الباحث : الشيخ علي ديلان
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 30
السنة : ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : April / 11 / 2024
عدد زيارات البحث : 1105
الملخّص
نستعرض في هذا المقال تحليلًا ونقدًا الرؤية الإلحادية في هذا الزمان، من حيث المناشئ والارتكازات المعتمدة لديهم، ومناقشتها بصورةٍ موضوعيةٍ بعيدةٍ عن الانحياز لهذه الجهة أو تلك. ثم نأتي بأهم الأفكار المطروحة من قبل قادة الإلحاد في العصور الأخيرة، مع بيان بعض الموضوعات المتعلقة بها.
الكلمات المفتاحيّة : الإلحاد، المرتكزات، السمات، المعرفة، الحسّي، الآيديولوجي .
Abstract
This article presents an analysis and critique of the atheistic perspective in modern times, focusing on its origins and the foundational principles they rely on, and discussing them objectively without bias towards any side. It then introduces the most significant ideas proposed by leaders of atheism in recent times, along with an explanation of some related topics.
Keywords : Atheism, Foundations, Characteristics, Knowledge, Sensory, Ideological
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبيّ الأمين محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
قبل الدخول في بيان المرتكزات ونحوها، نذكر أنّ كلمة (الإلحاد) في اللغة تعني الميل عن القصد، أو الميل عن الحق[1]. وقد اشتهر المعنى الأول في كتب اللغة، فليراجع.
وأما المعنى الاصطلاحي - وهو ما يهمنا فعلًا في ما نحن فيه - فإنّ (الإلحاد) كلمةٌ قد تطلق على معانٍ متعددةٍ في مقام التداول والجدل، والمعنى المنظور لنا هنا هو أنّه موقف اعتقاديّ سلبيّ إزاء مبدأ الكون، في مقام الجواب على سؤال: من الذي أوجد الكون؟ فهل وجد من خلال حقيقةٍ غير كونيةٍ (وجود غير طبيعي / ميتافيزيقي)، أو أنّ ثمّة قوانين طبيعية هي التي كانت مسؤولةً عن إيجاده ومجرياته وتفصيلاته؟ والإلحاد - كما الألوهية – موقفٌ تجاه الجواب على هذا السؤال، إذ يتمثّل بجوابٍ إنكاري للوجود الماورائي والاعتقاد بعدمه، وإنّ الكون إنّما كان نتيجة قوانين طبيعيةٍ صرفة، فتستبدل عنده فكرة الإله الذكي بفكرة القانون الكوني.
وعليه، فيكون تفسير الملحد لـ(بداية الكون) مشابهًا لتفسيره للمجريات الطبيعية المتضمنة في هذا الكون، من ظواهر فيزيائيةٍ وكيميائيةٍ وما شاكلهما، فكلاهما يتم تفسيره لديه وفق القانون الطبيعي، فكما أنّ الكواكب تتحرك على أساس قوانين خاصّة، فكذلك هناك قوانين كونية هي التي انتجت وجود هذا الكون.
وعليه، فإنّ المقصود من الإلحاد في هذا المقال، هو اعتقاد إيديولوجي ينكر الإله الصانع للوجود الماثل، بل لكلّ وجودٍ مفروض. ويتضمّن هذا التعريف ركنين رئيسين:
الأول: إنّ الإلحاد هو من سنخ الإعتقادات، أي من طبيعةالأفكار والمواقف الاعتقادية، فكما أنّالإلهي يعتقد بالإله الواحد، فإنّ الملاحدة يعتقدون بعدمه، فمثلًا إنّك تارةً تعلم بإنّ زيدًا ذو أخلاقٍ جيدةٍ، وأخرى تعلم بأنّه ليس بذي أخلاقٍ جيدةٍ، وثالثة لا تعلم بأنّه ذو أخلاقٍ جيدةٍ أو غير جيدة، فالأول والثاني عبارةٌ عن اعتقادٍ وتصديقٍ بخلاف الثالث؛ إذ لا يملك إزاء أخلاقية زيدٍ اعتقادًا وتصديقًا. والذي يمثّل الحالة الأولى بالنسبة إلى مبدأ الكون هو (الإلهي)، إذ يمتلك اعتقادًا بأنّالإله هو الذي أوجد الكون، والذي يمثّل الحالة الثانية هو (الملحد)؛ إذ يمتلك اعتقادًا بالإنكار، وأمّا الحالة الثالثة فيمثّلها (اللاأدري). وكثيرًا ما يقع الخلط والالتباس في تشخيص الفارق بين الملحد واللاأدري. والنتيجة، أنّ كلًّا منالإلهي والملحد ينتميان إلى أصحاب الاعتقادات بخلاف اللا أدري.
الثاني : إنّ متعلق الاعتقادالإلحادي هو إنكار وجود الله سبحانه في قبال الإلهي الذي متعلق اعتقاده هو ثبوت وجود الصانع. فهنا ركنان: الأول أنّ الإلحاد هو موقفٌ اعتقادي، والثاني هو أنّ هذا الاعتقاد متعلّقٌ بإنكار الصانع الذكي.
وينبغي التركيز فعلًا على الركن الأول، ولا مجال للتغافل عنه كما يفعل ذلك قسمٌ من الملاحدة، إذ يغضّون الطرف عن كون الإلحاد اعتقادًا، هروبًا من بعض الإشكالات التي قد يُطالب بعلاجها، وعلى سبيل التوضيح يقال: إنّ الذي يعتقد بشيءٍ ويدّعي أمرًا فلا بدّ أنْ يقيم عليه شاهدًا إمّا لنفسه أو للمجتمع العقلائي، ولا يكفي إبراز الدعوى وإشهارها من دون أنْ تكون مشفوعةً بالدليل، فمن يدعي أنّه مختص في الفيزياء فيتوجب أنْ يقدّم الشهادة على ذلك كالوثائق الرسمية الثبوتية، ومجرد أنْ يدعي أنّه متخصصٌ في هذا الجانب أو ذاك بلا مبرر إثباتي فلا قيمة له، وقد قام المجتمع العقلائي على ضرورة إبراز الشاهد في مجال الدعاوى، وكلما زادت خطورة الادّعاء كان إبراز الشاهد إوجب وإكثر إلزامًا.
ومن هنا فإنّ الذي يدعي أنّ الله تعالى غير موجود، وأنّ الكون نتاج القانون الطبيعي فعليه أنْ يُبرز الشاهد والدليل على ذلك، لا سيما أنّ هذا الادّعاء هو ادّعاءٌ كبيرٌ وخطيرٌ؛ ممّا يقتضي أنْ يكون الشاهد على هذه الدعوى ممّا ينبغي أنْ يتسم بالقوّة والوضوح والرصانة الموضوعية. إذا، فما دمت تعتقد فعليك الإثبات وإبراز الدليل، وما دام اعتقادك خطيرًا فيتوجب أنْ تتناسب قوّة الدليل مع قوّة الدعوى.
وهذه المطالبة بإبراز الدليل كانت وما زالت تمثّل اشكاليةً كبيرةً في منظومتهم الإيديولوجية؛ لعدم امتلاكهم للرؤية الواضحة تجاه الإلحاد كموقفٍ اعتقاديّ، وسيأتي أنّه من الصعب جدًا من الناحية المنهجية والموضوعية والعلمية إثبات الإلحاد ولو بدرجةٍ اعتقاديةٍ متدنّية. فكان هذا مدعاةً للتغاضي عن كون الإلحاد اعتقادًا وحاولوا أنْ يغيّروا من مسار التعريف، فبدلًا من أنْ يكون الإلحاد اعتقادًا بإنكار الإله الصانع قالوا: إنّه عدم الاعتقاد بالإله الصانع. والتعريف الثاني يقدم الإلحاد على أنّه موقفٌ غير اعتقاديّ بخلاف التعريف الأول؛ وذلك تخلّصًا من المطالبة بإقامة الشاهد والدليل على ما يدعونه. مع أنّ هذا التعريف ليس تعريفًا للإلحاد، وإنّما هو تعريفٌ للاأدرية كما علمت آنفًا.
وبكلمةٍ جامعةٍ، إنّ كلّ من يدّعي ادّعاءً في جميع المجالات وعلى كلّ الأصعدة فإنّه مطالبٌ بالدليل على ما يدّعي وسيأتي أنّ الإلحاد بجميع اتجاهاته لا يملك الحجّة المعرفية ولا الفلسفية ولا العلمية. فمثلًا إنّ الإلحاد معرفيًا لا يعتقد إلّا بالمصدر الحسّي في حين أنّ الحواس الخمس لا تبرر الاعتقاد بالأشياء التي لم تنلها، فإنّ العين إذا لم تتمكن من رؤية موجودٍ معيّنٍ فلا يعني أنّ هذا الشيء غير موجودٍ واقعًا، وإلّا فكثيرٌ من الكائنات الدقيقة غير مشاهدةٍ بالحسّ مع أنّها موجودةٌ واقعًا بنحوٍ يقيني.
ونستفيد ممّا تقدم، أنّ الإلحاد ليس موقفًا نفسيًا وحالةً مزاجيةً شخصيةً ليُقاسمثلًا- على باقي الفنون كالرسم والموسيقى والطبخ، وما إلى ذلك، بل كما ذكرنا هو موقفٌ اعتقاديّ يحتاج إلى ما يثبته. وممّا يؤسف له أنّ بعض كبار الملاحدة يصدّر الإلحاد على أنّه من قبيلالأمور النفسية والمزاجية والشخصية، فكما أنت تعجبك الموسيقى أو الطعام الفلاني، فكذلك أنا يعجبني أنْ أكون ملحدًا، وهذا ليس شيئًا ينطق به عوام الملاحدة، بل بعض رؤسائهم من قبيل ما طرح في اللقاء الرباعي فيما يُسمّون أنفسهم بـ (الفرسان الأربعة)، إذ يتضح هناك ضحالة الفكر وضعف الحجة، وقد اساءوا للإلحاد بأفكارهم قبل أنْ يُسيؤوا للإلهيين، فإنّ هذه المواقف الاعتقادية ليست أمورًا مزاجيةً بوسع الإنسان أنْ يختارها أو حالات نفسية محضة قد تعجب الإنسان أو لا تعجبه كالرغبة بتصميم الدار بهذه الطريقة مثلًا دون تلك الطريقة، بل إنّك مرغمٌ على الاعتقاد ب الإله أو عدمالإله وفق قواعد البحث العلمي، وعليك إبراز الحجة العلمية أو الفلسفية على ذلك، فإنّ هذا هو شأن الاعتقادات، إذ ليس بوسع أحدٍ أنْ يغيّر من نتيجة معادلةٍ في علم الرياضيات – مثلًا-بدعوى أنّه يعجبه ذلك، بل إنّ الإنسان ملزمٌ بالنتيجة الواقعية لا أقل من ذلك ولا أكثر.
ثم، لو كانت الاعتقادات أمورًا مزاجية فلمإذا تكتبون الكتب وتعقدون الندوات وتقيمون الحوارات في إبطال فكرة الإله الذكي؟ فليكن هذا أمرًا مزاجيًا، وإنّ كلّ شخص له أنْ يختار ما يشاء مزاجه!
والخلاصة ، أنّ الإلحاد هو اعتقادٌ وليس أمرًا غير اعتقاديّ، كما أنّه ليس أمرًا اختياريًّا ومزاجيًّا، وبوسع كل أحدٍ أنْ ينتقي العقيدة التي يرغبها بمحض حالته النفسية.
وأما الركن الثاني، وهو أنّ متعلق الاعتقاد الإلحادي (إنكار الإله). فهنا أجد نفسي ملزمًا بتوضيح الفرق بين الملحد والربوبي، فإنّ الربوبي هو شخصٌ يعتقد بوجود الله تعالى، ولكنّه ينكر الأديان، أمّا الملحد فيعتقد بإنكار الإله دون أنْ يكون له موقفٌ من إنكار الأديان في نفسها، بمعنى أنّ الملحد قد لا تكون له مشكلة مع الأديان، وإنّ إنكاره لها إنّما كان من ناحية إنكاره لوجود الله سبحانه، ولو سألناه هذا السؤال: على تقدير وجود الله تعالى هل تعتقد بالأديان؟ لأمكن أنْ يدّعي بعض الملاحدة صحّة الدين ولا مانع من الاعتقاد به عندهم، وهذا في قبال الربوبي فإنّه لا يعتقد بالأديان بغض النظر عن الاعتقاد بوجود الله سبحانه وعدمه.
وهذا التفريق مهمٌّ وندفع به الخلط الذي وقع به معظم الملاحدة حيث يناقشون فكرةالإله من خلال عدم صحة الأديان مع أنّ إنكار الأديان لا يستلزم إنكار وجود الله تعالى، كما أنّه لا يصح منهجيًا للملحد أنْ يناقش الأديان وهو يبني على عدم وجود الله سبحانه؛ لأنهّ سوف يكون الإنكار أمرًا طبيعيًا؛ فإنّه من المعلوم أنّ صحة الأديان متفرعةٌ ومتوقفةٌ على الاعتقاد بالإله الصانع. نعم، يمكن للملحد أنْ يناقش الأديان ولكن بعد افتراضه وجود الله تعالى ولو على سبيل التقدير فيقول مثلا: لو سلّمنا بوجود الله فيرد على الأديان كذا وكذا، ويكون حينئذٍ في الموقف نفسه الذي يقفه الربوبي. وهذا الخلط أيضًا قد وقع به كبار الملاحدة حيث يناقشون فكرة الإله من خلال اقتطاع نصٍّ دينيّ والإشكال عليه من دون بيان مرتكزاته وما يستند عليه، على أنّ نقد الدين لا يعني بحال بطلان فكرة الإله على ما أشرنا إليه آنفًا.
إذا، فيتوجب أنْ تكون هناك تراتبيةٌ في مقام النقاش؛ فأولًا يجب أنْ تُبحث فكرة وجود الله تعالى، ثم تبحث صحة الأديان. ومن هنا تعرف الارتباكات المنهجية في مناقشة الإعجاز وعدم تعقّله من قبل الملاحدة؛ فإنّهم يسلّطون نقدهم عليه بعد أنْ استبعدوا فكرة مسؤولية الإله في إيجاده، ومن الواضح أنّ حذف عنصر (التدخل الإلهي) من المعادلة ينتج بشكلٍ طبيعي عدم معقولية المعجزة، ولكن هذه المناقشة خاطئةٌ منهجيًّا، فإنّ المعجزة في الأديان متقومةٌ بالتدخل الإلهي فلا تصحّ إلّا معه، وإذا ما افترضنا أنّ الله قد تدخّل في إيجاد المعجزة فسوف يصبح وجودها أمرًا طبيعيًا اعتياديًا. وينبغي أنْ يكون هذا واضحًا حتى عند الملحد؛ لأنّ الملاحدة عمومًا لا ينكرون علم الله وقدرته غير المحدودة على تقدير وجوده، وعليه فإنّ افترضنا وقدّرنا وجوده سبحانه فلا معنى لمناقشة معقولية الإعجاز.
ثم ينبغي أنْ نشير في هذه اللمحة إلى أنّ نظرنا فعلًا وإنْ كان موجّهًا إلى الإلحاد بعنوان أنّه معاصرٌ إلّا أنّ تقسيمالإلحاد إلى قديم ومعاصر قد لا يكون تقسيمًا دقيقاً في الحقيقة، ذلك أنّالإلحاد ليس إلّا الاعتقاد بإنكار وجود الله تعالى، وهو موقفٌ واحدٌ لا يختلف بين زمان وزمان، وإنْ كان في كلّ زمانٍ قد يمارس الملاحدة نوعًا منالأدلّة التي قد تختلف عن الأدلّة في زمانٍ آخر، وقد تتوافق مع المعطيات العلمية المطروحة في زمانهم، فمثلًا كانالإلحاد قديمًا يعتمد على بعض الأساليب العقلية في إنكارهم للوجودالإلهي، وكانوا يقولون مثلًا بأزلية الكون، أمّا في هذا الزمان فلا يعتقدون بذلك.
مرتكزات الإلحاد المعاصر
ثم، ينبغي أنْ نبحث عن الأسس والمرتكزات المعتمدة عند الملاحدة، فإنّ لصاحب كلّ فلسفةٍ أو إيديولوجية أو فكر، مباني ومرتكزاتٍ معتمدة عنده في تحقيق فلسفته أو إيديولوجيته أو فكره، فإنّه حتى يتم تحقيق مسألةٍ من مسائل فلسفة أو فكر معيّنٍ لا بدّ أنْ تعتمد على بعضالأسس، ونطلق عليها في مقالنا بـ(المرتكزات)، فعالم الطبيعة مثلًا كالفيزيائي أو الكيميائي لديه مصدرٌ معتمدٌ في تحقيق مسائله من قبيل الحس والتجربة، وعالم التأريخ مصدره في تحقيقاته التاريخية هو الاعتماد على الوثائق التاريخية المنقولة، وهكذا.
ومقصودنا بمرتكزات الإلحاد – حينئذٍ - تلكالأسس التي يعتمدها الملحد في إثبات إلحاده، فمثلًا على أي أساسٍ يعتمد في إثباته لإنكار الوجود الماورائي؟ وما هي المباني والمصادر التي بنى عليها في سيره الاستدلالي؟ وهذا السؤال يتوجّه إلى الإلهي، بل إلى كلّ صاحب معتقدٍ وفكرٍ أو موقفٍ حتى اللاأدرية، فما هيالأسس المعتمدة عند الإلهي في إثبات وجود الصانع الذكي؟ وما هيالأسس المعتمدة عند اللاأدري في التزامه بالموقف اللاأدري؟ فهناك مبانٍ ومرتكزاتٌ معتمدةٌ عنده، كما أنّ هناك مرتكزاتٍ في الجانب الآخر، ولابدّ من محاكمة هذه الأسس والمرتكزات وفق الأسلوب الموضوعي القائم على الحياد وعدم الانحياز.
ولمّا كان الملاحدة ليسوا جميعًا على وتيرةٍ واحدةٍ من ناحية هذه المرتكزات، فيجدر بنا أنْ نسلّط الضوء على المرتكزات المشتركة بينهم، أو بين الأعم الأغلب منهم، وما سوف نذكره عنهم يُعدّ من المرتكزات الرسمية - إذا صح التعبير– لديهم.
المرتكز المعرفي
1- المرتكز المعرفي: المقصود من هذا المرتكز هو ما يكون الباحث فيه معتمدًا على أسسه المعرفية التي حقّقها – أو ينبغي أنْ يُحقّقها - في علم نظرية المعرفة. والمقصود من علم المعرفة إجمالًا، العلم الذي يبحث عن طبيعة المعرفة من حيث مصادرها وحدودها وطبيعتها وما إلى ذلك. فهل إنّ مصادر المعرفة في الذهن البشري منحصرةٌ في الحواس الخمس، أو إنّ هناك مصادر معرفية أُخر تمدّ الإنسان بطيفٍ آخر من المعرفة غير المعرفة الحسية، من قبيل المصدر العقلي؟ ثم ما هي حدود المصدر المعرفي؟ فمن المعلوم أنّه ليس كلّ مصدرٍ معرفيّ له إمكانية اكتساب كلّ معرفة، فمثلًا الحسّ ليس له مكنة اكتساب علوم الرياضيات، كما أنّ التحليل والاستنتاج العقلي المعمول به في علم الرياضيات ليس له صلاحية اكتساب المعلومات الحسية.وأيضًا، ما هي طبيعة وجود (المعرفة البشرية)؟ وهل إنّها وجودٌ ماديّ على حد سائر الوجودات المادية، أو إنّها وجودٌ ماورائي مجرد من عالم المادة؟
وبالنسبة إلى الإلحاد، فإنّ له مرتكزاتٍ معرفيةً خاصّة، قد اعتمدها في إثبات إلحاده، ومن أهم هذه المرتكزات المعرفية ما اعتمده في موضوع مصادر المعرفة، إذ لم يقبل بغير المصدر الحسي طريقًا إلى معارفه ومعلوماته، ورفض المصدر العقلي، فكانت المعطيات المعرفية المعتمدة لديه لا تخرج عن دائرة ما تناله الحواس الخمس من مشمومات وملموسات ومرئيات ونحوها، فأنكر كلّ الموجودات الماورائية الميتافيزقية؛ وذلك لأنّها ببساطة ليست منالأمور الحسية.
وهذا المصدر - أعني المصدر الحسّي - ليس حكرًا على اتجّاهٍ معيّنٍ من ناحية الاعتقاد به، بل هو معتمدٌ عند الإلهيين أيضًا، لكنّ الإلهي يعتمد على مصادر معرفية أخرى بالإضافة إلى المصدر الحسي. كما إنّ هذا المصدر ليس خاصّة الإنسان، وإنّما تشترك معه جميع أو معظم الحيوانات، على ما هو ظاهر للعيان. بل بعض الحيوانات تمتاز بقوة بعض الحواس لديها بما يفوق ما عند الإنسان بكثير.
وعليه، فالملحد يعتمد في تحقيق أفكاره على المصدر الحسّي، لكن هل هناك مصدرٌ آخر معتمد لديه؟ أشرنا آنفًا أنّه لا يؤمن إلّا بالمصدر الحسي، ونفى المصدر العقلي، أو أسقط موضوعيته عن الاعتبارعلى خلافٍ بين بعض المدارس المنطقيةوهذا بخلاف المدرسة العقلية التي تعتمد على المصدر العقلي وتقرّر أنّ هناك منافذ أخرى للذهن البشري يستمد من خلالها بعض المعطيات المعرفية التي ليست هي من قبيل المعطيات الحسية، فليست هي من الألوان أو الأصوات أو الروائح أو ما شابه ذلك، وإنّما هي معطيات غير مشوبة ب الأمور الحسية، من قبيل علوم الرياضيات التي ليست هي من قبيل المعرفة الحسية، وإنّما الذي يدركها مصدرٌ آخر، وهو الذي يعبّر عنه بالصدر العقلي، كذلك من المعطيات غير الحسية المعاني العامة كمعنى الفرح والهم والحزن ونحوها، فإنّ هذه معلوماتٌ ومعارف موجودةٌ داخل الذهن البشري مع أنّها ليست من المعطيات الحسّية.
وبالنسبة إلى الاتّجاه الحسي الذي يؤمن به الملاحدة عاجزٌ فعلًا عن تفسير المعطيات المشار إليها، إذ إنّها من جهة ليست حسّية جزمًا ومن جهة أخرى هم لا يقبلون بغير الحس مصدرًا، فوقعوا في إشكالية من هذه الناحية، فعلم الرياضيات الذي هو من العلوم التجريدية غير الحسية - باتفاق الجميع - لا بدّ أنْ يسقط عن الاعتبار على حسب مبانيهم، مع أنّه لا قائل بذلك منهم، بل شعر كبار فلاسفتهم بنوعٍ من الإحراج في مقام تفسير هذا التناقض.
كذلك؛ من الإشكاليات المحرجة لهم أنّ ( الأسس) التي قام عليه الفكر البشري لا تمثّل أمورًا حسيةً وهم يعترفون بذلك، من قبيل (اجتماع النقيضين محال) فهذه قضيةٌ عقليةٌ وليست حسية، إذ إنّها ليست منالأمور الملموسة أو المرئية أو المشمومة أو ما شابه، ولنا أنْ نتساءل: هل إنّكم تؤمنون بهذه القضية أو لا ؟ فإنْ قلتم: (نحن نعتقد باستحالة اجتماع النقيضين)، فهذا اعترافٌ واضحٌ ببعض المعطيات غير الحسية. وإنْ قلتم: (نحن لا نعتقد بهذ القضية وإنّ النقيضين يجوز اجتماعهما) فهذ يعني انهيار الفكر البشري بكامله، حتى إلحادهم سوف لا يثبت؛ لأنّ كلّ فكرةٍ تؤخذ بعين الاعتبار سوف يقال بشأنها: إنّ نقيضها صحيح وجائز، وحينئذٍ يكون الاعتقاد بالإله اعتقادًا صحيحًا الذي هو نقيض الاعتقاد بعدمه!!
وأمّا الإلهيون ففي سعةٍ من هذه الإشكالية؛ لأنهم لا يقصرون نوع المعرفة البشرية بالحسيات ولا يلتزمون بانحصار المصادر بالمصدر الحسّي، بل يتعدّون إلى غيره كما عرفت قبل قليل.
والنتيجة أنّ المرتكز المعرفي الذي اعتمد عليه الإلحاد في إنكاره للوجودالإلهي ليس صحيحًا، ومناقش فيه من الجهات التي ذكرناه كما أنّ هناك إشكاليات أخرى أعرضنا عن ذكرها للاختصار.
وإذا فشلالإلحاد في تقديم المرتكز المعرفي سوفيطال الفشل باقي المرتكزات؛ وذلك لاعتمادها على هذا المرتكز، ولكن سوف نتجاوز هذه الإشكاليات ونقوم باستعراض ومناقشة المرتكزات الأخرى.
المرتكز المنطقي
2- المرتكز المنطقي: المقصود من (المنطق) في هذا العنوان؛ الطريقة التي يسلكها الذهن في استنتاجالأفكار والوصول إلى نتائج معينة، فمثلًا إذا اردت أنْ أعرف أنّ هذا القماش جيدٌ، فيمكن للذهن أنْ يستدلّ على ذلك من خلال مشاهدة ما يماثله بالنوع مسبقًا، وكان مثلًا قد رآه جيدًا، فينتقل من الحكم الثابت في القماش المشاهد سابقًا إلى إثبات الحكم نفسه للقماش الذي نريد التعرف عليه، ويُطلق على هذه الطريقة من الاستدلال وآلية انتقال الذهن إلى النتيجة في عرف المناطقة بـ(التمثيل).
وعليه، فالطريقة المنطقية إذا ما سلكت من قبل الذهن فسوف تولّد معرفة من معرفة أخرى، وهذه المعرفة الأخرى التي يعتمدها الذهن هي من المعارف المحقّقة سلفاً أو الواضحة حدّ البداهة، ولا يعني هذا أنّ كلّ طريقةٍ منطقيةٍ هي طريقةٌ موضوعيةٌ ومضمونةٌ في مقام الاستنتاج والاستدلال، بل بعض الطرق زائفةٌ وبعضها غير ناضجٍ كما أنّ هناك طرقًا منطقيةً صحيحة، فخذ مثلًا أنّ طريقة (التمثيل) ليست من الطرق المنطقية الصحيحة وإنْ كان الناس في تعاملاتهم الحياتية يجرون عليها ويعملون بها، وإلّا فكون هذا القماش جيدًا لا يستلزم بحال أنْ يكون شبيهه له الحكم ذاته.
ومن الطرق المنطقية المذكورة في كتب المنطق، طريق التتبع والاستقراء، إذ تتبع موارد معينة في موضوعٍ ما، يبرر الحكم الكلي على ذلك الموضوع، من قبيل تتبع تمدد الحديد عند تسليط حرارةٍ عليه في موارد متعددةٍ ومواطن مختلفةٍ فينتهي الذهن إلى إثبات حكمٍ عامٍّ كليّ، وهو (أنّ كلّ حديدةٍ تتمدّد بالحرارة) فنلاحظ أنّ الذهن انتقل من موارد خاصّة محدودةٍ إلى الحكم الكلّي العام؛ ولذا يقال عن الاستقراء : «إنّه انتقالٌ من الخاصّ إلى العام». وأمثلته في حياتنا الاعتيادية والعلمية كثيرةٌ جدًّا، فمثلًا تتبع العقاقير الطبية بتجربتها على بعض الأشخاص، ومن ثم تعميمها على المستوى العام البشري، وهكذا في مجالات الفيزياء والكيمياء والاجتماع والنفس والاقتصاد، وما إلى ذلك.
وهناك طريقٌ ثالث، وهو طريق الملازمات العقلية[2]، ويُعبّر عنه بطريق القياس العقلي أو الطريق الاستنباطي. ويفترض في هذا الطريق أنْ تكون هناك ملازمةٌ بين قضيتين، فينتقل الذهن من إحداهما إلى الأخرى من قبيل التلازم بين وجود النار وجود الحراة، فإذا شاهد الإنسان النار انتقل ذهنه إلى الحرارة، ومثله إذا علمنا أنّ هناك مثلثًا فسوف ينتقل الذهن إلى أنّ مجموع زواياه تساوي 180 درجة؛ وذلك لوجود تلازمٍ بين كون الشكل مثلثًا وبين امتلاكه درجة 180. فنلاحظ أنّ الانتقال الذهني كان عبر الملازمات العقلية وليس هو كالطريقين الأول والثاني.
وبعد أنْ استبعدنا الطريق الأول من ناحية عدم ثبوت القيمة العلمية له، يبقى الحديث عن الطريق الثاني الاستقرائي والثالث العقلي، وبالنسبة إلى الملاحدة لا يعتقدون بالطريق العقلي وإنّما يتم اعتمادهم منطقيًا على الطريق الاستقرائي، وعندما ذكرنا أنّ الإلحاد له مرتكزٌ منطقيّ في إثبات مدعاه فنريد أنّه يعتمد الطريق الاستقرائي في إثباتاته، والسبب الذي دعاهم إلى الاقتصار على هذا الطريق هو أنّهم يعتمدون معرفيًا على المصدر الحسّي كما عرفت، والاستقراء إنما هو تتبع وملاحظات حسية، ولمّا كانت الماورائيات ليست مشاهداتٍ حسية، فلا تخضع حسب فهمهم إلى الطريق الاستقرائي، ومن هنا فإنّهم رفضوا الماورائيات وادّعوا أنّها لا تستند إلى حجة منطقية فإنّ الحجج المنطقية عندهم منحصرةٌ فقط بالحجة والطريق الاستقرائي المعتمد كليًّا على الملاحظات و الأمور الحسية.
أمّا بالنسبة إلى الإلهيين فإنّهم لا يرفضون طريق الاستقراء ولكن لا على أنّه السبيل المنطقي الوحيد في الإثبات، بل هناك الطريق العقلي، وهو طريقٌ موضوعيّ وسليمٌ ومعمولٌ به في جملةٍ من العلوم كعلم الهندسة والرياضيات والفيزياء ونحو ذلك، ويعتني الإلهيون بهذا الطريق المنطقي في إثبات وجود الله سبحانه عبر سبلٍ كثيرةٍ، مثل أنّ عالم المادة عالمٌ مركبٌّ من أجزاء، وكلّ شيءٍ يكون كذلك فهو حادثٌ وله بداية، كما أنّ العلم الحديث يقضي ببداية الكون ويحدّد عمرًا زمنيًا له، وإذا كان الأمر كذلك فالعقل ينتقل من الكون الحادث إلى ضرورة أنّ له مُحدِثًا لاينتمي إلى الطبيعة الكونية، وإلّا فإنّ الملازمة العقلية قاضيةٌ أيضًا باستحالة أنْ يوجد شيءٌ من لا شيء.
ويمكن أنْ يُناقش الإلحاد وعموم المدرسة المادية، بعدة أمورٍ نذكر منها ثلاثة:
الأول: إنّ العلاقة بين الأثر (المُسبَب بالفتح -) والمؤثّر (السبب) من العلاقات المعمول بها والمعتمدة في المجتمع العلمي من الناحية العملية؛ فإنّ معظم الاكتشافات العلمية يسلك فيها من الأثر إلى مؤثره، وكذا إنّ كلّ تعاملاتنا وعلى جميع المستويات يسلك فيها هذا المسلك، فالطبيب عندما يكتشف أنّ في المريض فيروسًا معينا إنّما اعتمد في اكتشافه على بعض الآثار الناتجة من ذلك الفايروس، ولو لم تكن في ذهن الطبيب علاقة السببية لما صحّ منه هذا التشخيص، بل لتعطل علم الطب وباقي العلوم لعدم ثبوت علاقة بين أيّ شيءٍ مع أيّ شيءٍ آخرعلى تقدير الإنكار. فلو التزمنا بما التزم به الملاحدة وعموم المدرسة المادية من عدم ثبوت علاقة السببية العقلية لما استقرّ حجرٌ على حجر، ولتوقفت العلوم جميعًا، وعمّت الفوضى على المستويين الكوني والاجتماعي.
الثاني: عندما يقول الملحد أنّ طريق الملازمات العقلية طريقٌ غير صحيحٍ، وإنّ طريق الاستقراء هو الطريق الصحيح. نقول لهم: كيف علمتَ أنّ طريق الاستقراء طريقٌ صحيح؟ فإنْ لم يأتِ بدليلٍ على هذا المدعى فسوف لا تكون قيمة لدعواه. وإنْ جاء بالدليل فنسأله هل هذا الدليل سببٌ وعلةٌ لإثبات صحّة طريق الاستقراء أو ليس سببًا لذلك؟ فإنّ قال: هو سببٌ له. قلنا: إذا اثبت السببية والتلازم العقلي. وإنْ قال: ليس سببًا، قلنا: إذا لا ينفع في الإثبات.
الثالث: إنّ دعواهم من كون طريق الاستقراء ليس له القدرة على إثبات الوجودات الماورائية مجانبةٌ للصواب، بل يمكن أنْ يكون الاستقراء طريقًا لإثبات الوجود الإلهي كما ساق إثبات ذلك السيد الشهيد الصدر (قده) في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء)، وطبقّه فعليًا في كتابه (المُرسِل والرسول والرسالة)، وسوف نشير إليه إنْ شاء الله تعالى.
المرتكز العلمي
3- المرتكز العلمي: المقصود بهذا المرتكز يتّضح بعد بيان المراد من (المنهج العلمي)، إذ يُراد به الخطوات التي تتبع لضمان الوصول الى نتائج مقبولةٍ في دائرة العلوم غير الزائفة، فإنّ العلوم حسب منظور المهتمين بمناهج البحث العلمي، تنقسم إلى قسمين:
الأوّل: العلوم الحقيقية (الموضوعية): وهي نوع العلوم التي تعتمد على أسسٍ مقبولةٍ عند العقلاء وذات أهدافٍ واضحة، وإنّ أدوات التحقيق فيها معترفٌ بها من الناحية العقلائية والعلمية، وهذا مثل العلوم الطبيعية، فإنّها تعتمد على مناهج تجريبيةٍ واضحة، واختباراتٍ ظاهرةٍ ونتائج ملموسةٍ، وتستهدف أغراضًا مقبولةً في المجتمع العلمي العقلائي.
وكذا مثل علم المنطق والرياضيات اللذين يعتمدان منهج الملازمات العقلية، وإنّ النتائج المترقبة فيهما نتائج حقّة. وكذا من العلوم الحقيقية الموضوعية العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والاقتصاد والقانون وغيرها، فجميع هذه العلوم تعتمد على مناهج موضوعية، ولها نتائج مقبولة وذات أهدافٍ مرضية.
الثاني: العلوم الزائفة (غير الموضوعية)، وهي بخلاف العلوم الحقيقية كعلم قراءة الكفّ والشعوذة ونحوهما، ويُعبّر عن هذه العلوم بأنّها زائفة؛ لأنّها لا تعتمد على منهجٍ واضحٍ ومعروف، كما أنّها قائمةٌ في كثيرٍ من الأحيان على التزوير والخداع، وليس لها أهداف معتمدة في العرف العلمي والعقلائي، فهي علوم مزيفة عن الحقيقة.
وينبغي أنْ نستبعد العلوم الزائفة من دائرة البحث العلمي والموضوعي، وإنّما يتم الاعتماد على القسم الأول من العلوم فقط.
وإ ذا كان المعتمد هي العلوم الحقيقية فيتوجب العمل- في خصوص بعض العلوم[3] - بخطوات المنهج العلمي في قبال ما يتبع في دائرة العلوم الزائفة. وإنّ كلّ ما سنتحدّث عنه في بيان المرتكز العلمي عندالإلحاد - استعراضًا ومناقشةً - إنّما يكون في دائرة العلوم الحقيقية لا الزائفة.
هذا، وقد وقع الاختلاف بين الإلهيين والملاحدة في بعض العلوم، في أنّها من العلوم الحقيقية أو الزائفة، بل إنّ الملاحدة أنفسهم قد اختلفوا في بعض العلوم من ناحية أنّها حقيقية أو ليست حقيقية. فمثلًا إنّ علمالأخلاق والقانون ممّا اختلف فيهما الملاحدة، فبعضهم قال: إنّها من العلوم الزائفة، إذ ليست هناك معياريةٌ للأخلاق يمكن أنْ تُعتمد بناءً على إنكار وجود الله، كذلك لا ملزم للالتزام بقانونٍ يفرض على الإرادة البشرية أيًّا كانت الجهة التي صدر منها القانون، فإنّ علمالأخلاق والقانون إنّما يقيّدان إرادة الإنسان ويمنعان من حريته، وبعبارة بعض كبار الملاحدة (لو لم يكن الله موجودًا فافعل ما شئت)، وكلّ الفلسفاتالإلحادية العبثية والفوضوية لا يعيرون وزنًا وأهميةً للقانون و الأخلاق فضلًا عن الاعتراف بالأديان والعلوم العقلية، إذ يجعلونها جميعًا من العلوم الزائفة.
وهناك من الملاحدة من يلتزم بإنّ علمالأخلاق والقانون من العلوم الحقيقية، ولكن سيأتي أنّ هؤلاء عاجزون عن تقديم معياريةٍ موضوعيةٍ لذلك، وسيتضح أنّ الإلحاد لا يجتمع مع ثبوت علمالأخلاق والقانون.
وبعد أنْ تعرّفنا على ما هو المراد من المرتكز العلمي عند الملاحدة وأنّه المنهج المعتمد ذاته من قبلهم في إثبات مقاصدهم عبر خطواتٍ تتبع وصولًا إلى النتيجة التي يرومون إثباتها، وهي إنكار وجود الصانع. نتساءل عن ما هي هذه الخطوات التي تتبع من قبل الباحث العلمي، ملحدًا كان أو غيره، للحصول على النتيجة العلمية؟
في الحقيقة، إنّ هذه الخطوات محلّ اختلافٍ بين علماء المنهج العلمي من ناحية عددها، ومن ناحية التقديم والتأخير في ترتيبها. وأيًّا كان، فإنّا ذاكرون ما يهمنا منها في موضوع بحثنا، ولا نجد حاجةً إلى تحقيق العدد والترتيب، وما سوف نذكره يمثل أحد الآراء في المسألة.
خطوات منهج المرتكز العلمي
الخطوة الأولى: الملاحظة.
الخطوة الثانية: الفرضية.
الخطوة الثالثة: الاختبار العلمي أو التجريبي.
ولكي يتضح المعنى نذكر مثالًا علميًّا ونطبق عليه هذه الخطوات، فإذا رأى طبيبٌ مريضًا، ووجد ارتفاعًا في درجة حرارة بدنه، فهنا قد لاحظ الطبيب شيئًا ورصده في المريض، وهذه هي خطوة (الملاحظة)، وهي الخطوة الأولى، حيث الرصد وملاحظة الحدث، وهذا على حدّ ملاحظة الظواهر الطبيعية والكونية كملاحظة الفيضانات والزلالزل ونحو ذلك.
وبعد ذلك يفترض الباحث تفسيرًا مؤقّتًا حول ما لاحظه وشاهده، فيقول مثلًا: إنّ ارتفاع درجة الحرارة كان بسبب الإرهاق والتعب أو التهاب أو وجود فايروس معين وهكذا. وهذه تُسمّى (بالفرضية)، وهي عبارة عن تفسيرٍ أو أكثر للظاهرة الملحوظة من قبل الباحث، وهي الخطوة الثانية.
ومن ثم يأتي دور الخطوة الثالثة، اعني (الاختبار العلمي) فمثلًا إنّ الطبيب في المثال المذكور يعطي علاجًا يتناسب مع كون الفرضية والتفسير المؤقّت هو عبارةٌ عن التهابات مثلًا، وبعده يكتشف أنّ الفرضية كانت صحيحةً أو خاطئة.
هذه – مُلخّصًا - خطوات المنهج العلمي، تبدأ بالملاحظة، ومن ثم تفرض الفرضية، وبعد ذلك يكون الاختبار العلمي، وهي متبعةٌ في جميع المجالات العلمية والإنسانية. نعم لا تتأتى هذه الخطوات في بعض العلوم كالعلوم العقلية الصرفة مثل الرياضيات؛ لأنهّا ليست من العلوم التجريبية، فلا تخضع لخطوات المنهج العلمي.
والنتيجة أنّ المرتكز العلمي للملحد ما هو إلّا توظيف خطوات المنهج العلمي في إثبات معتقده، من خلال الملاحظة والفرضية والاختبار. ولكن كيف حصل هذا التوظيف؟ وبعبارةٍ أخرى: كيف طبّق الملحد خطوات (الملاحظة والفرضية والاختبار)، وانتهى به التحقيق إلى إثبات الإلحاد؟
ينبغي أنْ ننبّه قبل الدخول في الجواب على هذا السؤال، أنّ هذه الخطوات مطروحةٌ عند علماء المنهج العلمي من أجل رسم الطريق أمام كلّ باحث، وكلٌّ حسب اختصاصه، وليست نتاجًا إلحاديًا، وإنّما الملاحدة حاولوا الاستفادة منها في تفكيرهم.
كما ينبغي أنْ نبيّن أنّ الملاحدة على قسمين من جهة امكانية الاستفادة من هذه الخطوات في إثباتالإلحاد:
الأول: يرفض أنْ تكون مسألة إثبات الصانع ممّا تخضع لخطوات المنهج العلمي، بدعوى أنّ الإله ميتافيزيقي ماورائي، فكيف يخضع للملاحظة والاختبار التجريبي؟ وبناءً على هذا الرأي تكون مسألة إثباتالإله أو إنكاره مسألةً غير علمية، وإذا قُدِّر أنْ تبحث فينبغي أنْ تبحث في مجالٍ آخر، كالفلسفة أو ما يكون من قبيلها، وهذا رأي الملاحدة القدماء.
الثاني: من يلتزم بإمكان تطبيق المنهج العلمي بخطواته المذكورة على مسألة وجود الإله الصانع، ومن يقول بذلك فإنّه يلتزم بعلمية مسألة وجود الله تعالى ويجعل العلم والمنهج العلمي من محدّدات الإثبات لهذه المسألة، بل ذهب كثيرٌ من الملاحدة إلى أنّ مسألة وجودالإله ليست سوى مسألة علمية، وأنّ العلم هو الوحيد الذي له حقّ أنْ يقرر مصيرها، من قبيل ريتشارد دوكنز من الملاحدة. وممّن قال بإمكان التطبيق من الإلهيين السيد الشهيد الصدر.
ونحن نعترف بأنّ فكرة وجود الله تعالى فكرةٌ علمية، وأنّ خطوات المنهج العلمي تثبت هذه الفكرة حتمًا حيث يكون الراجح هو ذلك. وأمّا كيفية تطبيق خطوات المنهج العلمي فتكون بهذا النحو:
أولًا نرصد الظاهرة، ثم نذكر التفسيرات المعقولة لها، وبعدها يتم الاختبار، ومنالأمور التي يمكن رصدها في المقام هو ظاهرة التنظيم المنتشر في أرجاء الكونولنا وقفةٌ معها ستأتي إنْ شاء الله تعالى - ومن ثم نذكر تفسيرين لهذه الظاهرة الأول هو أنّ الذي كان مسؤولًا عن هذا التنظيم هو الإله الصانع الذكي وهذه فرضيةٌ صحيحةٌ ومقبولةٌ عند الجبهتين الإلحادية و الإلهية. والفرضية الثانية، فرضية القانون الطبيعي والصدفة، والخطوة الثالثة هي اختبار صحة هذه الفرضية أو تلك.
ويجدر بنا أنْ نذكر أنّه بعد الانتهاء من تحقيق فرضية من الفرضيات، فإنْ حصلت هذه الفرضية على درجةٍ تصديقيةٍ عاليةٍ وتامةٍ كأن تكون 100% ، أو ما يقاربها، فيعبّر عنها حينئذ بالحقائق العلمية، من قبيل دوران الأرض حول نفسها، وهي قضايا لا تقبل النفي والجدل، ولها قيمةٌ عاليةٌ جدًّا، وتكون من القضايا المرجعية في باب الجدل والحوار، وينبغي أنْ يعترف بها الجميع، ومنكرها لا محالة لا يُعبأ به ولا يلتفت إليه. وأما إذا اكتسبت درجةً تصديقيةً دون ذلك، كأنْ تكون بدرجةٍ تصديقيةٍ مقدارها 70%، فيعبّر عنها بالنظرية، وهي قضيةٌ مقبولةٌ علميًّا ومعترفٌ بها إلى حدٍّ ما، ولكنّها ليست على حد الحقائق العلمية، ومن الممكن أنْ ترفض متى ما اصطدمت معالحقائق، ولا ينبغي أنْ تكون سببًا في رفض أفكار مهمةٍ وخطيرةٍ ما دامت هي أمورٌ ظنيةٌ لم يحسم أمرها بصورةٍ يقينية، فإنّه يتوجب أنْ تلاحظ (النظرية) عند مقارنتها مع بعضالأفكار بدرجة الاحتمال ودرجة أهمية المحتمل، فمثلًا إذا احتملنا ولو بنسبة 5% أنّ هذا الطعام قد وضع فيه سمٌّ قاتلٌ، فهنا يتوفر عندنا درجةٌ احتماليةٌ ضعيفةٌ، ولكن المحتمل بدرجةٍ عاليةٍ من الأهمية والخطورة، ومن الناحية العقلائية والعلمية يحكم بترك هذا الطعام لزومًا رغم أنّ احتمال عدم سُمّيّته يمثل 95%، فكذلك الأمر في النظريات فإنّ درجة احتماليتها وإنْ كانت عاليةً إلا إنهّا إذا اقترنت بأهمية المحتمل فيتوجب ترك العمل بها.
وأما إذا فشل الاختبار العلمي فيبقى التفسير المطروح للظاهرة تحت مسمى الفرضية، ولا يرقى إلى النظرية أو الحقيقة العلمية.
هذه أهم المرتكزات التي يعتمدها الملحد في بيان موقفه السلبي تجاه فكرة وجود الصانع الحكيم، وسيظهر ضعف الاعتماد عليها كحجةٍ مقبولةٍ وقادرةٍ على اثبات مدّعاه.
سمات الإلحاد المعاصر
وممّا ينبغي استعراضه البحث عن السمات (الإيديولوجية) و(الإعلامية) للإلحاد المعاصر، والمقصود من (السمات) أهم ما يتميز به الفكر والتفكيرالإلحادي على المستوى الإيديولوجي وما يتميز به الخطابالإلحادي وإظهار نفسه للآخرين على المستوى الإعلامي.
إنّ منالأفكار والتوجهات ما تتسم بالموضوعية والرصانة إيديولوجيا، وبالإمانة والإنصاف إعلاميًا، فتجدهم ينساقون بالبرهان نحو معتقداتهم وأفكارهم، ولا يتحرجون من التنازل عن أفكارهم متى ما وجدوا الدليل على خلاف متبنياتهم، كما تجدهم في أعلى درجات الأمانة في تقديم أنفسهم للآخرين، ولا يحمّلون أفكار الخصوم ما لم تحتمل أفكارهم، ولا يمارسون عملية الكذب والتزوير في سبيل تصدير أفكارهم وتلميعها، وبأيّ وسيلةٍ كانت.
وفي الجانب الآخر تجد ما هو عكس ذلك تمامًا، فتجد ضعف المباني المعتمدة، والالتزام ب الأفكار الزائفة والخروج عن الموضوعية في غالب الأحيان، كما تلاحظ الكذب والتزوير في خطابهم وجدلياتهم. كما إنّ من الاتجاهات ما تكون ملفّقةً بين هذا وذاك.
ونريد هنا تسليط الضوء على السمات التي يمكن رصدها للإلحاد المعاصر بصورةٍ عامة، من الناحيتين الإيديولوجية والإعلامية. وإنّما اخترنا البحث عن السمات الإعلامية بالإضافة الى الايديولوجية؛ فذلك لإنّ الإعلام يمثّل وجه الأكار في حالات فهم الآخر، أو تفهيمه، ومن غير الإعلام المنصف لا يمكن أنْ نتعرف على مضامينالأفكار بصورتها الدقيقة.
أهمية البحث في سمات الإلحاد
تتمثل أهمية هذا المبحث ب الأمور الآتية:
1- إنّ التعرّف على سمات الإلحاد يعني ببساطة التعرّف على طريقة تفكيرالملحدين؛ وهذا يُمكّننا من الوقوف على القواسم المشتركة لتكون نقاط إلزامٍ عليهم، وتوفّر الحجة لدى الطرف الآخر، ومن دون ذلك يتشتت الحوار وتضيع الحجة، فلا يصل النقاش إلى الهدف المطلوب. فمثلًا من السمات الإيديولوجية للملاحدة هي الاعتماد على خطوات المنهج العلمي، وكانت الخطوة الأولى منها هي (الملاحظة) فقد يسيء الملحد فهم هذه الخطوة - كما هوحال كثيرٍ منهم - ويتوهم أنّ المراد من الملاحظة (خصوص ما يباشره الحس) من عينٍ أو أذنٍ أو نحوهما مع أنّه ليس المراد من هذه الخطوة هذا المعنى، وإنّما تشمل أيضًا بعض الأشياء التي لا يدركها الحس مباشرة من قبيل بعض القوى الطبيعية كقوة الطاقة الكهربائية، وكذلك قوة الجاذبيةوفق نيوتن - فإنّ هذه القوى نرصدها عن طريق رصد آثارها لا أنّها تلاحظ حسيًّا بالمباشرة. فإذا ما أوضحنا للملحد هذا المعنى فيمكن بعد ذلك أنْ نبني النقاش في المرحلة اللاحقة.
كذلك، بالنسبة إلى خطوة الفرضية التي هي تفسيرٌ مؤقّت، فإنّه لا يجب أنْ يكون الشيء الذي به حصل التفسير من الأشياء المدركة بالحس مباشرة، بل يمكن ألّا يكون كذلك ودونك فيزياء الكوانتم.
إنّ التعرّف على طريقة تفكير الملحد، وكيف يبني أفكاره من الأسس المعتمدة لديه، تضعنا في المكان المناسب لاكتشاف الأخطاء، ومواطن الخلل في تفكيره.
2-إنّ معرفة سمات الإلحاد لها أهميتها من ناحية احترازية، إذ يتوجب على الباحث أنْ يأخذ الحيطة من تمرير بعضالأفكار عبر ما يسلكونه عادةً في مساحات تصدير معتقداتهم، وهذه الأهمية ترتبط بالسمات الإعلامية. ومن المعلوم ما للإعلام من دورٍ تأثيريّ على الجمهور المستهدف، سواء كان الإعلام سياسيًا أم عقديًا أم غيرهما، إذ يمارس في الجانب الخطابي ما من شأنه أنْ يؤثّر في متبنيات الجمهور وعقائده وسلوكياته، ويحاول هؤلاء في العادة أنْ يستعرضواالإلحاد على أنّه فكرٌ إنساني وخلقي، وأنّه إذا ما سيطر على الجماعة البشرية، فإنّ البشرية سوف تأخذ طريق الخير والأمان، ويتغافلون عن المجازر التاريخية التي حدثت على يد فئةٍ من داعميالإلحاد، مع التركيز على أخطاء سلوكيات خصومهم.
3-إنّ من موارد أهمية هذا المبحث هو التركيز على نقاط القوة والضعف في مجمل أفكارالملحدين، ذلك أنّ الاتجاهات الفكرية غالبًا ما تشتمل على موارد عقدية هي نقاط القوة فيها كما إنّ هناك موارد تمثّل نقاطًا حرجةً عليهم، وتحتاج إلى تدعيم وتأسيس واضح، وقد يشعر أصحاب الفكر بفراغٍ برهاني على معتقدٍ أو فكرة، وربما تكون هذه الفكرة هي من الأصول المهمة وأركان إيديولوجيتهم.
4- ممّا يرتبط بأهمية هذا المبحث، هو تمييز الجوانب العلمية (الموضوعية) القابلة للنقاش عن الجوانب الذاتية والإعلامية، فما أكثر ما يلتبس الجانب الموضوعي بالجانب الذاتي، فإذا ما تعرّفنا على أن ّهذا الاتجاهكالإلحاد مثلًايخلط بين الجانبين وأنّ هذه من سماته المتكررة، فيلزم العمل على فرز ما يطرحونه وتشخيص الخطابيات الإعلامية عنالأفكار العلمية.
أولاً:- السمات الإيديولوجية
وأمّا أهم السمات الإيديولوجية للإلحاد فهي:
الأولى: الخلط بين الديني وغيره، إذ يخلطون بين أفكار ينبغي أنْ تناقش بعد التسليم بوجود الله تعالى وأخرى تناقش قبل ذلك، أو بغض النظر عن الاعتقاد بالإله الصانع. وقد ذكرنا سابقا أنّ الملحد إذا ما ناقش في بعض تفاصيل الأديان كالفقه الديني أو معاجز الأنبياء فيتوجب أنْ نُلزمه بافتراض وجود الله تعالى، ومن ثم يتأتى طرح الإشكال فتتم مناقشته؛ وذلك لأنّه ليس من الصحيح منهجيًّا أنْ تستشكل في جوانب دينيةٍ مبنيةٍ على فكرة الوجود الإلهي في الوقت الذي تعزل هذه الجوانب عن فكرة الإله. فمثلًا من المغالطات الاستشكال على المعجزة في سياق إنكار الوجود الإلهي؛ فإنّه من الواضح حتى الإلهي لا يتقبلالأمور الاعجازية منفصلةً عن التدخّل الإلهي، فخذ على سبيل المثال، فلق البحر وإحياء الموتى تكون ضربًا من الأساطير إذا ما عزلت عن التدخّل الإلهي، وهذا متفقٌ عليه، ولكن أيضًا من المتفق عليه أو الذي يجب أنْ يتفق عليه، أنّ التدخّل الإلهي إذا ما افترض فإنّ هذه الظواهر تضحى أمورًا طبيعية اعتيادية، وليست نسبتها إلى الله تعالى نسبةً إعجازية، وإنّما هي إعجازيةٌ بلحاظ المقدور البشري؛ ولذا فإنّ الملاحدة لا يرفضون إمكان حصول هذه المعاجز من قبل الإله الصانع؛ ذلك أنّ الله تعالى عندهم على تقدير وجوده، كلّي العلم وكلّي القدرة وكلّي الإرادة.
نعم، بالنسبة إلى الربوبي له أنْ يستشكل مباشرةً على أيّ فكرةٍ ترتبط بالدين بعد أنْ افترضنا أنّه ممّن يسلم بالوجود الإلهي.
إن ّالملحد غالبًا ما يتعدّى مساحته إلى مساحة الربوبي، فيستشكل بإشكالاتٍ هي خارج مساحته المرسومة له منهجيًّا وإيديولوجيًا، فيلتبس ذلك على المتلقي فيحسبه إشكالًا موضوعيًا. وهذه سمة من سمات الإلحاد المعاصر.
الثانية: من سماتالإلحاد في هذا الزمان سطحية فهمالإلحاد من قبل أغلب الملاحدة، وعدم معرفة أكثرهم بالمباني الدقيقة التي يرتكز عليهاالإلحاد، سواء منها المعرفية أم المنطقية أم العلمية، كما يجهلون واقع الطريق المنطقي، وكيفية تطبيق خطوات المنهج العلمي، حيث تجد اعتقاد كثيرٍ من الملاحدة ناتجًا من أسبابٍ نفسيةٍ أو اجتماعيةٍ ذات ظروفٍ خاصة، وليس نتيجة البحث الموضوعي غير المنحاز؛ ولأنّهم سطحيون في اعتقادهم قد تجد التهافت والازدواجية في أفكارهم، بل قد يتكلّمون فيما يناقض مبانيالإلحاد من حيث لا يشعرون.
الثالثة: إنّ الملاحدة يدعون أنّ إيديولوجيتهم إنسانيةٌ فيحاولون بقدر الإمكان التركيز علىالأخلاقيات العامة فتجد في عباراتهم الحرية واحترام الرأي وحب الإنسان والطبيعة وما شابه ذلك، مع أنّهم لا يملكون معيارًا واحدًا يصحّحون فيه هذه الدعاوى، وسيأتي الكلام حوله لاحقًا. على أنّ دعوى الإلحاد لهذه الإنسانية يتناقض مع مبانيهم ومرتكزاتهم، من رفض كلّ ما يقيد إرادتهم واختيارهم.
الرابعة: من سمات الإلحاد المطالبة بالحرية المطلقة، والتي هي تساوي الإباحية المطلقة، رغم أنّها مخالفة للسنن القانونية البشرية التي يزمرون بها، حيث يطلق العنان لإرادة الإنسان بأنْ يفعل ما يشاء كيف يشاء أنّى يشاء .. ومثل هذا الموجود يمثل كائنا خطيرًا على البشر؛ لأنّه يهدد البشر على المستوى الإيديولوجي، فإنّه إذا كان يؤمن بالحرية المطلقة فهذا يعني أنّه يجيز لنفسه كلّ شيء، إذ من الممكن أنْ يقتلني لمصلحته الخاصة، ويكذب علي من أجل حفنة من المال، ويفعل أيّ شيءٍ قبيح من أجل ذلك، فلا ملزم له يمنعه من ممارسة أفعاله ما دام أنّ ما يفعله يصب في صالح حياته الشخصية، بل ولمإذا أصلًا يتوجب عليه أنْ يمتثل للقانون مع مصادمته لمنافعه الذاتية.
الخامسة: من سمات الإلحاد تطرفهم في إنكار الماورائيات، وغالبًا هذه السمة موجودة بين عوام الإلحاد لا سيما ملاحدة الشرق، وإلا فإنّ كبار الملاحدة لا يمانعون من احتمالية وجود الماورائيات حتى (ريتشارد دوكنز) الملحد الشهير ليس متيقنًا من عدم وجود الله وإنّما يحتمل ذلك احتمالًا كبيرًا.
ثانياً :- السمات الإعلامية
وأمّا السمات الإعلامية للإلحاد، فهي :
الأولى: تحريف فكرة الإله الماورائي وتقديمه للمتلقي على أنّ هذا هو الإله الذي تقصده الأديان ويعتقد بهالإلهيون، ويكون ذلك عبر وسائل متعدد كالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للإله الواحد وتصويره بصورةٍ خاطئةٍ بهدف تنفير القارئ أو المشاهد منها.
وهذا الأسلوب مشينٌ جدًّا، وطريقة رخيصة في تصويرالأفكار، ولا ينبغي أنْ يفعله المنصف الباحث عن الحقيقة.
الثانية: من السمات تصنيفهم لأتباع الأديان بأنّهم من أصحاب الأفكار القديمة، ويلبسونهم لباس التأخّر والرجعية في الوقت الذي يزعمون لأنفسهم الحداثة والتقدّم، وهذا له عاملٌ نفسيّ مهمٌ وخطيرٌ لا سيّما إذا كان المتحدّث له أسلوبٌ خطابيّ جيّدٌ ومؤثّر، إذ يخيل للإلهي أو المتدين بأنّه من أصحاب الاعتقادات القديمة، والحال أنّ الصراع بين جبهتي الإلحاد والإلوهية ليس وليد الساعة حتى يتهم الإلوهي بأنّه رجعي قديم، بل أما أن يكون كل منهما قديم أو كلاهما حديث أو أن المسألة لا ترتبط بعامل الزمن بقدر ما تتعلق بتوفر القناعة والتدليل عليها.
الثالثة: من السمات الإعلامية للإلحاد المعاصر التركيز على نماذج متفرقة من النصوص الدينية، وعزلها عن السياق الذي صدرت فيه، ومن ثم انتقاد الدين بأكمله، بل قد يتم التركيز على بعض الفقرات من دينٍ معيّنٍ وتوجيه النقد إلى تمام الأديان! وكثيرًا ما يحصل هذا النمط من الأسلوب.
ويندرج في هذه السمة محاولات تسقيط الدين من خلال بعض سلوكيات المتدينين، وكأنّ هذا السلوك هو الانعكاس للأفكار الدينية، لاسيما فيما يرتبط بالأفعال المرهونة بالعادات والتقاليد والرسوم العنصرية أو القومية.
الرابعة: من سمات الإلحاد الإعلامية، التصريح المتكرر من قبلهم بأنّ هناك تناقضًا بين العلم والدين، وغالبًا ما يثار في سبيل إثبات ذلك التناقض الواقع في مضامين وأفكار الدين المسيحي، ومن ثم تعميمها على باقي الأديان، ولو من ناحية دعوى أنّ الأديان جميعها على سبيلٍ واحد.
ويصاحب – عادةً - دعوى التناقض سواء في الدين المسيحي أم غيره، سوء فهم للنص الديني وتلقيه بصورةٍ ناقصةٍ غير مكتملة. هذه أهمّ السمات التي يمكن ذكرها في هذه العجالة.
المصادر
-ابن منظور، لسان العرب ، ط3، بيروت، دار صادر، 1416ق.
- بنروز، روجر: العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، ترجمة محمد وائل الأتاسي ود. بسام المعصراني، ط1، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1998م.
- بول ديفيز وجون جريبين: أسطورة المادة؛ صورة المادة في الفيزياء الحديثة، ترجمة: م. علي يوسف علي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- دوكينز، ريتشارد: وهم الإله، ترجمة: بسام البغدادي، إصدار تجريبي، 2009 م.
- شريف، عمرو: رحلة عقل، ط4، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2011م.
- الكفوي، أبو البقاء،الكليّات، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة – بيروت.
- كاكو، ميتشيو: رؤى مستقبلية، ترجمة: د. سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2001م.
- ويلز، جوناثان: أيقونات التطور؛ علم أم خرافة، ترجمة: د. موسى إدريس ود. أحمد ماحي ود.محمد القاضي، ط1، دار الكاتب للنشر والتوزيع، 2014م.
-------------------------
[1]-ابن منظور، لسان العرب ،ط3، بيروت، دار صادر، 1416ق، ج3 ص389. وراجع (الكليات لأبي البقاء ص490).
[2]- عبّرنا عنه بطريق الملازمات العقلية لكونه تعبيرًا أوضح لدى ذهن المتلقي.
[3]- أي: غير العلوم الحقيقية التجريدية من مثل علم الرياضيات والمنطق والفلسفة.