الباحث : الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء / تحقيق : الشيخ عامر الجابري
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 1
السنة : السنة الاولى - شعبان 1435هـ / 2014م
تاريخ إضافة البحث : April / 10 / 2017
عدد زيارات البحث : 1035
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
وبعد:
مما جرت عليه العادة بين كثيرٍمن الفقهاء هو أن يعمد أحدهم إلى تصنيف رسالة في أصول الدين، تكون من باب المقدمة والتمهيد لما يصنفه ذلك الفقيه في المسائل الفرعية والأحكام الشرعية، ولعل منشأ هذه العادة هو أن أولئك العلماء كانوا يرون أن وظيفتهم الشرعية غير منحصرة في استنباط الفروع وإصدار الفتاوى، بل تتسع لتشمل العديد من الأبعاد والدوائر الدينية الأخرى، ومنها المحافظة على عقائد المؤمنين من خلال تزويدهم بالأدلة والبراهين التي من شأنها أن ترسخ تلك العقائد في قلوبهم وتنفي عنها غبار الشبهات.
وعلى أي حال، فيظهر أن الرسالة التي بين أيدينا قد صنفها الشيخ جرياً على تلك العادة، حيث يقول في مقدمتها: (فهذه وجيزة فيما يجب على عامة المكلفين من أصول الدين، مع الإشارة إلى ما به الإقناع من البراهين المورثة للعلم واليقين، طلباً لتعميم النفع بها لعامة المؤمنين. وقد جعلتها مقدمة لما كتبناه في المسائل الفرعية والأحكام الدينية...).
وعلينا الآن أن نبدأ بترجمة خاطفة ونبذة مختصرة عن المصنف، ثم نثني بما لا بد لنا من ذكره حول هذه الرسالة.
أولاً: الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في سطور:
هو الشيخ الفقيه العبقري المصلح محمد الحسين بن الشيخ علي بن محمد رضا بن موسى بن الشيخ جعفر الكبير صاحب كتاب كشف الغطاء بن الشيخ خضر بن يحيى بن سيف الدين المالكي الجناحي النجفي.
فهو ينتسب إلى قبيلة بني مالك النخعية التي ينتهي نسبها إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر النخعي من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) و خلص أصحابه.
وينحدر المترجم له من عائلة علمية معروفة في العراق وخارجه هاجر جدها الأعلى الشيخ خضر بن يحيى إلى النجف الأشرف منذ ثلاثمائة سنة تقريبا من جناجة بلدة في جنوب الحلة وأنجب أربعة أبناء منهم الشيخ جعفر الشهير.
ولد في النجف الاشرف عام 1295هــ الموافق 1878 م وأرخ ولادته الشاعر السيد موسى الطالقاني:
وبشر الشرع مذ أرخوا ستثنى وسايده للحسين
شرع الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء بدراسة العلوم الحوزوية وهو في سن مبكر من عمره، فحضر دروس المنطق والنحو والبلاغة، وكذا الرياضيات من الحساب والهيئة وأضرابهما وأتم دراسة سطوح الفقه والأصول وهو بعد شاب , ثم أخذ يحضر حلقات البحث الخارج في الفقه والأصول،فحضر على جملة من أعلام عصره كالسيد كاظم اليزدي صاحب (العروة الوثقى) , والشيخ محمد كاظم الخراساني (صاحب الكفاية) و الفقيه ملا رضا الهمذاني صاحب (المصابيح)، والسيد محمد الأصفهاني المحقق, والميرزا محمد تقي الشيرازي. وتتلمذ في الحكمة والكلام على المرحوم الميرزا محمد باقر الاصطهباناتي والشيخ احمد الشيرازي والشيخ محمد رضا النجف آبادي، وكان هؤلاء من فحول المتكلمين والرياضيين.
وفي عام 1338هـ رجع إلى المترجم له في التقليد جماعة من أهل بغداد فعلق على (التبصرة) وطبعت في هامش الكتاب مع تعليقة أستاذه, ولم يزل اسمه يشتهر في الأوساط وتتسع دائرة مرجعيتة شيئاً فشيئاً حتى اضطره انتشار المقلدين في الأصقاع والبقاع إلى نشر الرسائل العملية فطبعت له ( وجيزة الأحكام ) رسالتان صغرى وكبرى فارسية وعربية و(السؤال والجواب) عربي طبع كراراً و(زاد المقلدين) فارسي تكرر طبعه في النجف وخراسان، وحاشية (التبصرة) وحاشية (العروة الوثقى) وعلق على (سفينة النجاة) لأخيه الشيخ أحمد وعلى (عين الحياة) الفارسي وله (مناسك الحج) اثنان عربي وفارسي وحاشية على (مجمع الرسائل) فارسي أيضاً إلى غير ذلك.
عرف الشيخ محمد الحسين آل الكاشف بالإمام المصلح؛ وذلك نظراً لمواقفه الإصلاحية والوطنية المعروفة، وكان يرى : (أن وظيفة العالم لا تنحصر بالفتوى فقط، بل من أهم وظائفه الإرشاد والإصلاح)، ومن مواقفه تلك:
1 ـ إخماد فتنة عبد الرزاق الحصان عام 1351 هـ في كتابه «العروبة في الميزان» الذي طعن في العلويين وشيعتهم ومجّد الأمويين ودولتهم وأحدثت هياج في بغداد والعتبات المقدسة وبعض مدن العراق وخاصة في النجف الأشرف.
2 ـ إبطال العادات المؤذية والمنكرات التي كانت تحدث في العراق في العشرة الأولى من شهر ربيع الأول من كل عام. عام ١٣٥٣ ه.
3 ـ إخماد ثورة عشائر الفرات عام ١٣٥٣ هـ حيث تم على يديه إيقاع الصلح بين العشائر الثائرة و الحكومة بعد أن وعدته الأخيرة بتلبية مطالب الثوار.
٤ ـ منع الشغب والمظاهرات التي حدثت في وزارة نور الدين محمود.
٥ ـ موقفه من مؤتمر بحمدون تحت رعاية الولايات المتحدة الامريكية وكتب في ردّهم « المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون ».
فاض قلمه المبارك بنحو من ثمانين كتاباً في مجالات شتى، كالفقه والأصول والحكمة والكلام والأخلاق والتاريخ والأدب، ومن أشهرها كتابه ( تحرير المجلة)، الذي كتبه استدراكاً على (مجلة الأحكام العدلية) المقرر تدريسه في كلية الحقوق جامعة بغداد، ثم كتابه الآخر (المراجعات الريحانية) والذي تضمن مجموعة المراسلات التي جرت بينه وبين أمين الريحاني، والتي أعجبت قراء العربية على اختلاف نحلهم، ثم كتابه الثالث (أصل الشيعة وأصولها) والذي طبع مراراً وتكراراً.
والحديث عن مؤلفات المترجم له حديث طويل لا تسعه هذه العجالة، وما هذه الرسالة التي بين أيدينا إلا رشحة من رشحات قلمه المبارك وغيض من فيض علمه.
اجتمعت في بدنه في أواخر عمره عدة أمراض وأسقام واشتد عليه المرض فسافر إلى بغداد ودخل المستشفى فبقى شهراً ثم رجح له البعض الرواح إلى كرند فقصدها في صباح الجمعة 16 تموز ـ 15 ذي القعدة 1954م ـ 1373هـ، و توفي بها بعد صلاة الفجر يوم الاثنين 19 تموز 1954م ـ 18 ذي القعدة 1373هـ ونقل جثمانه إلى النجف الاشرف ودفن في وادي السلام.
مصادر الترجمة:
1 ـ عبقرية الإمام كاشف الغطاء، للعلامة الشيخ عبد الحليم آل كاشف الغطاء.
2 ـ طبقات أعلام الشيعة، للشيخ آغا بزرك الطهراني.
3 ـ هكذا عرفتهم، لجعفر الخليلي.
4 ـ أحسن الوديعة في تراجم أشهر مشاهير مجتهدي الشيعة، لمحمد مهدي الموسوي الاصفهاني.
5 ـ ماضي النجف وحاضرها، لجعفر آل محبوبه.
6 ـ شعراء الغري والنجفيات، لعلي الخاقاني.
7 ـ هكذا قرأتهم، للشيخ عبد الهادي الفضلي.
8 ـ معجم رجال الفكر والأدب في النجف، للأميني.
9 ـ معجم مؤرخي الشيعة، لصائب عبد الحميد.
ثانياً : حول الرسالة:
قسّم المصنف رسالته هذه إلى مقدمة وستة فصول وخاتمة، أما المقدمة فقد اشتملت ـ بشكل مكثف جداً ـ على التعريف بهذه الرسالة و بيان الهدف من كتابتها، وأما الخاتمة فقد جعلها (فيما يتعلق بأصول الدين من الأحكام الشرعية تكليفية ووضعية فرعية وغير فرعية)، ولكن مع شديد الأسف أن هذه الخاتمة غير تامة، ولم يتبق منها سوى عشرة سطور (1)، وفي الحقيقة أننا نجهل فيما إذا كانت البقية قد فقدت لسبب ما، أو أن المصنف لم يستطع إتمامها لعارض معين.
وأما فصولها الستة فهي كما يلي:
الفصل الأول : في إثبات الصانع جل شأنه.
الفصل الثاني: في توحيد الصانع جل شأنه ونفي الشريك عنه.
الفصل الثالث : في العدل.
الفصل الرابع: في النبوة.
الفصل الخامس: في الإمامة.
الفصل السادس: في المعاد.
نسختها:
لهذه الرسالة نسخة واحدة مكتوبة بخط المصنف، تفضل بها نجله الوجيه فضيلة الشيخ شريف الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وهي محفوظة في خزانة مخطوطات مكتبته العامة، بتسلسل 1160، طول: 21،5/ عرض: 16،5/ الأسطر: مختلفة من 21 ـ 23/ عدد الاوراق: 11 ورقة.
عملنا في هذه الرسالة :
وأما عملنا في هذه الرسالة فيتلخص بالخطوات التالية:
1 ـ تخريج الآيات القرآنية بذكر اسم السورة ورقم الآية.
2 ـ تخريج الروايات المذكورة في المتن لفظاً أو معنىً، أو المشار إليها بإرجاعها إلى مصادرها الأصلية، كما أرجعنا الآراء والأقوال المقتبسة إلى مصادرها بحسب المستطاع.
3 ـ شرح المفردات الغريبة في ضوء معاجم اللغة.
يا معين الضعفاء أعن أضعفهم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الذي دل على ذاته بذاته، وبهر العقول بعجائب مخلوقاته، وأفضل صلواته وتحياته على أفضل من صدع بآياته، محمد سيد أنبيائه، وأكرم أمنائه، وعلى عترته وخلفائه، والصفوة الأطهار من أوصيائه.
وبعد:
فهذه وجيزة فيما يجب على عامة المكلفين من أصول الدين، مع الإشارة إلى ما به الإقناع من البراهين المورثة للعلم واليقين، طلباً لتعميم النفع بها لعامة المؤمنين.
وقد جعلتها مقدمة لما كتبناه في المسائل الفرعية والأحكام الدينية، وتتميماً للإفادة، وطلباً من الله أن يمنّ علينا بالحسنى وزيادة، وأسأله بمنّه أن ينفعنا بها وجميع المؤمنين، إنّه أرحم الراحمين.
اعلم أن الكلام في أصول الدين يقع في مقدمة وفصول وخاتمة:
الفصل الأول
في إثبات الصانع جل شأنه
فنقول ثبتّنا الله وإياك بالقول الثابت: إنّ جميع البراهين الفكرية، والأدلة النظرية، لابد وأن تنتهي إلى المطالب الضرورية والأمور الحسية البديهية، وإلا فلا ثمرة بها ولا كفاء ولا غنية.
وهذا الحكم، أعني أنّ للعالم صانع غير مصنوع، موجود بذاته، غني عن غيره، قائم بنفسه، مستغنٍ عن كل شيءٍ، محتاج إليه وقائم به كل شيء، من الأحكام الضرورية، والأمور البديهية.
ونعني بالبديهي والضروري: هو ما يكون نفس تصوره كافٍ في الجزم والتصديق به، كالحكم بكون الواحد نصف الاثنين، فإن تصور أطراف هذه القضية، واستحضار معاني مفرداتها، من الواحد والاثنين والنصف كافٍ في الحكم المذكور من دون توسيط صغرى وكبرى، والانتقال منهما إلى قضية أخرى، وكذلك ما نحن فيه، فإن تصور معنى العالم، وأنه ليس هو إلا عبارة عن هذه الأجزاء الموجودة بعد العدم، التي ما وضع شيءٍ منها قدماً فيمراحل القِدم، وتصور معنى الصانع من حيث صفة الصنع، كافٍ في الحكم المزبور.
وهل يكون بناء من غير بانٍ، أو جناية من غير جانٍ أو زرعٍ من غير زارع، أو صنع بلا صانع؟!
ذلك قول الذين كفروا بأفواههم، بل قول عادمي العقول من المجانين وأشباههم.
والحكم بثبوت الصانع (جل مجده)، هي الفطرة التي فطر الناس عليها، ودعت ضرورة العقول إليها، وقد عرفت انها مما يجب على الله (جل شأنه) أن يلهمها لعباده،فالجاحد أنّى يجحد مقتضى فطرته وغريزة جبلته، وإن أردت مع هذه البداهة برهاناً فهو أيضاً واضح يهتدي إليه كل سليم الطبع، لم تعرضه آفة الرين والطبع، إذ كل أحد يتحسس من نفسه ضرورة أنه وجد بعد أن كان معدوماً، وإن المعدوم لا يؤثر في إيجاد نفسه، وإن جميع الخلق من أبيه وأمه وغيرهم ضعفاء مثله، وليس في يد أحدهم عقد خلقه وإيجاده ولا حلّه، فيحكم البتة إذا كان ذا رأي قاطع وفكرة بتة أن له ولهم صانعاً غير ضعيف ولا محتاج ولا مسبوق بالعدم، إذ لو كان كذلك لكان مثلهم، ولاحتاج إلى صانع كاحتياجهم، فزعم أنهم محتاجون إليه مع حاجته في نفسه لغيره ليس بأولى من العكس.
وهذا برهان أقطع من شفرة السيف، وأسطع من الشمس في ظهيرة الصيف، فإن دافعه المكابر، أو أنكره المخادع المناكر، فذاك ممن طُبع على قلبه، وحجبه استغراقه في هواه وذنبه عن ربه.
وهؤلاء وأمثالهم من منكري الضروريات ليس لهم إلا السيف أو السكوت جواب، وآية السيف هنا تثبيت آية الكتاب.
ومن هنا تعرف سر مخاطرة نبينا سيد الكائنات بنفسه و بأعزة أهليه وأصحابه على الحروب والغزوات بعد إقامة الحجج والبينات، وإبانة الفلج بالمعجزات.
وبالجملة فإن نال طالب اليقين بهذا المقدار الذي ذكرناه مراده فالحمد لله، وإن لم يكتف وطلب الزيادة، فقل له أي شيءٍ أكبر من الله شهادة، وحينئذ جاز له بل وجب عليه الرجوع إلى ما ذكره الحكماءفي هذا المقام، متدرجاً من الأسهل فالأسهل إلى أن يحصل له اليقين والجزم، وأحسن البراهين البرهان الأسدّ الأخصر الذي ذكره بعض الحكماء الراسخين شكر الله مساعيهم الجليلة(2).
ولا يجب على المتكلم الخوض فيما بسطه الحكماء والمتكلمون، من مباحث الجواهر والأعراض والعلل والمعلولات والهيولى والصورة إلى غير ذلك من المباحث الطويلة، فإن ذلك كله كمال وفضل، لا فرض وأصل.
والله يهدينا وإياك إلى سواء السبيل، إنه نعم المولى ونعم الكفيل.
الفصل الثاني
في توحيد الصانع جل شأنه ونفي الشريك عنه
فنقول: إنّ هذه المسألة نظرية على التحقيق، إذ نفس تصورها لا يكفي في حصول التصديق بها، بل يتوقف ذلك على توسيط دليل وبرهان، والنظر في آية وتبيان، ولكن هذا المقصد على غموضه هو أيضا من أوضح المقاصد، إذ:
وفي كل شيءٍ له آية تدل على أنه واحد
فلو تأملت في نفسك التي بين جنبيك، وتفكرت في جسمك الذي هو محط عينيك، فضلاً عن أن توجّه حواس الإدراك إلى عجيب صنع الأفلاك، وما أحاطت به الأرضون والسماوات من عجائب المخلوقات، واختلاف الليل والنهار، واستقامة سير الفلك الدوار، وما للشمس في الأرض من عجائب الآثار، وتربيتها للمعادن والحيوانات والأشجار، وما يترتب على حركتها من الفصول، وما اشتملت عليه من الحكم والأسرار في الطلوع على الناس والأفول، وبالجملة فكل شيء يقع عليه بصرك، وكل معنى يتصوره فكرك، إذا دققت النظر فيه، وتوصلت من باديه إلى خافيه، وجدته كتاباً مبيناً ودفتراً بأدلة التوحيد مشحوناً. (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْـخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ الله قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) [النمل: 64].
ففي كل عضوٍ من الإنسان ألف دليل على ذلك وبرهان، وفي كل نفس إلى ذلك النبأ الصادق عدة سنن وطرائق، كيف لا و(الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق)(3)، وجميع أوراق الغصون دفاتر مشحون بأدلّة التوحيد.
ووجه الاستدلال على التوحيد بهذا البيان بحيث يعود إلى البرهان، هو أنّ كلّ من تأمّل واعتبر ودقّق النظر وفكّر في كل جزء من أجزاء العالم الكبير من الحقير والخطير، من الدرّة إلى الذرّة، ومن العرش إلى الثرى، دفتر من كتاب الله التكويني، آية من آياته في أرضه أو سماواته، وعرف حسن موضعها ولزوم موقعها، واحتياج باقي الأجزاء إليها، وتوقّف النظام عليها، وارتباط بعض الأجزاء ببعض وما تعمل السماء وما بها وكواكبها في الأرض، وتوقف حياة أهلها على حياتها، وحلاوة عيشهم بنباتها، إلى غير ذلك ممّا يقصر عنه البيان، ويكلّ دون أقلّه اللسان، وإنّما يأتي عليه المتفكر في نفسه، ويصيبه بقوّة حدسه.
وهكذا لو نظر في العالم الصغير وطبّقه على العالم الكبير، وطابق بين الكتابين الأنفسي والآفاقي، وأجال البصيرة والبصر من العين في الغابر والباقي، واستبطن الظاهر الجلي حتى وصل إلى سره الباطن الخفي، وعرف ما اشتمل عليه أجزاء بدنه من دقائق الحكم، وعجائب الصنع، وغرائب الإبداع، وبواهر الاختراع، وتلطّف حتى رأى بمستحكم الايقان وسرّ العرفان ما روعي فيه من الحكمة والاتقان حتى صارت العين في ملوحة، والاذن في مرارة، والفم في عذوبة، وربطت الجوارح بعضها ببعض حتى بحيث توقف حصول الفائدة من جارحة على حصول فائدة الأخرى، وعاد فقد بعضها موجباً لعدم أخواتها، وإن كانت صحيحة المجرى.
الله عليك إلاّ ما نظرت في عينيك ويديك، فانّك تجدهما في وهلة النظر وجذع الفكر مما لا ربط لأحدهما بالآخر، ولا توقّف في حصول فائدة الأولى على الثانية، إذ فائدة الأولى الإبصار، وفائدة الثانية الأخذ والدفع والقبض والبسط، وليس بينهما علاقة جامعة، ولا بين وجود أحدهما وعدم الآخر مانعة، إذ الأشلّ يبصر، والأعمى عن بسط اليد وقبضها لا يقصر، ولكن إذا حقّقت ودقّقت وتعمّقت في الفكر و[...] وجدت أنّ فائدة كلّ من الجوارح بدون اُختها وبال وحسرة ونكال.
واعتبر في ذلك حال من دخل صحيحاً سوياً إلى بستان قد أثمرت أشجارها، وأينعت ثمارها وحين هشت نفسه وهمّ أن يتناول شيئاً منها، شلّت ـ وما حرسك الله ـ يداه، أو جذمت ـ وما أعاذك الله ـ رجلاه، فعيناه تبصران ويداه ورجلاه تقصران، [...] أو عميت ـ وما أجارك الله ـ عيناه ويداه مبسوطتان، فهل تراه يجتني إلاّ الحسرة أو تزوّد إلاّ الزفرة، وقس على هذا من بدنك سائر الأجزاء وجميع الجوارح والأعضاء، ثم اعتبر من حال هذا العالم الصغير حال العالم الكبير، ولطّف فكرك ورجّع نظرتك وانظر في ارتباط أرضه بسمائه، ونباته بمائه، وحيوانه بانسانه، وشمسه بقمره، وملكه بفلكه، إلى غير ذلك ممّا يختلّ باختلاله النظام ولا يتمّ إلاّ به الصلاح العام.
وحينئذٍ فإذا تفطّن المتدبّر وبلغت فكرة المتفكّر إلى عجيب هذا الصنع والاختراع، وما اشتمل عليه من الحكمة والإبداع، بل لو عرف الحكمة في البعض من ذلك الصنع البديع فضلاً عن الجميع، وتيقّن بمقتضى فطرته وجبلته وبحسب ما دلّه عليه عقله كما استبان لك فيما سبق وجهه، أدّاه ذلك لا محالة إلى الجزم واليقين بحكمة ذلك الصانع ووحدانيته، وأنّه لكمال قدرته لا شريك له ولا معين، إذ لو كان أكثر من واحد لكان لا يخلو بحسب القسمة العقلية الحاصرة من أن يكونا إمّا ناقصين قاصرين معاً بمعنى كون كلّ منهما قاصراً في حدّ ذاته ناقصاً بحسب جوهره عن إنشاء مثل ذلك الصنع وإيجاده في الخارج، أو يكونا معاً كاملين في القدرة بمعنى أنّ في كل منهما بحسب ذاته كفاءة للقيام بهذا الأمر، أو يكون أحدهما كاملاً والآخر ناقصاً، وهذه القسمة الثلاثية حاصرة لا سبيل إلى تربيعها أبداً.
أما الثاني والثالث فلا سبيل إلى القول بهما أصلاً لما تحكم به ضرورة العقول من أنّ المعونة والمشاركة إنّما تقتضيها الحاجة ويستدعيها النقص والفاقة، وحيث لا نقص ولا حاجة فلا معونة ولا مشاركة، وإلاّ كان عبثاً والبحث لا يقع من الحكيم، وقد فرضناه وعرضناه بحسب عجيب صنعه حكيماً، فلا يمكن تطرّق البحث إليه، وحينئذٍ فالكامل في الصورتين هو المتفرّد بالصنع ولا حاجة به إلى كامل سواه فضلاً عن الناقص.
وأمّا الأوّل فهو أوضح في الفساد من تالييه، إذ ليست الحاجة إلاّ النقصان، والحاجة تستلزم الإمكان أو هي عين الإمكان، وحينئذٍ فالناقصان المفروضان يندرجان في عداد الممكنات، ويخرج عن الوجوب ما فرضناه واجباً بالذات، أعني به ما أدّانا إليه النظر الثاقب من لزوم الصانع الواجب، كما عرفت في المقدمة والفصل الأوّل.
ومن جميع ما ذكرنا هنا يستبين لك الوجه في الحث على التفكر في آيات الله جلّت عظمته، والنظر في ملكوت السماوات والأرض من الآيات والروايات، حتى استفاض في الأخبار أنّ تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين(4). وذلك أنّ التفكّر طاعة النفس والعبادة طاعة البدن، والفرق في الشرف بين هذين الطاعتين كالفرق بين الطابعين، والنفس جوهر مجرد من عالم الملكوت الأعلى، والبدن من المواد الداثرة السفلى، وأين المادي من المجرد والفاني من المؤيد.
ثم إنّ ها هنا تتمة مهمة، وهي انّ الطرق إلى الله وتوحيده ـ جلّت عظمة تمجيده ـ وإن كانت عند أرباب الحقائق بعدد أنفاس الخلائق، ولكنها مرجعها إلى ثلاثة على التعيين، كما ذكرها جلّ ذكره في كتابه المبين حيث قال عزّ من قائل:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (5).
فالأوّل هو التدرب في معارج المعرفة والإيمان الحاصل من الترقي في مدارج العمل وتهذيب النفس بتخلّيها من الرذائل وتحلّيها بالفضائل، وهو نوع من الدلالة ينتهي إلى ما هو أقوى من المشاهدة والمعاينة لمن كان من أهل الأسماع والأبصار الباطنة، وهذا لا يحصل غالباً إلاّ بتربية ولي من أولياء الله المعصومين والأمثل فالأمثل ممن اهتدى بأنوارهم، واقتبس من أشعة آثارهم، وهذا شامخ مقام من عوالم الغيوب، تكلّ عنه الألسنة والأقلام، وتعرفه القلوب.
در آن جائى كه نور حق دليل است ﭼـه جاىﮔـفتـﮔوى جبرئيل است
الثاني: التفكر في الآيات والآثار بصريح العقل وصحيح الاعتبار، وهذا ممّا يفيد العلم واليقين غالباً للمعتبر المفكّر لخصوص ذاته، وانّه يقدر على دفع الشبهات ودفع الخصم بإقامة الحجج والبينات، وهو طريق الموعظة الحسنة، وتدخل فيه البراهين الاقناعية، ممّا يفيد العلم والقطع لمن كان من أهل السلامة والاستقامة من متعارفي الناس وأوساطهم.
الثالث: المجادلة بالتي هي أحسن، وهو طريق الجدل بالبراهين الحقّة لا بالجدليات والمغالطات ونظائرها من الشعريات وغيرها، وما ذكرناه من التوصّل إلى وحدانية الله بالتفكر في آياته وإن أرجعناه إلى البرهان المحكم والدليل المسلّم القاطع لحجة الخصم، ولكنّه على وجهه وتقاريره يعدّ من طريق الموعظة الحسنة الذي يفيد العلم واليقين، وانّه يوجب الاقتدار على رفع شبهات الشكاكين والجاحدين.
والمهم في هذه الوجيزة هو ذكر خصوص ما يوجب الاعتقاد الصحيح، وإن حصل منه ما يقتدر على دفع شبه الجاحدين وردّ المعاندين، فذاك تفضّل من فضل الله ونعمته، وتوسعة من سعة رحمته.
وحينئذ فإن حصل لك التأمل فيما أشرنا إليه بهذا البيان فنعم المطلوب، وإن أبيت إلا من البرهان والدليل الاصطلاحي على وجه لا يحتاج إلى تلك المقدمة من التفكر في المصنوعات والنظر في الآيات، ويكون اقرب في الوصول إلى المقصود من ذلك الوجه ولكن على طريق المجادلة بالتي هي أحسن على وجه يكون قاطعا للخصم مفحماً له (بعون الله).
فنقول:إنّ أهل الله قد أقاموا على توحيده من البراهين ما لا تسعه الدفاتر والدواوين، ونحن نذكر لك برهاناً واحداً من أوضحها وأنقحها.
فاعلم أنه لو كان في الوجود واجبان أو أكثر لكانا مشتركين في وجوب الوجود البتة تحقيقاً للإلهية، ولو كانا كذلك لوجب أن يمتاز كل منهما عن الآخر بصفة ليست في شريكه تحقيقاً للاثنينية، وإلا لما كانا اثنين، ولو كان الأمر كذلك، أعني كونهما مشتركين في شيءٍ ممتازين، جاء التركيب، وإذا جاء التركيب بطل الوجوب، إذ التركيب مستلزم للحاجة، والحاجة مستلزمة للإمكان، بل هي بالنظر الأدق عين الإمكان،وحينئذٍ فقد صار ما فرضناه واجباً ممكناً، وهذا خلف.
وأيضاً فتلك الصفة المشتركة على كل حال أما أن تكون صفة نقص أو صفة كمال، وعلى التقديرين، فقد صارا ناقصين محتاجين، أما على الأول فواضح، وأما على الثاني فلأن كل منهما صفة الكمال التي اختص بها اختص بها الآخر، فإذا جاء النقص جاءت الحاجة والفقر والفاقة، وواجب الوجود بالذات يستحيل عليه تطرق النقص من جهة من الجهات، فقد صار الواجب ممكناً وهو فاسد فساداً بيناً.
فإن حصل لك الإيقان من هذا البرهان، فاحمد الواحد المنان، وإن عرضت لك فيه الشكوك والشبهات، وجب عليك الخوض في كتب القوم ـ بقدر الحاجة ـ متدرجاً من الأسهل فالأسهل إلى أن يحل لك اليقين (إن شاء الله)، ولا يجب التعرض ابتداء لما يرد عليه من الشكوك والمناقشات بعد حصول اليقين منه.
نعم، يجب ذلك كفاية على كافة المسلمين، لدفع شبهة الزنادقة والملحدين، وهوفي نفسه كمال بل أعظم كل كمال لمن سدده الله وأيده بلطفه ومعونته، جعلنا الله منهم بمنّه ورحمته.
]الصفات الثبوتية والسلبية[:
ثم إذا استيقنت عرفاناً وكملت إيقاناً بوحدانية واجب الوجود جلت عظمته، وعرفت معنى وجوب الوجود تحققاً وشهوداً، لا تلقفاً وتقليداً، يظهر لك يقيناً وعياناً، ويستبين عندك وجداناً، وجوب كونه جلت وتقدست أسماؤه، مستجمعاً لصفات الجمال والجلال والتقدس والكمال، أعني بذلك ما هو المعروف من الصفات الثبوتية والسلبية.
فالأولى: هي الصفات الثمانية من (القدم): وهو الأزلية والأبدية وتجمعها (السرمدية)، ثم (العلم) وهو فيه ـ جل شانه وبهر سلطانه ـ عبارة عن حصول الأشياء عنده،وحضورها لديه، وشهوده لها جزئيها وكليها (مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) (6)، وليس هو بمعناه المعروف عند أرباب الفنون الرسمية، الذي يرجع حاصله إلى إحدى المقولات من الفعل أو الانفعال أو الكيف، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ثم (القـدرة) وهي الاختيار بمعنى إنه إذا شـاء فعل ، لا بمعنى صحة الفعل والترك لما فيه من الخلل الذي لا يسعه المجال.
وهذه الثلاثة(7) هنّ أمهات الصفات والباقي كله من الصفات الثبوتية والسلبية راجع إليها.
فأما الخمسة الباقية من الثبوتية فهي: (الحياة) و(الإرادة) و( الإدراك) وهما راجعان إلى العلم، نعم، تعدان في مقابله بنحو من الاعتبار، ثم (الكلام) و(الصدق) وهما راجعان إلى القدرة بنحوٍ من الاعتبار أيضاً، فهذه هي الثبوتية الثمانية عند المتكلمين.
وأمّا السلبية فسبعة: (نفي التركيب)، ثم (نفي الجسمية والعرضية)، ثم (نفي محليته للحوادث)، ثم (نفي الرؤية)، ثم (نفي الشريك)، ثم (نفي الأحوال)، ثم (نفي الاحتياج).
وكل هذه الصفات وغيرها، ثبوتيها وسلبيها،فرعيها وأصليها، ذاتيها وعرضيها، من صفات الفعل أو صفات الذات، جميع ذلك مما يقتضيه ويستدعيه وجوب الوجود، بحيث إذا تم كونه واجب الوجود بالذات، لزمته لزوماً بيناً جميع تلك الصفات.
ثم لا يذهب عليك ـ أحسن الله مذهبك ـ انّ صفات الله جلّت عظمته منتزعة من حاق ذاته ونفس إنيّته ووجوده لا من أمر زائد عليها، وإلاّ لزم تعدّد القدماء أو تركّب الواجب والممكن وهو بديهي الفساد، ومخالفونا لما قالوا بزيادة صفاته على ذاته عاد مذهبهم إلى مذهب الملاحدة، ووقعوا في الجحود أو الشرك ـ والكفر ملّة واحدة ـ حيث التزموا بتعدّد القدماء الثمانية، والآلهة إذا تعدّدت كانت كلها ساقطة، بل الحق الصريح والمذهب الصحيح الذي قامت عليه البراهين المحكمة، وصرّحت به على الاستفاضة أخبار أهل بيت العصمة، واتفقت عليه جميع الحكماء الراسخين، واعترفت قاطبة العرفاء، كون صفاته ـ تقدّس عن الاكتناه قدس ذاته ـ زائدة على الذات المقدسة في الاعتبار العقلي والتحليل الفكري، لا في العين والخارج والحقيقة والواقع، فهو جلّ شأنه وبهر سلطانه عالم بذاته لا بعلم زائد، وقادر لا بقدرة زائدة، وسميع لا بسمع، وبصير لا ببصر، وفاعل لا بآلة، ومدرك لا بحاسّة... (هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْـمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْـمُؤْمِنُ الْـمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْـجَبَّارُ الْـمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ) (8).
وههنا مباحث ومطالب جليلة، فيها خيرات جزيلة لا يناسب المقام ذكرها، حيث أن القصد كان لبيان خصوص ما يجب على عامة المكلفين اعتقاده، ويكفيهم في هذا المقام اعتقاد أنه (جلّ وعلا) متصف بكل جميل، منزه ومقدس عن كل قبيح، وسبيل اليقين بذلك كلّه مستبين لك من اليقين بوجوب وجوده ووحدانيته.
ومن أراد الترقي في مدارج اليقين والمعرفة، والصعود في هذه المعارج من غرفة إلى غرفة، فعليه بعد الإخلاص والمواظبة على آداب الشريعة المقدسة باستفادة تلك المعارف من أهلها، وطلبها من محلها، والله هو الموفق والمعين (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ) (9).
الفصل الثالث
في العدل
بمعنى وضع الشيء في محله، وإعطاء الحق لمستحقه، وهذا معنى ما يقال: (بالعدل قامت السموات وثبتت الأرض)(10)، و(العدل ميزان الله بين خلقه)(11).
وجملة القول هنا: إنّ كل فعل عرضته على العقل، فإمّا أن ينفر منه أو لا، والأول: هو القبيح، والثاني: هو الحسن، والمراد به الحسن بالمعنى الأعم، أعني ما لا قبح فيه، ثم انّ الفعل القبيح محال على الله (جل مجده)، لإن ارتكاب القبيح لا يخلو إمّالحاجة إليه أو الجهل به، وكلاهما على الله محال، فالقبيح عليه محال، ثم أي قبيح أعظم من الظلم وأشد منافرة للعقل منه، فالظلم إذن محال عليه، فثبت كونه عادلاً، إذ لا نعني من العدل فيه (جلت عظمته) إلاّ كون ما يصدر منه من الأفعال غير منافر للعقل، ولا يعده قبيحاً، غاية ما هنالك أنّ العقل لقصوره وضعفه يعجز عن إدراك مصالح أفعاله، لا أنه يقبحها ويجدها منافرة له.
والحاصل كون الظلم قبيح على الله (جل سلطانه) أمر ضروري بعد إقامة ما عرفت من البرهان؛ على أنّي لا أظنك ترضىأن تنسب لربك ما لا ترضى بنسبته لنفسك إن كنت من أهل الكرم والكمال.
وبالجملة، فأدنى من له شعور يجزم ببطلان ما تقوله الأشاعرة، مع ذلك فإن عرضت لك الشبه فيما ذكرناه، فالميزان ما أقمناه و المرجع ما قدمناه.
وبالجملة فيجب على المكلّف أن يعتقد أنّ الله ـ بهر سلطانه وعلا شأنه ـ لا يجور في قضائه، ولا يحيف في بلائه، ويثيب المطيعين، وينتقم بمقدار الذنب من العاصين، ويكلّف الخلق بمقدورهم، ويعاقبهم على تقصيرهم دون قصورهم، ولا يكافي المطيع بالعقاب، والعاصي بالثواب، ولا أمر العباد إلاّ بالصلاح، ولا كلّف إلاّ بما به الفوز والنجاح، والخير منشأه منه والشر صادر عنهم لا عنه، فإن من تمحّضت ذاته بالخيرية والكمال والنور يستحيل عليه فعل الشرور، كل ذلك لكونه منزّهاً عن القبيح كما يشهد به العقل الصريح.
مع أنّه أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن العدوان، ولعن الظلم في صريح القرآن، ونزّه نفسه المقدّسة عن ذلك في كتابه المبين، وأخرج الظالم عن أهلية الخلافة عنه في الأرضين، حيث قال: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِـمِينَ)(12) ، ومع هذا كلّه فلا أظن عدم حصول الجزم لأحد واليقين بهذا المذهب الواضح والسبيل اللائح مع ما يترتب على انكاره من تلك الفضائح، ولكن من سدّ باب حكم العقل والتحسين والتقبيح، حسنت عنده تلك القبائح حتى أنّه لا سبيل له إلى إثبات النبوة بالدليل العقلي، لأنّه منحصر في حكم العقل بوجوب ذلك من باب اللطف وهو لا يقول به.
والحاصل شنايع هذا القول أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فلا يستزلّنك الشيطان، والله ولي التوفيق.
ثم لا يخفى عليك أنّ هذا الأصل من أصول الدين ليس على نحو الأصول السابقة، ولا في عدادها وعرضها، بل هو من أحد صفاته الكمالية تقدّست ذاته و[...] أسماؤه وصفاته، فهو من شعب مسألة التوحيد على ما مرت الإشارة إليه من أنّ وجوب وجوده مستلزم لتوحيده ولجميع صفاته الجمالية والجلالية، وهي وإن رجعت إلى القدم والعلم والقدرة ولكن صفاته جل شأنه لا تضاهى ولا تتناهى، وكما أنّ ذاته المقدسة لا تحد فصفاته لا تحصى ولا تعد:
وعلى افتنــان الــواصفين بوصفــه يفنى الزمان وفيه ما لا يوصف(13)
فقت أهل الجمال حسنــاً وحسـنـى فبهـــم فــاقــة إلى معنــاكــا(14)
ولنأخذ على جامح القلم هنا بعنان الامساك، فانّا نخشى أن يبثّ من الأسرار ما لا تحتمله الأفلاك والأملاك:
تقولون حدّثنا فأنت أمينها ومـا أنا إن حــدثتهم بأمين
والغرض أنّ عدد صفاته المتعالية لا ينحصر في تلك الثمانية، لكن ذاك إنّما كان اصطلاحاً من المتكلّمين على عادتهم في أغلب مباحثهم من القول بغير حجة ولا برهان مبين، وكان علماؤنا الراسخون ـ قدس الله أسرارهم وأنار منارهم ـ إنّما عدوا هذه الصفة من أصول الديانات، وأفردوها بالعنوان من بين سائر الصفات؛ لكونها وقعت محّلاً للخلاف بينهم وبين الأشاعرة، وكان قول هؤلاء بانكار العدل عليه قول في غاية الشناعة والفضاعة، لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة التي منها وصف الحق والغني المطلق بأقبح الصفات الذميمة، ومنها سدّ الباب على العقول والألباب، ومنعها عن الحكم والحكومة المستلزمة لإلحاق الإنسان بالبهيمة.
ومن أشنع ما وقعوا فيه انكار وجوب اللطف المستلزم لعدم وجوب بعثة الأنبياء، ونصب الأوصياء، وعدم وجوب النظر في المعجزة، وعدم وجوب دفع الضرر، وعدم وجوب المعرفة عقلاً ووجوبها سمعاً، الذي يستلزم الدور، وبطلان الوعد والوعيد، والقول بالجبر في أفعال العباد المستلزم لعبثية إرسال الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك من الشنايع والمفاسد، وقد التزموا كلّ هذه العقائد، عصمنا الله منها ومن كل هوى مردى ومعدي، انّه هو الراحم والمنيع العاصم.
فأصحابنا رضوان الله عليهم اهتماماً واعتناء بهذا الشأن، وحذراً من الوقوع في الافك والبهتان من سوء هذه الأديان، جعلوا العدل كالإمامة أصلاً من أصول المذهب والإيمان، حتى أنّهم من الاهتمام به سمّوا أنفسهم مع من وافقهم عليه بالعدلية.
والظاهر أنّ هذا الترتيب في أصول الدين إنّما كان من وضعهم وترتيبهم، إذ به على هذا النحو المخصوص من الترتيب نص بالخصوص، وعلى كل حال فنعم ما صنعوا، ورفع الله قدرهم ووضع إصرهم، فنعم ما رفعوا ووضعوا.
ومن العدل أن نكتفي بهذا المقدار من القول في العدل، راغبين إلى الله جلّت ألطافه أن يعاملنا بلطفه، ويتفضّل علينا بأن لا يعاملنا بما نستحق فيهلكنا بعدله، إنّه أرحم الراحمين وأكرم المتفضّلين.
الفصل الرابع
في النبوة
اعلم أرشدنا الله وإياك إنّ بعثة الأنبياء كلية واجبة على الله (تعالى ذكره)، ونعني بالواجب عليه ما يحكم العقل بكون الإخلال به قبيحاً منه.
وبيان ذلك: إنّ الله (سبحانه وتعالى) ما خلق الخلق عبثاً وجزافاً، لتنزّهه عن ذلك بضرورة العقل، بعد ما علم من وجوب وجوده المستلزم لكماله، وعدم تطرق النقص إليه بوجه من الوجوه، فلا بد وأن يكون خلقه لهم لمنفعة وفائدة ما، وتلك الفائدة ليست عائدة إليه، لغنائه بذاته عن كل شيءٍ، واحتياج كل شيء إليه، فلا بد وأن تكون عائدة إلى خلقه جوداً وكرماً منه، وحيث ثبت ـ بمقتضى وجوب وجوده وقيوميته– إنه قادر حكيم جواد، لتنزهه وقدوسيته عن العجز والجهل والبخل، ومن المعلوم ضرورة أن أهم المنافع لعباده بعد نعمة إيجادهم، نظم أمور معاشهم ومعادهم، ودلالتهم على أسباب صلاحهم وفسادهم، لتتم لهم النعمة، وتكمل بذلك عليهم المنة.
ومن البداهة أيضاً قصور عقولهم عن إدراك مضارهم ومنافعهم ومصالحهم ومفاسدهم، وضعفهم عن تعيين كلياتها، فضلاً عن تشخيص جزئياتها، لغلبة الشهوات الحسية على الجهات العقلية.
وكان من الواضح أيضاً كونهم قاصرين وغير لائقين لمحاورة عظيم سلطانه، ولا لاستماع حديث كلامه، وقديم تبيانه؛ لأنهم من التراب وإلى التراب وأين التراب ورب الأرباب.
فحاجة الخلق إلى معرفة ما يوصلهم إلى كمالهم ويدلهم على رشدهم وضلالهم، مع عدم قابليتهم بحسب نقص استعدادهم، وضعف موادهم عن تحصيل مرادهم إلهاماً أو وحياً، توجب على الحق الجواد المطلق بمقتضى لطفه الثابت المحقق أن يجعل بينه وبينهم سفراء ورسلاً، يليقون من جهة لتلقي وحيه وإلهامه واستماع كلامه، ومن جهة أخرى لتبليغه إلى عباده، فهم في الصورة بشر، وهم في الحقيقة من عوالم أخر (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَـجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (15).
ومن المعلوم أنّ المشاكلة والجنسية لها في التبليغ والتأدية أعظم المدخلية، بل لايكاد الغرض يحصل بدونها، وحينئذٍ فلو أخلّ الواجب (تقدس شأنه) بذلك، كان اخلالاً منه بالغرض في إيجاد الخلق، ونقض الغرض قبيح من العاقل، فكيف بواهب العقل والمبدأ الفياض لا بخل فيه، ولا نقض يعتريه، (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (16).
وإذ قد ثبت بمقتضى هذه المقدمات المسلّمة، والمبادئ المتقنة المحكمة وجوب بعثة الأنبياء، فاعلم أنها هي بعينها تقتضي عصمة ذلك السفير والمبلغ، ونعني بالعصمة الملكة الراسخة التي تقتضي ـ عن اختيار وإرادة ـ عدم صدور الذنب مدة العمر، أو من حين قيامه بذلك المنصب الخاص من الرسالة أو الخلافة على الخلاف.
فغير الأنبياء والأوصياء من الأمثل بهم فالأمثل قد يكونون معصومين، ولكن غير واجبي العصمة، وأما تلك السلسلة المقدسة فيجب ذلك فيها، وإلّا لزال الوثوق بها، وانتقض الغرض المهم منها.
واعلم إنّ عصمتهم (عليهم السلام) في العقائد والتبليغ والفتوى، أعني الحكم في الموارد الجزئية والوقائع الشخصية على طبق أحكامه الكلية، قد اتفقت قاطبة المسلمين ـ بجميع فرقها وشعبها، عدا ما ينسب إلى بعـض الخوارج عن ربقـة الإسلام ـ على وجوبه ولزومه، وعدم صدور الخطأ منهم (عليهم السلام) في تلك الأمور لا عمداً ولا سهواً، من حيث قيامهم بتلك الوظيفة إلى آخر أعمارهم الشريفة.
وأما عصمتهم في أفعالهم وأحوالهم فقد اتفقت الإمامية بلا استثناء أحد منهم، على لزومها عندهم من أول التكليف إلى آخر العمر.
وأما في السهو فقد اتفقوا عليها أيضاً إلا من شذّ من أكابر المحدثين حيث جوّز السهو على المعصوم في فعله وتكليفه(17)، وتبعه على ذلك شرذمة لايعتنى بهم.
وبالجملة فالعصمة في جميع ذلك ثابتة بالبرهان المتقدم على أصل وجوب البعثة من إنه ممكن عقلاً وهو أدخل في الغرض، والحق جل شأنه جواد لا بخل فيه، وقادر حكيم لا عجز يعتاقه ولا جهل يلويه، فالاخلال بذلك مخل في تمامية الغرض، وهو محال عليه.
ومن هنا ظهر وجوب إظهار المعجزات وخرق العادات على يديه، تصديقاً لدعوى رسالته، وإتماماً للحجة على الخلق ببعثته، فيجب عليه إعلامهم برسالته وإظهار معجزته، ويجب عليهم بحكم عقولهم من لزوم دفع الضرر المحتمل، الذي اتفقت أرباب العقول على جريانه في هذا المقام، وإن منع في غيره.
هذا بالنسبة إلى أبناء زمان صاحب الدعوة، وأما المتأخرون عن زمانه فطريقتهم إلى ذلك أمران: أحدهما: أن يبلغهم بالتواتر ظهور المعجزات على يده، والثاني: أن تبقى معجزته لمن بعده من المكلفين، وتستمر آيته على مرور الأحقاب والسنين، ليحصل منها لجميع أمته على طبقاتهم واختلاف أعصارهم وأزمانهم، ما يتم به عليهم الحجة، ويستبين لهم واضح المحجة.
وقد ثبتت بالتواترات القطعية، والضرورة البينة، من جميع أهل العالم، ونوع بني آدم، أنّ نبينا الذي هو منشأ إيجاد النشأتين والمقرب من الرب قاب قوسين، علة إيجاد الكائنات، وأشرف المخلوقات، أكرم الأكرمين، وسيد الأولين والآخرين، شفيع الخلائق، ومرآة الحقائق،الفاتق الراتق، أول الفكر آخر العمل الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، سيدنا وشفيعنا رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرين)، قد ادعى النبوة، وتحدى على قومه بالمعجزة، وطلب من أهل زمانه المعارضة، وأتى بما هو الشائع في وقته، والمتنافس عليه عند قومه، وما يتفاخرون به ويترفعون بشأنه، من الكلام الفصيح والقول البليغ، وكانت بلدته ومقامه أملك البلدان لأساطين تلك الصنعة، وأجمعها لمشاهير تلك البضاعة والسلعة، وزمانه أبهج الأزمنة بمهرة الكلام، وقد اجتمع منهم في أيامه وما قاربها مالم يجتمع بغيرها من الأزمنة والأيام، ولما دعاهم إلى تلك الدعوة المقدسة طغوا وبغوا أشد البغي عليه، وشق عليهم ذلك غاية المشقة، حتى تخاوصوا بحماليق الحنق(18) إليه، وما كان قد تحداهم إلاّ بالمألوف لهم والمعتاد لديهم، الذين يمسون ويصبحون عليه، ويروحون ويغدون إليه، لا بأمر لم يمارسوه، وحال لم يعرفوه من علوم غامضة، وأسرار خفية طبيعية أو رياضية.
ولم يزل (صلوات الله عليه) يتقاضى منهم ذلك، ويلح عليهم فيما هنالك، بأنحاء شتى، و عبارات مختلفة، وطرق متفاوتة، حتى اعترف بالعجز عريفهم(19)، وتلدد تليدهم وطريفهم(20)، ووسموا جباههم بنير العار والعيار، ورسموا على محاسنهم كلمة السوء بالذل والصغار، وجعلت كلماته في أعناقهم أغلالاً فظلوا لها خاضعين، وطاشت ألبابهم فقالوا: ما هذا إلا سحر مبين.
ثم قنع منهم بمعارضة سورة من سورها المنزلة، ثم نزل معهم ـ وهو الرفيع ـ إلى أدنى منزلة، فقنع منهم بأن يأتوا بعشر آيات، فأجمعوا أمرهم وما كان عاقبة جمعهم إلاّ إلى الخيبة والشتات، وحين بدت عليهم المفحمة(21) البائدة، رضي منهم بآية واحدة(22)، فالتجؤوا إلى مفاوضة الحتوف عن معارضة الحروف، وعقلوا الألسنة والعقول، واعتقلوا الأسنة والنصول، ورحبوا بكلم الجراح عن الكلم الفصاح، وفروا إلى سعة آجالهم عن ضيق مجالهم، وتنصلوا بنصالهم، ورأوا أن ذلك أقوى لهم من أقوالهم، حتى هلكت بذلك طواغيتهم وفراعنهم، وتفانت عفاريتهم وثعابنهم، ودرجت وتحطمت قرومهم(23) وقرونهم(24) وباءت بالوباء والوبال عليهم أعوامهم وسنينهم، وتبدلوا بعز الملك ذلاً، إلى أن عادت كلمة الله هي العليا، وكلمة أعدائه السفلى، كل ذلك فراراً وإعراضاً عن المعارضة، ونقضاً لحبال الرد والمناقضة.
تشهد لك بذلك التواريخ والسير و الآثار والعبر، من جميع الأمم من المليين وغير المليين، لا خصوص المسلمين والمنتحلين، كيف لا ولو كان لبان، ولو وجد لحصّله الوجدان، إذ الدواعي متوفرة على نقله أشد الوفور، متوجهة إلى إذاعته ونشره من ذلك اليوم إلى يوم النشور، فإنه ( صلوات الله عليه) قد زاحم جميع ملوك الأرض، واستطالت دعوته في الطول والعرض، وناطحت كباش كتائبه جميع الأمم من العرب والعجم، وكاسر كسرى وقيصر، وبلغ بريد محبراته(25) البر والبحر، فانتصر بالله على اليهود والنصارى، وحلّق نسر قهره حتى اصطاد الصقور والحبارى، وهو ـ حفظ الله شريعته وأعلى كلمته ـ في جميع ذلك يدعو إلى ما أنزل الله عليه من كتابه، ويتحدى بمعجز خطابه، فلو نوقض أو عورض لخفت مؤونته ولهانت بلواه، وبطلت ـ وحاشا ساحته المقدسة ـ دعواه.
ثم لم تزل تلك المعجزة الباهرة، والآية القاهرة باقية على مر الدهور وخوالي الأعوام، ومواضي الحقب والأيام، لا تزداد على طول المدة إلاّ جدة، وعلى شدائد الجاحدين والمنكرين إلاّ شدة، ولا يزيدها التكرار والاستملاء إلاّ حسناً وبهاءً.
وما تصدى في الأزمنة المتأخرة عن زمان نزوله لمعارضته إلاّ مائق(26) العقل مأفون الرأي(27)، حتى أن من الأعاجيب ـ وأي شيءٍ منه تقدست آياته ليس بعجيب ـ انّك ترى الرجل في جميع المقامات من النظم والنثر والخطب، خطيباً مصقعاً، فارساً في البلاغة، وفي كل حلبة ولدى كل موضع، فإذا تصدى لضعفٍ في دينه، أو خور في عقله ويقينه، أو زندقة في هواه، إلى مقاومة ذلك المقام، ومعارضة معجز ذلك الكلام، أقحم وتبلد وأبكم بالعي وتلدد.
هذا المعري والمتنبي وأضرابهم دونك، فاضرب فيما حكي عنهم في هذه المرحلة من المزخرفات فكرك(28)، فهل تجد إلاّ ما تضحك منه الصبيان في مكاتبها، وتسخر منه ربات الحجال في مضاربها.
ولعمر الله ـ وعمر الله قسم عظيم ـ انّ هذا الكتاب الكريم لو أبيدت في بيان عجائبه الطروس(29) والأقلام، وأفنيت في ذكر معجزاته الدهور والأعوام، لما جمع من عظيم قدره إلاّ أقل مقدار، ولا وقع صيرفي المعرفة عن نحو أعشاره ولا على عشر معشار.
وهذا النحو والطريق من المعجزة مما اختص به نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين الأنبياء، فإنّه ـ قرب الله وسيلته وتقبل في المرسلين شفاعته ـ قد اختص من بينهم وحده ببقاء معجزته بعده.
وأما الطريق الثاني الذي به ثبتتْ نبوة جميع الأنبياء لأممهم المتأخرين عن زمانهم الغير معاصرين لهم، وهو بلوغ معجزاتهم بالتواترات القطعية، فقد شاركهم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه، ولكن على أوفر قسم وأوفر نصيب، فقد تظافرت التواترات وتواصلت القطعيات، بما صدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من المعجزات وخوارق العادات، التي انشق عجباً بها القمر، وسبّحت في كفه الحصيات(30)، ونبع الماء من بين أصابع يديه(31)، وانتقلت النخلة بأمره إليه(32)، وسجد له كل حجر ومدر مر عليه، وحنّ الجذع شوقاً له حنين الهائم(33)، وكلم الموتى وخاطبته البهائم(34)، وأثمر من ماء وضوئه الشجر اليابس، وغرس الأشجار فأينعت على الفور في الفلوات البسابس(35)(36)، وارتج له إيوان كسرى حتى سقطت منه أربعة عشر شرافة متقنة (37)، وغاصت بحيرة ساوة(38) وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل بألف سنة(39)، إلى غير ذلك مما يضيق عن تعداده المقام، بل لا أحصيه ولو كانت السموات طروساً والملائكة كتاباً والأشجار أقلاماً، كل ذلك قد صار بمنّ الله إتماماً للحجة أمراً ضرورياً، وكاد أن يكون في البداهة شيئا حسّياً.
فإن كنّا نشك في وجود كسرى وقيصر وسائر الأمم السالفة والقرون الخالية، نشك في وجود مثل هذه الوقائع، والقول بأن هذه الأمور قد ثبتت بتواتر أخبار المسلمين، فلا يصير حجة على الخصم، قول سخيف يصدر عن رأي ضعيف، إذ على هذا ينسد على كل أمة باب إثبات نبوة نبيها، فإن أمة الخليل (عليه السلام) تنكر معجزات الكليم (عليه السلام)، وأمة الكليم (عليه السلام) تنكر معجزات المسيح (عليه السلام)، بل جميع الطبيعيين والدهريين ينكرون معجزات جميع الأنبياء على المليين، وليس إلاّ بذلك الطريق أثبتت اليهود نبوة موسى (عليه السلام)، والنصارى رسالة عيسى (عليه السلام).
وحل هذه العقدة، انّ المدار في مثل هذه الأمور على حصول القطع وسبيله منحصر في التواتر ولا طريق غيره، والتواتر هو (إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب) ولم يؤخذ فيهم سوى هذا القيد والصفة، وكل أمة لها في إثبات معجزات نبيها هذا الطريق، وليس سواه سبيل على التحقيق.
وهذا أمر يجده المنصف وطالب الحق من وجدانه وحسه، حيث لا تكون نفسه عدوة له، وهو عدو لنفسه، وإلاّ فــ (نَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(40).
وقد عرفت أن الأمر إذا وصل إلى البداهة وغمك إنكار المكابر فبالسيف تنجلي الغماء(41)، فنسأل الله تعالى بأهل الكرامة عليه من خلقه أن يمنّ علينا بتعجيل الفرج لصاحب السيف، ليثبت به الحق وينفي به الحيف.
على أن المعاند إن أصر على إنكار تلك المعجزات، فنحن معاشر المسلمين في مندوحة عنها، فإنا بفضل الله نتمسك بالكتاب الذي لا يشقى من تمسك به، ولا يوهن من اعتصم بالعروة الوثقى من سببه، فإنه سلم السلامة ومعراج الكرامة.وإثبات المقصود به يتوقف على مقدمتين كل منهما بديهية مسلمة:
أما الأولى: فكون الصادع به هو ذلك الشخص المقدس والوجود الأنفس، وهذا ثابت بضرورة جميع العالم، لا ينكره أحد من المخالفين.
والثانية: كونه معجزاً ولا يقدر أحد على الإتيان بمثله، فقد بان لك سبيله واتضح مما قدمناه لك دليله.
على أنّا نرفع أمر هذه الخصومة إلى حاكم الامتحان، فعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ثم الحكم بيننا بعد عدل الانصاف مهرة العربية من أرباب الملل الخارجة إن وجد منهم في هذا الزمان من هو أهل اللسان، ونحن لا نحملهم على الشقة ولا نكلفهم المشقة، ولا نطالب بمعارضة سورة، بل ولا آية، ونرضى منهم بمثل كلمة من كلماته، وجملة واحدة من جمله، مثل قوله عزمن قائله (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)(42)، وقوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)(43)، وقوله بهر سلطانه (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)(44)، وقوله عظم شانه (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(45)، إلى غير ذلك من فرائده ومفرداته، وعقود تبيانه وبيناته.
ثم لا أظنك بعد هذا كله تبقى من أمر النبوة على ريبة، كيف وقد أشرت لك إلى الوجوه البعيدة، وجمعت لك الأدلة القريبة، وأثبت لك الدعوى بصغراها وكبراها، وجمعت شؤون الحقيقة أقصاها وأدناها وأولاها وأخراها، والحوالة بعد ذلك لنا ولك على ولي التوفيق، فإنا نسأله بمنّه أن يهدينا وإياك إلى سواء الطريق.
ولنختم المقام تأكيداً للمرام، وتبريكاً وتيمناً بكلام أمراء الكلام، وحجج الملك العلام، وذلك من حديث لسان الله الناطق، الإمام جعفر بن محمد الصادق (صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين إلى يوم الدين)، ذكر فيه (صلوات الله عليه) وجه الحاجة إلى بعثة الأنبياء ووجوب نصب السفراء، على ما روى الكليني (قدس سره) في كتاب الحجة من الكافي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل، قال (عليه السلام): (انّه لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفى تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه (عزوجل)، وهم الانبياء (عليهم السلام)وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس ـ على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ـ في شيء من أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان بما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته)(46).
انتهت كلماته المقدسة النورانية، التي اشتملت على حقيقة الإيمان اليماني والحكمة اليمانية(47).
ومن الظاهر المستبين لك، إن جميع ما ذكرناه في صدر هذا الفصل، من الدليل على وجوب البعثة، إنما هو مضمون هذا الحديث الشريف، لا بل لمحة من لمحاته، وشعلة من قبساته.
ولقد أحسن وأجاد بعض الحكماء الإمامية المحققين من المتأخرين، حيث ذكر ما حاصله ومضمونه: إن لكل من الحكماء والمتكلمين والعرفاء والصوفية والظاهرية وغيرهم من أهل الأذواق والمشارب المختلفة، طريق لإثبات النبوة غير طريق الفرقة الأخرى، وكلا تراه ـ من الوثاقة والإحكام ـ بالقبول أجدر وأحرى، وهذا الخبر الشريف على وجازته واختصاره أشار إلى تلك الطرق بأجمعها، ولوح إلى تلك المسائل على اختلافها وتشعبها، حتى قال ما نص عبارته بالفارسية: (واﮔر فلاسفة أقدمين را استماع اين كلام مقدس ممكن ميشد هر آينه اقرار مى نمودند بمعجزة بودن اين كلام قدسي نظام، كه جان تشنه داند قيمت آب)، انتهى.
وأقول:تالله لقد أحسن هذا القائل النظر في هذا الخبر، فتأمل فيه إن كنت من أهله تجد كل فقرة منه مقدمة وجزءاً من برهان، أو نتيجة له.
ونزيد على ما ذكره ذلك القائل، إنه ( صلوات الله عليه) قد أشار إلى مسألة وجوب نصب الإمام في كل عصر وزمان، فإن المسألتين يمتاحان من قليب واحد، ويلوحان من منهل عذب الموارد.
ولا بدع في ذلك كله منه ( صلوات الله عليه) فإنهم معادن العصمة وينابيع الحكمة، وصنيعة الله وصنائعه، وخزان علمه وودائعه، وقدرتهم مظهر قدرته، وحكمتهم من حكمته، فنسأله(تعالى) بحقهم أن يمنّ علينا بشفاعتهم، ويجعلنا من الكاملين بمعرفتهم، وإتباع سنتهم، إنه أرحم الراحمين.
[الفصل الخامس
في الإمامة]
ومن هذا الفصل كله يسهل عليك تحصيل اليقين والمعرفة بما يتضمنه الفصل الرابع في الإمامة
لما عرفت وسيتضح لك من أنها جارية على ذلك النهج، ومندرجة في ذلك الدرج، وإن نور الإمامة من ذلك النور، وإن وجه الحاجة إلى واضع السفينة هو الوجه في الحاجة إلى تعيين مدبر جريها في البحور، ولزوم العصمة هنا يظهر من لزوم العصمة هناك، ووجوب إقدار هذا على المعجزات، كوجوب إظهارها من ذاك.
وبالجملة فسنة الله في عباده واحدة لا تختلف، والعلة المحدثة هي المبقية لا تزال تجري ولا تقف.
وأنا هنا أستحسن أن أضرب لك مثلاً من الأمثال، ليتضح به جلية الحال،ويكون هو القول والفصل المتمم لما سبق من الفصول وتمام القول في هذا الفصل، ومن المعلوم أن ضرب الأمثال على أداء المقاصد، أقوى معين وأحسن مساعد، وتقريب الأمر به أقرب إلى الأذهان، وأبلغ في البيان، ونحن نستوفي لك فيه جملة الغرض وجل المقصود، بجميع شعبه ومتعلقاته، حتى تقع على حاق البرهان، ويتطابق عندك الدليل والوجدان، وينتقل الأمر من المعقولية إلى الحس والعيان، وبالجملة فهذا المثل بتوفيق الله جلت عنايته يعطي طالب الحق من مراده، كل على حسب قوته واستعداده.
فنقول ـ ولله المثل الأعلى ـ: إنّ أمة من الناس نشؤوا وتوطنوا في فلاة من الأرض موحشة قفراء لا ماء فيها ولا كلاء، قد أجهدهم العيش الخسيس والمرعى الوبيل، ضارعين على ارتياد الضريع(48)، فاكهين بلحم الضب واليرابيع، يحتفرون الوهاد(49)، ويشربون آجن مياهها من النز(50) والثماد(51)، ثيابهم كقلوبهم درنة، وريحهم كأخلاقهم منتنة سنينهم كوجوههم كالحة ومياههم كطباعهم مالحه، قد كدهم العيش كدا، وأوسعهم الزمان جهدا، فأحوالهم من الذل والمسكنة بالفقر والفاقة معلنة، ولكن لم يزل بهم سوء الحال حتى عادوا وهم في العدوان أعدى من الوحوش العادية، وأضرى من السباع الضارية، يهر بعض على بعض ويفترس بعض بعضاً، تحسبهم أصحّاء وهم على الحقيقة موتى لا مرضى، يتنافسون على الجيف الخسيسة، ويحسبون أنها البلغة النفيسة، قد حبست أفكارهم ووقفت أنظارهم على ما هم فيه من البؤس والبأساء، والضر والضراء، وهم يرون أنها النعمة والنعماء، والعافية والسراء، لا يدور في خلد خيالهم، ولا يتسع في ضيق مجالهم، أنّ هناك عيش خير من معاشهم، ورياش أبهج من رياشهم، ونعيم لاينظر بنضرة نعيمهم، وطيب هواء لايطيب إذا قيس بطيب نسيمهم، ما بلغ علمهم ولا ارتقى فكرهم وهمهم إلى ما في الأرض ذات الطول والعرض من النعم والطيبات والخيرات والبركات، وصنوف ما أعدّ من الفواكه والثمار، ورصيف ما نضد من الآصال والأشجار، وجنان الحدائق والبساتين، وحسان الأزهار والأفانين، وضلال الكروم المنضدة على الأنهار المطردة، وما يتخللها من منعشات الأرواح من النسيم الفياح والشذى النفاح، وما أشرف عليها من القصور الموطدة بالنمارق الممهدة والكراسي المنضدة، والغلمان والجواري والولدان والسراري، وألحان الأطيار على أغصان الأشجار، وفنون نغمات القيان، وترجيع البلابل على الأفنان، في أرائك هم عليها متكئون، ومعارج عليها يظهرون، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ العيون في قرار النعمة ومحلّ الطمأنينة والمنّة وشهوة الأنفس والأعين، من فواكه كثيرة ولحم طير مما يشتهون، إلى غير ذلك من مشهيات النعمة، و منشئات الرحمة، وجلابيب العافية، وبرودها الضافية، ومناهلها الصافية.
كل ذلك والقوم على ما عرفت من مجهدة البلاء، وشدة الشقاء، وعين العناء في موحش مجهلة ليس بها أنيس، إلاّ اليعافير وإلاّ العيس(52)، لا يسمعون سوى زعقة البوم والعقعق(53)، ولا يعرفون إلاّ صوت الغراب الأبقع،وحمار الوحش الأبلق، قد اغبرت بهم الغبراء، وتوالت عليهم بالشهب السنة الشهباء، وكلحت الخضراء، فلا خضراء ولا نضراء.
حتى إذا استحكمت فيهم الأخلاق الذميمة، وأوشكوا أن ينسلخوا عن البشرية، ويلتحقوا بالبهيمية، اتفق أنه عنى بسياسة تدبير العالم، وقام بالأمر ملك عادل، ولا أقول إنه من بني آدم لشدة رأفته ورحمته وألطافه وعنايته برعاية رعيته، وصلاح أهل مملكته، مع ما هو فيه من بالغ الحكمة وواسع الرحمة ووافر النعمة، وقوى المعرفة والآراء المستحصفة، ونفوذ العلم وشدة البطش مع سعة الحلم، وعظمة الملك والسلطان، وفسحة القدرة وقوة الأركان، والغنى الذي لا يضاهى، والجود الذي لا يتناهى.
ثم انّ ذلك الملك العادل، والجواد الذي ليس له على الجود سوى غناه وكرم طبعه حامل، لمّا اطلع على تلك الأمة، وما تكابد من عنائها وبؤسها وضرائها، وهي في مملكته ومن عداد رعيته، رق لهم وتعطف وأشفق عليهم، وترأف وعزم وأزمع وصمم وأجمع على أن يغمرهم بنعمه ويستغرقهم بفيض كرمه، وأن يتخذ فيهم حسناً، ويبدل حالهم السوء بالحسنى، ويعيد قفار أرضهم رياضاً ثجة(54)، وحدائق ذات بهجة، ويرد بؤسهم نعيماً وسمومهم نسيماً، ويهذبهم بكريم الأخلاق حتى ينزلهم منزلاً كريماً، فعمد الملك إلى رجل كان قد اصطنعه على عينيه، وتولى حسن تربيته بنفسه، حتى صار من أهل الزلفى عنده والمكانة لديه، ولم يزل على قديم الدهر يخصه بشرف القرب منه حتى عاد من أقرب أحبائه إليه، وأكرمهم عليه، وجعله من خاصته وخالصته، واختصه بنفائس كرامته، وأودعه مفاتيح كنوز مملكته، وائتمنه على أنوار مصابيح حكمته، وصيّره موضع غامض أسراره، وخلع عليه خلع البهاء من أنواره، وأدناه سروراً به حتى أجلسه معه على سرير ملكه، وجعل له الفضل والشفاعة على جميع المقربين ممن انتظم في سلكه، فهو من خاصة الملك وبطانته، والملازمين لحضرته، حبيبه ونجيبه،ونجيّه وقريبه،وصنيعته وربيبه، شفيع مكين، مطاع ثم أمين، ينزله من الكرامة عليه منزلة الانسان من العين، فهو منه قاب قوسين،قد ابرزه طليعة كماله، وجعله مرآة جماله وجلاله، ثم مذ أدبه بآدابه صار لا يأنس إلاّ بالملك والملك لا يأنس إلاّ به، ولكن الملك لشدة عنايته بحال تلك الأمة المعنية بالعناء والمغمورة بالبلاء، ابتعث إليهم ذلك العزيز عليه والمكين لديه، وآثرهم بحبيبه، وما اصطفى لهم سوى صفيه ونجيبه، ثم سرّح الملك مع ذلك السفير نسخة عهد لسفارته، وإمارة حق على إمارته، أنشأها الملك بنفسه، وأظهر فيها كمال كرمه وقوة حدسه، وجعلها بلسان تلك الأمة، وحفّها بالبركة والرحمة، فجاءت مملوءة بأطوار العظمة والفخامة، وتراءت مجلوة(55) بأنوار الجلالة والكرامة.
يسطع عليها من الأبهة ما يدل على أنها من كلام الملوك، ويشع فيها من الجزالة ما يجلب اليقين ويدفع الشكوك، ويعرف ويعترف كل أحد من أهل ذلك اللسان، انّهم لا يقدرون على مثلها ولو اجتمعت الإنس والجان.
ثم جعلها الملك على نحو ينتفع كل أحد منهم بظواهرها، وأودع عند حاملها ومبلغها كنوز بواطنها وسرائرها، وضمنها كل ما يتضمن صلاح تلك الأمة ورشادها، ويقيم عوجها ويصلح فسادها، ويحرسها من خصمها الألد على طول الأبد، ويدفع عنها الأباطيل، ويبدل بالنعيم عيشها الوبيل، جيلاً بعد جيل وقبيلاً بعد قبيل، فامتثل ذلك الحبيب المحبب والمخدوم المقرب أمر سيده المليك، وإن عز عليه المهاجرة عن دارة الملك إلى دار الصعاليك، ولكن لم يجد بداً من امتثاله، حيث أنه ما اتخذ له في الطاعة ولا من هوى نفسه شريك.
فسار ذلك السفير المضطلع الخبير حتى نزل بتلك البلدة البائدة والأمة الفاسدة، وورد عليهم بسيماء الفقر والسكانة والذلّة، وحاشا ساحة عزه من الذلة والمهانة، وتضائل للعيون على ما هو فيه من القوة والمكانة، ثم حل بين أظهرهم وحيداً غريباً، ورأى من سوء حالهم أمراً عجيباً، وصار كواحد منهم، وهو ما أبعده عنهم، وشاركهم في جشوبة عيشهم وبلائهم، وخشونة فقرهم ولأوائهم(56)، ولكنه بقي زاهداً في لذائذهم الخسيسة، متنفراً أشد النفار من خبائث مشتهياتهم التي يرون أنها هي النفيسة، وصار يتناول منها بقدر ما يعدّ به أنه منهم، ولا يقرب إليهم، ولا يتباعد كل البعد عنهم، ويأخذ منها أخذ ذي النفس الشريفة، إذا أحوجته المخمصة إلى الجيفة، إذ كان مذهب لذائذه عند الملك غير هذه المذاهب، وطعامه وشرابه لدى موائد ألطافه ليس كهذه المطاعم والمشارب.
حتى قضى على هذا بين ظهرانيهم مدة من عمره، كاظماً لغيظه وأذاه، كاتماً لسره، محتفلاً بشأنه، ومخفياً لأمره، وفي كل يوم يظهر منه لهم من عجائب الآثار، وجوالب الاعتبار، ما ينبأهم أن له شأناً عظيماً، و سرا فخيماً، ومقاماً كريماً.
وهو في ذلك كله على مباينة طباعه لطبعهم، ومناواة جوهره لجزعهم(57)، وإن كان بالصورة من شكلهم ونوعهم.
يعاشرهم أحسن المعاشرة، ويلاطفهم أكرم الملاطفة، ويروح ويغدو معهم، ويحضر منتداهم ومجمعهم، إلى أن عرفوا من جبلته الصدق والأمانة، وأحالوا على ساحته تطرق الكذب والخيانة.
فلما استحكم ذلك في نفوسهم، واستتب الأمر في عقولهم، عزم ذلك السفير على إظهار دعوته، وإبداء طويته، فقال: يا قوم إنّي أراكم في منزلة خشناء ومجهلة عمياء، وخشونة زاد وجشوبة عيش،ووهن همة وهنة طيش، وإن غيركم من العوالم والأمم، قد صبت عليهم هواطل النعم، ولكم ملك هو الذي غمرهم من ملكه بوابل الكرم، وفواضل الحظوظ والقسم، وقد أرسلني إليكم لكي أصبّ الخير والبركة عليكم، وقد دلني على عين إلى جنبكم هي عين الحياة وينبوع العادات وأم الكمالات، فهلموا واشربوا منها لتصحّ أبدانكم وتطيب أعراقكم وتحسن أخلاقكم، وشقوا منها إلى أرضكم الجداول والأنهار، وأغرسوا عليها النخيل والأشجار، فستثمر عما قريب أطيب الثمار.
فإذا طاب غرسكم، وزكت نفوسكم، وحسن طعامكم وشرابكم، وكرمت أخلاقكم وأعراقكم،سعدتم بالاستعداد لشرف لقاء الملك ومشاهدته، والرجوع معي إلى دار كرامته، وقرار نعمته.
فلما بثهم الشفيق الناصح نصيحته، ومحض لهم مودته، طردوه وجحدوه، وأنكروه وتباعدوه، وقالوا: جئت لتفسد علينا ملكنا ونعيمنا، وتذهب حديثنا وقديمنا، وتشيب بالضلالة شيبنا وشبابنا وتعيب بالمحل والاحالة أرضنا وهواءنا، فلما شاهد تحكم سلطان الجهل والعمى فيهم، واستحكام بنائه بناديهم، أظهر لهم عن الملك آية ملكه وتبيانه وأعلمهم بعلامة سلطانه، فأبهر العقول بها والآراء، ورأوا من نبأها أعظم الأنباء، ولكن خاوصوا نحوه العيون، وقالوا ساحر أو مجنون، فاعتالوا له الغوائل، ونصبوا لقتله الحبائل، والملك يؤيده من ورائهم بجنوده، ويؤيده على الغيب بتأييده، ويحفظه من كيدهم ويرد عنه يد أيديهم.
والسفير يحملهم على سعة حلمه، ولا يؤاخذ الظالم منهم مع قدرته على الأخذ بظلمه، بل يعاملهم باللطف والمدارات، والمجاملة والمجارات، وفي خلال ذلك صدّقه شذاذ منهم على خيفة من الباقين، وتحمل الأذى من الباغين، ثم لم تزل تنتشر دعوته بالحق، وتقود كلمته إليه بالصدق رجالاً فرجالاً، إلى أن أنار أمره وطار ذكره، وكان الناس فريقان: فريق أمكن علاجه، ولم ينقلب إلى المرض المزمن مزاجه، وآخر قد أفسد بما استولى عليه من الرين والدرن، فرأى أن علاجه القطع، إذ قطع العضو الفاسد أصلح للبدن، فبقي مشغولاً بعلاج كلا الفريقين، وكان أهم الأشياء عنده ورود الناس من ماء تلك العين وخفوق رايات بركاتها على الخافقين، فطفق يجري في تلك الأرض المقفرة جداولها، ويسهل للوارد مناهلها، فبعض ورد منها حتى أنقع غلته وأبرد ضمأه، وبعض أخذ جرعة منها فمجها طبعه وما بلّ بها إلاّ فاه، وهو في الحقيقة من استحكمت الزمانة منه وتمكنت لديه، وإن غطت صورة الحال عليه.
ثم بعد أن أجرى جداول تلك العين، وجعل وردها ورداً ينجلي به صدئ القلب وعمى العين، عيّن ما ينبغي أن يغرس عليها من الأصول والآصال، وبين ما يتفرع عليها من الثمرات في الحال والمآل، وسوّر سورها وحدّد حدودها، وصوّر لهم صورها، وقرّب بعيدها، وأوضح ما يصلحها ويفسدها، وما يبلغ بها الغاية والغرض، وما عنه يصدها، وكان في جميع ما يعينه من تلك الحدود والوظائف، ويبينه من تلك الثمرات والخصائص، وما يلزمهم به من الأعمال والأحوال، وما يأمرهم به لجلب لهم السعادة والكمال، كله إمّا بتعيين من الملك بواسطة وارد بريد يرد إليه، أو أختياراً منه بقوة حدسه وصواب رأيه، على أمضاء من الملك، إذ هو في جميع أحواله مطلع عليه،حتى إذا أدى السفير ما عليه، وما ترك أحداً إلا أهدى هداه إليه ونصب صلاحه وفساده بين عينيه، ورأى أنه قد فرغ من أداء رسالته، وخرج من عهدة وظيفته، عزم على الرجوع إلى حضرة الملك، إذ هي مسقط رأسه ومحل أنسه، ومنزله الأول، ومقامه المبجل، ولا يستطيع فراقه أزيد من تلك المدة، ولا تحتمل رأفة الملك في حقه إبقائه أزيد من ذلك على تلك المشقة والشدة.
ولكن حيث كان منتهى الغرض وأقصى المرام، حفظ صلاح تلك الأمة على مرور الليالي والأيام، وتحصين تلك العين من أن تعميها الرياح العواصف، أو أن تقذيها صروف الدهر والصوارف، وصيانة تلك الأصول عن أن تقلعها الزعازع القواصف، ودفع ما يعرضها من المضار، ويعوقها عن الثمار، أو ما يفسد به ثمرها، ولا يترتب عليها معه أثرها، والنفوس بعد ضعيفة، ولعاداتها الأولى حليفة، وهي على ما كانت عليه من عدم النزاهة، وقد دخل أكثرها في الأمر على كراهة.
وكان القيام بتلك الوظائف الشاقة، والمهمات الغامضة، ليس من وظيفة كل أحد، ولا يتيسر للعقول الوقوف منها على حد، بل يحتاج ذلك إلى مضطلع خبير مثل ذلك السفير.
وكان له عند الملك شقيق قد اشتقه من غرسه، وجعل نفسه في الكمال كنفسه، والملك من قبل حين شاهد عناء سفيره بتلك الأمة، وشدة ما كان يقاسي منهم من البلاء والمحنة، على وحشة الغربة وسوء الصحبة، ألحق به شقيقه، وبعث إليه أنيسه، وجعله معيناً له ومساعداً وعضداً وساعداً، وصار يقيه بنفسه الشدائد، ويدفع عنه ببارقه غمام الغموم الرواعد.
وحينما عزم السفير على الرجوع إلى داره والأوبة إلى محل طمأنينته وقراره، ورأى الملك إنه إن استرجعه إليه، وترك القوم على ما هم عليه، رجعوا إلى جاهليتهم الأولى، ولم ينالوا من التأهل لألطافه كثيراً، بل ولا قليلاً، وعليه فقد فات الغرض، وانعكس الأمر وانتقض، وحاشا أن يخل بغرضه الحكيم، أو يتطرق البخل والتقصير إلى ناحية الجواد الكريم، إذ القوم على ما عرفت من الوهن في الكمال والضعف، وما تمت لأحدهم صفة الكمال فضلاً عن التكميل فكيف يعينون من له ذلك الوصف، ونسخة العهد وإن جمعت المقاصد كلها، ولكن جلّ شأن سرائرها عن أن تنكشف لكل أحد، أو تعرف، ثم كلا وهيهات أن تبلغ الكتابة والكتاب مبلغ المشافهة والخطاب، والجاهل يحتاج إلى معلم، ولسان الخواص تحتاج العوام فيه إلى مترجم.
هذا وفي خلال تلك المدة، لم يزل صاحب السفارة يومئ إلى علو مقام ذلك الشقيق بالتلويح والإشارة، ويظهر فضله على جل أتباعه وأجلة أشياعه، والناس تشاهد مشاهده، وترى مواقفه، وتعرف شدة عنائه، وتحمد حسن بلائه، ويشهد الأعمى والبصير، أنه ما زال على وتيرة ذلك السفير، ما أشرك غير الملك في الطاعة طرفة عين، ولا ورد مع الناس مدة عمره من غير ماء تلك العين، ولا شاركهم في حطامهم، ولا نال البلغة من طعامهم، فهو ثاني ذلك الطراز الأول، ومَلَك من ناحية المَلِك منزل.
فمن أجل جلّ هاتيك الجهات والمبادئ المسلّمات، بعث الملك بريده إلى سفيره يعلمه أنه قد أزف الرحيل إليه، ويأذن له في الوفود عليه، ويأمره بأن ينصب شقيقه علماً لتلك الأمة، وسائساً لما نشر عليهم السفير من الرحمة، وحافظاً لما سهل لهم من سبل النعمة، استكمالاً لدعوته واستيفاءً للغرض المهم من بعثته، كل ذلك لما مضى منه في سابق علمه و عظيم حكمته وحكمه، من كمال ذلك الشقيق، واقتداره على التكميل وإنه هو الهادي والدليل.
فقام سفير الملك إلى أعظم محفل من محافلهم وأنديتهم، مما اشتمل على حاضرتهم وباديتهم، وبالغ في محكم القول ونصه، فأخذه بيده ونص على شخصه، بعد أن أخذ منهم الاعتراف والأقارير، كل ذلك قطعاً للمعاذير، ثم أمرهم بتسليم الأمر والإمرة إليه، وهو بين أظهرهم ولم يزل يؤكد عليهم ذلك إلى حين مغيبه عن نظرهم.
وبعد ما أتم عليهم الحجة، وبالغ في إيضاح المحجة، مضى مشيع الحمد إلى سبيله، ورجع مشكور السعي والقيل إلى مقيله وقيله.
وأما القوم فصنعوا بعده ما صنعوا،ولا تسلني فيما أوقعوا في شقتي عهده وشقيقه ووقعوا، وما أحدثوا وابتدعوا، ولكن مجمل القول: أنهم ردوا القهقرى إلى ما كانوا عليه ورجعوا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(58)، ولله أمر هو بالغه (ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ)(59) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(60).
ولنطوي سابري(61) هذا المقال عن سبر هذا المثال، ونعوقه عن بلوغ غايته على علالته، فإنه طويل الذيل لاينقطع ولو وصلنا به الليل إلى الصباح والصباح إلى الليل.
ولكنا بعون الله قد بلغنا منه موضع الحاجة،وأوضحنا لطالب الحق منهاجه، فالملك هو مالك الملوك وجبار الجبابرة، وملك الدنيا والآخرة، والسفير هو صفيه وحبيبه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأمة هي جاهلية دهره وجميع أهل عصره، والأرض الموحشة هي الدنيا وما فيها من أشباح النعم وصور اللذة والألم، والعين التي أجراها السفير هي كلمة التوحيد جلت عظمتها، والأصول التي أمر أن تغرس عليها هي أركان الدين من الصوم والصلاة والحج والزكاة ونظائرها، و نسخة العهد هي كتاب الله العظيم ونبأه الكريم، والشقيق هو وصيه أمير المؤمنين (عليه السلام).
وعليك بتطبيق سائر الرموز والإشارات، واجعله عبرة تعبر به إلى الحقائق على جسر العبارات.ولم تزل سنة الله في عباده، وعادة أنبيائه وحكمائه في بلاده، التعبير عن المقصود بضرب المثل، فإنه في الإقناع أمثل وأكمل.
ثم اعلم أن المثل وإن جمع الأدلة وحاز الحسن والوضوح كله، ولكنه لا ينفع إلاّ بمساعدة من التوفيق، ومرافقة الإنصاف الذي هو أحسن صاحب ورفيق، وأما من ركب متن الاعتساف، وساعده الخذلان وسدده الحرمان، فذاك لا ينتفع ولو جئته بألف دليل وبرهان، ولكنه يكفي في إقامة الحجة عليه، قطع العذر منه إذا توجهت العقوبة إليه.
وأنت إذا كنت طالباً للحق بصدق العزيمة والفطرة السليمة، تجد ذلك المثل وافياً بطلبتك، كافياً بإبلاغ بلغتك، مضافاً إلى ما اشتمل عليه من دقائق المعارف، وحقائق الألطاف واللطائف.
وعساك لا تقنع بالرموز والإشارات، ولا ترضى إلا بصريح العبارات، فنقول: إنّ ملخّص القول في الإمامة: انّ المسلمين بأجمعهم قد اتفقوا، بل قاطبة أهل الأرضين، بل هو مركوز في طباع أكثر الحيوانات كالنحل والنمل وغيرها، على لزوم رئيس لكل أمة، ترجع إليه في أمورها المهمة، يسوس أمرها، ويجلب نفعها، ويدفع بحسن تدبيره ورأيه شر غيرها عنها وشرها، سواء كان ذلك الرئيس واحداً أو جماعة مخصوصة، مما له أو لهم فضل تمييز ومعرفة على غيرهم ليحصل الغرض من الرجوع إليه أو إليهم في قطع مواد الفساد وحفظ الصلاح بين العباد.
وهذا مما لم يناقش فيه أحد أبداً، ولا وجدت الناس بحسب فطرتها من دون ذلك ملتحداً.
والمسلمون بعد اتفاقهم على ذلك اختلفوا بعد نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) على قولين لا ثالث لهما أبداً: فقالت طائفة إن تعيين ذلك الرئيس باختيارها وتمييزها، وبإشاءتها واجتماعها.
وقال آخرون: هذا منصب إلهي، ولا ينتهي إلاّ إلى العقل الغير المتناهي، ورأت بحسب صريح عقلها وصحيح فكرها: أن ذاك مقام شامخ ومنزل باذخ، يحتاج إلى صحة الظواهر والبواطن، وسلامة العلانية والسرائر، من كامل في ذاته مكمل، وفاضل متفضل، والناس مع قصورها وضعف عقولها تقصر عن تعيينه وتشخيصه، ولا يعرفه إلاّ من هو مثله أو أعلى منه، ولو كانت كذلك لاستغنت عنه.
ولا يعرف ذلك إلاّ علاّم الغيوب، المطلع على السرائر، الخبير بما في الضمائر، وأنه يجلّ ذاك العدل الحكيم البر الرحيم، الذي بين لعباده على يدي رسوله جميع الأحكام، حتى (أرش الخدش)(62)، أن يخل بهذا الغرض المهم والوجه الملزم، الذي به قوام الدين ونظام أمر المسلمين.
أترى من يعين نوادر أحكام الحيض والنفاس، يهمل تعيين من ترجع إليه الناس؟!
وبالجملة فقد رأت بعقولها الصريحة وأفكارها الصحيحة، انّها لو عينته وأطاعته، كان حالها حال الجاهلية، حيث كانت تصنع الأصنام بيدها ثم تعبدها، فهي تصنعها ولها تخضع، وتطبعها ولها تطيع وتسمع.
والخلاصة، إنّها لما عرضت ذلك القول على حاكم عقولها أنكره أشد الإنكار، ورأى وضوح فساده كالشمس في رابعة النهار، فلم يكن لها محيص عن القول بالتنصيص.
بعينيك فانظر أي نهجيك تنهج طريقـان شتى مستقيم وأعوج
ثم بعد أن وجب عندها كلية النص على الإمام، وأنه لا يتعين إلا بتعيين الملك العلام، استفاضت عندهم النصوص، من كلا دليلي الشارع المقدس كتاباً وسنة على التنصيص على علي (عليه السلام).
أما الأول: فكثير، ويكفي منه قوله تعالى في آية المباهلة: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)(63)، بضميمة (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْـمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(64)، وقوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْـمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَـهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ)(65). ومن النصوص أيضاً قوله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(66).
كلا الآيتين بحسب ما اتفق عليه الفريقان من نزولها في حقه (صلوات الله عليه).
وأما الثاني: فهو طائفتان: إحداهما تدل على حصر الإمامة والمرجعية في أهل بيته، والأخرى تدل على تعيين علي (عليه السلام) منهم.
أما الأولى: فهي أيضاً لا تحصى من الكثرة والاستفاضة، ويكفيك منها ما تواتر عند الفريقين، من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواطن متعددة: ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض وهما كهاتين وجمع بين سبابتيه) (67).
أما سنده فهو متواتر عند الفريقين، لا أظن أحداً ينكره من أهل الحديث، ولئن كان فهو في غاية الشذوذ والندرة لا يضر بتواتره.وأما دلالته على المقصود، فهو أجلى من الشمس لمن له أدنى تأمل وحدس، خصوصاً بما اشتمل عليه من التأكيدات البديعة والبيانات الرفيعة.وأما الثانية: فلا يحيط بها قلم،ولا يحصيها رقم،ويكفيك منها قليل من كثير، وجرعة من حديث الغدير(68)، وحديث المؤاخاة(69)، وحديث تبليغ براءة(70)، وحديث النور(71)، وحديث الطائر(72)، وحديث المنزلة(73)، وحديث الراية(74)، وحديث المدينة إلى غير ذلك مما شاع وذاع، وملأ العيون والأسماع، وطفحت به كتب الحديث بين الفريقين، وخفقت راية اشتهاره في الخافقين.
والمخالف إن أنكر تواترها عنده (75)، كفى في لزوم الحجة عليه تواترها عندنا، وإلاّ لصح لليهود والنصارى إنكار معجزات نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبطال حجية تواترها عند المسلمين،وعدم تواترها عندهم.
وبالجملة، فقد عرفت أن النبوة والإمامة من وادٍ واحد، فكل ما يثبتون به نبوة النبي، نحن نثبت به إمامة الوصي، وقد سبق حل هذه العقدة، بأن هذا لا يضر بالتواتر، الذي هو عبارة عن إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، وهذا يحصل بإخبار طبقات المسلمين جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، حتى ينتهي الأمر إلى من كان في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله) من المخبرين المتعددين الذين يمتنع ـ عادة ـ تواطؤهم على الكذب في الإخبار عن النبي بصدور المعجزات منه، كيف والعادة تقضي بخلافه وبإخفائه، لشدة بغضهم له وكثرة أعدائه.
وهكذا حال الإمامية مع خصمها في تواتر تلك الأحاديث عندها، بل الأمر هنا أتقن وأحكم وأدحض للخصم وألزم، اعتباراً بكون أكثر المخالفين يوافقون الإمامية في روايتها وتصحيحها وتدوينها في كتبهم ، بخـلاف الملل المخالفة للمسلمين ، فإنها لا توافقهم على شيءٍ مما يدعون تواتره في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المعجزات، وإن كان ذلك منهم ليس إلاّ محض عناد وكفر وإلحاد، ولكن للاعتراف قسط من الثمن في الإلزام.
ومن هذا يظهر الجواب عن إنكار دلالتها ونصوصيتها على المطلوب، فإن النص هو ما لا يحتمل الخلاف، أي ما يقطع معه بالمراد، وهذا وإن كان يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، ولكن المدار على أهل اللسان والإنصاف والوجدان، وإلاّ فمثل قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(76) نص على عموم قدرته، وإن أمكن وجود من يشكك في ذلك، ولكن ليس المدار والاعتبار على مثله في تحقق النصوصية.
وتلك الأخبار لو سلمنا ـ من باب المماشاة مع الخصم– عدم نصوصية كل واحد منها، ولكن بعد ضم بعضها إلى بعض واعتضاد بعضها ببعض يقطع المنصف أن المراد بها ذلك.
ويتضح هذا من ملاحظة حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه وكلماته في حقهم، فإنه (صلوات الله عليه) كان يخلع على خاصته بكلماته خلعاً سنية، فبعض يقول فيه: (هو منا أهل البيت)(77)، ويقول في آخر : (هو أصدق من أظلّت الغبراء والخضراء)(78)، وفي آخر: (هو جلدة بين عيني وتقتله الفئة الباغية)(79)، وفي بعض : (هو أسد الله وأسد رسوله) (80)، وما أشبه ذلك.
وهذه كلها متقاربة لحناً، متوازية المعنى، متشابهة الفضيلة، متعادلة الوسيلة، ولكن إذا نظرت إلى كلماته في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) وجدتها على نهج غير نهجها، ونسيج ما هو كنسيجها، وطراز ليس كطرازها، وإعزاز ليس كإعزازها.
فإنه لم يتفق له القول في أحد مثل قوله: ( اللهم آتني بأحب خلقك إليك)(81)، ولا كقوله : (علي سيد البشر ومن أبى فقد كفر) (82)، ولا كقوله : (علي مني بمنزلة هارون من موسى)(83)، (وأنا وعلي من نور واحد)(84)، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
فإنك تجد العظمة والهيبة ملأ اهابها، ورفيع المثابة حشو ثيابها،والغرض في كلها معنى واحد، يشير تارة إليه، وينص أُخرى عليه.
ويؤيد ذلك ما كان له ( صلوات الله عليه) من كراماته ومعجزاته وعجائب صفاته وشريف ذاته، وكرم أخلاقه،وطيب أعراقه، وما اختص به من صفات الكمال من دون جميع الصحابة والآل، من علمه وحلمه وشجاعته وفصاحته وعظيم ورعه وزهده وإخباره بالمغيبات وحله المشكلات، مما لا ينكره إلاّ كافر بالله وبالرسول، أو مخالف لضرورة العقول.
وبالجملة، فليس الغرض والقصد في هذا المقام المجادلة والخصام، والمدافعة مع المتكلمين بالكلام، وإنما الغرض المهم هو تمهيد سبيل اليقين والعلم، وبيان ما يحصل به الجزم والاعتقاد لطالب الحق والهدى، لا لصاحب العناد والهوى، وأمّا الهداية والتوفيق فأمر وراء هذا على التحقيق، فكم من جاحد للحق وهو به على علم ويقين، وكم متبين له الصواب وهو في الخصام على الخطأ مبين، فجل القصد هو إتمام الحجة على العبد بينه وبين نفسه، وما يقع في قلبه، وفيما بينه وبين ربه، لا إظهار الغلبة على الخصم والفشل في مقام النزاع، والجدل ورد شبهاته، وقطع محاججاته وتشكيكاته، فإن مجال هذه النبذة لا سعة فيه لذلك، ولم يكن وضعها مبتنياً على ما هنالك.
وأصحابنا الإمامية شكر الله مساعيهم الجميلة قد كفونا هذه المؤنة، وقاموا لتشييد الحق بأحسن المعونة، ولو أقسمت أنه من بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا ما مرت سنة إلاّ وخرج لهم عدة تصانيف في الإمامة، لما كنت حانثاً في اليمين، ولا قائلاً بغير علم ويقين، ولكن مع ذلك كله (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(85).
وإن لم تكـن للمـرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
والهداية أمر من لديه، وكل شيء راجع إليه.
وبعد أن تحققت وتيقنت أنّ الإمامة واجبة كوجوب البعثة، وانّها لا تكون إلاّ بالنص، وإن النص ما وقع ولا ادعاه أحد إلاّ في علي (صلوات الله عليه)، فاعلم أن الطريق الذي أثبتنا به إمامته هو الذي نثبت به إمامة ولده من بعده واحداً بعد واحد بالنصوص من جدهم وأبيهم وكل سابق على اللاحق، مع ما فيه من المعجزات وعلم المغيبات وغير ذلك من الدلائل المتواترة عندنا والآيات، وما ثبت له من واجب العصمة والمفاخر الجمة وحل المشكلات المهمة، فيجب على المكلف معرفتهم (صلوات الله عليهم) بأنسابهم وأسمائهم الشريفة، مشيراً بها إلى ذواتهم المقدسة، وأشخاصهم المعينة، حتى ينهي إلى خاتمهم وقائمهم الذي ينتصر به الله لهم من ظالمهم، ويجب أن يعتقد بوجوده وحياته في هذه الدنيا، وبظهوره في الوقت الذي يشاؤه، وأنه لو لم يبق إلا يوم واحد من الدنيا لطول الله (جلّ شأنه) ذلك اليوم حتى يخرج فيه، ويملأها قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً(86).
ولا ينبغي التشكيك في ذلك من جهة طول غيبته وزيادة عمره على الأعمار الطبيعية للبشر، فإن ذلك استبعاد ما هو ممكن في ذاته، وليس من المستحيلات العقلية، كيف وقد وقع في العالم ما هو أطول من ذلك بكثير، والله على كل شيءٍ قدير، وقد أخبر به الصادقون الأمناء، وتشرفت بخدمته وسعدت برؤيته أجلة العدول الثقاة من العلماء والصلحاء(87)، واعترف بوجوده جملة من علماء المخالفين(88).
وبالجملة فنور وجوده أجلى من الشمس في الظهيرة، وليس سوى أبصار الخفافيش منه على حيرة.
وأمّا السؤال عن مصلحة وجوده مع غيبته، فهو عندي سؤال عاطل باطل، لاينبغي أن يصدر من المؤمن الكامل، فإنا نعترف بضعف نفوسنا وقصر عقولنا عن تحمل الأسرار الإلهية، وإدراك المصالح الجزئية فضلاً عن الكلية، وقد أوجب علينا الشارع المقدس بالقطع واليقين الاعتقاد بوجوده وحياته، والاعتراف والتدين بإمامته، فلا ينبغي لنا سوى التسليم والإذعان والإقرار والإيمان، والتضرع إلى الله (جلّ شأنه) بتعجيل فرجه وظهوره، واستضاءتنا بأشعة نوره.
على أنه قد بيّن (صلوات الله عليه وعلى آبائه) وجه المصلحة في وجوده على خفائه، وذلك على ما ورد في بعض توقيعاته الصادرة من ناحيته المقدسة، حيث ]قال[ (عجل الله سلطانه وأنار برهانه): (وأما الانتفاع بوجودي مع غيبتي فهو كانتفاع الناس بالشمس إذا حجبها الغمام)(89).
فاعرف هذا وتأمل فيه فإنه رفيع المرام، وكلام الملوك ملوك الكلام، فإنه يشير (صلوات الله عليه) إلى أن ذلك الاستتار لا يذهب بوجود النهار، وانتفاع الناس بما ينفذ منها من تلك الأنوار، وهذا أحد أسراره وإلاّ فلا يبلغ إلاّ سبّاح الفكر إلى عميق قراره.
نعم، إذا تكاثف ذلك الغمام، واستولى الظلم والظلام، شق ساطع نوره مرخى ستوره، وملأها قسطاً وعدلاً، وجعل كلمة الله العليا، وكلمة أعدائه السفلى.
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من شيعته وأنصاره، ويمنّ علينا بمشاهدة أنواره، ويجعلنا من الطالبين معه بثأره، ولنختم الكلام في الإمامة على خاتم الأئمة وباب الرحمة، متوسلين إلى الله تعالى، أن يمنّ علينا بحقه، وبحق آبائه (صلوات الله عليهم ) بحسن الخاتمة، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الفصل السادس
في المعاد
أي عود الأرواح إلى أبدانها التي كانت فيها، وبعبارة أجلى المراد به : عود الأجسام الفانية والعظام البالية إلى وضعها السابق وهيئتها الأولى، بجميع ما كان فيها من جليّها وخفيّها ونفسيّها وعقليّها ولكن تحصيل الاعتقاد على هذا من الدليل العقلي في غاية الإشكال والصعوبة، ولكن يسهل الأمر عليك بعد ملاحظة الفصول السابقة، وتحصيل الإيقان والإذعان بها غاية السهولة بإقامة ما استفاض من الأدلة النقلية كالإجماع بل الضرورة من قاطبة المسلمين، بل جميع المليين في الجملة، وكالآيات الشريفة الظاهرة بل الصريحة كقوله تعالى:(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)(90)، وقوله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(91)، وهكذا جميع ما اشتمل على ذكر العظام والجلود والبطون والأيدي والأرجل مما هو من خواص البدن دون النفس، والكتاب الكريم قد عنى بهذا الأصل عناءاً عظيماً، وتضمن من الإلزام والحث على الجسماني منه أمراً جسيماً، ولوح إلى الأدلة والبراهين حتى ألزم وأتقن وأحكم، وضرب الأمثال والحكم في قدرته على ذلك حتى بكّت الخصم وأفحم.
صوّب فكرك وصعّد، وشرف نظرك وأسعد بمراجعة يس والواقعة والمؤمنين تجد فيها من الشواهد المبينة والدلائل الرصينة، وأساليب العبارات بأعاجيب الرموز والإشارات، ما يأخذ بمجامع الألباب، ويفتح باباً من اليقين ينفتح منه ألف ألف باب.
فإذا كنت ممن صدق وآمن بالكتاب المنزل ومن أنزله ومن أنزل عليه، لا محالة قادك ذلك إلى التصديق به والإذعان بألف شطن(92) إليه، وإلاّ فلابد من الالتزام والتدين به إن تعذّر عليك الجزم واليقين، وإلاّ كنت منكراً لضروري من ضروريات الدين.
على أن الإنكار مما لا وجه له بعد الاعتراف بكون الإعادة من الممكنات عقلاً، وإن القدرة قد وسعت كل شيءٍ طولاً وفضلاً، وحينئذٍ فلا حاجة إلى تكلف إقامة البراهين العقلية، ولا وجه للتوجه إلى التشكيكات الواهية الردية، فإنها سلوك للطريق الأبعد، وعدول عن المنهج الأسد الأرشد.
حتى لقد قال بعض الحكماء من المتأخرين ما ترجمة عبارته بعد نقل الأقوال في المعاد، قال: الثاني مذهب المحققين والمتكلمين، وهو القول بالمعادين الجسماني والروحاني معاً، وجميع الحكماء الإسلاميين، بل جميع الإلهيين قائلون بهذا القول، لكنهم في المعاد الجسماني مقلدون، ويكتفون فيه بتصديق الأنبياء ولا يقدرون على إثباته بالدليل العقلي المستقل.
قال الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء : (يجب أنّ يعلم أن المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة، وتصديق خبر النبوة وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطت الشريعة التي أتانا بها نبينا وسيدنا ومولانا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان للأنفس وإن كانت الأوهام تقتصر منا عن تصورهما، والحكماء الإلهيون رغبتهم في هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أعطوها، ولا يستعظمونه في جنب هذه السعادة التي هي القرب من الحق الأول) إنتهى ملخصاً(93).
وقال بعض الحكماء العارفين: إعادة الجسم ممكنة عقلاً، وقد أخبر به الصادق الأمين فيجب تصديقه.
وهذا المضمون شائع في كلماتهم، ولكنه ليس في محله، مع غزارة كلٌ منهم وفضله، فإن الحكماء الشامخين من المتقدمين والمتأخرين، قد أقاموا عليه من حكم العقل محكم الأدلة والبراهين، ودفعوا عنه جميع شبهات المشككين، وإنا لم نذكر شيئاً منها لغموضها، وتوقفها على مقدمات طويلة، لا تسعها هذه النبذة المختصرة التي قد التزمنا بأن لا نذكر فيها إلاّ ما تتلقاه بالقبول جميع العقول من عامة الناس وخاصتهم وأعاليهم وأدانيهم، وفي هذا المقدار غنى وكفاية، والله ولي التوفيق والهداية.
ثم قد ظهر لك أن هذا الكلام كله إنما هو في المعاد الجسماني، وأما عود النفس أي بقاؤها منعّمة أو معذّبة إلى أن تحضر للجزاء والحساب، فذاك مما حكمت به ضرورة العقول، واتفقت عليه أولو الألباب، وثبوت المبدأ أول دليل على المعاد، وقد كثر الاستدلال بهذا النهج القويم في الكتاب الكريم، كيف ولو لم يكن للخلائق غايات ودار جزاء ومكافات وموقف قصاص وعرصة خلاص، مع ما عرفت من ان خلقهم لم يكن إلا لمنفعة تعود إليهم، لم يكن لهم إلاّ هذه النشأة، لكان إنشاؤهم أشد من العدم وطأة، ولعاد إيجادهم سهم غرض طائش، وعبث لا بل ظلم فاحش.
وهذا أعني المعاد الروحاني مما اتفقت عليه جميع المليين، وما أنكره سوى الطبيعيين والدهريين، ممن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وكانت المحسوسات منتهى حظهم من العلم وأقصى نصيبهم،وهؤلاء لم يلجأوا إلى حجة ودلالة حتى نتعرض لردها، ولا ركنوا إلى متضح مقالة لنتصدى إلى هدمها وصدها.
ومما يجب التدين والالتزام به أيضاً تفاصيل المعاد من الحساب والكتاب والموازين والصراط، وعذاب القبر وسؤال الملكين، إلى غير ذلك مما تضمنه كتاب الله العظيم، وثبت بالضرورة من الدين؛ لأن تكذيبها يستلزم تكذيب الشارع المقدس والكتاب الأنفس، ويكتفى الالتزام بها على ظواهرها، ولا يجب التعرض لمعرفة حقائقها، وما أحسن ما حققه في هذا المقام الشيخ الأكبر كاشف الغطاء (قدس سره)، ولنختم هذا الفصل بنص كلامه المبين وتحقيقه المتين.
قال أجزل الله سره ورفع قدره في مبحث المعاد: (ولا يجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلاّ صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأن الابدان هل تعود بذواتها؟ أو انّما يعود ما يماثلها بهيئاتها؟ وان الأرواح هل تعدم كالأجساد؟ أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالأبدان في المعاد؟ وان المعاد هل يختص بالإنسان؟ أو يجري على كافّة ضروب الحيوان؟ وأن عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي؟
وحيث لزم معرفة الجنان وتصور النيران، فلا يلزم معرفة انهما مخلوقتان ولا العلم بانهما في السماء والأرض أو مختلفتان.
وكذا حيث يجب معرفة الميزان، لا يجب عليه معرفة انّها ميزان معنوية، او لهما كفتان. ولا يلزم معرفة ان الصراط جسم دقيق، او هو عبارة عن الاستقامة المعنوية على خلاف التحقيق، والغرض انه لا يشترط في تحقق الاسلام معرفة انهما من الأجسام، وان كانت الجسمية هي الأوفق بالاعتبار، وربما وجب القول بها عملاً بظاهر الأخبار.
ولا يجب معرفة أن الأعمال هل تعود إلى الأجرام، وهل ترجع بعد المعنوية الى صور الأجسام، ولا يلزم معرفة عدد الجنان والنيران، وادراك كنه حقيقة الحور والولدان.
وحيث لزم العلم بشفاعة خاتم الأنبياء، لا يلزم معرفة مقدار تأثيرها في حق الأشقياء. وحيث يلزم معرفة الحوض، لا يجب عليه توصيفه ولا تحديده وتعريفه. ولايلزم معرفة ضروب العذاب، وكيفية ما يلقاه العصاة من أنواع النكال والعقاب.
نعم، ينبغي لمن صبغ بصبغة الإيمان، وتجنب عن متابعة الهوى والشيطان، أن يشغل فكره فيما يصلح امره، ويرفع عند الله قدره؛ ويستعين على نفسه فيما يصيبه إذا حلّ في رمسه، وما يلقي من الشدائد العظام بعد الحضور بين يدي الملك العلاّم؛ ويكثر النظر في المرّغبات المحرّكة للنفس الى طاعة رب السموات كالتفكر في تلك الجنان ومافيها من الحور والولدان، والتأمل في تلك الاشجار الحاوية لما تشتهيه الأنفس من تلك الثمار.
فينبغي للعاقل أن يفرض الجنة كأنها بين يديه، ويخيّل النار كأنها مشرفة عليه، هذه تسوقه وتلك تقوده، فليخش من لحوق السائق وليحكم الجاذب حذراً من انقطاع الزمام بيد القائد)(94).
انتهى ما أردنا نقله من كلماته زاد الله في رفيع درجاته، ولعمري أنه لكلام علامة رباني، ومحقق مفيد ليس له في تحقيق الحق والإفادة ثاني، وجميع ما ذكره قد انكشفت حقائقه على ما هي عليه لأولياء الله والخلص من عباده والأمثل فالأمثل من خلقه، وحققته بالأدلة بعض الحكماء، وعرّفه بنور المعرفة واليقين جل العرفاء.
وبالجملة فمعرفة هذه الأمور تختلف باختلاف الناس في المعارف والاستعدادات والمواد والقابليات، وتتفاوت النفوس فيها بحسب تفاوت ملكاتها وادراكاتها، ومحاسن عاداتها وعباداتها، وصفاء جوهرها وصفاتها،وخالص يقينها وحسن مذاهبها ودينها.
ومع ذلك كله فحفظ ظواهر الشرع مما لابد منه لكل أحد من الأعالي والأداني، وأوائل الناس والثواني، وفتح باب التأويل خطأ وتظليل، وليس ما أشار إليه أهل الله من تلك المعاني بتأويلات وصرف للظواهر، بل بواطن وسرائر.
ونسأله تعالى أن يثبتنا على الصراط المستقيم بنور المعرفة واليقين، ويجعلنا من عباده المتقين، ويجعلنا من أهل المتانة في أمور الدنيا والدين.
وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده من الفصول، ضارعين إلى واهب النفوس والعقول أن يهب لنا بمعرفته كمالها، ويمنّ علينا بالمعونة على القيام بحقه من طاعته وعبادته كما هو حقها وكمالها، إنه نعم الموفق والمعين، وهو أرحم الراحمين.
* هوامش البحث *
( ) لاحظ: الورقة رقم (25) من المخطوطة.
(2) ذكر هذا البرهان صدر المتألهين الشيرازي في الأسفار ونسبه إلى الفارابي : أنظر: (الحكمة المتعالية: 7/ 166).
(3) وردت هذه المقولة على لسان عدد من المحدثين والحكماء، وقد تفرد المرحوم الملا أحمد النراقي بطرحها كحديث نبوي شريف في كتابه (مثنويطاقديس)، كما نقل ذلك محمد الريشهري في (موسوعة العقائد الإسلامية : 3/ 110).
(4) انظر تفسير الآلوسي12:11.
(5) النحل 125.
(6) يونس : الآية 61.
(7) يعني القدم والعلم والحياة.
(8) الحشر: 23.
(9) العنكبوت : الآية 69.
(10) مضمون حديث منسوب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في عوالي اللآلئ لابن أبي جمهور الإحسائي: 4/ 154، بلفظ: "بالعدل قامت السماوات والأرض".
(11) مضمون حديث ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) جاء فيه: (إن العدل ميزان الله سبحانه الذي وضعه في الخلق، ونصبه لاقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه) أنظر: ( عيون الحكم والمواعظ : 150، وميزان الحكمة للريشهري: 1839).
(12) البقرة: 123.
(13)ديوان ابن الفارض: 148. وفيه: "وعلى تفنن:.
(14) م ن: 156.
(15) الأنعام : الآية 9.
(16) المائدة: الآية 64.
(17) المقصود بذلك الشيخ الصدوق، قال في كتابه (من لايحضره الفقيه:1/ 358): (وليس سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كسهونا لان سهوه من الله عزوجل وإنما اسهاه ليعلم انه بشر مخلوق فلا يتخذ رباً معبوداً دونه وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة صلوات الله عليهم سلطان...)،وقد رد عليه الشيخ المفيد في رسالة خاصة، واعتبر ما اعتمد عليه الصدوق في المقام خبر آحاد مختلق.
(18) حملاق العين باطن أجفانها الذي يسوده الكحل يقال جاء فلان متلثما لا يظهر من حسن وجهه إلا حماليق حدقتيه.
(19) العريف: تطلق على (العارف العالم)، وتطلق على (القيم بأمور القوم)، والمراد به هنا المعنى الأول.
(20) التليد : القديم، و الطريف : الحديث، أراد بذلك: أنه قد أعجزهم جميعاً كباراً وصغاراً شيباً وشباباً.
(21) كذلك في الأصل.
(22) المعروف بين المفسرين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلب منهم أن يأتوا بمثل القرآن، ثم تنزل عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، ثم تحداهم إلى الاتيان بسورة واحدة، ومن غير المعروف أنه قد قنع منهم بعشر آيات، ثم بآية واحدة كما ذكر المصنف، فلعل ذلك من سهو القلم، أو لعل هذا التفصيل قد فصلته بعض الروايات التي خفيت علينا، وعلى أي حال فقد تفحصت الكثير من أمهات كتب التفسير والحديث، فلم أعثر على أصلٍ لهذا الكلام.
(23) القروم: جمع قرم وهو السيد المعظم من الرجال.
(24) القرون: جمع قرن وهو سيد القوم.
(25) محبرات: بفتح فسكون ففتح جمع محبرة بفتح فسكون ففتح وهي وعاء الحبر، وقد تكون بكسر الميم مفرداً وجمعاً.
(26) المائق: الأحمق.
(27) مأفون الرأي: ضعيف أو ناقص الرأي.
(28) هناك كلام حول صحة نسبة محاولة معارضة القرآن من قبل المتنبي والمعري، فالنسبة غير ثابتة، ولذا عبر بقوله ( فيما حكي عنهم)
(29) الطروس: جمع طرس وهو الصحيفة.
(30) أنظر: الخرائجوالجرائح : 1/ 48، البحار: 17/ 377 ـ 379 و 41/ 252.
(31) أنظر: النكت الاعتقادية للمفيد : 36، سنن الترمذي: 5 / 256.
(32) أنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 6/ 135، حيث جمع العديد من الروايات حول هذا الموضوع في باب انقياد الشجر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
(33) مناقب آل أبي طالب: 1 / 90 ـ 91، البحار: 17 / 365 و369 ـ 370، كنز العمال 12 / 411 و11 / 371. سنن الترمذي : 5 / 254.
(34) أنظر سنن أبي داود : 3/ 8، مسند أحمد : 3 / 247، دلائل النبوة للبيهقي: 6/ 336، النكت الاعتقادية للشيخ المفيد: 36.
(35) البسابس: جمع بسبس والمراد به القفر الخالي.
(36) أنظر المستدرك على الصحيحين: 2/ 20.
(37) أنظر: أمالي الصدوق: 360، وكمال الدين له أيضاً: 192، مناقب آل أبي طالب: 1/29.
(38) أنظر: الخرائج والجرائح:2/ 23.
(39) أنظر: بحار الأنوار:15/ 263.
(40) القصص: الآية 56.
(41) كما قال الشاعر:
لا تنجلي الغماء عن هذا الورى إلاّ بطعــن أو بضـرب فــاغر
و(الغماء) : الشديدة من شدائد الدهر. وإنهم لفي غماء من أمرهم إذا كانوا في أمر ملتبس شديد.
(42) يوسف: الآية 80.
(43) البقرة: الآية 179.
(44) يوسف: الآية 310.
(45) الكهف: الآية 104.
(46) الكافي : 1/ 168.
(47) إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ( الإيمان يماني والحكمة يمانية ) ( الكافي: 8/70).
(48) الضريع : قيل : السلاء، وقيل: العوسج الرطب وقيل : يبيس كل شجرة، وقيل غير ذلك.
(49) الوهاد : جمع وهدة ما انخفض من الأرض.
(50) النَزُّ والنِزُّ: ما يتحلب في الأرض من الماء. وقد أنزت الأرض: صارت ذات نز.
(51) الثَّمْدُ والثَّمَدُ: قيل الماء القليل الذي لا مادّ له، وقيل : الثِّماد الحفر يكون فيها الماء القليل، وقيل غير ذلك.
(52) اليعافير: جمع يعفور وهو ولد الضبية وولد البقرة الوحشية والعيس : الإِبل تضرب إِلى الصُّفرة أو هي الإبل البيض مع شقرة يسيرة، وكأن المصنف هنا يشير إلى قول الشاعر:
وبلــدة ليـس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
(53) العقعق: طائر من فصيلة الغربان، ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب.
(54) ثجة: وصف للرياض التي فيها حياض تمسك الماء.
(55) مجلوة: تأتي بمعنى مزينة، وهي في الأصل تستخدم في العروس يقال : (جلوت العروس جلاء وجلوة واجتليتها بمعنى إذا نظرت إليها مجلوة).
(56) اللأواء : المشقة والشدة وقيل القحط يقال أصابتهم لأواءوشصاصاء وهي الشدة.
(57) الجَزْع: نوع من الخرز.
(58) آل عمران: الآية 144.
(59) الأنبياء: الآية105.
(60) الشعراء:الآية 227.
(61) السابري: ثوب رقيق جيد.
(62) أنظر: وسائل الشيعة : 29/ 356.
(63) آل عمران: الآية 61.
(64) الأحزاب: الآية 6.
(65) التوبة: الآية 120.
(66) المائدة: الآية 55.
(67) هذا هو الحديث المسمى بـ ( حديث الثقلين) الذي هو من الأحاديث المتواترة، ومن مصادره عند العامة وبألفاظ مختلفة: صحيح مسلم 7 / 122 ـ 123، سنن الترمذي 5/ 621 ح 3786 و ص22 6 ح 3788، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 45 ح 8148 و ص 130 ح 8464، سنن الدارمي 2 / 292 ح 3311، مسند أحمد 3 / 14 و 17 و 26 و 59، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 418 ح 41، مسند البزّار 3 / 89 ح 864، مسند أبي يعلى 2 / 297 ح 1021 و ص 303 ح 1027، صحيح ابن خزيمة 4 / 62 ـ 63 ح 2357، المعجم الكبير 5 / 154 ح 4923 و ص 166 ـ 167 ح 4969.
(68) روي حديث الغدير من طرق متعددة لا يسع المجال لإحصائها، ولكن أنظر حول طرقه : الغدير : 1 / 14 و 158، والمراجعات 319).
(69) حديث المؤاخاة : ( أنت أخي في الدنيا والآخرة) أنظر: سنن الترمذي 5 / 595، والطبقات لابن سعد 2 / 60، والمستدرك للحاكم 3 / 16.
(70) أخرج حديث تبليغ سورة براءة كثير من أئمة الحديث وحفاظه بعدة طرق صحيحة يتأتى التواتر بأقل منها، أنظر: تبليغ سورة البراءة للأميني: 1و2و3و4.
(71) حديث النور : (كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى...) أنظر: مسند أحمد: 5/143.
(72) حديث الطائر: (اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك) أنظر: سنن الترمذي 5 : 636،اُسد الغابة 4 : 30، مستدرك الحاكم 3 : 130، وغيرها.
(73) حديث المنزلة : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى...) أنظر: صحيح البخاري 3 : 58، صحيح مسلم، 2 : 323، سنن ابن ماجة 1 : 28،المعجم الصغير للطبراني: 169، الصواعق المحرقة: 72.
(74) حديث الراية: ( لأعطين الراية غداً...) ومن مصادره نذكر: صحيح البخاري 4 / 73، صحيح مسلم 4 / 1871، سنن الترمذي 5 / 638 ح 3724، مسند أحمد 5 / 333 و353، دلائل النبوة للبيهقي 4 / 209 ـ 210. تاريخ الطبري 3 / 11 ـ 12، خصائص النسائي: 38 ح 13، كفاية الطالب: 98، المستدرك على الصحيحين 3 / 37وغيرها.
(75) هذا من باب التنزلوالمماشاة مع الخصم، وإلا فإن جل الأحاديث المشار إليها هي من الأحاديث المتواترة عندهم.
(76) البقرة: الآية 20.
(77) في الإختصاص للمفيد: 341 : (أن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ دخل مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فعظموه وقدموه وصدروه إجلالا لحقه وإعظاما لشيبته واختصاصه بالمصطفى وآله، فدخل عمر فنظر إليه فقال: من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب، فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فخطب فقال: إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي ولا للاحمر على الاسود إلا بالتقوى، سلمان بحر لا ينزف، وكنز لا ينفد، سلمان منا أهل البيت).
(78) في أمالي المفيد : 710: (ما أظلت الخضراء، و لا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر).
(79) قال في عوالي اللآلئ : 1/ 33: (و في حديث عنه ص أنه قال عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية).
(80) روى السيد رضي الدين ابن طاوس في التحصين: 572: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :... وعمى حمزه اسد الله واسد رسوله...).
(81) هذا حديث الطائر المشار إلى مصادره سابقاً.
(82) المسترشد للطبري الشيعي: 272، والبحار: 26/ 306و 34/11و 37، 308و 38 /11و 40/ 77و82/ 265، الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) للقمي الشيرازي: 504، تاريخ مدينة دمشق: 42/ 372، ثقاة ابن حبان: 9/ 281.
(83) هذا هو حديث المنزلة، أشرنا إلى مصادره فيما مضى.
(84) هذا حديث النور، مرت بنا الإشارة إلى طرقه.
(85) النور: الآية 40.
(86) أنظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 297.
(87) وقد ألف المحدث النوري كتاباً خاصاً حول هذا الموضوع أسماه (جنة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة (عليه السلام)، وأورد فيه (59) حكاية.
(88) خصص الشيخ علي اليزدي الحائري في الفرع الثالث من الغصن الخامس من الجزء الأول من كتابه إلزام الناصب لــ (ذكر بعض المعترفين بولادته من أهل السنة والجماعة)، فليراجع.
(89) ورد هذا المضمون في توقيع الإمام المهدي (عليه السلام) أنظر: كمال الدين وتمام النعمة: 2/ 486.
(90) القيامة: الآية 3-4.
(91) يس: الآية 78-79.
(92) شَطَنَ: الحبل الطويل الشديد الفتل.
(93) كتاب الشفاء من الإلهيات: 227بتصرف يسير من المصنف.
(94) كشف الغطاء : الجـزء 5.