البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد الإلحاد المعاصر (الحلقة الثانية)

الباحث :  الشيخ علي ديلان
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  31
السنة :  صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 13 / 2024
عدد زيارات البحث :  330
تحميل  ( 1.794 MB )
الملخّص
استعرض البحث في الحلقة الأولى تحليلًا ونقدًا للرؤية الإلحادية في الزمن الراهن، من جهة المناشئ والارتكازات المعتمدة لديهم، ومناقشتها بصورةٍ موضوعيةٍ بعيدةٍ عن الانحياز لهذه الجهة أو تلك. وفي هذه الحلقة يأتي على أهم الأفكار المطروحة من قبل قادة الإلحاد المعاصرين من قبيل هوكنج ودوكنز، مع بيان بعض الموضوعات المتعلقة بها، مثل الداروينية نظرية التطور، والانفجار العظيم ، ومشكلة الشر، ونفي البديهيات، آخذا بنقدها وبيان تهافتها برؤية علمية موضوعية.

الكلمات المفتاحيّة :الانفجار العظيم، البيضة الكونية، التطور، الشر، داروين، هوكنج، دوكنز .


Abstract
The research in the first episode presented an analysis and critique of the atheistic vision in this era, in terms of origins and the foundations they rely on, and discussed them objectively, away from bias towards this side or that. In this episode, it comes to the most important ideas proposed by the leaders of atheism in recent times, such as Hawking and Dawkins, with a statement of some related topics, such as Darwinian theory of evolution, the Big Bang, the problem of evil, and the denial of self-evident truths, taking its critique and showing its inconsistency with an objective scientific vision.

Keywords: Big Bang, Cosmic Egg, Evolution, Evil, Darwin, Hawking, Dawkins.


نقاط حرجة في التفكير الإلحادي
إنّ الاتجاهات والأفكار الخاطئة تعيش جملةً من التناقضات أو التهافت الداخلي، ذلك أنّها إما أنْ تتناقض مع أفكارٍ مسلمةٍ أو تتناقض داخليًا مع متبنيات يعتقدون بها. وهذا بخلاف الأفكار الصحيحة فلأنّها تعتمد على الحجة الصحيحة فهي لا تتناقض إلّا مع الأفكار الخاطئة، فإنّ صراط الحقّ هو صراطٌ واحدٌ أمّا الصراط الخاطئ فمتعدد، فمثلًا إنّ المثلث عندما تكون مجموع زواياه يساوي (180) درجة، وهذه قضيةٌ حقّةٌ صائبةٌ فإنّ ما عداها من القضايا من قبيل أنّ مجموع زواياه يساوي (160) درجة، أو (190) درجة، أو غير ذلك تمثّل قضايا خاطئة، وكما ترى أنّها قضايا متعددةٌ وكثيرةٌ، بينما لو لاحظنا القضية الصادقة لوجدناها قضيةً واحدةً لا يقبل الحق غيرها، بمعنى أنّها لا تكون النتيجة في يوم بهذا الشكل، وفي يوم آخر تكون بشكلٍ آخر، فزوايا المثلث تساوي فقط (180) درجة، ولا تقبل درجةً غيرها.

إذًا، الصراط الحقّ صراطٌ واحدٌ، أما الصراطات الخاطئة فمتعددة، وهذا واضحٌ منطقيًا، فإنّ الأفكار الحقّة لا يمكن أنْ تصطدم مع أفكارٍ حقّة، بل الحقّ ينسجم دائمًا مع ما هو حقّ انسجامًا كاملًا، كما إنّ المبرهنات الإثباتية السليمة للفكرة الصحيحة يجب ألّا تتناقض مع مبرهناتٍ إثباتيةٍ سليمةٍ أخرى، بينما الأفكار الخاطئة فلأنّها تعبيرٌ عن شيءٍ غير واقعيّ، ومزيف فمن الطبيعي أنْ تتناقض مع أفكارٍ أخرى في داخل ذهنية الباحث الواحد أو أفكار أخرى هي بديهيات العقل البشري.

وما نريد أنْ نصل إليه في هذه المقدمة، هو أنّ الإلحاد المعاصر يبتلى بتناقضاتٍ وازدواجيةٍ في تبني الأفكار، وهو من هذه الناحية على حد كلّ فكرةٍ خاطئة، كما سيتبين ذلك.

ثم، إنّ عموم الأفكار سواء كانت حقّةً أم خاطئة، تواجه نوعين من الإشكاليات:
الأول: نوع من الإشكاليات يمكن التعبير عنها بأنّها (إشكاليات اعتيادية)، وهي إشكالياتٌ متوقعةٌ ومترقب ظهورها وتوجهها على كلّ فكر، ولا يخلو فكرٌ مهما كانت قوته وسلامته من الابتلاء بهذا النوع من الإشكاليات، فإنّ البشر وبمقتضى اختلافهم في درجة الإدراك وسعة العلم وجودة الفهم، وكذا اختلافهم الاجتماعي والتربوي وغير ذلك. يختلفون أيضًا في قبول الأفكار والقناعة بها. وعادةً ما نجد أنّ الفكر الذي يواجه هذا النوع من الإشكاليات، له القدرة عن الاجابة عنها.

الثاني: نوع من الإشكاليات التي تمثّل نقاطًا حرجةً للفكر الخاطئ بحيث يتهاوى عندها ذلك الفكر ويفتقد المكنة من الإجابة عليها، وإنْ أُوتي ما أُوتي من البيان والحجة، وهذا النوع من الإشكاليات هو الذي يطيح بالأفكار، ففرقٌ بين إشكاليةٍ تتوجه إلى بعض التفاصيل التي يمكن أنْ يجاب عنها أو ينتهي كلّ شخصٍ إلى قناعته الخاصة، وبين إشكاليةٍ تؤدّي بأصل الفكر، وتمثّل نقطةً حرجةً بالنسبة إليه، بنحو تجد الفكر صامتًا إزاءه لا يستطيع جوابًا.

إنّ النوع الثاني (الإشكاليات الحرجة) هو ما نريد أنْ نستعرضه ونوجهه إلى الإلحاد، وسوف ترى أنّ الملحد عاجز تمامًا عن الجواب عنها، وإذا ما قدر أنْ يجيب فإنّما يجيب بما هو أسوأ من أصل الفكرة التي يعتقدها.

النقاط الحرجة
النقطة الأولى: (الجواب عن سؤال: من- أو- ما ) المسؤول عن انبثاق الشرارة الأولى لبداية الكون؟ فعندما يكون الكون له بداية وأنّ له عمرًا محدّدًا فهذا يعني أنّه لم يكن موجودًا ثُمّ وجِد، كان عدمًا صفريًّا، ثم صار ماثل الوجود، وهنا يُطرح السؤال الآتي: كيف حصل البروز والظهور إلى الوجود؟ ومن كان مسؤولًا عن الانبثاق، بنحوٍ اتّصف بالوجود بعد أنْ كان لا شيء مطلقًا؟!

وقبل الجواب عن هذا السؤل، ننبه إلى أنّ هناك نقاطًا مشتركةً بيننا وبين الملحد، ونركز هنا على اثنتين منها:
الأولى: إنّ الإلهي والملحد يعتقدان بالمعطيات العلمية وبالمنهج العلمي الذي يتمثّل بخطواتٍ ثلاثٍ قد ذكرت سابقًا وهي الملاحظة والفرضية والاختبار. فكلاهما يؤمن بالقضايا العلمية لا سيّما التي حصل منها التأكد ووصل إلى درجة الحقيقة العلمية.

الثانية: من المشتركات أيضًا بين الإلهي والملحد أنّه لا يمكن التسوية بين الوجود والعدم، أعني أنّه لايمكن أنْ يوجد شيءٌ من العدم الصفري، وهذا في الحقيقة محلُّ اعتقادِ عامّةِ الملاحدة، قدماءً ومحدثين، فإنّ خروج الكون من العدم الصفري يعني ببساطة أنّ (1=0) حيث يمثّل الصفر العدم الصفري ذاته، ويمثّل الواحد الوجود عينه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّه على أساس النقطة الأولى، يتوجب على الإلحاد الذي يدعي أنّه مع العلم ومع المنهج العلمي أنْ يعتقد بأنّ الكون له بدايةٌ وفق ما يقرّره العلم الذي ينصّ على أنّ هناك انفجارًا عظيمًا قد حصل قبل( 13,7) مليار سنة، أي إنّه وقبل هذا التحديد الزمني لم يكن هناك كونٌ أصلاً، بل كان هناك الصفر والعدم، وفي الحقيقة إنّهم يؤمنون بذلك.

وهنا يأتي دور الإشكال، فإنّه وبحسب النقطة الثانية من عدم إمكان التسوية بين الوجود والعدم، وإنّ العدم لا يصلح بحال أنْ ينتج الوجود، كيف للملحد أنْ يفسّر خروج (النقطة المفردة) التي هي بداية الكون وأوّل الانفجار العظيم من العدم الصفري؟ كيف يمكن إثبات أنّ الواحد يساوي صفرًا؟ إنّ هذا يصطدم جدًّا مع ما يتعقدون به من جهة، ومع مسلمات الذهن البشري من جهةٍ أخرى.
في حين أنّ الإلهي لا يواجه إشكالية من هذا القبيل، فإنّ الكون الذي لم يكن موجودًا ومن ثم وجد إنّما تأتي وجوده من وجودٍ آخر، وإذا أردنا أنْ نرمز إليه رياضيًا فيمكن لنا أنْ نرمز إليه برقمٍ واحدٍ مثلًا فتكون المعادلة (1=1) وهي معادلةٌ صحيحةٌ تمامًا.

هذه الإشكالية تمثّل نقطةً حرجةً في التفكير الإلحادي، فإنّه قبل الانفجار العظيم، لا مادة لا طاقة لا زمان لا مكان. لأنّ هذا هو شأن العدم، يحدّثنا أحد كبار الملاحدة (ميتشيو كاكو) عن هذه المرحلة :» لم يكن هناك شيء في البداية لا مكان ولا زمان ولا مادة ولا طاقة»[1] فهم – إذًايعترفون بأنّه لم يكن هناك شيءٌ أصلًا؛ ولذا حاولوا في هذه المرحلة ومنهم (ميتشيو كاكو) افتراض بعض المبادئ الكمية، ولا نريد الخوض في حقيقة تفسير هذه المبادئ ولكن سوف نعبّر عنها بالقوانين أو الحالات الفيزيائية الكوانتية، التي تجعل العدم حسب تعبيره أمرًا غير مستقر، وهذه المحاولة أسوأ من فكرة (خروج الشيء من العدم)، فإنّ التعبير بالعدم غير المستقر تعبير متناقض، إذ كيف تفترضه عدما وفي الوقت نفسه تجعله أمرًا غير مستقر؟! إنّ عدم الاستقرار من خصائص الموجود المادي كأنْ يقال: إنّ الالكترون غير مستقر أو إنّ الجاذبية غير مستقرةٍ أو نحو ذلك، ولا يمكن أنْ يكون حالةً أو صفةً في عدم.
ثم، كيف تفرضون قانونًا من دون أنْ تكون هناك مادة؟ فإذا ما افترضنا أنّ هناك قوانين قبل الانفجار العظيم فلا بد أنْ تفترضوا أنّ هناك مادةً وإلا فليس القانون شيئًا موجودًا بمعزلٍ عن حقيقةٍ وجوديةٍ ماثلة.

إنّ افتراض القانون يلازم افتراض أنّ هناك شيئًا، وأنّ افتراض العدم الصفري يلازم أنّ هناك لا شيء أصلًا. وهذا التهافت والتناقض مثّل نقطةً حرجةً في التفكير الإلحادي؛ ولذا فإنّ (بول ديفيز)، و(جون جريبين)، وهما من أصحاب الاختصاص نقد كلّ منهما هذا الطرح ولم يقبلا به البتة، وقالا: إنّ الفيزياء غير قادرةٍ على تفسير نشوء الكون[2].. وقرّرا أنّ الاختصاص المناسب للحديث عن هذا الموضوع هو الفلسفة والأديان، أمّا الفيزياء فإنّها عاجزةٌ عن توضيح ذلك؛ لأنّ الفيزياء كعلمٍ من العلوم لها موضوعٌ وهو الذي يمثّل محور أبحاثها، وهذا الموضوع هو (المادة والطاقة)، وحيث لا مادة ولا طاقة قبل الانفجار العظيم فلا كلمة لعلم الفيزياء.

كذلك ينقل عن (آرثر ادينجتون) وهو من علماء الفيزياء قوله:» فكرة أنّ الطبيعة ظهرت فجأةً تبدو لي محرجة»[3]، هؤلاء العلماء لا يتحدثون وفق خلفياتٍ مؤدلجةٍ وإنّما يتكلّمون حسب المعطى الفيزيائي البحت. وكذا ينقل في كتاب (رحلة عقل) عن ( انتونيو فلو) أنّ من أسباب تركهالإلحاد هي فكرة النشوء من العدم.
وبعبارةٍ واضحة: إنّ القانون سواء كان الجاذبية أم أيّ شيءٍ مفروض، يجب ألّا يُفرض إلّا مع فرض وجود شيءٍ ماديّ وإلّا فلا قانون في الفراغ (اللاشيئية)؛ ذلك لأنّ القانون ليس شيئًا وجوديًا بمعزلٍ عن المادة، بل ما هو إلّا سلوك المادة، إذ يلاحظ العلماء هذا السلوك في الوجودات الطبيعية، ويصاغ على أساسه القانون لا أنّ القانون متقدّم وجودًا على المادة. وعلى هذا الأساس قامت الرياضيات الفيزيائية وتمكّن العلماء من التنبؤات عمّا يحصل للجسم المادي مستقبلًا، وما ذلك إلّا لأنّ السلوك الذي يسلكه الجسم كان سلوكًا محدّدًا وليس فوضويًا، ولذا يمكن القول: إنّ العالِم إذا ما أحاط بجميع الشرائط والأسباب فإنّه من الممكن أنْ يكشف عمّا يتّجه نحوه الجسيم؛ وذلك بمساعدة القانون والذي هو ليس إلّا سلوك المادة.

ثم، هنا إشكاليةٌ أخرى يمكن أنْ نوجّهها إلى الملحد، وهي: أنّ الملحد حسب المفروض يؤمن بالمنهج العلمي وخطواته المشار إليها سلفًا،ولنا أنْ نتساءل: كيف تمت له الملاحظة والرصد لبداية الكون ومن ثَمّ افترض الفرضيات، وذكر أنّ قبل الانفجار العظيم كانت هناك قوانين مثلًا؟ فهل لاحظ تلك المرحلة وشاهدها بالحس؟! اللهم إلّا أنْ يدّعي الملحد بما تقدم ذكره من أنّ مفهوم الملاحظة لا يراد به خصوص المشاهدة الحسية المباشرية بل هو أعمّ من ذلك، وحينئذٍ سوف تتوجه فرضية الإله الماورائي.
النقطة الثانية (بداية الحياة): ولا أريد من بداية الحياة الحديث عن فرضية التطور الدارونية، فإنّ هناك مرحلتين، يتوجب التمييز بينهما وكثيرًا ما يقع الخلط فيهما، وهما:

الأولى: مرحلة الانتقال من المادة غير العضوية إلى المادة العضوية، من الكون الفيزيائي إلى الوجود البيولوجي، من الجماد إلى الحياة؟ وهذه المرحلة سابقة لمرحلة التطوّر الداروني.
الثانية: مرحلة الانتقال من المادة الحية إلى مادةٍ حيةٍ أخرى أكثر تعقيدًا حسب فرضية التطوّر الداروني.
والنقطة التي نريد الحديث عنها هنا، والتي تمثّل فكرةً حرجةً على الملاحدة هي المرحلة الأولى، المُعبّر عنها في الاصطلاح البيولوجي بـ (التخلق التلقائي)، وكيفية نشوء الحياة من المادة غير الحية.

هذا الانتقال ينبغي أنْ يخضع لظروفٍ معقدةٍ وشروطٍ مكثفة، يعرفها علماء الأحياء، وهم فعلًا مختلفون في حقيقة وكيفية الظهور والتخلق التلقائي، إذ يحتاج هذا النحو من التعقيد إلى ظروفٍ معقّدةٍ جدًا لا يستوعبها عمر الأرض بتمامه، وقد صرّح بذلك كبار الملاحدة من قبيل (ريتشارد دوكنز)، وعندما سأل عن تفسير الحياة مع اعترافه بعدم استيعاب عمر الأرض لظهور الحياة، قال: لعله هناك كائنات فضائية هي التي زرعت الحياة في الأرض، وبعبارةٍ أخرى: إنّ الحياة الأولى لم تنشأ من الأرض وإنّما جاءت من مكانٍ آخر وموجوداتٍ حيّةٍ غير أرضية. وكما يلاحظ أنّ هذه الخيالات والأوهام إنّما تُصنع وتُصدَّر بعد ضيق الخناق والمكابرة على الحقيقة المستطيلة على تمام الوجود بكل تفاصيله.
وأيًّا كان، فإنّ الإلحاد يواجه عقبةً لم تُعالج بعد في منظومته الفكرية، وهي في إعطاء تفسيرٍ معقولٍ علميًّا لنشأة الحياة من المادة غير الحية، بل يواجه العلماء صعوبةً بالغةً في اكتشاف الآلية التي كانت سببًا في هذا الانتقال، وأهل الاختصاص يعلمون ذلك جيدا، ذلك أن هذه الحالة الانتقالية هي حالة معقدة جدا، إذ كيف نتجت من المادة الفيزيائية والتفاعلات الكيميائيةالتي هي مجرد عناصر طبيعية صامتةالمادة العضوية الحية؟!!. أوجب هذا جدلًا بين العلماء، وإحراجًا بالنسبة إلى الملاحدة. والسبب في هذه الصعوبة هو أنّ المادة الفيزيائية وفق الوضع الذي تعيشه الأرض منذ بداية تكونها إلى زمان ظهور الحياة لم تكن صالحةً أبدًا لأنْ تكون سببًا في النشأة الحياتية.

ومن هنا طُرحت عدة فرضيات، تهدف إلى تفسير ذلك، بعد اقصاء الفرضيات الإلحادية القديمة الزائفة والتي تقرر أنّ الحياة نشأت عن طريق الصدفة، فإنّ عموم ملاحدة هذا الزمان يعتقدون جزمًا أنّه لو كان الأمر كما وصف قديمًا وإنّ الحياة ظهرت بشكلٍ دفعي لكان احتمالية فرضية الإله هو الراجح.


الفرضيات المفسرة
وعلى كلّ حال، فهناك فرضياتٌ حديثةٌ طرحت لتفسير هذه المعضلة، نذكر منها:
الفرضية الأولى: من دون أنْ نتعمق في تفصيلهاطرح في عشرينيات القرن العشرين العالم الروسي (أوبارين)، والبريطاني (جون هالدون) فرضيةً أرادا بها تفسير نشأة الحياة، مفادها: أنّ في الجو الأولي للأرض كان هناك برق مكثّف، وغازات معينة – غير غاز الأوكسجين، وأنّ البرق مرّ عبر الغازات فكوّن بطريقةٍ ما (وحدات البناء الكيميائية للحياة – لا وحدات الحياة) وحسب الفرض أنّ هذه الغازات خاليةٌ من غاز الاوكسجين.
وفي خمسينيات القرن العشرين أُجريت تجربة ( يوري ميلر) التي تهدف إلى تصحيح فرضية (أوبارين – هالدون) من أجل أنْ تنقلها من مستوى الفرضية إلى مستوى النظرية المحقّقة تجريبيًا، وهي في أصلها أطروحة دكتوراه قدّمها الطالب (ميلر)، وأشرف عليها أستاذه (يوري)، وتفيد هذه التجربة أنّ بعض الوحدات البنائية للحياة – لا الحياةتنتج عبر تمرير شرارةٍ كهربائيةٍ من خليط من الغازات، وعدّا هذه التجربة محاكيةً للجو الأولي للأرض، أي قبل( 3.5) مليار سنة!!، إذ أحضرا غازاتٍ مماثلةً لذلك الجو الأولي، وبدل البرق مرروا طاقةً كهربائيةً، فنتجت بعض الوحدات البنائية للحياة، لا الحياة.

وفي الحقيقة، هناك مشكلةٌ في كلّ من الفرضية والتجربة. أمّا المشكلة في الفرضية فهي على ما أوضحه العلماء المختصون ونحن نبينه بنحوٍ مبسّطٍ بالقول: نحن نعيش الآن في هذا الجو الأرضي المعاصر ونسبة الأوكسجين فيه 21% مع أنّ الأوكسجين الذي هو ضروري للحياة وإنتاج الطاقة، هو في واقع الأمر – باتفاق علماء الحياة مفسدٌ جدًّا في صناعة المركبات العضوية، فالأوكسجين له دورانِ إذا صح التعبيردورٌ ايجابيّ للحياة وذلك بملاحظة أننا نتنفس الأوكسجين، ونستفيد منه في إنتاج الطاقة، ويجعلنا نستمر في الحياة. ودورٌ سلبيّ وذلك في صناعة المركبات العضوية والحياة، فمثلًا في مقام صناعة الخلية لا بدّ ألّا يكون هناك أوكسجين موجودًا، وإلا فسدت عملية إنتاج الحياة، ومن أجل ذلك فإن الخلايا عندما تنتج خلايا أخرى تُقصي الأوكسجين في عملية الإنتاج، حيث تزيح بعض أجزاء الخلية الأوكسجين في عملية التصنيع الحيوي، وهذا أمرٌ معروفٌ في علم الحياة.
ومن هنا، واجهت الفرضية مشكلة في مرحلة الجو الأولي للأرض، فهل فعلا كان خاليا من الأوكسجين أو كان هناك نسبة منه فيحول دون التصنيع الحيوي؟ فإنه إذا ما افترضنا وجود الأوكسجين فيستحيل وجود الحياة، ممّا اضطرّ أصحاب الفرضية أنْ يقولوا: إنّ الجو الأولي للأرض لم يكن مشتملًا على غاز الأوكسجين الحر، وإنّما كان مليئًا بغاز الميثان والأمونيا وغيرها. وإلّا فلو مرّ البرق بغاز الميثان مع وجود الأوكسجين فسوف يؤدّي هذا إلى الاحتراق فلا تحصل عملية إنتاج.

وقد ناقش عددٌ كبيرٌ من العلماء هذه الفرضية وتلك التجربة، وخَلُص العلماء إلى أنّ التجربة لا تحاكي أبدًا الجو الأولي للأرض؛ لأنّه كانت بانتظارهم مفاجأةٌ ليست بصالح الفرضية ولا التجربة، وهي أنّ الأوكسجين فعلًا كان موجودًا في ذلك الجو القديم، نعم الذي نجهله إنّما هو نسبة وجوده بالقياس إلى باقي الغازات الأخرى. يقول (جون كوهين)وهو من علماء الحياةفي مجلة (العلوم): « نبذ كثيرٌ من الباحثين اليوم في أصل الحياة تجربةَ عام 1952م؛ لأنّ الجو الأولي للأرض يختلف تمامًا عن الجو المصطنع في تجربة (يوري ميلر) «[4]. وكأنّهم اختاروا بعنايةٍ دقيقةٍ غازاتٍ معينةً واستبعدوا غازاتٍ أخرى، ونزعوا الأوكسجين ومرّروا شرارةً كهربائية.. وبعد ذلك لم توجد الحياة وإنّما توجد مركبات إذا ما توفرت أجوا مناسبة، وتحقّقت شرائط وظروفٌ معقدةٌ سوف تنتج كائنًا وحيد الخلية بسيطًا بقدرٍ كبيرٍ من البساطة إلى حدٍّ يفوق الخيال.

وقد ذهب كثيرٌ من علماء البيوكيمياء إلى أنّ تجربة (يوريميلر) حتى لو كانت محاكيةً للجو الأولي للأرض فإنّها لم تنتج سوى بعض المركبات التي ليس لها إمكانية إنتاج الحياة؛ ولذا فقد اُستبعدت الفرضية في مجال البحث العلمي الحديث، ممّا دفع ببعض الباحثين للبحث عن فرضيات ٍأخرى.
واللافت أنّ الملاحدة في هذا الزمان لا سيّما بسطائهم وعوامهم ما زالوا يطرحون هذه الفرضية رغم اتفاق المختصين على بطلانها، أو على الأقل أنّ معظمهم حكم بفشلها. بل قد يطرح ذلك أكابر الملاحدة رغم علمه ببطلانها، وبالنسبة للمتلقي البسيط عندما يسمع بهذا الطرح أو يجده في كتاب، يتصور أنّ هذا هو منتهى البحث العلمي.
الفرضية الثانية: وهي من ناحية التقبل العلمي أكثر صعوبةً من الأولى، حيث تقرر أنّ المسؤول عن نشأة الحياة هو الـ (آر أن أي)، وهو مركبٌ يشبه الـ (دي ان اي) كيميائيًا، ومن الناحية الوظيفية، تستخدمه كلّ الخلايا في عملية تصنيع البروتينات الداخلة في المادة الحية.
والغريب في هذه الفرضية، أنّه لم يفسر أحدٌ كيف وجِدَ الـ (آر ان اي) أصلًا قبل وجود الخلايا التي يصنع فيها؟! فإنّ الـ(ار ان اي) حتى يكون مسؤولًا عن صنع البروتينات يتوجب أنْ يكون في مادةٍ حية. ومن هنا رفض العلماء هذه الفرضية لاحتياج الـ (آر ان اي) للمادة الحية أساسًا.

ثم، كيف وجد الـ (آر ان اي)؟ جاء في كتاب (أيقونات التطور) للدكتور (جوناثون ويلز): « لم يُفسّر أحدٌ كيف وجد الـ (آر ان اي) قبل وجود الخلايا الحية التي يصنع فيها ؟». وينقل عن بعض علماء البيوكيمياء « إنّ جزيء الـ (آر ان اي) ليس مرشحًا مقبولًا ليكون وحدة البناء الأولية للحياة، وعليه فالراجح أنّه لم يوجد منه كميات ذات بالٍ في الأرض القديمة، وحتى لو أمكن وجود جزيئات الـ (آر ان اي) فإنها لن تدوم طويلا في ظل الظروف التي مرت بها الأرض في طورها المبكر؛ لأنّ الـ (آر ان اي) حتى يوجد ويبقى لا بد أنْ تحتضنه مادةٌ حيةٌ لا أنّه يصنع الحياة». ومن هنا يستنتج بعض علماء البيوكيمياء الذي نقل عنهم في كتاب (أيقونات التطور) أنّ التفسير الأكثر منطقيةً هو أنّ الحياة لم تبدأ بالـ (آر ان اي).
ومن ثم يقول ( جونثان ويلز): بالنسبة إلى رواية الـ(آر ان اي) تصل إلى طريقٍ مسدود، وهذا كما حدث في الفرضية السابقة، فإنّ الباحثين في أصل الحياة قد عجزوا عن شرح كيفية تكون وحدات البناء الجزيئية للحياة على سطح الأرض. ومن ثم يقول: وحتى لو نجحوا في اكتشاف أصل وحدات البناء فسيبقى أصل الحياة غامضًا، إذ يستطيع الكيميائي أنْ يخلط كلّ الوحدات الكيميائية البنائية للحياة في أنبوب اختبارٍ فإنّه لن نحصل على خليةٍ حيةٍ، فمعضلة أصل الحياة عسيرةٌ للغاية، لدرجة أنّ بعض العلماء كالباحث الألماني (كلاوس دوز) عام 1988 يقول : إنّ النظرية الحالية عبارةٌ عن مخططٍ للجهل لا يقدّم أي تبصراتٍ جديدةٍ حول العملية التطورية، ومن المرجح أنّ هذا الجهل سيمكث.

وعليه، فإنّ معضلة أصل الحياة هي معضلةٌ كبيرةٌ، لم يتمكن العلماء من إعطاء تفسيرٍ معقولٍ لها، فوجد الملحد نفسه في مأزقٍ وإحراجٍ تجاه هذه المسألة، حتى (دوكنز) استبعد نشأة الحياة في ظلّ تلك الظروف الأرضية، واحتمل أنّ الموجودات الفضائية هي من زرعت الحياة على هذه الأرض، وافترضوا بعض الأساطير والخرافات حول قصة الحياة الأولى.
ونحن بدورنا نتساءل عن أصل وجود الكائنات الفضائية، فإنّه لم يتحقّق إلى الآن ثبوت الحياة على غير كوكب الأرض وفق الوكالات الفضائية الرسمية. ولو سلمنا أنّ هناك كائناتٍ فضائيةً فمن أثبت أنّ هذه الكائنات تملك من المقدرة العلمية بنحوٍ تصنع الحياة مثلًا؟ إذ من الممكن أنّ هذه الكائنات المشكوك وجودها أصلًا قد جلبوا حياةً جاهزةً في كوكبهم إلى الأرض، لا أنّه قد تم تصنيعها من قبلهم. ثم من قال: إنّ لديهم تطورًا علميًّا فائقًا إلى الحد الذي تكون عندهم مركباتٌ فضائيةٌ غير متناهية السرعة وتقاس بسرعة الضوء؟ وأيضًا، يقال: إنّ هذه الكائنات كيف وجدت أصلا؟ هذه فرضياتٌ أشبه بالخرافات من كونها فرضياتٍ علمية.
النقطة الثالثة: إشكاليةٌ ترتبط بفرضية التطور الأحيائي الداروني، وهذه الفرضية لها صياغات متعددة، وهي على العموم تقرّر أنّ الأحياء الناضجة المنتشرة فعلًامن انسان وغيره جميعًا قد نشأت من أصلٍ واحدٍ أو أصولٍ محدودة، وهذا يكون عبر التدرج الزمني الطويل، وكلما توغلنا في القدم كانت الأحياء السلف أبسط إلى أنْ تصل إلى الأحياء البسيطة جدًّا، كتلك الوحيدة الخلية مثلًا، وهكذا.

وهنا حاول الملاحدة أنْ يفرضوا تناقضًا بين فكرة الألوهية وفرضية التطور، بزعم أنّ وجود الكائنات الحية بالشكل الذي نشهده فعلًا ليس من صنع إلهٍ ذكي وإنّما من فعل التطوّر الداروني.

وقبل بيان رأي بعض أهل الاختصاص في هذا الشأن، لا بدّ أنْ نُذكّر بأنّ فرضية التطور حتى على تقدير التسليم بها فهي لا تتنافى مع فكرة الإله الذكي، وأنت إذا تتبعت أكثر القائلين بفرضية التطور تجدهم من العلماءالإلهيين، دينيين أو ربوبيين، فإنّه لا توجد ملازمةٌ بين الاعتقاد بالتطورية وإنكار الإله الصانع كما يوهم كلام الملاحدة المتلقي الساذج، بل وجدنا بعض القائلين بالتطور ممّن جعل هذه التطورية أحد الأدلّة على وجود المصمم الذكي بدعوى أنّه هو الذي أبدع في هذا الخلق وأودع فيه آلية التدرج الدقيق من الأبسط إلى الأعقد.
وأيًّا كان، فهناك عقباتٌ تحول دون الاعتقاد بفرضية التطور، نذكر منها: ما يُعبّر عنها بمشكلة أو معضلة (الانفجار الكامبري) الذي يخالف فكرة التدرج من الأبسط إلى الأعقد، إذ وجد العلماء أنّ السجل الأحفوري للأرض لا يتناسب مع التطورية المذكورة؛ لأنّهم وجدوا في طبقةٍ من الأرض أنّ هناك كائناتٍ بسيطةً وحيدة الخلية، والتي قالوا عنها: إنّها البدايات الأولى للكائنات الحية، وأمّا في الطبقة التالية لها فالمفروض وفق فرضية دارون أنْ تكون هناك كائناتٌ حيّةٌ أعقد من الأولى بشيءٍ يسيرٍ جدًّا وهكذا. فالكائنات الأبسط تكون في الطبقات الأدنى، والكائنات الأعقد تكون في الطبقات الأعلى، وما بينهما يكون التدرج، ولكن المشكلة الكبيرة أنهّم وجدوا في العصر الكامبري كائناتٍ ناضجةً وضخمةً مع أنّها مسبوقةٌ بطبقةٍ تشتمل على كائناتٍ بسيطةٍ ودقيقةٍ جدا، ووجدوها في بقع من الأرض متعددة لا في بقعة واحدة فحسب، فكيف حصل الانتقال من كائن وحيد الخلية إلى كائن ناضج كبير على حد كائنات هذا الزمان؟ وقد تحدث عن هذه الإشكالية بتفصيل كتاب (ايقونات التطور) فراجع. ومن علماء الأحياء الملاحدة من قبيل (ريتشارد دوكنز) قد اعترف صراحة بهذه المشكلة. وألّف عالم الأجنة السويدي (سورين لوفتروب) كتابًا بعنوان (الدارونية تفنيد الأسطورة)، وقد وصفها بأنّها (أكبر خدعة في تاريخ العلم)، وكتب عالم الأحياء المجهرية (ميشيل دانتون) كتابًا ينتقد فيه الدارونية بعنوان (التطورية في مأزق)، وكذلك عالم الأحياء (مايكل بيهي) أصدر كتابه ( صندوق دارون الأسود)، وما إلى ذلك.

ومن الطرائف أنّ بعض المتشدّدين التطوريين حاول تزييف الحقائق من أجل دعم الدارونية، وأكبر المخادعين في هذا الشأن هو الألماني الأحيائي (أرنست هيجل) الذي قام بتزييف صورة الأجنة وترتيبها بطريقةٍ معينةٍ، وقال: إنّها تدعم الدارونية، ومن ثم اعترف بهذا التزييف وقام بفضح غيره من المزوّرين.

وعلى هذا الاساس اعتقد جماعةٌ من أهل العلم والاختصاص بفرضيةٍ علميةٍ أخرى غير فرضية التطور في نشوء الحياة، وهي فرضية المصمم الذكي، وأدرجوها في بعض المناهج الدراسية في بعض ولايات أمريكا.
ومن هنا تعرف أنّ العلماء وإنْ كانوا على قسمين إزاء فرضية التطور وإنّ القسم الأكبر منهم على الاعتقاد بها إلّا إنّ أحدًا لم يبت بها، ويجعلها من صنف الحقائق على المستوى المدارس العلمية الرسمية.

هذا، وهناك عقبات أخرى تحول دون صحة فرضية التطور، نكتفي بما ذكرنا.
النقطة الرابعة: ممّا يشكّل عائقًا كبيرًا في منظومة التفكير الإلحادي، (المعيارية في الأخلاق والقانون)، وبداية وقبل بيان الإشكالية، لا بأس أنْ نبيّن ما الأخلاق؟ وما القانون؟
لقد وقع الاختلاف بين المدارس البشرية في تعريف ماهية الأخلاق والقانون، ومصدر كلٍّ منهما، ومساحة تطبيقهما، والغاية المترقبة من كليهما، وبأيّ شيءٍ يتحدّد الجزاء على مخالفتهما، ويمكن مراجعة كتب القانون ذات العلاقة بمبحثنا من قبيل (فكرة القانون) للدكتور (دينيس لويد)، وهو قانوني بريطاني معروف، وهذا الكتاب هو من ضمن سلسلة (عالم المعرفة).

وعلى كلّ حال، هناك فوارق على مستوى التعريف والدلالة، وفوارق على مستوى المنابع والمصادر لكلٍّ منهما. وفوارق على مستوى التطبيق والمساحة التي لا بدّ فيها من الامتثال والطاعة، وهكذا.

وبصورةٍ عامة، ومن دون التركيز على التدقيق الاصطلاحي، ومن أجل أنْ نفهم ما نهدف إليه، نقول: إنّالأخلاقالمنظورة في هذا المقالهي الصفات المثالية ومضاداتها، ومصدرها فطرة الإنسان، وتهدف إلى وضع الفرد وفق النموذج المثالي، وهي من قبيل، العدل والظلم، والصدق والكذب، ونحوهما من هذه الصفات، ممّا يستشعره الإنسان في دخيلته، حيث مصدرها الطبيعة الإنسانية، فإنّ الإنسان من طبييعته يحكم على هذا الفعل المعين أنّه حسن أو قبيح، ولا يحتاج هذا إلى جعل بشري أو تنبيه ديني، وهذا هو المعروف عند (الفرقة الاثني عشرية) من أنّ قضايا الحسن والقبح لم تجعل من قبل جاعلٍ، ولم تُعتبر من قبل مُعتبِر، وإنّما يدركها العقل من عنديات نفسه.
وعليه، فإنّ مصدر هذه الصفات الأخلاقية ضمير الإنسان وحسه السليم الذي يفرض الحكم على هذه الصفات، من غير فرقٍ بين إنسانٍ وإنسان، سواء كان يعيش في مجتمع متحضّرٍ أم متخلّفٍ، فإنّ كل إنسانٍ يعترف بأنّ العدل حسن والظلم قبيح.

وأمّا المراد من القانون فهي بنودٌ مصدرها بعض سلطات الدولة وليس الضمير الإنساني، كالسلطة التشريعية المسؤولة عن ذلك، ويختلف هدفها عن الأخلاق حيث لا تهدف إلى صنع أنسانٍ مثالي، بل هدفها تنظيم المجتمع والحدّ من الاعتداءات والمشاكل المجتمعية، بنحوٍ تضع جزاءً لكلّ مخالفة، غرامةً ماليةً أو عقوبةً بدنيةً أو حبسًا أو ما شابه حسب اختلاف القوانين بين الدول، فتكفل هذه القوانين للإنسان حياةً مستقرةً وآمنة.

وذكر فقهاء القانون أنّ البنود القانونية وإنْ كانت موضوعاتٍ بشريةً إلّا إنّ مصدرها الأم العنصر الأخلاقي نفسه، ذلك أنّه من الحسن أنْ يكون هناك تنظيم في الجماعة البشرية التي تمتاز عن أنواع الكائنات الحية الأخرى، بميزاتٍ تخصّهم وتخرجهم من النظام الأحيائي الغابِيّ.
ثم، إنّ القوانين التي تنظم حياة الإنسان إنّما تتأتى بدافعٍ من الضمير الإنساني، وإلّا لو كان المجتمع البشري متحرّرًا من قوانين مفروضة، غير مقيّدٍ بأيّ قيدٍ لإرادته وسلوكه لعمّ الخراب وأكل بعضه بعضًا، ولأصبحت الحياة الغابِيّة هي السائدة. ومن هنا فلابدّ من قانونٍ مفروضٍ على المستوى التشريعي، ولابدّ من إرادةٍ نافذةٍ على المستوى التنفيذي حتى يحدّ الإنسان من الاعتداء على النوع الإنساني.

إنّ القانون والأخلاق يشتركان في بعض البنود، من قبيل (التجسس الدولي) فهي صفةٌ ذميمةٌ في علمالأخلاق، وجريمةٌفي علم القانون، وكذلك القتل بلا مبررٍ فهو قبيحٌ جدُّا في علمالأخلاق، ويعد جريمةً كبيرةً في علم القانون.
وهناك أمورٌ تُعدّ من القبائح الأخلاقية إلّا إنّها ليست جريمةً قانونيًا مثل الكذب الشخصي، كمن يُحدّث مجموعةً من الناس كذبًا عن نفسه وبأنّه فعل كذا وكذا، فهذا قبيحٌ أخلاقيًا، ولكنه لم يرتكب جريمةً قانونيًا، وهكذا مثل بعض مصاديق الغيبة فإنّها تُعدّ من الناحية الأخلاقية والدينية قبييحةً إلّا إنّها غير مُجرَّمةٍ قانونيًا.

وهناك موارد ليس فيها حزازةٌ أخلاقيةٌ بل قد تُعدّ حسنةً أخلاقيًا، ولكنّها مخالفةٌ للقانون، فهنا يفترق القانون عن الأخلاق من قبيل الأفعال غير القانونية إلّا إنّها بحدّ ذاتها تُعدّ أفعالًا أخلاقيةً نشأت من منطلق الرحمة مثلًا، وهذا مثل شخص أراد أنْينقذ حياة إنسانٍ غريقٍ ولا يمكنه ذلك إلّا إذا استعان (بنجّادة) شخصٍ آخر لا يوافق على إعارتها إليه، وقد أخذها منه من دون إجازةٍ، فهنا قد فعل فعلًا أخلاقيًا إلّا إنّه قد ارتكب مخالفةً قانونيةً بتعديه على ملك الآخرين، وقد يُجرّم ويعاقب عليه في بعض القوانين.
إذًا، القانون والأخلاق قد يشتركان في بعض البنود، ويفترق كلٌّ منهما عن الآخر ببنودٍ أخرى. نعم، الأخلاق والقانون يتسمان بطابعٍ واحد، هو الذي يهمنا في هذه الأبحاث، وهي أنّ كلًّا منهما ممّا ينبغي فعله إذا كان جيدًا، وممّا ينبغي تركه إنْ كان سيئًا، فكلاهما يهتمان بالسلوك الإنساني، وهذا السلوك لم يتحقّق فعلًا، ولكنهما يحثّان على تحقّقه أو تركه، وهو بخلاف العلوم التجريبة فإنّها تحقّق وتختبر شيئًا موجودًا ناجزًا فعليًّا، كالتفاعلات الكيميائية أو رصد الظواهر الكونية أو ما شاكل.

وهنا نتساءل: هل يمكن للعلوم التجريبية أنْ تحقّق في المسائل الأخلاقية والقانونية أو لايمكنها ذلك بدعوى أنّ المسائل الأخلاقية والقانونية خارجةٌ عن مساحة التحقيق التجريبي؟ أو قل: هل تنطبق خطوات المنهج العلمي من الملاحظة والفرضية والاختبار، على الصفات المثالية الأخلاقية والبنود القانونية؟ ومن الطبيعي أنْ يكون الجواب أنّها لا تنطبق، وهذا رأي قد أجمع عليه العلماء والفلاسفة والاتجاهات من دون شاذٍّ في البين، والسبب في ذلك أنّ الأمور الأخلاقية ليست شيئًا موجودًا في الخارج ناجزًا متحقّقًا، بل هي دعوةٌ وتوجيهٌ للفعل الإنساني بأنْ يكون بهذا النحو ولا يكون بذلك النحو، فلا تخضع للملاحظة؛ لأنّها أساسًا غير موجودةٍ حتى تلاحظ، فلا معنى بعد ذلك للفرضية والاختبار. وهكذا الأمر في الأمور القانونية.

ومن هنا وقعت المدارس المادية عمومًا، والملاحدة على وجه الخصوص في مأزق؛ ذلك أنّه إذا كان المعتمد معرفيًا هو (الحس)، والمنظور منطقيًا هو (الاستقراء)، فبأيّ معيارٍ يتم تحقيق المسائل الأخلاقية؟ فهل يمكن لهم أنْ يجيبوا على هذا السؤال وفقًا للمرتكزات المعتقد بها عندهم، من معرفيةٍ ومنطقيةٍ وتجريبية؟ سوف ترى أنّهم عاجزون تمامًا عن الإجابة؛ وذلك لأنّ هذا السؤال منهجيًا خارج مساحة دائرة مرتكزاتهم المشار إليها سابقًا؛ ممّا شكّل عقبةً كبيرةً لهؤلاء، إذ إنّ جميع مرتكزاتهم قائمةٌ على أساس المرتكز المعرفي عندهم وهو الحس، مع أنّ المسائل الأخلاقية والقانونية ليست أمورًا حسية، وبالتالي فلا يمكن للملحد أنْ يجيب على هذا السؤال، لعدم امتلاكه الادوات المنهجية المناسبة له.
وهنا يأتي دور الإشكالية، ونطرحها بشكلٍ عامّ بما يأتي، وهي أنْ نطالب هؤلاء بمعيارٍ واضحٍ نحدّد على أساسه أنّ هذا الفعل حسن وذاك قبيح. وكذا القانون الذي يهيمن على السلوك البشري من أعلى المستويات إلى أدناها، فحتى في الأسرة والقبيلة والعلاقات الاجتماعية ونحو ذلك هناك مفروضاتٌ قانونية. فما هو الملزم للالتزام بالقانون؟ ولمإذا يجب أنْ التزم بما تفرضه القوانين؟

هناك محاولاتٌ طُرحت من قبل الملاحدة وغيرهم للتخلّص من هذه الإشكالية. إلّا إنّه يجب أنْ تعلم أنّ كلّ المحاولات المطروحة إنّما هي بعد تجاوز الإشكال المعرفي الذي أشرنا إليه قبل قليل، فإنّه إشكالٌ مُحْكمٌ وثابت. ومن هذه المحاولات ما طرحه الفيلسوف الانكليزي (برتراند رسل)، وتسمّى بنظرية الخوف، وهو يعترف أنّ الصفات الأخلاقية وكذا البنود القانونية لا يوجد لها معيارٌ على وفق المنظور الحسي التجريبي. وإنّما عالج الإشكالية على أساس منظورٍ آخر، وهو أنّ الإنسان إذا ما رفض الأخلاق والقوانين فإنّه سوف يخسر الشيء الكثير، ويكون أكثر الناس أذيةً، بعد ملاحظة أنّ هذه عاقبة من لا يعترف بالقانون؛ ولذا تسمّى هذه النظرية بالنظرية العواقبية، وتتلخّص فلسفته في الجانب الأخلاقي بعبارةٍ مشهورة تنقل عنه، وهي: ( لو أجزتُ سرقةَ بقرة جاري، فإنّه سوف أجيزُ للمجتمع كلّه سرقة بقرتي)، فأنا الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، وهكذا إذا أجزت لنفسي الخداع والكذب والقتل ونحو ذلك، وعليه فيتوجب العمل بالأخلاق والقانون حتى يحفظ الفرد نفسه ويأمن شر غيره. إذًا الخوف من سرقة المجتمع وكذبه وقتله إيّاي وغير ذلك يدفعني إلى أنْ ألتزم بالأخلاق.

وهذه النظرية لم تحظَ بقولٍ حسنٍ حتى بين الملاحدة، وقد أُخذ عليها مؤاخذات كثيرة، من أهمها: أنّها تسمح للقوي أنْ يستغل الضعيف مادام هو في مأمنٍ منه؛ لأنّه لا يخشى منه شيئًا، ممّا يعني أنّه لا أخلاقية في العلاقات عمومًادولية أو اجتماعيةبين القوي والضعيف. نعم، الضعيف لأنّه يخشى الضرر من القوي يحاول أنْ ينشر الأخلاق حتى لا يلاقي الضرر من الأقوياء، فتكون الأخلاق من ذرائع الضعفاء. ومن هنا اُستشكل على هذه النظرية بما فعلته الولايات المتحدة في اليابان من إطلاق القنبلة الذرية، فإنّه لا يعدّ هذا الفعل على وفق النظرية المذكورة فعلًا قبيحًا؛ لإنّ الولايات المتحدة لم تكن تخشى أصلًا ضررًا من اليابان، ومادام الأمر كذلك فلا ينعت فعلها هذا بالقبيح، وإذا قدر أنّ طرفاً يتوسّل بالأخلاق فإنّما هي اليابان التي لم تكن بحالٍ تحسد عليه؛ لأنّ العلاقة كانت هي علاقة القوي مع الضعيف، علاقة المتضرر مع الطرف الذي هو في مأمن منه.

وهكذا كلّ أفعال الظالمين الأقوياء المتسلطين على شعوبهم، سوف لا تكون قبيحةً حسب هذا المعيار الزائف، فإنّ هؤلاء الظالمين في مأمنٍ من أذية شعوبهم، بل كلّ فعلٍ سيء يصدر من القوي تجاه الضعيف لا يندرج في حقل الأفعال القبيحة.
ومن النظريات التي طُرحت في إبداء المعيار الأخلاقي والقانوني النظرية النفعية البرجماتية التي تفيد أنّ الشيء إنّما يكون أخلاقيًا لشخصٍ فيما إذا كان يعود بالمنفعة له، وغيرأخلاقي إذا ما جلب ضررًا وخسرانًا. وبعبارةٍ أخرى: إنّ الحسن هو الذي فيه مصلحةٌ شخصية، والقبيح هو ما كانت فيه مفسدةٌ شخصية، فمثلًا إنّ الكذب في المعاملات التجارية ما دام يدرّ ربحًا فهو حسن، وإذا كان الصدق يسبب خسرانًا فهو قبيح، فإنّ الميزان ليس سوى النفعية وعدمها.

وبعضهم طرح النظرية النفعية بنحوٍ آخر، مفاده: أنّ المعيار على أساس السعادة الشخصية والألم الشخصي بغضّ النظر عن وجود المصلحة وعدمها. والصحيح أنْ تكون هذه نظريةً أخرى مختلفةً عن النظرية النفعية.

وما تزال النظرية النفعية هي المشهورة بين الإلحاد، وبعض الاتجاهات الفلسفية الأخرى، وإنّ الأخلاق تدور مدار المصالح والمفاسد الشخصيتين.
وهذه النظرية مع مصادمتها للواقع الذي يعيشه الإنسان في داخله، فإنّها أيضًا تجيز للإنسان القوي الذي مصلحته في قتل الإنسان الآخر أنْ يقتل ما شاء من البشر ويكون فعله حسنًا مادام فيه مصلحةٌ شخصية، وتجيز للظالم أنْ يقتل ويسفك ويهتك ويفعل ما يشاء إذا ما كانت هذه الأفعال سببًا في استقرار حكمه.

ولازم هذا انهيار النظام الأخلاقي والقانوني على حدّ ما ذكرناه في النظرية السابقة، غايته أنّ تلك النظرية كانت تجيز الأفعال القبيحة من منطلق الخوف والعواقبية، وهذه تجيزها من منطلق النفعية والمصلحة الشخصية.
وهكذا في نظرية السعادة والألم؛ لأنّ الحسن والقبح سوف يدور مدار الألم والسعادة الفردية لفلان من الناس، فقد تكون السعادة بسفك الدماء كما شاهدنا هذا في بلداننا وسمعناه في بلدان أخرى، حيث يتشفّى ببعض الناس ويشعر بالسعادة تجاه ما يشاهده من الألم.

والنتيجة: إنّ هناك مأزقًا وقع فيه الملحد إزاء إعطاء معيارٍ أخلاقيّ واضح، ممّا حدا ببعض الاتجاهات الإلحادية أنْ ينكروا قيمة الأخلاق والقوانين في المجتمع البشري، ويلتزموا بالعبثية كما في الفلسفة الوجودية، فقد ذهبت بعض المذاهب إلى أنّ القيمة الأخلاقية تلازم وجود الإله، وحيث إنّ الله غير موجودٍ فلا معنى للأخلاق والقيم والقانون، وستكون الأخلاق عبارةً عن لغوٍ وعبث، وهذا هوالصحيح وإلّا فما هو الشيء الذي يلزمني بالفعل الأخلاقي والقانوني؟ ولمإذا أضحي بملذاتي وحياتي؟ّ وبالتالي سوف يكون الفرد المعتقد باعتقادات كهذه عنصرًا خطيرًا في المجتمع.

ومن هنا فنحن نعتقد أنّ مضادات الأخلاق والقيم أمورٌ:
منها: أنْ تعتقد أنّ الإنسان مجبورٌ على أفعاله، كما ذهب إلى هذه النظرية من الملاحدة الماركسيةعلى تفسيرٍ للجبر التاريخيومن الفرق الدينية بعض الاتجاهات العقائدية الخاطئة كالأشاعرة ممّن يؤمنون بفكرة الجبر.

ومنها: أنّ الربوبية التي تعتقد بوجود الله تعالى هي تعتقد أيضًا بأنّ الله لا يتدخل بشؤون البشر، وعلى هذا الأساس فلا تكون هناك قيمةٌ للأخلاق والقانون.

ومنها: إنكار الوجود الإلهي من باب أنّ (من أمن العقاب أساء الأدب)؛ فإنّه إذا لم تعتقد بوجود الله تعالى فلا معنى للالتزام بكلّ مقيّدٍ للحرية الإنسانية، وسوف تتنتصر العبثية على الهدفية، والفوضى على النظام.
إنّ من الآثار المترتبة على إنكار المعيار الأخلاقي انهيار المنظومة الأخلاقية بكاملها فتتساوى الفضيلة والرذيلة، والحسن والقبح. وهكذا. وسيباح للشخص أنْ يفعل ما يشاء من خبائث الأفعال، وهذا مرفوضٌ بالحسّ العام البشري؛ ولأنه كذلك يحاول هؤلاء الملاحدة أنْ يصطنعوا معايير معينةً بغية الحفاظ ولو بقدرٍ ما على شكل النظام العام من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى إظهار إيديولوجيتهم بوجه لطيف أمام الأتباع والخصوم.

ومع ذلك هناك دعوات من الملاحدة ومن أشباههم في هتك القانون الفطري والطبيعي في الإنسان من قبيل الدعوة للمثلية، أو الارتباط بالمحارم، أو نحو ذلك، وهذا ينسجم مع إنكار المعيار الأخلاقي؛ ولذا فإنّ (لورانس كراوس) عندما سُئل عن زنا المحارم قال: أنا لا أجد فيه بأسًا. وقد جوبه كلامه بالرفض من قبل عوام الملاحدة، وإلّا فإنّ كلامه ليس خاطئًا على وفق المعيار الأخلاقي المطروح عندهم.

وقفةٌ مع بعض الملاحدة
ولا بأس الآن أنْ نعطف المقال في استعراض ومناقشة بعض نصوص زعماء الإلحاد، لكي لا يخلو البحث من استشهاداتٍ نصوصيةٍ لأفكار الخصم، وليعرف الباحث مدى المستوى الفكري لهؤلاء. ولأنّه لا يمكن استيعاب جميع النصوص المعبّرة عن أفكارهم؛ نقتصر على بعضٍ منها.

أولاً: التطور الكوني
النموذج الأول: نموذج التطور الكوني، وهو عبارةٌ عن فرضيةٍ طرحها الملحد (ريتشارد دوكنز) في بعض كتبه ومرئياته، ونسبها إلى (ستيفن هوكنج) الفيزيائي المعروف. وقد عبّر عنه (دوكنز) بـ (التطور الداروني الكوني).

وقبل بيان هذا النموذج يحسن بنا أنْ نفرق بين أمرين: الوجود البيولوجي (الحي)، والوجود الكوني (الفيزيائي). فالأول يقبل التكيّف والتغير والنمو والتكاثر بنحوٍ عام، وله إحساس في الأغلب. أما الثاني فهو وجود جمادي متمثّل بعناصره الطبيعية الكيميائية بما تشتمل على ذراتٍ وبنيةٍ فيزيائيةٍ خاصّة؛ ولهذا هو لا يقبل التكيف والنمو والتكاثر.
وهذا يعني أنّ الموجودات البيولوجية الحية لها خصائص مختلفة عن الموجودات الكونية، على اختلاف في المعيار المحدد للكائن الحي سواء بين علماء الحياة أم الفلاسفة، ولا يهمنا البحث فيه، وإنّما غاية ما نريد معرفة الفارق العام بين هذين النوعين من الموجودات.
وهنا برزت إشكاليتان؛ الأولى: في تطوّر المادة الكونية إلى مادةٍ بيولوجية، وهذه الإشكالية هي التي تطرقنا إليها سابقًا، وكانت تمثّل إحدى نقاط الإحراج للملاحدة.

الثانية: وهي أنّه بداية الانفجار العظيم حسب ما يقرّره العلماء المختصّون في هذا الجانب كانت نقطة صغيرةً جدّا تختزل هذا الكون بأكمله، وقد انفجرت وامتدت متوسعةً ولا تزال منذ 13.7 مليون سنة، وحتى هذه اللحظة التي نتحدث فيها. فالمجرات والطاقات المنتشرتان في هذا المتسع العظيم كله، كان في أوّل الزمان المشار إليه آنفًا مُختزَلًا في تلك النقطة المفردة ( البيضة الكونية).

وهنا واجه الملحد إشكاليةً في كيفية حصول هذا النظم الدقيق الملفت مع ما فيه من قوانين صارمةٍ ودقيقةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ مع نظامٍ خاصٍّ في التصميم الذري وما فوقه وما دونه، وقد كُتبت كتبٌ ومدوناتٌ علميةٌ مختصّةٌ في هذا الشأن، أي كيفية مجيء ذلك كله من تلك النقطة الصغيرة.
وهذه الإشكالية هي محطّ اهتمامنا الآن، أعني في كيفية حصول (الأنظمة المعقدة المفصلة)، من (البساطة والاختزال). وقد حاول الجواب عن هذه الإشكالية العصية بعضهم، والتي أيضًا تُعدّ من نقاط الإحراج عند الملاحدة، حتى أنّ (بول ديفيز) الذي كان من كبار الإلحاد قد انصرف عن الإلحاد بسببها، أو كانت هي أحد الأسباب الرئيسة لذلك، ودوّن في كتابه (الله والفيزياء الحديثة)، و(التدبير الإلهي)، و(الجائزة الكونية الكبرى) بأنّ هذا الكون قد صُمّم من أجلنا، وعقد عنوانًا خاصًّا ومناسبًا لذلك، أوضح فيه أنّ هناك يدًا هي المسؤولة عن هذا التصميم.

وهنا جاء (دوكنز) قائلًا وناسبًا هذا الطرح لـ(ستيفن هوكنج) بأنّ التطوّر الكوني الذي حصل إنّما هو على غرار التطور البيولوجي الداروني، فكما أنّ هناك تطورًا على المستوى الاحيائي من الكائن الأبسط قبل كذا مليار سنة إلى الكائن الأعقد، فكذلك هناك تطورٌ كونيٌّ من النقطة المفردة إلى هذا الذي نشهده ونلاحظه أمامنا. وأنا شخصيًا لم أعلم له موافقًا على هذا الذي يذكره، كما أنّي اطلعت على كثيرٍ من تراث (ستيفن هوكنج)، وشاهدت كثيرًا من مرئياته، فلم ألحظ هذه الفكرة المنسوبة اليه.

وقبل الاستطراد في بيان ومناقشة الموضوع علينا أنْ نتذكر ما طرحناه سابقًا في موضوع (السمات الإعلامية) من كون الملحد كثيرًا ما يُروّج لإلحاده من خلال استخدام الإسقاطات المفاهيمية، حيث يلبس المروّج (شيئًا معينًا) مفهومًا من المفاهيم، إما للترويج له أو عليه، كمن يُلبس الدين لباس الرجعية والتخلّف، أو يصب مفاهيم الحضارة والتمدّن على الملابس الفاضحة لا سيّما في النساء؛ ولأن الإعلام من طبيعته التأثير على السواد من الناس تجد أنّ المتدينين يقفون موقف الدفاع وصد التأثير الاعلامي بدل أنْ يكشفوا أنّ هذه أساليب رخيصةٌ، وغير موضوعية، بل بعض المتدينين يحاول أنْ يغيّر من أفكار الدين خجلًا من عدم مواكبة الحضارة الحديثة!! فيتنازلون عمّا هو ديني من أجل إرضاء الطرف الآخر الذي هو – أساسًالا يرضى عنه إلّا أنْ يتخلّى عن كامل معتقده.
كذلك من الإسقاطات المفاهيمية تقديم فكرٍ معينٍ على أنّه فكر إرهابي. ومنها تلبيس الانحلال الأخلاقي والإباحية المطلقة لباس الحرية، إلى آخره.

والآن نرجع إلى (دوكنز) الذي كثيرًا ما يستخدم الخطاب الإعلامي على حساب توظيف الخطاب العلمي، إذ أراد أنْ يسقط مفهوم الدارونية والتطورية على التوسّع والتعقيد الكوني، لكي يتخيل البعض بسبب هذا الإسقاط المفاهيمي أنّ هناك تطورًا كونيًا على حدّ ما هو حاصل في الكائنات الحية. والحقيقة التي يسلم بها علماء الفيزياء قاطبة، أنّ الكون مغلقٌ لا يُستحدث فيه شيءٌ جديدٌ ولو مثقال ذرة، ولا ينعدم منه شيء ولو مثقال ذرة، فالموجود منذ بداية الانفجار العظيم ما يزال هو في نفسه على المستوى البنيوي الفيزيائي، فالموجود الآن يساوي 100% ما هو موجود في النقطة المفردة.

وعندما يقول دوكنز: إنّ هناك تطوّرًا، فهذا يعني أنّه حصل انتقالٌ من الأبسط إلى الأعقد مع أنّ الكون لم يزدْ ولم ينقص كما علمت، وهذا بخلاف التطوّر الأحيائي على تقدير التسليم به فإنّه يكون بحصول الزيادة الكمية والمادية في الكائن المتطوّر إذا ما قايسناه بسلفه السابق أو الأول، فأين الحوت الأزرق من الكائنات الدقيقة المجهرية؟! ومن الواضح أنّ هذا لا يتأتى في الموجود الكوني الطبيعي.
ويبدو أنّ (دوكنز) بعد أنْ شعر بإحراجٍ إزاء التعقيد الفيزيائي حاول جاهدًا أنْ يفسّر ذلك بالطريقة التي فسّر بها (دارون) التطوّر الاحيائي، فقال: « على الرغم من أنّ نظرية الانتخاب الطبيعي محصورةٌ بتفسير العالم الحي فإنّ باستطاعتها أنْ ترفع مستوى الوعي والإدراك والقابلية للمقارنة عندنا، ممّا يساعد على فهم الكون نفسه»[5]، فكأن التطور الاحيائي يثير الذهن البشري لعلاج مشكلة التعقيد الكوني.

ومن الواضح كما نبهنا على الفارق بين الوجودين البيولوجي والفيزيائي، وقلنا: إنّ الأوّل وجود يتكيف، ينمو، يتكاثر، وما إلى ذلك من خصائص الحياة، بخلاف الوجود الفيزيائي فلا يمكن فيه التكيّف وخصائص الحياة. فهذا من الخلط المنهجي للفارق المحوري بين موجودٍ قابلٍ للتطوّر وآخر لا يمكن فيه ذلك، فإنْ كان هناك قانونٌ يجري على المستوى الأحيائي لا يعني أنّه يجري على المستوى الكوني، فيجب ألّا يحصل الخلط بين الأمرين. والغريب أنّه يصدر هذه الخزعبلات على أنّها رأي العلم وهي بالإضافة إلى خروجها من اختصاصه، لا تمثّل سوى رأيه الشخصي.

ثم لا يوجد عندنا مقولةٌ منطقيةٌ أو علميةُ تفيد أنّ أمرًا إذا كان جاريًا في موضوع فإنّه يبعث رسالةً إلى إمكان تطبيقه في موضوعٍ آخر، إذ ليس من الصواب أنْ نتعامل مع الموضوعات المتباينة بالطريقة نفسها وبنظرٍ واحد، وإنّما ذلك يتبع التحرّي والوقوف على الخصائص في كلٍّ منهما. وكذلك أنّه استخدم إسقاطًا مفهوميًّا للتغرير وإقناع المتلقي الساذج، وذلك بتلبيس مفهوم التطوّرية للتعقيد الكوني، لا سيّما أنّه يتحدّث بلسان العلم والعلماء.
هذا، ونعلم من الطرح الذي يبديه (دوكنز) أنّه يعتقد ضمنا أنّ النظام الكوني ذو تصميمٍ دقيقٍ ومعقّدٍ ورائع، وإلّا ما كان ليطرح هذا الطرح الزائف، وأنّ هناك سيرًا من الأبسط إلى الأعقد، وبما أنّ تطبيق (دوكنز) كان خاطئًا فهو مطالبٌ في الحقيقة بتفسيرٍ واضحٍ للمشهد الكوني المعقّد والدقيق؛ ولهذا فهو يقول: « يحتمل أنّ الخلية الأولى كانت على أغلب الظن غير مشتملةٍ على الـ (دي أن أي)، بل على موروثاتٍ هي أبسط بكثيرٍ منه، وذلك أنّ الـ (دي أن أي) تقنيةٌ وراثيةٌ متطوّرة. وحينما سُئل (دوكينز) عن كيفية نشوء الحياة واحتمال وجود المصمّم الذكي، قال: «من المحتمل أنّه في وقتٍ سابقٍ في مكانٍ ما تطوّرت حضارة، في الغالب بوساطة بعض الطرق الداروينية إلى مستوى عالٍ جدًّا من التقنية، وصمّموا شكلًا من أشكال الحياة وربّما بذروه في كوكبنا إلّا أنّ هذه إمكانية... إمكانية مثيرة، وأنا أفترض بأنّ من المحتمل أنّ نجد دليلًا عليها. إذا نظرت في تفاصيل الكيمياء الحيوية وعلم الأحياء الجزيئي فقد تجد توقيع مصممٍ ما، وأنّ المصمم قد يكون مخلوقاتٍ أكثر ذكاء ًمنا في مكانٍ آخر في الكون». وكما يلاحظ مدى اعتقاد الرجل بدقة النظام الكوني، وأنّه ممّا يحتاج إلى يدٍ ذكيةٍ، وتملصه من ذلك باختراع فكرة الكائنات الفضائية!!

ثانياً: نفي البديهات
النموذج الثاني: نموذج نفي البديهات، والبديهات هي الأصول والمبادئ للفكر البشري، فإنّ الإنسان عندما يفكر في قضيةٍ ما، فإنّما يفكّر بها من خلال بعض القضايا وهذه القضايا مثلًا قد ثبتت في رتبةٍ سابقةٍ عبر قضايا أخرى، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى قضايا لا تحتاج إلى استدلالٍ وإثباتٍ، بل هي ثابتةٌ بذاتها مسيطرةٌ في نفسها على القناعة البشرية، فارضةٌ أمرها بكلّ وضوحٍ وقوة، وهي التي تسمّى بالبديهيات من قبيل (إنّ الشيء الموجود لا يخرج من العدم)، و(إنّ كون الشيء ثابتًا لا يجتمع في آنٍ واحدٍ مع كونه منفيًا)، و(إنّ الشيء لا يحمل إلّا طبيعةً وحقيقةً واحدةً) كزيدٍ من الناس لا يكون إلّا إنسانًا، ولا يصحّ في الوقت نفسه أنْ يفرض فرسًا أو ما شاكله. إنّ إنكار تلك البديهيات يلازمه سقوط جميع أفكارنا عن الاعتبار، إذ لا تستند عندئذٍ إلى وجهٍ إثباتيّ صحيح.

ثم هناك ما هو أعمق من البديهيات وأشدّ تجذرًا في الفكر البشري، وهي التي يمكن أنْ نعبّر عنها بـ(أصول الإدراك البشري)، من قبيل أنْ يكون هناك واقعٌ تُقاس عليه الأفكار فتكون صادقةً إذا ما طابقته، وكاذبةً إذا لم تطابقه، ونسميه بـ(مبدأ الواقع)، ولا يسع أحدٌ أنْ ينكر هذا المبدأ، بل لا يمكنه أنْ ينكره؛ لأنّ إنكاره هذا إمّا أنْ يكون إنكارًا صائبًا وصادقًا وهذا يعني أنّه يطابق الواقع، أو لا يكون كذلك فلا يطابق الواقع.
والآن نقول: قد شكّك بعض مثل (لورانس كراوس) بهذه المبادئ وكذا البديهيات، واستندوا في شكّهم إلى بعض المغالطات، كما حدث ذلك في العصور اليونانية القديمة وفي أوروبا الحديثة بما يعرف بالشكّاكين، بزعم أنّ الحس يُخطئ، والعقل يُخطئ؛ فلا وثوق بهما. وأجيب عن هذه الخزعبلات بأنّ مجرد كون المصدر المعرفي لا يصيب أحيانًا لا يعني سقوطه عن الاعتبار بالإضافة إلى أنّ التشكيك في كلّ شيءٍ أمرٌ غير معقول البتة، وإلّا فهؤلاء يتعقدون بأفكارهم ويدافعون عنها ضد المدرسة الواقعية.

وأمّا بالنسبة إلى الملاحدة المحدَثين فقد استندوا في شكّهم إلى فهمٍ مغلوطٍ لبعض القضايا فقالوا: إنّ البديهياتمثلًاإنّما تنطبق على الكون فوق الذري، وهو الكون المشاهد لنا، ولا يمكن أنْ تصح في الكون تحت الذري (الكوانتم)، وهذا لازمه ألّا تنطبق هذه البديهيات في بداية الانفجار العظيم على النقطة المفردة. والذي دعاهم إلى هذا الطرح أنّ في الفيزياء الكوانتمية قد تخترق بعض البديهيات مثل بديهة أنّ كلّ موجودٍ فهو متشخّصٌ بنفسه، بمعنى أنّ هذا الجهاز الذي أمامي له وجودٌ واحدٌ شاخص فيه، لا أنّ له وجودًا هنا ووجودًا هناك ووجودًا ثالثًا، وهكذا. بل ليس إلّا الوجود المتعيّن به، وهذا من الأمور الواضحة البديهية. وأيضًا من قبيل أنّ الجسم إذا انتقل بين نقطتين فلا بدّ أنْ يمر بوسطٍ ينتقل فيه، لا أنّ الانتقال يحصل بشكلٍ دفعي من المكان (ألف) إلى المكان (باء) من دون أنْ يمر بالوسط بينهما. إلى غير ذلك من البديهيات. يقول هؤلاء: إنّ في الفيزياء الكوانتمية وجدنا أنّ الإلكترونات والتي هي أجزاء من الذرة تارةً تكون جسيمات وأخرى موجات، وهذا يعني أنّ لها طبيعتين جسيمية وموجية، مع أنّ البديهيات فوق الذرية تقرّر استحالة ثبوت طبيعتين على موجودٍ واحد، وكذا الحال أنّ الموجية تتنافى مع التشخّص والتعين الثابت للجسيم بخلاف الطبيعة الجسيمية، وعلى هذا التقدير الموجي سوف تنتفي فكرة التعيّن والتشخص.
وهذا الكلام لم يلتزم به علماء الفيزياء، فإنّ كون الجسيم كالالكترون تارةً يكون موجةً وأخرى يكون جسيمًا ليس في آنٍ واحدٍ، ومع وحدة الظروف، بل مع اختلافها وتعدّد الشرائط، وهذا أمرٌ مُسلَّمٌ به عندالإلهيين أيضًا، وقد أكد هذا المعنى الرياضي والفيزيائي (روجر بنروز)[6]. كما أنّ السلوك الموجي لا يعني بحال المساوقة مع عدم التشخص، بل هو متشخّصٌ في ما يسلكه من سلوكٍ موجيّ محدّد.

وكذلك قد أدعي أنّ الإلكترون ينتقل لحظيًا بين مكانين، ولا يمر بوسطٍ على حد الاجسام الكبيرة. وهذا ادّعاءٌ زائفٌ، ولم يقل علماء الفيزياء ذلك، أعني أنّهم لا يقولون: إنّ الجسيم انعدم، ومن ثم وجِدَ في مكانٍ آخر، ثم الحسّ غير قادرٍ على إدراك أنّ هذا قد انعدم، غايته أنّه قد اختفى، وظهر لا أنّه انعدم ووجد.

وأيضًا ممّا ذكروه مبدأ الارتياب لهايزنبرغ، وهو لا ينفي بديهية من البديهيات؛ لأنّ غاية ما يفيده هذا المبدأ عدم التحديد العلمي، لا عدم التحديد الواقعي.

ثالثاً: إشكالية الشر
إنّ الحديث عن إشكالية الشر هو الحديث عن مسألةٍ قد تبدو من نقاط الإحراج الموجَّهة إلى الإلهيين، وتُعدّ من النماذج العامة المطروحة في أكثر كتب الملاحدة، وتتلخص بأنّ الإلهي يعتقد أنّ الإله خيرٌ وكامل، وأنّه يتمتع بصفاتٍ فاضلةٍ وعاليةٍ، فكيف يتأتى منه الشرّ أو يرضى به في هذا العالم؟ّ

لم تكن إشكالية الشرّ وليدة هذا العصر؛ وإنّما طرحها الإلهيون منذ زمانٍ قديمٍ وأجابوا عنها، وقد عبّر عنها فئةٌ من الملاحدة بـ(معضلة الشرّ) أو بإشكالية الشرّ. ومعالجة الإلهيين لها تتمثّل بعدّة وجوهٍ منذ زمان الفسفة اليونانية والدورة الفلسفية الإسلامية والفلسفات الحاضرة الغربية، فتحصل منها أجوبةٌ متعدّدةٌ وكثيرة، وكلّ مشربٍ فكريّ كان له نمطٌ من الجواب. ومن الأجوبة المشهورة عليها الجواب المنقول عن إفلاطون وأرسطو وكذا أجوبة علماء الكلام الإسلامي. وسوف نتجاوز فعلًا ما طُرح من أجوبةٍ في التراثين الفلسفي – اليوناني والإسلامي والغربي الحديث – والكلامي، ونستعرض جوابًا آخر يعتمد على مقدماتٍ يعترف بها الملاحدة حميعًا، وهذه هي الخصوصية في جوابنا، فتكون هذه المقدّمات هي القاسم المشترك بيننا وبيهم ومحل الاتفاق الذي يقبله الطرفان. كما هي منهجيتنا في هذا المقال حيث نعتمد على المقدّمات المشتركة، ومن ثم نأتي نطرح الرؤية الصحيحة التي ينبغي أنْ تُتبع.
وبدايةً، نستعرض المقصود من الشرّ ونبيّن أقسامه، لنرى مدى معارضتها لخيرية الإله وكماله. نقسّم الشرّ إلى قسمين – وأنّ جميع الإشكاليات التي طرحوها ترجع إلى هذين القسمين:

الأول: الشر الأخلاقي: وهو الفعل الذي يتمثّل بالسلوك الإنساني، من حيث كونه مضرًا بالإنسان الآخر، أو الأشياء التي ينتفع منها البشر، من قبيل قتل الإنسان للإنسان الآخر من دون مقابلٍ أو مبرر، فهذا قد ارتكب شرًّا أخلاقيًا في سلوكه وتعديه على الآخرين، ومنه كلّ أذيةٍ يفعلها من سرقةٍ أو غشٍ أو غصبٍ، أو أيّ تعدٍّ من هذا القبيل. وجميع الحماقات البشرية التي من هذا القبيل تنتمي إلى الشرّ الأخلاقي، كالحروب والنزاعات وسلب الحقوق ومضايقة الشعوب.

الثاني: الشرّ الوجودي (الطبيعي): وهو الشرّ الذي يرتبط بالحوادث المضرّة بالإنسان، أو كلّ شيءٍ يعود بالنفع عليه، من قبيل ما يحدث من زلازل وفيضانات وحرائق طبيعية، ونحو ذلك، إذ يموت جمعٌ من أفراد الإنسان، وتتلف مزارعهم، وتهدم بيوتهم. فهذه تنتمي إلى الشرّ الوجودي الطبيعي.
إنّ الأمثلة التي يطرحها الملاحدة للشرور إنّما تنتمي إلى أحد هذين القسمين، والفارق بينهما يمكن أنْ نجمله بما يأتيعلى أنّ بعض الفوارق مترتبةٌ على بعضٍ آخر:

1 إنّ الشرّ الأخلاقي يرتبط بسلوك الإنسان، بمعنى أنّ الفعل الإنساني نفسه هو موضوع ومحور هذا القسم من الشرّ، وكذلك هو موضوع الخير، فيقال: إنّ هذا الفعل الصدار من زيدٍ هو فعل خيّرٍ أو شرير. أمّا موضوع الشر الوجودي هفو الحوادث أو الوجودات الطبيعية التي لا يتدخل الإنسان في حصولها، من قبيل الزلازل، فلأنّها تضرّ بالإنسان أو بممتلكاته يقال: إنّها شرورٌ وجوديةٌ تكوينية، وإلّا فمن دون أنْ تعود بمنفعةٍ أو مضرةٍ على الإنسان كأن تحدث في مناطق غير مأهولةٍ بالسكان فلايقال عنها: إنّها خيرٌ أو شر.
2 إنّ منشأ الشرّ الأخلاقي الإرادة والاختيار، فإنّه بإرادة الإنسان واختياره يسلك السلوك السيء، فيسرق ويكذب ويقتل ونحو ذلك، فليس الشرّ الأخلاقي ضرباً من الجبر السلوكي، ولا يدرأ عنه الجزاء القانوني في جميع القوانين الدولية، فما دام قد صدر منه الفعل بإرادته واختياره فهو مسؤولٌ عمّا يقع عليه من جزاء، في حين أنّ الشرّ الوجودي منشؤه قوانين عالم الطبيعة المتحكمة في سلوك المادة، فمثلا أنّ القانون في السوائل يميل إلى تساوي سطحه الأعلى، لا أنّه متفاوت الطبقات بنحو يكون في جانب طبقته أعلى منها في الجانب الآخر. كذلك الحجر إذا ما استند الى حجرٍ آخر فإنّه يبقى ثابتًا على هذه الحال ما دام لم يحصل فراغٌ بينه وبين غيره من الأحجار، كما في بناء الدور. وحصول ظاهرة الزلازل خاضعةٌ إلى هذه الفكرة ببساطة حيث يوجد تخلل في بعض طبقات الأرض لعدّة أسبابٍ فتتحرك الصفائح فتؤدّي إلى حركة القشرة الأرضية، وهذا يخضع إلى قانونٍ طبيعيّ عام، وليس منحصرًا بظاهرة الزلزلة، ولا يمكن ألّا تحدث مادامت شروط وقوعها متوفرةً بتمامها، وأيضًا إنّ الماء إذا ما ارتفعت درجة حرارته إلى درجة المئة في حالاتٍ معينة سوف يغلي حتمًا، ولا يمكن ألّا يغلي؛ لأنّ الأمر ليس اختياريًا قصديًا، ومثله أنّ النار إذا ما أصابت ثوبًا سوف تحرقه بمقتضى تلك القوانين المودعة فيها، إلى آخره من سلسلة العلاقات الطبيعية بعضها مع بعضها الآخر.
فإذا حصلت حرائق في بلدةٍ مثلًا فاحترق بعض الناس أو بعض حاجياتهم؛ فإنّ هذا الاحتراق إنّما يستند إلى تلك القوانين الصارمة؛ ولأنّ تلك القوانين أثرت على حياة الناس أو حاجاتهم يقال: إنّه قد حدث شرّ.

وخلاصة هذا الفارق، أنّ الشرّ الأخلاقي يستند إلى الإرادة والاختيار، أمّا الشرّ الوجودي يستند إلى القانون الطبيعي.
3 إنّ الشرّ الأخلاقي له قيمةٌ في نفسه، وذلك بملاحظة أنّ الفعل الإنساني عادةً ما يحمل هذه القيمة من حسنٍ أو قبح، وهذا بخلاف الأمر الوجودي التكويني فليس له قيمةٌ من هذا القبيل؛ لأنّ شريّته أو خيريته إنّما هي بلحاظ تأثيره على الإنسان، فالشرّ الوجودي ليس في حقيقته وصفًا للظاهرة نفسها بقدر ما هو وصف للظاهرة بلحاظ تأثيرها على الإنسان.
4 إنّ الشرّ الأخلاقي يخضع إلى معايير الحسن والقبح، بمعنى أنّ هناك معايير في الفعل الإنساني نحكم من خلالها على الفعل بأنّه حسن أو قبيح. أمّا بالنسبة إلى الشرّ الوجودي فلمّا كان لا يحمل قيمةً أخلاقيةً في نفسه فلا معنى لوجود معايير الحسن والقبح فيه، وإنْ كان يوصف بالخيرية والشرّية، فالأمطار في بعض المواسم الزراعية تؤذي بعض أنواع الزرع كالحنطة والشعير، مع أنّها تنفع محاصيل زراعية أخرى، فبلحاظ المحاصيل الأولى يقال عنها: إنّها شرٌّ ولا يقال عنها: إنّها قبيحة، وبلحاظ الثانية يقال: إنّها خير، ولا يقال: إنّها حسنة، وما ذلك إلّا لأنّ الحسن والقبح وصفان للسلوك والأفعال لا للظواهر والقوانين.

أضف إلى ذلك، أنّ الشر الأخلاقي تخضع أحكامه القيمية إلى جملةٍ من الموازنات، فليس دائمًا يكون الفعل حسنًا أو قبيحًا بنحوٍ مطلق. فمثلًا أنّ الكذب قبيحٌ والصدق حسن، ولكن إذا افترضنا أنّ الصدق يؤدّي إلى قبحٍ أشدّ كالقتل مثلً،ا فسوف يكون الصدق قبيحًا بملاحظة ما يستلزمه والكذب كذلك هو الحسن. وهذه الموازنات لا تتأتى في الظواهر والقوانين الطبيعية.

هذه أهم الفروق بين الشرّينِّ الأخلاقي والوجودي، وهناك فوارق أخرى سوف تتضح من خلال البحث.
والآن نشرع في بيان الجواب على إشكالية الشرّ، ونبدأ بالجواب الأوّل.

الجواب الأول
يبتني هذا الجواب على مقدّمتين، هما محل اعتراف الملاحدة قاطبة: الأولى: مصلحة الاختيار الإنساني.والثانية: مصلحة ثبات قوانين الطبيعة. هاتانِ مصلحتانِ لا يمكن التنازل عنهما بحال، ويوافقنا الملاحدة في ذلك، فافتراض أنّ يكون الإنسان مختارًا فيه مصلحةٌ عاليةٌ تميزه عن الآلات والجمادات، وهذه المصلحة هي التي تبرر توصيف الفعل الإنساني بجميع الأوصاف القيمية، بل الإنسان لا يكون كائنًا ذا خصوصياتٍ خاصّة ما لم يكن مختارًا وقاصدًا لأفعاله، وإلّا فسوف لا يفترق عن كلّ مادةٍ فيزيائيةٍ وموجود جمادي آلي، مع أنّ هذا مرفوضٌ بشريًا، إذ إنّ الأمر لو كان كذلك لما فرضت القوانين وأنشأت الدول والحكومات، ولانهارت معايير الحسن والقبح، والخيرية والشرية، ولمّا صحّ أصلًا الاعتراض على الشرّ الأخلاقي.

وكذا، إنّ ثبات القوانين في الطبيعة مبدأٌ عظيمٌ في كلٍّ من المنظومة الوجودية وحياة الإنسان، أي على المستوى التكويني والبيولوجي، فكما أنّ العنصر الكيميائي إذا تفاعل مع آخر ينتج قهرًا مركبًا جديدًا، فكذلك إذا تناول الإنسان عقارًا طبيًا فإنّ هذا الدواء سوف يتفاعل حتمًا مع بدنه، ويؤثّرعليه نحوًا من التأثير. وبكلمةٍ جامعة: إنّ قوانين الطبيعة هي قوانين صارمةٌ وحتميةٌ بالمعنى الذي أفدناه، ولا تتغير إلّا إذا تغيّرت بعض الشرائط والظروف. ولا يختلف الحال في جريان القانون بين الحالات الصغيرة كإناء الماء، والحالات الكبيرة كالفيضانات، بين احتراق الورقة الصغيرة، واحتراق مدينة بكاملها.
إذًا، هنا مبدآن: مبدأ الاختيار وهو يرتبط بسلوك الإنسان، ومبدأ ثبات القانون الطبيعي وهو يتعلّق بالظواهر الطبيعية. وهذان المبدآن محل اعتراف الملحد ولا يسعه إنكارهما، إذ إنّ انكار الاختيار يستلزم إنكار الشرّية من رأس، فلا يبقى محلٌّ للإشكال، وهذا يؤدّي إمّا للالتزام بالاختيار الإنساني، ولازمه وقوع الشرّ الأخلاقي، وإمّا إنكار الاختيار، ولازمه انتفاء الشرّ الأخلاقي.

وهكذا، بالنسبة إلى ثبات القوانين، فلو أنكرها الملحد فهذا يعني أنّ النار التي تحرق في هذا اليوم، فهي لا تحرق غدًا، وأنّ الماء الذي كان يغرق فاليوم هو لا يغرق، والصعقة الكهربائية التي تفتك بالإنسان، قد لا تفتك به في وقتٍ آخر، والعقاقير الطبية التي تعالج اليوم الإنسان هي غدًا مادة سامة. وحينئذٍ سوف تعمّ الفوضى ولا يبقى حجرٌ على حجر، ويستلزم ذلك انهيار العلم بكامله، فلا فيزياء ولا كيمياء ولا غير ذلك؛ لأنّ الجميع مبني على هذه القوانين، ومن ثَمّ فلا تبقى للملحد حجةٌ على شيء، مع أنّه يزعم أنّه من أهل العلم واتباع المنهج العلمي.
والنتيجة، أنّ الشرّ الأخلاقي هو لازمٌ لمبدأ الاختيار، فإنّ افتراض الاختيار نفسه يساوق افتراض إمكانية صدور الشرّ من الفاعل المختار. في حين، أنّ الشر الوجودي هو لازمٌ لمبدأ ثبات قوانين الطبيعة، ومن دون هذا الثبات سوف ينهار العلم بكامله.

وقد يقال: إنّ هذا الكلام صحيحٌ على مستوى الشرّ الأخلاقي، ولكن قد يقال: إنّه ليس الأمر كذلك على مستوى الشر الوجودي؛ لإمكان أنْ يتدخل الله تعالى فيمنع وصول الشرّ الوجودي إلى الإنسان المؤمن، أو الفقير أو المحتاج، فإذا لامست النار ثوب الفقير فإنّ الله تعالى يمنع تأثير الإحراق، وإذا غرق الطفل البريء فإنّه تعالى يمنع موته، وهكذا.

والجواب واضح، فإنّه لو افترضنا ذلك وإنّه تعالى سوف يمنع كلّ شرٍّ وجوديّ، فسوف يتراءى للإنسان بأنّ قوانين الطبيعة غير ثابتة، بل لا قوانين طبيعية، لعدم علمه بتشخيص التدخلات الإلهية، فيرى النار تحرق ولا تحرق، والماء يغرق ولا يغرق، والكهرباء تصعق ولا تصعق، والعقار دواء وداء، وكلّ شيءٍ سيراه يعطي أثرًا والأثر المعاكس له.
وعليه، فالاعتقاد باختيار الإنسان من جهة، وبثبات قوانين الطبيعة من جهةٍ أخرىوهما محل اعتراف كل من الإلهي والملحدهما لازمان للشرور الأخلاقية والوجودية. وكما يلاحظ أنّ معالجة إشكالية الشرّ تنسجم تمامًا مع فكرة وجود الله تعالى حيث الاعتقاد بالاختيار الإنساني وبثبات القوانين. أمّا بناءً على الإلحاد، فنسأل ما هو المعيار في كون الشيء شرًّا؟ ومن الواضح أنّه لا يوجد معيارٌ عند الملاحدة للشرّ، ولا للحسن والقبح، ولا لكلّ شيءٍ قيمي، فإذا كانت هناك معضلةٌ للشرّ فهي على مبنى الإلحاد لا غير.

الجواب الثاني
والجواب الآخر على إشكالية الشر عبارةٌ عن مبرهنةٍ مختصرة، ومضمونها موجودٌ في علم الكلام الإسلامي، ولكن سوف نصيغها بصياغةٍ أخرى، وهي تبتني على بعض المقدّمات:
الأولى: هل إنّ الإله على تقدير وجوده، هو عالمٌ بعلم غير متناهٍ، وقادرٌ بقدرةٍ غير متناهيةٍ، وحكيمٌ بحكمةٍ بالغة، أو لا؟ يتفق الإلهيون والملاحدة عمومًا على الجواب بـ(الإثبات). فالإلهي المعتقد فعلًا بالإله يعتقد بصفاته المذكورة، والملحد المنكر له سبحانه يعتقد أيضًا بهذه الصفات على تقدير وجود الله تعالى.
الثانية: هل يتوجب أنْ يعرف الإنسان بكلّ الأغراض الإلهية؟ وما يجول في ذات الله؟ ومن الواضح بناءً على المقدّمة الأولى أنّه لا يلزم منه ذلك، بمقتضى أنّ علم الإنسان محدودٌ متناهٍ، وعلم الله مطلقٌ ولامحدود، وكثيرًا ما يجهل الفرد أغراض أصحاب الاختصاص الآخرين من أبناء نوعه، فكيف والعالم هو الله تعالى؟ ولو سألنا أيّ ملحدٍ من الملاحدة عن نسبة علم الإنسان إلى علم الله على تقدير وجوده، لأجاب بإنّ النسبة هي الصفر؛ لأنّها نسبة المتناهي إلى غير المتناهي. ومن ثَمّ فالإشكال منتفٍ، ولا معنى له من رأس.

وبهذا تعالج هذه الإشكالية التي طالما روّج لها من لا خبرةَ له في تحليل القضايا وتحقيقها بالشكل المناسب.
ضرورة الاعتقاد بالإله
البحث فعلًا يرتبط بتقرير وبيان أنّ الاعتقاد بوجود الله سبحانه يمثّل ضرورةً منطقيةً ومعرفيةً وعلمية. وتوضيح ذلك يتمثّل بمقدّمتين:
الأولى: أنّ كلّ دعوى تدعى ينبغي أنْ تكون مشفوعةً بالدليل، وأنّ درجة أهمية الدعوى تناسبها درجة قوة الدليل، فإذا كانت الدعوى هي من الدعاوى الاعتيادية، فلا تحتاج إلى تكلفاتٍ استدلاليةٍ خاصّة، بخلافه إذا كانت الدعوى استثنائيةً فتحتاج إلى دليلٍ استثنائي كما ينقل عن الرياضي المعروف (لابلاس)، من ( أنّ الدعاوى الاستثنائية تحتاج إلى أدلةٍ استثنائية)، بمعنى أنّ الدعوى كلما اتّسمت بالأهمية والخطورة فإنّها تحتاج إلى دليلٍ من نوعٍ خاص، فمثلًا من يدعي أنّه طبيبٌ يحتاج إلى وثيقةٍ يثبت بها ذلك، ومن يدّعي اتصاله بالسماء فيحتاج إلى دليلٍ من نوعٍ خاصٍّ واستثنائي.

الثانية: أنّ التفاوت في النظام الإدراكي لكلّ انسانٍ من ناحية دقة فهمه، ودرجة ذكائه، ومدى قبوله للأفكار (درجة قناعته). هذا التفاوت يصنع نوعاً من التفاوت في قبول الأفكار.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ كلّ فردٍ منا يمتلك منظومةً إدراكيةً خاصةً به، فكلٌّ له درجةٌ من الفهم؛ لذا فإنّ الناس يختلفون في مدى استيعابهم للأفكار، فهناك من الأشخاص من يستوعب الفكرة بمجرد أنْ يتلقاها، وهناك من يستوعب الفكرة ولكن بعد البيان والتكرار والتوضيح، وهناك ما دون ذلك. كما أنّ البشر يختلفون في درجات الذكاء وهوأعني الذكاءغير الفهم والاستيعاب، إذ قد تجده يتلقى الفكرة بنحوٍ جيد، ولكنّه قد لا يحمل من الذكاء والتحقيق بحيث يرصد مواطن القوة والضعف في ما تلقاه واستوعبه. وأيضًا إنّ البشر قد يختلفون في درجات الاقتناع والاعتقاد بالفكرة، فقد تجد إنسانًا يحمل فهمًا جيدًا وذكاءً متميزًا، ولكنه ليس من السهل أنْ يقتنع بفكرةٍ من الأفكار، في قبال جماعةٍ من الناس، وهم الأكثر قد يقتنعون بأضعف الحجج.

والمقصود، أنّ الإختلاف في الفهم والذكاء والقناعة، وكذا في المؤثّرات الخارجية من قبيل التربية، أو العلاقات الاجتماعية، أو التأثر باستاذٍ أو صديقٍ أو في مجتمعٍ ذي تقاليد وثقافةٍ معينة، ونحو ذلك. ذلك كله يؤدّي إلى الاختلاف في مستوى قبول الأفكار، ومن هنا تعلم أنّ الناس على أصنافٍ ثلاثة:

1 الذي يقطع بفكرةٍ بمجرد سماعها ولو عن طريق الإعلام غير الموثوق، مع أنّه لا مبرر موضوعي يستوجب حصول القطع، فإنّ اليقين بفكرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع العلم بكذب كثيرٍ من أخباره يعني أنّ الإنسان المتيقن غير متثبتٍ في قناعته.
2 الذي يشكّ ويتردّد في قبول الأفكار وإنْ كانت من مصدرٍ موثوقٍ مثلًا، حيث تجده يدقّق ويشكّك، فيوسوس تجاه كلّ ما يعرض عليه من أفكار.
3 الذي يكون سويًّا في قبول الأفكار وحصول درجة القناعة، ففي المواطن التي ليس فيها تعضيدٌ احتمالي جيد فهو يحتمل، وفي مواطن يتوافر فيها القرائن والمؤيدات فهو يطمئن مثلًا أويتيَقن، وهكذا.

وبعد بيان المقدّمتين أعلاه، والتي ينبغي أنْ تكونا محل اعتراف كلٍّ من الإلهي والملحد، نقول: إنّ فكرة وجود الله تعالى هي من الأفكار المهمة والخطيرة في حياة الإنسان لما يترتب عليها من آثارٍ كبيرةٍ كما عرفنا قبل قليل، ومن ثَمّ ينبغي أنْ يناسبها الدليل المثبت لها أو المنكر.

وسيتبين أنّ هذه الفكرة تفرض نفسها على الفكر البشري مهما اختلفت درجات الفهم والذكاء والقناعة وعلى المستوى المنطقي والمعرفي والعلمي.. وهذا لا يمانع أنّ بعض الأشخاص قد لا يستجيبون لهذه الضرورة لبعض الموانع والأسباب، كما قد يحدث أنّ أشخاصًا أنكروا بديهيات العقل البشري.

وأمّا كيف نثبت أنّ هذه الفكرة ضروريةٌ فهذا ما سوف نقرره بالبيان الآتي:
الضرورة المنطقيّة
لمّا كان المنطق الطريق الذي يسلكه العقل وصولًا إلى النتائج، فلا بدّ أنْ تكون تلك النتائج متوافقةً مع طريقها المنطقي، وقد أشرنا فيما سلف أنّ الطرق المنطقية متعدّدة، وأهمها طريقان: طريق الملازمات العقلية وطريق الاستقراء، ونريد أنْ نقرر هنا أنّه سواء آمنا بطريق الملازمات العقلية أم طريق الاستقراء فإنّ فكرة وجود الله تعالى تفرض نفسها في الحالين معًا.

أمّا على الطريق الأول فقد تقرر سابقا أنّ خروج الشيء من العدم أمرٌ مستحيل، لا يعتقد به إنسانٌ قط حتى الملاحدة، دون الإصغاء إلى شاذٍّ هنا أو هناك، وهذا ينتج أنّ الكون الذي له بداية وكان عدمًا صفريًّا يستحيل أنْ يخرج من لا شيء، بل يجب أنْ يكون هناك موجودٌ غير كوني هو الذي أوجده. وقد تحدّثنا عن هذا الموضوع فيما سبق. فإذًا، نحن ومن خلال قانون الملازمة العقلية نقضي بلا بديّة أنْ يكون هناك إلهٌ هو الذي أوجد الكون من العدم.

وهذا، من غير فرقٍ بين استحالة خروج هذا الكون العظيمبما له من اتساعٍ وعظمةٍ من العدم وخروج النقطة المفردة التي كانت تختزله، فكلّه في حكم الملازمات العقلية شرع سواء.
وأمّا على أساس الطريق الثاني، وأخصّ منه حساب الاحتمالات. فنقرر فيه أنّ الحساب الاحتمالي عبر تراكم الاحتمالات نحكم فيه بقضيةٍ إثباتاً أو نفيًا، كمعرفة أنّ فلانًا عالم أو جاهل، فنستقصي قرائن العلمية من خلال حديثه وكتابته ومحاوراته وسعة معلوماته، ونحو ذلك فنكتشف عبر هذه القرائن أنّه عالمٌ مثلًا حيث تتوافق من ناحية قرينيتها على العلمية فتتصاعد القيمة الاحتمالية لقضية (زيد عالم)، وإنْ كانت كلّ قرينةٍ بمفردها وبمعزلٍ عن باقي القرائن ممّا يحتمل معها الخلاف، ولكنّها في حال تجمعها تقوي الجانب الاحتمالي إلى أنْ يبلغ درجاتٍ عاليةً من التصديق والاعتقاد. وهذا الطريق هو المعتمد في مطلق العلوم التجريبية والإنسانية.

ثم، إنّ هذا التراكم الاحتمالي تارةً يؤدّي إلى اليقين، وأخرى إلى الظنّ، وثالثةً إلى مجرد الاحتمال الضعيف. ويتبع هذا نوعية القرائنمن ناحية شدّة ارتباطها بالحدثوكمّها العددي، ودرجة الوثوق بها.
وبهذا المنهج نفسه الذي يستخدمه الطبيب وعالم الاجتماع والإنسان البسيط، يفرض وجود الله كفكرةٍ ضروريةٍ لا مناصّ من التسليم بها، والاعتقاد بثبوتها، وذلك عبر تجميع القرائن المتضمنة أمورًا منظمةً ودقيقةً في هذا العالم كالثوابت الكونية وقوانين الطبيعة، وهو أمرٌ معلوم عند علماء الفيزياء الكونية، ولك أنْ تراجع كتاب (فقط ستة أرقام: القوى العظمى التي تُشكِل الكون) للفيزيائي المعاصر (مارتن ريس). وكذلك هناك مركّباتٌ معقّدةٌ في هذا الكون تُسمّى بـ(المعقّدات غير القابلة للاختزال)، وهذه حتى توجد تحتاج إلى وجودٍ جميع أجزائها بنسبٍ خاصّةٍ ولا يمكن أنْ تأتي بالتدريج أو التدرج من الأبسط إلى الأعقد، مع أنّ تشكّل وجودها دفعةً واحدةً بطريق الصدفة ضربٌ من الخيال الجامح، فلابد أنْ يستند وجودها إلى مصممٍ ذكي سبحانه وتعالى، وفق حساب الاحتمالات.

وعليه، فالاعتقاد بفكرة وجود الله تعالى ضرورةٌ منطقيةٌ بمعنى أنّ المنطق الحاكم على الذهن البشري يتجه لا محالة لإثبات هذه الفكرة، وأنّ الممانعة من تطبيقها تستلزم الممانعة من تطبيق المنطق على كلّ موردٍ رياضي وفلسفي أو علمي تجريبي أو إنساني.

الضرورة المعرفية
أمّا من الناحية المعرفية ففكرة الاعتقاد بالإله الذكي فكرةٌ ضروريةٌ سواء آمنا بخصوص المصدر الحسي أم آمنا بالمصدر العقلي. أمّا بناءً على الاعتقاد بالمصدر العقلي فواضح كما أوضحنا ذلك في الملازمات العقلية. وعموم المدارس المادية يدركون ذلك بوضوح، وإنّما أنكروا ثبوت الإله لأنّهم لم يعتقدوا بالمصدر العقلي كأحد مصادر المعرفة الإنسانية، ومن الواضح أنّ العقل كما لا يساوي بين الواحد والصفر فهو لايساوي بين الوجود والعدم؛ ولذا قلنا فيما سبق: إنّ تلقائية خروج الكون من العدم غير مصدّقةٍ في أيّ منظومةٍ إدراكيةٍ إنسانية.

وأما بناءً على المصدر الحسي ففكرة وجود الله سبحانه فكرةٌ حاضرةٌ وماثلةٌ فيه، وقد تسأل: إنّ الله تعالى لايمكن أنْ يُدرك في تجربةٍ أو مختبرٍ أو يُنال في حسّ، فكيف يمكن أنْ يكون إثباته ملزمًا على أساس المصدر الحسي؟ والجواب أنّه ليس المقصود من الملاحظة الحسية حتى عند علماء الطبيعة ما ينال بالحس مباشرةً، بل يشمل نيل الآثار والإحساس باللوازم المترتبة على صاحب الأثر كمن يحسّ بأثر الطاقة الكهربائية فيعلم بوجودها، ومن يحسّ بحركة الكوكب المعين بمسار خاص فيعلم أنّ هناك كوكبًا أو نجمًا آخر قد أثر فيه، وهكذا عمل العلماء في مجالاتهم فإنّهم عن طريق الآثار يرتّبون أفكارهم ونظرياتهم، وليس المقصود عند علماء المنهج العلمي من خطوة (الملاحظة) خصوص الإحساس المباشر للموجود؛ وإلّا سوف تتعطل العلوم وتجمد البحوث العلمية.

ثم، إنّ الإحساس بالأثر ينقل ذهنية الباحث إلى وجود المؤثّر بغض النظر عن الطبيعة الوجوديةِ للمؤثِّر سواء كانت من موجودات عالم الطبيعة أم من الماورائيات، فإنّ البحث عن واقع وحقيقة وجود المؤثِّر ليس شأنًا حسيًّا، وليس بإمكان الحسّ أنْ يعطي موقفًا حول طبيعة هذا الوجود، فشأن العين أنْ تبصر الآثار المرئية وشأن الأذن أنْ تسمع الآثار السمعية . وما إلى ذلك، أمّا إنّها تتعدى إلى مسببات هذا الأثر وتقضي بأنّه مادي أو مجرد من عالم المادة، فليس لها صلاحية ذلك معرفيًا ولا منطقيًا.
ولمّا كان الإنسان في ضوء خطوات المنهج العلمي يلاحظ تنظيمًا منتشرًا في أرجاء هذا الكون ودقةً في تفاصيله ومجرياته، فينتقل ذهنه إلى وجود المنظِّم على حدّ انتقال الذهن في عالِم الطبيعة لاكتشاف فكرة فيزيائية أو كيميائية، بلا فرق بينهما من هذه الناحية، وإنّ رفض الاستنتاج في أحدهما يلازمه رفض الاستنتاج في الآخر، ولا مبرر للتفكيك بين المجالين إلّا إذا كان التعسف هو الحاكم واللامنطقية هي الطريق.

إنّ الإنسان إذا رصد تنظيمًا بسيطاً في خلاء ينتقل ذهنه مباشرةً إلى أنّ هناك صانعًا ذكيًا هو الذي صنع هذا الشيء، فلو افترضنا أنّ المركبات الفضائية الاستكشافية في المريخ قد رصدت خاتمًا متواضعًا من حيث الهيأة والصياغة، وأرسلت صورته إلى الأرض، فماذا يا ترى تتوقع أنْ يحدث في كوكبنا من ردّة فعل؟ من المتوقع جدًّا أنْ تهتز الأرض بأثقالها من هذا الحدث العظيم؛ لأنّه ببساطة يكشف عن وجود صانعٍ ذكيّ له، فكيف بدقّة ما نراه ونشهده في هذا الكونّ ؟!!

الضرورة العلمية
ومن الناحية العلمية نجد فعلًا أن فكرة وجود الله تعالى ماثلةً وضروريةً في خطوات المنهج العلمي، فتطبيق هذه الخطوات نفسه من قبل العالِم في مجال اختصاصه، يأتي تطبيقها في إثبات وجود الله تعالى حذو القذة بالقذة، ابتداءً من الملاحظة، ثم افتراض الفرضية، وبعدها الاختبار العلمي. فإذا لاحظنا التعقيد غير القابل للاختزال، وافترضنا إزاءه ما يمكن أنْ يكون تفسيرًا له من فروض، ومن هذه الفروض أنّ الموجِد له (الإله الذكي)، ومنها أنّ الموجِد هو (الصدفة والاتفاق). فسنجد الفرض الثاني ليس مجرد أنّه فرضٌ مستبعدٌ بحساب الاحتمالات بل أنّه ملحق بالأوهام والخيالات، وقد اعترف بذلك بعض المتزمتين بالإلحاد، وحاول أنْ ينكر وجود معقّداتٍ غير قابلةٍ للاختزال مكابرًا على ما هو معروف في الأبحاث العلمية الحديثة!! فتقترب الفرضية الأولى وترجح بدرجةٍ تصديقيةٍ عاليةٍ جدًّا.
وهكذا فيما لو لاحظنا بداية الكون، بل في هذه المسألة تثبت صحّة الفرضية الأولى وزيف الفرضية الثانية بوضوحٍ صارخ، فإنّ فرضية التلقائية أو الصدفة لا معنى لها كما تقدّمت الإشارة إليها قبلًا.

والنتيجة ممّا ذكرنا أنّ فكرة وجود الله حاضرةٌ على جميع هذه المستويات ونحن يكفينا صحة تطبيقها في مجالٍ واحدٍ منها، ولا نحتاج إلى تكلّف التطبيق في جميعها، فمثلًا نحن في مجال الملازمات العقلية نمتلك ما يربو على عشرة براهين، ويكفي لإثبات مقصودنا أنْ نطبّق باب الملازمات العقلية على واحدٍ منها. كذلك في باب حساب الاحتمالات هناك تطبيقاتٌ كثيرةٌ لإثبات وجود الله سبحانه، وهكذا؛ ولذا قلنا: إنّ فكرة وجود الله تعالى تفرض نفسها على الفكر البشري، وإنّها مستطيلةٌ على حياة الإنسان، وإنّ الطابع العام في إيديولوجيات الإنسان هو الاعتقاد بها منذ أقدم العصور إلى عصرنا الفعلي، فمنهم من يعتقد بها عبر الأدلّة الفطرية والإحساسات الداخلية، ومنهم من يعتقد بها عبر الأدلّة البرهانية العقلية، ومنهم من يعتقد بها من خلال حساب الاحتمالات، ومنهم من خلال الأدلّة الأخلاقية، ومنهم غير ذلك. وذلك كلّه يشير إلى أنّ خطورة المسألة هي التي فرضت هذا التعدّد الاستدلالي المختلف حسب اختلاف الناس.

فتحصل ممّا تقدّم أنّ الإلحاد لم يصل إلى قناعته ومعتقده إلّا بعد الاختراقات المنهجية، وعدم المُداقّة في إبداء رؤيةٍ معرفيةٍ واضحةٍ كما عرفت.
والحمد لله رب العالمين.

المصادر
ابن منظور، لسان العرب ، ط3، بيروت، دار صادر، 1416ق.
بنروز، روجر: العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، ترجمة محمد وائل الأتاسي ود. بسام المعصراني، ط1، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1998م.
بول ديفيز وجون جريبين: أسطورة المادة؛ صورة المادة في الفيزياء الحديثة، ترجمة: م. علي يوسف علي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
دوكينز، ريتشارد: وهم الإله، ترجمة: بسام البغدادي، إصدار تجريبي، 2009 م.
شريف، عمرو: رحلة عقل، ط4، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2011م.
الكفوي، أبو البقاء، الكليّات، تحقيق: عدنان درويشمحمد المصري، مؤسسة الرسالة – بيروت.
كاكو، ميتشيو: رؤى مستقبلية، ترجمة: د. سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2001م.
ويلز، جوناثان: أيقونات التطور؛ علم أم خرافة، ترجمة: د. موسى إدريس ود. أحمد ماحي ود.محمد القاضي، ط1، دار الكاتب للنشر والتوزيع، 2014م.


--------------------------------------------
[1]كاكو، ميتشيو: رؤى مستقبلية، ص447-448.
[2]بول ديفيز وجون جريبين: أسطورة المادة؛ صورة المادة في الفيزياء الحديثة ،139 ص.
[3] راجع: شريف، عمرو: رحلة عقل، 2011.
[4]راجع كتاب: ويلز، جوناثان: أيقونات التطور؛ علم أم خرافة، ترجمة: د. موسى إدريس ود. أحمد ماحي ود.محمد القاضي، ط1، دار الكاتب للنشر والتوزيع، 2014.
[5] دوكينز، ريتشارد: وهم الإله، ص9 .
[6] بنروز، روجر: العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، ص303 وما بعدها.