البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)

الباحث :  الشيخ محمد بعلبكي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  29
السنة :  شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 14 / 2024
عدد زيارات البحث :  4272
تحميل  ( 2.063 MB )
الملخّص
اتّفقت كلمة المسلمين على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقّى رسالات الله تعالى عبر الوحي، ثم يبلِّغ ما تلقّاه للناس، وأنّه معصومٌ في عمليّة التلقي والتبليغ، ووقع الاختلاف بينهم في أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هل يجتهد برأيه فيما لا وحي ولا نصّ فيه؟
وأجمع علماء الإماميّة على أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن متعبَّدًا بالاجتهاد بالرأي، وأنَّه لا ينفصل عن التعاليم الإلهيّة والهداية الربانيّة في كلّ ما يصدر منه، بينما اختلف علماء الجمهور في ذلك؛ فذهب جماعةٌ منهم إلى أنَّ النبي يجتهد في الأحكام الشرعية، وتوقّف جماعةٌ في ذلك، ثم اختلف القائلون باجتهاده في أنّه هل يخطئ فيما اجتهد فيه أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أنّه لا يخطئ، وبعضهم إلى أنّه يخطئ ولكن لا يُقرّ على الخطأ.

وفي هذا البحث ندرس دعوى اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مبتدئين ببيان حقيقة الاجتهاد، ثم بيان آراء علماء الجمهور في المسألة وبيان مرادهم من اجتهاد النبيّ وأدلّتهم على ذلك، ثم بيان إجماع علماء الإماميّة على عدم اجتهاد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، برأيه في الأحكام الشرعيّة والمسائل الدينيّة وأنّه ملهَمٌ مسدَّدٌ في جميع ذلك، ثم ذكر الأدلة على بطلان الرأي القائل باجتهاده، موضحين أنَّ هذا القول إنّما نشأ بسبب الأحاديث الموضوعة أو المنقولة بالمعنى بتوسّعٍ وتحريفٍ من الناقلين، ولغرض تصحيح اجتهاد الصحابة، وبسبب الجهل بمنابع العلم النبوي، والجهل بطبيعة العصمة ودائرتها.

ولمّا كان هذا البحث يتّصل بكيفيّة صدور الأحكام الشرعيّة والمسائل الدينيّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت النتيجة التي يُتوَصَّل إليها فيه تؤثِّر على الرؤية الى الشخصيّة النبويّة، وتحليل أقواله وأفعاله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتنعكس على المباحث الاعتقاديّة المعرفيّة من جهة، وعلى مباحث التاريخ والسيرة من جهةٍ أخرى، ومن ههنا يتبيّن خطر هذا البحث.

الكلمات المفتاحية
اجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، العصمة ، الرأي، الحكم الشرعي.


Abstracts
The Muslims agreed that the Messenger of Allah (may Allah's peace and blessings be upon him) used to receive the messages of Allah Almighty through revelation, and then communicate what he received to people and that he is infallible in the process of receiving and reporting, and the difference between them occurred in that (may Allah's peace and blessings be upon him) should he strive with his opinion on what is not revealed or stipulated in it?

The scholars of the Imams unanimously agreed that the Prophet (may Allah's peace and blessings be upon him) was not a worshipper of ijtihad by opinion and that he is inseparable from the divine teachings and divine guidance in everything that comes from him, while the scholars of the public differed in that. Some argued that he did not sin, and some that he made mistakes but did not admit the mistake.
In this research, we study the claim of ijtihad of the Prophet (peace and blessings of Allah be upon him), starting with the statement of the fact of ijtihad, then the statement of the opinions of the scholars of the public in the matter and the statement of their intention from the Prophet's ijtihad and their evidence for that, then the statement of the consensus of the scholars of the Imamate on the lack of ijtihad of the Prophet (peace and blessings of Allah be upon him), with his opinion on the legal provisions and religious issues and that he is inspired in all that, and then mentioned the evidence for the invalidity of the opinion that his ijtihad, explaining that this saying only arose because of the hadiths placed or Transmitted in the sense of expansion and distortion of the carriers, and to correct the ijtihad of the Companions, and because of ignorance of the sources of prophetic knowledge, and ignorance of the nature of infallibility and its circle. since this research is related to the issuance of legal rulings and religious issues from the Prophet (peace and blessings of Allah on him and his family), the result reached affects the vision of the Prophet's personality, and the analysis of his words and deeds (peace and blessings of Allah on him and his family), and reflected on the cognitive belief investigations on the one hand, and the investigations of history and biography on the other hand, and here the danger of this research is evident.

Keywords: Ijtihad of the Prophet, infallibility, opinion, legal ruling


أوّلًا: تحديد مفهوم الاجتهاد لغةً واصطلاحًا
الاجتهاد لغة
الاجتهاد مصدر اجتهدَ، مشتق من الجُهد، ومعناه بلوغ غاية الوسع في السعي وراء أمرٍ ما. وهذا هو المعنى المتبادر إلى الأذهان عند إطلاق لفظ الاجتهاد، قال ابن الأثير في النهاية: «الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الأمر، وهو افتعالٌ من الجُهد: الطاقة»[1]. وقال الفيومي في المصباح: «اجتهدَ في الأمر بذلَ وسعَه وطاقتَه في طلبه ليبلغ مجهودَه ويصل إلى نهايته»[2]. وقال السيد المرتضى – رحمه الله - في الذريعة: «فأما الاجتهاد فموضوعٌ في اللغة لبذل الوسع والطاقة في الفعل الذي يلحق في التوصُّل إليه بالمشقة، كحمل الثقيل وما جرى مجراه»[3].

وبذلك يتبيّن أنَّ ما ورد في كلمات بعض الأصوليين من تعريف الاجتهاد بتحمُّل الجهد والمشقة غير دقيق، فإنَّ كلمة الاجتهاد لا تستعمل إلا في ما كان بلوغ الغاية فيه مستلزمًا للتعب والمشقة عادة، ومن ثَم التبس معنى الشيء بمورد استعماله ولازمه، يقال اجتهد فلان في حمل الصخرة، ولا يقال اجتهد في حمل الورقة، فالمشقّة ليست داخلةً في قوام معنى الاجتهاد لغةً، بل هي أمرٌ خارج عن المعنى لازم له.

الاجتهاد اصطلاحًا
أُطلق الاجتهاد لدى الجمهور في القرن الثاني على إثبات الأحكام الشرعيّة أو الموضوعات الخارجيّة بوساطة القياس، واشتهرت مدرسة أهل الرأي بإمامة أبي حنيفة (المتوفي 150 هـ)، بالقياس، وأكثرت من استعماله في إثبات الأحكام الشرعيّة؛ فالاجتهاد والرأي والقياس كلمات يراد بها معنى واحد لدى جمهور العامة في تلك الحقبة، قال الشافعي في الرسالة: «قال: فما القياس أهو الاجتهاد أم هما متفرقان؟، قلت: هما اسمان لمعنى واحد، قال: فما جماعهما؟ قلت: كلّ ما نزل بمسلمٍ ففيهٍ حكمٌ لازمٌ، أو على سبيل الحق فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه حُكْمٌ اتباعُه، وإذا لم يكن فيه بعينه طُلِبَ الدلالةُ على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس»[4].

فكلمة الاجتهاد في أولى استعمالاتها كان المراد بها الوصول إلى الحكم من خلال الظنّ والرأي عند فقد النص، ولم تكن تطلق على عملية استنباط الأحكام من ظواهر الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، ومثل ذلك كان يُسمَّى بالاستنباط أو التفقُّه، فالفقيه لدى الجمهور حيث لا يجد النص على الحكم كان يجتهد ويرى رأيه فيه، قال الشافعي في الرسالة: «‌لا ‌يحلّ ‌القياسُ ‌والخبرُ ‌موجودٌ كما يكون التيمم طهارةً في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارةً إذا وُجد الماء، إنّما يكون طهارةً في الإعواز»[5].
ويرى جماعةٌ من علماء الجمهور بأنَّ بدايات الاجتهاد كانت من بعض الصحابة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واحتجّوا على ذلك بحديث معاذ بن جبل حيث قال: «لمّا بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن قال لي: بم تَقضي إنْ عَرض قضاءٌ؟ قال: قلتُ أقضي بما في كتاب الله: قال: فإنْ لم يكن في كتاب الله؟ قال: قلتُ أقضى بما قَضى به الرسولُ: قال: فإنْ لم يكن فيما قضى به الرسول؟ قال: قلتُ ‌أجْتهدُ ‌رأيي ‌ولا ‌آلو»[6].
بل المعروف بينهم أنَّ في الصحابة عددًا غير يسيرٍ كان يجتهد برأيه في الدين؛ حتى ذكر ابن حزم في رسالته المسمّاة (أصحاب الفتيا من الصحابة)[7]، مائة واثنين وستّين مفتيًا في دين الله من الصحابة ما بين رجلٍ وامرأة، ومن المكثرين في الفتوى جماعةٌ منهم عمر بن الخطّاب الذي وصفه ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج قائلًا:

«كان مجتهدًا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، ويكيد خصمه، ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدّب بالدرّة والسوط من يتغلّب على ظنّه أنّه يستوجب ذلك، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقّون به التأديب، كلّ ذلك بقوّة اجتهاده وما يؤدّيه إليه نظره، ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى ذلك، وكان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعدّاها إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبّق أمور الدنيا على أمور الدين، ويسوق الكل مساقًا واحدًا، ولا يضع ولا يرفع إلّا بالكتاب والنص، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة»[8].
والروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) التي تذمّ الاجتهاد تريد به هذا المعنى المرادف للقياس والرأي، وأطبق علماء الإمامية تبعًا للأئمة (عليهم السلام) على بطلان الاجتهاد بهذا المعنى وعدم حجيّته في إثبات الأحكام الشرعيّة، ومن ثَمَّ أخذ الاجتهاد لديهم معنى آخر مغايرًا للمعنى الذي كان يطلق عليه لدى الجمهور، فأُطلِقَ على عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه للوصول الى الحكم الشرعي، فعرّفه العلّامة الحِلّي في نهاية الوصول بأنّه: «استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيءٍ من الأحكام الشرعيّة بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير»، وعرّفه الشيخ حسن صاحب المعالم بأنّه: «استفراغ الفقيه وسعَه في تحصيل الظن بحكم شرعي»[9].

والمراد من الظنّ، الظنّ المعتبر الذي جعله الشارع حجّةً وطريقًا يجوز سلوكه للوصول إلى الأحكام الشرعيّة، مثل الظنّ المستفاد من ظواهر الآيات القرآنيّة وأحاديث المعصومين (عليهم السلام)، وما شابه ذلك من الظنون التي قام الدليل على اعتبارها، أمّا الظنّ المستفاد من القياس والاستحسان والمصالح المرسلة فليس من الاجتهاد المشروع والمصطلح عليه لديهم.
والاجتهاد إنّما يتمّ اللجوء إليه عند العجز عن الوصول إلى واقع اللوح التشريعي، وفي غير الأحكام المعلومة من الشرع بالقطع واليقين كوجوب الصلاة والصيام والحج، وأنَّ هذه الأمور لا يجري فيها الاجتهاد؛ لأنّ الغرض من الاجتهاد الوصول إلى الحجّة على الحكم فإنْ كان الحكم واصلًا بطريقٍ قطعي انتفت الحاجة إلى الاجتهاد.

ثانيًا: أقوال علماء الجمهور في مسألة اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
اختلف علماء الجمهور في مسألة اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، على أقوال:
القول الأوّل: الجواز عقلًا والوقوع سمعًا
وهذا القول نسبه جماعةٌ إلى الشافعي، منهم الرازي في المحصول[10]، وفي هذه النسبة نظر لأنّا بعد التأمّل في كتابه لم نجده قائلًا بذلك، فانظر إلى كلامه في الرسالة حيث قال:

«والوجه الثالث: ‌ما ‌سنَّ ‌رسول ‌الله ‌فيما ليس فيه نصُّ كتاب. فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يَسُنَّ فيما ليس فيه نصُّ كتاب، ومنهم من قال: لم يسنَّ سُنّةً قط إلّا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سُنَّته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فما أحلَّ وحرَّم فإنّما بيَّن فيه عن الله، كما بَيَّن الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالةُ الله، فأثبتتْ سُنَّتَه، ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعه كلُّ ما سَنَّ، وسُنَّتُه الحكمةُ: الذي أُلقي في رُوعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سُنّتَه»[11].
وبعد أن ذكر أقوالًا أربعةً في المسألة آخرها أنّ سُنّته ممّا ألقي في روعه، جاء بحديثٍ يشهد لهذا القول وعلَّق عليه، وكلامه هذا إنْ لم يُفهَم منه نفي اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعلى أقلّ تقدير يستفاد منه توقّفه وعدم إبداء رأي في المسألة. كما ذكر في كتاب الأم[12] أقوالًا ثلاثةً تتّفق على أنَّ سُنّته (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا تخرج عن كونها إمّا وحيًّا وإمّا إلهامًا من الله تعالى، وإنّما ذكرنا كلام الشافعي تنبيهًا على وجود اضطرابٍ وتساهلٍ لدى الجمهور في نسبة الأقوال إلى علمائهم وخاصّة المتقدّمين منهم.

والقول باجتهاد النبيّ هو المحكي عن القاضي أبي يوسف، والقاضي عبد الجبّار، وهو قول أبي الحسين البصري في المعتمد، والرازي في المحصول، والآمدي في الإحكام[13]، وابن الحاجب في المختصر، والإيجي في شرحه[14]، ونُسِبَ إلى أكثر علمائهم القول بذلك.

القول الثاني: عدم الجواز عقلًا وعدم الوقوع سمعًا
وهو المحكي عن أبي عليّ الجبّائي، وابنه أبي هاشم، وحكي عنهما التفصيل فيقع منه في الحروب دون غيرها، والمنسوب إلى متكلّمي الأشاعرة وأصحاب الرأي عدم جواز اجتهاد النبيّ في الأحكام الشرعيّة بقولٍ مطلق، وهو رأي ابن حزم حيث قال في الإحكام: « ولا سبيل إلى اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شرع الشرائع، والأوامر عنده واردة متيقّنة، ولا إشكال فيها، يعلم خاصّها من عامّها، وناسخها من منسوخها، ومستثناها من المستثنى منه، علم يقينٍ ومشاهدةٍ في جميع ما أُنزل إليه، وأمّا الاجتهاد الذي كلفناه فهو طلب هذه المعاني، ولم نشاهدها كلّها فنعلمها، لكن نقبلها من الثقات الذي أمرنا الله تعالى بقبول نذارتهم إلى أن يبلغونا إلى الذين شاهدوا، وهم ونحن لا نعلم كلّ ذلك علمَ يقينٍ... وأمّا أمور الدنيا ومكايد الحروب ما لم يتقدّم نهيٌ عن شيء من ذلك، وأباح (صلّى الله عليه وسلّم) تعالى له التصرّف فيه كيف شاء فلسنا ننكر أن يدبّر عليه السلام كل ذلك على حسب ما يراه صلاحًا فإن شاء الله تعالى إقراره عليه أقره وإن شاء إحداث منع له من ذلك في المستأنف منع إلا أنَّ كل ذلك مما تقدَّم الوحي إليه بإباحته إيّاه ولا بد، وأمّا في التحريم والإيجاب فلا سبيل إلى ذلك البتّة»[15].

ولا بدّ من التنبّه إلى ابن حزم يرى أنّ للنبيّ أنْ يجتهد في أمور الدنيا والحروب وما شابه ذلك، ولكن ما يصدر عنه في ذلك ليس تشريعًا فإنّ التشريع لا يكون إلا لله تعالى، فكأنّه يرى أنّ ما يصدر عن النبيّ في شؤون الإمامة ليس من الأمور التشريعيّة بل التدبيريّة كما سيأتي الكلام حول ذلك، فرأيه في الحقيقة نفي بقولٍ مطلقٍ للاجتهاد في الأحكام الشرعيّة وإن جعل أكثر الباحثين قوله ضمن من يرى التفصيل.

القول الثالث: عدم الوقوع
يظهر هذا القول من البخاري حيث عنونَ أحدَ أبواب الصحيح قائلًا: «بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (بِمَا أَرَاكَ اللهُ)[16]»[17]، كما نسبه ابن تيمية إلى أحمد فقال في المسودة: «لم يكن عند أحمد شيء مجتهد فيه»[18]، كما نُسِبَ إلى أحمد القول بالاجتهاد.

القول الرابع: التوقّف في الوقوع
وهو المنسوب للشّافعي أيضًا، وقد تقدَّم أنّ كلامه في الرسالة أظهر بعدم اجتهاد النبيّ، ولكن نسبة التوقّف إليه تبقى أدقّ من نسبة القول بالاجتهاد إليه، والمحكي عن الباقلاني التوقّف في وقوع الاجتهاد منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو رأي الغزالي[19]، وأبي المعالي الجويني[20]، بل نَسب الرازي في المحصول[21] والسبكي[22] في الإبهاج التوقُّف إلى أكثر المحقّقين.

القول الخامس: التفصيل بين الحروب والأحكام الشرعيّة
وهو المحكي عن الجبائيين[23]، وجماعةٍ أنّهم جوّزوا اجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، في أمور الحرب دون الأحكام الشرعيّة.
هل يُخطئ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يجتهد فيه
والقائلون من علماء الجمهور بوقوع الاجتهاد من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، اختلفوا في أنّه هل يُخطِئ في اجتهاده أو لا، فالمنسوب إلى الأكثر القول بأنّه يجوز أن يُخطئ ولكن لا يُقرّ على خطئه، والمنسوب إلى بعضهم أنّه لا يجوز أنْ يخطئ، قال الخطّابي في أعلام الحديث: «وأكثر العلماء متّفقون على أنّه قد يجوز على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه وحي، ولكنّهم مجمعون على أن تقريره على الخطأ غير جائز»[24].

وقال الآمدي في الإحكام: «الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ‌اخْتَلَفُوا ‌فِي ‌جَوَازِ ‌الْخَطَأ ‌عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَابِلَةُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى جَوَازِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقَرَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ»[25].

فبعد أن أجازوا الاجتهاد على النبيّ أجازوا عليه الخطأ فيما يجتهد فيه، وسنبيّن بطلان هذه الآراء بإذن الله تعالى.

ثالثًا: تحديد مراد علماء الجمهور من اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
يُحتمل في معنى الاجتهاد الذي نسبوه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، المعاني الآتية:

الأول: الاجتهاد في النصّ القرآني
وهذا يحتمل معنيين:
1- أن يكون المراد بالاجتهاد في النصّ القرآني العلم بالأحكام الشرعيّة من نصوص الكتاب، وهذا المعنى ممّا لا خلاف فيه ولا شبهة تعتريه، ولكنه ليس اجتهادًا؛ إذ لا معنى للاجتهاد في النصوص.
2- أن يكون المراد بالاجتهاد في النصّ القرآني استظهار دلالات الألفاظ القرآنيّة التي فيها خفاء مثل البحث عن المراد من المجمل، والمتشابه، والمشترك، والتمييز بين الحقيقة والمجاز، والناسخ والمنسوخ، والبحث عن المخصِّص للعام والمقيّد للمطلق، وهذا المعنى فيه خلافٌ بينهم:
فيظهر من الشافعي في الرسالة أنّ ما بيَّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من فرائض القرآن هو بيانٌ من الله تعالى على لسان نبيّه، قال في كتاب الرسالة: «ومنه ما أحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيّه، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه»[26]، وقال في موضع آخر: «فلم أعلمْ من أهل العلم مخالفًا في أنّ سنن النبيّ من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرّعان: أحدهما ما أنزل الله فيه نصَّ كتاب، فبيّن رسول الله مثل ما نصَّ الكتاب، والآخر ممّا أنزل الله فيه جملة الكتاب، فبيّن عن الله معنى ما أراد، وهذا الوجهان لم يختلفوا فيهما»[27].
وصرَّح ابن الهمام[28] في كتاب التحرير أنَّ الاجتهاد في حقّ النبيّ مخصوصٌ بالقياس، قال ابن أمير حاج في شرحه على تحرير ابن الهمام: « (وَهُوَ) أَيْ الِاجْتِهَادُ (فِي حَقِّهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَخُصُّ الْقِيَاسَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (فَفِي دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ) عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِعُرُوضِ خَفَاءٍ وَاشْتِبَاهٍ فِيهِ يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهَا الِاجْتِهَادُ (وَ) فِي (الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصِ الْعَامِّ وَ) بَيَانُ (الْمُرَادِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَبَاقِيهَا) أَيْ الْأَقْسَامِ الَّتِي فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُرَادِ خَفَاءٌ مِنْ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ وَالْمُتَشَابِهِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ ... ثُمَّ هَذَا بِالنسْبَةِ إلَى دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ لَهَا أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّ هَذَا وَاضِحٌ لَدَيْهِ بِلَا اجْتِهَادٍ»[29].

بينما ظاهر كلام أبي الحسين البصري[30] أنَّ اجتهاد النبي يشمل ما كان من قبيل الاستدلال بالنصوص والاجتهاد فيها، قال في المعتمد: «اعْلَم أَن ‌اجْتِهَاد ‌النَّبِيّ (عَلَيْهِ السَّلَام) إِن أُرِيد بِهِ الاستدلال بالنصوص على مُرَاد الله (عَزَّ وَجلَّ) فَذَلِك جَائِز لَا شُبْهَة فِيهِ»[31]. وقال في موردٍ آخر: «فإن قيل: أفتجوِّزون أَن يتعبد النَّبِي (عَلَيْهِ السَّلَام) بِاجْتِهَادِهِ فِي تَأْوِيل آيَة؟ قيل يجوز ذَلِك بل ذَلِك أولى مِمَّا تقدم؛ لِأَنّ الاستدلال على ذَلِك اسْتِدْلَالٌ بِدلَالَة لَا بأمارة»[32].
هذا وقد استدلّ بعض الباحثين على وقوع اجتهادٍ من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، في النصّ القرآني فقال: «ومن هذا النوع رؤيته (صلى الله عليه وآله وسلم) تفاصيل كيفيات العمل في كثير ممّا أوحي إليه مجملًا، من الزكاة والصوم والحج وغير ذلك، وأسباب ذلك شروطه، ممّا لم يفصّله الوحي الظاهر. ومنه رؤيته انطباق العمومات الواردة في القرآن على أشياء معينة، فيحكم عليها بحكم العام الوارد في القرآن. ولعل من ذلك أنّه (صلى الله عليه وسلم): «نهى عن أكل كلّ ذي نابٍ من السباع، وكلّ ذي مخلبٍ من الطير». «وعن أكل لحوم الحمر»... فهذا النوع من الاجتهاد قريب، وذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أفصح العرب وأعلمهم بكلامهم، وكان نظره ثاقبًا، وفكره وقّادًا، وقد أمر باتباع ما أنزل إليه من ربه»[33].

وهذا الاستدلال غير صحيح لأنَّ نفس بيان النبي لمجملات القرآن الكريم ومصاديق عموماته لا يدل على أن بيانه كان عن اجتهاد بالرأي، بل الأمر بدوًا مردَّد بين أن يكون عن اجتهاد أو عن وحي وإلهام، وما يعيّن كونه عن وحي وإلهام قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)[34]. وهذه الآية إن لم تكن نصًا بأنَّ بيان معاني القرآن من الله تعالى فهي ظاهرة في ذلك قطعًا.

ثم إنَّ ما يُقطَع معه بفساد القول باجتهاد النبيّ في النصّ القرآني أنَّ هذا الأمر يعني خفاء معانيه عليه؛ إذ لا اجتهاد في القطعيات والواضحات، فهذه الدعوى ناشئة من عدم التنبُّه إلى أنّ المجمل والمشترك والمتشابه والظاهر إنّما هو كذلك بالنسبة لغير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمّا بالنسبة إليه فإنّ القرآن نصٌّ إلهي لا لبس ولا خفاء فيه، ولا حاجة بالنسبة إليه للاجتهاد الظنّي في معانيه، بل كيف يُعقل في حكمة الله تعالى أنْ يرسل رسوله لبيان القرآن ثم تخفى عليه معانيه فيجتهد في طلبها كما سيأتي بيانه تفصيلًا.

الثاني: القياس على النصّ
وهذا الاحتمال هو ما صرَّح به غالب القائلين باجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث قيّدوا الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه للدلالة على أنّه لا اجتهاد مع ورود النصّ، هذا وقد صرَّح أبو الحسين البصري في المعتمد بأنّ المراد باجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، الاستدلال بالأمارات المستنبطة التي يُرَدّ بوساطتها الفرع إلى الأصل فقال في المعتمد: «اعْلَم أَن ‌اجْتِهَاد ‌النَّبِي (عَلَيْهِ السَّلَام) إِن أُرِيد بِهِ الاستدلال بالنصوص على مُرَاد الله (عزَّ وَجلَّ) فَذَلِك جَائِز لَا شُبْهَة فِيهِ وَإِن أُرِيد بِهِ الاستدلال بالأمارات الشَّرْعِيَّة فالأمارات الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان أَخْبَار آحَاد، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي النَّبِي (عَلَيْهِ السَّلَام)، وَالْآخر الأمارات المستنبطة الَّتِي يجمع بهَا بَين الْفُرُوع والأصول وَهَذَا هُوَ الَّذِي يشْتَبه الْحَال فِيهِ هَل كَانَ يجوز تعبد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام»[35].

وتقدَّم أنّ ابن الهمام خصَّ اجتهاد النبيّ بالقياس، وهو الظاهر من كلام الجويني في التلخيص عند كلامه في مسألة توقُّف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن الحكم عند انقطاع الوحي حيث قال: «إِنَّمَا كَانَ يتَوَقَّف فِيمَا لم يكن للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَلم يكن لَهُ أصل يرد إِلَيْهِ اعْتِبَارًا وَقِيَاسًا»[36].
كما يظهر من أدلّتهم أنّ المراد بالاجتهاد قياس الفرع على الأصل من خلال العلم أو الظنّ بعلّة الحكم قال الرازي في المحصول: «إذا ‌غلب ‌على ‌ظنّه كون الحكم في الأصل معلَّلًا بوصف، ثم علم أو ظنَّ حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلابد أنْ يظنّ أنْ حكم الله تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل، وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بدائه العقول على ما قررناه في كتاب القياس، وهذا يقتضي أنْ يجب عليه العمل بالقياس»[37].

بينما تردّد ابن تيمية في اجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالقياس الظني وحصره بالقطعي وما كان من قبيل تحقيق المناط فقال في المسودة: «وإنّما اجتهاده في الأمور الجزئية قوليّة أو عمليّة من باب تحقيق المناط، وهذا لا خلاف فيه، وقصة داود من هذا الباب، ويجب الفرق بين الأحكام الكليّة العامة وبين أحكامه الشخصيّة الخاصة... وبالجملة القياس الذي نستفيد به الأحكام قطعي في حقّه وظنّي، فأمّا القطعي فجائز وأما الظني فهو محل التردد»[38].
إذا علم ما تقدًّم نقول: إنْ أرادوا بالقياس على النصّ الحكمَ استنادًا إلى العلة المنصوصة فهذا ليس من الاجتهاد بالرأي في شيء؛ لأنَّ العلة إنْ كانت مستفادة من النصّ ففي هذه الحال يكون الشارع قد دلَّ عليها لا أنَّ العقول أصابتها بمنأى عنه، وإنْ أرادوا بالقياس الحكم استنادًا إلى العلة المستنبطة، فالعلة المستنبطة أيضا مستفادة من النصّ فيكون المشرّع هو الذي بيّنها أيضًا ولكن بيانه لها ليس على حد بيان العلة المنصوصة بل يحتاج إلى التفات المخاطب وتنبُّهِهِ لها، ومثل ذلك ليس من الاجتهاد بالرأي، فبقي أن يراد باجتهاد النبيّ قياس الفرع على الأصل استنادًا للظنّ بعلة الحكم وهو مراد غالب علماء الجمهور من القائلين باجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

الثالث: الحكم بالرأي دون القياس على النصّ
وهذه المسألة تُعنون في كتب الأصول بمسألة التفويض، ويراد بها أن يفوَّض إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحكمَ برأيه مستقلًا من دون القياس على النصّ، وقد اختلفوا في ذلك، فنُسِب إلى الشافعي التوقّف في ذلك، وإلى غالب المعتزلة القول بعدم الجواز، ونسب إلى أكثر علماء الجمهور القول بجوازه عقلًا دون وقوعه، وذهب إلى جوازه ووقوعه مويس بن عمران من المعتزلة.

ولكن مع تصريح الأكثر منهم بعدم وقوع هذا النحو من الاجتهاد من النبيّ فإنّ غالب ما استدلّوا به على جواز تعبّده بالاجتهاد ووقوعه منه إنّما يناسب هذا النحو من الاجتهاد، وهو الرأي فيما لا نصَّ فيه، كاستدلالهم بفداء أسرى بدر، وبقوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم)[39]، وغيرها من الأدلّة التي ساقوها للاستدلال على وقوع الاجتهاد من النبيّ، فإنّها ليست من قبيل القياس على النصّ كما هو واضح، فليتأمَّل وليكن على ذكر منك هذا الاضطراب والتناقض بين رأيهم وأدلّتهم.

رابعًا: أدلّة علماء الجمهور القائلين باجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
استدلّ القائلون باجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأدلةٍ قرآنيّةٍ وروائيّة:
الأدلة القرآنية والتعليق عليها:
استدلّوا بعدة آياتٍ قرآنيّةٍ نذكر أهمّها ونجيب عنها:
1- قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[40]. استدلّوا بهذه الآية على وقوع الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة من النبيّ؛ لأنَّه لو كان أخذ الفداء عن وحي لما عوتِبَ عليه.

والجواب: إنَّ هذا استدلال باطل؛ لأنَّ من قال بأنَّ الآية عتاب من الله تعالى على أخذ الفداء أخطأ خطأً بيِّنًا؛ لأنَّهم لم يأخذوا الفداء قبل نزول الآية حتى يعاتبوا عليه، وإنّما أخذوه بعد نزولها[41]؛ ولذا فالصحيح أنّ معنى قوله تعالى: (ما كان لنبيّ أنْ يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض) أي ليس لنبيّ إذا حارب أعداء الله وظفر بهم أنْ يكون له أسرى منهم حتى يبالغ في قتلهم وقهرهم ويستقرّ دين الله، فإذا استقرَّ دين الله فله الأسر، وقوله تعالى: (تريدون عرض الدنيا) خطاب موجّه لمن دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، من المسلمين الذين رغبوا في عدم قتل المشركين وأخذهم أسرى في أول الأمر، فالعتاب على الأسر وليس على الفداء، والمعاتَب جماعةٌ من المسلمين وليس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
والدليل على أنَّ الخطاب موجَّهٌ لمن دون النبيّ من المسلمين أنَّ العتاب في الآية متعلِّق بأخذ الاسرى، والآية نصٌ في ذلك: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى)، ومن قام بالأسر في حرب بدر هم جماعة من المهاجرين والأنصار على طريقتهم الجارية في الحروب قبل الإسلام، فإنَّهم كانوا إذا ظفروا بعدوّهم أخذوا الأسرى للاسترقاق أو الفداء، ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد أمر بالأسر أو أجازه لكان ينبغي أن يكون الخطاب (تريد عرض الحياة الدينا) بينما الخطاب توجه إلى جماعة من المسلمين (تريدون) ولا معنى لأن يعاتِبَ اللهُ تعالى المسلمين على فعل شيء قد أمر به رسوله أو أجازه ورضي به، وهذا يدلّ دلالةً قاطعةً على أنّ فعلهم لم يكن بأمر رسوله الله ولا رضاه، وإنّما فعلوه من تلقاء أنفسهم، بل كيف يصح أن يكون رسول الله ممّن يريد عرض الحياة الدنيا حتى يكون مخاطبًا بذلك؟! .

كما أنّه ليس لهم أن يستدلّوا بهذه الآية؛ لأنَّها تُبطِل مبناهم الذي ذهبوا إليه من أنَّ النبيّ إذا اجتهد وأخطأ فإنّه لا يُقرّ على الخطأ، بينما المعنى الذي فسَّروا به الآية يدل على خطأ رسول الله فيما اجتهد فيه من أمر الفداء، وقد أُقِرّ عليه؛ لأنّه لم يبدلّ ما صنعه.

2- قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[42].
استدلّوا بهذه الآية على وقوع الاجتهاد منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال الآمدي في الإحكام: «وَالْمُشَاوَرَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا فِيمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ»[43] والجواب: في هذا الاستدلال نظر؛ فإنَّ المشاورة لا تدلّ على أنَّ ما صدر من النبيّ إنَّما صدر عن رأي واجتهاد، فإنّ النبيّ بعد أن يشاور أصحابه يتّخذ الحكم المناسب بتعليمٍ إلهي وتسديدٍ رباني، والإذن الإلهي قد يأتي باتباع ما أشاروا به، وقد يأتي بمخالفة ما أشاروا به، فمجرَّد الأمر بالمشاورة ليس له ارتباط بكيفية صدور الحكم من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهل أنّه يصدر عن اجتهاد أو يصدر عن تعليم وإلهام إلهي، وغاية ما تدلّ عليه المشاورة أنَّ ما شاروهم به من الأمور التدبيريّة وليس من الأمور التشريعية؛ لأنّ المشاورة إنّما تصحّ في الأمور التدبيريّة ممّا يمكن أن تبلغه عقول الرجال ممّا يتبدَّل بتبدل الأزمنة والأمكنة والظروف تبعًا للمصلحة، وبعد المشاورة يختار النبيّ بتسديد الله تعالى ما هو الأصلح ولا ينفصل في ذلك عن التعليم الإلهي، ثم إنّ الآية لم تضفي الحُجية على ما يشيروا به، ولم تأمر بالأخذ بمشورتهم؛ لأنّها جعلت الحكم معلّقًا على عزم النبيّ وحده، قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)، فما شُرِّعَ في الآية إنّما هو مشاورتهم فقط وليس حجيّة ما يشيروا به حتى يستفاد من ذلك حجية الاجتهاد بالرأي.

إنْ قيل: إنْ كانت الأحكام الصادرة منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنّما تصدر دائمًا عن تعليم وتسديد إلهي فما فائدة المشاورة؟ فالجواب: لأنَّ الله تعالى يريد من جماعة المؤمنين أنْ ينصروا دينه عن قناعة وإرادة لا عن استبداد على عادة الأكاسرة والقياصرة؛ لذا كان نهج الأنبياء والأوصياء المشاورة في الأمور التدبيريّة، ومن فوائد المشاورة أنْ تكون سُنّةً لمن يأتي بعده فلا يستبدّ برأي؛ ولأنّه من خلالها يتميّز الرجال ممّن حوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتظهر أقدارهم ومراتبهم وتبين سرائرهم وجواهرهم.

3- قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)[44]، قال الآمدي في الإحكام: «عَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ وَنَسَبَهُ إِلَى الْخَطَأِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ بِالْوَحْيِ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الِاجْتِهَادِ»[45].
والجواب: أنَّه ليس في الآية نسبة الخطأ إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن الأصلح إخراج من أذن له في القعود، كيف ذلك وفي إخراج المنافقين احتمال تثبيط عزيمة المسلمين والتقهقر والفرار عند المواجهة، ودليل ذلك ما جاء بعد هذه الآية: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، والصحيح أنَّ الآية مسوقة لفضح المتخلّفين وبيان كذبهم ونفاقهم، والكلام وإنْ كان موجَّهًا للنبيّ وفيه عتاب له بحسب الظاهر ولكن المراد حقيقة بيان كذبهم ونفاقهم، وهذا من أساليب العرب في كلامها المسمّى بإيّاك أعني واسمعي يا جارة، نظير قول القائل سامحك الله لمَ لمْ تُخرِج زيدًا ليستبين جبنه وضعفه؟ والمراد حقيقة مجرَّد بيان جبن زيد وضعفه لا العتاب ولا بيان خطأ من وجِّه إليه الكلام[46]، ثم إنّه لا يصح منهم الاستدلال بالآية؛ لأنّها تنقض قولهم، فإنّها بحسب تفسيرهم تثبت خطأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم يشترطون بأنّه إنْ اجتهد وأخطأ فلا يُقرّ على خطئه، وعدم الإقرار يعني أنْ يبدَّل الخطأ ويصحَّح، والحال أنّه لم يبدّل، ومن تخلَّف بقي في المدينة.

4- قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[47]، قال السرخسي في أصوله: «وَقد دخل فِي جملَة المستنبطين من تقدم ذكره؛ فَعرفنَا أَن الرَّسُول من جملَة الَّذين أخبر الله أَنهم يعلمُونَ بالاستنباط»[48].

والجواب: هذا الاستدلال باطل من وجهين:
الأول: لأنَّ الاستنباط بمعنى استخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها غير مراد في الآية؛ لأنّه معنى حادث واصطلاح متأخِّر عن زمان نزول النصّ القرآني، بل المراد بالاستنباط معناه اللغوي، وهو الاستخراج وهو يختلف بحسب موارده، والمراد به في الآية استخراج الحق والصدق من الأخبار المذاعة المنتشرة الموجبة للأمن أو الخوف، فالمردود في الآية ليس الحكم الشرعي المتنازع فيه حتى يكون الاستنباط بمعنى استخراج الحكم الشرعي، بل المردود هو الخبر المُذاع بين الناس من أمن وخوف لقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ).

الثاني: سلمنا أنَّ الاستنباط عام لكلّ أمر موجب للأمن أو الخوف سواء من الأقوال المذاعة أم الأحكام، ولكن استنباط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من القرآن ليس من الاجتهاد في شيء؛ لأنَّ القرآن بالنسبة إليه واضح لا خفاء فيه، واستخراجه للمعاني منه ليس على حد استخراج المجتهد للحكم الشرعي من أدلته، فإنّه إنّما يكون بعد خفاء ويصل إليه من خلال إعمال الأصول اللفظية أو العقلية بخلاف استنباط الرسول، ويشهد لهذا أنَّ الاجتهاد الذي يثبتونه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يريدون به الرأي والقياس على النصّ، وهذا غاية ما يفيده الظن بالحكم، أمّا الاستنباط الوارد في الآية يفيد العلم لقوله تعالى: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، فدلَّ ذلك على أنّ الاستنباط لا يراد به الاجتهادات الظنّية مثل القياس وما شابهه.

الأدلّة الحديثية والتعليق عليها:
استدلّوا بعدة أحاديث نذكر أهمها ونجيب عنها:
حديث تأبير النخل، ففي صحيح مسلم بسنده عن رافع بن خديج، أنّه قَالَ:
«قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الْمَدِينَةَ، ‌وَهُمْ ‌يَأْبُرُونَ ‌النَّخْلَ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: «مَا تَصْنَعُونَ؟» قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: «لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا» فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»[49]. استدلّوا بهذا الحديث على أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان يجتهد برأيه؛ لأنّه لو كان وحيًا لما أخطأ.

والجواب أنّ حديث تأبير النخل خبر واحد لا يصحّ أن تُبنى عليه مسألة أصولية؛ لأنّ أدلّة المسائل الأصوليّة لابد أنّ تكون علميّةً، وخبر الواحد لا يفيد العلم، ولأنّه حديثٌ موضوعٌ أو محرَّفٌ عن معناه الأصلي بسبب توسُّع الرواة بنقله، ويدلّ على ذلك أمور:

الأول: أنّ أهل الجزيرة العربية لا يمكن أنْ يجهلوا مسألة تأبير النخل، فكيف بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أعقلهم وأعلمهم؟! ومكّة إنْ لم تكن دار نخل في زمانه ولكنها لا تخلو منه، وإنْ سلّمنا أنّها كانت خاليةً من النخل، فهل من الممكن التصديق بأنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يسمع عن ذلك شيئًا طيلة عمره إلى زمان هجرته إلى المدينة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وهو يعيش في جزيرة العرب وهي منابت النخيل، وبين أظهر قوم يزرعون النخل، ويعلمون ما تطلبه زراعته من عناية وتلقيح؟!

الثاني: إنَّ النبيّ بحسب هذه الروايات قد اجتهد فأخطأ، ومن شرطهم أنه إذا اجتهد وأخطأ ألّا يُقرّ، ولكنه قد أُقرّ ولم يبدّل.
الثالث: إنْ سلَّمنا بأنّ النبيّ لا علم له بأمور الدنيا مثل تأبير النخل وما شابهها، فكيف ينطق بما لا يعلم والله تعالى نهى عن ذلك فقال: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، خاصّة وأنَّ تدخلَّه سبَّب ضررًا على أموال الناس، وأدّى إلى تلف محصولهم الزراعي وخروجه شيصًا، أي رديئًا لا ينتَفَعُ به كما ورد في بعض أحاديث تأبير النخل، أليس من الحكمة لو فرض بأنَّه لا علم له بأمور الدنيا ألّا يتدخَّل بها ويتركها لأهل الخبرة. ثم كيف يصح أنْ يكلِّف الله تعالى المسلمين بطاعة رسوله في كلّ ما يأمر به فيقول تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، والحال أنّ رسوله قد يُخطئ فيما يأمر أو ينصح، بل وقد يتسبَّب عن أمره أو نصحه ضياع أموال الناس؟!.

الرابع: اضطراب متون الحديث؛ فقد رواه جماعةٌ منهم أنس وعائشة ورافع بن خديج وجابر بن عبد الله، ففي حديث جابر بن عبد الله أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: «لَا لِقَاحَ، أَوْ مَا أَرَى اللِّقَاحَ شَيْئًا»، وفي حديث عائشة: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ»، وفي حديث رافع بن خديج: «لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا»، وفي حديث موسى بن طلحة عن أبيه: «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا»، ثم اعتذار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يختلف باختلاف الأحاديث ففي حديث مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، اعتذر قائلًا: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ»، وفي حديث رافع بن خديج: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»، وفي حديث عائشة: «إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ»، وفي حديث جابر: «مَا أَنَا بِصَاحِبِ زَرْعٍ وَلَا نَخْلٍ لَقِّحُوا».

وهذا الاضطراب العظيم في متون الأحاديث ممّا يثير الريب في حدوث أصل الواقعة، وما قاله الطحاوي في مشكل الآثار[50] من أنّها حوادث متعدّدة وَهْمٌ؛ لأنَّه مستبعد أنْ يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد خاطب أربعةً أو خمسةً من أصحابه بغير ما خاطب به صاحبه، ثم اعتذر لكلّ على حدة بغير ما اعتذر للآخر.
والحاصل أنَّه من خلال مجموع ما تقدَّم يتبيّن أنّ حادثة تأبير النخل إمّا أنّها مكذوبة من أصل، وإمّا إنّها حصلت، ولكنّها نقلت بتحريفٍ وتوسُّعٍ من الرواة، وعلى الاحتمالين يسقط الحديث عن الاعتبار.

حديث القضاء، رواه البخاري بسنده عَنْ ‌أُمِّ سَلَمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا): « أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ ‌أَلْحَنُ ‌بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا»[51].
استدلّوا بهذا الحديث على أنّ النبيّ يجتهد برأيه في الحكم بين الناس، وأنَّه قد يصيب وقد يُخطئ فيه، ولو كان وحيًا لكان مصيبًا دائمًا.

والجواب: أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، متعبَّدٌ في الحكم بين الناس بأمرين إمّا أنْ يحكم حكمًا واقعيًّا استنادًا لعلمه بالواقع، وإمّا أنْ يحكم حكمًا ظاهريًا استنادًا إلى البيّنة واليمين أو الإقرار وغير ذلك من الوسائل المقرّرة شرعًا في باب القضاء، وليس هذا من الاجتهاد في شيء، فليس هو قياس على النص أو رأي منه، بل هو متعبَّد من الله تعالى بسلوك أحد هذين الطريقين في الحكم بين الناس، واختيار ما تقتضيه الحكمة منهما، فقد يحكم بعلمه، وقد يحكم بالبيّنة واليمين كما هو الغالب.
وسواء أحكم بعلمه أم بالبيّنة واليمين فإنَّ حكمة حقٌّ وعدل، أمّا إذا حكم بعلمه فلأنَّ علمه مطابقٌ للواقع ولا يتخلَّف عنه، وأمّا إذا حكم بالبيّنة واليمين فحقانيّة حكمه يراد بها أنّه يأتي وفقًا للمقاييس القضائية التي تعبّده الله بها، ولا يصح القول بأنّه أخطأ فيما لو لم يتطابق حكمه الظاهري مع الواقع؛ وذلك لأنّه في هذه الحال متعبَّدٌ بالأخذ بالظاهر، ولم يُأمر بإصابة الواقع حتى يصح أنْ يقال أنّه أخطأ، نظير حكم النبيّ بإسلام من نطق بالشهادتين، وأبطن الكفر فإنّه لا يصح أنْ يقال قد أخطأ في حكمه بإسلامهم؛ لأنّ الله تعبّده بإجراء أحكام الإسلام على الظاهر.

أما رواية: «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض؛ فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئًا فإنما قطعت له قطعًا من نار»، فالمستفاد منها أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، متعبَّدٌ من الله بأنْ يحكم غالبًا بالبينات والأيمان، وأنّ مَن حكم له، وكان في الواقع يأخذ شيئًا ليس له فهو عاصٍ مستحق للعذاب، ولا يجوز له التصرُّف فيما أخذ، فالحديث مسوقٌ لبيان هذا المعنى، وليس مسوقًا لبيان خطئه (صلى الله عليه وآله وسلم)، في الأحكام القضائية، نعم يستفاد من الحديث احتمال عدم مطابقة الأحكام القضائية الظاهرية مع الواقع، ولكن الله قد تعبَّد نبيّه بسلوك هذا الطريق؛ لأنَّ مطابقته للواقع غالبية، وعدم المطابقة أقليّة، أو لغير ذلك من المصالح والحكم في سلوكه، ومثل ذلك لا يصحّ عدّه خطأً في التشريع.
حديث الأذان، روى أصحاب الصحاح أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد شاور أصحابه فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة؛ ليؤدوها جماعة، ففي صحيح البخاري بسنده عن ‌ابْن عُمَر أنَّه قال: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: ‌اتَّخِذُوا ‌نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بِلَالُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»[52].

قال السرخسي في أصوله معلِّقًا على الحديث: «وَمَعْلُوم أَنه أَخذ بذلك بطرِيق الرَّأْي دون طَرِيق الْوَحْي، أَلا ترى أَنّه لما أَتَى عمر وَأخْبرهُ أَنّه رأى مثل ذَلِك قَالَ: الله أكبر هَذَا أثبت، وَلَو كَانَ قد نزل عَلَيْهِ الْوَحْي بِهِ لم يكن لهَذَا الْكَلَام معنى وَلَا شكّ أَن حكم الْأَذَان مِمَّا هُوَ من حق الله، ثمَّ ‌قد ‌جوز ‌الْعَمَل ‌فِيهِ بِالرَّأْيِ فَعرفنَا أَن ذَلِك جَائِز»[53].
والجواب: أمّا ما استدلّوا به من روايات تشريع الأذان فهي مضطربةٌ ساقطةٌ عن الاعتبار، ففي بعضها أنَّ عمر هو المشير بالأذان، وفي بعضها أنَّ عبد الله بن زيد هو المشير بذلك لرؤية رآها، وفي بعضها أنّ جبرائيل أذّن في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالًا، وفي بعضها أنَّ أبا بكر رأى الأذان، وفي بعضها أنّ سبعة من الأنصار رأوا الأذان، وفي بعضها أربعة عشر صحابيًا رأوه.

ورواية عبد الله بن زيد أصح الروايات على مبانيهم، ويدلّ على وضعها ما قاله الحاكم في المستدرك: «وإنّما ترك الشيخان - البخاري ومسلم - حديث عبد الله بن زيد في الأذان، والرؤيا التي قصّها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلّم بهذا الإسناد؛ لتقدّم موت عبد الله بن زيد، فقد قيل: إنّه استشهد بأُحد، وقيل بعد ذلك بيسير»[54].

والصحيح أنَّ الأذان شُرِّعَ من الله تعالى وأوحي إلى النبيّ عند عروجه إلى السماء، وهذا ما روي عن أهل البيت (عليهم السلام)، ومن طريق الجمهور روى الطبراني بسنده عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالْأَذَانِ، فَنَزَلَ بِهِ، ‌فَعَلَّمَهُ ‌جِبْرِيلُ»[55]، وروى الحاكم في المستدرك بسنده عَنْ سُفْيَانَ بْنِ اللَّيْلِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ مَا كَانَ قَدِمْتُ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ - قَالَ: فَتَذَاكَرْنَا عِنْدَهُ الْأَذَانَ فَقَالَ بَعْضُنَا: إِنَّمَا كَانَ بَدْءُ ‌الْأَذَانِ ‌رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: «إِنَّ شَأْنَ الْأَذَانِ أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ، أَذَّنَ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي السَّمَاءِ مَثْنَى مَثْنَى، وَعَلَّمَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»[56].
واستدلّوا بغير ذلك من أخبارٍ لا تخرج عن حيّز الآحاد ممّا لا يفيد علمًا ولا يصح بناء مسألة أصوليّة عليها، وجملة منها آثار الوضع عليها لائحة، وكلّها لا تدلّ دلالةً قاطعةً على الاجتهاد المصطلح عليه، ولا ريب بأنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد حكم في جملةٍ من الوقائع بما أراه الله تعالى، ولكن الكلام كلّ الكلام في صدق الاجتهاد الظنّي على ذلك، فلا نقول بأنّ النبيّ لم يحكم برأيه، ولكنا نقول رأي النبيّ لا ينفصل عن الرؤية الإلهية، وأنّه ليس من القياس والظنون الاجتهادية في شيء.

خامسًا: إجماع علماء الإماميّة على عدم وقوع الاجتهاد من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحكام الشرعيّة
أجمع علماء الإماميّة على عدم وقوع الاجتهاد من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال السيد المرتضى - رحمه الله - في الذريعة: «فإنْ قيل: أفتجوّزون من طريق العقل أنْ يتعبّد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالاجتهاد في بعض مسائل الشرع. قلنا: العقل لا يمنع من ذلك إذا تعلقت به مصلحة، فإنْ قيل: فجوزوا في أحكامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما طريقه الاجتهاد. قلنا الصحيح في المنع من ذلك هو أنّا قد دللنا على أنَّ القياس وحمل الفروع على الأصول في الشريعة ممّا لم يتعبّد به، وكلّ من قال بأنَّ الأمة لم تتعبّد بذلك يقطع على أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما تعبّد بمثله، فالقول بأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، تعبد به دوننا خروج عن الإجماع، وقد ادّعى أبو علي الجبائي إجماع الأمة على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما تعبد بذلك»[57].

وقال العلّامة الحِليّ – رحمه الله - في مبادئ الوصول إلى علم الأصول بعد تعريف الاجتهاد: «ولا يصح في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وبه قال الجبائيان - لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى)؛ ولأنّ الاجتهاد إنّما يفيد الظن، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) قادر على تلقيه من الوحي، وأنّه كان يتوقّف في كثير من الأحكام حتى يرد الوحي، ولو ساغ له الاجتهاد لصار إليه؛ لأنّه أكثر ثوابًا، ولأنّه لو جاز له، لجاز لجبريل (عليه السلام)، وذلك يسد باب الجزم، بأنّ الشرع الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الله تعالى؛ ولأنّ الاجتهاد قد يخطي وقد يصيب، فلا يجوز تعبده (عليه السلام) به؛ لأنّه يرفع الثقة بقوله»[58].
وقال الشيخ البهائي – رحمه الله - في زبدة الأصول: «أحكام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليست عن اجتهادٍ بإجماعنا، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، والوحي إليه أن يجتهد لا يجعل ما ينطق به وحيًا».

ممّا تقدَّم يتبين أنّ علماء الإمامية مجمعون على عدم وقوع الاجتهاد من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن يرى السيد المرتضى والشيخ الطوسي - رحمهما الله - أنَّه وإنْ لم يقع الاجتهاد منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن من الناحية العقلية الثبوتيّة لا استحالة في أنْ يتعبَّد الله نبيّه بذلك، بينما الظاهر من بعض الأدلّة التي ساقها العلّامة الحِلّي عدم جواز ذلك من الناحية العقلية الثبوتيّة، والحقّ أنّا إذا لاحظنا غرض المولى من بعثة الأنبياء وإمامة الأوصياء، وهي الهداية ولاحظنا طبيعية الاجتهاد، وأن حقيقته ترجع إلى الظن أمكن القول بأنّه لا يجوز عقلًا تعبدّهم بالاجتهاد، ويستحيل ذلك في حقهم؛ لأنَّ ذلك يؤدّي إلى نقض غرض المولى، ونقض الغرض مستحيل في حقه تعالى، وبعبارة أخرى لما كان الظنّ والهداية أمرين لا يتلاءمان، وضدين لا يجتمعان استحال تعبُّد الأنبياء والأوصياء بالاجتهاد الظني في دين الله تعالى كما سيأتي شرحه بنحو مفصّل.

سادسًا: أنحاء بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصرّفاته
إنّ بيانات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقواله وأفعاله على أنحاء متعدِّدة:
1- منها ما يكون من جهة النبوة والرسالة: وهو تبليغ الأحكام التشريعية المولويّة، سواء أكانت من قبيل التشريعات المنصوصة في القرآن وهي الفرائض، أم ما بيّنه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممّا ليس في كتاب الله نصُّ حكمٍ فيه، وهي السُّنَن.
2- ومنها ما يكون من جهة الإمامة: وهي أقواله وبياناته التي تسوق الفرد والمجتمع الإسلامي نحو الكمال المطلوب سواء أكانت من قبيل الأحكام التدبيريّة الولائيّة التي تنظم أمر المجتمع الإسلامي وتحصّنه مثل بعث الجيوش لقتال الكفار، وقسمة الغنائم، وصرف أموال بيت المال في مصارفها، وتولية القضاة والولاة، وعقد العهود وغير ذلك، أم كانت من قبيل الأحكام الإرشاديّة، أو البيانات الأخلاقية لتهذيب النفوس.
3- ومنها ما يكون من جهة القضاء: وهي الأحكام القضائية لفصل النزاعات بين الناس.

فهو (صلى الله عليه وآله وسلم)، مبلغ عن الله تعالى من حيث هو نبي ورسول، وإمام راعٍ لدولة الإسلام وهادٍ للمجتمع من حيث هو إمام، وحاكم يفصل في الخصومات والنزاعات من حيث هو قاضٍ.

قال الشهيد الأول - رحمه الله – في كتاب القواعد والفوائد: «فائدة: تصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، تارةً بالتبليغ وهو الفتوى، وتارةً بالإمامة، كالجهاد، والتصرف في بيت المال، وتارةً بالقضاء، كفصل الخصومة بين المتداعِيَيْن بالبينة أو اليمين أو الاقرار، وكلّ تصرف في العبادة فإنّه من باب التبليغ، وقد يقع التردّد في بعض الموارد بين القضاء والتبليغ: فمنه: قوله عليه السلام: «من أحيا أرضًا ميتةً فهي له»، فقيل: تبليغ وإفتاء، فيجوز الاحياء لكلّ أحد، أذن الامام فيه أم لا وهو اختيار بعض الأصحاب، وقيل: تصرُّف بالإمامة، فلا يجوز الاحياء إلا بإذن الامام، وهو قول الأكثر»[59].
هذا وقد اشتهر بين علماء الإمامية[60] في القرن الأخير التمييز بين الأحكام التشريعيّة والأحكام الولائيّة الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام) بجملةٍ من الخصوصيّات، وما يهمّنا في المقام التنبيه عليه هو أنَّ الفرق بين هذه الأنواع الثلاثة من الأحكام ليس في أنَّ الحكم التشريعي صادرٌ من الله تعالى، والحكم التدبيري أو القضائي صادرٌ من النبي بالرأي والاجتهاد، فإن جميع الأحكام تصدر من النبي عن وحي أو إلهام، والفرق إنّما هو في خصوصيات الحكم وكيفيّة صدوره وليس في منشأ صدوره، وأنَّ بعضه من الله تعالى وبعضه من النبي، ويمكن بيان فرقين بين الأحكام التشريعية، والأحكام التدبيريّة الولائية:

الفرق الأول: إنّ الأحكام التشريعيّة الصادرة من جهة النبوة والرسالة أحكامٌ عامةٌ لجميع المكلفين إلى يوم القيامة، وأمّا الأحكام الصادرة من جهة الإمامة فقد تكون أحكامًا عامةً لعموم المكلفين إلى يوم القيامة، وقد تكون أحكامًا مؤقّتةً لخصوصيّات زمانية ومصالح آنية، ويدل على ذلك ما رواه الكليني–رحمه الله– في الكافي: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ مُسْلِمٍ وزُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُمَا سَأَلَاه عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْهَا وعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ، وإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فِي الْقُرْآنِ».

الفرق الثاني: إنَّ وظيفة الرسول في ما يخصّ الأحكام التشريعيّة إبلاغها فقط، بينما الأحكام القضائية والأوامر التدبيريّة له فيها دخالةٌ زائدةٌ على التبليغ فلا يكون ناقلًا للرسالة الإلهية فقط، بل يكون مصدّرًا للأحكام الولائية والتدبيرات وفق العلم اللدني واستنادًا إليه، فما عُبِّر عنه في الروايات بالتأديب الإلهي يرجع الى العلوم اللدنيّة الوحيانيّة التي من خلالها يعلم النبيّ ملاكات الأحكام، ويستطيع من خلالها التشريع، وتشريعه هذا إنّما يكون بما أراه الله تعالى وليس تشريعًا من جنبةٍ بشريّةٍ محضةٍ بل من النبيّ استنادًا إلى العلم الإلهي، ويدلّ على ذلك قوله تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ )[61]،فجملة بما أراك الله واضحة الدلالة على أنَّ حكم النبيّ مستندٌ إلى التعليم الإلهي وفي طوله وليس أمرًا مستقلًا عنه، فتشريعاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومستمدّة من أصول فوقها وهي العلم اللدنّي الذي من خلاله يعلم ملاكات الأحكام ويحكم على أساسها، فالسُنن النبويّة ممّا ليس فيه نصُّ كتابٍ، وما شرعه النبيّ في الأمور التدبيرية ترجع بالنهاية الى الله تعالى؛ لأنَّ مواد العلم النبوي منه تعالى، ولا ترجع إلى الاجتهاد بالرأي أو الظنّ أو من جنبةٍ بشريّةٍ محضة.

سابعًا: الأدلة والشواهد على بطلان دعوى اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
1- الأدلة القرآنيّة على عدم اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
أ- قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[62] والضمير (هُوَ) يعود إلى النطق، والمعنى لا ينطق عن الهوى وما نطقُه إلا وحي يوحى من الله تعالى، والآية مطلقةٌ في كلّ ما ينطق به النبي سواء أكان قرآنًا أم غيره، فجميع أقواله لا تصدر إلّا عن وحي من الله تعالى.

إنْ قيل سياق الآية جاء في خطاب قريش وإنّهم يرمونه بالضلال والغواية ممّا يدلّ على أنّ المراد أنّه لا ينطق فيما يتلوه من القرآن عن الهوى، فالضمير وإنْ كان يرجع إلى النطق وهو مطلق، ولكن المراد به بقرينة السياق النطق بالقرآن، فالجواب: أنّ كفّار قريش كذّبوه في دعوى الرسالة وجميع ما يتصل بها من نزول القرآن وغيره من رسالات الله وما جاء به من أحكام في العهد المكي؛ فالجواب المناسب على كلامهم بمقتضى السياق أنْ يكون بإثبات وحيانيّة ما ينطق به في جميع ما يرجع إلى الرسالة وكلّ ما يتصل بها من أقوال سواء أكانت قرآنًا أم غير قرآن، وتخصيص الردّ عليهم بخصوص القرآن لا قرينة عليه، وبعبارةٍ أخرى سلمنا أنَّ الخطاب في قوله (ما ضل صاحبكم)[63] مع كفّار قريش ولكن تكذيب كفّار قريش إنّما كان منصبًّا على الرسالة وجميع ما يتّصل بها، وليس مختصًّا بتكذيب القرآن فقط.

وإن قيل[64]: إنَّ اجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما كان مشرَّعًا من الله تعالى فما ينطق به يكون وحيًا من الله وليس نطقًا عن الهوى، فالجواب: أنَّ تشريع الاجتهاد يفيد حجيّة قول المجتهد ولا يجعل من اجتهاده وحيًا، نظير إجازة المولى فتوى الفقيه فإنّها تفيد حجيّة الفتوى ولا تجعل منها وحيًا من الله تعالى، أمّا الآية فهي نصٌّ في أنّ نطقه وحيٌ من الله تعالى.
وإنْ قيل: لا يصحّ الأخذ بإطلاق الآية وإلّا لاقتضى أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)،لا ينطق إلّا عن وحي في جميع أموره مثل طلبه للماء وغير ذلك، وهو ما لا يلتزم به أحد، فالجواب: أنَّ الإطلاق دائرته في جميع ما يتصل بشؤون الرسالة من إبلاغ القرآن وبيان التشريعات والاعتقادات وهداية الناس، ولا يفهم شمول ذلك للأمور العادية كطلب الماء وما أشبه ذلك، نظير من يبعث رسولًا ويقول كلّ ما يقوله لكم رسولي فهو كلامي، فإنّه يفهم منه أنّ كلّ ما يقوله فيما يتصل بشؤون الرسالة فهو كلام المرسِل ولا يشمل الأمور العادية التي يتعاطاها الرسول من الأكل والشرب وما أشبه ذلك.

ب- الآيات الدلة على أنّ رسول الله لا يتبع إلّا ما يُوحى إليه، مثل قوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم)، وقوله تعالى: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ)، وقوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، وقوله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

هذه الآيات واضحة الدلالة على أنّ جميع أقوال وأفعال النبيّ تابعة للوحي، وهذا مستفاد من الحصر (إنْ أتَّبع إلّا)، (إنّما أتّبع)، والاجتهاد بالرأي المستقل ليس من التبعيّة للوحي، وقد اعترف الرازي في تفسيره بدلالة هذه الآية على بطلان الاجتهاد فقال: «قَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ مَعْنَاهُ: لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ‌مَا ‌حَكَمَ ‌إِلَّا ‌بِالْوَحْيِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ قَطُّ بِالِاجْتِهَادِ.»[65]

وأمّا ما قيل من أنّه إذا أمر الوحي بالاجتهاد مع عدم إنزال نصٍّ من الله تعالى فإنّ الاجتهاد يكون اتباعًا للوحي، نظير اجتهاد المجتهدين فإنّه اتباعٌ للوحي بوجوب التفقّه في الدين. فهو كلام في غير محلّه؛ لأنّه لا يوجد أمرٌ وحياني للنبيّ بالاجتهاد بالرأي حتى يمكن أنْ يُدَّعى أنَّ اجتهاده اتّباع الوحي، فهذا الأمر مصادرة على المطلوب وعين المتنازع فيه، فإنّ غالب أدلة الاجتهاد بالرأي إنّما انتزعها القائلون بالاجتهاد من خلال بعض أخبار الآحاد، وليس في كتاب الله تعالى ووحيه نصٌّ يأمر بالاجتهاد بالرأي حتى يصح أنْ يقال إذا أمر الوحي بالاجتهاد.
ولأنَّ التبعيّة ظاهرةٌ بامتثال أمر المتَّبَع والاهتداء بهديه ومحاكاة قوله وفعله، ولا تصدق على التفويض إليه بأنْ يجتهد برأيه المستقل عن الوحي، فإنْ قال المولى لعبده: اتبعني، فهذا الأمر ظاهرٌ بوجوب محاكاة ما يفعل المولى، ويدلّ على ذلك قوله تعالى (إنْ كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله) واتّباع النبي إنّما يتحقّق بالاقتداء به في أقوال وأفعاله، فالتبعيّة لغةً لا تصدق على الاجتهاد بالرأي المستقلّ عن المتبوع، فلو أنّ العبد اجتهد برأيه فلا يصدق أنّه متّبعٌ لمولاه حتى لو صادف أنّ ما أتى به مرضيًّا لمولاه، وهذا يدلّ على أنَّ التبعيّة عبارةٌ عن محاكاة قول المتبوع وفعله والانقياد إليه.

ج- الآيات الناهية عن اتباع الظنّ: منها قوله تعالى:(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[66]، قوله تعالى:(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)[67]، وقوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)[68] والاجتهاد بالرأي ظنٌّ وقولٌ بلا علم وهو (صلى الله عليه وآله وسلم)، منهي عنه.
د- قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[69] والآية واضحة الدلالة على الأمر بالتأسي برسول الله وجعله قدوةً، وهذا يعني أنّ الله قد جعله طريقًا لمرضاته في كلّ ما يصدر عنه، والقول باجتهاده وإمكان خطئه فيما يجتهد فيه يتعارض تمام المعارضة مع كونه قدوةً وأسوة.
هـ- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)[70] وهذا يدلّ على أنّه لو كان يجتهد ومن الممكن أن يُخطئ ولكن لا يُقرّ على خطئه، لكان يجب أنْ يبيّن الله في كتابه ذلك ويقول: (أطيعوه فيما أقررته فيه). ولكن الأمر بالإطاعة جاء مطلقًا فعلم من ذلك أنّه لا يجتهد ولا يُخطئ في شيءٍ من أقواله وبياناته.
و- وقوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)[71]، دلَّت الآية على أنَّ الله تعالى أورد نبيّه على الطريق الموصل للشريعة الإلهيّة، وقوله تعالى(جعلناك على شريعة) يدلّ على أنَّ الجعل جعلٌ إلهيّ، وهو ينافي صدور الأحكام الدينيّة عن رأيه واجتهاده من غير اتصالٍ بالوحي.
ز- وقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). الآية واضحة الدلالة بأنّ كلّ ما شرعه الله تعالى لأمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممّا يتعلَّق بالدين من المسائل والأحكام موحى إليه من الله تعالى.

2- الأدلة الحديثيّة على عدم اجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يدلّ على ذلك ما رووه عن عمر أنّه قال: «يا أيها الناس إنّ الرأي إنّما كان من رسول الله مصيبًا؛ لأنّ الله كان يريه، وإنّما هو منا الرأي والتكلّف»[72]، ورووا عن ابن عباس أنّه قال: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي دِينِهِ بِرَأْيِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ)، ‌وَلَمْ ‌يَقُلْ ‌بِمَا ‌رَأَيْت»[73]، والحديثان واضحا الدلالة بأنّ أحكام رسول الله مستندةٌ إلى ما يريه الله، وما يريه الله إمّا وحي وإمّا إلهام.

ورووا عن أَبِي بُصَيْلَةَ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ سِتَّةٍ، سَعِّرْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «‌لَا ‌يَسْأَلُنِي ‌اللَّهُ ‌عَنْ ‌سُنَّةٍ أَحْدَثْتُهَا عَلَيْكُمْ لَمْ يَأْمُرْنِي بِهَا، وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ»[74]، والحديث واضح الدلالة بأنّ كل سنّةٍ سنّها النبيّ فهي بأمر الله تعالى.

ويدلّ على ذلك أيضًا ما رووه من أحاديث كثيرةٍ في بطلان الاجتهاد بالرأي في الدين منها:
ما رووه عن عمر أنّه قال: «اتَّهِمُوا ‌الرَّأْيَ ‌عَلَى ‌الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِي اجْتِهَادًا إِلَيْهِ مَا آلُو عَنِ الْحَقِّ، وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: إِذَنْ قَدْ صَدَّقْنَاكَ بِمَا تَقُولُ، وَلَكِنَّا نَكْتُبُ كَمَا نَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَيْتُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: «تَرَى أَنِّي قَدْ رَضِيتُ وَتَأْبَى؟» قَالَ: فَرَضِيتُ»[75].

وما رووه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أنه قَالَ:
«وَاللهِ إِنَّا لَمَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِالْجُحْفَةِ، وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِيهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، إِذْ قَالَ عُثْمَانُ - وَذُكِرَ لَهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ -: إِنَّ أَتَمَّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ لَا يَكُونَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَوْ أَخَّرْتُمْ هَذِهِ الْعُمْرَةَ حَتَّى تَزُورُوا هَذَا الْبَيْتَ زَوْرَتَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَسَّعَ فِي الْخَيْرِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِبَطْنِ الْوَادِي يَعْلِفُ بَعِيرًا لَهُ، قَالَ: فَبَلَغَهُ الَّذِي قَالَ عُثْمَانُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: «أَعَمَدْتَ إِلَى سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُخْصَةٍ رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى بِهَا لِلْعِبَادِ فِي كِتَابِهِ، تُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَتَنْهَى عَنْهَا، وَقَدْ كَانَتْ لِذِي الْحَاجَةِ وَلِنَائِي الدَّارِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا». فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: « وَهَلْ نَهَيْتُ عَنْهَا؟ إِنِّي لَمْ أَنْهَ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ رَأْيًا أَشَرْتُ بِهِ، فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ»[76].

ورووا عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «‌لَوْ ‌كَانَ ‌الدِّينُ ‌بِالرَّأْيِ، كَانَ بَاطِنُ الْقَدَمَيْنِ أَوْلَى وَأَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرَهُمَا»[77]، والحديث واضح الدلالة بأن أحكام الدين لا تصاب بالرأي.

3- الأدلة العقليّة على عدم اجتهاد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)
الدليل الأوّل: طبيعة الاجتهاد وخصائصه تتنافى مع الرسالة وخصائصها
إنَّ من تأمَّل حقيقة الاجتهاد يطمئن بأنّه أمرٌ لا يليق بمقام الرسالة؛ لأنَّ الاجتهاد يحتاج إلى تعلُّمٍ حتى تحصيل الملكة، وإلى تأمُّلٍ في المسائل، وتقليب وجوه الآراء للوصول إلى رأي، ومن خصائصه أنه يتبدَّل من حين لآخر، ويصيب ويخطأ، وكل ذلك لا يتلاءم مع مقام النبوة والرسالة، فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يتعلَّم عند أحد، ولا يتأمَّل في المسائل ويقلِّب فيها وجوه الرأي بل يجيب مباشرةً عندما يسأل، ولا يتبدَّل رأيه بين حينٍ وآخر، ولا يُخطئ أبدًا.

الدليل الثاني: إنّ الاجتهاد لا يكون إلّا عن جهلٍ بالحكم الشرعي
إنَّ نسبة الاجتهاد الى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مستبطنةٌ لنسبة الجهل بالحكم الشرعي إليه؛ وذلك لأنَّ الاجتهاد إنّما يكون مع عدم العلم بالحكم الشرعي والجهل به، ولا يصحّ الالتزام بجهل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأحكام الشريعة؛ لأنّه نقضٌ للغرض من بعثته ورسالته وهي هداية الناس وبيان الدين، ولقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)[78]، وقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)[79]، ممّا يدلّ على أنّ أصول كلّ شيءٍ مّما يحتاجه الناس في الكتاب، وأنّ المُبيِّن للكتاب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبيانه فرع علمه بتفاصيل كلّ شيء، وهاتان الآيتان تدلّان على أنَّ القرآن مشتملٌ على أصول كلّ ما يحتاجه إليه البشر في سيرهم التكاملي لتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية، وفيه الأسس التي تسوق النوع الإنساني إلى الكمال اللائق به، قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، وهذا يدلّ دلالةً واضحةً على أنَّ أسس وركائز العقائد وجميع الأصول العملية التي يحتاجها البشر موجودةٌ في القرآن، والحقائق الموجودة في القرآن وجودها على نحوين: الأوّل الحقائق التي يتحدّث عنها القرآن بشكلٍ مفصِّلٍ ظاهرٍ لكلّ عالمٍ بالعربية، والثاني الحقائق التي يشير إليها القرآن بشكلٍ مجمَل وهي على نحوين: منها ما يتمّ الوصول إليه من خلال التدبٌّر في القرآن، ومنها ما يحتاج إلى المعصوم العالم بالكتاب لاستخراجها واستنباطها، والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، عالمٌ بجميع ما اشتمل عليه القرآن إنْ كان على صعيد المجملات أو التفاصيل، وذلك من خلال التعليم الإلهي، وما أُجمِل في القرآن فصّله النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، في سنّته، ويدلّ على علمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بجميع ما اشتمل عليه القرآن أنّ الغاية من إرساله بيان الدين والشرع الإلهي قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).

إذا علم ما تقدَّم فدعوى اجتهاد النبيّ فيما لا نصّ فيه يعني خلو القرآن من الحكم على صعيد تفاصيله ومجملاته وهو يتعارض تمام المعارضة مع هذه الحقيقة القرآنيّة القاضية بأنّ القرآن تبيانٌ لكلّ شيء.

الدليل الثالث: الاجتهاد يعني الظنّ بالحكم والظنّ ينافي مقام النبوّة
إنَّ غاية ما يفيده الاجتهاد الظنّ بالحكم الشرعي الواقعي واحتماله احتمالًا راجحًا دون العلم والقطع به، ولا معنى لأنْ يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ظانًّا بأحكام الشرع؛ لأنّ من يقول إنّي أظن أنّ حكم المسألة هو هذا ليس نبيًّا ولا رسولًا، وإنْ قيل كما عن الجويني[80] إنَّ ظنّه لمّا كان أمارةً نصبها الله إلينا فنقطع بموجبها، فالجواب: أنَّه وإنْ كنّا نقطع بحجية الأمارات الظنيّة المنصوبة من الله تعالى بمعنى أنا نقطع بحجيّتها كطريق يجوز سلوكه، وإن كانت في نفسها لا تفيد إلا الظنّ، ولكن هذا لا ينفع في الجواب؛ لأنَّ محل النقض أنّه غير لائقٍ بأوصاف النبيّ أنْ يكون ظانًّا في أحكام الشرع، فقطعنا بأنّ ظنّه حجّةٌ علينا لا يفيد في جواب النقض كما هو ظاهر.

وأمّا ما يقال من إمكان أنْ يجتهد النبيّ، ويصل إلى اليقين من غير وحي أو إلهامٍ، بل من خلال ممارسة عمليّة تأمُّلٍ ذاتيّةٍ تفضي إلى اليقين، فهو قولٌ في غير محلّه؛ لأنَّ غالب علماء الجمهور يعنون باجتهاد النبيّ قياس الفرع على الأصل استنادًا إلى الظنّ أو القطع بعلة الحكم، فاجتهاد النبيّ لديهم يشمل ما كان من قبيل الظنّ بالعلة كما هو واضح في كلماتهم، والإشكال منصبٌّ على مقولتهم وما قصدوه من مقولة الاجتهاد التي نسبوها للنبيّ، فإن كان المراد بإمكان الاجتهاد النبيّ والوصول الى اليقين علم النبي بعلة الحكم علمًا قطعيًا وتسرية حكم الأصل إلى الفرع بواسطتها، فقد بيّنا أنّ الحكم استنادًا إلى العلة المنصوصة أم المستنبطة ليست من الاجتهاد في شيء. وإنْ كان المراد من الاجتهاد اليقيني عملية تأمّلٍ ذاتيّةٍ يقوم بها النبيّ خارج دائرة العلم بعلل الأحكام ليصل إلى القطع بالحكم الشرعي دون الاستناد إلى وحي أو إلهام، فهذا الكلام مجرّد تنظيرٍ وافتراضٍ بعيدٍ عن الواقع الموضوعي للنبيّ وكونه محاطًا بالعناية الإلهيّة والتسديد والعصمة الدائمة، ولكن إنْ جارينا هذه الفرضية التنظيريّة وحلّلنا طبيعتها سنجد أنّها باطلةٌ؛ لأنّ لنا أنْ نسأل: إنّ حصول اليقين الدائم في جميع ما يجتهد فيه من أين أتى؟ لأنّ العقل يقضي بأنّ الوصول إلى اليقين في الأحكام والإصابة الدائمة وعدم الخطأ لا يحصل إلّا من خلال الانطلاق من منابع ومواد علمية تفيد في الوصول إلى اليقين، وإذا أردنا تعداد ما يمكن أنْ يكون قد استند إليه النبيّ في اجتهاده وتأمّله الذاتي ممّا هو متاحٌ له في زمانه فتلوح لنا الاحتمالات الآتية: المحيط الثقافي الذي كان يعيش فيه، أو مشورة أصحابه، أو التعلّم عند الحكماء والفلاسفة، أو ممارسة عملية تأمّلٍ ذاتيّةٍ من دون الاستناد إلى شيء ممّا مر.

وذلك كلّه لا يمكن أنْ يكون في ذاته موصلًا إلى اليقين والصواب الدائم؛ أمّا المحيط الثقافي فهو محيطٌ جاهليّ ومن الواضح أنّه لا يوصل إلى اليقين في الأحكام، وأمّا مشورة أصحابه فلا توصل إلى ذلك؛ لأنَّهم فاقدون لهذا اليقين فلا يمكن أن يعطوه، وأمّا الفرض الثالث فهو (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يتعلَّم عند أحد، وأمّا عمليَّة التأمُّل الذاتيَّة فهي لابدّ أنْ تستند إلى معلوماتٍ حاصلةٍ تكون مادّةً للتأمُّل، والمادّة لابدّ أنْ ترجع الى إحدى الفرضيات الثلاث المتقدّمة ثم بعدها يأتي دور التأمّل الذاتي في المواد، ولمّا كانت المواد غير يقينيةٍ فلا يمكن من خلال التأمّل فيها الوصول إلى نتيجة يقينية، وهذا يدلّ على أنَّ الوصول إلى اليقين الدائم في الأحكام لا يمكن أنْ يكون إلّا عبر قناة الوحي والعلم اللدنّي.

نعم الممكن في حقّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو التأمُّل الذاتّي المستند إلى التعليم الإلهي بعد إفاضة مواد العلم اليقينيّة ثم اختيار الرأي استنادًا إلى الرؤية الإلهيّة (بما أراك الله) وهذا لا ننفيه ولكنّه ليس من مقولة الاجتهاد بالرأي المستقلّ عن الاتصال بالله تعالى وتعليمه.

الدليل الرابع: الاجتهاد محتملٌ للخطأ ويرفع الوثوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إنَّ دعوى اجتهاد النبيّ في الأحكام يعني أنَّ لديه ظنًّا بها، والظنّ محتملٌ للخلاف وعدم إصابة الواقع، وإنْ اُحتمل مخالفة أحكام النبيّ لأحكام الله تعالى ارتفع الوثوق به؛ لأنَّه في كلّ موردٍ يأمر أو ينهى يُحتمل أنّه قد اجتهد فأخطأ فتزول الثقة بقوله ويسقط محلّه من القلوب.

إنْ قيل: هذا يرد إنْ كان يجوز الخطأ في اجتهاده ولكنّنا لا نقول بذلك بل بمطابقة اجتهاده للواقع دائمًا.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ المطابقة الدائمة وعدم الخطأ لا تجتمع مع حقيقة الظنّ، فدعوى أنّه مجتهدٌ يعني أنّه ظانٌّ، ودعوى أنّه ظانٌّ ولا يخطئ أبدًا مستبطنةٌ لتناقضٍ منطقي، لأنّ طبيعة الظنّ تجامع الخطأ، فإنْ لم يجتمع معه أبدًا لم يكن ظنًّا واجتهادًا وإنْ سمّيتموه بذلك، وإنْ قيل: إنّ اجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، ظنٌّ يحتمل الخلاف ولكنّه ظنٌّ مطابق للواقع دائما وليس من شرط الظن ان لا يطابق الواقع بل شرطه ان يُحتمل ان لا يطابق، فالجواب: إنّ مطابقة الاجتهاد الظنّي للواقع دائمًا من أين جاءت؟ هل من حيثية كونه ظنًّا أم من أمرٍ آخر؟ فإنْ قلتم اجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، مطابق للواقع دائمًا من حيثية كونه ظنًّا. فالظنّ بما هو ظنّ لا يقتضي المطابقة الدائمة للواقع، وإنْ قلتم إنّما طابق ظنّه الواقع دائما لأنّه معصوم. فحينئذٍ يكون كلامكم قد ناقض بعضه بعضًا؛ لأنّ قولكم إنّ اجتهاد النبيّ مطابقٌ للواقع دائمًا لأنّه معصوم، يعني أنّ العصمة هي سبب المطابقة، وليست العصمة إلّا نحوًا من التأييد العلمي وانكشاف الواقع له (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيعود ذلك الى ضربٍ من الايحاء، وهذا يناقض الاجتهاد الذي تزعمونه؛ لأنّه ضربٌ من القياس والقول بالرأي المستقل عن التعليم الرباني، بينما العصمة لا تخرج عن كونها نحوًا من الايحاء العلمي الرباني الذي يقي المعصوم من الوقوع في الخطأ أو الوهم أو ما شابه ذلك، فالقول بأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، يجتهد برأيه المستقل في بعض الأحكام وعصمته في اجتهاده جمع بين الضدين، وهو في قوة أنْ يقال هو (صلى الله عليه وآله وسلم) يجتهد برأيه مستقلًا عن الإيحاء والتعليم الرباني وفي الوقت نفسه يسدَّد من خلال الإيحاء والتعليم الرباني! وهل هذا إلّا تناقضٌ واضح، وكأن القائل بذلك يتوهَّم أنّ العصمة شيءٌ قهريٌّ يسوقه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى الصواب من دون أنْ يشعر بذلك، فهو يجتهد برأيه مستقلًا عن الوحي ولكن العصمة تجعل رأيه المستقل صوابًا ومطابقًا من دون شعوره بذلك، وهذا خطلٌ من القول وزللٌ كبير.
والثاني: على فرض أنَّ ظنّه يطابق الواقع دائمًا ولكن هذا لا يدفع ارتفاع الوثوق به؛ لأنَّ المكلَّف إنْ علم أنَّ أحكام نبيَّه ظنيّةٌ زال وثوقه به وكونه هاديًا إلى الله تعالى، فالمشكلة لا تنحصر في إمكان عدم مطابقة حكمه للواقع حتى يُجاب بأنَّ حكمه مطابقٌ دائمًا، بل المشكلة في أنْ يسلك النبيّ الطريق الظنّي؛ لأنَّ من يسلك مثل هذه الطرق لا يُعدّ عند العقلاء هاديًا وترتفع الثقة به.

وأمّا ما يقال من أنّه لا تلازم بين إمكان خطأ الاجتهاد النبويّ وبين سقوط اعتبار البعثة النبويّة والوثوق بها؛ لإنَّ العرف العقلائي يرجع إلى أهل الخبرة ويثق بقولهم مع علمه بإمكان خطئهم، والعلم بإمكان خطأ أهل الخبر لم يرفع الوثوق بهم، فكما أمكن الجمع هناك يمكن الجمع بين إمكان الخطأ النبويّ والوثوق بقوله وحصول الاطمئنان للناس بذلك. فهو قولٌ في غير محلّه؛ لأنّ السيرة العقلائيّة بين البشر قائمةٌ على التمييز بين الأمور بحسب خطورتها؛ فمن الأمور ما يكتفون فيها بالظنّ ولا يبالون باحتمال الخطأ فيها ولا يرتفع وثوقهم مع وجوده، ومن الأمور ما لا يكتفون فيها بالظنّ ويعتدون باحتمال الخطأ ويرتفع وثوقهم مع احتمال الخطأ؛ ولذلك يتريّثون حتى يحصل لهم الوثوق و الوصول إلى حد الاطمئنان وعدم احتمال الخطأ، ففي مثل المرض العادي كالزكام فإنّ العقلاء يرجعون إلى طبيبٍ واحدٍ فيأخذون بقوله وإنْ كان محتملًا للخطأ فإنّهم لا يعتنون بهذا الاحتمال ويبنون على قول الطبيب، وأمّا لو كان المرض خطيرًا ويحتمل في حال الخطأ الموت فإنّهم والحال كذلك لا يكتفون بقول طبيبٍ واحدٍ، بل ربّما استشاروا أكثر من طبيبٍ طلبًا لحصول الاطمئنان أو القطع؛ وذلك لأنَّ احتمال الخطأ في الأول يترتب عليه ضررٌ غير معتدٍّ به؛ فلذا لا يبالون بهذا الاحتمال. وأمّا احتمال الخطأ في الثاني لمّا كان يترتّب عليه ضررٌ معتدٌّ به لذلك فإنّ العقلاء يبالون بأدنى احتمالٍ ويسعون للوصول إلى حدٍّ لا يُحتمل معه الخطأ عادةً.

وفيما ما نحن فإنّ مقام النبوّة والرسالة أعظم المناصب، والخطأ في مثل هذا المقام ضرره عظيمٌ معتدٌّ به، والعقلاء لا يغضّون الطرف عن الخطأ في مثل هذه الدائرة نظير عدم غضّ الطرف فيما يحتمل معه الموت؛ ولذلك فإنَّ ورود الخطأ من النبيّ ممّا يرفع الوثوق به بالكليّة، ولا يميّز العقلاء بين الملفات والمحاور في حقّ من تقلَّد منصب النبوّة؛ لأنّهم يرون أنّ النبيّ إنْ كان يُخطئ في الأمور العادية الدنيويّة ممّا يمكن أنْ تهتدي إليها العقول فخطؤه أولى في الأمور الغيبيّة التشريعية ممّا لا يمكن أنْ تهتدي إليها العقول، فدعوى التمييز بين الملفات في مثل ذلك دعوى باطلة جزمًا، ولا يقاس على ذلك رجوع الناس إلى أهل الخبرة وعدم ارتفاع وثوقهم بهم مع إمكان خطئهم؛ لأنَّ العقلاء يرون أنّ خطأ الطبيب في أموره العادية لا يسري إلى مجال خبرته لوضوح عدم الارتباط بينها، وعدم أولوية علمه بالأمور العادية عند علمه بمجال خبرته، بخلاف النبيّ فإنّهم يرون أنّ خطأه في الأمور العادية يقضي بالضرورة إمكان الخطأ في أموره الوحيانيّة.

لنضرب مثالًا حتى يتضح الفرق إذا وجد العقلاء أنّ النبي يُخطئ في أمرٍ من الأمور الدنيويّة كأنْ يأمرهم بعدم تأبير النخل فيُخطئ ويؤدّي ذلك إلى فساد محصولهم الزراعي، كما هو وارد في روايات الجمهور، ففي هذه الحال سيُحدّث كلُّ عاقلٍ نفسَه قائلًا: إنَّ هذا النبيّ يأتينا بأخبار السماء، ويحدّثنا عن الله تعالى وصفاته والملائكة، وعن الجنة والنار ممّا هو غائبٌ عنا، ونحن نصدّقه بكلّ ذلك، وإذا به يُخطئ في مسألةٍ عادية يقدر العقل على الاهتداء إليها بقليلٍ من المعرفة. ففي هذه الحال سيزول الوثوق بأقواله بالكليّة لما يدركونه من أولوية معرفة الأمور الدنيويّة العاديّة للعارف بالأمور الغيبيّة التي لا يمكن للعقول أنْ تهتدي إليها بخلاف أقوال الطبيب في مجال خبرته فإنّه لا ارتباط بين أقواله في مجال خبرته وبين أقواله في أموره العاديّة، ولا يدرك العقلاء أيّ ارتباطٍ وأولويّةٍ للعلم بالسنخ الثاني عند العلم بالسنخ الأول منهما.
الدليل الخامس: صدور الأحكام انطلاقًا من الاجتهاد الظنّي يعني تأسيس الإسلام على غير الرؤية الإلهيّة

إنَّ دعوى اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، في الأحكام الشرعيّة أو في أمور الحرب وما شابهها يعني أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظِّم أمور المجتمع الإسلامي في مختلف جوانبه التشريعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيما اجتهد فيه برأيه على غير الرؤية الإلهيّة، فيكون الفرق بين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات أنّه تأسَّس بمختلف نواحيه عن رأيٍ رآه نبيُّ الإسلام أمّا المجتمعات غير الإسلامية فقد تأسست عن آراء منظّريها، ليضحي الفرق في ذلك إنّما هو في الرأي والظنّ الذي يقابله رأيٌ وظنٌّ آخر، بينما الحقيقة أنَّ المجتمع الإسلامي الذي أسَّسه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنّما أسَّسه في جميع أبعاده على الرؤية الإلهيّة والتعليم الرباني لسوق المجتمع نحو الكمال، وهذا لا يكون بالظنون الاجتهاديّة والقياسات والآراء وإنّما يتحقَّق بالعلم اليقيني المستمدّ من التعليم الإلهي.

كما أنَّ الفصل بين التشريع والتدبير وتوهُّم صحّة جريان الرأي الظنّي والقياس الاجتهادي في الثاني دون الأول وهمٌ أيضًا؛ لأنَّ الدين الإسلامي جاء ليسوق الإنسان نحو الكمال في جميع أبعاد الحياة من عبادات ومعاملات واجتماع واقتصاد وغير ذلك، وتحقُّق هذا الأمر لا يكون إلا عبر سببٍ متصّلٍ بين الأرض والسماء يكون هاديًا إلى الله تعالى في جميع ما يوصله إلى الناس صادرًا عن يقين وتعليم رباني في جميع بياناته وتعليماته في مختلف المجالات، فدعوى اجتهاد النبي في الحقيقة تُحوّل النبوّة والرسالة إلى تجربةٍ بشريّةٍ قائمةٍ على الاجتهاد الظنّي القابل للخطأ والصواب فتفقد الرسالة الخاتمة قيمتها الواقعيّة، وتنحطُّ عن منزلتها السماويّة إلى تجربةٍ أرضيّة، وهذا خلاف المقطوع به من سماويّة الشريعة الخاتمة.
وأمّا ما يقال بأنّه لو كان مجرّد الاجتهاد يفقد النتائج قيمتها لكانت فتاوى الفقهاء التي بأيدينا بلا قيمة؛ لأنّها مستندةٌ الى اجتهاداتٍ قابلةٍ للخطأ والتبديل، فهو كلامٌ في غير محلّه؛ لأنّ النتائج التي يصل إليها الفقهاء من خلال عملية الاجتهاد لا تعبِّر عن الدين الإلهي وليست أحكامًا إلهيّة، بل هي محاولات للوصول إلى الحكم الشرعي الواقعي وقد تصيبه وقد تخطئه، ففتاوى المجتهدين لا تكشف عن حقيقة الشرع الإلهي كيف ذلك واجتهاداتهم متخالفة متضادة، بل كثيرًا ما تكون اجتهاداتهم ليست من قبيل الأحكام الشرعيَّة بل عبارة عن بيان الوظيفة العمليَّة عند الجهل بالحكم الشرعي، أمّا أحكام النبيّ فهي عين أحكام الله وعين الرسالة الخاتمة؛ ولذا لا يجوز للمجتهد أنْ يقول: هذا حكم الله، بل هذا ما أدّى إليه اجتهادي. أمّا النبيّ فيقول هذا حكم الله، فلا تصح المقارنة بين أحكام النبيّ وأحكام المجتهدين من هذه الجهة؛ ولذلك كانت دعوى الاجتهاد في حقّ النبيّ تقضي بتحويل الدين السماوي إلى قراءةٍ بشريّةٍ تصيب تارةً وتُخطئ أخرى وتفقده قيمته الواقعية، بينما لا يرد هذا المحذور في حقّ الفقهاء؛ لأنّ أقوالهم لا تمثّل الأحكام الواقعيّة ولا تحكي واقع الشريعة الخاتمة، ولا تفقد أقوالهم وفتاويهم قيمتها بدعوى أنّها اجتهاداتٌ بشريّةٌ؛ لأنَّ هذه هي المنزلة الواقعية للاجتهادات الفقهيّة بخلاف المنزلة الواقعيّة للسُنّة والأحكام النبويّة فإنّ دعوى الاجتهاد فيها تجعلها تجربةً بشريّةً وتفقدها منزلتها وقيمتها، ومن هنا يتبيّن بطلان ما أورده هذا الباحث في المقارنة التي ذكرها.

الدليل السادس: صوابيّة جميع تدبيرات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة الإمامة في جميع ما يتّصل بنظم أمر الدولة الإسلاميّة والمجتمع، يدلّ على صدور أقواله عن تعليمٍ إلهيّ، وليس عن الاجتهاد بالرأي

ما يدلّ على بطلان دعوى صدور الرأي والاجتهاد من النبيّ في أوامره التدبيريّة الصادرة من جهة الإمامة كما في الحروب وغيرها أنَّ النبي بعث في سن الأربعين ولم يكن قد خاض الحروب ليكتسب خبرةً عسكريّةً فيها، ولكنّا وجدناه عارفًا وعلى درايةٍ تامةٍ بإدارتها كما يظهر من كتب التاريخ والسِيَر، كما أنَّه لم يكن وزيرًا للملوك أو مستشارًا لديهم لتكون لديه خبرةٌ في إدارة الدول والحكومات، ولكنّا وجدناه عارفًا وعلى درايةٍ تامةٍ في كيفيّة إدارة الدولة الإسلامية، وهذا يدلّ دلالةً واضحةً على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ينطلق في أقواله وأفعاله في الأوامر التدبيريَّة الصادرة من جهة الإمامة من خلال التعاليم الإلهيَّة والوحي التسديدي؛ لأنّ الاستناد إلى الرأي المستقلّ عن الوحي أو الإلهام لا يمكن أنْ يقع صوابًا وعلى وفق المصلحة في جميع ما يتَّصل بأمور إدارة الدولة على مختلف النواحي الاجتماعيّة والحربيّة والثقافيّة وغير ذلك.

وممّا يشهد لذلك أنّ المجتمع البشري يتخبَّط في تحديد النظام الأصلح لكيفيّة نظم وإدارة الدول ووضع السياسات المناسبة في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وتتعدَّد النظريّات والفلسفات في هذا المجال بين رأسماليّة وشيوعيّة وغيرها من الأنظمة، والحالة المزرية التي وصلت إليها البشريّة ومجتمعاتها أوضح دليلٍ على عدم صوابيّة هذه النظم سواء من الناحية الاجتماعية أم الاقتصادية، هذا مع أنّ هذه الأنظمة إنّما نشأت من عقول عشرات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد، ولكن البشريَّة ما زالت في صراع الأنظمة والتيّارات المختلفة، ولم تهتدي إلى النظام الأصلح لها، وهذا يدلّ دلالةً واضحةً على أنّ الاجتهادات والآراء الحدسيّة الظنيّة لا يمكن أنْ توصل البشريّة إلى الأصلح لها في كلّ ما يتّصل بأمور الدولة والمجتمع، بل لابدّ من وجود سببٍ متصلٍ بين الأرض والسماء يأخذ عن الله تعالى ما هو الأصلح للحياة البشريّة؛ فلذلك كانت دعوى اجتهاد النبيّ بالرأي المستقلّ عن التعليم الإلهي فيما يخصّ أمور الإمامة ونظم المجتمع وإدارة الحروب والسياسات واضحة الفساد.

الدليل السابع: انفتاح باب الوحي بأنواعه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبطل دعوى اجتهاده بالرأي.
إنَّ الاجتهاد إنّما يكون عند العجز عن الوصول إلى لوح التشريع، وبذلك يتبيّن أنَّه لا معنى للقول باجتهاد النبي؛ لأنَّ باب العلم بجميع الأحكام الشرعيّة وتلقيها من خلال الوحي مفتوحٌ له (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقادر على العلم عبر قناة الوحي يقبح منه العدول عنه إلى الظنّ، نظير القادر على العلم بجهة القبلة فإنّه لا يجوز له الظنّ بها، فالاجتهاد إنّما يكون عند انسداد باب العلم، وهذا لا يمكن في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذلك.
إنْ قيل هذا الدليل يفترض معاينة النبي للوحي على الدوام، وعلماء الجمهور لا يسلّمون بذلك، بل الثابت لديهم أنّ الوحي قد ينقطع، وفي هذه الحال يجوّزون الاجتهاد.

فالجواب: أنَّ الوحي على أنواع: منه الوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى نبيّه بغير وساطةٍ وترجمان، وهذا الصنف من الوحي الذي كان يسبِّب الغشية أو السبتة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنه الوحي بوساطة جبرائيل (عليه السلام) لتنزيل القرآن ورسالات الله قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[81]، ومنه الوحي الذي يكون مع الأنبياء للتسديد والعصمة وهو المُعبّر عنه في القرآن بالروح من أمره قال تعالى:(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[82]، فالتشريع من الله تعالى ولكن وسائله متعدِّدة فمنه ما يأتي به الروح القدس من نصٍّ قرآني أو رسالةٍ من الله وهذا هو الوحي التشريعي، ومنه إلهامٌ وتعليمٌ رباني ينزل على قلب النبيّ وهذا هو الوحي الإلهامي، ومنه تسديدٌ علميٌّ عبر الروح من الأمر وهذا هو الوحي التسديدي.

إذا علم ما تقدَّم تبيّن أنّ انقطاع الوحي التشريعي ممكن، أمّا الوحي بمفهومه العام الشامل للإلهام والعلم اللدني والتسديد والعصمة فلا ينقطع، فالوحي ليس ضربًا وسنخًا واحدًا حتى يتوهَّم أنّه إذا انقطع نزول جبرائيل بالوحي التشريعي فقد انقطع الاتصال بين النبي وربّه، بل الاتصال دائم من خلال الوحي الإلهامي والوحي التسديدي.

الشواهد والمؤيّدات على عدم اجتهاد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
الشاهد الأول: النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤدَّبٌ من الله تعالى ومشمولٌ بالرعاية منه منذ أن كان طفلًا
يظهر من أحاديث السيرة النبويّة التي تصل إلى حدّ التواتر المعنوي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان منذ صغره مشمولًا بالرعاية الإلهيّة، ومحاطًا بالعناية الربانية، وأنَّ تربيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ربانيةٌ وليست بشريّة، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَدَّبَنِي ربي فأَحْسَنَ تَأْدِيبِي»[83] ، وجاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في وصف النبي صلى الله عليه وآله: «ولقد قَرَنَ اللهُ به (صلى الله عليه وآله وسلم)، من لَدُن أنْ كانَ فَطيمًا أعظمَ مَلَكٍ من ملائكتِه يسلُكُ به طريقَ المكارمِ، ومحاسنَ أخلاقِ العالَمِ ليلَه ونهارَه»[84]، ممّا يدلّ على أنَّه لا ينبغي الريب في أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ينفصل في جميع أقواله وبياناته وتعاليمه عن العلم اللدني والإيحاء الرباني؛ لأنَّ رأي الإنسان وليد عقله، وعقله وليد التربية، ولمّا كانت تربيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ربانيّةً، فلا يتصوَّر الانفكاك بين رأيه والتعاليم الربانية، بمعنى أنّ دعوى صدور الرأي المستقل منه تتنافى مع حقيقة شخصيّته ورأيه وفكره المنصهر بالتعاليم الإلهيّة.

الشاهد الثاني: سيرة الجيل الأول من المسلمين وانقيادهم المطلق للنبيّ دون استفصال يدلّ على عدم اجتهاده بالرأي
سيرة الجيل الأول من المسلمين مع النبيّ وانقيادهم التام له، والتأسي به في كلّ شيء دون الاستفصال بأنّ ما يأمر به من الله تعالى أم اجتهادٌ ورأيٌّ منه يدلّ على وجود ثقافةٍ عامةٍ لديهم بأنّ كلّ ما ينطق به النبي إنّما هو من الله تعالى بوحي أو إلهامٍ وتعليمٍ إلهي. فإنْ قيل كيف ذلك والحبّاب بن المنذر يوم بدر قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبِوَحْيٍ فَعَلْتَ أَوْ بِرَأْيٍ»[85]، وسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قالا يوم الخندق: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌أَمْرٌ ‌تُحِبُّهُ ‌فَنَصْنَعَهُ، أَمْ شَيْءٌ أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، لا بُدَّ لَنَا مِنْ عَمَلٍ بِهِ، أَمْ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ لَنَا»[86]، ممّا يدل على أنَّ المسلمين كان يميّزون بين ما يصدر من النبيّ عن وحي، وما يصدر منه عن رأيٍ واجتهاد.

فالجواب: إنَّ المسلمين مع اعتقادهم بأنّ كلّ ما يصدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أقوالٍ وأحكامٍ وآراء لا بدّ أن يرجع إلى الله، إما وحيًا أو إلهامًا، كانوا على علمٍ بأنّ ما يصدر عبر قناة الوحي التشريعي لا مشورة فيه، أما ما يصدر عن غير ذلك فلهم المشورة وإبداء الرأي فيه، فالاستفصال الوارد في مثل هذه الأحاديث إنّما هو لطلب التمييز بأنَّ ما أمر به النبيّ هل هو من قبيل ما تجوز المشورة فيه أو ممّا لا تجوز فيه، وليست جهة البيان في هذه الأحاديث منصبّة على أنّ أوامر النبيّ منها ما هو عن الله ومنها ما هو عن رأي واجتهاد ظنّي من النبيّ مستقلًا عن التعليم الإلهي.

ولو كان لدى المسلمين ثقافة عامة بأنَّ ما يصدر من النبي بعضه من الله وبعضه باجتهادٍ ورأيٍ ظنّي منه مستقلٍّ عن التعليم الإلهي والإلهام لكثر الاستفصال منهم، وطفحت به كتب الحديث والسير، والحال أنَّ ما ورد إنّما ورد في أخبار تُعَدّ على أصابع اليد، فضلًا عن ضعف أكثرها وإرسالها واضطرابها وتعدُّد صيغها ممّا يسقط إمكان الاحتجاج بها، فمن الغريب توهُّم وجود ثقافةٍ لدى المسلمين استنادًا الى خبرين مقابل ما هو مشهور معلوم من الانقياد التام للنبيّ والتأسي به من دون وجود الاستفصال في أقواله وبياناته وإنّ منها ما هو من الله ومنها ما هو عن رأي واجتهاد.

الشاهد الثالث: لو صدر من النبيّ أحكامٌ تشريعيّةٌ عن رأيٍ واجتهادٍ لبلغنا ذلك
لو كانت الأحكام الشرعيّة التي بلّغها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قسمًا منها من الله تعالى وقسمًا منها باجتهاده لبيّن ذلك لأمّته، ونُقل إلينا بالتواتر أو الاستفاضة، والحال أنّه لم ينقل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: إنّي أحكم في دين الله تعالى في بعض المسائل برأيي واجتهادي، وإنْ قيل كما عن الجويني[87]: لا يجب في كلّ ما يصدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن ينقل بالتواتر أو الاستفاضة فقد ينقل بطريق الآحاد وقد لا ينقل، فالجواب: أنَّه وإنْ لم يُشترَط في كلّ ما يؤثَر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)،أن يُنقل بطريق التواتر أو الاستفاضة، ولكن مثل هذا الأمر لو كان لبان، وتواتر نقله، أو استفاض؛ لخصوصيّةٍ فيه وهو كونه من الأمور الخطيرة، وما يجوز وقوعه وعدم وصوله ليس من هذا القسم وإنّما هو في غير المسائل الخطيرة.

تاسعًا: الفرق بين دعوى الجمهور باجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين ما ورد في روايات الإماميّة من تفويض أمور الدين إليه
يظهر من جملةٍ من الروايات أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد فوّض اللهُ إليه الحكمَ في أمور الدين، وهذه الروايات مستفيضةٌ واردةٌ من طرق الإماميّة وفي مصادرهم المعتبرة، فقد أورد الصفار – رحمه الله - في بصائر الدرجات تسعة عشر حديثًا في باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأورد الكليني – رحمه الله - في الكافي في كتاب الحجة في باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى الأئمة(عليهم السلام) في أمر الدين عشر روايات وفيها الصحيح، نكتفي بذكر روايةٍ واحدةٍ منها:

الكافي: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحَابِ قَيْسٍ الْمَاصِرِ: « إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَدَّبَ نَبِيَّهُ، فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُ الْأَدَبَ، قَالَ: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[88]، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدِّينِ وَالْأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[89]، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كَانَ مُسَدَّدًا مُوَفَّقًا، مُؤَيَّدًا بِرُوحِ الْقُدُسِ، لَا يَزِلُّ وَلَا يُخْطِئُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِهِ الْخَلْقَ، فَتَأَدَّبَ بِآدَابِ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، فَأَضَافَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَإِلَى الْمَغْرِبِ رَكْعَةً، فَصَارَتْ عَدِيلَ الْفَرِيضَةِ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُنَّ إِلَّا فِي السَّفَرِ، وَأَفْرَدَ الرَّكْعَةَ فِي الْمَغْرِبِ فَتَرَكَهَا قَائِمَةً فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَأَجَازَ اللَّهُ لَهُ ذلِكَ كُلَّهُ، فَصَارَتِ الْفَرِيضَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، النَّوَافِلَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ، فَأَجَازَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ ذلِكَ، وَالْفَرِيضَةُ وَالنَّافِلَةُ إِحْدى وَخَمْسُونَ رَكْعَةً، مِنْهَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ جَالِسًا تُعَدَّانِ بِرَكْعَةٍ مَكَانَ الْوَتْرِ. وَفَرَضَ اللَّهُ فِي السَّنَةِ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، صَوْمَ شَعْبَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ، فَأَجَازَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ ذلِكَ. وَحَرَّمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا، وَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، الْمُسْكِرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، فَأَجَازَ اللَّهُ لَهُ ذلِكَ...الخبر»[90].
وهنا قد يتبادر إلى الأذهان التساؤل التالي: وهو أنّه لا فرق بين دعوى الجمهور باجتهاد النبيّ فيما لا نصّ فيه، وما ورد من طرق الإماميّة من تفويض أمر الدين إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وذلك لأنَّ مؤدَّى القولين ونتيجتهما واحدةٌ وهو أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، يحكم في الدين برأيه من دون الاستناد إلى الوحي.

وفي جواب هذا التساؤل نقول: إنَّ التفويض إلى النبيّ الوارد في روايات الإماميّة ليس المراد به اجتهاد رسول الله في الأحكام الشرعيّة والمسائل الدينيّة بالقياس والظنون الاجتهاديّة كما يزعم أكثر علماء الجمهور، بل المراد به أنّ الله تعالى أعطى لنبيّه أنْ يحكم في الشرع استنادًا إلى العلم اللدنّي، ويشهد لهذا المعنى ما جاء في صدر جملةٍ من أخبار التفويض، ففي بعض الأخبار: «إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَدَّبَ نَبِيَّهُ، فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُ الْأَدَبَ، قَالَ: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدِّينِ»، وفي بعضها: «إنّ الله أدب نبيّه على أدبه فلمّا انتهى به إلى ما أراد قال له: (إنّك لعلى خلق عظيم) ففوض إليه دينه»، وفي بعضها: «إنّ الله خلق محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم)، طاهرًا ثم أدّبه حتى قوّمه على ما أراد ثم فوّض إليه الامر».
وهذه المقدّمة الواردة في جلّ أخبار التفويض تدلّ دلالةً واضحةً على أنّ الله تعالى بعد أنْ أدّب نبيّه وآتاه من العلم اللدنّي ما بلغ به مراده فوّض إليه بعد ذلك أمور دينه، فالأحكام الصادرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، مستندةٌ إلى ذلك التأديب الرباني والتعليم الإلهي وليست مستندةً إلى القياس والرأي والظنون الاجتهاديّة، فليس معنى التفويض أن يُحِلّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحرِّم برأيه من غير وحي وإلهام، بل هو (صلى الله عليه وآله وسلم)، إمّا محض مبلِّغ للتشريعي الإلهي من خلال الوحي وإمّا مشرِّعٌ بمقتضى العلم اللدنّي الموهوب من الله تعالى، فلا بدّ أنْ يستند التشريع إمّا إلى الوحي وإمّا العلم اللدني والإلهام، وبعبارةٍ أخرى التفويض هو الحكم بعلمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلمه من العلم القطعي اليقيني الخارج عن القياس والرأي والظنون الاجتهاديّة، والمستند إلى العلم اللدنّي الإلهي.

فما سَبَقَ أنْ نبّهنا على بطلانه هو القول بامتلاك النبيّ حق التشريع في عرض التشريع الإلهي، وأمّا التفويض بالمعنى الذي شرحناه فهو ينتهي إلى العلم اللدنّي والتأديب الإلهي وفي طوله، وإنّما كانت دعوى امتلاك النبيّ لحقّ التشريع في عرض التشريع الإلهي واضحة البطلان؛ لأنّها من الشرك الواضح، إذ لا فرق بين التكوين والتشريع في ذلك، فكما أنّه تعالى لا شريك له في الخالقيّة ولا يوجد خالقٌ في عرضه، فكذلك لا شريك له تعالى في التشريع ولا يوجد مشرِّعٌ في عرضه.
ويدلّ على ذلك دلالةً قاطعةً ما ورد في خبر الكافي المتقدِّم من قول الإمام الصادق (عليه السلام): «ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدِّينِ وَالْأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كَانَ مُسَدَّدًا مُوَفَّقًا، مُؤَيَّدًا بِرُوحِ الْقُدُسِ، لَا يَزِلُّ وَلَا يُخْطِئُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِهِ الْخَلْقَ، فَتَأَدَّبَ بِآدَابِ اللَّهِ»، فإنّ ذكر التأييد بروح القدس إشارةٌ إلى أنَّ حكمه مستندٌ إلى ضربٍ من الوحي والعلم اللدنّي والتسديد من روح القدس.

ويعجبني في المقام نقل كلامٍ للفارابي يتّصل بكلامنا المتقدِّم ويقترب منه، إذ قال في كتابه الملة: «فإن الرئيس الأول الفاضل إنّما تكون مهنته ملكيةً مقرونةً بوحي من الله إليه، وإنّما يقدّر الأفعال والآراء التي في الملة الفاضلة بالوحي، وذلك بأحد وجهين أو بكليهما: أحدهما أنْ توحى إليه هذه كلها مقدَّرة، والثاني أنْ يقدّرها هو بالقوّة التي استفادها عن الوحي والموحي تعالى حتى تكشّفت له بها الشرائط التي بها يقدّر الآراء والأفعال الفاضلة، أو يكون بعضها بالوجه الأول وبعضها بالوجه الثاني»[91].

ولقد أجاد الميرزا أبو الحسن الشعراني في تعليقته على شرح أصول الكافي حيث قال: «حاصل أحاديث هذا الباب والمعنى الذي يتفق عليه جميعها أنّ بعض الأحكام مفوّض إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعضها موحى إليه من الله تعالى، ويشكل بأنّ ما يفرضه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يمكن أنْ يكون إلاّ بأمر الله تعالى، وهو (لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى)، والجواب أنّ جميعها وإنْ كانت من الله تعالى وبأمر الله، لكن الفرق في الطريق الموصل؛ فبعض الأحكام يوحى إليه قرآنًا بوسيلةٍ روح القدس، وبعضها غير قرآنٍ، وبعضها إلهامٌ وإلقاء في الروع، وبعضها بعلمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالمصلحة الملزمة، وليس هذا أمرًا غريبًا كما يتفق للعلماء، وإنّهم يستنبطون الحكم تارةً من الكتاب الكريم وتارةً من نصّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتارةً من فحوى الخطاب كاستفادة حرمة ضرب الأبوين وشتمهما من قوله تعالى (ولا تقل لهما أفٍّ)، وتارةً يعرفون الحكم من العقل مجرّدًا من النص المنقول كحرمة الغصب وقتل النفوس، وليس معنى تفويض الله تعالى بعض أحكامه إلى رسوله أنّه تعالى لا يعلم ولا يقصد ما يفعله الرسول، ولا يجعل حكمًا ولا يريد شيئًا إلاّ تبعًا لإرادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل الأمر بالعكس لكن عرف (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجوب الركعتين الأوليين بنص جبرئيل في ليلة الإسراء، ووجوب الركعات الأُخر بإلهامٍ وقوّةٍ قدسيّةٍ من الله أيضًا، كما أن جميع ما نعرفه بعقلنا بل بحسّنا إنّما هو من جانب الله تعالى وإنْ لم يكن بوحي وإلهامٍ، بل بإعداد مقدّماتٍ وحصول معدّاتٍ لا تنفكّ في سنّته تعالى عن إفاضة العلم والإدراك، ولمّا جرت عادة الناس بأنْ ينسبوا ما استفادوا من غير سببٍ وواسطةٍ إلى نفس المسبّب، وما استفادوا بواسطةٍ إلى الواسطة مع اعتقادهم بأنّه من ذي الواسطة فيتبادر من قولهم : شربت الماء من النهر، أنّهم شربوا منه بلا واسطة لا من الحياض والحباب والكوز التي في دارهم مع أنّها من النهر أيضًا، جرى في هذه الأخبار على اصطلاحهم كما هو دأب الشرع في التكلّم مع الناس بلسانهم؛ فسمّى ما أوحى إليه بلفظه من الله تعالى مثلًا فرض الله وما أُلهم به بقوّته القدسية وعلمه بالمصلحة الملزمة، مثلًا فرض الرسول وإنْ كانت جميعًا فرض الله تعالى، ومذهبنا المتفق عليه بيننا أنّ الأنبياء لا يشرعون حكمًا باجتهادهم على ما صرّح به علماؤنا في كتب التفسير والكلام، فراجع ما قالوا في تفسير آية (ففهمناها سليمان – الآية)[92] لكنّه تعالى أدّبَ رسولَه فأحسن أدبه، وجعل فيه الخُلق العظيم وإذا حصلت فيه القوّة القدسية استعدّ لقبول الإلهام والإلقاء في الروع وأمثالهما كما في هذه الأخبار، وبيّنه الشيخ الرئيس في الإشارات أحسن بيان»[93].

عاشرًا: في ذكر أسباب دعوى غالب علماء الجمهور باجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إنَّ دعوى اجتهاد النبيّ حطّ للنبيّ من مقام النبوة والرسالة وتنزيل له عن منزلته التي أنزله الله فيها؛ لأنّ الاجتهاد والقول بالرأي والقياس منزلةٌ دانيةٌ عن النبوّة والرسالة والإمامة والقول عن تعليمٍ إلهي وعلمٍ لدني، وفي مقام تحليل السبب وراء هذه الدعوى الفاسدة يبرز أمامنا عدَّة أسباب:

1- السبب الأول: الأحاديث الموضوعة أو المحرَّفة عن معناها الأصلي
إنّ الأحاديث الوارد في كتب الحديث والسيرة هي السبب الأوّل في مقولة اجتهاد النبيّ؛ ولذلك تجد أنَّ غالب أدلة القائلين باجتهاد النبيّ من قبيل الأحاديث، مثل حديث تأبير النخل، وحديث تشريع الأذان، وحديث مفاداة أسارى يوم بدر، وغيرها من الأحاديث المشتملة على وقوع الخطأ منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقديم أقوال بعض الصحابة على قوله، وأنّهم أشاروا عليه بما هو أصلح ممّا كان يراه، وهذا الأمر لا شكّ بأنّه أحد أهمّ الأسباب التي دفعت إلى مقولة اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد أسهمت الأخبار والأحاديث الواردة في كتب الجمهور في تشويه شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، على مستويات عدّة، من جملة تلك المستويات مقولة اجتهاد النبيّ في الأحكام الشرعيّة والمسائل الدينيّة، والملاحظ لتلك الأحاديث سيجد أنّها من قبيل أخبار الآحاد التي لا تصلح للاستدلال في المسائل الأصولية، وأنّها بأغلبها مرويّةٌ بطرق ضعيفة، وأنَّ متونها مضطربةٌ ممّا يدلّ على وضعها أو توسّع الرواة بنقلها.

2- السبب الثاني: تصحيح اجتهاد الصحابة وتشريعهم في دين الله
لما رأى علماء الجمهور أنَّ الصحابة أفتوا في الشرع، وعملوا بالرأي والقياس في دين الله تعالى، لزمهم القول باجتهاد النبيّ؛ لأنّهم إنْ قالوا ليس من الشرع الاجتهاد بالرأي وما كان هذا لرسول الله اقتضى ذلك تخطئة الصحابة فيما صنعوه والتشنيع عليهم بذلك، ومن ههنا ترى أنَّ أقوى أدلتهم على حجيّة القياس إجماع الصحابة على العمل به، قال الرازي في المحصول: «مسلك الإجماع هو الذي عوّل عليه جمهور الأصوليين»[94]، وهذا يدلّ على أنَّ مقولة اجتهاد النبيّ إنّما نشأت لتصحيح اجتهاد من اجتهد من الصحابة والتابعين، وإضفاء الحجيّة على تشريعهم في أمور الدين؛ ولذلك تذكر مسألة اجتهاد الصحابة في كتب الأصول بعد مسألة اجتهاد النبيّ كأنها متفرِّعةٌ عليها، وبفتح هذا الباب كثر المُفتون في دين الله تعالى وافترقت الأمة بسبب ذلك إلى مذاهب وفرق، ولو أنّها اختارت لنفسها ما اختاره الله تعالى ورسوله لها واتبعت العترة الطاهرة لأمنت من الضلال والفرقة، كما جاء في حديث الثقلين المشهور بين المسلمين: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، ‌كِتَابَ ‌اللَّهِ، ‌وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا بِمَا تَخْلُفُونِي فِيهِمَا» [95].

ومن أمثلة اجتهاد الصحابة أنّ الله تعالى فرض في كتابه سهمًا من الخمس لذي القربى فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، فاجتهد أبو بكر مقابل النصّ، وأسقط سهم ذي القربى، ومنع بني هاشم من الخمس، وفرض الله في كتابه التوريث من الأنبياء وغيرهم فقال تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)، وقال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)، وقال في خبر زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، فاجتهد أبو بكر مقابل النص وأسقط إرث فاطمة عليها السلام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، باجتهادٍ ورأيٍ رآه وحديث سمعه وحده من رسول الله، وفرض الله في كتابه سهمًا في الزكاة للمؤلّفة قلوبهم فقال عز وجل: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)، وكان رسول الله يعطي المؤلّفة قلوبهم هذا السهم من الزكاة ولكن عمر خالف ذلك ولم يعطِ المؤلفةَ قلوبهم من الزكاة لاجتهادٍ ورأيٍ رآه مقابل النص، وعلّلوا اجتهاده بأنَّ سهم المؤلّفة قلوبهم فُرِضَ في أوَّل الإسلام وعند ضعفه، ولما اشتدّ عوده رأى عمر حرمان المؤلّفة قلوبهم.
كما أنّهم لما رأوا أنَّ الصحابة خالفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في كثيرٍ ممّا أمر به قالوا بأنّهم اجتهدوا في ذلك لمصالح تعود إلى الإسلام في أنظارهم، قال الشهرستاني في الملل والنحل: «وأمّا ‌الاختلافات ‌الواقعة في حال مرضه (عليه الصلاة والسلام) وبعد وفاته بين الصحابة رضي الله عنهم، فهي اختلافاتٌ اجتهاديةٌ كما قيل، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع، وإدامة مناهج الدين»[96].

فعندما أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بإنفاذ جيش أسامة وأكَّد على ذلك مرّةً بعد أخرى، علَّلوا مخالفة الصحابة وعدم إنفاذهم جيش أسامة بأنَّ ذلك كان اجتهادًا منهم، واحتياطًا على عاصمة الإسلام أن يتخطّفها المشركون من حولهم إذا خلت من القوّة وبَعُدَ عنها الجيش، وعندما أمر النبيّ في مرضه قائلًا: «ائْتُونِي بِدَوَاةٍ وَصَحِيفَةٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، منع عمر من كتابة ما يعصم من الضلالة وقال: «إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ‌لَيَهْجُرُ»[97]، فانقسم الحاضرون في ذلك المجلس بين مؤيّدٍ لقول عمر وبين من يقول أعطوا النبيّ يكتب، فاعتذر جماعةٌ من علماء الجمهور[98] لعمر بأنّ النبيّ قد يُخطئ فيما يجتهد فيه وأنّهم كانوا يراجعونه في كثيرٍ من الأمور قبل أنْ يأمر أمرَ عزمٍ أو أن يُقرّ، وبأنّه من المظنون أنّه قد حصل معه في مرضه بعض العوارض التي تعتري البشر من غلبة الوجع أو النسيان وأنَّ هذه الأمور هي علّة مراجعه عمر في مسألة الكتاب.

وفي الحقيقة مثل هذه التعليلات إنّما هي تخطئةٌ لرسول الله فيما أمر به وتصويبٌ لاجتهاد الصحابة وتقديم أقوالهم على أوامر رسول الله، ألم يكن رسول الله على علم بأنَّ المدينة إذا خلت من جيش المسلمين ستكون عرضةً لغزو المشركين؟ أكان لهم من حسن الرأي والتدبير ما لم يكن لرسول الله ومعه الوحي الإلهي والإلهام الرباني؟!، وهل يعصم الله تعالى نبيه من السهو والخطأ في بيان حكمٍ من الأحكام الفرعيّة ولا يعصمه في مقام بيان ما يقي الأمة من الضلالة؟! وهل يبقى للنبوّة مزيةٌ أو فضلٌ إنْ كان النبي يجتهد والأصحاب يجتهدون، فإنْ خالف بعضهم أوامر رسول الله برَّروا المخالفة بأنّها اجتهادٌ لمصلحة تعود إلى الإسلام، فصارت أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بمنزلة قولٍ يقابله قولٌ آخر على حدّ اختلاف العلماء في المسائل الخلافية؟!
ثم نشأت مقولةٌ أخرى وهي أنَّ من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، استنادًا إلى ما رواه عمرو بن العاص عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ‌فَأَصَابَ ‌فَلَهُ ‌أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»[99]، فتلقّوه بالقبول وصار عذرًا لكلّ مخالفةٍ يخالف فيها بعض الصحابة ما فرضه الله تعالى وسنّه رسوله ، فعندما دخل خالد بن الوليد بامرأة مالك بن نويرة قال عمر لأبي بكر: إِنّ خالدًا قد زنى فارجمه، فأجابه أبو بكر: «‌ما ‌كنت ‌أرجمه؛ ‌فإِنّه ‌تأوَّل فأخطأ»[100]، ولا أدري أيُّ اجتهادٍ وتأوُّلٍ في الدخول بامرأة رجلٍ مسلمٍ قبل أن تعتدّ عدّة المتوفى عنها زوجها، أو قبل أن تستبرأ إنْ كانت بحكم السبايا وزوجها قد ارتدّ عن الإسلام؟!

وعدَّ ابنُ حزم أبو العادية أنّ قاتلَ عمار بن ياسر رضي الله عنه: «متأوِّلٌ مجتهدٌ مخطئ»[101]، هذا مع ما اشتهر من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أنَّ عمار «تقتله الفئة الباغية»، ولا أدري كيف يجتمع بغيٌ مع اجتهاد؟! وهكذا تعلّلوا في كلّ مسألةٍ خالف فيها بعض الصحابة أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنَّه اجتهد، وأنَّ من اجتهد فأخطأ فله أجر.

وهذه التعليلات إنّما نشأت شيئًا فشيئًا ومُهِّد الطريق لها في بداية الأمر بأوّل فريةٍ وهي القول باجتهاد النبيّ، ثم بعدها فرية اجتهاد الصحابة، ثم شيئًا فشيئًا مقايسة آراء الصحابة واجتهاداتهم بأقوال النبيّ، ثم تقديم اجتهادهم على أوامر رسول الله تذرّعًا بحججٍ ومصالح رأوها.

-3 السبب الثالث: الجهل بمنابع العلم النبوي
إنّ مسألة اجتهاد النبيّ متّصلةٌ بمبحث آخر، وهو مواد العلم النبويّ ومنابعه، وموادّ العلم النبويّ ترجع إلى الوحي الإلهي بأنواعه الثلاثة: التشريعي، والإلهامي، والتسديدي، والوحي التشريعي يمدُّه بالقرآن ورسالات السماء عبر الملاك جبرائيل، والوحي الإلهامي يمدُّه بالعلم اللدنّي الذي يوحيه الله تعالى إلى نبيّه إما بنحوٍ مباشرٍ وإمّا عبر ملاك قد قرنه الله تعالى بنبيّه لتأديبه وسوقه إلى الكمال، والوحي التسديدي الذي يمدّه بالعلم الذي يقيه من الخطأ والاشتباه في مختلف المجالات التي يتصدّى لها النبيّ من التشريع والتدبير والقضاء.

فمن يتصوَّر أنّ العلم النبوي مقصورٌ على الوحي التشريعي يتوهَّم أنّ كلّ ما هو خارج عن الوحي التشريعي فهو رأيٌ واجتهادٌ من النبيّ، وهذا التوهّم باطلٌ؛ لأنّ منابع العلم النبوي وموادّه لا تنحصر بالوحي التشريعي عبر جبرائيل الذي يأتي بالقرآن ورسالات الله تعالى، بل هي أعم من ذلك وتشمل الإلهام والتسديد.

4 - السبب الرابع: التصوّر الخاطئ لطبيعة العصمة ودائرتها
إنّ العصمة ترجع إلى نحوٍ من الهداية والتعليم الإلهي وليست أمرًا خارجًا عن ذلك، ولما كانت دائرة العصمة شاملةً لمقام التبليغ وغيره كانت جميع أقوال النبي وبياناته عن وحي وإلهام ولا يتصوّر انفصالها عن ذلك، ولكن لما كان لدى علماء الجمهور تصوّرٌ غير صحيحٍ عن طبيعة العصمة ودائرتها أسهم هذا الأمر في الوصول إلى مقولة الاجتهاد بالرأي.

الخاتمة
خلصنا في هذا البحث إلى فكرةٍ جوهريّةٍ، وهي أنّ الاجتهاد لا يعدو كونه ظنًّا، وشرع الله تعالى ودينه لا ينال بالظنون البشريّة، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ينفكّ عن الوحي بأنواعه الثلاثة: التشريعي، والإلهامي، والتسديدي في جميع بياناته وتصرفاته المرتبطة بهداية العباد سواء أكانت على الصعيد التشريعي أم التدبيري أم القضائي، وأنَّ نسبة الاجتهاد الى النبيّ حطٌّ له عن مكانته ومنزلته التي أنزله الله فيها، وأنّها إنّما نشأت بسبب الأحاديث الموضوعة أو المحرّفة عن معناها الأصلي، ولتصحيح اجتهاد الصحابة ومخالفاتهم لأقوال النبي وأوامره، وبسبب التصوُّر الخاطئ لمنابع العلم النبوي وحقيقة العصمة ودائرتها.

لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد، تفسير القرآن العظيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، المملكة العربية السعودية، ط3، 1419ه.
ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد، مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق حمد بن عبد الله الجمعة ومحمد بن إبراهيم الرئيسة، مكتبة الرشد، الرياض، 2004م.
ابن الأثير، مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم- إيران.
ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار احياء الكتب العربية، ط1، 1959م.
ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام في علم الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت.
ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، منهاج السنة النبوية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1406-1986م.
ابن حزم، علي بن أحمد، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة الخانجي – القاهرة.
ابن حزم، علي، الإحكام في أصول الأحكام، إشراف أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
ابن حزم، علي بن أحمد، جوامع السيرة، دار المعارف، مصر، ط1، 1900م.
ابن حنبل، أحمد بن محمد، مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، ط1، 2001م.
ابن حنبل، أحمد بن محمد، فضائل الصحابة، تحقيق وصيل الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1403ه-1983م.
ابن سعد، محمد، الطبقات الكبرى، تحقيق الدكتور علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة - جمهورية مصر العربية، ط1، 1421ه-2001م.
أبو جعفر الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري أو تاريخ الرسل والملوك، دار التراث – بيروت.
أبو جعفر الطحاوي، شرح مشكل الآثار، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، 1994م.
أبو الحسين البصري، محمد بن علي الطيب المعتزلي، المعتمد في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ.
أبو داود، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد كامل قره بللي، دار الرسالة العالمية، ط1، 2009م.
أبو الفداء، إسماعيل بن علي، المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، ط1.
أبو المعالي الجويني، عبد الملك بن عبد الله، التلخيص في أصول الفقه، تحقيق عبد الله جولم النبالي وبشير أحمد العمري، دار البشائر الإسلامية، بيروت.
الأشقر، محمد سليمان، أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط6، 2003م.
آل تيمية، المسودة في أصول الفقه، [بدأ بتصنيفها الجدّ: مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية (ت 652 هـ)، وأضاف إليها الأب: شهاب الدين عبد الحليم بن تيمية (ت 682 هـ)، ثم أكملها الابن الحفيد: شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية (728 هـ)، جمعها وبيضها: أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الحراني الدمشقي (ت 745 هـ)] تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني.
الآمدي، علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق، ط2، 1402هـ.
الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن، شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2004م.
البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ط: السلطانية، بالمطبعة الكبرى الأميرية، ببولاق مصر، 1311هـ.
الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م.
الحلي، جمال الدين الحسن بن يوسف، مبادئ الوصول إلى علم الأصول، تحقيق عبد الحسين محمد علي البقال، مكتب الإعلام الإسلامي، طهران، ط3، 1404هـ.
الخطابي، حمد بن محمد، أعلام الحديث شرح صحيح البخاري، تحقيق محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود، جامعة أم القرى، ط1، 1409هـ 1988م.
الرضي، محمد بن الحسين، نهج البلاغة، دار الذخائر للمطبوعات، قم، 1412هـ.
الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط الأخيرة، 1966م.
السبكي، علي بن عبد الكافي وولده عبد الوهاب، الإبهاج في شرح المنهاج، (شرح على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي المتوفى سنة 685 هـ)، تحقيق أحمد جمال الزمزمي ونور الدين عبد الجبار صغيري، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، ط1، 1424ه-2004م.
السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد، أصول السرخسي ، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد بالهند.
الشافعي، الأم، دار المعرفة، بيروت، 1410هـ -1990م.
الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، شرح وتحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط 2، 1979م.
شمس الدين، محمد مهدي، كتاب ولاية الأمة عل نفسها مقابل نظام ولاية الفقيه العامة، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت.
الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ، تحقيق أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي، ط1، 1999م.
الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل ، مؤسسة الحلبي.
الشهيد الأول، أبي عبد الله محمد بن مكي العاملي، القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، تحقيق عبد الهادي الحكيم، منشورات مكتبة المفيد، قم.
الصدر، محمد باقر، اقتصادنا، پژوهشگاه علمى تخصصى شهيد صدر.
الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، تحقيق طارق بن عوضل الهل وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1995م.
الطوسي، محمد بن الحسن، العدّة في أصول الفقه، تحقيق محمد رضا الأنصاري، مطبعة ستاره، قم، ط1، 1417هـ.
العاملي، حسن بن زين الدين، معالم الدين وملاذ المجتهدين، تحقيق: لجنة التحقيق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، المستصفى في علم الأصول، تصحيح محمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م.
الفارابي، أبو نصر، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط2.
الفخر الرازي، محمد بن عمر، المحصول في علم أصول الفقه، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1992م.
الفخر الرازي، محمد بن عمر، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1420هـ.
الفيومي، أحمد بن محمد المقري، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تعليق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1388هـ.
المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي مع تعاليق أبو الحسن الشعراني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1421هـ.
المتقي الهندي، علي بن حسام الدين، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تحقيق بكري حياني وصفوة السقا، مؤسسة الرسالة، ط5، 1981م.
المرتضى، الذريعة (أصول الفقه)، تصحيح وتعليق أبو القاسم كرجي، مطبعة دانشگاه، طهران، 1346هـ.ش.
النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة.
الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414هـ -1994م.ح

--------------------------------------
[1] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج1، ص339.
[2] الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، ج1، ص116.
[3] المرتضى، الذريعة، ج2، ص672.
[4] الشافعي، الرسالة، ص592.
[5] الشافعي، الرسالة، ص599.
[6] ابن سعد، الطبقات الكبير، ج22 ص 300.
[7] ابن حزم، جوامع السيرة، ص323.
[8] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 10 ، ص 212.
[9] العاملي، معالم الدين وملاذ المجتهدين، ص238.
[10] الفخر الرازي، المحصول، ج6، ص7.
[11] الشافعي، الرسالة، ج1 ص 90.
[12] الشافعي، الأم، ج5، ص 136.
[13] الآمدي، الإحكام، ج4، ص177.
[14] الإيجي، شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي، ج3 ص 584.
[15] ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ج5، ص700.
[16] سورة النساء، الآية:105.
[17] البخاري، صحيح البخاري، ج9، ص100.
[18] آل تيمية، المسودة في أصول الفقه، ص508.
[19] الغزالي، المستصفى من علم الأصول، ص346.
[20] الجويني، التلخيص في أصول الفقه، ج3، ص 410.
[21] الرازي، المحصول، ج6، ص 7.
[22] السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج، ج7، ص 2870.
[23] الطوسي، العدّة في الأصول، ج2، ص734.
[24] الخطابي، أعلام الحديث «شرح صحيح البخاري»، ج1، ص 225.
[25] الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص216.
[26] الشافعي، الرسالة، ص22.
[27] المصدر نفسه، ص91.
[28] هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي المعروف بابن الهمام المتوفي سنة 861 هـ من علماء الحنفية، ومن مؤلفاته: فتح القدير في فقه الحنفية، والتحرير في أصول الفقه، والمسايرة في أصول الدين.
[29] ابن الهمام، التقرير والتحبير علي تحرير الكمال، ج3، ص 294.
[30] هو أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري المتوفي سنة 436 هـ، من كبار علماء المعتزلة، من مؤلفاته كتاب المعتمد في أصول الفقه وهو كتاب مشهور استفاد منه جلُّ من صنّف بعده، وكتاب تصفّح الأدلة، وكتاب غرر الأدلة.
[31] البصري، المعتمد في أصول الفقه، ج2، ص 210.
[32] المصدر نفسه، ص212.
[33] الأشقر، أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية، ج1، ص 119.
[34] سورة القيامة، الآيات:17-19.
[35] البصري، المعتمد في أصول الفقه، ج2، ص 210.
[36] الجويني، التلخيص في أصول الفقه، ج3، ص405.
[37] الفخر الرازي، المحصول، ج6، ص 8.
[38] آل تيمية، المسودة في أصول الفقه، ص508.
[39] سورة التوبة، الآية:43.
[40] سورة الأنفال، الآيتان:67-68.
[41] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص135.
[42] سورة آل عمران، الآية:159.
[43] الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص166.
[44] سورة التوبة، الآية:43.
[45] المصدر السابق، ج4، ص 166.
[46] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص285.
[47] سورة النساء، الآية:83.
[48] السرخسي، تمهيد الفصول في الأصول (المعروف بأصول السرخسي)، ج2، ص 93.
[49] النيسابوري، صحيح مسلم، ج4، ص1835.
[50] الطحاوي، شرح مشكل الآثار، ج4، ص425.
[51] البخاري، صحيح البخاري، ج3، ص180.
[52] صحيح البخاري، ج1، ص 124.
[53] السرخسي، أصول السرخسي، ج2، ص 94
[54] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج4، ص 387.
[55]الطبراني، المعجم الأوسط، ج9، ص100.
[56]الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص 187.
[57] المرتضى، الذريعة في أصول الشيعة، ج2، ص794.
[58] الحلي، مبادئ الوصول إلى علم الأصول، ص240.
[59] الشهيد الأول، القواعد والفوائد، ص214.
[60] راجع: الطباطبائي، تفسير الميزان، ج4 ص388. والصدر، محمد باقر، اقتصادنا ص 329، 443. وشمس الدين، محمد مهدي، ولاية الأمة على نفسها مقابل نظام ولاية الفقيه العامة، ص56. والسيد السيستاني، تعارض الأحاديث واختلاف الأدلة، ص332.
[61] سورة النساء، الآية:105.
[62] سورة النجم، الآية:3-4.
[63] سورة النجم، الآية:2.
[64] الزمخشري، تفسير الكشاف، ج4 ص28.
[65] الفخر الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، ج17، ص225.
[66] سورة الإسراء، الآية:36.
[67] سورة يونس، الآية:36.
[68] سورة النجم، الآية:28.
[69] سورة الأحزاب، الآية:21.
[70] سورة النساء، الآية:59.
[71] سورة الجاثية، الآية:18.
[72] أبي داود السجستاني، سنن أبي داود، ج5، ص 439.
[73]ابن أبي حاتم، تفسير ابن أبي حاتم، ج4، ص 1059.
[74] الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 4، ص 100.
[75] ابن حنبل، فضائل الصحابة، ج1، ص 373.
[76] ابن حنبل، مسند أحمد، ج2، ص 115.
[77] ابن أبي شيبة، المصنف، ج1، ص 165.
[78] سورة النحل، الآية:89.
[79] سورة النحل، الآية:44.
[80] الجويني، التلخيص في أصول الفقه، ج3، ص401.
[81] سورة الشعراء، الآيات: 193-195
[82] سورة الشورى، الآية:52.
[83] المتقي الهندي، كنز العمال، ج11، ص406.
[84] الرضي، نهج البلاغة، ج2، ص157.
[85] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص482.
[86] الطبري، تاريخ الأمم والملوك (المعروف بتاريخ الطبري)، ج2، ص573.
[87] الجويني، التلخيص في أصول الفقه، ج3، ص406.
[88] سورة القلم، الآية:4.
[89] سورة الحشر، الآية:7.
[90] الكليني، الكافي، ج1، ص266.
[91] الفارابي، كتاب الملة، ص 44.
[92] سورة الأنبياء، الآية:79.
[93] المازندراني، هامش شرح أصول الكافي، ج6، ص59.
[94]الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ج،2 ص 102.
[95] ابن حنبل، الفضائل الصحابة، ج2، ص 779.
[96] الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص 20.
[97]ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص187.
[98]راجع: الخطابي، أعلام الحديث «شرح صحيح البخاري»، ج1، ص 226. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج،6 ص 24.
[99] الشافعي، الأم، ج6، ص216.
[100] ابي الفداء، المختصر في أخبار البشر، ج1، ص 158.
[101] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج4، ص 125.