الباحث : الشيخ لقاء الكعبي
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 31
السنة : صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 13 / 2024
عدد زيارات البحث : 471
الملخّص
إنّ من أهمّ ما يجب على الفرد المسلم اليوم الحفاظ عليه والحرص على تحصينه من التأثر السلبي بالمحيط البشري بكلّ ما فيه من ابتعاد عن خطّ الفطرة السليمة، هو عقيدته.
وإنّ أهم سبلٍ لتحصيل هذه النتيجة هو الانتماء الصحيح والواعي، الذي أمر به الله تعالى بقوله:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾، وأشارت إليه العديدة من الآيات بأسلوب القصة القرآنيّة المعبّرة، كما في قصة إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهم السلام)، عندما أخبره بأنّه أمر بذبحه، فاستجاب الابن وسلّم لأمر السماء.
وقد حاول البحث استجلاء دلالة تلك الآيات التي تناولت موضوع الانتماء وأهميته، ومخاطر عدم مراعاته والتهاون به، كما في قصة ابن نوح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم توقّف البحث عند الأحاديث والروايات التي أشارت إلى أنّ المخرج من مأزق التأثّر السلبي بأفكار الآخرين وقناعاتهم وشبهاتهم، هو اتّباع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأخذ عنهم، والاجتماع مع اتباعهم، وتشكيل مجموعةٍ إيمانية تنطلق من معارفهم في سبل الحياة، الأمر الذي يضمن للفرد تحصين عقائده، وعدم الانجرار خلف شبهات وقناعات الغير، وقد جاء البحث بناءً على عنواناته وبراهين مطالبه بعنوان (سبل التحصين العقدي ودور الانتماء إلى أهل آلبيت في تحصيلها - دراسة في الأسس والمباني).
الكلمات المفتاحية:التحصين العقدي،الانعزال،المجتمع الايماني،الانتماء ، مصادر المعرفة.
Abstract
One of the most important things that a Muslim individual must preserve today and strive to fortify against the negative impact of the human environment, with all its deviation from the path of sound instinct, is his belief.
The most important means to achieve this result is the correct and conscious affiliation, which Allah Almighty commanded by saying: “Fear Allah and be with the truthful,” and many verses pointed to it in the expressive Quranic story style, as in the story of Abraham and his son Ishmael (peace be upon them), when he told him that he was ordered to slaughter him, the son responded and submitted to the order of heaven.
The research tried to clarify the significance of those verses that addressed the topic of affiliation and its importance, and the dangers of not considering it and neglecting it, as in the story of the son of Prophet Noah (peace be upon him).
Then the research stopped at the hadiths and narratives that indicated that the way out of the dilemma of negative influence by the ideas, convictions, and doubts of others is to follow the Ahl al-Bayt of the Prophet (peace be upon him), take from them, meet with their followers, and form a faith group that starts from their knowledge in the ways of life, which guarantees the individual the fortification of his beliefs, and not being dragged behind the doubts and convictions of others. The research came based on its titles and the proofs of its demands under the title (Means of Doctrinal Fortification and the Role of Affiliation to the Ahl al-Bayt in Achieving Them - A Study in Foundations and Structures).
Keywords: Doctrinal Fortification, Isolation, Faith Community.
مقدّمة
إنّ الإنسان كائنٌ اجتماعيّ الطبع، فهو مفطورٌ على الحاجة إلى جماعةٍ من أبناء جنسه يأنس بالكينونة معهم، ولعلّ استشعار الفرد لفقره الذاتي، وعجزه عن تلبية احتياجاته أحد دوافع ذلك الطبع؛ فهو يجد في انتمائه إلى جماعةٍ ماتحت أيّ عنوانٍ حرفي أو عرقي أو رحمي أو مناطقي أو غيرها، قوةً ومنعةً تلبّي احتياجه وتسدّ فقره وتجبر عجزه.
والفرد منذ ولادته يجد نفسه منتميًا إلى أسرةٍ ولدته، وبلدٍ ولِدَ على أرضه، يشعر بالانتماء إلى أرضه ولغته وتاريخه، دون أنْ يكون له اختيار في هذا الانتماء وفروعه.
نعم تأتي مرحلة النضج والاستقلال الذاتي، لتضع أمام الفرد عدّة خيارات في إشباع تلك الحاجة إلى الانتماء، كالانتماء السياسي، أو الانتماء القبلي، أو الانتماء القومي والقطري، أو الانتماء الفكري إلى مدرسةٍ فكريةٍ معينة، أو الانتماء الديني أو غير ذلك.
أهمية البحث: جاءت فكرة هذا البحث وأهميته، من منطلق أنّ الانتماء هو أحد حاجات الإنسان التي تنادي بإشباعها، ولخطورة ما يعرض على الفرد من انتماءاتٍ قد يجرّ إلى اتباع أحدها؛ فؤثر سلبًا في قناعاته وعقائده التي تنعكس في سلوكه وأفعاله، بينما تعرض السماء على الإنسان انتماءً يسدّ حاجته إلى الانتماء، ويطمأن خوفه من الوحدة والفقر وغلبة العجز، وهو آمن في حفظ عقيدته، ولا يتقاطع مع باقي صور الانتماء الأخرى، بل يدعمها بعقلانية.
فرضية البحث: يفترض البحث أنّ من أهم سبل تحصين العقيدة من الانحراف والانجرار خلف قناعاتٍ ورؤى فردية، هو الانتماء إلى الجماعة التي أمر الله بالكينونة معها، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩]، فالانتماء إليهم يجعل الفرد يسير على هديهم، ويقتفي آثارهم؛ فتأخذهعصمتهم إلى الاستقامة.
منهجية البحث: جاء البحث على منهجية استقراء النصوص القرآنية والحديثية وتحليلها مستأنسًا بآراء المفسّرين والشرّاح، كما احتاج الباحث أحيانًا إلى المنهج المقارن في مقابلة النصوص الاجتماعية والنفسية التربوية مع نصّ القرآن الكريم والحديثوالشريف.
وقد انتظم البحث في تمهيد ٍتناول الحاجة إلى الانتماء وصوره، ومبحثٍ أول جرى فيه الحديث عن الانتماء في القرآن الكريم، وأهميته ودوره في تحصين الفرد، وأمثلة قرآنيّة تبرهن على أثر الانتماء والملازمة وعدمها في التحصين وفقدانه، ثم المبحث الثاني عن الانتماء في الحديث النبوي وأهميته في تحصين الأمة من الضلال وأعانتها على الثبات، وسبل تحصيل الانتماء الصحيح المنتج وبعض صور الاجتماع الانتمائي ودوره في التحصين العقدي .
التمهيد:
خلق الله (عزّ وجلّ) الإنسان بمجموعةٍ من الاحتياجات منها بدنية كالحاجة إلى الطعام والماء والحاجة إلى النوم، ومنها نفسية كالحاجة إلى الأمان، وكالحاجة إلى الارتباط بغيره من الناس، فالإنسان كائنٌ اجتماعيّ الطبع، فالانتماء ليس حاجةً ثانويةً أو ترفًا حياتيًّا، بل هو طبع جُبل الإنسان عليه، يُظهِر الشعور بالحاجةِ إليه طبيعة الحياة المؤلّفة من أسرة وجيران، وأقارب، وشركاء عمل، ومواطني دولة، وأبناء معتقد، ومع كلّ واحدٍ، وجماعة من هؤلاء هناك رابط يشد الفرد إليهم.
وهذه الحاجة وتلك الجبلة يضاف إليهما واقع الدوائر الحياتية، قد تجرّ الفرد إلى انتماءاتٍ سلبية، تغرس عنده نزعاتٍ عدائية لمن لا يشاركه ذلك الانتماء، وتبعده عن فطرته السليمة، في وقتٍ هناك انتماءات إيجابية تدفع الانسان باتجاه الخير وعمل المعروف، والارتباط بخالق هذا الوجود، والأهم أنّها لا تحرّضه على التقاطع مع من لايشاركه انتماءه وارتباطه، بل تطمئن الآخر، شريطة ألّا يكون محاربًا مؤذيًا، قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) [الكافرون: 1ـ6].
وورد عن أمير المؤمنين8: «وأشعرْ قلبَك الرحمةَ للرعية والمحبّةَ لهم واللطفَ بهم. ولا تكوننَّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظيرٌ لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ » [1].
من هنا جاءت تعاليم السماء لتبين خطورة الانجرار خلف بعض الانتماءات، و الارتباط ببعض الجماعات مع بيان بعض صفاتها السلبية، وما قد ينتج من ذلك الارتباط والانتماء، قال تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود: ١١٣]. وقد ذكر الآلوسي في تفسيرها: « (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) هو نهيّ لم يتكرر في القرآن الكريم، وتفرّدت به هذه الآية من سورة هود التي اشتملت على قصص سبعة أقوامٍ يجمعهم وصفهم بالظلم والطغيان في أكثر من موضع في كتاب الله تعالى، وقد جاء النّهي عن الركون إلى الذين ظلموا في خواتيم سورة هود بعد استعراض مشاهد الظلم والطغيان كافّة في السورة باختلاف تركيبة السلطة وهيكلية الاستبداد المتعلقة بكلّ قوم، ومعاني الفعل (تركنوا) التي ذهب إليها المفسّرون لا تخرج عن أفعالٍ قلبيةٍ وأفعالٍ جارحة، أمّا القلبيّة منها فكانت: بالميل والمحبّة والرضا، وأمّا الجارحة فكانت: بالسكون، والاشتراك بتزيين الظلم، والمداهنة للظالمين من زيارة ومصاحبة ومجالسة والحديث عنهم بالفضل، والاعتماد عليهم » [2].
وقال تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّـهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت : ٤١].
وهذه الآية أيضًا ظاهرةٌ في الأثر السلبي لاتباع الكافرين والانتماء إليهم، فإنّه يصيب الإنسان حينها وهنٌ يجعل أصل طلبه للانتماء، وهو دفع خوف الوحدة، وطلب العزة مفقود؛ لأنّه كبيت العنكبوت فاقد لأبسط خصائص الحياة الطيبة الأمن والرزق الكريم، فالبيت مصيده للآخرين والرزق فيه قائم على الفتك بهم.
المبحث الأول: الانتماء وصوره في القرآن الكريم
لما كان الانتماء ضرورةً في حياة الإنسان؛ لأنّه اجتماعي بطبعه، وأنّه وإنْ عاش صورًا من الانتماء لم يكن له في اختيارها يد (لأنّه ولد فيها ومنها)، ولكنه عندما يصل إلى مرحلة النضج الفكري والاستقلال بقراراته، فإنّه سيجد نفسه أمام مجموعةٍ من الانتماءات تتجاذبه، عقائديةً كانت أم عرقيةً أم فكريةً أم مكانية.
ولخطورة هذه المرحلةالمراهقةحيث نجد أنّ المراهقين الذين ينتمون إلى مجموعةٍ إيجابيةٍويتبادلون الشعور بالانتماء مع أعضاء المجموعةغالبًا ما يكونون أكثر قدرةً على مقاومة ضغط الأقران السلبي من مصادر خارجية من هؤلاء المهمشين. يمتلك هؤلاء المراهقون شعورًا قويًا بالثقة بالنفس «يمتلك البشر حاجةً أساسيةً للتواصل مع الآخرين واكتساب القبول في مجموعاتٍ اجتماعيةٍ مختلفة. عند تدهور هذه العلاقات أو انكسار الروابط الاجتماعية، يعاني الأفراد من أعراض اكتئابية. ارتبط امتلاك درجة أكبر من الإحساس بالانتماء مع انخفاض مستويات الشعور بالوحدة والاكتئاب. على الرغم من تأثير الانفصال عن الآخرين واختبار نقص الانتماء بشكلٍ سلبي على الفرد، يُعدّ الأفراد المصابون بالاكتئاب أكثر عرضةً لهذه التأثيرات السلبية الناجمة عن ضعف الانتماء » [3].
وقد نبّه المولى (عزّوجلّ) إلى خطرها وعمق أثرها على الفرد مهما كانت أصوله طيبة، فهذا ابن نبيّ الله نوح، مع طيب أهله ولكنه حينما ابتعد عن الانتماء إلى أبيه النبيّ وللمجتمع الايماني، وارتبط بمجتمعٍ آخر وانتمى إليه، أثّرت فيه معتقدات ذلك المجمع الآخر وفي قناعاته، فما عادت مواعظ أبيه تؤثّر فيه حتى تلك التي ترتبط بصلاح دنياه وحفظ حياته ، قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) [سورة هود: 42 ].ويا لها من عبارةٍ مؤثّرةٍ (وكان في معزل)، فهو لم يكن مع أبيه والمؤمنين عند بداية ركوبهم في السفينة، فحتاج نبيُّ الله نوح أنّ يناديه، وشاهد نتيجة هذه العزلة والتأثر بالكافرين، فذيل الآية يشير إلى المجتمع الذي انعزل عن نوح معه وتأثّر به وبدّل عقائده الحقّة بغيرها، إذ يقول تعالى على لسان نبيّه نوح: (ولا تكن مع الكافرين)، في إشارة واضحه إلى من تأثّر به، وانتمى إليه جسديًّا و فكريًّا.
وقد ذكر الطباطبائي في تفسيرها: «المَعْزَل اسم مكان من العزل، وقد عزل ابنه نفسه عن أبيه والمؤمنين في مكانٍ لا يقرب منهم، ولذلك قال:(وَنادی نُوحٌ ابْنَهُ)، ولم يقل: (وقال نوح لابنه)، والمعنی: ونادی نوح ابنه، وكان ابنه في مكانٍ منعزلٍ بعيد منهم، وقال في ندائه: يا بُنّي بالتصغير والإضافة دلالة علی الإشفاق والرحمةاركب معنا السفينة ولا تكن مع الكافرين؛ فتشاركهم في البلاء، كما شاركتهم في الصحبة وعدم ركوب السفينة، ولم يقل (عليه السلام): (ولا تكن من الكافرين)؛ لأنّه لم يكن يعلم نفاقه وأنّه غير مؤمنٍ إلّا باللفظ، ولذلك دعاه إلی الركوب» [4].
فهو في الوقت الذي يعرض عليه أبوه النبيّ الركوب في السفينة للنجاة من الهلاك، يصرُّ هو على طريقٍ آخر يعتقد فيه النجاة، فهو غير مُسَلِّم لنبيّ زمانه وأهميّة إخباراته، قال تعالى: (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّـهِ إِلّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ). فهنا تتضح أهمية الانتماء بقسميه الإيجابي في التزام أوامر النبي، ونتيجتها ركوب السفينة، واعتزال هذه المجموعة والانتماء إلى غيرها، ونتيجته عدم الهداية للصواب، ومصير الكافرين والهلاك.
وفي هذه الآية عبارةٌ أخرى تدلّ على أثر الانتماء الإيجابي، وهي الحصر الناتج من النفي المتبوع بالاستثناء (لا عاصم إلّا من رحم)، فالمرحوم في ذلك الوقت العصيب الذي ظهرت فيه علامات الغضب الالهي معصوم.
والعصمة من الله هي حالةٌ من التحصين المادي (من الغرق) والمعنوي من الخطأ والعصيان، وهو ما نحن بصدده من إثبات أنّ دور الانتماء إلى أولياء الله تعالى يظهر في تحصين عقائد الفرد.
فهذه الآيات بيّنت في هذا التوثيق الإلهي لهذا المشهد من مسرح الحياة، أنّ من ثبت على انتمائه لنبيّ زمانه -نوح- حُصّن في دينه ودنياه، وبالعكس من ذلك تمامًا من اعتزل النبيّ، ولم ينتمي إليه لم تجدي قناعاته الشخصية في تخليصه من الهلاك.
وفي مشهدٍ آخر على مسرح الحياة يوثّق لنا القرآن الكريم أثر الانتماء في التحصين والثبات، على الرغم من أنّ الأمر كان يرتبط بأهم شيءٍ وهو الحياة، ولكن الانتماء الإيجابي والرسوخ العقدي كان حاضرًا ومؤثّرًا بصورةٍ جليةٍ، قال تعالى:﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[الصافات: ٤٢].
ففي الوقت الذي يلوح فيه الأب لابنه باحتمال إنهاء حياته، نجد الابن المنتمي للعقيدة الحقّةبدليل تعليقه الأمر على المشيئة الإلهية يفصح عن رسوخ عقيدته وثبات قدمه في قبوله للأمر الإلهي، ولو كان فيه نهاية حياته.
وقد ذكر الفخر الرازي في تفسير الآية: «الحِكْمَةُ في مُشاوَرَةِ الِابْنِ في هَذا البابِ أنْ يُطْلِعَ ابْنَهُ عَلى هَذِهِ الواقِعَةِ لِيَظْهَرَ لَهُ صَبْرُهُ في طاعَةِ اللَّهِ، فَتَكُونَ فِيهِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِإبْراهِيمَ حَيْثُ يَراهُ قَدْ بَلَغَ في الحِلْمِ إلى هَذا الحَدِّ العَظِيمِ، وفي الصَّبْرِ عَلى أشَدِّ المَكارِهِ إلى هَذِهِ الدَّرَجَةِ العالِيَةِ ويَحْصُلَ لِلِابْنِ الثَّوابُ العَظِيمُ في الآخِرَةِ والثَّناءُ الحَسَنُ في الدُّنْيا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى مِن ولَدِ إبْراهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلامُ) أنَّهُ قالَ: ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾. ومَعْناهُ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ بِهِ، فَحُذِفَ الجارُّ كَما حُذِفَ مِن قَوْلِهِ :أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ (بِهِ)، ثُمَّ قالَ:﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾، وإنَّما عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ والتَّيَمُّنِ، وأنَّهُ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، ولا قُوَّةَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ» [5].
ومن الآيات التي تناولت موضوع الانتماء في القران الكريم قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّٰدِقِينَ ) [التوبة :119].
ذكر الشيرازي في تفسيرها: « تقول الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) ولأجل أنْ يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والأخطار بدون اشتباهٍ وانحرافٍ أضافت: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) » [6].
وروى الصدوق بسنده: « أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان له يومًا كلامٌ مع جمعٍ من المسلمين، ومن جملة ما قال: «فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل: ﴿يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقينO، فقال سلمان: يا رسول الله أعامّةٌ هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أمروا بذلك، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة »؟ قالوا: اللهم نعم » [7].
فهذه الآية صريحةٌ في وجوب رجوع عامّة الأمة في دينها ودنياها إلى من يوضّح لهم قواعد السلامة والنجاة، فالانتماء هناالمشار إليه بالكينونة معهم هو سبيل التحصين من الفتن والانحرافات الفكرية، كما هو سبيل نجاتهم من مشكلات الحياة بإيجاد الحلول لها.
وقد ذكره الفخر الرازي في تفسيره في مقام بين سبب وأهمية الانتماء وأثره: «إنّ قوله: (يا أيّها الذين آمَنُواْ اتقوا الله) أمرٌ لهم بالتقوى، وهذا الأمر إنّما يتناول من يصح منه ألّا يكون متقيًا، وإنّما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ، فكانت الآية دالةً على أنّ من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتديًا بمن كان واجب العصمة، وهم الذين حكم الله تعالى بكونهم صادقين، فهذا يدلّ على أنّه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعًا لجائز الخطأ عن الخطأ، وهذا المعنى قائمٌ في جميع الأزمان، فوجب حصوله في كلّ الأزمان » [8].
والرازي هنا وإنْ أصاب الحقيقة في وجوب رجوع غير المتّقي إلى المتّقي، ورجوع جائز الخطأ الى واجب العصمة، ولكنّه عاد وعاند في تحديد من هو المعصوم وجانب الحقيقة بسبب مذهبه وانتمائه، وقال إنّ المعصوم هو جماعة المسلمين وما اتفقوا عليه، أي الإجماع هو المعصوم الذي يجب ألّا نخالفه ونكون معه، ومن أفضل الردود عليه ما ذكره الشيخ محمد عبد الجبار: «ومعلوم أنّ المراد بهم الأشخاص لا الإجماع كما زعم إمامهم الرازي، على أنّه بمعناه عندهم مستحيل، ولا يتصور عصم الأمة بغير معصوم، ووجود الصفة توجب وجود معصوم، وأكثرهم على أنّ الإجماع منقطعٌ بعد زمن الصحابة، على أنّه نادر في الأحكام فكيف يتحقق الكون معه، وأيّ معنى لم يصححه، ولا فرق في التعيين بين ذكر الشخص باسمه أو صفته، فهي من أحسن أسمائه المعينة أيضًا، وفيه زيادة إيضاحٍ وبيان شرف له كما هو ظاهر كما سبق، فتأمّل واهتدِ، ودعهم وما يفترون » [9].
والمتحصّل من كلام جميع المفسرين أنّ الآية تأمر بالكينونة مع جماعة من الأئمّة يتّصفون بالصدق على طول المسيرة قولًا وعملًا، وهم موجودون على مرّ الأزمنة وإنّ الانتماء إليهم هو صمام أمانٍ لهذه الأمة من مضلّات الفتن.
المبحث الثاني: الانتماء إلى أهل البيت (عليهم السلام) وأثره في حفظ عقائد الأمّة
اهتمّ الحديث الشريف بتوعية الأمّة بأهميّة وخطورة الانتماء، وأنّ من واجبات الفرد المسلم اتّباع المجموعة التي لا تخرجه من هدى ولا تدخله في ضلال، وجاءت تلك التعليمات المعصومة من الذي سبق للقرآن أنْ أمر بالانتماء إليهم والكون معهم، وقد وردت تلك الأحاديث الشريفة، وعلى صور عديدة كلّ منها تناول زاويةً معينةً من هذا الأمر المهم.
المطلب الأول / الأحاديث التي حثّت على وجوب اتباع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لقد تضافرت الأحاديث النبويّة على ترسيخ فكرةٍ في أذهان المسلمين، وهي دور الانتماء إلى أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في حفظ الأمة من الهلاك، فقد روى الترمذي وصحّحه الألباني عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهم».
وفي هذا الحديث ثلاثة مقاصد مهمة:
1- التمسّك بالكتاب والعترة: أي أنْ تكون معارف الفرد وقناعاته مستنبطةً من هذين المصدرين، والتلازم بينهما سببه عدم امكانية فهل حقيقة المراد من الكتاب بلا الرجوع إلى العترة، فهم ترجمان القران.
2- نفي الضلال: فلن تفيد تأبيد النفي، وهذا بسبب الانتماء إلى العترة، وأخذ تعاليم هذا الدين منها حتى في فهم معاني كلام الله.
3- التلازم بين الكتاب والعترة وعدم الافتراق: وهذا يدلّ على عصمة أهل بيت النبي عن الزلل، فالمنتمي إليهم، لا يخرجونه عن منهج القرآن القويم، بل ويدلّوه على خفايا أسرار الكتاب، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء »[10].
والحديث الثاني في هذا الصدد ما رواه الطوسي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح (عليه السلام)، من دخلها نجا، ومن تخلّف عنها غرق» [11]. ويا له من تشبيهٍ بليغ؛ فسفينة نوح حصر الله (عزّ وجلّ) فيها النجاة من الهلاك، ولا عاصم من الغرق إلّا ركوبها الذي هو تجلّي الإيمان والانتماء للنبيّ نوح (عليه السلام)، والانتماء إلى أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو سبيل نجاة هذه الأمة، وقد جربت الأمّة كيف أنّ اتّباع غير عترة النبي وأهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، أخرجها من الهداية إلى البدع والأباطيل، حتى صارع المبتدع يعترف بأنّها بدعة [12].
إلى غير ذلك من الأحداث التي مرّت بها الأمّة وادركت أنْ لا خروج منها إلّا بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممّا جعل غير المنتمي إليهم يعترف بأنّه سبيل النجاة، فهذا ابن الجوزي وهو الذي يضعف الأحاديث الصحيحة في فضل علي (عليه السلام)، يقول في كشف المشكل: «وكان كبراء الصحابة يرجعون إليه في رأيه وعلمه، حتى كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن»[13].
المطلب الثاني: وسائل تحصيل الانتماء إلى أهل البيت (عليهم السلام)
هناك طرقٌ عديدةٌ ليرتبط الفرد بالمجموعة الصحيحة، ويطمئن أنّ ارتباطه بها وانتماءه إليها منتجٌ للخير، وهي تشعرالفرد أنّ انتماءه إيجابيًا، ومن تلك الطرق المعرفة ومصدرها، فحرص الفرد على سلامة مصادر معرفته مهم؛ لأنّه يشكّل حصانةً من التأثّر السلبي بقناعات الآخر البعيد عن دائرة الصلاح والهداية، وهناك آيات عديدة تشير إلى هذه القضية المهمة منها قوله تعالى: ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ) [ سورة عبس: 24]، روى الكليني بسنده عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمّن ذكره، عن زيد الشحّام عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، قال: قلتُ ما طعامه؟ قال: «علمه الذي يأخذه، عمّن يأخذ» [14]، فالفرد كما يحرص على طيب طعامه، وسلامته من السمية والأذى، عليه أنْ يحرص على غذاء روحه، وخلوه من الأذى والتأثير بالانحراف.
وبهذا الصدد يبيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ حصر مصادر المعرفة بأهل البيت(عليهم السلام) يؤدّي إلى الانتماء الآمن، فكان يوصي أصحابه مثل كميل النخعي بقوله: «يا كميل لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا» [15].
وهنا أمير المؤمنين يشير إلى أحد أهم صور الانتماء وهي الانتماء العلمي والمعرفي، والنتيجة هي الكينونة في خطّ المنتمى إليه، وكذلك يوصي الإمام الرضا (عليه السلام) أصحابه بنشر معارف أهل ألبيت بين الناس؛ لأنّ تلك استراتيجية نتيجتها معرفة الناس أهمية وصدق أهل آلبيت فيحصل الانتماء والاتباع. روى الصدوق بسنده إلى أبي الصلت الهروي: قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: «رحم الله عبدًا أحيا أمرنا»، فقلت له: كيف يحيى أمركم؟ قال: «يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا» [16].
و كذلك يذكر الإمام الصادق (عليه السلام) طريقًا ووسيلةً قريبةً من هذه وفيها إشارةٌ لأمرٍ آخر، فقد أورد الكليني عن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «رحم الله عبدًا حبّبنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم، أمّا والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ وما استطاع أحدٌ أنْ يتعلّق عليهم بشيء، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحط إليها عشرًا» [17] .
فالإمام يشير إلى أثر معرفة المجتمع لكلام أهل البيت (عليهم السلام) دون زيادةٍ من الراوي،في حبّ الناس لأهل البيت، وهذا الحب هو نواة الانتماء الأولى، ثم يشير الإمام إلى أثر الانتماء لهم في التحصين العقائدي بقوله (لكانوا به أعزّ)، إنّ معرفة العقائد الحقّة يزيد الإنسان عزّة، والوصول إلى الحقائق السماوية يورث الفرد شعورًا بالقوّة وعدم الحاجة إلى الظلمة وأعوانهم؛ لأنّه يرتبط بمصدر القوة والمنعة في الوجود، وكذلك يشير الإمام إلى أنّ الانتماء إلى أهل ألبيت عن طريق تعلّم علومهم يؤدّي إلى حصانةٍ تجعل المنتمي إليهم الأخذ عنهم لا يستطيع أحد أنْ يُطعن في دينه أو عقائده؛ لأنهّا عقائد سماوية حقّة؛ ولأنّها عقلانية.
ثم يشير الإمام إلى نكتةٍ مهمةٍ جدًّا، وهي الفرق بين النصّ وبين فهم النص، فكثير من المستشرقين والحداثيين يحاكمون الإسلام اليوم من خلال فهم بعض العلماء للنص والإنصاف يقتضي الرجوع إلى النص، وإلى الفهم المعصوم للنص، والتحاكم إليه، وليس إلى من فهم النص، وربما زاد عليه كثيرًا، زيادة قد تصل إلى ما يفوق النص، وانظر إلى النسبة التي ذكرها الامام من مبالغات شارحي أو ناقلي النصّ، فالكلمة تصبح عشر كلمات، لعلّ أغلبها ليست مقصودةً للمعصوم.
ولا نريد هنا الدعوة إلى ترك شرح نصوص الحديث، ولكن علينا أولًا أنْ نبحث عن شرحٍ للنص من القائل نفسه في مناسبةٍ أخرى، أو من معصوم يليه، أو أنْ نتبع القواعد العلمية الموضوعية في شرح النص وتحليله، لا أنْ ينزل الراوي أو الشارح رأيه الشخصي بلا دليل على النصّ.
ومن روائع ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) في أثر الانتماء في رصّ الصف، روى الكليني عنمحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن يزيد بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «تزاوروا فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم وذكرًا لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإنْ أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإنْ تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم» [18].
فوحدة المنتمى إليه سبب للتآلف والتزاور والتراحم، وهي من الأمور التي تجلب للفرد الخير والسعادة، ويكون بها قويًّا في فكره؛ لأنّ العقول تتشارك الأفكار فتصل إلى النضج والأعمال تتضافر عليها الجهود فتنجز، فضلًا عن أنّ مجالس المحبين لاهل البيت (عليهم السلام) تكون في ذكرهم وبيان أحاديثهم وهي أبوابٌ للخير والعمل الصالح؛ ولذا عبّر الإمام بقوله: (فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم وذكرًا لأحاديثنا)، الأمر الذي يؤدّي إلى الرشد والنجاة، ثم أشار الإمام إلى ضمانة النجاة بالتزاور في محبة أهل البيت، وتداول أحاديثهم.
ولعل الإمام يريد الإشارة إلى أنّ من أسباب التحصين الفكري، حصر الفرد مجالسه مع الجماعة الصالحة، ولمزيدٍ من الاطمئنان يحرص على أنْ تكون الأحاديث هي ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) من معارف سواء أكانت قرانية أم في وصف بعضهم، وما جرى عليهم أم في عموم أخلاق الإسلام، وما أمر به.
فإنّ اعتزال هذا المجتمع إلى غيره قد يؤثّر سلبًا على الفرد، ولو بالحرمان من معرفة حقائق الأشياء أو بمعرفة ما ينجي الفرد من مشكلات الحياة، ففي حديث أهل البيت (عليهم السلام) غالبًا الحل لمشكلات البشر وما يعانون منه، ولو بطريق تعليم الناس أسرار الآيات القرآنية وآثارها، أو تعليمهم بعض الأذكار والادعية التي تستدر عطف السماء على العبد فيعفى عنه، ويفرج عنه البلاء ويكشف.
نتائج البحث:
بعد هذه الرحلة البحثية بين آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وروايات أهل البيت (عليهم السلام)، نلخّص ما تناوله البحث وأهم نتائجه:
تعرّض البحث إلى بعض الشواهد القرآنية لأثر الانتماء في التحصين العقدي وعدمه، فابن نبي الله نوح لما اعتزل المجتمع الإيماني، لم يستجب لدعوة أبيه النبي للحياة وللنجاة، وتزمّت بقناعاته الشخصيّة، والنتيجة كانت خسران حياته، بينما نجد في المقابل ابنًا لنبيٍّ دعاه أبوه للتضحية به في سبيل الله، فامتثل وسلّم وصرّح بصبره، ذاك إسماعيل ابن بني الله إبراهيم C.
ثم تعرّض البحث وفي المطلب نفسه إلى بعض الآيات التي أمرت بالكون مع الصادقين، وقد استجلى البحث بعض بصائر الآيات، وما يستفاد منها من عصمة الصادقين، وأنّ الانتماء إليهم يجلب للإنسان السعادة، والتخلص من آثار ذنوبه، وما تعرّض له من خسران في دنياه.
وقف البحث في مطلبه الثاني عند بعض الأحاديث النبوية كحديث الثقلين، وحديث السفينة اللذين يصرحان بأنّ النجاة من الضلال هو في التمسّك بالكتاب وترجمانه، فهي صريحة بأنّ الانتماء إلى أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو سببٌ ظاهرٌ في التحصين العقائدي.
وأخيرًا فقد حاول البحث في نهاية المطلب الثاني أنْ يوقف القارئ الكريم على أهم سبل تحصيل الانتماء الصحيح والإيجابي الذي يكون كفيلًا بتحصين المنظومة الفكرية والعقيدة للفرد.
ومن أهم اساب تحصيل الانتماء الإيجابي حصر مصدر المعرفة والتلقي بأهل البيت، واهتمام الفرد بمعرفته بقدر اهتمامه بطعامه وغذائه المادي، وإلّا فإنّ الاستماع الى شبهات المشكّكين والمعاندين، دون قاعدةٍ عقديةٍ راسخةٍ مبنيةٍ على البرهان، قد يجعل الفرد في ترددٍ من قبول العقائد الحقة، وهو ما يزلزل عقيدته فتفقد حصانتها بوجه الشبهات؛ ولذا ما قال أمير المؤمنين لكميل: «لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا».
وقد ختم البحث برواية توضّح قاعدةً اجتماعيةً جعفريةً وهي في مصاف ما أشار إليه البحث في مطلبه الأول في الآية التي وضحت أنّ ملازمة المعصوم يضمن الحصانة العقدية حتى لو كان الامتحان صعبًا جدًّا (طلب التضحية بالنفس)، فالرواية تشير إلى أهمية التزاور بين المنتمين إلى أهل البيت مع ضرورة تناول أحاديثهم؛ لما فيها من طاقةٍ إيجابيةٍ ولما فيها من تثبيتٍ للقلوب على المنهج القوم الحق.
وفي نهاية هذا البحث أقول: إنّ الإنسان في هذا العالم متأثّرٌ تعصف به جملةٌ من العوامل الخارجية، وتتجاذبه المدارس الفكرية، فهو عرضةٌ للابتعاد عن الحق أو التنازل عن عقائده لصالح قناعاته، بل لقناعات وروى الآخرين، والنجاة في لزوم خطّ المعصومين، ومن يسير على هديهم، وحفظ أحاديثهم وتطبيق ما جاء فيها من أوامر ومن حلولٍ للمشكلات،وأخذ أجوبتهم عن بعض الشهبهات، وزيارة قبورهم لما فيها من آثارٍ في التحصين والحفظ.
قائمة المصادر والمراجع:
ـ القرآن الكريم
الآلوسي، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني (ت 1270هـ). روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، المحقق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1415 هـ.
الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 329 هـ). الكافي،ط5، طهران إيران، دار الكتب الإسلامية، 1409هــ.
الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (381 هـ). عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، تعليق حسين الأعلميّ، ط1، بيروت – لبنان، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، ١٩٨٤م.
كمال الدين وتمام النعمة، تحقيق عليّ أكبر الغفّاري، قم، مؤسَّسة النشر الإسلامي، 1405هـ.
البخاري، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل الجعفي ( ت 256هـ). صحيح البخاري، المحقق: د. مصطفى ديب البغا، (دار ابن كثير، دار اليمامة) – دمشق، ط5، ١٤١٤ هـ١٩٩٣ م.
النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (٢٠٦٢٦١ هـ). صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1412هـ.
ابن شعبة الحراني، أبو محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين. تحف العقول، تحقيق: تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة: الثانية، قم، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ١٤٠٤١٣٦٣ ش.
الشيخ محمد ال عبد الجبار ( 350 هـ). الشهب الثواقب، ط1، تحقيق: حلمي السنان، مطبعة دار الأعلمي، بيروت 1424 هـ.
الشريف الرضي السيد محمد بن الحسين (ت 406هـ). نهج البلاغةخطب الإمام علي(عليه السلام)، ط 2 . دار الكتاب اللبناني2009 م.
الطوسي محمد بن الحسن (ت460 هـ). الأمالي، ط 1 ، تحقيق:قسم الدراسات الإسلامية-مؤسسة البعثة، 1414 هـ.
الفخر الرازي، محمد بن عمر (ت 604 هـ). تفسير مفاتح الغيب (التفسير الكبير)، ط1، الناشر: دار الفكر، بيروت،1401 هـ .
ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله (ت 656هـ). شرح نهج البلاغة، ط1، تحقيق محمد إبراهيم، دار الكتاب العربي، بغداد 2007 م.
المجلسي، محمد باقر (ت1111هـ). بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط2، مؤسسة الوفاء، لبنان.
الطباطبائي، محمد حسين (ت 1402هـ). الميزان في تفسير القرآن، ط1 ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – لبنان، 1997م .
المقالات الاجنبية:
Kassin, S., Fein, S., & Markus, H. (2008). Social Psychology Seventh Edition. Boston: Houghton Mifflin Company
Stress and affiliation: A utility theory. Psychological Review, 91,253,250 Rofe, Y. (1984).
--------------------------------------
[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة 3 /84.
[2] الآلوسي، روح المعاني: 12/154 .
[3]Steger، M. F.؛ Kashdan، T. B. (2009). «Depression and everyday social activity, belonging, and wellbeing».
[4] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القران 10/229 .
[5] الفخر الرازي، التفسير الكبير 26/157 .
[6] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل، 6/257 .
[7] الصدوق، محمد بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، 278 .
[8] الرازي ، التفسير الكبير 16/221 .
[9] الشيخ محمد ال عبد الجبار، الشهب الثواقب 119.
[10] المجلسي محمد باقر، بحار الأنوار 89/١٠٣ .
[11] الطوسي محمد بن الحسن، الأمالي، ٣٤٩.
[12] انظر: صحيح البخاري ح (١١٢٩) ، ومسلم ح(٧٦١)، واللفظ له.
[13] كشف المشكل، 1/176.
[14] الكليني محمد بن يعقوب، الكافي، 1/50
[15] ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ١٧١.
[16] الصدوق محمد بن بابويه، عيون أخبار الرضا، 1/٢٧٥.
[17] الكليني محمد بن يعقوب، الكافي، 8/٢٢٩.
[18] الكليني محمد بن يعقوب، الكافي 2/١٨٦.