البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

خصائص الحاكم العادل في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)

الباحث :  أ.د كريم شاتي السراجي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  18
السنة :  شهرشوال 1440هـ / 2019م
تاريخ إضافة البحث :  July / 9 / 2019
عدد زيارات البحث :  5226
تحميل  ( 647.466 KB )
تعد مسألة الحكومة والدولة والحاكم من المسائل المهمة في حياة الإنسان والمجتمعات، ومن المسائل الأساسية التي واجهها الفكر البشري منذ نشوء المجتمعات، وقد طُرحت في هذا المجال نظرياتٌ وآراء كثيرةٌ ومختلفةٌ من قبل مفكرين وأديانٍ ومدارسَ فلسفيةٍ على طول التاريخ. وقد سجل لنا التاريخ شواهدَ كثيرةً على هذا الجهد البشري، ومن أقدم المحاولات في هذا الاتجاه ما وصل إلينا من تنظيرٍ فكريٍّ رائعٍ حول الدولة والجمهورية من قبل فلاسفة اليونان وبالخصوص أفلاطون في جمهوريته التي تحدث فيها عن العدالة والنظام وطبيعة الدولة والحكومة وقد تأثر به الفيلسوف الإسلامي الكبير الفارابي وألف على نهجه المدينة الفاضلة التي تحاكي جمهورية أفلاطون في نسقها وعدالتها وحاكمها ومثاليتها.
وكان المحور في هذه المدينة هو الحاكم والرئيس الذي يمثل الضمانة الأكيدة للدولة الفاضلة العادلة وشبهه بقلب الإنسان وعلاقته بباقي أعضاء الجسد فإذا صلح القلب صلح وطاب جميع الجسد وإذا مرض القلب مرض وخبث جميع الجسد فكذلك الحاكم إذا صلح صلح جميع المجتمع وإذا فسد فسد جميع المجتمع وهذا المعنى يشير إليه الحديث الوارد عن النبي (ص): «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي الأمراء والقراء»[1]. وقد عالج التشريع الاسلامي من خلال القرآن وسيرة النبي الأكرم (ص) والسنة النبوية الشريفة هذه المسألة المهمة الحساسة من خلال بيان صفات وشروط الحاكم العادل وواجباته و حقوقه.
وقد حضيت مسألة الحكومة والعدالة باهتمامٍ كبيرٍ من قبل الإمام عليٍّ (ع) من خلال تجربته الفذة والرائعة والمتفردة على طول التاريخ في الحكم وإدارة الدولة في عصره (ع). وقد تجسدت هذه التجربة الرائعة في الحكم من خلال سيرته (ع) وكلماته وخطبه ووصاياه إلى الولاة والأمراء، وأشمل وأجمل وأطول هذه النصوص وأجمعها لأصول ومسائل إدارة الدولة والحكم هو العهد الذي كتبه إلى واليه على مصر مالكٍ الأشتر.
وسوف نتناول من خلال هذا العهد صفات وخصائص وواجبات وحقوق الحاكم والمسؤول العادل وأثرها في بناء المجتمع والدولة الفاضلة. وقد انتظم البحث في أربعة مطالبَ: الإيماني والأخلاقي (التقوى)، الإداري والسياسي، الاجتماعي والعسكري، والاقتصادي.

المطلب الاول: الإيماني والأخلاقي (التقوى):
 إن المتصفح للقرآن الكريم يجد أن كلمة التقوى ومشتقاتها استعملت أكثر من مائتَيْ مرةٍ في القرآن الكريم وهذا التركيز والتأكيد والتكثيف لهذه المفردة يدل على أهميتها  وخطورتها في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، بل ورد في بعض الآيات أن التقوى هي سببٌ لنزول البركات واستقرار المجتمعات، قال تعالى: ﴿ وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ الأعراف 96  فالتقوى أصلٌ لكلِّ فضيلةٍ ولذلك نجد أن القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات المباركات يوصي بالتقوى، وأيضا ما ورد عن النبي (ص) والأئمة (ع) فتجد خطب وكلمات سيد البلغاء والمتكلمين مشحونةً بهذه المفردة فلا تخلو كلمةٌ له (ع) من الإشارة إلى هذه الخصلة التي تُعَدُّ سببًا لسعادة واستقرار وثبات المجتمعات في الدنيا والآخرة.
إن أول وصية للإمام (ع) تضمنها عهده إلى مالك الأشتر هي وصية التقوى حيث جاء في العهد (أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحدٌ إلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها)[2].
حيث إن الإمام (ع) ربط سعادة الإنسان وشقاوته باتباع التقوى وتضييعها. فما المقصود بالتقوى؟
التقوى في اللغة من وقى، وكل ما وقى شيئا فهو وقاءٌ له وقايةً[3].
وأيضا هي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، وجعل النفس في وقايةٍ مما يخاف، ثم يسمى الخوف تارةً تقوى، والتقوى خوفًا، ثم صار التقوى في تعاريف الشرع حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحظور[4].
وفي الاصطلاح: هو الاحتراز بطاعة الله عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعلٍ أو تركٍ[5].
وعرفها الإمام الصادق (ع): «أن لا يفقدك حيث أمرك وأن لا يراك حيث نهاك»[6].
وعليه فالتقوى تعني الالتزام بالأوامر الإلهية والانتهاء عن النواهي الإلهية.
وهي الرقيب الداخلي الذي يحفظ سلوك الإنسان عن الزيغ والخروج عن الطريق السوي الذي أمر الله تعالى به.
فالتقوى تُعتبر صمام أمانٍ وضابطًا مهمًّا لكل فردٍ في المجتمع وبالخصوص للحاكم لأنها تمنعه من أن ينحرف بتأثير شهواته ومطامعه وأهوائه وأن يتعالى على نفسه ليستطيع أن يحكم بين الناس بالعدل والإنصاف فلا يجور ولا يتعسف ويضع نصب عينيه رضا الله تعالى فينتصر للمظلوم من الظالم ويرجع الحقوق إلى أهلها.
إن النظام الأخلاقي والقيمي في الإسلام يربط الإنسان ربطًا أكيدًا بالله تعالى ويعتبر الإنسان موجودًا له عمرٌ غيرُ متناهٍ تمتد حياته إلى أبعدَ من هذه الحياة الدنيا المحسوسة إلى حياةٍ أخرى لا يموت فيها وأن الانسان مخلوقٌ لله تعالى لا يملك حولًا ولا قوًة إلا بإذنه فهو موجودٌ رابطٌ فقيرٌ غيرُ مستقلٍّ يحتاج في كلِّ آنٍ إلى المدد الإلهي. وهذه الحقيقة لمن يتشعر بها لها تأثيرٌ كبيرٌ على أخلاق وأفعال الحاكم، وبهذا الصدد يقول أمير المؤمنين: (أنا وأنتم عبيدٌ مملوكون لربٍّ لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من أنفسنا)[7].
فمن يعشْ هذا الاحساس والشعور تجاه خالقه وربه فلا شكّ سوف يقوم بأعماله على أفضل ما يكون وينضبط ضمن أوامر خالقه وربه وهذا بدوره يؤدي إلى قيام دولة العدل والانصاف بواسطة عدالة هذا الحاكم، فالحاكم الذي له علاقة بهذا المستوى مع الله تعالى لا يظلم أحدا قطعًا ولهذا يقول الإمام عليٌّ (ع): «والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلته وإن دنياكم عندي لأهون من ورقةٍ في فم جرادةٍ تقضمها»[8].
ولذلك كلما كان الحاكم على معرفةٍ وارتباطٍ بالله تعالى كلما كان ملتزمًا بالأوامر الإلهية مطيعًا لشرع الله وقوانينه بين الرعية.
إن ضبط النفس عن الهوى والغضب والميول والرغبات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالخوف من الله تعالى وتقواه الذي ينعكس على تعامل الحاكم مع رعيته بالعدل والإنصاف والرحمة وعدم الاستهتار بأموال المسلمين وعدم التصرف بها على أنها ملكٌ خاصٌّ للحاكم يفعل بها كيفما شاء.
يقول أمير المؤمنين (ع): «أأقنع من نفسي بأن يقال «أميرالمؤمنين» ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها...»[9].
فالتقوى تمثل حصانةً للحاكم والمسؤول عن خيانة الأمة في الأموال والأنفس والأعراض.
ونجد ذلك في سيرة أئمة العدل وفي مقدمتهم بعد رسول الله (ص) أميرالمؤمنين وإمام المتقين الذي كان شديد الحرص على حفظ أموال الأمة وأعراض وأرواح الناس بل تعامل مع أعدائه بالعدل والإنصاف وهذا ما حصل في معركة صفين عندما منع العدو الماء عن جيش الإمام عليٍّ (ع)، وعندما كان الماء تحت سيطرتهم وبعد أن دفعهم جيش الإمام عن الماء لم يمنعهم (ع) من الماء وقال أن الماء للجميع، وكذلك ما صنع في معركة الجمل حيث حكّم شرع الله ولم يتعدَّه فلم يَسْب النساء والذراري وإنما اقتصر على أموال الناكثين التي كانت في ساحة المعركة[10].
وأيضا مقولته المعروفة في حق الخوارج «لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطائه كمن طلب الباطل فأصابه»[11].
وما ورد عن سيرة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز حيث رفع السب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وأعاد بعض الحقوق إلى أهلها وكان يقال أن سبب ذلك هو تدينه وتقواه التي تميز بها عن باقي خلفاء بني أمية[12].
فالتقوى تمثل ركنًا أساسيًّا وشرطًا مهمًّا للحاكم العادل التي من خلالها يستطيع الحاكم أن يحكم بالقسط والعدل وبهذا الصدد يقول الإمام الحسين (ع) من كتابٍ له إلى أهل الكوفة: «فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذات الله تعالى»[13]. فحبْس النفس والهوى هو عين التقوى وهو الذي يجعل الحاكم قائمًا بالقسط والعدل لأن أساس الظلم هو اتباع الهوى وحب الدنيا وطول الأمل ولذلك قال أمير المؤمنين (ع): «إني أخاف عليكم اثنتين  اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فإنه يرد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة»[14].
وقد اتفق المسلمون[15] على أن الإمام لا بد أن يكون عادلًا حتى لا يجور في حكمه، بل الإمامية[16] اشترطوا أن يكون معصومًا وذكروا لذلك أدلةً عقليةً ونقليةً.
وعليه فعدالة الحاكم موضع اتفاق جميع المسلمين ولها أثرٌ بالغٌ في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية وحفظ المجتمع والأمة من الانحراف والفساد والضياع.
ولذلك كلما كان الحاكم عادلًا متقًيا كان رحيمًا رفيقًا شفيعًا على ضعاف الناس وأهل الحاجة والمسكنة قويًّا في وجه المستكبرين والظلمة، وقد وعد الله المتقين بالمفاز والجنة والرضوان قال تعالى: ﴿إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ مَفَازًا 31 حَدَآئِقَ وَأَعۡنَٰبٗا﴾.

المطلب الثاني: الاداري والسياسي
يتضمن عهد الإمام (ع) إلى مالك الأشتر قواعدَ وأصولًا مهمةً للعمل الإداري والسياسي بشكلٍ عامٍّ وللحاكم والوالي والمتصدي لأمور الناس بشكلٍ خاصٍّ.
القاعدة الأولى: الاعتبار بتجارب الحكام السابقين:
ومن هذه القواعد النظر والتأمل في مسيرة الحكام السابقين وأن يراقب الحاكم نفسه بعين العامة والمحكومين.
وقد عبر عنها الإمام (ع) بقوله: «إني قد وجهتك إلى بلادٍ قد جرت عليها دولٌ قبلك، من عدلٍ وجورٍ وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم وإنما يُستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح»[17].
في هذا النص يؤصّل الإمام لقاعدةٍ مهمةٍ في إدارة الحكم وهي أن الحاكم يراقب نفسه من خلال سيرة الحكام السابقين ويعتبر بها ويجعل نفسه في صفوف المحكومين والعامة في تقييم أعماله وهذا كلامٌ في غاية الروعة لأن الإنسان بطبعه عندما يكون ضمن العامة ينظر إلى تصرفات الحاكم بطريقةٍ مختلفةٍ عن الحاكم نفسه وبذلك تكون حكومته وقراراته منطلقةً من حاجات الناس ومن رغبة الشعب وعامته، وإذا كان الحاكم بهذه الصورة فإن الله تعالى قد جعل له سننًا تجري في عباده ومن هذه السنن الذكر الطيب والرضا من قبل عامة الناس على هذا الحاكم. إن هذه الوصية جعلها الإمام في أول وصاياه وعهده إلى مالك الأشتر لأنها في غاية الأهمية وذلك لأن أغلب الذين يتصدون للحكم والمسؤولية يتناسون انتقادهم لأعمال الحاكم والمسؤول عندما كانوا ضمن المحكومين وعامة الناس فينفصل تمامًا عن تلك المرحلة (مرحلة المحكوم) ويمارس دور الحاكم بدون الاستفادة من تجربته عندما كان محكومًا وضمن عامة الناس والشعب وهذه الصفة تجعل الحاكم بعيدًا عن رغبات وطموح عامة الناس. وهذا ما حصل لمن تولى الحكم بعد عام 2003 م في العراق حيث إن الحكام لم يعتبروا من تجربة النظام البائد مع الشعب العراقي وتناسوا معاناتهم وآلامهم وانتقاداتهم ومعارضتهم للنظام البائد عندما كانوا في المعارضة واليوم الكثير منهم يكرر كثيرًا من أعمال الظلمة وكان جديرًا بهم وبالخصوص أتباع أهل البيت وممن يدّعون بالرجوع إلى الإمام عليٍّ  (ع) أن يجعلوا سيرة الإمام وكلماته وعهده لمالكٍ الأشتر المليء بالوصايا المهمة في مسألة إدارة الدولة والمجتمع موضعا للتطبيق، وهذه الوصية تدعو إلى إعطاء أهميةٍ كبيرةٍ لرأي العامة والشعب. وهي من القوانين المتقدمة في الفكر الإنساني في هذا المجال.
القاعدة الثانية: الرحمة والمحبة واللطف بالناس وعامة الشعب:
 وهذه القاعدة لها أثرٌ كبيرٌ في التفاف الجمهور وعامة الناس حول القائد والحاكم والمسؤول وقد وضع الإمام (ع) مبدأً انسانيًّا وأخلاقيًّا عظيمًا للتعامل مع المجتمع على أساس المشتركات معهم إما بأخوّة الدين وإما بأخوّة الإنسانية حيث قال (ع): «وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخٌ لك في الدين وإمّا نظيرٌ لك في الخلق»[18].
فهذه الوصية من الإمام قبل 1400 سنة حيث كانت المفاهيم القبلية والشعوبية والعنصرية هي السائدة فالإمام له الريادة والسبق في وضع قانون إنسانيٍّ مهمٍّ يحترم الإنسان لإنسانيته ويُعلي من قيم المحبة والإخاء بين أبناء النوع الإنساني وهذا بالواقع هو منطق القرآن: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ الحجرات 13، «وقول الرسول الكريم (ص): الناس سواسيةٌ كأسنان المشط»[19].
فالإمام (ع) يضع قاعدةً مهمةً لتعامل الحاكم مع أبناء شعبه وإن كان بعضهم من أديان أخرى، فالأخوّة الدينية مع أبناء دينه والأخوّة الانسانية مع أبناء الأديان الأخرى، فالحاكم في منطق الإمام (ع) أبٌ للجميع وليس طاغوتًا ومستبدًّا بل قلبه مليء بالرحمة والعفو والحب وهذا ما جسّده أمير المؤمنين (ع) عندما تصدى للحكم إبان خلافته (ع).
والإمامُ يوصي الحاكمَ بأن يُعطي من عفوه وصفحه للمسيء من عامة الناس: «ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا»[20]. لأن مسؤولية الحاكم هي مسؤوليةٌ إنسانيةٌ قائمةٌ على العلاقة الطيبة بينه وبين عامة الناس فهو كالأب الحنون الحريص على مصالحهم الذي يأخذ بأيديهم إلى مواطن الخير والصلاح، فاذا فعل ذلك فسوف يحصل على ثقة الناس ومحبتهم وتعاونهم وإن الله تعالى سوف يُجري له الذكر الطيب على ألسنتهم وهذا وعدٌ إلهيٌّ.

القاعدة الثالثة: إنصاف الناس:
يتعرض الإمام (ع) في هذه الفقرة إلى قاعدةٍ مهمةٍ في الإدارة والتصدي للمسؤولية وهي عملية إنصاف الحاكم الناس من نفسه ومن خاصته حيث قال (ع): «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومَن لك فيه هوًى من رعيتك فإنك إلّا تفعْل تظلِمْ ومن ظلم عباده الله كان الله خصمه»[21].
العدال والانصاف أساس الحكم ودوامه فإنّ الملك يدوم مع الكفر ولا يدوم مع الظلم فالحاكم والمسؤول العادل الذي يعطي الناس حقهم من نفسه ومن خاصته سوف تكون له مكانةٌ مكرمةٌ ومقدسةٌ عند عامة الناس وبالتالي سوف يكون موضع رضا الله تعالى ونصره، وبعكسه سوف يكون مبغوضًا من الناس مبغوضًا من الله تعالى وكان من خصماء الله تعالى وأعدائه فيأذن بحربٍ من الله تعالى، ومن دواعي تغيير النعم وزوالها هي ظلم العباد لأن دعوة المظلوم ليس دونها حجابٌ بل تخرق الحجب وبهذا الصدد يقول الإمام (ع): «وليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته، من إقامةٍ على ظلمٍ، فان الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد»[22].
القاعدة الرابعة: مداراة العامة على حساب الخاصة:
الإمام في هذا العهد يضع وصيةً مهمةً للحاكم والمسؤول وهي مداراة العامة على حساب الخاصة من الأقارب والوجهاء وأصحاب الثروة والمناصب.
وذلك لأن الخاصة يشكّلون عبئًا على الحاكم ولأنهم أصحاب امتيازاتٍ بخلاف العامة الذين تقع عليهم أعباء الحرب ومقارعة الأعداء والبناء والزراعة والصناعة فهم عماد الدين وجماع المسلمين، فإرضاؤهم على حساب الخاصة لا يؤثر على الأمور العامة ومصلحة الدولة والناس بخلاف إرضاء الخاصة على حساب العامة لأن العامة تقع على عاتقهم الأعمال الجسام وإدامة المصالح العامة من الدفاع عن كيان الدولة ومحاربة الأعداء ومن القيام بتوفير الحاجات الأساسية للدولة من خلال الزراعة والصناعة وأمورٍ أخرى وقد عبّر الإمام (ع) عن هذه القاعدة بقوله: «فان سخط العامة يُجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة»[23].

القاعدة الخامسة: اختيار المستشارين:
في هذه الوصية الإمام (ع) يوصي الحاكم والوالي والمسؤول ألّا يدخل في مشورته بخيلا ولا جبانا ولا حريصا. ما لا شك فيه هو أن الحاكم لا يستغني عن المستشارين ولذلك عليه أن ينتخب منهم الشجاع والكريم وأهل الحكمة والعقل لأن البخل والجبن والحرص صفاتٌ مذمومةٌ وسيئةٌ تؤدي إلى أخطاءٍ جسيمةٍ وتوقع الحاكم في أمورٍ يذم عليها وقد جاء في وصيته (ع) بهذا الصدد: «ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانا يضعفك عن الأمور ولا حريصا يزيّن لك الشره بالجور، فان البخل والجبن والحرص غرائزُ شتى يجمعها سوء الظن بالله تعالى»[24].
إن مركز الخطر في المستشارين والمقربين من الحاكم هو أنهم يجعلونه ينظر إلى الأمور من وجهة نظرهم وعليه فكلما كانوا يتمتعون بصفاتٍ صالحةٍ وخيِّرةٍ كانت أراء الحاكم صالحةً وسديدةً والعكس صحيحٌ. ولذلك الإمام (ع) يوصي الحاكم بمشاورة العلماء والحكماء وإن صلاح الأمة وخيرها يرتبط بمشاورة أهل الخبرة وأهل الاختصاص من العلماء والحكماء وبهذا الصدد يقول الإمام (ع): «وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك»[25].
وهذا النص في غاية الروعة والدقة لأنه يرسم للحاكم المسار الصحيح في اتخاذ المستشارين والمقربين اليه.

القاعدة السادسة:  استبعاد أعوان الظَّلَمة من مواقع المسؤولية:
هذه وصيةٌ مهمةٌ من الإمام (ع) للحاكم العادل في استبعاد وعدم استوزار أو تقريب أو جعل في بطانته من كان وزيرًا للظلمة لأن هؤلاء أصحاب تاريخٍ سيِّئٍ تجاه عامة الناس وفي رقابهم مظالمُ وآثامٌ كثيرةٌ وهم أصحاب نفاقٍ وليس لهم إخلاٌص حقيقيٌّ تجاه الحكومة الجديدة وإنما هم أصحاب مصالحَ شخصيةٍ لا يتوانون في خذلان الدولة وتخريبها، ثم إن هؤلاء يمثلون مرحلةً ظالمةً كانت لها ضحايا كثيرةٌ من عامة الناس ولذلك وجودهم ينفر العامة والمظلومين من قبلهم، فعلى الحاكم العادل ألّا يقرّب هؤلاء إليه وأن يستبعدهم من التصدي لأمور العامة والناس لأنهم أعوان الظلمة فهم لا دين لهم ولا ضمير عندهم. وقد جاء في وصيته (ع): «إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرًا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واجدٌ منهم خيرَ الخلف»[26].
على اهمية هذه الوصية إلا أنّ الذين تصدوا للحكم في العراق من أتباع عليٍّ (ع) لم يعملوا بها، فقد جعلوا أعوان الظلمة من بطانتهم واستوزروهم وسلطوهم على رقاب الناس في مواقعَ شتى ومهمة في إدارة الدولة والسبب في ذلك أن هؤلاء منافقون متملقون يزينون الأمور للمتصدي والمسؤول على حساب الحق والحقيقة فلا يواجهونه بمر الحق، وعادةً المسؤول ينسجم نفسيًّا مع هؤلاء ويبعد من يجاهر بالحق والحقيقة من المخلصين ثم إن الإمام (ع) عندما يوصي الحاكم بعدم استوزار الظلمة يوصيه من جهةٍ أخرى في مكانٍ آخرَ من العهد بأن يقرّب منه ويلصق نفسه بأهل الإحسان وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة وأهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة[27].
وما لا شك فيه هو أن الحاكم عندما  يجعل بطانته ومقربيه من أهل هذه الصفات سوف يكونون له عونًا على الخير والصلاح وكل ما ينفع الأمة لأنهم كما عبّر عنهم الإمام علي (ع): «جماعٌ من الكرم وشعبٌ من العرف»[28].

القاعدة السابعة :إعطاء كل ذي حقٍّ حقّه:
في هذه الوصية يوجه الإمام (ع) الحاكم في كيفية التعامل مع الناس وألّا يجعل المحسن والمسيء في كفةٍ واحدةٍ وبمنزلةٍ سواءٍ لأن هذا العمل سوف يقتل حالة الإبداع عند المحسن والناس الآخرين من أهل الاحسان يطمّع المسيء في إساءته وتغيب الموازين الحقة في التمييز بين أهل الإحسان وأهل الباطل، فعلى الحاكم أن يشعر المحسن بإحسانه من خلال أساليبَ كثيرةٍ لا يعدمها الحاكم من خلال الشكر والتقدير والهدايا والتصريح بأعماله الحسنة على رؤوس الأشهاد، وأيضا بالنسبة للمسيء لا بد من محاسبته على قدر إساءته وإشعاره بتقصيره حتى يتجاوزها في القابل ويعبر عن هذه الوصية بقوله (ع): «ولايكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواءٍ فإن في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة»[29].
فالمحسن لا بد أن يكافأ لإحسانه والمسيء لا بد أن يُجازى باساءته حتى يعتبر به غيره.

القاعدة الثامنة: عدم نقض السنن الصالحة السابقة:
هنا الإمام (ع) يوصي الوالي بالمحافظة على السنن الصالحة التي كانت سائدةً قبله وعدم نقضها لأنّ فيها خيرًا للأمة وللصالح العام فيجب إدامتها والعمل على وفقها وإن كانت من صنع حكامٍ سابقين ظالمين لأن مدار العمل الصالح هو «الحكمة ضالة المؤمن»[30]، فلا ينبغي على الحاكم التفريط بها ما دامت موضع اجتماع وصلاح الامة، وهذه الوصية تشير إلى احترام العادات والتقاليد للشعوب التي لا تتقاطع مع الشريعة الإسلامية، ولا شك في هذه الوصية تؤدي إلى الألفة والمحبة بين الحاكم والمحكومين، والحاكم حقيقته أمينٌ على مصالح الأمة فلا يتحرك من خلال أنانيته ونزعته الشخصية فينظر نظرةً سيئةً تجاه أعمال الحكام السابقين وإن كانت صالحةً وخيرةً ما دامت لا تحمل اسمه.

القاعدة التاسعة: الاتصال المباشر مع الناس 
يضع الإمام (ع) قاعدةً مهمةً في إدارة الدولة وهي تواصل الحاكم والمسؤول مع الناس بشكلٍ مباشرٍ وعدم الاحتجاب عنهم لأن الاحتجاب عن الناس يؤدي إلى القطيعة بين الحاكم والمحكوم بينما التواصل يؤدي إلى حالة المحبة والألفة والتواصل من قبل الحاكم مع شعبه ويطلع بصورةٍ مباشرةٍ على حاجاتهم وأمورهم ما يؤدي إلى التفاف الشعب حول الحاكم والوالي ويغلق الباب أمام العصيان والثورات من قبل الشعب على الحاكم وهذه الوصية تُعَدُّ من أساسيات الحكومة الصالحة العادلة.
فيقول الإمام (ع): «فلا تطولن احتجابك عن رعيتك»[31].

القاعدة العاشرة: عدم المن على الرعية باعماله الصالحة
وهذه من الوصايا المهمة للحاكم العادل ألّا يمنّ على رعيته بصالح أعماله وينتقصهم من خلال ما يقدم لهم من أعمالٍ ويذكرهم دائمًا بأنهم كانوا أصحاب عوزٍ وحاجةٍ وفقرٍ وبجهوده أصبحوا أهل خيرٍ وغنًى وهذا ما يحصل دائمًا من قبل الحكام الظلمة عندما يقومون بأبسط الأعمال يمنّون على الشعب بها وهذا ما كان يردده النظام البائد فكان يذكر الناس بأنهم كانوا حفاةً وأهل فقرٍ وحاجةٍ وبجهوده الشخصية أصبحوا بهذا الواقع الجديد فيقول الإمام (ع): (إياك والمنّ على رعيتك بإحسانك)[32].
ثم إن الإمام يوصي الوالي ألّا يحدث سنةً تضر بالسنن الصالحة السابقة لأنه يصدق عليه «من سن سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»[33]، وقد جاء في هذه الوصية «ولا تنقض سنةً صالحةً عمل بها صدور هذه الأمة»[34].

المطلب الثالث: الاجتماعي والعسكري:
الامام (ع) في وصيته إلى مالكٍ الأشتر يقسم ويصنف المجتمع إلى طبقاتٍ والإمام (ع) يستعمل مصطلح الطبقة ويريد منه الذين ينتمون إلى نشاطٍ مهنيٍّ واحدٍ كالجنود والزُرّاع والقضاة والتجار... فالتقسيم والتصنيف على أساس العمل والمهنة لا على أساسٍ مناطقيٍّ أو عنصريٍّ أو قوميٍّ أو أسيادٍ وعبيدٍ، وهذا التقسيم يتناسب مع نسق المدينة المتنوعة والمتحضرة والكبيرة لا القرية الصغيرة لأن مجتمع المدينة مجتمع يتبادل المصالح والمنافع والتخادم في ما بينهم فالجنود يقدمون الأمن للمجتمع والزراع يقدمون مزروعاتهم ومنتجاتهم للناس ولولاهم لحصل القحط وهكذا كلُّ صنفٍ من الأصناف يقوم بتقديم خدمةٍ للمجتمع تكون قوامه ومساعِدًا في استمراره، فيقول الإمام (ع) في وصيته: «واعلم أن الرعية طبقاتٌ لا يصلح بعضها إلا ببعضٍ ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة»[35].
الإمام عليٌّ (ع) في هذا النص الذي يشير إلى علم الإمام بالمجتمع ومكوناته ومسؤولياته وما يصلحه فإن الإمام (ع) يصنف المجتمع على أساس المهن والأعمال وإن هذا التصنيف يقتضي التعاون والتلاحم والتخادم بين أبناء المجتمع لأن صلاحهم يقوم على تعاونهم وهلاكهم يقوم على تصارعهم وإن كل صنفٍ من هذه الأصناف لا تستقيم أموره إلا بالتعاون مع الأصناف الأخرى، وهذه هي طبيعة المجتمع المدني القائم على تبادل الخدمات والمنافع، ثم إن الإمام عليًّا (ع) صنف المجتمع إلى هذه الأصناف لغايةٍ ولغرضٍ هامٍّ هو وضع مناهج عملٍ ومسؤولياتٍ وقوانينَ لكل طبقةٍ (حقوق وواجبات).
ثم إن الإمام عليًّا (ع) يتكلم عن حالة التداخل والتخادم والتعاون بين الطبقات من الجنود والزراع والقضاة... وأنه لا غنى لصنفٍ عن الأصناف الأخرى فإن مصالحهم متداخلةٌ متوقفةٌ على المصالح الأخرى لتلك الطبقات فالجنود يقع على عواتقهم حفظ أمن البلد من الداخل والخارج وإن قوام معيشة الجند يعتمد على ما يقوم به الزراع والتجار من أعمالٍ تستوجب الخراج والضرائب الذي يمد الدولة بالأموال فتقوم الدولة بإعطاء المعاش لهذه الشريحة وهذه يحتاج إلى جهازٍ إداريٍّ من القضاة والكتبة لتسيير أمور الدولة والإشراف على هذه النشاطات، وحل النزاعات عن طريق القانون ولولا هم لغاب القانون وسيطر القوي على الضعيف وضاعت الحقوق وغابت الدولة وأصبح الهرج المرج.
كذلك الإمام (ع) يوصي الحاكم في كيفية اختبار الجند والقادة ويضع له منهجًا دقيقًا ورائعًا في الاختيار الناجح، فأول الصفات والمزايا للجند والقادة التدين والخوف من الله تعالى وقد عبر عنها الإمام بالنصيحة لله وللرسول وللإمام.
والصفة الثانية أن يكون أمينًا طاهرًا لا يتعدى على أموال الآخرين ويراعي حقوقهم فعبر عنها (وأطهرهم جيبًا)[36]
وأيضا من صفاته أن يكون عونًا وسندًا للضعفاء والفقراء شديدًا على الأقوياء والظلمة.
ثم انتخابهم واختيارهم من البيوتات الصالحة وأهل التاريخ الحسن وممن يتصفون بالنجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، وهذه الصفات هي مجمع الخير والصلاح ولها أثرٌ كبيرٌ في إشاعة العدل والإنصاف والمحبة والألفة بين عموم الناس.
ثم إن الإمام يوصي الوالي أن يتفقد ويتعاهد حوائج الجند باستمرارٍ ويشعرهم بالمحبة والرعاية حتى يبادلوه التضحية والإخلاص والثقة في سبيل حفظ أمن الدولة وصد العدوان فيقول (ع): «ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما»[37].
ثم إن الإمام يوصي الوالي بوصيةٍ مهمةٍ جدًّا للجند ولغيرهم وهي حسن الثناء عليهم وإبراز محاسنهم وشجاعتهم ونجدتهم فإنها تثير العزيمة فيهم وتدفع بقليل الهمة إلى الاندفاع والتسامي نحو النجدة والشجاعة والبسالة وهذا أسلوبٌ رائعٌ لتشجيع الضعيف والخامل دون لومه وإظهار عيوبه لكن من خلال الثناء على المحسن فيقول (ع): «وواصل في حسن الثناء عليهم وتمديد ما أبلى ذوو البلاء منهم فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله»[38].
الإمام (ع) يضع ضوابطَ للقائد الذي يكون موضع قربٍ واهتمامٍ واستخلاصٍ من قبل الوالي وهي أن يكون مواسيًا لجنوده في السهر على توفير الضروري من حاجاتهم وحاجات عوائلهم حتى يشعروا بالاطمئنان على مستقبلهم ومستقبل أولادهم لكي يقوموا بأداء واجباتهم على أفضل ما يكون، وهذه إشارةٌ مهمةٌ من الإمام (ع) لإصلاح طبقة العسكر.
ثم إن الإمام (ع) يستعرض وصاياه للولي في طبقة القضاة والحكام الذين يحكمون بين الناس فيذكر الإمام (ع) مجموعةً من الصفات والمميزات التي يجب أن يتوافر عليها القاضي والحاكم لأن القاضي والحاكم تقع عليه مسؤوليةٌ كبيرةٌ ومهمةٌ في إقامة العدل والإنصاف بين الناس، فالقضاء في الإسلام يمثل مؤسسةً مستقلةً بذاتها عن الحكومة والسلطة التنفيذية ولا تتدخل في أمورها ومن هذه الصفات:
1 - أن يكون عالمًا كثير الاطلاع والدراية والخبرة بحيث لا تضيق عليه الأمور قادرًا على إعطاء الحلول والأحكام بين الخصوم قال (ع): «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور..»[39].
2 - عفيف النفس (لا تشرف نفسه على طمعٍ)[40]، وهذه الصفة ضروريةٌ جدًّا للقاضي حتى لا يميل في حكمه لمن يبذل له أو يتوقع منه نفعًا أو مصلحةً.
3 - دقيقًا صبورًا قوي الحجة والبرهان لا يتسرع في الشبهات وهذا المعنى يشير إليه قوله (ع): «ولا يكتفي بأدنى فهمٍ دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج»[41].
ثم إن الإمام يوصي الوالي بأن يتعهد القاضي في البذل والعطاء لكي لا يقع في الحاجة  والعوز ما قد يُؤدي عند ضعفاء النفوس إلى الجور في الحكم لمن يبذل لهم، لكي يبقى القضاء نزيهًا مستقيمًا لا يؤثر عليه أحدٌ وكذلك، يجب أن يأخذ مكانه الاجتماعي اللائق به وأن يكون موضع اهتمامٍ وتواصلٍ من الوالي حتى لا يتوسل إلى الآخرين في أموره فلا يطمع أحدٌ فيه من أصحاب الجاه والثروة، فيقول الإمام (ع) «ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل سعة حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك»[42].
 ومن وصايا الإمام علي (ع) للوالي في كيفية اختيار عماله لإدارة أمور ولايته ودولته ألّا يختارهم على أساس القرابة والمحاباة بل على أساس المهنية والإدارة الناجحة من خلال اختبارهم ومراقبتهم وأن يكونوا من أهل الحياء ومن أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام ومن أصحاب الأعراض الطيبة الشريفة، وهذه وصايا من الإمام في غاية الروعة للحاكم والمسؤول الذي يريد أن يدير دولته أو مؤسسته بطريقةٍ ناجحةٍ وعادلةٍ أن يعتمد على أشخاص يحملون هذه المواصفات التي تؤهلهم للقيام بأعمالهم على أتمِّ وجهٍ فالحياء كما جاء في الحديث «شعبةٌ من شعب الايمان»[43]، «ولكلِّ دينٍ خلقٌ وخلق الاسلام الحياء»[44]، فالحياء صفةٌ مهمةٌ للانسان الذي يريد أن يتولى مسؤوليةً. وأيضا كونه من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، فانّ لهما أثرًا كبيرًا على شخصية المتصدي تمنعه من الانحراف عن طريق الحق لأن التاريخ المشرق والسمعة الطيبة بلا شك يكونان حصنًا له إزاء الضغوطات المادية والدنيوية.
 وقد جاء في هذا الصدد عنه (ع): «ثمَّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا ولا تُولّهم محاباةً وأَثَرةً فإنهم جماعٌ من شُعب الجور والخيانة، وتوَخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام..»[45].
ثم إن الإمام يوصي الوالي والمتصدي ألّا يعتمد على فراسته وحسن ظنه في اختيار رجال الدولة بل يعتمد على التجربة والاختبار والتاريخ الطيب والحسن في خدمة الناس لأن الكثير من هؤلاء يستطيعون التمويه على الوالي وخداعه من خلال تملقهم وحسن خدمتهم وتصنعهم في التقرب للحاكم لأنهم أصحاب مصالحَ خاصةٍ ولا يهمهم أمر الدولة والشعب وهي وصيةٌ في غاية الأهمية للمتصدي فيقول الإمام (ع) «ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيءٌ ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لاحسنهم كان في العامة أثرا وأعرفهم بالأمانة وجها»[46].
ثم إن الإمام (ع) يوصي الوالي بوصايا تحفظ سلامة إدارة الحكام وعدم الاستئتثار بما تحت أيديهم من أموالٍ وأعمالٍ وأعراضٍ وحقوق الناس، فيوصيه بسد حاجتهم من بيت المال بحيث تخصص لهم رواتب تجعلهم في غنًى وكفايةٍ وتضمن لهم حياةً معيشيةً كريمةً وذلك لتحصينهم من خيانة ما تحت أيديهم من أموالٍ ولإقامة الحجة عليهم في ما لو خانوا الأمانة وتعدوا على حقوق الناس والعامة وبذلك يوصي الإمام بوضع الرقباء والمفتشين والعيون على إدارتهم وأعمالهم حتى يشعروا بمراقبة الوالي لهم فيكون ذلك مانعًا من الظلم والعدوان والتفرد في أمور إدارتهم وأعمالهم.
وبهذا الصدد يقول الإمام (ع): «ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوةً لهم على استصلاح أنفسهم وغنًى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجةً عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ثم تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم»[47].
ثم إن الإمام يوصي الوالي في حال ثبتت خيانةٌ على عاملٍ من عماله أو موظفٍ في حكومته فلا بد من معاقبته بما يستحق لكي يكون عبرةً لغيره كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ البقرة 179.

المطلب الرابع: الاقتصادي
أما في الجانب الاقتصادي فإن الإمام (ع) يضع وصايا مهمةً للحاكم في هذا المجال منها ما يتعلق بأمر الخراج وجباية الضرائب وإصلاح الأرض وعمارتها، فإن الدولة لا يمكن أن تقوم بدون هذه الأمور لأن معيشة الناس من الجند وموظفي الدولة وغيرهم يعتمدون على هذا الرافد المهم ولذلك على الوالي أن يحسن إدارته وأن يعمل على إصلاح الأرض وعمارتها وتوفير فرص العمل ما يؤدي إلى إصلاح المجتمع وتقدمه وسعادته ثم إن الوالي عليه ان يتبع سياسةً عادلةً في جباية الضرائب من دون أن تؤدي إلى إفقار الناس والإضرار بهم وتخريب الأراضي الزراعية. فعلى الوالي أن يهتم أولًا بإصلاح الأرض وزراعتها وتوفير كل مستلزمات إعمار الأرض قبل التفكير في طلب الخراج ولذا يقول الإمام (ع) في وصيته: «وتفقّد من أمر الخراج بما يصلح أهله فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحًا لمن سواهم، ولا صلاح عن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد»[48].
وعليه فإن سياسة الوالي في الضرائب إذا كانت عادلةً ومنصفةً وذاتَ نظرةٍ بعيدةٍ سوف تؤدي إلى إعمار الأرض وزراعتها.
أما إذا كانت سياسةً جائزةً قائمةً على عدم مراعاة الزراع وفرض ضرائب تثقل كاهلهم دون النظر إلى واقعهم وظروفهم سوف تؤدي إلى هجران الأرض وتركها وبالتالي يصبح البلد لا يجد قُوتَه لأن الزراعة هي أساس اقتصاد الدولة وخرابها ينعكس على جميع الأصعدة السياسية والتجارية والدفاعية، ولذلك وصّى الإمام (ع) في جباية الضرائب بالرفق بأصحاب الأرض وعدم إثقال كاهلهم بالضرائب المجحفة لأنه سوف يؤدي إلى إعوازهم ثم إلى عدم قدرتهم على زراعة الأرض وهجرانها حيث يقول (ع) «والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها»[49].
أما وصية الإمام (ع) بخصوص التجار وأصحاب الصناعات فما لا شك فيه هو أن التجار وأصحاب الصناعات يشكّلان أركانًا مهمةً في السياسة وفي اقتصاد الدولة، فالإمام يوصي الوالي بهم خيرًا أي إنه تقع على عاتق الدولة حمايتهم وتوفير الأمن لهم وحماية أموالهم وتيسير حركة تجارتهم وتهيئة مستلزمات أعمالهم، فيقول (ع): «ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوْصِ بهم خيرًا»[50].
ومن جهةٍ أخرى الإمام (ع) يوصي الوالي بمراقبتهم ليمنع الاحتكار الذي يقوم به بعض التجار من ضعاف النفوس وأصحاب الشأن لأن الاحتكار يمثل خطرًا كبيرًا على مصالح العامة ولذلك فإن الشريعة المقدسة حَرّمت الاحتكار ومنعته فقال (ع) بهذا الصدد: «واعلم أن في كثيرٍ منهم ضيقًا فاحشًا وشحًّا قبيحًا، واحتكارًا للمنافع وتحكُّمًا في البياعات وذلك بابُ مضرةٍ للعامة، وعيبٌ على الولاة فامنع من الاحتكار فان رسول الله (ص) منع منه»[51].
وأخيرا الإمام (ع) يوصي الوالي بالطبقة الضعيفة من المجتمع وهم الفقراء والمساكين والأيتام بأن يجعل لهم نصيبًا من بيت المال لأن الدولة مسؤولةٌ عن توفير الحياة الكريمة لهؤلاء وهو تأسيسٌ من قبل الإمام لمؤسسات الرعاية الاجتماعية الموجودة الآن عند الدولة المتحضرة حيث إن الإمام (ع) أمر الوالي بتعهد هؤلاء ورعايتهم وتدبير أمورهم وتوفير مستلزمات العيش الكريم لهم من قبل الدولة وهذا واجبٌ عليها.
فيقول (ع) «ثمّ الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا[52] واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهما قسمًا من بيت مالك»[53].
ثم إن الإمام (ع) في وصيته يعتبر هذا العمل من أفضل الأعمال لأنّ هذه الطبقة محرومةٌ وتحتاج إلى الإنصاف من قبل الوالي أكثر من غيرها «فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم»[54].

الخاتمة والنتائج
إن هذا العهد يمثل وثيقةً مهمةً وبرنامجَ عملٍ متكاملًا للحاكم والمسؤول في مواقع الدولة والمسؤولية فإنه يتضمن وصايا في غاية الدقة والروعة تضع معالجاتٍ من قبل شخصيةٍ عملاقةٍ في المجال السياسي والاداري والاجتماعي والاقتصادي والعسكري قد مارست الحكم والإدارة والحرب وهو باب مدينة العلم، الرسول (ص) وهو أعلم الناس بعد النبي (ص) فما جاء من قوانينَ وبنودٍ في هذه الوصية تمثل الفكر النير الوهاج والمتميز للإمام عليٍّ (ع) في مسائل إدارة الدولة والحكم حيث يسجل فيها صفات الحاكم والمسؤول العادل ويضع فيها قواعدَ وأصولًا ادارة الدولة على كافة الاصعدة.

أما بخصوص النتائج
فإن الإسلام من خلال عهد أمير المؤمنين قد أسس لمجموعةٍ من المؤسسات الرقابية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي كانت تمثل سابقةً في الفكر الإنساني حيث إن هذه الأفكار والملاحظات لم يكن لها حضورٌ في دساتير الدول إلا متأخرًا كمؤسسة الرعاية الاجتماعية التي تعنى بالفقراء والمساكين والأيتام وأصحاب الحاجة، ومؤسسة الرقابة لأجهزة الدولة من قضاة ووزراء و كتاب وجند وتجار، ومؤسسة النزاهة التي تتابع مؤسسات الدولة وتحفظ المال العام.
وأيضا ما ورد من وصايا للحاكم بالتواصل مع رعيته وشعبه باستمرارٍ تعطي إشاراتٍ مهمةً على أن الحاكم ليس إلا خادمًا لشعبه ورعيته فليس له حق الاستبداد والتفرد والظلم. وأيضا ما ورد من وصايا في ثنايا العهد من تقديم مصالح العامة على الخاصة فيه دلالةٌ واضحةٌ على أن السياسة العامة في الإسلام هي تحقيق مصالح الأغلبية من الشعب دون الخاصة، وهذا قد تضمنته الدساتير الغربية متأخرًا عن عهد الإمام (ع) بمدةٍ طويلةٍ جدًّا.
وإن الحاكم لا بد أن يعتمد في قراراته على مجموعةٍ من المستشارين من أهل الخبرة والاختصاص والصلاح ولا تكون عشوائيةً بدون تنسيقٍ وتخطيطٍ.
أشار الإمام عليٌّ (ع) إلى أن المجتمع يتكون من أصنافٍ مختلفةٍ كالقضاة والجنود والتجار...
وإن صلاح المجتمع لا يتم إلا بتعاون هذه الطبقات والأصناف في ما بينها.

المصادر
1 - الإصفهاني، محمد الراغب،
*المفردات في غريب القران، دفتر نشر الكتاب / ايران.
*ابن فهد الحلي،
2 - عدة الداعي، مكتبة وحداني /قم.
*الامام مالك،
3 - الموطأ، دار احياء التراث العربي، بيروت.
*ابن منظور،
4 - لسان العرب، دار صادر، بيروت ط 2000م.
*الإيجي،
5 - المواقف، عالم الكتب، بيروت.
*البرقي،
6 - المحاسن، دار الكتب الإسلامية / طهران.
*الحلي،
7 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، مؤسسة النشر الاسلامي / قم.
*الفتال النيسابوري،
8 - روضة الواعظين، منشورات الشريف الرضي / قم.
*الفراهيدي،
9 - كتاب العين، مؤسسة النشر الاسلامي/قم.
*محسن الأمين،
10 - أعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت، لبنان.
*محمد جواد مغنية،
11 - تفسير الكاشف، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان.
*المفيد،
12 - الجمل، مكتبة الداوري/قم.
13 - الفصول المختارة، دار المفيد، بيروت ط2 1993.
*النسائي،
14 - سنن النسائي، دار الفكر، بيروت ط1.

------------------------------------------------------
[1]    الصدوق/ الامالي/ 448/ح 601.
[2]    نهج البلاغة /450/عهده إلى مالك الأشتر.
[3]    ظ:كتاب العين /864 (وقى).
[4]    ظ: الاصفهاني /مفردات غريب القرآن /530.
[5]    الجرحاني /كتاب التعريفات /52.
[6]    ابن فهد /عدة الداعي /285.
[7]    نهج البلاغة /362 /خ 216.
[8]    نهج البلاغة /374.
[9]    م.ن /441.
[10]  ظ: الشيخ المفيد /الجمل/216.
[11]  محسن الامين /اعيان الشيعة 1/524.
[12]  م.ن.1/24.
[13]  الفتال النيسابوري /روضة الواعظين /173.
[14]  البرقي /المحاسن1 /211 ح 84.
[15]  ظ: الايجي /المواقف /398.
[16]  ظ:العلامة الحلي /كشف المراد /492.
[17]  نهج البلاغة /449.
[18]  نهج البلاغة /450.
[19]  محمد جواد مغنية /التفسير الكاشف7 /115.
[20]  نهج البلاغة /450.
[21]  م.ن.
[22]  م.ن/451.
[23]  م.ن.
[24]  م.ن.
[25]  م.ن /453.
[26]  م.ن/452.
[27]  ظ:م.ن/454.
[28]  م.ن.
[29]  م.ن /453.
[30]  م.ن/497 حكم امير المؤمنين (ع).
[31]  نهج البلاغة/461.
[32]  م.ن/464.
[33]  الشيخ المفيد /الفصول المختارة /136.
[34]  نهج البلاغة/453.
[35]  م.ن.
[36]  م.ن/454.
[37]  م.ن.
[38]  م.ن /455.
[39]  م.ن.
[40]  م.ن/456.
[41]  م.ن.
[42]  م.ن.
[43]  سنن النسائي8/110.
[44]  الإمام مالك /الموطأ 2 /905.
[45]  نهج البلاغة /456.
[46]  م.ن.
[47]  م.ن.
[48]  م.ن 457.
[49]  م.ن 458.
[50]  م.ن.
[51]  م.ن/459.
[52]  القانع: الذي يسأل الناس، والمعتر: الذي يتعرض للعطاء ولا يسأل. ظ: ابن منظور /لسان العرب 12/202.
[53]  نهج البلاغة/459.
[54]  م.ن/460.