الباحث : م.د. حيدر حسن ديوان الأسدي
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 12
السنة : السنة الرابعة - شهر رمضان 1438هـ / 2017م
تاريخ إضافة البحث : August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث : 1051
محورية العقيدة والتعايش السلمي
في سيرة النبي 9
م. د. حيدر حسن ديوان الاسدي(*)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد:
تحمّل الانبياء ولا سيماء النبي الاعظم محمد 9 مصاعب من اجل احقاق الحق، واقامة العدل، والوصول بالإنسان الى الدرجات العالية من الكمال الانساني.
ولا شك في أن النظام الالهي الذي بدأ النبي 9 تطبيقه في المدينة يتوزع في مسارين متوافقين:
أولهما: يتعلق بالمسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله، وانقادوا لشرع الله يعملون به ويطبقونه.
ثانيهما: يتعلق بالتآلف والتعايش السلمي بين المسلمين ومَن لم يعتنق الإسلام .
وأعظم مهمة أنفذها النبي 9 إقامة نظام عام، ودستور شامل للجميع، للمسلمين وغير المسلمين. ولذلك كان تعامل النبي 9 مع المسلمين وغير المسلمين يجري على وفق قواعد واصول جاءت في القران الكريم وبينها لهم... وفي هذه القواعد والاسس اعتراف بخصوصيات كل فئة وبعقائدها الدينية، وهذا التقنين والالتزام مفهوم حضاري لم تعرفه الانظمة الوضعية الا في وقت متأخر، وهو لا يرقى و لا يقارن بالنموذج النبوي.
ومن هذا المنطلق جاء هذا البحث ليسلط الضوء على الاسس العامة للتعايش و التسامح على وفق مرويات النبي الاعظم محمد 9، لأنه مكلف بإبلاغ الناس بالتشريعات الالهية والدعوة الى الله، مشفوعة بالعمل والسلوك المطابق.
فوظيفة النبي تتلخص في التذكير بالبينات والهدى، والتبشير بالنعيم، والانذار بالخسران في حالة الجحود و العناد، وانه سراج يضيء الطريق، ورحمة للعالمين.. قال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾([1])، وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ([2]).
ان معنى التعايش السلمي في أبسط صوره: ان يعايش الانسان اخاه الانسان ويعاشره بسلام، ولقد تجلى هذا المعنى في سيرة الرسول الاعظم 9، وجعله وهو ميثاق يتجلى بمظهرين رئيسيين هما:
المظهر العقدي.
المظهر التشريعي.
المبحث الاول
التعريف بالتعايش السلمي
جاء في المعجم الوسيط: (عاش: عيشا وعيشة ومعاشاً صار ذا حياة فهو عائش، أعاشه: جعله يعيش يقال أعاشه الله عيشة راضية، عايشه: عاش معه، عيشه: أعاشه، تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة ومنه التعايش السلمي)([3]).
وسيرًا على المعني اللغوي تكون كلمة (السلمي) وصفاً مؤكداً لطبيعة التعايش، وعلى فرض وجود نوع من التعايش غير السلمي يكون الوصف مقيدًا يخرج به نوع التعايش غير السلمي ويسود مصطلح التعايش السلمي في الأوساط البدائية في المجال الاجتماعي، كالتعايش بين الأفراد أو المجموعات الإثنية أو القبلية، وانتقل المصطلح من المجال الاجتماعي إلى المجال السياسي في ظل الدولة الحديثة القائمة على أساس التنوع الديني أو الإثني، وما ينتج عنه من صراعات ونزاعات، ثم صار الآن مطلبًا دوليًا في ظل الصراعات العالمية والدولية.
ومصطلح التعايش السلمي بوصفه شعاراً سياسياً يعني البديل عن العلاقة العدائية بين الدول ذات النظم الاجتماعية المختلفة، ومع هذا ليس هنالك أي مانع للتوسع في استخدامه في ساحة العلاقات الاجتماعية بين أتباع الديانات المختلفة وبخاصة المقيمين في دولة واحد ([4]).
ولقد تجلت في سيرة النبي محمد 9 اروع صور التعايش مع الآخر وهي كافية لجميع الأحوال والأزمان, وتمثل تلك الصور منهجا ونبراسا للمسلمين في علاقتهم مع الآخر, ليكونوا في مقدمة الأمم في الدعوة إلى السلام والتعايش السلمي مع مختلف الأمم والطوائف, وذلك بالتزامهم بثوابت الإسلام ومبادئه التي تدعو إلى الخير والبر والتعاون مع الآخر في إطار من الاحترام المتبادل. سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها.
ومن نماذج التعايش (نموذج مكة قبل البعثة), حيث عاش رسول الله 9 في بيئة يغلب على سكانها عبادة الأوثان, وممارسة الرذيلة من بغاء وشرب خمر وارتكاب للفواحش, وامتد ذلك إلى أن القوي كان يطغى على الضعيف ويأكل حقه, حتى إن السيد كان يقهر من تحت يده من عبيد وإماء ولا يحترم إنسانيتهم, وكان العربي يتعالى على العجمي, وكان الأبيض يفخر على الأسود.
وفي هذه البيئة غير السوية عاش رسول الله 9 مع قومه متآلفا معهم, يقوم بدور اجتماعي فعال, ويتعاون في أمور البر والخير.
ومن مظاهر ذلك تحالفه 9 مع قبائل من قريش تعاهدوا على نصرة المظلوم قبل البعثة, حيث تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان; لشرفه وسنه, فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه, وكانوا على من ظلمه, حتى ترد عليه مظلمته, فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. وفي هذا يقول رسول الله9: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم, ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)([5]).
نموذجا لاستئناف حياة منتجة آمنة، ونظاما اجتماعيا يمكن للأفراد الذين انخرطوا في أعمال عدائية سابقة ضد بعضهم البعض أن يعيشوا ويعملوا معاً من دون أن يدمر أحدهم الآخر.
فالتعايش إذن هو الطريقة التي يجب أن تدار بشكل حذر من أجل تجنب تجدد العداءات، وفي بعض الأحوال قد يصبح التعايش شكلا لدولة مستقرة نسبيا، ولكنها غير مندمجة . أو في حالات أخرى، قد يحمل معه احتمالات تحقيق اندماج اجتماعي واقتصادي أكثر عمقا" ([6]).
كان بناء دين الإسلام منذ ظهوره على اليسر قال 9: «إن الدين يسر» ([7]). وفي هذا الدين من السماحة والسهولة ومن اليسر والرحمة ما يتوافق مع عالميته وخلوده وهو ما يجعله مستوعبا لكل التعددات الاجتماعية وصالحا لكل زمان ومكان لسائر الأمم والشعوب، فالسماحة تتواءم مع عالمية الإسلام، وخطاب الدعوة في القرآن والسنة يؤكد ذلك، حيث جاءت النصوص تدعو الناس إلى أن ينضموا تحت لواء واحد وأن يتنافسوا على معيار الإسلام الخالد وهو التقوى قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
[8]. لقد جاء الإسلام في فترة جاهلية أهدرت كرامة الإنسان وحريته فأعاد الإسلام بناء الإنسان من جديد ونظم علاقته بربه وعلاقته بالآخرين.
وليس ثمّة ما هو أبلغ في الدلالة وأوفى بالقصد في التأكيد على العلاقة بين الإسلام والتعايش من الآية الكريم ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾([9])، في الدلالة على عمق مبدأ التعايش في مفهوم الإسلام. ذلك أنّ المساحة المشتركة بين المسلمين وبين اتباع الديانات السماوية مساحة واسعة. وإذا كان الإسلام قد جعل في قلوب المسلمين متسعاً للتعايش مع بني الإنسان كافّة، ففيه من باب أولى، متسعٌ للتعايش بين المؤمنين بالله، وإن كان هذا التعايش لا يعني أننا متفقون في كل شيء، فإذا اشترطتُ ألا أبذل الحسنى إلا لمن كان مثلى تماماً (مسلماً أو غير مسلم)، فمعنى ذلك أنني لا أحب إلّا نفسي، وأنّ الاختلاف معناه العداوة.
المبحث الثاني
اسس التعايش وقواعده
إنّ التعايش في الإسلام ينطلق من قاعدة عقائدية، وهو ذو جذور إيمانية، ولذلك فإن مفهوم التعايش من منظور الإسلام، ليس هو من جملة المفاهيم الوضعية الحديثة التي صيغت منها قواعد القانون الدولي. إنّ المسلم يعتقد أنّ الهدي الإلهي جاء عبر سلسلة طويلة من الرسالات والنبوات آخر حلقاتها اليهوديّةُ، فالمسيحية، فالإسلام، فمن الطبيعي إذن أن تكون هذه الأديان الثلاثة أقرب إلى بعضها بعضاً منها إلى سائر الأديان، ويسمى القرآن المسيحيين واليهود (أهل الكتاب)، لأنّ الله سبحانه وتعالى أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى 7 قبل أن يتلقى النبي محمّد 9، الرسالة في اكتمالها مصدِّقةً لما بين يديها، ومصوِّبةً ومصحِّحةً ومفصِّلةً أمور الشريعة والقانون بجانب العبادات والأخلاق، فنزل القرآن الكريم وهو الوحيد الباقي على أصله الذي نزل به في لغته الأصلية، كلمة وحرفاً بحرف.
ومن أبرز مظاهر التعايش الذي ساد الحضارة الإسلامية عبر العصور، أنّ الإسلام يعدّ اليهود والنصارى أهل ديانةٍ سماوية، حتى وإن لم يكن هذا الاعتبار متبادلاً. وعلى الرغم من أن عدم الإيمان بنبوة محمد 9، هو عندنا أمرٌ عظيمٌ وشأن خطير، بل هو أمرٌ فارقٌ، فإنّ الإسلام قد استوعب هذا الخلاف، لا بالتهوين من أمره، أو المهادنة العقيدية له، ولكن بما رسمه في باب المعاملات من تعاليم تسمح بالتواصل والتراحم رغم خلاف المعتقد.
والتسامح في المنظور الإسلامي هو ثمرة التصور الإسلامي للإنسان الذي يقوم على أساس معيارين اثنين ([10]):
تحديد غاية الوجود الإنساني، التي يتخذ الإنسان الأسباب لتحقيقها، ومن ثمّ الالتزام بالأسباب التي تتواءم مع هذه الغاية ولا تصادمها.
مدُّ الوعي بالوجود الإنساني إلى ما وراء الحياة الدنيا القصيرة الفانية، إلى الحياة الخالدة الباقية. لقد خلق الله الإنسان لأهداف أخرى غير التي خلق الحيوان من أجلها، ولم يكن خلقه مجرد إضافة حيوان جديد إلى قائمة الحيوان، إنما كان إيجاد جنس آخر من الخلق، خلقه الله بقدرته، ليعبد الله على وعي، ويعمر الأرض بمقتضى المنهج الرباني، ومن أجل هذه الغاية وهب له ما وهب من المزايا، وأنزل الكتب لهدايته على أيدي الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، وكان من أهداف إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط.
من الأخلاق الإنسانية التي يقوم عليها التعايش السلمي بين الناس على اختلاف عقائدهم وتباين ثقافاتهم خلق التسامح؛ ذلك لأنه يُقرّب القلوب بعضها من بعض، ويجعل الحياة أكثر انسياباً في أوصال المجتمع.
وقد أولى الإسلام قيمة التسامح مكانة هامة، وأعطى نبيه محمداً 9 من خلال سيرته العطرة أمثلة تطبيقية عملية في ممارسة هذه القيمة، وظلّت تلك القيمة سمة من سمات حضارة الإسلام إبان ازدهارها، وأثبت أن التسامح خلق إسلامي أصيل يحثّ عليه القرآن الكريم من وجوه عدّة.
الحوار والاختلاف مع الآخر، أمر حتمي، تفرضه طبيعة الحياة. وبما أن الحوار عبارة عن علاقة مباشرة بين طرفين أو أكثر، تقوم على التعبير وتبادل الأفكار والحجج والبراهين بهدف التواصل والإقناع أو التأثير، فمن الضروري أن يؤدي هذا الحوار إلى شيء من الاختلاف حول بعض الأمور وطرق تناولها. علاوة على أن هذا الآخر ربما اختلفت بيئته عن بيئتك، وثقافته الاجتماعية عن ثقافتك، مما يستوجب نوعا من التعايش وقبول الآخر، وقبول الحوار والتعايش معه، طالما أن هذا التعايش لا يمس شؤون العقيدة أو الثوابت الدينية والنبي 9 بمنهجه الواضح في هذا الشأن، وضع لنا قواعد الحوار ومنهجية الاختلاف مع الآخر، وضرب لنا أروع الأمثلة على التعايش مع الآخر، حتى لو كان على غير دينه، وحتى لو اختلفت عادته وتقاليده عن ما نشأ عليه النبي من عادات وتقاليد وأعراف.
ولقد اقام الاسلام المتكامل على اساس العدل ومعرفة الحقوق والواجبات ومن ثمّ الوصول الى حالة من الانتماء المجتمعي، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾([11]).
وليس الاحلاف والمعاهدات السلمية التي عقدها رسول الله 9 مع اليهود والنصارى والمشركين في الجزيرة العربية الا مثالا مشرقا لما يريده الاسلام من قيام مجتمع انساني متعايش، قال الله تعالى في حق النبي 9 : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ ([12]).
ففي السنة الاولى من هجرته 9، الى المدينة المنورة قام بوضع دستور ينظم به ادارة المجتمع التعددي في ظل الدولة والحكومة الاسلامية، عرف ذلك بـ(صحيفة المدينة)، وتضمنت الاعتراف بمواطنة غير المسلمين وعضويتهم في تكوين المجتمع ([13]).
وحددت هذه الصحيفة الواجبات التي عليهم والحقوق التي لهم، شأنهم في ذلك شأن بقية المواطنين المسلمين، وعلى صعيد المسلمين فقد واجه رسول الله9، العصبية والقومية والقبلية في العلاقات الاجتماعية، حتى شجّع المسلمين على التداخل و الاندماج فيما بينهم.
وتأسيا بالمنهج النبوي الجامع للكلمة فقد سلكه ائمة اهل البيت :، وفقهاء الامة. فلابد اذن من الارتقاء بالمجتمع الى حالة من التعايش السلمي، مع احتفاظ كل طرف من الاطراف بخصوصياته المشروعة و لا يكون ذلك الا بتحمل المسؤولية من قبل الجميع، قال النبي الاعظم 9: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ([14]).
ولكن من تخصيص المسؤولية وتقسيمها فانَّ خطاب النبي الاعظم 9، يتوجه الى الحاكمين، اذ يتحملون مسؤولية رئيسة في توحيد صفوف المجتمع، وذلك بتوفير مناخات التعايش والانسجام بين افراد الشعب على اساس الحق من دون تمييز، فقد قال 9: (خير الولاة من جَمَع المختلف وشر الولاة من فرق المؤتلف).
ويتوجب الخطاب النبوي الى علماء الدين بالدعوة الى الوحدة و الوئام تحذير الناس من النعرات والفتن الطائفية، لان الوحدة رسالة ومبدأ محمدي، قال 9: (المسلمون كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
ومن آليات تحقيق هذه الوحدة، خلق ارادة التعايش، فعن الامام الباقر عن النبي 9، انه قال) صلاح حال الجمهور التعايش).
كذلك نبذ التعصب يسهم في بناء المجتمع، لان العصبية من الجاهلية التي حاربها رسول الله "9"، حتى وهو على يقين بهداه، وهو على يقين بضلال المشركين قال تعالى: ﴿انَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ([15]).
ويقول رسول الله "9": (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية) ([16]). وقال ايضا 9: (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية)([17]).
مما تقدم يتضح ان التعايش هو الخيار المناسب للمجتمع الاسلامي الذي ينشد الامن و الرقي الانساني، فحينما يكون الانتماء المذهبي للمسلمين متنوعا فان امامهم احد خيارات ثلاثة للتعاطي مع هذا التنوع و التعدد ([18]):
الخيار الاول: محاولة الفرض و الالزام، بان يسعى اتباع كل مذهب لفرض مذهبهم على الاخرين، وهذا الخيار مشكل من الناحية الشرعية، لان المعتقد وطريقة التعبد لا يصح فرضها بالإكراه، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ([19])، فالله تعالى لم يعط لنبيه 9، هذا الحق وانما قال له: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾([20])، وقال سبحانه: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين﴾([21]).
الخيار الثاني: حالة العداء والصراع وعدم التعايش، حيث يتحصن اتباع كل كل مذهب او دين في خندق مذهبهم، ويعبئون افرادهم تجاه المذاهب و الاديان والطوائف الاخرى، وتسود حالة التشنج و العداء، وهنا يدخل المجتمع في نفق الصراع الداخلي.
الخيار الثالث: ان يقر كل طرف للآخر بحقه في التمسك بقناعاته ومعتقداته، وممارسة شعائره الدينية، والعمل على وفق اجتهاداته المذهبية والدينية، تربطهم آصرة العدل و التساوي في الحقوق والواجبات.
وهذا ما يأمر به الاسلام وتدعو له تعاليمه السمحاء، قال تعالى: ﴿كُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون﴾([22]).
ان آيات تكريم الإنسان بما هو إنسان في القرآن الكريم تنطبق على كل إنسان وتعطيه كل حقوق الإنسانية، ومن أهمها حق المواطنة. وأمر القرآن المسلمين بالبر والعدل في التعامل مع غير المسلمين يعني أن من واجبهم إقامة العدل بكل أنواعه، ومنها: العدل الاجتماعي والعدل السياسي. وجاء التاريخ الاجتماعي مشتملا على وقائع تثبت تلك المواطنة للأقليات، وضرورة التعايش بين هذه التعددية.
وبذلك يؤسس القرآن الكريم والسنة الشريفة لفلسفة إسلامية متميزة في رؤية الكون والحياة والعلاقات بين الأحياء. وفي هذه الفلسفة الإسلامية المتميزة معالم رئيسية، يمكن أن نشير إلى عدد منها:
أ ـ أن الواحدية والأحدية هي فقط للذات الإلهية. قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾([23]).
ب ـ وأن التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف هو سنة إلهية كونية مطردة في سائر عوالم المخلوقات. وأن هذه التعددية هي في إطار وحدة الأصل الذي خلقه الله سبحانه وتعالى.
فالإنسانية التي خلقها الله من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع في إطار الدين الواحد. وإلى مناهج، أي: ثقافات وحضارات في إطار المشترك الإنساني الواحد، الذي لا تختلف فيه الثقافات. كما تتنوع إلى عادات وتقاليد وأعراف متمايزة حتى داخل الحضارة الواحدة، بل والثقافة الواحدة ([24]).
وهذا التنوع والاختلاف والتمايز يتجاوز كونه "حقّا" من حقوق الإنسان، إلى حيث هو "سنة" من سنن الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾([25])، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾([26]).
ج ـ أن هذا التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف له حكم عديدة، منها:
تحقيق حوافز التسابق على طريق الخيرات بين الفرقاء المتمايزين: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ ([27]).
ومنها: فتح أبواب الحرية للاجتهاد والتجديد والإبداع، الذي يستحيل تحقيقه من دون تفرد وتمايز واختلاف: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾([28]).
د ـ وأن علاقة الفرقاء المتمايزين والمختلفين والمتعددين يجب أن تظل في إطار الجوامع الموَحِّدة، وعند مستوى التوازن والعدل والوسطية: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" ([29]). "فالوسط" ـ بنص حديث النبي ـ 9 هو "العدل" الذي يجب أن يحكم علاقات الفرقاء المختلفين،" ([30]).
هـ ـ فإذا اختلت موازين العدل والوسط بين الفرقاء المختلفين والمتمايزين في الطبقات الاجتماعية أو الشرائع الدينية أو الفلسفات أو الحضارات، فإن الفلسفة الإسلامية تحبذ طريق "التدافع" الذي هو حراك يُعَدّل المواقف والمواقع والاتجاهات، فينتقل بها من مستوى الخلل والظلم والجور والعدوان إلى مستوى العدل والتوازن والوسط والتعايش والتعارف، مع المحافظة على بقاء التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ ([31]).
وهذا "التدافع" الذي هو وسط بين تفريط "السكون والموات" وبين إفراط "الصراع"، هو المزكي للتعددية، وللتنافس والتسابق على طريق الخيرات، في حين يفضي السكون إلى الموات للمستضعفين. كما أن الصراع يفضي إلى النتيجة نفسها؛ لأن القوي يصرع الضعيف، فينفرد بالساحة، وينهي التعدد والتمايز والاختلاف. فالتدافع هو الذي يُعَدِّل المواقف الظالمة، مع الحفاظ على التعددية وعلى التنافس والتسابق على طريق الخيرات. فهو سبيل للإصلاح في ظل التنوع والتعدد، وليس على أنقاض التنوع والتعدد: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ([32]).
هذا هو موقع التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف في الرؤية الإسلامية للكون والحياة والعلاقات بين عوالم المخلوقات والأفكار، ودور هذا التنوع في التقدم والإصلاح.
وذلك هو تميز الفلسفة الإسلامية بالوسطية الجامعة عن غيرها من نزعاتِ وفلسفات الدمج القسري للكل في واحد.. أو نزعات وفلسفات الصراع التي تفضى هي الأخرى إلى انفراد طرف واحد ـ هو الأقوى ـ بالساحة والامتيازات. فطرَفا الغلو يفضى كل منهما إلى ذات النهاية.. وبينهما تتميز الوسطية الإسلامية في هذا الميدان ([33]).
ففي المدينة المنورة سنّ رسول الله محمد 9 ثلاث سنن جسّدت فلسفة الإسلام في العلاقة بالآخر الديني؛ الكتابي منه والوضعي: اليهود والنصارى، والمجوس ومن ماثلهم.. ولقد صيغت هذه السنن النبوية، المعبرة عن هذه الفلسفة الإسلامية، في وثائق دستورية، طبّقتها دولة النبوة، ورعتها دولة الخلافة الراشدة، وظلت مبادؤها مرعية إلى حد كبير عبر تاريخ الحضارة الإسلامية وأوطان عالم الإسلام.
وأُولى هذه الوثائق الدستورية هي "الصحيفة، الكتاب"، دستور دولة المدينة المنورة، الذي وضعه رسول الله 9 عقب الهجرة، وفور إقامة "الدولة" ليحدد حدود الدولة، ومكونات رعيتها (الأمة)، والحقوق والواجبات لوحدات الرعية، بمن فيهم الآخر الديني (اليهود العرب وحلفاؤهم العبرانيون)، وليحدد كذلك المرجعية الحاكمة للدولة ورعيتها.
وفي هذه الوثيقة الدستورية تحدثت موادها، عن التنوع الديني في إطار الأمة الوليدة والدولة الجديدة، وعن المساواة بين الفرقاء المتنوعين، فقالت عن العلاقة بين المسلمين واليهود، أي عن التنوع الديني في إطار وحدة الأمة.. "ويهودُ أمةٌ مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ ـ "يُهلك" ـ إلا نفسه وأهل بيته، ومن تبعنا من يهود فإن له النصر والأُسوة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصَرٍ عليهم، ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.." ([34]).
فكانت هذه الوثيقة الدستورية أول "عقد اجتماعي وسياسي وديني" ـ حقيقي وليس مفترضاً ومتوهما ـ لايكتفي بالاعتراف بالآخر، وإنما يجعل الآخر جزءً من الرعية والأمة والدولة ـ أي جزءً من الذات ـ له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات، وذلك في زمن لم يكن فيه طرف يعترف بالآخر على وجه التعميم والإطلاق([35]).
وهناك وثيقة دستورية ثانية، خاصة بالعلاقة مع الآخر النصراني، وضعها رسول الله 9 لنصارى نجران ـ عهداً لهم ولكل المتدينين بالنصرانية عبر المكان والزمان ـ وذلك عند أول علاقة بين الدولة الإسلامية وبين المتدينين بالنصرانية. وفي هذا العهد الدستوري كتب رسول الله 9: لنجران وحاشيتها، وسائر من ينتحل دين النصرانية في أقطار الأرض جوار الله، وذمة محمد رسول الله 9، على أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبِيَعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.. أَن أحمى جانبهم وأذبّ عنهم وعن كنائسهم وبيَعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح، وأن أحرس دينهم وملّتهم أين ما كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصّتي وأهل الإسلام من ملتي؛ لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم"([36]).
فبلغت هذه الوثيقة في الاعتراف بالآخر الديني، والقبول به، والتكريم له، والتمكين لخصوصياته، والاندماج معه، مالم تبلغه وثيقة أخرى عبر تاريخ الإنسانية، مع ميزة كبرى، وهي جعلها لهذا التنوع والاختلاف في إطار وحدة الأمة، تجسيدًا لفلسفة الدين الإسلامي في العلاقة بالآخر، وليس على أنقاض الدين كل دين.
المبحث الثالث
القواعد العامة في التعايش
ينبغي ان نثبت مجموعة من الاسس و المبادئ التي تحكم آلية التعايش و التعدد:
أنّ المسلم الذي يعيش في ظلّ دولة إسلامية عليه أن يتعامل مع هذه الظاهرة، كما كان يتعامل معها المسلمون في عصر التشريع حينما كانوا يعيشون في ظلّ دولة إسلامية على رأسها النبيّ 9، أو الإمام المعصوم 7، وفي ذلك تختلف حالة الحرب عن حالة السلم، ولكلّ منهما حكمه الخاصّ المذكور في الفقه.
أمّا المسلم الذي لا يعيش في ظلّ دولة إسلامية، فعليه أن يتعامل مع هذه الظاهرة، كما كان يتعامل معها المسلمون تاريخياً في الفترات الأخيرة، فإنّ هذه الظاهرة كانت ولا تزال من الظواهر الاجتماعية الملاصقة والملازمة للمجتمعات البشرية، فهو أمر لا مفرّ منه .
أمّا الموقف من اتباع الديانات الأُخرى، فيختلف باختلاف هؤلاء الأتباع، فإن كانوا من أهل الكتاب، جرت عليهم أحكام أهل الكتاب، وإن لم يكونوا من أهل الكتاب جرت عليهم أحكام سائر الكفّار، وكلّ ذلك مشروح في الفقه.
ويمكن بيان بعض القواعد وفق الاتي:
قاعدة نفي السبيل:
تعدّ هذه القاعدة إحدى القواعد المهمة والفاعلة في البعد الخارجي والداخلي من الفقه السياسي، في مجتمع متنوع متعدد، وتستلزم (نفي سلطة الكافر على المسلم، وعليه كل عمل من المعاملات والعلاقات بين المسلمين والكفار إذا كان موجبا لتسلط الكفار على المسلمين فإنه لا يجوز شرعا فرديا كان أو جمعيا، فعلى ذلك لا يجوز للمسلم إجارة نفسه للكافر بحيث يكون الكافر مسلطا على المسلم الأجير) ([37]).
قاعدة الدعوة الى الاسلام.
بناء على اصل الدعوة، يجب على المسلم ان يتعامل مع غير المسلمين، حيث يتمكن من دعوتهم وتعريفهم بالإسلام، من دون اجبار او اكراه.
قاعدة التراحم و تأليف القلوب:
واحد من الموضوعات و الاصول التي تحكم المجتمع الاسلامي في علاقته مع اتباع الديانات الاخرى، مبدأ التراحم والتآلف، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾([38]).
قاعدة الاحسان.
يقول رسول الله 9: (اصطنع الخير إلى من هو أهله والى من هو غير أهله فإن لم تصب من هو أهله فأنت أهله)([39]). فالإحسان سبب وحدة المجتمع وتعايشه.
قاعدة العدل و المساواة.
يقول الرسول 9: (من سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)([40])، ففي هذه الرواية اوجب النبي 9 جواب استغاثة جميع الناس، (المسلم وغير المسلم)، فالعدالة هي هدف الانبياء ولا سيما النبي الاكرم 9.
قاعدة الوفاء بالعهد والعقد والشرط:
هي من القواعد المعروفة الّتي تطابقت آراء الفقهاء على الأخذ بها، في مقام استنباطهم للأحكام الشرعية. ومفادها أنّ المسلم ملزم شرعاً بكلّ ما ألزم به نفسه للآخرين، والتزمه لهم، والإنصاف أنّ القاعدة في كمال الاعتبار والوثوق بصدورها عن النبيّ 9 والأئمّة عليهم السلام.
معنى القاعدة هو لزوم الوفاء بالشرط، فالقاعدة تتكوّن من شطرين:
الشطر الأوّل: تسلّط المؤمنين على الاشتراط، فيتسلّط المتعاملان على جعل الالتزام والتعهّدات الّتي نسمّيها بالشروط.
والشطر الثاني: وجوب العمل بمقتضى الشرط، فيجب على المتعاملين العمل بما تعهّدا به من الشروط السائغة. فيجب على كلّ مسلم إذا التزم لشخصٍ بأمرٍ له الوفاءُ له بذلك الأمر، وذلك من جهة وضوح أنّ هذه الكبرى الكلّيّة الصادرة عنه9 في مقام إنشاء الحكم، لا الإخبار عن أمر خارجيّ، فقوله 9: "المسلمون عند شروطهم"([41]) أي: جميع المسلمين, لأنّ الجمع المعرّف باللّام يفيد العموم، فهو 9 يحكم على جميع المسلمين بلزوم الثبوت عند جميع شروطهم. والمراد من الثبوت والاستقرار، فعن رسول الله 9: (لا دين لمن لا عهد له(([42]).
وعن الرسول 9: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد»([43]). فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصّة بين الأفراد في القضايا الاقتصادية والمعاشية، وفي العمل والزواج، وهو يشمل أيضاً المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب مما تخلق حالة من التعايش.
الخاتمــــة
ليس هنالك أي مانع للتوسع في استخدامه في ساحة العلاقات الاجتماعية بين أتباع الديانات المختلفة وبخاصة المقيمين في دولة واحد.
تجلت في سيرة النبي محمد 9 اروع صور التعايش مع الآخر وهي كافية لجميع الأحوال والأزمان, وتمثل تلك الصور منهجا ونبراسا للمسلمين في علاقتهم مع الآخر, ليكونوا في مقدمة الأمم في الدعوة إلى السلام والتعايش السلمي مع مختلف الأمم والطوائف, وذلك بالتزامهم بثوابت الإسلام ومبادئه التي تدعو إلى الخير والبر والتعاون مع الآخر في إطار من الاحترام المتبادل.
مبدأ التعايش السلمي في الإسلام ينطلق من قاعدة عقائدية وتشريعية.
نبذ التعصب يسهم في بناء المجتمع، لان العصبية من الجاهلية التي حاربها رسول الله 9، حتى وهو على يقين بهداه، وهو على يقين بضلال المشركين.
التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف هو سنة إلهية كونية مطردة في سائر عوالم المخلوقات. وأن هذه التعددية هي في إطار وحدة الأصل الذي خلقه الله سبحانه وتعالى.
(*) كلية الفقه ـ جامعة الكوفة.
* هوامش البحث *
([1]) سورة البقرة:119.
([2]) سورة النساء: 80.
( ( [3] المعجم الوسيط، مجموعة من العلماء، دار النشر: دار الدعوة، تحقيق: مجمع اللغة العربية، ج 2ص 639.
([4] ) مشكلة الحرب والسلام: مجموعة من أساتذة معهد الفلسفة وأكاديمية العلوم بالاتحاد السوفيتي، ترجمة: شوقى جلال وسعد رحمي، دار الثقافة الجديد بمصر، بدون تاريخ، ص 210.
([5] ) السيرة النبوية لابن هشام 1/133.
([6]) سفن م . سبينجيمان، ثمن الحرية الخفي: تأطير عراقيل التعايش الاقتصادي، بحث منشور في كتاب تخيل التعايش معا، تحرير أنطونيا تشايز ومارثا ميناو، ترجمة فؤاد السروجي، ط 3، عمان الأردن، الأهلية للنشر ـ والتوزيع، 2006، ص 383
([7]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، رقم الحديث: 39 .
([8]) سورة الحجرات / 13 .
([9]) سورة آل عمران: 64.
([10]) د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري، الاسلام و التعايش، موقع الموسوعة الاسلامية.
([11]) سورة الممتحنة: 8 و 9.
([12]) سورة سبأ: 28.
([13]) عبد العظيم المهتدي البحراني، ص 101.
([14]) ابن ابي جمهور الاحسائي، عوالي الئالي، ص 129، وانظر: الشيخ المجلسي، بحار الانوار:72/38.
([15]) سورة سبأ: 24.
([16]) كنز العمال، 3/510.
([17]) رياض السالكين، ص 610.
([18]) انظر: عبد العظيم المهتدي البحراني، الوحدة الاسلامية، ص 28.
([19]) سورة البقرة:256.
([20]) سورة الغاشية: 21 ـ 22.
([21]) سورة يونس: 99.
([22]) سورة المائدة: 48.
([23]) سورة الاخلاص: 1 ـ 4.
([24]) محمد عمارة، فلسفة الإسلام في التعايش مع الآخر الديني والثقافي، ص26.
([25]) سورة النساء:1
([26]) سورة هود:118 ـ 119.
([27]) سورة المائدة:48.
([28]) سورة البقرة:148.
([29]) سورة البقرة:143.
([30]) انظر: مسند احمد
([31]) سورة فصلت:34.
([32]) سورة البقرة:251.
([33]) محمد عمارة، فلسفة الإسلام في التعايش مع الآخر الديني والثقافي، ص 35.
([34]) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة، محمد حميد الله، القاهرة 1956م، ص15.
([35]) محمد عمارة، مصدر سابق.
([36]) مجموعة الوثائق السياسية، لمحمد حميد الله، ص123 ـ 128.
([37]) السيد محمد كاظم المصطفوي ،مائة قاعدة فقهية ـ ، 293.،وانظر: السيد البجنوردي القواعد الفقهية.
([38]) سورة التوبة: 60.
([39]) عيون اخبار الرضا: 2/38، وانظر: المحدث النوري، مستدرك الوسائل:12/348.
([40]) الحر العاملي، وسائل الشيعة:15/141.
([41]) الكليني، الكافي: 5/404.
([42]) الشيخ المجلسي، بحار الانوار: 72/96.
([43]) الشيخ الكليني، الكافي: 2/364.
* المصادر والمراجع *
القران الكريم خير ما نبتدئ به.
إبن أبي الجمهور ،محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي: عوالي اللألي العزيزية في الأحاديث الدينية ،مطبعة سيد الشهداء ،قم، إيران، ط1، 1403 هـ ـ 1983م
. الاسلام و التعايش، د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري،، موقع الموسوعة الاسلامية.
بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، المجلسي: محمد باقر بن المولى محمد تقي (ت: 1111 هـ)، طبع مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2، 1403 هـ
التعايش معا، تحرير أنطونيا تشايز ومارثا ميناو، ترجمة فؤاد السروجي، ط 3، عمان الأردن، الأهلية للنشر ـ والتوزيع، 2006 .
ثمن الحرية الخفي: سفن م . سبينجيمان، تأطير عراقيل التعايش الاقتصادي، بحث منشور في كتاب تخيل
تفصيل وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة، العاملي :الشيخ محمد بن الحسن الحر (ت: 1104هـ) / ط2 / مؤسسة آل البيت : لأحياء التراث / قم / 1414هـ . رياض السالكين، السيد علي خان المدني.
ا مئة قاعدة فقهية – معنىً ومدركاً ومورداً، المصطفوي: السيد محمد كاظم ،مؤسسة النشر الأسلامي / قم . السيرة النبوية، ابن هشام .
صحيح البخاري، دار احياء التراث، بيروت (د.ط) (ب.ت).
صحيح مسلم. دار الفكر طبعة مصححة، بيروت، (د.ط)، (ب.ت).
عيون اخبار الرضا.
في التعايش مع الآخر الديني والثقافي ،محمد عمارة، موقع فلسفة الإسلام.
القواعد الفقيه، السيد البجنوردي.
الكافي، محمد بن يعقوب الرازي الكليني ت 328هـ، تح: علي اكبر غفاري، مطبعة حيدري، دار الكتب الإسلامية، ط4 – 1365 .
كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي ت975 هـ، تح محمود عمر الدمياطي، دار الكتب العلمية – بيروت ط1، 1419 هـ ـ 1998
مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، لمحمد حميد الله، القاهرة 1956 م.
مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل: حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي ت 1320 هـ: تح ونشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم، ط2 – 1408هـ
مسند احمد، احمد بن محمد حنبل الشيباني ت 241هـ، المكتب الإسلامي ودار صادر – بيروت.
مشكلة الحرب والسلام: مجموعة من أساتذة معهد الفلسفة وأكاديمية العلوم بالاتحاد السوفيتي، ترجمة: شوقى جلال وسعد رحمي،دار الثقافة الجديد بمصر.
المعجم الوسيط، مجموعة من العلماء، دار النشر: دار الدعوة، تحقيق: مجمع اللغة العربية.
الوحدة الاسلامية، عبد العظيم المهتدي البحراني.