والمختلقة فقط، ولا يمكن فهمها، ولا الدخول في ميدان العمل)، يكون هذا تفسيرًا منطقيًا ومتطابقًا مع الواقع. ولكن الذي يتمّ بيانه في الأعمّ الأغلب للأسف الشديد، هو أنّ ملاك صحّة وبطلان القضايا هو العمل الخارجي العيني فقط، في حين كان لا بدّ من القبول بالنشاطات الذهنيّة والنفسيّة والروحيّة ـ التي هي من الحاجات الإنسانيّة الضروريّة ـ بوصفها من الأمور العمليّة قطعًا، من قبيل: الأمل، والنوايا الخيّرة، وفهم الجمال المحسوس والمعقول، والعدالة والاستقامة الروحية، والشعور بالتكليف ما فوق النفعي، والوصول إلى الهدف الأعلى من الحياة، وما إلى ذلك من الأمور الدالّة على العظمة الروحيّة للإنسان، وتُعدّ جزءًا من الأهداف والغايات الكبرى للأديان والحكمة والأخلاق الإنسانيّة السامية.

إنّ الثقافة التي تعمل على تعريف العمل العيني بوصفه ملاكًا للحقيقة، إنّما تغفل عن أكثر عناصر التكامل الأساسيّة، وهو العنصر المتمثّل بالنموّ والسعادة الروحيّة الإنسانيّة.

8. تحديد وتقييد المعارف العلميّة
إنّ تقييد العلم بمجرّد ما يتم التوصّل إليه من طريق الحواس الظاهريّة والمختبرات التي هي من صنع العقول والأيدي البشريّة! أدّى إلى حذف أهمّ عاملٍ في بناء إنسانية الإنسان ـ ونعني به الدين والأخلاق والحكمة والعرفان وسائر الحقائق الأصيلة وذهن ونفس وروح الإنسان ـ من حقل العلم، وتبعًا لذلك «تمّ الإعلان عن إفلاس العلم»[21]، وتعرّض بقاء الناس في القرن الحادي والعشرين للخطر[22].

9. بيان المسائل المنفصلة بوصفها فلسفةً ورؤيةً كونيّةً
ليس هناك من يستطيع الشكّ في هذه الحقيقة، وهي أنّ العالم الغربي منذ مدّةٍ طويلةٍ نسبيًا إلى الآن، لم يستطع تقديم مدرسةٍ فلسفيةٍ ورؤيةٍ كونيةٍ منتظمةٍ إلى الأفكار البشريّة، بل إنّه يحجم حتى عن بيان عدد من المطالب العميقة والزاخرة بالمعاني وإنْ على نحوٍ متفرّق؛ في حين أنّ الإنسان من دون الإدراك والفهم الكلّي والعامّ لأصول التواصل والارتباط الأربعة، وهي: (ارتباط الإنسان بنفسه، وارتباطه بالله، وارتباطه بعالم الوجود، وارتباطه بأبناء جلدته)، لن يمتلك القدرة على التفسير والبيان الاختياري للحياة.

10. الفنون المنحطّة
إنّه لممّا يدعو إلى العجب والحيرة أنْ يقترن ذكر كلمة (الفن)، بكلمة (المنحطّ)، التي تعني الأمر الذي يؤدّي إلى تدمير الأخلاقيات الإنسانيّة السماويّة والنزول بها نحو الحضيض، ومع ذلك يرد التعبير بـ (الفنون المنحطّة)! في حين أنّ الانحطاط الذي يعني نقيض الأخلاق، لا يمكن أنْ يجتمع مع الفن؛ لأنّ كلمة الفن تحمل مفهومًا كماليًا.

إن ما يتمّ الحديث عنه في الغرب حاليًا حول مفهوم الفن ـ إنْ كان يمكن له أنْ يكون من مصاديق الفن بطبيعة الحال ـ إنّما هو الذي يستوجب مجرّد إثارة الإعجاب لدى المخاطبين والمستمعين فقط. بمعنى أنّه كلّما كانت مشاهدة الناظرين إلى عملٍ فنيّ ما، تثير المزيد من إعجابهم وانبهارهم، كان ذلك الفن مطلوبًا ومرغوبًا بنحوٍ أكبر! في حين يمكن عرض أيّ نوعٍ من أنواع الظواهر المنحطّة والمدمّرة للأصول على الناس بأروع الأشكال من دون تفسيرٍ ذلك لهم، ويؤدّي ذلك إلى إعجاب وانبهار أفراد المجتمع اللاواعي واللامدرك بما يثير حيرتهم. ولكن ما هي الحقائق التي تقوم هذه الفنون الظاهريّة بتقديمها وعرضها في مسار الحياة البشريّة الرائدة؟ ومن هم الأشخاص الذين يتمّ بناء شخصياتهم بهذا النوع من الفنون؟ لم تتمكن هذه الفنون الظاهريّة ولا الذين يقدّمون تلك الفنون من تقديم إجاباتٍ عن هذه الأسئلة.
وبشكل عام، فإنّ الانحطاط الثقافي وتوظيف عنصر الثقافة في مسار اللذّات الحيوانيّة والنفعيّة والسلطويّة، سوف يكون وحده عنصرًا في تدمير الثقافات؛ إذ من الواضح بداهة أنّ الانحطاط ووقوع الثقافة في مسار الانفلات الحيواني، لن يبقي للشخصيّة الإنسانيّة من هويّة، فضلًا عن أنْ تكون لها ثقافةٌ أصلًا.

السبب الرئيس لانحطاط حضارة وثقافة الغرب (الفساد الأخلاقي)
سوف نذكر في هذا البحث بعض الكلمات عن روبرت ج. رينجر، الذي يمثّل كتابه دقًا لناقوس الخطر في تعبيره عن صرخات إنسانيّة الإنسان في المجتمعات الغربيّة الغارقة في مستنقع الحياة الصناعيّة والانغماس في غفلة اللذّات المحدودة والسطحيّة الخادعة. هذه الكلمات تتحدث عن سقوط وانهيار الحضارة والثقافات الإنسانيّة الأصيلة:

«ما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الحجم من تغيير ظروف الحياة في العالم الغربي؟ ولماذا فقدنا جميع تلك الصفات والخصائص المحمودة؟ يبدو لي أنّه يجب العثور على جواب هذه الأسئلة قبل كلّ شيءٍ في الشرائط الحاذقة لـ (رعاية أصول الإلجاء التدريجي)، إنّ رعاية أصول الإلجاء التدريجي ـ في الحقيقة والواقع ـ عبارةٌ عن فنٍّ مؤثّر، ولا سيّما حيث يكون الإنسان راسفًا بأغلال التبعيات. ويجدر بنا التدقيق في هذا المطلب قليلًا: لقد أثبتت التجارب أنّ الإنسان لا يستجيب للمتغيّرات الفجائية سريعًا، بل يتخذ موقفًا دفاعيًا في مواجهة هذه المتغيرات ويقاومها بشدّة. ومن ناحيةٍ أخرى أثبتت التجارب أيضًا أنّ هذا الإنسان ذاته لا يستطيع الصمود أمام المتغيّرات التدريجية، ولم تخفَ هذه الحقيقة عن أعين أعداء الحريات الفردية. فقد أدركوا جيدًا أنّ عليهم التريّث والتأني والعمل بصبرٍ وهدوء. وقد استلهموا العبَر من الأحداث التاريخيّة في العلم بنحوٍ جيّد، وأدركوا أنّهم لا يستطيعون تغيير العالم خلال بضعة أيام رأسًا على عقب، ولكنّهم إنْ واصلوا التقدّم بهدوءٍ ومثابرةٍ نحو أهدافهم، بحيث لا يتمكن الناس الذين يعيشون على وجه الأرض من الانتباه إلى زحفهم البطيء دون عناء، عندها سوف يكون بمقدورهم دسّ جميع أفكارهم السامّة والهدّامة كما يحلو لهم. ونتيجة لذلك سوف يخضع الناس شيئًا فشيئًا لأصل (المتغيّرات التدريجية)، ويعدّون ذلك قدَرًا مكتوبًا عليهم.

من الناحية المعنوية هناك جيلٌ يعدّ نوعًا من الحياة عبودية، وهناك جيلٌ آخر يرزح تحت وطأة تأثير أسلوب (لإلجاء التدريجي)، فيعدّ تلك الحياة تحررًا وانعتاقًا؛ لأنّه لا يعرف حياةً أخرى غيرها. وعلى هذا الأساس يجب علينا الإذعان بأنّ انحطاط الحضارة الغربيّة في حدّ ذاته خير دليلٍ على تأثير سياسة الإلجاء التدريجي.
لقد اعتاد الناس على عالمهم المأزوم، وقبلوا بذلك الانهيار والهرج والمرج الاقتصادي الذي أحاط بهم، وهذا دليلٌ واضحٌ وبارزٌ على الانحطاط. [إنّهم] لا ينظرون ولا يشعرون، ومن ثَمّ تبقى أعينهم شابحةً نحو المستقبل؛ بمعنى أنّهم يعيشون على الأماني، ويقولون في أنفسهم: متى سوف يحدث هذا الانحطاط! وإنْ كان قلّ ما يوجد هناك من يعتقد بإمكان حدوث هذا الانحطاط؛ وذلك لأنّ أنواع الانحطاط تستمدّ قوّتها بشكلٍ طبيعيّ من اللحظات والحركات الآنية، وتواصل تقدّمها.

يمكن بيان أفول الغرب وزواله من خلال مؤشّرٍ شديد التأرجح والتقلّب. إنّ آثار الانحطاط في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في العقود الخمسة الأخيرة (ما بين عام 1913 م وعام 1963 م)، تبدو للعيان بشكلٍ أكبر ممّا كان يبدو قبل مئة وسبعة وثلاثين سنة، وكذلك فإنّ هذه الآثار في العقدين الأخيرين كانت أكثر منها وضوحًا بالقياس إلى العقود الخمسة الماضية. ومع ذلك لا يوجد هناك مستمسكٌ يمكن القول على أساسه: إنّ سرعة مسار الانحطاط قد تصاعدت في كلّ عام، أو إنّ احتمال سقوط هذه الحضارة قد تضاعف.
بيد أنّ الثابت والأكيد هو أنّ الواقع الراهن لم يعد قادرًا على المضيّ قدمًا مثل النعامة. كان الإنسان يواجه الصعوبات طوال التاريخ بشكلٍ متواصل، بيد أنّ المشاكل والصعوبات التي نعاني منها حاليًا قد أضحت أكثر بكثيرٍ من الصعوبات التي كان يعاني منها أسلافنا في العصور الماضية.

يمكن لكلّ شخصٍ أمضى في الحدّ الأدنى ثلاثين سنةٍ أنْ يدرك هذه الحقيقة بوضوح، شريطة أنْ يكون خلال هذه المدّة قد نظر إلى الأوضاع والأحوال الراهنة بدقةٍ وبصيرةٍ كاملة. ومع ذلك كلّه يجب القول على سبيل الكناية: إنّ أغلب الناس لا يريدون حتى التفكير بالخطر الذي هم مقبلون عليه. وإنّ منطقهم مثيرٌ للعجب تمامًا. فهم يعتقدون بأنّ الشخص إذا لم يفكّر بهذه الأخطار والأزمات المحيطة به، ويرفع شعار: (أيًّا ما سيحدث، فليحدث)، فسوف يكون كلّ شيءٍ بالنسبة إليه طبيعيًا وعاديًا، ولن يُداهمه أيّ قلقٍ على الإطلاق»[23].

وقد بيّن رينجز ظهور الحقوق العالميّة للإنسان أثناء السقوط الأخلاقي لحضارة الغرب، على النحو الآتي:
«عند السقوط الأخلاقي لحضارة الغرب بالتحديد، ظهرت الدعوة إلى (حقوق الإنسان) بوصفها قدس الأقداس، أو لنقل بعبارة أفضل: (قانون الأغلبيّة). وبعبارةٍ أخرى: (الحقّ)، وأدّى ذلك بالتدريج إلى ظهور تلاحمٍ جماهيريّ قويّ جدًا. أيًّا كانت تسمية هذا التلاحم ـ سواء أكان اسمه الجمهورية أم الجماهير الشعبية، أم المجتمع ـ فهو منفصلٌ عن الواقع! ففي الحكومة الديمقراطيّة، يعمل مفهوم حقوق الإنسان على ضمان توفير الحماية للحدود والمياه والأرض، وهذا الأمر يُعدّ خير ذريعة لاستقطاب الناس. بيد أنّ النقطة الأساسية الموجودة هنا هي أنّ كثيرًا من الناس يأخذون أكثر مفهوم سلبي في هذه (الحقوق) بنظر الاعتبار، وهو الاعتداء والتجاوز الذي تقوم به مجموعةٌ من الناس في حقّ مجموعةٍ أخرى، تحت مسمّى (حقّ الأكثريّة). بمعنى أنّ (الحقّ مع القوّة). ومن الواضح أنّ هذا المفهوم لا ينسجم مع العدل والأخلاق»[24].

وقال روبرت رينجر تحت عنوان (هل فات الأوان جدًّا؟):
«كثيرًا ما يتم طرح هذا السؤال علي: هل بقي هناك متّسعٌ من الوقت لإنقاذ الحضارة الغربية؟ أم لم يعد هناك وقتٌ لذلك؟ .. أرى أنّ هذا السؤال ليس كاملًا. لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الانقلاب الأخلاقي قد بلغ خطّ النهاية؛ وذلك لأنّ هذا الجانب من القرارات الاجتماعيّة التي تقدّس قوّة الفرد والاستبداد الفردي في المجتمع المعتقد بالرأي القائل: (إنّ أهواء ورغبات الإنسان حقٌّ ثابت)! والمجتمع (على هواه)، قد بلغ أقصى درجات تكامله. وعليه فإنّ السؤال الكامل والصحيح، هو: هل يمكن لنا استعادة القيَم الأخلاقيّة لحضارتنا ثانية، ونعود مرّة أخرى إلى النقطة التي شكّلت في يوم ما حجر الزاوية لحضارة الغرب؟

إذا كان بمقدورنا ذلك، إذن لن يكون هناك ما يدعو إلى القلق والاعتقاد بأنّ الوقت قد فات، وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنّنا لن نستطيع إعادة تجربة الحياة السليمة بالنسبة إلى الشعوب الغربيّة ثانية. أرى أنّ الطريق الوحيد الذي يمكن لنا عقد الآمال عليه، هو أنْ نعمل ـ من خلال التمسّك به ـ على اكشاف النقاط الصحيحة والأخلاقيّة في حضارة الغرب ثانية. ومن هنا علينا أنْ نمتلك الشجاعة وأنْ نتحلى بالعقل، وأنْ نتعرّف برؤيةٍ صحيحةٍ وكاملةٍ على أسباب انهيارها، ثم نقوم بعد ذلك بوضع الحلول والعلاجات»[25].

إنّ النقطة الوحيدة التي يتعيّن على رينجر مراعاتها، هي: في العبارات أعلاه لو عمد رينجر إلى استبدال مصطلح (إصلاح الحضارة الغربية) بـ (إصلاح الحضارة الإنسانية)، وقام بالبحث عن سبيل لإنقاذ حضارة الإنسان، فسوف يكون قد عمل على إنقاذ الغرب والشرق معًا من السقوط الأخلاقي؛ وذلك لأنّ إلغاء الإنسان والتركيز على الغرب، لا يمكنه تحقيق شيءٍ بعد هذه العوامل كلّها التي تربط بين هذين القطبين الكبيرين في العالم. ألا يعدّ التركيز على حالة الحضارة الغربيّة ناشئًا من نوع من التوجهات العنصريّة؟
إنّ هذه هي الظاهرة المدمّرة للنفوس الإنسانية، التي تصل في التحليل إلى الأنانية الحاطمة، والتي تمثّل جذرًا لجميع أنواع المآسي في عصرنا، ولا سيّما في العالم الغربي.

لنرى الآن كيف يعمل المنظّر والمفكّر المعروف إريك فروم على بيان نتيجة السقوط الثقافي ولا سيّما في العلوم الإنسانية:
ـ إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقتل أبناء جلدته بايولوجيًا ومن دون سبب.
ـ إنّ علم النفس الحديث ميّت الروح إلى حدٍّ كبير، إذ لا ينظر إلى الإنسان الحيّ بشكلٍ كامل، ويعمل على تقطيعه بسهولة. ويتمّ النظر هنا إلى الإنسان على شكل مجموعةٍ تشتمل على صفاتٍ متعيّنةٍ بوساطة الآلة. في هذه الرؤية يكون الإنسان الحيّ قد زال بالكامل.
ـ يمكن تعريف الإنسان في المجتمع الراهن على النحو الآتي: إنّه عبارةٌ عن أداةٍ لا توجد لها ماكنة حتى الآن. بيد أنّ الإنسان الكامل هنا يتمّ عزله جانبًا، ولا ينظر الإنسان إلى نفسه بوصفه إنسانًا كاملًا، بل يرى نفسه بوصفه سلعةً فعّالةً (بضاعة مستقلة) من دون سبب، إنّه وحيدٌ وبائس؛ ولذلك فإنّه يسعى من أجل الخروج من هذا البؤس، إنّه يبحث عن السرور في الفوضى.
ـ إنّ الإنسان في المجتمع الراهن قد تحوّل إلى صفرٍ أو قطعةٍ من ماكنة، ولا يمكن له أنْ يكون شيئًا آخر غير هذا. ما دام المجتمع الحالي ينظر إلى الربح والإنتاج ـ وليس الإنسان ـ بوصفهما هدفًا عاليًا ونتيجةً لجميع جهوده، فإنّي أرى أنّ المنظومة الاجتماعيّة القائمة تحمل في صلبها بذرة التلاشي؛ وذلك لأنّها تعمل على إنتاج الرغبة نحو التلاشي، وكلّما كانت الرغبة نحو التلاشي أكبر، قلّما يحصل الإنسان على السعادة، وكلّما كان الناس أكثر كسلًا، فإنّهم بذات النسبة قلّما يتعاملون مع الحياة بإيجابيّة[26].

عوامل استقرار وبقاء الثقافات طوال التاريخ
لا شك في أنّ بعض الثقافات أو العناصر الثقافيّة أكثر ثباتًا واستمرارًا من بعضها الآخر. هناك كثيرٌ من النظريّات التي تمّ بيانها في إطار البحث عن جذور وتفسير السرّ في هذا الثبات والاستمرار، وإنّ التحقيق بشأنها مفيدٌ للغاية في حلّ هذه المسألة. فأولًا علينا أنْ نعلم أنّه لمن الخطأ الفاحش أنْ نظنّ أنّ هناك ثقافاتٍ أطول عمرًا وأكثر ثباتًا، وأنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ عناصر تلك الثقافة عبارةٌ عن الحقائق الذاتيّة للناس بشكلٍ عام، في حين يجب عدّهما من العناصر الذاتية للإنسان (كما هو).
إنّ الذي تستوجبه الأصول والقواعد في تحقيق هذه المسألة، هي أنّ المفكّرين وأنصار تلك الثقافات قد قاموا بأمورٍ جادّةٍ من أجل العثور على الأسباب الطبيعية الناشئة عن البيئة الجغرافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والتاريخيّة لتلك الثقافات، وأنْ تعمل بهذه الطريقة ومن خلال التقييم الواقعي لتلك الثقافات على اتخاذ خطواتٍ مؤثّرةٍ في تصفية وتقدّم الأهداف الإنسانيّة من أجل العثور على الثقافات الحيويّة والرائدة.

من ذلك ـ على سبيل المثال ـ ثقافة الاسترقاق التي كانت شائعةً في العصور القديمة، وحظيت بتأييد حتى بعض الفلاسفة الكبار من أمثال أرسطو للأسف الشديد، على الرغم من أنّها قد أحاطت بجميع الشؤون البشريّة بخصائص نظام العبودية، فإنّه كان يتمّ تبرير تعميم هذه الظاهرة بوصفها ثقافةً خاطئةً تمامًا في كثيرٍ من الأمم والشعوب القديمة، في حين أنّ هذه الثقافة كانت تقضي على أحد أهم العناصر الذاتيّة للناس الذي هو الحرية المعقولة (الحريّة المسؤولة) من خلال عنصريّةٍ مقيتة، وكانت تعمل على تشويش الأفكار التكامليّة للبشر في تناقضٍ صريحٍ وغير قابلٍ للحلّ.وأما الإسلام فقد عمل على تعريف ظاهرة الرق بوصفها مفهومًا عارضًا ليس له أيّ صلةٍ بذات الإنسان (كما هو)، وعمل على إزالة وإلغاء تلك الثقافة التي تمّ تقديمها إلى البشريّة.
وعلى هذا الأساس لا يمكن عدُّ مجرّد الاستمرار والنفوذ العميق لظاهرةٍ ما في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للناس دليلًا على واقعية تلك الظاهرة في الذات الإنسانيّة؛ وعلى هذا الأساس يجب لفهم حقيقة الثقافة وفائدتها وثباتها غضّ الطرف عن مجرد طول الفترات الزمنيّة التي استغرقتها تلك الثقافة، والحصول على العامل أو العوامل الأصليّة لتلك الثقافة.

أسباب ثبات واستمرار بعض الثقافات :
السبب الأوّل: العلاقة الإيجابيّة لتلك الثقافة أو بعض أجزائها مع الضرورات أو الكماليات المستمرّة لحياة الناس في المجتمع. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ الثقافة الخاصّة بشأن الكائنات الحيّة التي نراها في أصقاع شبه القارّة الهندية، حيث تستند إلى الضرورات البيئيّة، أو إلى جملةٍ من الأصول الاعتقاديّة حول الكائنات الحيّة التي لا تحظى بالأهميّة لدى الأمم والشعوب الأخرى. وكذلك من قبيل الآداب والتقاليد الخاصّة بمناسبة النوروز لدى الشعوب الإيرانيّة المستندة إلى الوضع الإقليمي لإيران، والتي اتبعت طوال القرون والعصور.

السبب الثاني: هو الزمان؛ بمعنى أنّ عناصر ثقافة شعبٍ ما قد عملت على تثبيت تلك العناصر بناءً على تعاقب الزمن الطويل، وكلّما مضى على تلك العناصر مدّةٌ أطول شكّل ذلك إضافةً إلى مرغوبيتها. ولا يمكن تفسير هذا السبب إلّا من جهة أنّ تعاقب الفترات الزمنيّة الطويلة على عددٍ من العناصر الثقافيّة وغير المتزلزلة لها من حيث الهوية والقيَم في قبال التحوّلات، يعدّ دليلًا على استحكامها وقابليتها للثبات، ولكننا نعلم أنّ هذا الموضوع لا يمكن أنْ يثبت صحّة الأمور الثقافيّة واستحكامها.
يمكن لكم مشاهدة ظاهرة الأنا وحبّ الذات طوال التاريخ البشري بأجمعه، بنحو لو أردنا إثبات الموارد المخالفة لهذه الظاهرة، فإنّنا لن نجد غير الموارد القليلة جدًا من الموارد التي تمكن فيها الناس من صيانة أنفسهم وذواتهم، والعمل على تنظيمها بالمنطق الواقعي، وتوظيفها في المسار الصحيح؛ إذ كما سبق أنْ أشرنا فإنّ الأكثريّة الساحقة من الناس تخطئ في تقييم (النفس)، و(معرفة الذات)، وبدلًا من امتلاك الذات بشكلٍ قانوني (صيانة الذات الطبيعيّة أو التكامليّة)، يصابون بأنانياتٍ وبائيّةٍ ومرَضيّة. نتوصّل من أمثال هذه الموارد إلى نتيجةٍ مفادها أنّ ثبات ظاهرةٍ ما واستمرارها في الشؤون الحياتيّة للإنسان لا يمكن أنْ تشكّل دليلًا على كونها حقيقة، على الرغم من أنّ كلّ شيءٍ يكون أكثر نفعًا للناس، يكون ذلك دليلًا على أصالته، ويكون أكثر ثباتًا من حيث تعاقب الزمن.

السبب الثالث: لقد اكتسب تبلور الثقافة والآداب والتقاليد والعقائد والسنن دورًا أساسيًا في إيجاد نوعٍ من الهوية الخاصّة للناس في المجتمع، وأدّى ذلك إلى تكوّن الأفراد والفئات وتمركزهم في ذلك المجتمع. وفي هذه الحالة يعمل المجتمع المذكور من خلال تلك العناصر الثقافيّة على إيجاد هويةٍ لنفسها، وتدافع عن تلك الهويّة كما لو أنّها تدافع عن وجودها وكينونتها. وبطبيعة الحال بتصرّم القرون والعصور، تزداد العلاقات بين المجتمعات والثقافات، وإنّ هذه العلاقات تستوجب شيوع الدراسات والتحقيقات حول ذات تلك الثقافات وأسبابها، ومن هذا الطريق تعمل فيها أنواع الإلغاء والاختيارات والتعديلات المفيدة والضروريّة أيضًا.
السبب الرابع: إنّ تطابق الثقافات مع الحقائق والواقعيّات قابلٌ للإثبات. وإنّ هذا التطابق كلّما كان أكبر وأوسع، سوف يساعد على ثبات واستمرار عناصر ثقافةٍ ما بشكل أكبر.

إنّ هذه الأسباب ـ إذا ما استثنينا السبب الثاني ـ لم تسند دوام الثقافات واستمرارها إلى تصرّم الزمن، وإنّما السبب الثاني وحده هو الذي عرّف بتعاقب الزمان بوصفه دليلًا على أصالة وثبات عناصر ثقافةٍ ما. لو كان بقاء العناصر الثقافية مستندًا للسبب الأول، يجب التدقيق في أسباب وكيفية الضرورة التي جعلت تلك الأمور موردًا للاعتقاد لدى قومٍ ما. إذا كانت أسباب وكيفية ضرورة تلك الأمور مستندةً إلى الأصول والقوانين النفسية لذلك الشعب، فمن الثابت أنّ تصرّم الزمن لا يمكن له أنْ يبليها ويستهلكها، وإنْ كانت مستندةً إلى الآراء والعقائد الشخصيّة للشخصيّات الكبيرة والمؤثّرة بين الشعب، فإنّ بقاءها أو زوالها سوف يكون تابعًا لأمرين، وهما:

أ ـ كمية وكيفية نفوذ تلك الشخصيات وتأثيرها في نفوس أفراد ذلك الشعب.
ب ـ كمية وكيفية الدعامة المنطقية التي أدّت إلى دوام واستمرار تلك الثقافة.
لو كان سبب داوم تلك الأمور هو تبلورها الثقافي، إلى الحدّ الذي تصبح معه منظومةً أصيلةً، وتكتسب عنوان المدبّر الأصيل لقومية ووطنيّة هؤلاء الناس، ففي هذه الحالة سوف تمدّ الثقافة المذكورة جذورها في الأعماق النفسيّة للناس، ويمكن لها أنْ تكون عاملًا قويًا جدًا لإيجاد الوحدة بين الناس؛ ولهذا السبب مهما كان تصرّم الزمن طويلًا، قلّما يكون له تأثيرٌ في زوال هذه الثقافة وفنائها، إذ إنّها كما تقدّم تحظى بدعامةٍ منطقية.

ورد في الحقوق القديمة في مصر ـ التي تمّ تدوينها قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة ـ أنّ المتهم يجب سؤاله في مستهل المحاكمة: هل سيكون وجدانه راضيًا عن الإجابات التي يقدّمها عن أسئلة القاضي أم لا؟ نلاحظ أنّ هذا السؤال عن التوافق والتطابق بين وجدان المتهم ولسانه، الذي كان شائعًا في ثقافة المحاكمات في مصر آنذاك، حيث يستند إلى حقائق المحاكمات، يمكن له حتى اليوم أنْ يُعدّ حقيقةً جديّة.

انتقال أنواع الثقافات والتأثّر الثقافي وأسبابه
لقد شاع اليوم مصطلح (التأثر الثقافي) على الألسنة وفي الكتابات كثيرًا، ولمّا كانت الظواهر والنشاطات المخالفة للدين والأخلاق الإنسانية العالية تسري في هذا العصر تحت عنوان (الثقافة)، وتنتقل إلى المجتمعات الدينيّة والأخلاقية[27]، نجد هناك نوعًا من الخوف والفزع قد داهم نفوس الشرفاء وأصحاب المناقب.

سوف نبحث فيما يأتي بعض المطالب في التأثّر بالثقافة وأسباب هذا التأثر:
المطلب الأول: هل التأثّر الثقافي أمرٌ خاطئٌ بنحوٍ مطلق، أو هو صحيح بنحوٍ مطلق؟ ما هو المراد من المفهوم والعناصر الثقافيّة التي يتمّ التأثر بها واكتسابها.
من الواضح بداهة أنّ الصورة الأولى من هذه المسألة هي الصحيحة، وأمّا الصورة الأولى والثانية فهما خاطئتان. بمعنى أنّه يجب قبل كلّ شيءٍ بيان ما هو المراد من الثقافة التي يتمّ التأثّر بها وقبولها؟ إذا كان مرادنا منها هو الكيفية أو الأسلوب الضروري أو المناسب لتلك الطائفة من الناشاطات في الحياة المادية والمعنوية للأفراد التي تستند إلى طريقة التعقّل السليم، والمشاعر العليا، والسامية لها في الحياة المعقولة، فلا شك في أنّ هذا النوع من الثقافة في ضوء الاستعداد البشري إلى الكمال مطلوبٌ للمجتمعات قاطبة في جميع العصور والأمصار، بل نشاهد ترحيبًا واسعًا من قبل الناس بهذه الثقافة طوال التاريخ بوضوح.
إنّ المصداق الأبرز لهذه القاعدة النهضة العظمى والمذهلة التي قادها المسلمون في القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة؛ إذ قاموا باتخاذ خطواتٍ جبّارةٍ في إطار مَوران ذاتي من أجل بناء الحضارة والثقافة، وتقبّل جزءٍ من ضرورات وحسنات الحضارات والثقافات الأخرى لسائر الأمم والشعوب. وقاموا من خلال جهودهم المضنية والكبيرة باجتياز سواحل بحر الخزر وصولًا إلى شواطئ البحر الأطلنطي، وأنقذوا الثقافة التكامليّة الأصيلة والعلوم في مجتمعهم من خطر الركود والسقوط. ومن المسلّم به أنّ هؤلاء الفرسان في ميدان الثقافة والحضارة قد عمدوا في هذا المسار الذي سلكوه إلى نبذ كلّ ظاهرةٍ مرذولةٍ ومنافيةٍ لأصول الأخلاق الإنسانية ومناهضة للدين الإلهي باسم الثقافة، ولم يأخذوا من تلك الحضارات والثقافات سوى الحقائق العلميّة والثقافيّة النافعة لصالح الأمور الماديّة والمعنوية في الحياة المعقولة للإنسان.
المطلب الثاني: إنّ المراد من التأثّر بالثقافة الحيويّة والرائدة (التكامليّة)، ممّا يُعدّ ضروريًا ولازمًا، ليس هو القبول بالثقافة المستوردة من الشعوب والأمم الأخرى من دون تحقيقٍ وتمحيص، وإنّما استندوا في ذلك إلى مجرّد المحاكاة والتقليد البحت فقط.

مـر مـرا تقليدشــان بـر بـاد داد
كه دو صد لعنت بر آن تقليد باد[28]

لا يختلف الأمر في قبح التقليد مع إمكان التحقيق، بين حُسن مورد التقليد وقبحه؛ وذلك لأنّ المقلِّد يكون غريبًا عن مورد التقليد في كلتا الحالتين. غاية ما هنالك أنّ مورد التقليد إذا كان حقيقةً صالحة، فإنّ هذا التقليد سيترك أثره الطبيعي حتى وإنْ لم يكن المقلّد عالمًا به. والخلاصة هي أنّ هذا المعنى قد تمّ بيانه في ثقافتنا الأدبيّة بمنتهى الوضوح؛ إذ يقول الشاعر:

خــداخــوان تا خـدادان فـرق دارد
كه حيوان تا به إنسان فرق دارد
[بدين سان از خداخوان تا خدا ياب
ز دانش تا به عرفان فرق دارد]
مـه تابان، خور تابان يكـي نيسـت
كه تـابـان تا به تابان فرق دارد
محــقق را مقلـد كي تـوان گفـت
كه دانـا تا به نادان فرق دارد[29]

لو تمّ في مجتمعاتنا رعاية أصل عدم جواز التقليد في الموضوعات والمسائل التي يمكن التحقيق فيها على نحوٍ جادّ، لما شهدنا كلّ هذا الاضطراب والتغيير في النظريّات والآراء العلميّة في العلوم الإنسانيّة، وفي المعارف الفلسفيّة، وسائر العناصر الثقافيّة لدى عموم الناس.
بيان: في المراحل الأخيرة بدأت بعض الفرضيّات والنظريّات التي تلبس رداءً علميًا في مسائل العلوم الإنسانيّة تتسلل من المجتمعات الغربيّة وتدخل إلى المجتمعات الإسلاميّة؛ حيث يتلقّف الناس تلك النظريات في هذه المجتمعات بوصفها مسائل علميّةً تكشف النقاب عن الحقائق، بنحو التقليد الأعمى ومن دون تحقيق! والحال، لو قال لهم شخص: إنّ هذه المسائل تفتقر إلى العمق العلمي، وما هي إلّا فرضيّات وحدسيّات تقوم على أساس الذوقيّات والأمزجة أو الأسباب الأخرى، وقد عُدّت من المسائل العلميّة دون تمحيص؛ فإنّهم سوف يسفّهون كلامه، ويقولون له: (أنت شخصٌ رجعيّ تنصب العداء للعلم، وقد مضى ذلك الزمن الذي كان فيه أمثالك يخدّرون الناس بالأوهام والتعميمات الذهنية، وأمّا اليوم فإنّنا نتعامل مع العلم، وإنّ العلم هو الذي سيضمن لنا التقدّم والتطوّر!).

إنّ هؤلاء الساذجين بل والمغرضين أحيانًا، يعملون من دون تحقيقٍ ودراسةٍ عميقة، ومن خلال استغلالهم للأصول العامة التي لا يمكن لأيّ إنسانٍ أنْ ينكرها، من قبيل قولهم: (إنّ هذه المسائل علميّة، ولا يجوز الاعتراض على المسائل العلميّة)، يعملون من خلال ذلك على إكراه الناس والمجتمع على القول بتلك المسائل عن تقليدٍ أعمى، ولمّا كان تقليدهم لتلك المسائل على نحو عشوائي واعتباطي، فإنّهم يبقون على تمسّكهم بها حتى بعد إثبات بطلانها في البلدان الغربية نفسها وإقرار العلماء الغربيين بأنّها كانت أخطاءً فاحشة، وبذلك يكون شأن هؤلاء المقلّدين المنبهرين بالغرب ـ بل المغرضين منهم أحيانًا ـ كالذي يرفع المظلّة إذا أمطرت في الغرب، ويظلّ متمسّكًا برفع مظلته فوق رأسه حتى بعد انقشاع الغيوم، وانقطاع المطر في الغرب.

من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّه في الماضي القريب:
1 ـ عندما شاعت نظريّة أصالة الغريزة الجنسيّة وعلوّها على جميع الغرائز في الغرب، بدأت طائفة من مشرق الأرض تقلّد الغرب في تبني هذه النظرية، وأخذوا يعملون على نشرها والترويج لها بوصفها مسألةً علمية. ولم تمضِ مدّةٌ طويلةٌ حتى قام بعض العلماء والمنظّرين في علم النفس ـ من أمثال إدلر ويونغ ـ بإسقاط هذه النظرية عن عرش الاعتبار العلمي. بل إنّ المحقّق والعالم المحترم فضيلة الدكتور ميرسباسي ـ وهو من العلماء القريبين من سيغموند فرويد ـ قد أخبرني أنّهم كانوا يقولون: (إنّ نظريّة سيغموند فرويد أقرب إلى السرديّة المشهديّة منها إلى النظريّة العلميّة). وبعد ذلك قام بعض المنظّرين في العلوم النفسيّة إلى بيان نظريّة (أصالة صيانة الذات)، و(دفع النقص والضعف عن الشخصيّة والدفاع عنها)، والتعريف عنها بوصفها من أكثر الغرائز تجذّرًا ونشاطًا، وأوردوا انتقاداتٍ جادّةً على نظرية فرويد. ومع ذلك لا يزال هناك في بعض مراكزنا العلميّة من يعدّ هذه النظريّة (المرفوضة) بوصفها مسألةً علميةًّ! إنّ السبب في هذا الانحراف الفكري يعود إلى التبنّي التقليدي للثقافة العلميّة الذي يقتل في نفس الإنسان روح التطلّع إلى البحث عن الحقيقة.

2 ـ يعلم الجميع أنّ نظريّة النشوء والارتقاء لدى الحيوانات من المراحل الدنيا إلى المراحل العليا، وما يُعرف بـ (الداروينية) قد شاعت في القرن التاسع عشر للميلاد على يد لامارك وتشارلز دارون وأضرابهما بوصفها نظريّةً علمية، وإنّ التقييم الذي كان يصدر عن بعضهم بشأن كلماتهم هو أنّها لا تتجاوز في قيمتها قيمة النظريّة الجديدة فحسب. ومع ذلك فقد انتشرت هذه الفرضية في الفضاء العلمي والثقافي لمجتمعنا بوصفها مسألةً علميّةً قطعيّة، ولكن مع مرور الزمن واتّساع نطاق التحقيقات اتضح أنّ هذه النظريّة ـ كسائر الفرضيات الأخرى ـ لم تبلغ مرحلة الإثبات العلمي، وكلما تقدّم الزمن تضاعف الغموض والإبهام حولها.

وفيما يلي ندقّق في العبارات الآتية المأثورة عن بيير روسو، وهو من مشاهير المحقّقين في تاريخ العلم؛ إذ يقول تحت عنوان (ظهور الصناعة وظهور الإنسان): «قد لا تكون هناك فائدةٌ في تكرار هذا الموضوع، وهو أنّ هذه الحادثة العظيمة التي شهدتها الكرة الأرضيّة أمرٌ قطعيّ ولا غبار عليه، ولكنّها مع ذلك تبقى مستورةً خلف جدارٍ صلبٍ من الأسرار، وربما لن نصل إلى معرفة حقيقة ذلك إلى الأبد. وكلّ ما نعرفه هو أنّ أكثر علماء الآثار يرجعون تاريخ البشرية في الحدّ الأدنى إلى ما قبل مليون سنة، بمعنى أنّهم يرجعون تاريخ سلفنا الأول إلى العصر الرابع من معرفة الأرض.

إنّ أحدث الاكتشافات في علم الآثار البشرية، بدلًا من أنْ تعمل على إيضاح تاريخ هذا الموضوع، تؤكّد لنا أنّ مبادئ الإنسان شديدة التعقيد والغموض، وما يزال هذا الغموض يزداد تعقيدًا مع تقدّم الزمن. إنّ الاكتشافات الجديدة بدلًا من العمل على تصوير تقدّمٍ بسيطٍ وفي جهةٍ سابقة، تعمل على توضيح فروعٍ متعدّدةٍ ومتباعدةٍ ظهرت إلى الوجود قبل مدةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ، وواصلت حياتها ثم بادت، وتبقى منها سلالةٌ واحدةٌ أدّت في بداية الأمر إلى ظهور الهومو سابنز أو (الإنسان العاقل)، ثم تطوّر ليصبح ما عليه الإنسان المعاصر. لقد سبق لعلماء الآثار والأنثروبولوجيون أنْ قالوا بأنّ الإنسان المعاصر ينحدر من شجرة الإنسان القرد أو (إنسان جاوة)، حيث تكامل تدريجيًا ليتحوّل في بداية الأمر إلى إنسان (النياندرتال)، ثم تحوّل بعد ذلك إلى (الإنسان الكرومانيوني). والآن بعد كلّ هذه الاكتشافات الواسعة والكثيرة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، قد اتضح أنّ هذه الآثار والمتحجّرات لا تنتمي إلى سلالةٍ واحدةٍ ومحدّدة، بل هي تنتمي في الحدّ الأدنى إلى أربع سلالاتٍ مختلفاتٍ، وأنّ أسلافنا ـ أو أسلاف (الإنسان العاقل) الكروماني في الحقيقة والواقع ـ ليس هو إنسان (النياندرتال)، ولا (إنسان هايدلبيرغ)، ولا نحن من أعقاب (إنسان جاوة)، ولا نحن من أعقاب ذلك (الإنسان الصيني)، أو (إنسان بكين). وعليه فإنّ أجدادنا الحقيقيين إنّما هم من سلالة ما قبل (الإنسان العاقل)، حيث لم يتم اكتشاف بقاياه إلى الآن[30].

المطلب الثالث: إنّ لانتقال الثقافات من مجتمعاتٍ إلى مجتمعاتٍ أخرى أنواعًا كثيرةً ومتنوّعة، ومن بينها:
انتقال الثقافات
إنّ انتقال الثقافة المفيدة والبنّاءة، هي الحقائق المرتبطة بالضرورات والقيَم والجماليّات وسائر الأساليب المناسبة في (الحياة المعقولة) للناس. إنّ هذا النوع من العناصر الثقافيّة، من قبيل: العلوم والصناعات والفنون القيَميّة الرائدة في مسار (الحياة المعقولة)، والأخلاقيّات الإنسانيّة السامية، وعناصر وخصائص الدين الإلهي في ضوء الفطرة الطاهرة وغير ذلك، ليست مناسبةً فحسب، بل يتعيّن على الجميع أنْ يبذلوا كلّ ما بوسعهم من أجل نقلها وتصديرها إلى الشعوب والأمم الأخرى، بل إنّ ذلك يُعدّ من وجهة نظر الإسلام تكليفًا دينيًّا على كلّ فردٍ وجماعةٍ تستطيع القيام بذلك.

إنّ النصوص الواردة في المصادر الإسلامية بشأن ضرورة هذا التعاون والتكافل كثيرة، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[31].

ليس هناك عمل من أعمال الصلاح والتقوى في هذه الدنيا ما هو أفضل من أنْ يقوم الإنسان بإشاعة وتعميم ثقافة الحياة المعقولة، وبذلك يتمّ العمل على إنقاذ الناس من السقوط في مستنقع الجهل والاضطراب والفقر، وأنواع الاحتياجات الأخرى.

ومن بين الروايات الكثيرة جدًا، الحديث المعروف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث قال في هذا الشأن: «الخَلْق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لهم»[32]. ولا يخفى أنّه ليس هناك ما هو أنفع للناس وأكثر ضرورة من الثقافات التي تمنحهم الحياة المعقولة.
تُجمع تواريخ الحضارات والثقافات كافة ـ سواء تلك التي كتبت في الشرق أم تلك التي كتبت في الغرب ـ على أنّ المجتمعات الإسلامية في القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة، حيث خفّت يد الاستبداد والحكومات الطاغوتية عن كاهلهم وحصلوا على شيءٍ من الأمن والحرية إلى حدٍّ ما في تلك المرحلة من التاريخ، تقبّلوا العناصر الثقافيّة المفيدة عند الشعوب والأمم الأخرى في تلك العصور، وإضافوها إلى حضارتهم وثقافتهم، كما اتّخذوا خطواتٍ واسعةً ونافعةً في نقل العناصر المفيدة من ثقافتهم وحضارتهم وما أخذوه من الآخرين وعملوا على تهذيبه وتصفيته، وعلى حدّ قول بعض المنظّرين في حقل تاريخ الثقافات والحضارات: قد أنقذوا العلم والثقافة في العصور الوسطى من خطر السقوط الحتمي.

وفيما يلي ننقل على سبيل المثال بعض المطالب عن المفكّرين الشرقيين والغربيين:
«لقد تمكّن العرب [المسلمون] من الاستيلاء على الشام في القرن السابع، ثم انتقلوا إلى مصر، وبذلك فقد ورثوا نفائس الكنوز من العلوم والمعارف اليونانية. إنّ هذا الأمر يحظى بأهميّةٍ بالغةٍ في تاريخ العلم، ولربما لو لم يتمكن المسلمون من الحصول على هذه السلطة والاقتدار، لتعرّض سائر العالم المتحضر لاجتياح القبائل الهمجيّة والمتوحّشة. في مرحلة الإمبراطورية البيزنطية الممتدّة لألف عام، كان سراج العلم والمعرفة خامدًا، وكان ضجيج المتعطشين إلى السلطة قد قضى على جميع المدارس وأصحاب العلم والبحث بالمرّة. خلال هذه الفترة الطويلة من الإمبراطورية البيزنطية لم يقم سوى كالينيكوس برفع قبس العلم والحكمة. كانت أوربا الغربية غارقةً في ظلام الجهل والفوضى، وكانت البشرية تتخبّط في مستنقعٍ كبيرٍ من الركود والهجوع منطويةً على نفسها، سادرةً في سبات عميق. وفي هذه الفترة من السبات المطبق على العالم كان المسلمون وحدهم هم الذين حافظوا على وهج العلم والمعرفة، وحرسوا ثمار العلم والحكمة القديمة من خطر الفناء. لم يكن هؤلاء المسلمون قد حالوا دون اندثار العلم البشري من خلال ترجمة الكتب العلميّة والفلسفيّة اليونانيّة وغيرها فقط، بل وقاموا كذلك بتقديم الكثير من التحقيقات العلمية، وألفوا الكثير من الأعمال القيّمة، وزادوا من ثراء التراث العلمي أيضًا. وكان من بين الحقول التخصصية التي حظيت باهتمام المسلمين علم الكيمياء، حيث قاموا بإحيائه وتطويره»[33].

وقال فيليب حتّي: «في العصور الوسطى لم تقمْ أمّةٌ بخدمة البشريّة في رقيّها وتقدّمها كما صنع المسلمون»[34].
وقال جورج سارتن: «ربما كان أهمّ خدمةٍ علميّةٍ وأكثرها خفاءً في الوقت نفسه في العصور الوسطى، عبارة عن إيجاد الفكر التجريبي الذي بدأ بالظهور. إنّ ازدهار هذا الفكر حتى أواخر القرن الثاني عشر [للميلاد] كان مدينًا لجهود المسلمين ... إنّ الدعم والعون الذي قدّمته الحضارة الإسلامية للعلم، لا يمكن بيانه في هذا الكتاب ولو على نحو الاختصار؛ فإنّ هذا الدعم لم يقتصر على خصوص ترجمة النصوص العلميّة من اللغة الإغريقية فقط، بل كان هذا الدعم أكبر من ذلك بكثير. لم يكن العلماء المسلمون مجرّد وسطاء في نقل العلم القديم فقط، بل قاموا ببعض الإبداعات أيضًا ... إنّ بناء حضارةٍ علميةٍ جديدةٍ وعالميّةٍ وراقيةٍ جدًا في عرض مدّةٍ زمنيةٍ لا تزيد على القرنين هو أمرٌ قد يمكن الحديث عنه، ولكن لا يمكن الوفاء بحقه كما ينبغي قطعًا»[35].

كما اعترفت الكاتبة الألمانية زيجريد هونكه في كتابها: شمس الله تشرق على الغرب (ثقافة الإسلام في أوروبا) بهذه الحقيقة، حيث قالت: «إنّ العرب (المسلمين) عندما أخذوا ما أخذوا عن اليونانيين أخضعوه لأبحاثهم التجريبيّة، وتوسّعوا فيما أخذوا عن اليونانيين، نعم إنّ العرب هم مخترعو العلوم التطبيقية والوسائل التجريبيّة بكلّ ما تدلّ عليه هذه العبارة. والعرب هم المخترعون الحقيقيون للأبحاث التجريبية. إنّ العرب لم ينقذوا الثروة العقليّة اليونانيّة فقط، ولولاهم لضاعت وقبرت، بل العرب هم الذين نظّموها فبوّبوها ورتّبوها، ومن ثم قدّموها لأوروبا في ثوبٍ علميّ قشيب. العرب هم مؤسسو الكيمياء التجريبيّة، وكذلك الطبيعة العمليّة، والجبر، والحساب بمعناه الحديث، وحساب المثلثات الكروي، وعلم طبقات الأرض، والاجتماع وغير ذلك من الاختراعات الكثيرة الأخرى في مختلف العلوم والمعرفة، وغالبًا ما سطا عليهم اللصوص ونسبوها إلى أنفسهم. فالعرب هم الذين قدّموا للعالم أغنى وأثمن هدية»[36].

وقد ذهب المحقّق الفرنسي جوستاف لوبون في هذا الشأن إلى الاعتقاد، قائلًا: «لم يظهر في أوروبا، قبل القرن الخامس عشر من الميلاد، عالمٌ لم يقتصر على استنساخ كتب العرب (المسلمين)، وعلى كتب العرب وحدها عوَّل روجر بيكون، وليونارد البيزي، وأرنود الفيلنوفي، وريمون لولي، وسان توما، وألبرت الكبير، والأذفونش العاشر القشتالي ... إلخ، كانوا بأجمعهم إمّا تلاميذًا للعرب (المسلمين)، وإمّا ناقلين لأقوالهم. قال مسيو رينان: (إنّ ألبرت الكبير مدينٌ لابن سينا في كلّ شيء، وإنّ سان توما مدينٌ في جميع فلسفته لابن رشد). وظلّت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلميّة، مصدرًا وحيدًا، تقريبًا للتدريس في جامعات أوروبا خمسة قرونٍ أو ستة قرون، ويمكننا أنْ نقول: إنّ تأثير العرب في بعض العلوم، كعلم الطب مثلًا، دام إلى أيامنا، فقد شُرحت كتب ابن سينا في مونبليه في أواخر القرن الماضي»[37].

كما قال برتراند راسل: «كان العرب أميل إلى التجريب من الإغريق، وبخاصّة في الكيمياء، فقد كانوا يأملون أنْ يحيلوا المعادن الرخيصة إلى ذهب، وأنْ يكتشفوا حجر الفلاسفة، وأنْ يركّبوا إكسير الحياة. وكان هذا من أسباب إقبالهم على البحوث الكيميائيّة. وقد حمل العرب تقاليد المدنيّة طوال عصور الظلام، وإليهم مرجع كثيرٍ من الفضل في أنّ بعض المفكّرين من أمثال روجر بيكون قد حصلوا كلّ المعارف العلمية التي تهيّأت للشطر الأخير من العصور الوسطى»[38].

انتقال العناصر المفيدة في الثقافة لغرض الانتفاع الاقتصادي والسياسي وبسط السيطرة وغيرها، بمعنى أنّ غاية وهدف المجتمع الذي يحتوي على عناصر ثقافيّةٍ نافعةٍ، ويسعى إلى تصديرها إلى المجتمعات الأخرى، هو الحصول على المنافع الاقتصاديّة والسياسيّة أو نوع من الهيمنة وبسط السلطة، وليس العمل بالمُثل الإنسانيّة العليا وتعميم الرقيّ وإشاعة الثقافة النافعة. وفي مثل هذه الحالة يتعيّن على الشعوب والأمم التي تستورد الثقافة أنْ تفتح أعينها جيدًا، وأنْ تشحذ عقلها كي لا تنخدع في هذه المعاملة والصفقة التي تروم إبرامها، فلا يكون نصيبها منها سوى حفنةٍ من الظواهر المجتثّة والمستأصلة باسم الثقافة، فتكون بعد مدّةٍ يسيرة ٍمن الزمن سببًا في ندمهم وحزنهم على ما جنت أيديهم. وفي ذلك يقول الشاعر الفارسي النظامي الگنجوي:

بگفت: آن جا به صنعت در چه كوشند بگفت: أنـدُه خرند وجاـن فروشند[39]

انتقال الثقافة بدافع إشاعة وترويج ما يعدّه المجتمع أو القائمون على إدارته طليعة ما يُعرّفون به أنفسهم إلى المجتمعات الأخرى.
إنّ خطر هذا النوع من الدوافع المحتقرة، وإنْ لم يكن محسوسًا في بادئ الأمر، ولكن حيث يحتوي على جذورٍ قبيحةٍ من الأنا، فقد يتفرّع إلى أغصان وأوراق وثمار فجّة وضارّة. وعلاوة على ذلك قد يتعرّض الشعب المستورِد إلى الإذلال من قبل الشعب المصدّر، ويطالبه يومًا بدفع الثمن، أو يجعل من ثقافته وسيلة لإثبات تفوّقه العرقي على سائر الأعراق الأخرى، ويقول: «أجل، إنّ نسيج عقلنا يختلف عن عقولكم إذ تستفيدون من ثقافتنا، وهذا دليلٌ على أنّنا أكثر تكاملًا منكم، وكما تعلمون فإنّه في ضوء قانون التكامل يمكن لتلك الطبقة أو الجماعة أو النوع المتكامل أنْ يجعل من نفسه غايةً تُقصد، ومن الآخرين وسيلةً تُستثمر!».

نقل عناصر الفساد والإضرار بأجساد وأرواح الناس باسم الثقافة، ويمكن القول إنّ هذا النوع من أكثر النشاطات وقاحةً وصلفًا يمكن لبعض الأشخاص أنْ يسمحوا لأنفسهم بفعله تجاه أبناء جلدتهم؛ وذلك لأنّ (الثقافة المعقولة) من أهمّ أركان الحياة المعقولة، ومن هنا يمكن التعريف بالظواهر المخالفة للثقافة بوصفها من أهم أسباب الموت الروحي للبشر؛ توضيح ذلك:

أ. العمل على إيجاد وعرض وسائل إثارة الشهوات الحيوانيّة، وإشباع الغرائز غير المشروعة لدى الناس، وإنْ كان في ظاهره من أجمل التجلّيات المحسوسة والمستندة إلى الأفكار والجهود العلميّة، ولكنه في الواقع يُعدّ نوعًا من إفساد النفوس الإنسانيّة.
ب. إنّ خلق وإبداع القصص والأساطير والرسوم وسائر التجليات الأخرى التي تبدو في ظاهرها فنيةً من أجل إثبات خواء حياة الأشخاص، يساوي القضاء على أرواح الناس، مهما كانت تحتوي على أعلى درجات الإبداع والإتقان.
ج. إنّ إيجاد ونشر أيّ نوعٍ من أنواع الآثار الفنية التي تؤدّي إلى الحطّ من شخصية الإنسان وإذلالها، مهما كانت تلك الآثار في غاية الاتقان والإبداع، يعدّ نوعًا من القتل المحرّم للنفس.
د. إنّ السعي من أجل الترويج لغياب التفكير بالنسبة إلى المسائل الاجتماعيّة، وعدم الاهتمام بأوجاع الناس وبؤس الفقراء والمساكين، من خلال صور [وأشكال] الثقافة الأدبيّة، يُعدّ حربًا معلنةً على أرواح الناس، مهما بالغوا في إظهار هذه العبثيّة من خلال أفضل التجلّيات الثقافيّة.
هـ. إنّ كلّ نوعٍ من أنواع المساعي والجهود من أجل القضاء على الحريّات المسؤولة لدى الأشخاص، والعمل على سلب كراماتهم وحيثياتهم وحياتهم المعقولة، بأيّ شكلٍ من أشكال النشاط الذي يبدو في ظاهره ثقافيًا، سوف يؤدّي إلى القضاء على أرواح الناس.
و. إنّ كلّ جهدٍ ونشاطٍ يبدو في ظاهره ثقافيًّا من أجل دفع الناس نحو الغفلة عن المبدأ والمعاد والخلود، يساوي السعي والنشاط من أجل قتل الروح الرائدة في نفوس الناس.
ومن هنا ندرك أنّ حياة الإنسان كانت مسرحًا لأفضع أنواع الظلم والحروب والقتل الذريع، وعلى حدّ قول الأديب اللبناني جبران خليل جبران: إنّ قتلة أرواح الناس لا يعيشون في سكرتهم وبطرهم بمنتهى الغفلة وانعدام الإحساس فحسب، بل ولا يتمّ عدّهم من القتلة؛ لسبب بسيط وهو أنّ ضحاياهم من القتلى يتحرّكون ويتنفسون مثل الأحياء؛ ولذلك فإنّهم لا يمتلكون أدلةً قانونيةً تدينهم بجرائم القتل:

العدل في الأرض يُبكي الجنّ لو سمعوابه
ويستـضحـك الأمــوات لــو نظـروا
فالسجن والموت للجانين إنْ صــــغروا
والمجــد والفــخر والإثراء إنْ كبروا
فســارق الزهــر مــذمــومٌ ومحــتقرُ
وسارق الحقل يُدعى البـاسل الخـطرُ
وقـاتل الـجسم مــقتـــول بفـعلتـــه
وقاتل الــروح لا تــدري به الــبشرُ[40]

إمكان انتقال أنواع العناصر الثقافيّة من مجتمعٍ إلى المجتمعات الأخرى
1- إنّ الله سبحانه وتعالى يضع بحكمته البالغة حقائق الوجود تحت اختيار المكافحين في البحث عنها، وبمقتضى رحمته العظمى ـ على ما ورد في المصادر الإسلامية الأصيلة ـ لا يترك عملًا وجهدًا هادفًا وإيجابيًا من دون ثمرةٍ أو نتيجة. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى التلازم بين النتيجة والعمل في عددٍ من الآيات القرآنيّة، كما في قوله تعالى:

ـ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾[41].
ـ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[42].

ولهذا فإنّه سبحانه وتعالى قد أعدّ الجميع للوصول إلى الحقائق، وجعل السبيل الرئيس إلى ذلك في السعي والعمل، وفي ضوء هذا الأصل الإلهي / الإنساني، فإنّ كلّ شخصٍ وكل أمّةٍ سوف تصل إلى النتائج وتحصد الثمار بمقدار ما تبذله من أجل الوصول إلى فهم الحقائق. إنّ هذا الأصل الإلهي / الإنساني، يضع العناصر الثقافيّة النافعة تحت تصرّف الشعوب والأمم، كي يتمكّن الجميع من توظيفها والاستفادة منها، كما روي في الحديث المعروف عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «اطلبوا العلم ولو بالصين».
وقد شرع المسلمون من خلال الاعتقاد بهذا الأصل منذ بداية ظهور الإسلام بسعي جادٍّ من أجل الوصول إلى العناصر الثقافيّة عند سائر الأمم والشعوب الأخرى، ولم يكتفوا في القرن الثالث والرابع للهجرة بمجرّد الاطلاع على الحقائق الكثيرة من الثقافات العلميّة والأفكار الشاملة للآخرين فحسب، بل عملوا على هضمها وإثرائها، وأضافوا لها كثيرًا من الاكتشافات المهمّة في حقل العلوم والفلسفات، وبلغوا بهذين البُعدين (الثقافة العلمية والرؤية الكونية) إلى أعلى المراتب والدرجات. وبطبيعة الحال فإنّ هذا المطلب الذي تمّ بيانه إنّما هو في حقل تكون فيه الثقافة بالمعنى العام لها، شاملًا العلوم أيضًا.

بالنظر إلى هذه المطالب، يمكن القول: إنّ الإسلام لم يمنع من الاستفادة من العناصر الثقافيّة البنّاءة أبدًا ـ ومن أبرزها العلم بوصفه وسيلةً للوصول إلى الحقائق ـ بل أوصى بذلك ونصح به بشكلٍ مؤكّد؛ لذا يمكن القول على نحو جازم: إنّ الإسلام يتقبل جميع العناصر الثقافيّة المؤثرة في اكتشاف الحقائق أو توظيفها والاستفادة منها.

إنّ من بين المسائل الضرورية جدًا ـ والتي يجب أنْ تحظى باهتمام علماء الأنثروبولوجيا، ويمكن القول إنّها تحتوي على بُعدٍ حيوي ومصيري في الحقل الأنثروبولوجي ـ هو الفصل بين المسألة العلميّة الحقيقية ـ التي تمّ إثباتها بالأدلة القطعية ـ وبين المسائل التي ما تزال قابعةً في مرحلة الافتراض والتنظير ولم تصل بعد إلى مرحلة الإثبات أو الإبطال؛ بمعنى: تلك المسائل التي تمّ طرحها وبيانها من أجل إيضاح ظاهرةٍ، أو البحث عن عللها وأسبابها، دون إثباتها أو نفيها بضرسٍ قاطع. إنّ البحث والمناقشة حول هذه الطائفة من المسائل في حقل الأنثروبولوجيا على أساس الافتراض والتنظير أمرٌ مناسب، وإنّ انتقال هذا النوع من المسائل الثقافيّة من أجل نشر العلوم الإنسانية وإدخالها إلى المجتمع الذي ينشد الرشد والبلوغ والكمال، مفيدٌ جدًا.

2- إنّ الحجم الكبير للتفسير والتبرير في المفاهيم والمسائل الإنسانيّة الموجودة في بعض المجتمعات من قبيلالمجتمعات الغربيّة المعاصرة، ناشئٌ من المعارف والمعلومات حول ماهية الإنسان. إنّ هذه المعارف قد اكتسبت مقبوليةً بحيث صار بمقدورها ـ من وجهة نظر بعض الأشخاص ـ تفسير الإنسان، ونتيجةً لذلك تمّ تفسير بعض المفاهيم والمسائل على أساسها. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ هذا النوع من المعرفة حول ماهيّة الإنسان، حيث تكون الرغبة الشديدة في الحصول على اللذّة القصوى متأصّلة في الطبيعة الإنسانية، ولا سيّما بعد تأييدها من قبل سيغموند فرويد، أدّت هذه المسألة بظاهرها العلمي إلى انتشار وشيوع تفسير هذه المفاهيم والمسائل الإنسانيّة بما يتناسب مع طبيعة نزوع الإنسان نحو عبادة اللذّة في ثقافة الغرب، بحيث أصبحت تشكّل جميع أبعاد حياة الإنسان باستثناء القلّة القليلة من الراشدين الباحثين عن الحقيقة بنحوٍ صادق، وهذا أمرٌ يدعو إلى الحزن والأسى.

وفي هذه الموارد يكون من الواجب المفروض حتمًا على المجتمعات النزّاعة إلى الرشد والكمال أنْ تعمل على البحث عن تفسير هذه المفاهيم والمسائل الإنسانيّة بدقةٍ كاملة، وأنْ تقوم بالتحقيق والتنقيب الجادّ من أجل الوقوف على حقيقة ما إذا كان الإنسان بطبيعته عابدًا للذّة والمتعة؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل تكمن اللذّة الشخصيّة في ملذّات الحياة الطبيعية فقط؟ ألا تعدّ اللذّات العقلانيّة والروحيّة من جملة الملذّات التي يبحث الإنسان عنها؟ ألا يمكن افتراض مجتمع يقيم الأفراد فيه لذّاتهم على آلام ومعاناة الآخرين ومراراتهم؟ أم الحقيقة ليست كذلك، وإنّما اقتصر هؤلاء الأشخاص على أخذ بُعدٍ واحدٍ من الأبعاد الإنسانيّة ـ التي ربما أمكن القول بأنّها غير موجودةٍ حتى في طبيعته أيضًا ـ بنظر الاعتبار، وتم العمل على تضخيمها وتقويتها من خلال الألاعيب والشرائط الذهنيّة ومساعدة العوامل البيئيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، بنحوٍ يتمّ عدّها لدى البسطاء عنصرًا أصيلًا في طبيعة الإنسان! إنّ هذا التيار الاعتباطي أدّى إلى عدم التمكّن من فهم الأسس الثقافيّة لحضارة الغرب في هذا العصر، دون أخذ أصل عنصر اللذّة بنظر الاعتبار.
3. إنّ بعض العناصر الثقافيّة معلولةٌ للخصائص الناشئة عن العِرق والبيئة الخاصة للشعوب والأمم، ولا تحظى بالمباني الإنسانيّة والعالميّة الأصيّلة، من قبيل الأخلاق الطوطميّة والتقاليد القبليّة، والتفسيرات الخاصّة بالشؤون الفرعية من الحياة وما إلى ذلك. بالنظر إلى تعريف الثقافة من وجهة نظر الإسلام (الثقافة الخلاقة والرائدة)، فلا شك في أنّ الإسلام لا يستطيع الاستفادة من العناصر والخصائص الثقافيّة المذكورة بالنسبة إلى الإنثروبولوجيا، بل ولا يستطيع الاهتمام بها بوصفها من الظواهر الثقافيّة المطلوبة أيضًا.

4. هناك بعض العناصر الثقافيّة الأخرى الناشئة عن تطبيق الأهداف والغايات الإنسانية المعقولة على تلك العناصر. عندما ننظر في الثقافة الدينيّة لبعض الشعوب والأمم، نجد أنّ عناصر تلك الثقافات من وجهة نظر الآخرين لا تعدّ شيئًا، بل إنها لا تبدو معقولة، ولكن من خلال التجزئة والتحليل المنطقي حول تلك العناصر سوف نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الدافع والهدف الأساسي من تلك العناصر، غايةٌ معقولةٌ وعاليةٌ جدًا، وقد هبطت بطريقة الأفكار المحيطة وألاعيب الشروط والظروف الذهنيّة للرؤية المذكورة إلى حدود الظاهرة المبتذلة وغير المعقولة. في الأسئلة المتنوّعة المتوجّهة نحو المقام الإلهي الشامخ، نواجه هذه المسألة. وإنّ بعض آيات القرآنيّة تشير إلى هذا المطلب؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[43].

إنّ من بين أهمّ الأهداف والغايات الإنسانية العامّة، التي تتنزل في التطبيق على الموارد والظواهر الضحلة وغير المعقولة، عبارة عن العدل. إنّ العدل الذي يحظى في مفهومه العام بمقبوليةٍ عامّةٍ في جميع المجتمعات والأمم وفي جميع المراحل، وبالنظر إلى جريان القانون في الحياة والتي كانت مطروحةً في جميع المراحل لدى جميع الناس، لم يُشاهد أيّ استثناءٍ حول مقبولية العدل في تاريخ البشرية الطويل؛ إذ عندما يتم طرح وبيان القانون بين شخصين متعايشين، سوف تكون جميع حركات هذين الشخصين وظواهر حياتهما وشؤونها، إمّا متطابقةً مع القانون وإمّا تكون مخالفةً له. (والافتراض يقوم على وقوعهما موردًا لتعرّض القانون). فإنْ كانت متطابقةً مع القانون فهي من العدل، وإنْ كانت مخالفةً للقانون فسوف تعدّ ظلمًا وانحرافًا.

وفي الوقت نفسه نعلم إلى أيّ حدٍّ تتنزل هذه العدالة ذاتها عندما تقع في يد الأنانيين والأقوياء والجاهلين، وتتحوّل إلى ظاهرةٍ غير معقولةٍ ومخالفةٍ للعدل. إنّ انتقال هذه التطبيقات بوصفها عناصر ثقافيّةً إلى حقل الإنثروبولوجيا، لن ينطوي على أيّ نتيجةٍ سوى مسخ الأشخاص الذين يتقبلونها.
كيف يحدث لهذا الإنسان ـ الذي يستند في ثقافته ونشاطاته الثقافيّة إلى تطلعه نحو الكمال ـ أنْ يتجه لاعتناق عناصر الفساد والضياع الروحي بوصفها ثقافةً مقبولةً؟!

قبل الدخول في الأبحاث الخاصّة بهذا المطلب، سوف نذكر نقطةً سبق لنا أنْ أشرنا إليها أيضًا، وهي: أنّ استعداد الإنسان إلى تقبّل الثقافة، إنّما يستند إلى شوقه الشديد إلى الكمال، وأنّ هذا الشوق في صقع وجود الإنسان من الوضوح والحقيقة بحيث لا يبقى معه مجال للشك؛ وإنّ جميع أنواع التقدّم على المستوى الفردي والاجتماعي في مختلف المجالات، من قبيل: العلوم والصناعات بفروعها المتنوّعة والكثيرة، خيرُ دليلٍ على إثبات هذا المدّعى.
والآن يجب أنْ نرى ما هي الأسباب التي تؤدّي بالإنسان الذي يحدوه الشوق إلى الكمال، وإذا به ينحدر في سقوط نحو مستنقع الفساد وعناصر الضياع الروحي، ويعتنقها بوصفها ثقافةً مقبولة؟

إنّ أهم عناصر وأسباب تقبّل الفساد والضياع، هو الخلأ الذي ينشأ في مجال حقائق الثقافة التكامليّة بين أفراد المجتمع. عندما يحدث هذا الخلأ، إما أنْ يزول ذلك الشوق الذاتي إلى البحث عن الكمال، وإمّا أنْ يبقى هذا الاستعداد إلى الشوق بنحوٍ كاملٍ مع بعض مراتبه. وفي الحالة الأولى حيث يقضى على هذا الشوق بالتزامن مع ظهور ذلك الخلأ الداخلي عن الحقائق الثقافيّة الأصيلة، فمن الواضح بداهة أنّ الأهواء والرغبات والنزوات والشهوات الحيوانية سوف تحتل المضمار والساحة الداخليّة من وجود الإنسان، وسوف تجعل من كلّ عنصرٍ من عناصر الفساد والضلال التي لا تستوجب سوى القليل من اللذّة والمنفعة وإشباع الأنا وحبّ الذات، أمرًا محبوبًا ومطلوبًا للإنسان، ويجعل من تقبّلها لا بوصفه ثقافةً ضروريةً فحسب، بل وتختزل أصل ذات الحياة بها، وتحصر الغاية من الحياة فيها. من الواضح بداهة أنّ جميع الأصول الأساسيّة في هذه الحالات، من الدين والأخلاق والحقوق والاقتصاد والسياسة سوف تصبح ألعوبةً في يد أرباب الفساد والضلال، ويتمّ الدفع بالمجتمع نحو السقوط والانهيار[44].

وفي الحالة الثانية، بمعنى أنّه إذا لم يكن الخلأ الداخلي بشأن الحقائق الثقافيّة على درجة بحيث يزول الشوق إلى الكمال بالمرّة، بل يبقى استعداد الشوق أو بعض مراتبه في الطبقات العميقة للنفس، ففي هذه الحالة إذا تحققت الشرائط والمقتضيات وارتفعت الموانع، فإنّه يمكن لذلك الاستعداد أنْ يصل إلى مرحلة الفعلية، وأنْ يحظى بالعناصر الثقافية الأصيلة والبنّاءة. في مثل هذه الحالة إذا أمكن للقائمين على إدارة المجتمعات الحفاظ على ذلك الاستعداد في مجال الدين والسياسة والحقوق والاقتصاد والأخلاق والتربية والتعليم، في مواجهة هجوم عناصر الفساد والضياع، وتوفير وسائل وأدوات وصولها إلى مرحلة الفعلية، فمن البديهي أنّ الخلأ المفروض سوف يتحوّل إلى إشباع الداخل من الثقافة الأصيلة والتكاملية. وباختصار فإنّه على كلتا الصورتين يكون من واجب إدارات المجتمع أنْ تحول دون القضاء على مجتمعاتهم.

والحالة الثالثة ـ التي هي من أخطر حالات الابتلاء بالضدّ النوعي للثقافة ـ أنْ يقع عنصر الشوق إلى الكمال تحت تصرّف الذات الطبيعيّة الحيوانيّة. وفي هذه الحالة يتحوّل الإنسان إلى أخطر كائن في هذا الوجود، إذ يبيح لنفسه تدمير العالم بأجمعه من أجل الحصول على متعةٍ عابرة، ويعدّ ذلك من عناصر الفخر والاعتزاز.

عمق الالتفات إلى نتيجة نبذ الثقافة وإلغائها باسم التعميم الثقافي!
نشهد في عصرنا الراهن (أواخر القرن العشرين للميلاد) أنّه بدلًا من ارتقاء العناصر الثقافيّة المشتركة والثقافات الخاصّة بالمجتمعات، يوجد شروع وانطلاق نحو منحدرٍ نزوليّ للثقافة من المجتمعات الصناعيّة في العالم ـ حيث يتمّ ضمّ كلمة الحضارة إليها أيضًا! ـ وهي في طريقها لتحيط بالعالم من جميع أركانه، ولا يعلم كيف ستؤول إليه عاقبة ذلك سوى المستبدين وأصحاب السلطة والقوّة. وإذا لم يتم أخذ هذا المنحى بجديةٍ واستمر الوضع على هذه الحاله، ونجح في إرجاع البشريّة إلى الوراء وإلى حيث العصر الحجري، وتمّ الاكتفاء بهذا المقدار ولم يتمّ القضاء عليه بالمرّة، فسوف يكون ذلك من حسن حظنا، ويجدر بنا أنْ نشكر الله على أنْ لم نُصب بما هو أسوأ. إنّ هذا المنحى النزولي الجديد الذي تمّ تجميله وتزويقه بكلمة الثقافة الحديثة، عبارة عن: توظيف جميع الجهود والمساعي العلمية والفنية من أجل نشر وترويج وإشباع جميع الغرائز الحيوانيّة، وإبعاد الناس عن الأخلاق الإنسانيّة العالية، باستثناء مزاحمة الأفراد العاديين لبعضهم، وذلك على مستوى الضعاف من الناس!

إنّ هذا المفهوم (الظاهرة)، واسمه الحقيقي هو (الضد النوعي للثقافة)، واسمه الآخر (محو الثقافة) وإزالتها من المجتمعات الإنسانية، يسعى إلى إسقاط الإنسان والإنسانية معه بالضربة القاضية؛ بمعنى أنّه يسعى أولًا إلى القضاء على الحقائق الإنسانيّة والقيَم الأصوليّة، ثم يعمل بعد ذلك على تقويض المنظومة الأسريّة المقدّسة، والسعي في نهاية المطاف إلى إثبات عبثيّة وجود الكرة الأرضيّة في المنظومة الشمسيّة، والقضاء على الكرة الأرضيّة!

والدليل على هذا المدّعى واضح؛ إذ بالنظر إلى هذا التعريف لماهية الثقافة، والقائل بأنّها: (عبارة عن الكيفية أو الأسلوب المناسب أو المطلوب لظواهر ونشاطات الحياة المادية والمعنوية للأشخاص، والمستندة إلى طريقة العقل السليم والمشاعر الراقية لهم في الحياة المعقولة)، لا يمكن العثور على أيّ مجتمعٍ يتخبط في وحل الاقتصاد المختل ويعاني الحرمان من أشكال القدرة، ومع ذلك يستطيع العمل على ترسيخ أسس الحياة المادية والمعنوية لذلك المجتمع، وأنْ يتمكن ـ من دون الحصول على ذلك النظام الحقوقي الذي يقوم واقعًا على أساس الاحتياجات وعلى حقائق الحياة الاجتماعية ـ من توظيف ثقافةٍ تكامليةٍ حيويةٍ وهادفةٍ؛ إذ من خلال دراسة سجل القوة والسياسة عبر التاريخ نصل ـ للأسف الشديد ـ إلى هذه النتيجة، وهي: أنّه كلّما كانت السلطة وإدارة المجتمع في يد المتجبرين والساسة الميكافيليين، فإنّ أوّل ضحاياها سوف يكون هو الإنسان والقيَم الإنسانيّة. فإذا كان لازم القوّة والهيمنة السياسيّة العادية عبارة عن: أنّ يكون المقتدر أو السياسي هو الغاية، وسائر الناس الوسيلة، فمن الواضح بداهة أنّه كما رأينا في طريقة تفكير أمثال: جنكيز خان، ونيرون، والمثقفين من أمثال: ميكافيللي، وتوماس هوبز، فلن يبقى أيّ مفهومٍ وقيمةٍ للدين، ولا للأخلاق ولا للحقوق ولا للاقتصاد الاجتماعي ولا للسياسة، بل ولا حتى لذات الثقافة.

قائمة المصادر
الجعفري، محمد تقي، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 5، حقوق جهاني بشر و كاوش هاي فقهي، طهران، ناشر: موسسه تدوین و نشر آثار استاد علامه محمد تقی جعفری، 1393 هـ ش.
جكسون، رابرت، «المقدمة» للكتاب: ليبسني، هربرت ج، و مجيد خدوري، حقوق در اسلام، ترجمه إلى اللغة الفارسية: زی‍ن‌ال‍ع‍اب‍دی‍ن‌ ره‍ن‍م‍ا، طهران، منشورات شرکت‌ اقبا‌ل‌ و شرکا‌ء، 1336 هـ ش.
حتي، فيليب، تاريخ العرب، بيروت، لبنان، دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، 2017م.
راسل، برتراند، النظرة العلمية، ترجمه إلى العربية: عثمان نوبيه، مراجعة: د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن، المركز القومي للترجمة السلسلة: ميراث الترجمة، 2017 م.
راسل، برتراند، جهان بيني علمي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسن منصور، طهران، ناشر: آگه، 1378 هـ ش.
روسو، پي¬ير، تاريخ علوم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسن صفاري، طهران، منشورات اميركبير، ط7، 1378هـ ش.
رينگر، رابرت جي.، فروپاشي تمدن غرب، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد تقي پور، طهران، منشورات رسام، 1365 هـ ش.
سارتن، جورج، سرگذشت علم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد بيرشك، طهران، منشورات شرکت انتشارات علمی و فرهنگی (آموزش انقلاب اسلامی)، 1377 هـ ش.
عظيموف، إسحاق، دائرة المعارف علم و صنعت، طهران، منشورات شرکت انتشارات علمی و فرهنگی (آموزش انقلاب اسلامی)، 1367 هـ ش.
الكليني، محمد بن يعقوب؛ الكافي، تحقيق علي أكبر غفوري؛ 15ج، طهران: دار الكتب الإسلامية، 1407ق.
لوبون، گوستاو ، حضارة العرب، ترجمه إلى اللغة العربية: عادل زعيتر، ج 1، مؤسسة هنداوي، 1945 م.
لوبون، گوستاو، تمدن اسلام و عرب، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمدتقی فخرداعی‌گیلانی، منشورات افراسیاب، ط1، 1378هـ ش.
المولوي، جلال الدين، المثنوي المعنوي، الكتاب الثالث.
هونكه، زيگريد، فرهنگ اسلام در اروپا، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مرتضى رهباني، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، ط 3، 1370 هـ ش.
هونكه، سيجريد، شمس الله تشرق في الغرب، ترجمه وحققه وعلق عليه: أ. د. فؤاد حسنين علي، دار العلم العربي.
وايتهد، آلفرد نورث، سرگذشت انديشه ها، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عبد الرحيم گواهي، نقد ومناقشة: محمد تقي جعفري، طهران، منشورات دفتر نشر فرهنگ اسلامی، ط1، 1370هـ ش.

-------------------------------
[1] إدارة التحرير.
[2] Editorial Management.
[3]. قد يقوم اللاعبون والناشطون في حقول الاستبداد بإضافة كلمة (الحرّة) ـ بواسطة مخرجيهم الذي يلبسون رداء الفكر ـ إلى كلمة (الثقافة)، ويصوغون بذلك عبارةً جميلةً على شكل (الثقافة الحرّة)! ويصلون بذلك إلى ذروة الخداع والتزييف بحق العامّة من الناس.
[4]. (الحريّة) اسم كتاب ألّفه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، حول مفهوم حرية العقيدة والبيان والتفكير والكتابة والأفعال بحرية كاملة. ولكنه لا يحتوي على الدقة اللازمة والمطلوبة حول الشروط المنطقية لهذه الحريات. وبالتالي فإنّ هذا الكتاب على الرغم من اشتماله على مطالب نافعة، ولكنّه في الوقت نفسه لا يحتوي على تحقيق بشأن الشروط= =المعقولة للحريّات والالتفات إلى المفاسد والتحلل في وصول الناس إلى مآربهم وغاياتهم باسم الحريات الاعتباطية.
[5]. وايتهيد، آلفرد نورث، سرگذشت انديشه ها، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عبد الرحيم گواهي، نقد ومناقشة: محمد تقي جعفري، ص 44، ص 7.
[6]. روسو، بيير، تاريخ علوم، ص 693 ـ 695.
[7]. ربما سمعتم أنّ إرنست رينان يقول: «إنّ الغرب يحمل عرق السيّد، والغرب يحمل عرق العامل؛ولهذا السبب تعمل الطبيعة على إنتاج المزيد من الأعراق العاملة». .. وهكذا يمكن لكم مشاهدة عمق البهتان والافتراء والتجني على الطبيعة من مثل هذا الشخص الذي يسمّي نفسه مفكّرًا. وكأنّ المدعو إرنست رينان لم يكن على معرفةٍ بعظمة الحضارات الشرقية التي هي الأب الشرعي والحقيقي للعلم والتكنولوجيا. وكذلك فإنّه يقول: (إنّ لدى الغربي عقلًا صناعيًّا وإداريًّا وحضاريًّا، في حين أنّ الشرقي يمتلك عقلًا عاطفيًّا متوسط الذكاء وهو عاجزٌ عن بلوغ المرحلة الفكرية المعاصرة). والعجيب هو أنّ هذا الشخص الذي يدعي في العلم معرفة كيف فاته الاطلاع على مسار الحضارات الشرقية، وغفل عن أنّ العقل البشري لم يحدث له في الحد الأدنى منذ أربعين ألف سنةٍ أدنى تغيرٍ واختلافٍ في أيّ واحدٍ من الأعراق. بل إنّ الأكثر إثارةً للعجب هو أنّ هذا المتظاهر بالتفكير لم يكلف نفسه عناء البحث ليدرك من خلال التتبّع والاستقراء التام أنّ أكثر الاكتشافات والاختراعات ـ دون أنْ يتمّ العمل على حسابها بشكلٍ دقيق ـ قد دخلت إلى دائرة المعرفة البشريّة.
[8]. جلال الدين المولوي، المثنوي المعنوي، الكتاب الثالث. ومعنى البيتين: (إنّ ما تراه من صفاء اللبن والشراب إنّما هو انعكاس لصفاء القلب .. فإنّ كلّ سعادةٍ إنّما هي انعكاسٌ حاصلٌ من سعادة القلب / وعليه يكون القلب هو الجوهر ،والعالم عرَض .. ويكون ظلّ القلب حيث= =يكون القلب غرضًا). (المعرّب).
[9]. المعنى: (ما الدين؟ إنّه الخروج من التراب .. لكي تطلع الروح الطاهرة على حقيقتها).
[10]. روسو، بيير، تاريخ علوم، ص 118 ـ 119.
[11]. م.ن، ص 142.
[12]. م.ن، ص 693.
[13]. سورة الصافات: 6.
[14]. سورة الحجر: 16.
[15]. سورة الأعراف: 32.
[16]. (Hedonism): مذهب يقول بأنّ اللذة أو السعادة هي الخير الأوحد أو الرئيس في الحياة.
[17]. (Utilitarianism): مذهب يقول بأنّ تحقيق أعظم الخير لأكبر عددٍ من الناس يجب أنْ يكون هدف السلوك البشري. أو إنّ الأعمال إنّما تكون صالحةً إذا كانت نافعة.
[18]. ليسبني، هربرت ح. (Herbert J. Lisbani)، حقوق در اسلام، ص ب ـ ج: روبرت هاوغوت جاكسون (Robert Houghwout Jackson).
[19]. جلال الدين محمد المولوي، ديوان المثنوي المعنوي، الكتاب الثاني. ومعنى البيت: (ليس لهذا المتفاخر برجولته من دينٍ ولا ذكر سوى ذكره .. وإنّ تفكيره المنحط قد جرّه نحو الأسفل). (المعرّب).
[20]. إنّ هؤلاء قد تخلّفوا حتى عن أبيقور، ولم يبلغوا شأوه، إذ يُمكن تأويل بعض عباراته باللذات ما فوق المحسوسة.
[21]. روسو، بيير، تاريخ علوم، ص 693 ـ 695.
[22]. لقد أقيم في عام 1989 م، مؤتمرٌ من قبل اليونسكو في مدينة فانكوفر الكندية، وكان مضمون البيان النهائي لهذا المؤتمر يقول: «هل سيكون بمقدور البشرية أنْ تواصل حياتها في القرن الحادي والعشرين؟». للوقوف على المزيد من النقد والنقاش بشأن هذا البيان، انظر: العلّامة الجعفري، محمد تقي، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 5، حقوق جهاني بشر و كاوش هاي فقهي، ص 125 ـ 139.
[23]. رينجر، روبرت ج.، فروپاشي تمدن غرب، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد تقي پور، ص 26 ـ 28.
[24]. م.ن، ص 32.
[25]. م.ن، ص 285 ـ 286.
[26]. (Bild der wissenschaft)، العدد: 10، سنة 1976 م. لقد تمت ترجمة مسائل هذا الفصل إلى اللغة الفارسية بقلم: شهرام تقي زاده انصاري.
[27]. إنّ المراد من المجتمعات الأخلاقيّة والدينيّة هنا ليس المجتمعات التي يحكم فيها الدين والأخلاق جميع الناس من الجهات كافة، وإنّما المراد هو أنّ نوعية الناس في تلك المجتمعات لم تتخذ موقفًا مناوئًا للدين والأخلاق.
[28]. جلال الدين محمد المولوي، المثنوي المعنوي، ومعنى البيت: (ما أهلك الخلق سوى التقليد .. ألّا فألف لعنةٍ على هذا التقليد)! (المعرّب).
[29]. الأبيات من قصيدة للشاعر الفارسي الفروغي البسطامي، باستثناء البيت الثاني ـ الذي وضعناه بين معقوفتين ـ فهو من نظم العلّامة محمد تقي الجعفري. ومعنى الأبيات كالآتي:
هناك فرق بين من يدّعي معرفة الله وبين من يعرف الله .. والفرق بينهما كالفرق بين الحيوان والإنسان [وبذلك يكون هناك فرق بين من يعرف الله وبين من يصل إلى الله ـ والفرق بينهما كالفرق بين العلم والعرفان]

وليس القمر المنير كالشمس المنيرة
فهنـاك فرق في الدرجات بين النيّرات
وكيف يمكن تسميـة المحقق مقلّـدًا
فهنـــاك فــرق بين العــالم والجاهل


[30]. روسو، بيير، تاريخ صنايع واختراعات، ص 19 ـ 20.
[31]. سورة المائدة: 2.
[32]. محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 2، ص 164.
[33]. عظيموف، إسحاق، دائرة المعارف علم و صنعت، ص 121 ـ 123.
[34]. حتي، فيليب، تاريخ العرب.
[35]. سارتن، جورج، سرگذشت علم، ص 202 ـ 213.
[36]. هونكه، سيجريد، فرهنگ اسلام در أوروپا، ص 418 ـ 419، وانظر أيضًا: شمس الله تشرق في الغرب، ص 304 ـ 305.
[37]. لوبون، جوستاف، تمدن اسلام و عرب، ص 735. وانظر أيضاً: غوستاف لوبون، حضارة العرب، ج 1، ص 589.
[38]. راسل، برتراند، جهان بيني علمي، ص 24. وانظر أيضاً: النظرة العلمية، ص 17.
[39]. المعنى: (قال: ما حرفة القوم هناك؟ .. قلت: يبيعون أرواحهم ويشترون الحزن والندم). (المعرّب).
[40]. جبران خليل جبران، المواكب، ص 355.
[41]. سورة النجم: 38 ـ 39.
[42]. سورة الزلزلة: 7 ـ 8.
[43]. سورة لقمان: 25؛ سورة الزمر: 38.
[44]. كثيرًا ما قرأنا في تاريخ إسبانيا أنّه على الرغم من وجود الدين الإسلامي الحنيف، كيف تمّ العمل على إفراغ الناس من الحقائق الإسلامية العالية بوساطة أنواع التخديرات والانحرافات الأخلاقية، وتمّ أخذ دين الفطرة والعقل والوجدان من الناس. وعليه لو غفل القائمون على إدارة المجتمعات، أو رفضوا أن يمنعوا من عناصر الفساد والضياع باسم (الثقافة)، فمن الثابت قطعاً أن ّمجتمعاتهم سوف تواجه نفس المصير الذي واجهته إسبانا في تلك الحقبة الزمنية.