الباحث : الشيخ غسان الأسعد
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 28
السنة : صيف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 5 / 2023
عدد زيارات البحث : 1449
الملخّص
تعالج هذه المقالة واحد من أهم القضايا الإشكاليات في الفكر المعاصر، وهي تعد من الإشكاليات ذات الطابع الجدلي، وقد عالجت المقالة هذه القضية انطلاقاً من الرؤيتين اللاهوتية والكلامية في محاولة للمقارنة بينهما واستخلاص أوجه التقارب والخلاف بينهما، وخلصت الدراسة إلى نتيجة مفاده وجود أوجه شبه كثيرة في طريقة المعالجة، بل قد نجد تطابقاً في بعض الأفكار والأمثلة. ومن جهة أخرى استطاعت الدراسة استكشاف بعض أوجه الاختلاف وهي ترتبط بشكل أساس بالجهة التي تقارب فيها كل من الرؤيتين معالجتها للمسألة، فاللاهوتي ينطلق في معالجته من رؤيته إلى الله المحبة والقدرة الكلية والعلم الذي لا ينتهي، بينما انطلقت الرؤية الكلامية من العدل الإلهي والحكمة، مضافاً إلى مسألة التوحيد الأفعالي التي تشكل عنصراً بارزاً في الرؤية الكلامية.
من جهة أخرى تعتبر قضية الحسن والقبح العقليين منطلقاً أساسياً في المعالجة على مستوى الرؤية الكلامية عند الإمامية بشكل أساس، بينما لا نجد أثراً لهذه القضية في اللاهوت المسيحي.
الكلمات المفتاحية
اللاهوت، علم الكلام، الشرور التكوينية، الشرور الأخلاقية، الاختيار الإنساني، التوحيد الأفعالي.\
Abstract
This article deals with one of the most important problematic issues in contemporary thought, and it is one of the problems of a dialectical nature, and the article deals with this issue based on the theological and verbal visions in an attempt to compare them and draw out the convergences and differences between them, and the study concluded that there are many similarities in the method of addressing, and we may even find a congruence in some ideas and examples.
On the other hand, the study was able to explore some differences, and they are mainly related to the side in which each of the two visions converges their addressing of the issue; the theologian proceeds in his addressing from his vision of Allah love, omnipotence, and endless knowledge, while the verbal vision started from divine justice and wisdom, in addition to the issue of verbal monotheism, which constitutes a prominent element in the verbal vision. On the other hand, the issue of mental goodness and ugliness is a basic starting point in addressing the level of the Imamate's theological vision, while we do not find a trace of this issue in Christian theology.
Keywords: Theology, Theology, Formative evils, Moral evils, Human choice, Verbal monotheism.
مقدمة:
لا شكّ في أنّ مبحث الشرور يعدّ من أهمّ المباحث الكلاميّة واللاهوتيّة؛ إذ إنّ الإشكاليّات المطروحة في هذا البحث كثيرةٌ جدًا ومتعدّدة، وقد تكون محيّرةً في كثيرٍ من مواردها، ولعلّ أكثر ما يزيد من خطورة هذا البحث أنّ الإشكاليات المطروحة فيه ليست حكرًا على المحافل العلميّة، ولا يقتصر النقاش فيها على العلماء والمفكّرين، ولا ينحصر الخوض فيها على المحافل والندوات العلميّة التي تهتمّ بمعالجة المباحث الفكريّة المعمقة، بل يطرحها كثيرٌ من الناس غير المتخصصين، بل لعله يمكن القول ـ مع شيءٍ من المبالغة في التعميم ـ إنّه لا يخلو إنسانٌ من حالةٍ يمر فيها دون أنْ يتساءل ولو في برهةٍ من حياته أو مرحلةٍ من مراحل عمره عن علّة وجود الشرّ في العالم.
وفي هذا السياق فإنّنا نجد أنّ لمسألة الشرّ تأثيراتٍ كبيرةً جدًا على رؤية الإنسان إلى الكون، وعلى طريقة تعامله مع الآخرين ومع مختلف الأحداث في حياته، والأهمّ من ذلك كلّه أنّها تؤثّر على طبيعة علاقته مع الله، بل يمكن القول بنحوٍ جازمٍ إنّ وجود الشرّ في العالم دفع كثيرًا من الناس إلى الإلحاد وإنكار وجود الله، وهذا ما نجده في كلمات كثيرٍ من الملحدين، حيث يمكن تلمّس الجذور الأساسيّة التي تدفع كثيرًا منهم إلى إنكار الله؛ فنجد أنّ الشرور الموجودة في العالم بحسب نظرتهم لا يمكن أنْ تنسجم مع وجود الله. وعلى أحسن تقدير فإنّ هذه المسألة إذا لم تُحلّ بالشكل الصحيح، فقد تؤدّي إلى تغيير نظرة كثيرٍ من الناس إلى الله، فبدل الإيمان بإلهٍ عالمٍ بكلّ شيء، وقادرٍ على كلّ شيء، ورحمةٍ لا حدود لها، فإنّه سينظر إلى الله نظرةً مختلفة، فكيف يمكنه الجمع بين وجود الشرّ في العالم وبين كون الله رحمةً ومحبّةً لا حدود لها؟! كيف يمكنه الإيمان بإلهٍ قادرٍ عالمٍ بكلّ شيءٍ، وفي الوقت نفسه يسمح بوجود الشرّ في هذا العالم؟!
وبناءً عليه تكتسب هذه القضية أبعادًا ومدياتٍ واسعةً وخطيرة؛ ولذلك فإنّه لا بدّ من معالجتها معالجةً علميّةً تُجيب عن الأسئلة والإشكالات، وقد اخترنا أن نعالج المسألة ببحثٍ يقارن بين المعالجة اللاهوتيّة وبين المعالجة الكلاميّة؛ لاستكشاف أوجه الاختلاف والافتراق بين الرؤيتين انطلاقًا من الأصول العقديّة والكلاميّة واللاهوتيّة الحاكمة عليهما.
أولًا: المعالجة اللاهوتيّة لمسألة الشرّ:
لا شكّ في أنّه إذا أردنا معالجة قضيّة الشر في الرؤية اللاهوتيّة، فلا بدّ من الانطلاق في البحث من دراسة حقيقة الرؤية اللاهوتيّة لله، فإنّ لهذا تأثيرًا واضحًا على بحثنا، إذ إنّه لا يمكن فهم الرؤية اللاهوتية لمسألة الشرور إلّا إذا فهمنا التصوّر المسيحيّ واللاهوتيّ إلى الله، فهذه الرؤية تشكل منطلقًا للبحث.
الله في الرؤية اللاهوتيّة:
ويمكن القول إنّ الله في الرؤية اللاهوتيّة هو خالق كل شيء، وهو خالق السماوات والأرض، «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ»[1]، وهو العالم بكلّ شيءٍ والقادر على كلّ شيء، فلا شيءَ يُعجزه أو يحدّ من قدرته. وتتميّز النظرة اللاهوتيّة إلى الله بأنّه محبّة، ورد في إنجيل يوحنا: «وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي للهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ»[2]، ومن الجدير بالذكر أنّ المحبة في اللاهوت المسيحي ليست مجرد فضيلةٍ يجب أنْ يتمتع بها الإنسان، وليست مجرد وصفٍ من أوصاف الله، بل هي تعبّر عن الأساس اللاهوتي في الإيمان المسيحيّ، ففي إنجيل يوحنا: «أيها الأحبَّاءُ، لنُحبَّ بعضنا بعضًا؛ لأنّ المحبّة هي من الله، وكلّ مَنْ يُحبّ فقد وُلِدَ من الله ويَعرفُ الله. ومَنْ لا يُحبّ لم يَعرِف الله؛ لأن الله محبّة»[3].
واستنادًا إلى هذه الرؤية اللاهوتيّة يمكن أنْ يطرح السؤال الذي نحاول معالجته في بحثنا هذا، وهو أنّه إذا كان الله محبّةً مطلقةً وقدرةً لا يحدّها حدٌّ ولا يعجزها شيء، فلماذا سمح للشر بأنْ يكون موجودًا في العالم؟ لماذا يسمح أنْ يتعذّب الناس والأطفال؟ لماذا يسمح بوقوع المصائب والبلايا؟ لماذا سمح لبعض الناس أنْ يمارسوا الظلم على الآخرين؟ فهذه الأسئلة تحتاج إلى جوابٍ ينسجم مع الرؤية اللاهوتيّة والإيمانيّة لله في المسيحيّة، كيف يمكن للإنسان أنْ يتقبّل الإيمان بأنّ الله الذي هو كلّه خيرٍ ومحبّةٍ، والذي قدّم نفسه فداءً للإنسان ومات على الصليب من أجل الإنسان كيف يسمح في الوقت نفسه بأنْ تقع الشرور في العالم. وقد قدم العديد من اللاهوتيين إجاباتٍ مختلفةً عن هذه الإشكاليّة.
أنواع الشرور:
لعل السبب في اختلاف طرق العلاج وتنوّعها لدى اللاهوتيين لا يرتبط باختلاف وجهات النظر، بل يرتبط بطبيعة الشرّ ونوعه، فالشرّ ليس من طبيعةٍ واحدة؛ ولذلك فمن الطبيعي أنْ تختلف الإجابة في المقام.
وبناءً عليه فإنّنا يجب أنْ ندرس الإجابة اللاهوتيّة على السؤال انطلاقًا من أقسام الشرّ وأنواعه، ويمكن أنْ نقسّم الشرَّ إلى نوعين أساسيين في الرؤية اللاهوتيّة: الشرور التكوينيّة، وأفعال البشر القبيحة أو الشريرة، وهو ما يسمّى بالشر الأخلاقي.
أولًا: الشرور التكوينيّة:
المقصود من الشرور التكوينيّة ما نراه في عالمنا من الكوارث والزلازل والبراكين والأمراض والأوبئة، وغير ذلك من أمورٍ تقضّ مضجع الإنسان وتؤلمه، والسؤال حول الحكمة من وجود هذه الأمور في عالم التكوين يطرحه كثيرٌ من الناس، ولعلّ كثيرين لا يجدون جوابًا يشفي صدورهم، وقد حاول اللاهوتيون تقديم أجوبةٍ مقنعةٍ في هذا الإطار:
الجواب الأوّل: إنكار وجود الشرور:
لعلّ من أبرز اللاهوتيين الذين اختاروا هذا الجواب القديس أوغسطين الذي يُعدّ من أهم اللاهوتيين المسيحيين، وقد ذكر هذا الجواب في محاورته ومناقشته للمانويين الذي قالوا بوجود إلهين: إله للخير وإله للشر. وبمقتضى هذا الجواب يمكننا أنْ نقول إنّ الله خلق كلّ شيء، وإنّ كلّ شيء خلقه الله هو خير، فصحيح أنّ الله كليّ القدرة، لكنّه خيرٌ كلّه أيضًا، فلا يمكن أنْ نتصوّر خلقه للشر؛ لأنّ الشرّ ليس شيئًا يمكن أنْ يوجد حتى نسأل من أوجده، يقول أوغسطين في كتاب الاعترافات: «كنت مضطربًا جدًا لجهلي الردّ على الأسئلة، وفيما أنا معرض عن الحقيقة كان يخيل إليَّ أني أمشي نحوها؛ لأنّي لم أكن أعلم أنّ الشرّ ليس إلّا فقدان الخير، إلى حدّ كونه ينعدم تمامًا»[4].
وهذا يعني أنّ الشرّ ليس أمرًا يحتاج إلى إيجادٍ لكي يوجد، بل هو مجرد انعدام، وهذا الرأي هو ما اختاره اللاهوتي المعاصر نورمان غايسلر في كتابه: (إذا كان الله فلماذا الشرّ)، حيث يقول في بيانه لهذا الجواب: «الشرّ لا يوجد في نفسه، الشرّ يوجد في شيءٍ أو مادّة، وكلّ الأشياء التي صنعها الله خير»[5]، ويشبّه الكاتب الشرّ بأنّه مثل الصدأ الذي يوجد في الحديد، فهو ليس شيئًا يوجد وحده مستقلًّا، بل يحتاج إلى شيءٍ موجودٍ حتى ندركه، فهو ليس شيئًا بذاته بل هو نقصٌ في شيءٍ موجود.
وبناءً عليه فإنّ الكاتب يلخّص الأمر بالقياس الآتي:
الله خالق كلّ الأشياء.
الشرّ ليس شيئًا.
الله لم يخلق الشر[6].
وقد يثير هذا الكلام إشكالًا مفاده أنّ هذا الحلّ مجرد كلامٍ نظريّ، بلحاظ أنّنا نرى أنّ الإنسان يتألّم من هذه المصائب والشرور في العالم، ويشعر بالظلم، أو بالمهانة، أو بالغضب، أو بالألم، فكيف يمكن أنْ نواجه هذا الإنسان الذي يتعذّب بسبب الشرور الموجودة في العالم بأنّ نقول له إنّ الشرّ ليس موجودًا؟ كيف يمكن أنْ نواجه أمًّا فُجعت بابنها بأنّ نقول لها الشرّ ليس موجودًا؟ كيف يمكن أنْ نواجه الملايين من البشر الذي قتلوا ضحية للبراكين والزلازل والأمراض والأوبئة المنتشرة على الأرض، ونقول لهم لا يمكنكم السؤال عن سبب خلق الله لهذه الشرور؛ فهي ليست موجودةً في الواقع حتى يخلقها الله؟ لا شكّ في أن مثل هذا الجواب لا يمكن اللجوء إليه لإقناع الناس بأنّ الله ليس خالقًا للشرّ؛ لأنّ الشرّ أمرٌ عدميّ أو هو نقصٌ في الخير، أو في أفضل الحالات هو خراب الخير وفساده؟! فمن الواضح أنّ هذه النوع من الاستدلال وإنْ كان صحيحًا في نفسه لكنّه لا يقدّم حجةً إقناعيّة كافية.
وهنا يرى تورمان غايسلر أنّ الشر وإنْ لم يكن شيئًا وجوديًّا، ولكن هذا لا يعني أنّه ليس حقيقيًّا، فالشرُّ حقيقيّ؛ ولذلك نحن نتألم بسببه، ولكن هذا لا يعني في الوقت نفسه أنّ الله أوجده، الشرّ كما ذكرنا نقصٌ في شيءٍ موجودٍ، وليس موجودًا خلقه الله[7].
الجواب الثاني: فوائد المصائب والشرور
ينطلق هذا الجواب من الخلفيّة السابقة في نظرته للشرور، ولكنّه يحاول أنْ يتقدّم خطوةً إلى الأمام في محاولةٍ لتفسير هذه الأمور التي يصنّفها الإنسان على أنّها شرور بالنسبة إليه. من هنا فإنّه يمكن تغيير طريقة نظرتنا إلى الأمور بنحو نرى الأشياء بصورة مختلفة، فيمكن أنْ نرى الخير في كثيرٍ من الأشياء التي قد تبدو شرًّا محضًا في الواقع، ولكننا بمزيدٍ من التأمّل نجد فيها الخير والصلاح، فالطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء هي التي تجعل الأشياء تبدو شرًّا، بينما هي خيرٌ في الواقع.
وقد يقال إنّ هذه المعالجة لقضيّة الشرور التكوينيّة هي محاولةٌ للهروب من الجواب، بل هي تكشف عن أنّنا نتعامل بخفّةٍ مع الشرور في العالم. نعم، قد يكون للمرض في بعض الحالات فوائد أو منافع، وكذلك الأمر في كثيرٍ من الشرور، ولكنّ هذا لا يحلّ المشكلة؛ لأنّ ثمّة حالاتٍ لا نجد فيها أيّ وجهٍ من وجوه الخير والمصلحة؟ وبعبارةٍ أخرى فإنّ الاستفادة من الشرور أو التغلّب عليها أو ما شابه ليس في الواقع نفيًا لوجود الشرّ، فالاستفادة من الشرّ واستغلاله لتحقيق بعض وجوه المصلحة والخير شيء، وكون الشر خيرًا في ذاته شيء آخر.
ويحاول أحد اللاهوتيين معالجة هذه الإشكاليّة، فيرى أنّ الإنسان المؤمن لا بدّ أن يتأمّل أكثر في هذه الأمور وعندها يمكنه أنْ يراها من وجهة نظرٍ مختلفةٍ، ومن موقع مختلف، حيث يمكن أنْ يتلمس المسيحيّ المؤمن انطلاقًا من فعله الإيماني وملء الثقة التي يضفيها على الله فيرى الخير في كلّ شيءٍ من حوله؛ لأنّ الله يوفّر لنا الأسباب الضروريّة التي تجعلنا نواجه هذه التحدّيات، ويوفّر لنا روح القدس الذي يرافق قلوبنا مضافًا إلى باقي المؤمنين الذي يرافقوننا في حياتنا، كذلك يوفّر الله لنا المعلومات عن طريق الإنجيل وعن طريق الحكماء في العالم ويوفّر لنا الحماية من قوى الشرّ المختلفة، بنحوٍ نتمكن من منعها والسيطرة علينا.
ولعلّه يمكن للمسيحي أنْ يستشعر أحيانًا أنّ الله يمنحنا القوّة الكافية لنصمد في طريقنا، ويوفّر لنا الظروف الملائمة التي نحتاجها لتكامل نضوجنا[8].
ويرى هذا اللاهوتي أنّ الأفضل الابتعاد عن محاولة فهم الشرّ، أو محاولة معرفة الأسباب التي جعلت الأشياء تحصل بهذه الطريقة، بل لا بدّ من أنْ نتعلّم كيفيّة محاربة هذه الشرور بدلًا من فهمها، فالمسيح لا يدعونا إلى مجرد فهم الأشياء وتفسيرها بقدر ما يدعونا إلى خدمة الله وخدمة الناس على الرغم من وجود الشرّ[9].
ويعالج القس الأمريكي البروتستانتي جون ماك أرثور هذه القضيّة من الخلفيّة نفسها، ولكن بأسلوبٍ مختلفٍ قليلًا، فهو يستهزئ بمن ينكر وجود الشرور في العالم، ويدعو مخاطبيه إلى التأمّل في الأمور الخطيرة التي تقع في عالمنا، ومنها الموت والانحلال، والأمراض، والكوارث، والبراكين، والفيروسات التي تقضي على ملايين البشر، فالأرض عالمٌ خطيرٌ للعيش فيه، فالشرّ أمرٌ طبيعيّ، وهو جزءٌ من حقيقة الخليقة الساقطة بحسب تعبيره، ومن جهة أخرى فإنّ الله في الإيمان المسيحيّ هو الذي يتحكّم بكلّ شيء، ولا شيءَ يخرج عن سلطانه وقدرته، وهو الوحيد الحاكم في كلّ جزءٍ من جزئيّات هذا الكون؛ ومن ثَمّ فإنّ محاولة التنكّر، ورفض نسبة الشرور إلى الله أو رفع مسؤوليّته عنها هي محاولةٌ بلا معنى، فالله يتحمل شخصيًّا وجود الشرور في العالم، بل أكثر من ذلك الله يريد وجود الشرّ في العالم، ولو لم يرده لما كان موجودًا أصلًا[10].
ويمكن الاستشهاد على هذه الرؤية بآياتٍ من الكتاب المقدس، ففي سفر أشعياء يقول: «أَنَا الرَّبّ ُوَلَيْسَ آخَر، مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ»، فهذه الآية تعلن بصراحةٍ مسؤولية الله عن خلق الشرّ وإيجاده. وفي سفر التثنية: «اُنْظُرْ، قَدْ جَعَلْتُ الْيَوْمَ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْخَيْرَ، وَالْمَوْتَ وَالشَّرَّ»[11].
ويؤكّد جون ماك أرثور على أنّ المسيحي أمام خيارين، فإمّا أنْ يقول إنّ الله موجود والشرّ موجود أيضًا ولكنّه ليس مسؤولًا عنه، وهذا يعني الإيمان بإلهٍ محدود القدرة عاجزٍ ومتضائل، وإمّا أنْ يؤمن بأنّ الله موجِد والشرّ موجود أيضًا والله مسؤول عنه.
ومن هنا يُطرح سؤالٌ أساس وهو أنّه لماذا يسمح الله للشرّ بأنْ يكون موجودًا؟ ويمكن الإجابة على ذلك بأنّ الله أراد للشرّ أنْ يوجد لكي يظهر مجده، فالله يكشف عن ذاته لنا ويظهر مجده وقدرته من خلال غضبه ورحمته، وهذا يستلزم الشرّ، فمجد الله يبرز بشكلٍ أكبر مع وجود الشرّ، ولولا الشرّ لما ظهر مجد الله بهذا الوضوح، فالله يبرز محبّته ومجده من خلال السماح للشرّ بأنْ يوجد حتى يسيطر عليه. وبعبارةٍ أخرى فإنّنا لن نعرف رحمة الله وبره لولا وجود الشرّ[12].
من الواضح أنّ هذه النظرة إلى الشرّ لا تنكر وجوده ولا تتهرب من حقيقة وجود الألم والمعاناة في العالم ولا تتنكر له، ولا تدعو في الوقت نفسه إلى فهم الشر، بل تدعو إلى التعايش معه ليزيد من ارتباط الإنسان بخالقه، وليمجده على رحمته وبره ومحبته؛ لأنّه هو الذي يمنحنا القوّة والقدرة على التحمّل والصبر، وهو الذي ندعوه ليخفف عنا آلامنا وعذاباتنا، فبيده ملكوت كلّ شيء.
ثانيًا: الشرور الأخلاقيّة:
المقصود من الشرور الأخلاقيّة تلك الشرور والقبائح التي تصدر من أفعال الإنسان، والإشكال المطروح حولها هو أنّه إذا كان الله كُلّيّ العلم والقدرة، فلماذا يسمح بوقوع الشرّ من الإنسان؟ وخاصّة أنّ الشرور التي تصدر من الإنسان قد تكون في بعض الحالات أشدّ من الشرور التكوينيّة، فالحروب التي سفكت فيها دماء ملايين من الناس سببها الإنسان. فلماذا يسمح الله لمثل هذا الإنسان بالتحكّم بمصير ملايين من الناس، ولماذا يسمح بوقوع الظلم في العالم بهذا الشكل؟
قد يقال في الجواب إنّ الشيطان هو من يحمل المسؤولية عن ذلك إلى جانب الإنسان، فالشيطان يحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية، لأنّه يقوم بإضلال الناس، ويحاول غوايتهم، وتزيين الأعمال القبيحة في أعينهم، ويغريهم للوقوع في شراك الشرّ والرذيلة.
ولكن من الواضح أنّ هذا الجواب فيه هروبٌ من الإشكال، حيث يأتي السؤال أنّه إذا كان الأمر كذلك فلماذا خلق الله الشيطان أصلًا، ولماذا سمح له بإغواء الناس وإضلالهم، بل لماذا أذن للإنسان ومكّنه من فعل القبائح والشرور العظيمة؟ ألم يكن بمقدوره أنْ يخلق الإنسان بنحوٍ لا يكون قادرًا على فعل الموبقات وعظائم الشرور، خاصّة أنّه يعلم أنّ الإنسان سوف يرتكب كلّ هذه الرذائل والشرور، فهو كلّيّ القدرة، وكلّيّ العلم؟
وقد ورد الجواب على هذه الإشكالية في السلسلة الإيمانيّة الكاثوليكيّة، ومفاده أنّ الحياة الأرضيّة هي حياة أوجدها الله تعالى لتكون محلًّا للاختبار والامتحان، والله إنّما سمح للشيطان بأنْ يغوي الإنسان ويضلّه ولكنه في الوقت نفسه لم يمكّنه من السيطرة على الناس بنحوٍ يجبرهم على فعل المعاصي، بل يُزيّن لهم الأمور ويغويهم، فيقعون في شراكه باختيارهم، بل يرى هذا اللاهوتي أنّنا عن طريق الإيمان أنّ الله يمكنه أنْ يصنع الخير العظيم من خلال الشر، وبالتالي يتحوّل الشرّ إلى نعمة؛ لأنّه من خلال الشرّ يستطيع القلب أنْ يظهر طهره في هذه التجربة الصعبة مع إغواءات إبليس وميوله الشهويّة التي تدفعه إلى ظلمة المعاصي والموبقات، ولكنّه يمتنع عن ذلك وينطلق إلى بحر النور في طاعة الله؛ وبذلك يقوى إيمان الإنسان ويشتدّ، وتفتح له هذه التجربة حلاوة محبة الله[13].
ويرى اللاهوتينورمان غايسلر أنّ الحريّة الإنسانيّة أمرٌ جيّدٌ بلا شكّ، فلا أحد يرغب في أنْ يكون مخلوقًا منزوع الحريّة، فيتحوّل إلى لعبةٍ يتم التحكم بها، ولكن من جهةٍ أخرى فإنّ كون الإنسان حرًّا يعني أنّه من الممكن أنْ يفعل الشرّ، فالحريّة تعني إمكان الاختيار، والإنسان حرٌّ في أنْ يفعل الشرّ، وهو حرٌّ في أنْ يفعل الخير، وأمّا الذي يدفع الإنسان إلى اختيار ها الطريق أو ذاك، فهو أمرٌ يرجع إلى الإنسان نفسه، لا إلى موجودٍ آخر، فلا أحد يجبر الإنسان على فعل الشرّ، بل الشرّ ناشئٌ من اختياره ليس إلّا، وبالتالي فإنّ ثمّة علاقةً جدليّةً قائمةً بين حريّة الإنسان وبين الخطيئة، ولا يمكن لله بحسب تعبير غايسلر أنْ يقضي على الشرّ والخطيئة من دون أنْ يقضي على الحريّة الإنسانيّة، والقضاء على الحريّة يعني القضاء على كلّ الخير الأخلاقيّ؛ إذ كلّ الخيارات الأخلاقيّة الحسنة هي خيارات حرّة. لولا الاختيار والحريّة لما أمكن أنْ يتحقّق الفعل الأخلاقي، ولا يكون الفعل الإنساني فاضلًا.[14]
حاولنا في هذه الصفحات القليلة أنْ نختصر المعالجة اللاهوتيّة لمشكلة الشرّ، ولا ندّعي أننا استطعنا الإحاطة بمجمل المعالجة اللاهوتيّة لهذه القضية، ولكننا حاولنا أنْ نقدم رؤيةً مختصرةً عن المسار اللاهوتي في علاج هذه القضية الشائكة. ولا بدّ في المقام من تقديم الرؤية الكلاميّة الإسلاميّة في معالجة المسألة حتى نتمكّن من تقديم مقارنةٍ علميّةٍ بين الرؤيتين.
ثانيًا: المعالجة الكلاميّة الإسلامية لمسألة الشرّ:
تكتسب مسألة الشر أهميّةً خاصّةً في علم الكلام الإسلامي، لاسيّما لدى الفرق الإسلاميّة التي جعلت من العدل الإلهي أصلًا من أصول مذهبها، مثل المعتزلة والشيعة الإماميّة؛ بلحاظ أنّ نسبة الشرور إلى الله تستلزم نفي اتّصافه تعالى بالعدل، ولذلك فقد نالت هذه المسألة أهميّةً خاصّةً في كلمات المتكلّمين قديمًا وحديثًا.
ولا بدّ من الإشارة إلى مسألةٍ في غاية الأهميّة فيما يرتبط بمعالجة قضيّة الشرّ في علم الكلام الإسلامي، وهي أنّ هذا المبحث مترتّبٌ على واحدةٍ من أهم القواعد الكلاميّة التي وقع الخلاف فيها بين المسلمين، وهي القاعدة المعروفة بالحسن والقبح الذاتيين أو العقليين، فلا بدّ من معالجة هذه القضيّة باختصارٍ قبل الولوج في تفاصيل المعالجة الكلاميّة في هذا المجال.
قاعدة الحسن والقبح الذاتيين أو العقليين:
المراد من الحسن والقبح كما ورد في كلمات الشيخ المظفر: «ويُراد بهما المدح والذم، ويقعان وصفًا للأفعال الاختياريّة فقط»[15]، وبناءً عليه يكون المراد من الحسن ما يُمدح فاعله عليه ويستحقّ عليه الثواب، وفي المقابل يكون المراد من القبح ما يُذمّ فاعله عليه ويستحق عليه العقاب. ويرى الشيعة الإماميّة أنّ الأفعال تتصف بالحسن والقبح، والعقل يستطيع أنْ يستكشف الحسن والقبح فيها، فالعقل يدرك أنّ الحسن ينبغي فعله، والقبح ينبغي تركه.
وفي مقابل هذا الرأي رأى الأشاعرة، وهم من أهمّ الفرق الإسلامية أنّ الأفعال ليس في ذاتها حسنٌ وقبح، ومن ثَمّ فإنّ العقل لا يمكنه إدراك الحسن والقبح في الأشياء، وما يتوهّمه الناس من إدراكهم للحسن والقبح في الأشياء ناشئٌ من الشرع في الواقع، وليس من إدراك عقولهم، والتزموا أنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع، وبالتالي فإذا فعل الله فعلًا يصبح حسنًا، وإذا نهى عن شيء يكون قبيحًا، فالفعل الاختياري يكتسب حسنه من فعل الشارع وأمره، وفي المقابل يكتسب قبحه من نهي الشارع عنه. ومن هنا فقد قالوا إنّه لو أمر الله بأنْ يُحشَر المؤمنون في جهنم ويُدخَل الكافرون الجنة لكان ذلك حسنًا، تمسّكًا بقوله تعالى: (لا يُسألُ عمّا يَفعلُ وهمْ يُسألون)[16].
ولا شكّ في أنّ لهذه القاعدة أهميّةً كبرى في هذا البحث وفي معالجتنا لقضيّة الشرور؛ لأنّه بناءً على قول الأشاعرة لا يكون لهذا البحث أيّ معنى؛ لإنّ الأشعري لا يرى نفسه مضطرًّا ـ أولا يرى أنّ ثمّة حاجة ـ لتقديم أيّ تبريرٍ لأفعال الله تعالى، فحتى لو فعل ما نراه شرًّا فهو حسن، وهو تعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، فالأفعال إنّما تكتسب حسنها وقبحها من الشارع نفسه. وأمّا القائلون بالحسن والقبح العقليين، فيرون أنّه من المستحيل صدور القبيح والشرّ من الله، لا أنّه إذا فعله يكون حسنًا، بل يمنعون صدوره عنه تعالى وينزّهون أفعاله عن كلّ قبيحٍ أو ظلم.
وبناءً على الشرح المتقدّم، بات من الواضح أنّ معالجة قضيّة الشر إنّما تكون ذات معنى بناءً على رأي الإماميّة وغيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى التي التزمت بالتحسين والتقبيح العقليين. وحذرًا من الإطالة، فإنّنا سنحصر معالجتنا لقضيّة الشر على ما قدّمه الشيعة الإماميّة من حلولٍ في هذه المسألة.
وحرصًا منّا على عدم التكرار فإنّنا لا نعيد بيان الإشكاليّة المرتبطة بالشرور في العالم، بل ندخل مباشرةً في علاج المتكلّمين للمسألة.
الله في الرؤية الإسلاميّة:
يؤمن المسلمون بإلهٍ عالمٍ قادرٍ حكيمٍ رحيم، ويرى المتكلّمون الشيعة وكذلك المعتزلة منهم أنّ الله أوجد العالم وفق النظام الأكمل والأحسن، فالله لا يوجِد إلّا ما هو أحسن. وبالتالي فهم يرون أنّ النظام الكوني هو الأحسن والأكمل، ولو كان ثمّة ما هو أكمل منه لأوجده الله تعالى.
ومن جهة أخرى يؤمن المسلمون أنّ الله سبحانه وتعالى عادلٌ لا يظلم أحدًا مثقال ذرّةٍ أبدًا، ومن ثَمّ فهم لا يتصوّرون صدور الشرّ منه؛ لأنّ صدور الشرّ منه يخالف حكمته تعالى وعدله من جهة، ويخالف كون ما يصدر عنه هو الأحسن من جهةٍ أخرى.
ومن جهة أخرى يركّز المسلمون في عقيدتهم على التوحيد، وبناءً عليه يكون الله تعالى هو خالق الكون بكلّ ما فيه، ومن هنا قد يُطرح إشكالٌ مفاده أنّه يلزم من ذلك إسناد الشرور الموجودة في العالم إليه تعالى، وفي مقام الجواب عن هذه الإشكاليّة المعقّدة طرح المتكلّمون آراء مختلفة، سنحاول معالجتها في المباحث الآتية.
أقسام الشرور:
الشرور التكوينية:
انطلاقًا ممّا ذكرناه من اعتقاد المسلمين بأنّ الله لا يظلم ولا يصدر منه القبيح، كان على المتكلّمين الإجابة عن إشكاليّة الشرور الموجودة في الكون، وخاصّة تلك الشرور الكونيّة والطبيعية كالزلازل والبراكين والأوبئة والأمراض، فقدّموا في سبيل معالجة هذه القضيّة أجوبةً مختلفة:
-1 فوائد الشرور:
يرى كثيرٌ من المتكلمين أنّ كثيرًا من الأمور التي نعدّها شرًّا هي خيرٌ في الواقع، فبعض الشرور لها جانب مشرقٌ ومهمٌّ في حياة الإنسان، وبعض ما نراه شرًّا قد نحكم عليه بكونه كذلك انطلاقًا من جهلنا بجهات الخير التي فيه، ويرى الشيخ السبحاني أنّ الجواب على هذه الشبهة يمكن أنْ يتبيّن بعد بيان جملةٍ من الأمور والركائز الأساسيّة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهي الآتي:
المصالح النوعيّة راجحةٌ على المصالح الفرديّة، فالعقل يحكم بوضوح أنّ المصالح النوعيّة الراجعة إلى المجتمع البشريّ عامّة تتقدّم في أهميّتها على المصالح الفرديّة، وبالتالي فما قد يراه بعض الأفراد شرًّا لهم، هو في الواقع خيرٌ ومصلحةٌ للنوع.
علم الإنسان محدود؛ ولذلك فإنّه كثيرًا ما يحكم على الأشياء انطلاقًا من علمه المحدود، بينما الواقع قد يكون شيئًا آخر.
إنّ الإنسان كثيرًا ما يحصر ما ينفعه بالمصالح الدنيويّة المادّيّة، ويغفل عن القيم العليا، وبعض الحوادث والبلايا التي يعدها شرًّا قد تكون ضارةً مادّيًّا ولكنها تعدّ عاملًا مهمًّا في توجّه الإنسان نحو القيم الإنسانيّة.
يصرح القرآن الكريم بأنّ بعض المصائب التي تقع للإنسان هي نتاج ما قدّمته يده، قال تعالى: (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [17].
وبناءً عليه يستخلص الشيخ السبحاني أنّنا عندما نحلّل المصائب والشرور نجد أنّ شبهة تعارض هذه المصائب والشرور مع حكمته تعالى ناشئةٌ من جهل الإنسان وغفلته عن واقعيّة نظام الخلقة وغفلته عن المصالح النوعيّة، وعلى سبيل المثال فإنّ المصائب والآلام قد تكون خير وسيلةٍ في سبيل تفجير الطاقات الإنسانيّة؛ إذ تدفع الإنسان إلى ابتكار الطرق والوسائل التي تساعده في تجنب هذه المصائب، مضافًا إلى أنّها في كثيرٍ من الأحيان تكون بمنزلة منبّه للإنسان المستغرق في اللذات للرجوع إلى الحقّ، ومن هنا يرى كثيرٌ من الأولياء أنّ البلايا التي تصيبهم هي نعمٌ من الله؛ لأنّها وسيلةٌ لإيصالهم إلى المقامات المعنويّة والروحيّة العاليّة[18].
وليس بالضرورة أنْ يتمكّن الإنسان من معرفة أسرار الكون وأسباب ما يقع له من البلايا والمصائب وخفايا الخير والمصلحة فيها، وقد نقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال في خطبةٍ له: «وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ؛ تَمْيِيزًا بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْيًا لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَادًا لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ»[19].
-2 الشرّ أمرٌ عدميّ:
يرى كثيرٌ من المتكلمين أنّ الشرور أمورٌ عدميّة، وينسب الشهيد مرتضى مطهّري هذه النظرة إلى الفلسفة اليونانيّة وإلى أفلاطون بالتحديد، ويرى الشهيد مطهّري أنّ الشرّ أمرٌ عدميّ، والشرور هي نوعٌ من الفقدان والنقص، وليست من نوع الوجود، والقول بعدميّة الشرور لا يعني نفي وجود الشرّ، فهذا مجافٍ للصواب، فالخير والشرّ ليسا منفصلين، وبعبارةٍ أخرى فإنّنا عندما ننظر إلى الخير فينبغي ألّا ننظر إليهما وكأنّ أمامنا شريحتين من الظواهر، إحداها الظواهر الخيرة، والثانية الظواهر الشريرة في الكون، فهذه النظرة في الواقع نظرةٌ صبيانيّةٌ سطحيّة، فالخير والشرّ ليسا متمايزين، بل هما من قبيل الوجود والعدم، فالشرّ إنّما يوصف بكونه كذلك؛ لأنّه نقصٌ مستلزمٌ للعدم، فالجهل شرّ؛ لأنّه عدم العلم، والفقر شرّ؛ لأنّه عدم الغنى، وهكذا[20].
نعم بعض ما نراه من الشرور مثل الحيوانات المفترسة أو الأفاعي والحشرات هي ليست عدميّة بالتأكيد، ولكنّها تُعدّ شرًّا بلحاظ ما تسببّه من عدمٍ وفقدٍ ونقص، فهذه الشرور قد تسبب نقص عضوٍ، أو فقدان السلامة والراحة. ويمكن تشبيه الشرّ والخير، بالنور والظلمة، فالظلمة في الواقع هي فقدان النور، وليست وجودًا متمايزًا عن النور[21].
ويؤكّد الشهيد مطهري على أنّ الشرور أمورٌ نسبيّة، فالعقرب مثلًا ليس شرًّا في نفسه، فهو خيرٌ بالنسبة للعقرب، ولكنّه شرٌّ بالنسبة إلى الإنسان، وعلى سبيل المثال فإنّ البقرة مثلًا هي مصدر خيرٍ للإنسان ولا يعدّها شرًا؛ لأنّها مصدر من مصادر الخير بالنسبة إليه.
ولكن هذا الجواب قد لا يكون كافيًا؛ لأنّ السؤال الذي يمكن أنْ يُطرح في هذا المجال أنّه لماذا وجدت هذه الأمور العدميّة التي لا تستقلّ عن ملزوماتها الوجوديّة، فالسؤال ينبغي أنْ يتوجّه إلى سبب وجود هذه الموجودات التي تستلزم هذه الأمور العدميّة لا عن سبب وجود الشرور التي هي أمورٌ عدميّة.
يمكن القول إنّ هذه الأمور العدميّة هي جزءٌ من نظام الخلق، الذي أوجده الله وفق النظام الأحسن والأكمل الذي يوصل الإنسان إلى سعادته وكماله الأبدي، فكثيرٌ من الشرور التي نراها في الحقيقة ليست شرورًا وجدت لتؤذي الإنسان وتحزنه وتؤلمه، بل إنّ هذه الشرور جزءٌ من نظام الخلق، ولولا القبيح لما فهمنا ولما استشعرنا الحسن والجمال، ولولا التمايز والاختلاف في نظام الكون لكانت المادة مادّةً واحدة، بينما نجد في الحقيقة أنّ التمايز والاختلاف جزءٌ من جمال الكون وخلّاقيّته.
ثانيًا: الشرور الأخلاقيّة
ذكرنا في ما سبق أنّ المراد من الشرور الأخلاقيّة تلك الشرور التي يفعلها الإنسان، أي القبائح الصادرة من فعل الإنسان[22]. وقد عولجت إشكاليّة صدور الشرّ من الإنسان من جهتين:
الجهة الأولى أنّه كيف يمكن لله تعالى أنْ يخلق الإنسان ويمكّنه من فعل الخير والشرّ، مع أنّه تعالى يعلم أنّ الإنسان سيختار فعل الشرور أحيانًا، والجواب عن هذه الشبهة واضح وهي أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما خلق الإنسان لأجل أنْ يصل إلى كماله اللائق به، والوصول إلى الكمال لا يمكن أنْ يتمّ إلّا من خلال الفعل الاختياري، ومقتضى الفعل الاختياري أنْ يصدر الشرّ من الإنسان.
ومن هنا فقد يُثار اعتراضٌ أساس في المقام، وهو أنّه إذا كان الله يعلم أنّ الإنسان سيختار فعل المعصية والشرّ، فهل هذا يعني أنّ الله أراد من الإنسان ذلك، ولو لم يرد لما خلقه مختارًا، ولما أقدره على ذلك؟ يقول الشيخ محمّد تقي اليزديّ في الجواب عن الإشكاليّة المذكورة: «من المميزات الرئيسة للإنسان اختياره وإرادته الحرّة، ولا شكّ بأنّ التوفّر على قوة الإرادة والاختيار يعدّ من الكمالات الوجوديّة، حيث يعد الواجد لها أكمل من الفاقد، ولكن ما يلازم صفة الاختيار أنْ يكون قادرًا على ممارسة الأفعال الحسنة الخيّرة التي توصله إلى كماله النهائي والأبدي، وكذلك يكون قادرًا على ارتكاب الأفعال القبيحة لتتجه به إلى السقوط في حضيض الخسران والشقاء الأبدي، وبطبيعة الحال فما تتعلّق به الإرادة الإلهيّة أصالةً هو تكامله، ولكن بما أنّه يلزم من التكامل الاختياري للإنسان إمكان السقوط والانحطاط أيضًا، والذي يحصل نتيجة الانصياع للأهواء النفسيّة والنزوات الشيطانيّة؛ لذلك تتعلّق الإرادة الإلهيّة بالتبع بهذا السقوط الاختياري»[23].
الجهة الثانية في معالجة هذه القضية تنطلق من التوحيد الأفعالي، حيث ثبت في المعارف الإلهيّة والفلسفيّة أنّ الكون منذ بدايته إلى منتهاه مخلوقٌ بإرادةٍ إلهيّةٍ واحدة، وهذا يعني أنّ كلّ ما في الكون مخلوقٌ بإرادة الله تعالى، ويحكم النظام الكوني نظام طولي كما يسميه الشهيد مطهّري، حيث يقول: «إنّ علو الذات الإلهيّة وقدسيتها يقتضيان أنْ يكون انتساب الموجودات إليه (جلّ وعلا) ترتيبيًا، أي أنْ يكون إيجادها وصدورها عنه متسلسلًا بحسب رتبها»[24].
وانطلاقًا من هذا المبدأ فقد ذهب الشيعة الإماميّة من بين الفرق الإسلامية إلى القول بـ (أمر بين أمرين)، فيما يتعلّق بالأفعال الاختياريّة للإنسان، وذلك استنادًا إلى بعض النصوص والروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت %، ومنها ما رواه الصدوق في (عيون أخبار الرضا)، قال: «حدّثنا أبي رضي الله عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن خالد البرقيّ عن أبيه عن سليمان بن جعفر الحميريّ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: ألا أعطيكم في هذا أصلًا لا يختلفون ولا يخاصمكم عليه أحدٌ إلا كسرتموه؟ قلنا: إنْ رأيت ذلك. فقال: إنّ الله تعالى لم يُطعْ بإكراهٍ، ولم يُعصَ بغلبةٍ، ولم يهملِ العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، فإنْ ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادًّا، ولا منها مانعًا، وإنْ ائتمروا بمعصيته، فشاء أنْ يحول بينهم وبين ذلك فعل وإنْ لم يحل، ففعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه. ثم قال (عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصمَ من خالفه»[25].
وفي روايةٍ أخرى قال: «حدّثنا أبي (رضي الله عنه)، ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه) قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ أصحابنا بعضهم يقول بالجبر، وبعضهم يقول بالاستطاعة؟ فقال لي: اكتب قال الله تعالى: يا بن آدم بمشيتي أنت الذي تشاء، وبقوّتي أدّيت لي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعًا بصيرًا قويًّا ما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيّئاتك منّي؛ وذلك أنّي لا أسال عمّا أفعل وأنتم تسألون ونظمت لك كل شيء تريد»[26].
ومن الروايات ما رواه الكليني عن: محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن الحسن زعلان، عن أبي طالب القمّيّ عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قُلْتُ أَجْبَرَ اَللَّهُ اَلْعِبَادَ عَلَى اَلْمَعَاصِي؟ قَالَ لاَ، قُلْتُ فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ اَلْأَمْرَ؟ قَالَ: قَالَ: لاَ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا ذَا؟ قَالَ لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ»[27].
وبمقتضى هذه الروايات فإنّ أفعال الإنسان تنتسب إليه حقيقةً، ولكنّها تنتسب إلى الله في الوقت نفسه، وهذا يحتاج إلى شرحٍ وبيان، إذ إنّه بناءً على ما ذكرناه في حقيقة التوحيد الأفعاليّ، فإنّ الأفعال تصدر من الإنسان وتنتسب إليه مباشرة، كما أنّها تنتسب إلى الله بنحو الطوليّة؛ بلحاظ أنّ الإنسان مخلوقٌ أوجده الله تعالى، وبمقتضى كونه معلولًا فإنّه لا ينفصل عن علّته الحقيقيّة لحظةً واحدة، فهو في كلّ آنٍ مرتبط تمام الارتباط بعلّته، وبعبارةٍ أخرى الإنسان موجودٌ مفتقرٌ في وجوده وبقائه إلى الله تعالى، وبالتالي فإنّ كلّ ما يصدر منه من أفعال لا يمكن أنْ يكون مستقلًّا في فعلها، بل هو محتاجٌ في إيجادها إلى الله تعالى.
يقول الشيخ اليزدي في بيان ذلك إنّ الإنسان يعجز عن إدراك كنه علاقة الله تعالى بالأشياء؛ لأنّ هذه العلاقة لا تشبه علاقتنا نحن بأفعالنا، ولكن مع ذلك فإنّنا يمكن أنْ ندرك: «أنّه لولا إرادة الله لم يبقَ أيّ شيءٍ في ساحة الوجود، وهذا يعني أنّنا نعترف بفاعليّة الله في أعلى المستويات، وبفاعليّة الوسائط في مستويات أدنى، ولا يعني هذا إنكار الفاعليّة في المستويات الدنيا، فالنار هي التي تحرق والماء هو الذي يطفئ الظمأ، ولكن الاحتراق لا يتمّ إلّا إذا كان لدينا نار وقطن وهواء، وهذه الأشياء كلّها قائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة»[28].
وبناءً على ما ذكرناه في تفسير التوحيد الأفعاليّ يقول الشيخ اليزدي: «...أن استناد الأفعال الاختيارّية الإنسانيّة إلى الله تعالى لا ينافي استنادها للإنسان نفسه؛ لأنّ أحدهما في طول الآخر ولا تزاحم بينهما....فإنّ هاتين الإرادتين ليستا في عرضٍ واحد ومستوى واحد، ولا يمتنع الجمع بينهما، ولا يؤثّران في تحقّق الأفعال بالتناوب والبدليّة، بل إنّ إرادة الإنسان كأصل وجوده نفسه مرتبطة بالإرادة الإلهيّة»[29]. وبهذه الطريقة يتم حلّ الإشكاليّة من الجهة الثانية وهي الجهة التوحيديّة.
ويمكن بيان هذه الجهة في الجواب من الجهة التوحيديّة استنادًا إلى القرآن الكريم، إذ أشارت بعض آياته إلى مطلبٍ دقيقٍ ولطيفٍ يستحقّ التأمّل، حيث يقول تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ❁ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)[30]، نزلت الآية بعد معركة أحد، بعد أنْ قال بعض المسلمين إنّ ما يصيبهم من حسنةٍ ونصرٍ فهو من الله، وما يصيبهم من خسارةٍ وهزيمةٍ فهو من النبيJ، وقد بيّنت الآية الأولى النسبيّة الوجوديّة في كلّ الأفعال، حيث ردّت الآية على هؤلاء قوله تعالى(:قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)، فالآية تشير بصراحةٍ إلى أنّ كلّ شيءٍ يستند وجوديًا إلى الله (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وأما الآية الثانية فقد أشارت إلى تفصيلٍ آخر يرتبط بالانتساب السببي للأشياء، فبيّنت الآية أنّ كلّ حسنةٍ فهي من الله (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، وأما السيئة فالسبب في وقعها على الإنسان هو الإنسان نفسه، (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). ولعله يمكن القول إنّ الآية وحدها تكفي في إثبات الإعجاز القرآني.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ما ذكرناه من الأجوبة المختلفة حول مسألة وجود الشر وانتسابه إلى الله تعالى يُعدّ كافيًا في رفع الشبهات المرتبطة بهذه القضية وخاصّة من قبل الملحدين الذي ينكرون وجود الله تعالى انطلاقًا ممّا يرونه من شرورٍ ومصائب في عالم الدنيا؛ إذ يعدّون وجودها لا ينسجم ولا يجتمع مع الإيمان بوجود الله.
دراسةٌ مقارنةٌ بين الرؤيتين الكلاميّة واللاهوتيّة:
لا شكّ في أنّ التأمّل في الرؤيتين اللاهوتيّة والكلاميّة يقف على التقارب الشديد في علاج الشبهة، حيث إنّه من الواضح أنّ الرؤيتين تنطلقان في معالجتهما من الأصل التوحيدي لله خالق كلّ الأشياء؛ فالإسلام والمسيحيّة يرفضان وجود إلهٍ للخير وإلهٍ للشر، بل يرفضان وجود مخلوقٍ خارجٍ عن قدرة الله وسيطرته يمكن نسبة الشرور إليه، فكلّ الوجود تحت السلطة الإلهيّة التامّة.
كما تتفق الرؤيتان في النظر إلى الشرور بعدّها أعدامًا أو نقصًا في الوجود، مع الاعتراف بأنّ ذلك لا يعني أنّها ليست موجودة، فهي أمورٌ عدمية لكنّها حقيقية؛ ولذلك فإنّنا نتألّم ونتعب ونشقى بسببها.
كذلك نجد أنّ الرؤية اللاهوتيّة والكلاميّة تتفقان في الدعوة إلى النظر إلى المصائب والبلايا التكوينيّة بلحاظ كونها تقع في صالح الإنسان، وأنّه يمكنه الاستفادة منها في تمتين إيمانه، وترسيخ عقائده، وارتباطه بالله تعالى.
لكن من جهة أخرى فإن ثمّة بعض الفروقات في طريقة المعالجة لا بدّ من بيانها والإشارة إليها، ومنها: تنطلق الرؤية اللاهوتيّة في معالجتها لقضيّة الشرور من مبادئ أو أسسٍ ثلاثة، هي:
الأولى: علم الله تعالى.
الثانية: قدرته المطلقة.
الثالثة: أنّ الله هو الخير والمحبّة المطلقة.
وبناءً عليه نجد أنّ مبدأ المعالجة بل مبدأ الإشكاليّة ينطلق من هذه الأسس الثلاثة المذكورة.
أمّا في الرؤية الكلاميّة فإنّ الأسس التي ينطلق منها علم الكلام فهي:
الأولى: العدل الإلهي؛ ولذلك نجد أنّ المتكلّمين عالجوا المسألة في باب العدل.
الثانية: التوحيد الأفعالي؛ ولذلك نجد أنّ المتكلّمين ولاسيّما المعاصرين منهم عالجوا قضيّة الشرور من هذه الجهة، وبحثوا فيها بشكلٍ معمّق، ولكننا لا نجد أثرًا لهذه الجهة في الدراسات اللاهوتيّة.
الثالثة: الحكمة الإلهيّة.
ومن جهات الافتراق بين الرؤيتين أنّ الرؤية اللاهوتيّة تنطلق من مُسلَّمةٍ لا نقاش فيها وهي حريّة الإرادة الإنسانية، وأمّا في الرؤية الكلاميّة فإنّ هذا الأصل محلّ نقاشٍ بين المتكلّمين، وعلى كلّ حال فإنّ الرؤية اللاهوتيّة والرؤية الإسلاميّة عند المتكلّمين من الشيعة الاثني عشريّة واحدةٌ من هذه الجهة.
كذلك لا بدّ إلفات النظر إلى أنّ الإشكاليّة في الرؤية الكلاميّة تنطلق من قاعدةٍ كلاميّةٍ تُعدّ من أهمّ القواعد الكلاميّة التي لها مدياتٌ واسعةٌ في علم الكلام، وهي قضيّة الحُسن والقبح العقليين، ولكننا لا نجد أثرًا لهذا البحث في الدراسات اللاهوتيّة بحسب اطّلاعي القاصر في هذا المجال.
وأخيرًا فإننا نشير إلى أنّ هذا البحث واسعٌ جدًا، ويحتاج إلى دراسةٍ معمّقةٍ وشاملة، ولقد حاولنا في هذا البحث المختصر دراسة المعالجة اللاهوتيّة والكلاميّة في محاولةٍ لاستكشاف نقاط الاختلاف والافتراق بين الرؤيتين. ولا يخفى أنّ البحث يفتح الباب أمام دراسةٍ أعمق لهذه القضيّة الشائكة لعظيم أهميّتها وتأثيرها على إيمان الإنسان بالله، ونظرته إليه تعالى.
قائمة المصادر والمراجع
*القرآن الكريم
1- أوغسطين: الاعترافات، ترجمة: إبراهيم المغربي، الطبعة الأولى، البيت التونسي للعلوم والآداب والفنون ـ بيت الحكمة، تونس، 2012م.
2- الرضي: نهج البلاغة (مجموع مع اختاره الشريف الرضي من خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكلماته)، شرح: الشيخ محمّد عبده، د. ط، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
3- السبحاني، جعفر، محاضرات في الإلهيّات، تلخيص: علي الرباني الكلبايكاني، الطبعة الثامنة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المقدسة، 1421هـ.
4- الصدوق، عيون أخبار الرضا، الطبعة الأولى، دار الأعلميّ، بيروت، 1404هـ/ 1984م.
5- الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق: علي أكبر الغفاريّ، الطبعة الثالثة، دار الكتب الإسلاميّة، قم، 1388.
6- مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، الطبعة الأولى، مؤسسة أم القرى، بيروت، 2424هـ/ 2003م
7- المظفّر، محمّد رضا: أصول الفقه، تحقيق عباس السبزواري، الطبعة الثانية، مؤسسة بوستان كتاب، قم المقدسة، 1427هـ.
8- اليزدي، محمّد تقي مصباح: معارف القرآن، تعريب: محمد عبد المنعم الخاقاني، الطبعة الأولى، الدار الإسلامية، بيروت،1410هـ/1989م.
9- اليزدي، محمّد تقي مصباح، دروس في العقيدة الإسلاميّة، الطبعة الثامنة، دار الرسول الأكرم، بيروت، 2429هـ/2009م.
10- يوسفيان، حسن: دراسات في الكلام الجديد، الطبعة الأولى، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2016.
المصادر الأجنبية
Norman. Geisler. If Gof, why evil, Published by Bethany House Publishers,2011,
John G. Stackhouse, Jr., Can God Be Trusted? Faith and the Challenge of Evil, New York, Oxford OXFORD UNIVERSITY PRESS, 1998.
Good & Evil and the Human Condition THE CATHOLIC FAITH SERIES, LibreriaEditriceVaticana United States Conference of Catholic Bishops Washington, DC,.
المراجع الإلكترونية
- جون ماك أرثور، لماذا يسمح الله بوجود الشر والمعاناة في العالم؟ محاضرة منشورة على يوتيوب، يمكنه مراجعتها على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=6LFzk1afiD8،
--------------------------------
[1] سفر التكوين: 1:1.
[2] الرسالة الأولى يوحنا: 4: 16.
[3] يوحنا: 8 ـ 7: 4.
[4] أوغسطين: الاعترافات، ترجمة: إبراهيم المغربي، الطبعة الأولى، البيت التونسي للعلوم والآداب والفنون ـ بيت الحكمة، تونس، 2012، ص: 81.
[5]-Norman. Geisler. If Gof, why evil, Published by Bethany House Publishers,2011, p: 1.
[6]-Ibid, p:14.
[7] Ibid, p:16.
[8] John G. Stackhouse, Jr.,Can God Be Trusted? Faith and the Challenge of Evil,New York, Oxford OXFORD UNIVERSITY PRESS, 1998, p: 97 -99.
[9] Ibid, p: 188.
[10] جون ماك أرثور، لماذا يسمح الله بوجود الشر والمعاناة في العالم، محاضرة منشورة على يوتيوب، يمكنه مراجعتها على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=6LFzk1afiD8،
[11] سفر التثنية: 30: 15
[12] راجع المصدر نفسه.
[13] Good & Evil and the Human Condition THE CATHOLIC FAITH SERIES,LibreriaEditriceVaticana United States Conference of Catholic Bishops Washington, DC, volume 4, p: 44.
[14] Norman. Geisler. If God, why evil, p: 25 – 28.
[15] المظفر، محمد رضا: أصول الفقه، تحقيق عباس السبزواري، الطبعة الثانية، مؤسسة بوستان كتاب، قم المقدسة، 1427هـ، ص. 229.
[16] الأنبياء: 23.
[17] الشورى: 30.
[18] راجع: السبحاني، جعفر، محاضرات في الإلهيّات، تخليص: علي الرباني الكلبايكاني، الطبعة الثامنة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المقدّسة، 1421هـ، ص: 236 ـ 246.
[19] نهج البلاغة، الخطبة 192.
[20] راجع: يوسفيان، حسن: دراسات في الكلام الجديد، الطبعة الأولى، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2016، ص: 175.
[21] راجع: مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، الطبعة الأولى، مؤسسة أم القرى، بيروت، 2424هـ/ 2003م، ص: 196 ـ 205.
[22] ولا شكّ في أن هذا المبحث يبتني على الاعتقاد بأنّ الإنسان مختار وهو ما ذهبت إليه الإمامية، بخلاف بعض الفرق الإسلامية التي التزمت بالجبر وما شابهه من مبانٍ.
[23] اليزدي، محمد تقي مصباح، دروس في العقيدة الإسلامية، الطبعة الثامنة، دار الرسول الأكرم، بيروت، 2429هـ/2009م، ج1، ص: 193.
[24] مطهري، العدل الإلهي، مصدر سابق، ص: 169.
[25]-الصدوق، عيون أخبار الرضا، الطبعة الأولى، دار الأعلمي، بيروت، 1404هـ/ 1984م. ج2، ص: 131 ـ 132.
[26] المصدر نفسه، ج2، ص: 132.
[27] الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق: علي أكبر الغفاريّ الطبعة الثالثة، دار الكتب الإسلاميّة، قم، 1388، ج1، ص: 159.
[28] اليزدي، محمد تقي مصباح: معارف القرآن، تعريب: محمد عبد المنعم الخاقاني، الطبعة الأولى، الدار الإسلامية، بيروت،1410هـ/1989مج1، ص: 135.
[29] المصدر نفسه، ص 184.
[30] النساء، الآيتان 78 ـ 79.