البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صناعة الآلهة (المكانة الدينيّة للمجتمع عند دوركهايم)

الباحث :  الشيخ علاء السعيدي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  36
السنة :  خريف 2025م / 1447هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 22 / 2025
عدد زيارات البحث :  138
تحميل  ( 463.402 KB )
الملخّص
طرح علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع نظرياتٍ مختلفةٍ في محاولةٍ منهم لإعطاء تفسيرٍ لنشأة الدين لدى الإنسان الأول على الأرض، ومنها نظريّة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دورکهایم الذي أسند نشأة الدين إلى المجتمع، وأنَّه يصنع لنفسه إلهه الذي يعبده، والذي هو المجتمع نفسه.
ومن أجل الوقوف على قيمة هذه النظريّة من الناحية العلميّة كان لا بدّ من تحديد مفهوم الدين والمجتمع في اللغة والاصطلاح، ثم عرض نظريّة دوركهايم في النشأة الاجتماعية للدين كما طرحها في كتاباته، وإيراد الاعتراضات على أصل النظريّة، أو المنهج المتبع فيها، أو الأدلة التي تستند عليها، والتعرّض بعد ذلك لرأيه في مسألة وجود دلائل على إيمان القبائل البدائيّة بعقيدة التوحيد، والتفسير الذي يطرحه لتوفّرهم على هذه العقيدة، مع ذكر الملاحظات الواردة على تفسيره لتلك المسألة. وأخيرًا تحديد أهمّ النتائج التي تمَّ التوصل إليها في طيّات البحث، وذلك باعتماد أصول المنهج التحليلي النقدي.

كلمات مفتاحيّة:
نشأة الدين، المجتمع، المدرسة الاجتماعية، القبائل البدائية، دوركهايم

المقدمة
كان البحث حول نشأة الدين عند الإنسان ولا يزال واحدًا من أهمّ المسائل التي درسها علماء الأنثربولوجيا (علم الإنسان) والاجتماع، فضلًا عن علماء العقيدة؛ لما يمثّله الدين من ظاهرةٍ متأصلةٍ في مختلف جوانب حياة الإنسان؛ ولهذا نجد كثيرًا من المحاولات التي بُذِلت، والدراسات التي أُجرِيت، والكتب التي صُنِفت في هذه المسألة، والنظريات التي طُرحت في سبيل تفسيرها، والتي عبرت عن آراء مختلف المدارس الأنثروبولوجيّة؛ وأهمها: النشوئية التطورية، والثقافية الأمريكية، والانتشار الثقافي، والاجتماعية الفرنسية، والوظيفية.

ويُشار - عادةً - إلى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم E. Durkheim (ت ١٩١٧) بوصفه الممثّل الرئيس لتيّار المدرسة الاجتماعيّة الفرنسيّة. والمرتكز الأساس لهذه المدرسة أنَّه لا يمكن دراسة الظاهرة الاجتماعية منعزلة، بل يجب الإلمام بجميع عناصر السياق العام المتعلّق بها، وبذلك فقط يكون بمقدورنا تشخيص أسباب تلك الظاهرة بشكلٍ سليم.
ويُعدُّ كتاب (الأشكال الأوليّة للحياة الدينيّة - المنظومة الطوطميّة[1] في أستراليا) أوسع مؤلّفات دوركهايم في مجال البحث عن نشأة الدين لدى المجتمعات الإنسانية، وأكثرها أهميةً؛ لأنَّه يمثل حصيلة أبحاثه الاجتماعيّة في هذا المجال بما تضمّنه من آراءٍ تُعبِر عن آخر ما توصّل إليه في دراساته من تطبيقٍ لقواعد منهجه (العلمي) في دراسة المجتمع مع الأخذ بنظر الاعتبار جميع العوامل والظروف المؤثّرة في نشوء ظواهره.

ومع أنَّ تفسير إميل دوركهايم لنشأة الدين قد تم رفضه في الأوساط العلمية، بسبب ما يبتني عليه من تنافٍ مع توجهات الطبيعة البشرية، فإنَّ هناك محاولةً لإحياء أفكاره من جديدٍ في الأوساط العلميّة، عن طريق إعادة طرحها في عددٍ من الدراسات المعاصرة، الأمر الذي استدعى البحث في أطروحته عن النشأة الاجتماعيّة للدين، للوقوف على جوهر هذه النظريّة، والأدلّة التي تستند إليها، ثم التعرّض إلى ما يمكن أنْ يرد عليها من انتقادات.

تمهيد: المفاهيم العامّة للبحث
أولًا: الدين لغةً واصطلاحًا
الدين في اللغة «أصلٌ واحدٌ إليه يرجع فروعه كلّها، وهو جنسٌ من الانقياد والذل. فالدين: الطاعة، يقال: دانَ له يدينُ دينًا، إذا أصْحَب وانقاد وطاعَ. وقومٌ دَيِنٌ، أي: مُطيعون منقادون»[2]، و»الدِّيْنُ، بالكسر: الجزاء، وقد دِنْتُه - بالكسر - دَيْنًا، ويُكْسَر. والإسلام، وقد دِنْتُ به، بالکسر. والعادة، والعبادة، والمواظب من الأمطار، أو اللين منها، والطاعة، كالدَّينة، بالهاء فيهما، والذل، والداء، والحِساب، والقهر، والغلبة، والاستعلاء، والسلطان، والمُلك، والحكم. والسيرة، والتدبير، والتوحيد. واسمٌ لجميع ما يُتَعَبَّدُ اللهَ (عزَّ وجلَّ) به، والملّة، والورع، والمعصية، والإكراه»[3].

وهي معانٍ متقاربةٍ ترجع في جملتها إلى الانقياد والذل. وعليه فلفظ (الدين) موضوعٌ في اللغة للدلالة على الخضوع والطاعة، ومن ثَمَّ يصدق على ما يتعبّد به الإنسانُ الإلهَ الذي يقدسه.
وأمّا اصطلاحًا فتوجد تعريفاتٌ اصطلاحيةٌ كثيرةٌ للدين تختلف باختلاف العلوم التي تدرسه، وما يعنينا منها هو تعريفه بحسب اصطلاحات علم الاجتماع.
لقد اختلف علماء الاجتماع كثيرًا حول صياغة تعريف يُعبِر عن الظاهرة الدينيّة في المجتمع، تبعًا لتنوع مناهجهم في دراسته، وكانت نتيجة أبحاثهم هي إثبات خصوصيّةٍ هذه الظاهرة في المجتمع وصحّتها، دون التمكّن من إعطاء وصفٍ محددٍ وملائمٍ لها، فبعض اطروحاتهم تخلط بين الدين والسحر، وبعضها يخلط بينه وبين الأخلاق [4]، ومع ذلك يلاحظ «أنَّ ثمَّة منظومةً من الخصائص التي تشترك فيها جميع الديانات. فهي تتضمن مجموعةً من الرموز التي تستدعي الاحترام، وتوحي بالرهبة، كما أنَّها ترتبط بمجموعةٍ من الطقوس والشعائر، أو الممارسات الاحتفالية التي يؤديها مَنْ يعتنقون هذا المذهب الديني أو ذاك»[5].

وأما دوركهايم فهو من القلّة الذين وضعوا صياغةً محددةً لتعريف الدين، إذ عرِّفه بأنَّه «منظومةٌ موحّدةٌ من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأشياءٍ مقدسةٍ، أي معزولةٍ ومحرّمةٍ، وهي معتقداتٌ وممارساتٌ توحِّد في جماعةٍ معنويةٍ تسمى (الكنيسة) جميع مَنْ ينضون إليها»[6].
ولكن تعريف الدين بوصفه نسقًا موحِّدًا لجماعة معنوية يقتضي إخراج الفرد أو الأفراد الذين يخالفون هذه الجماعة في اعتقاداتهم وطقوسهم من دائرة الدين، رغم وضوح صدق الدين على ما لدى هؤلاء المخالفين من اعتقادات وطقوس. وبعبارةٍ أخرى: لا يَطَّرِدُ هذا التعريف في الجماعات الدينيّة الصغيرة التي تنشق من جماعةٍ أكبر؛ لعدم توحّدهم معها في الاعتقادات والطقوس.

خصائص الدين
يعتقد دوركهايم أنَّ الدين يتوفر على أربع خصائص مكّنته من أداء وظيفته الاجتماعيّة، وهي [7]:
أولًا: القسريّة، فهناك عنصرٌ قويٌ لإكراه الدين أتباعه، مدعومٌ بعقوباتٍ تدور بین الرفض والإكراه البدني.
ثانيًا: العموميّة، فالدين يضمّ مجموعةً من الأفراد الذين له التأثير نفسه عليهم جميعًا - على الأقل - على المستوى الخارجي.
ثالثًا: التراثية، فقد وجِد الدين قبل وجود الفرد، ويبقى قائمًا بعد وفاة الأفراد.
رابعًا: مغايرته للأفراد، بمعنى أنَّ الدين خارجٌ عن الفرد، وبسبب ذلك فهو يمكن أنْ يؤثّر على الفرد الذي لا يمثّل فاعلًا وكيلًا عن المجتمع، وإنَّما يشكل تجسيدًا مأسورًا له.
وينبغي التوقف - هنا – عند الدور الاجتماعي المفترض لهذه الخصائص من وجهة نظر دوركهايم، فهل أنَّ تقرير ذلك كان ناتجًا عن ملاحظة توفرها في جميع المجتمعات الإنسانية بنحوٍ مطردٍ، والحال أنَّه اقتصر على دراسة بعض قبائل أستراليا، فكيف أمكنه التعميم إلى مجتمعاتٍ لم يقم بدراستها؟! مضافًا إلى أنَّه لم يدرس تلك المجتمعات بشكلٍ مباشرٍ، وإنَّما اطلع على ملاحظات أشخاصٍ آخرين، وهذا ما يؤشر على وجود خللٍ واضحٍ في منهج تعاطي دوركهايم مع الدين بوصفه ظاهرةً اجتماعيةً لدى الإنسان، وفي تحليل انعكاساته المختلفة على سلوك الأفراد، وفي ما توصّل إليه من نتائج حول نشأته.

وسيأتي في ثنايا البحث التعرض مفصّلًا للرد على ما ورد في هذه الخصائص، ولكن يمكن أنْ يلاحظ إجمالًا على الأولى بأنَّ الإكراه ليس خصيصةً لازمةً للدين تقسر الأفراد على الالتزام به، بل إنَّ الثابت بالملاحظة أنَّ التزام أكثر الأفراد بشرائع الدين الذين يؤمنون به اختياري.
وعلى الثانية بأنَّ تأثير الدين على الأفراد الذين يؤمنون به ليس بدرجةٍ واحدةٍ حتى على مستوى السلوك الظاهري، إذ يتفاوت الأفراد في مدى تأثر سلوكهم بالدين، فثَمّة مَنْ يراعي الدين في جميع جزئياته، وثَمّة مَنْ يراعيه في بعضها الذي يتغير من فردٍ إلى آخر، وثَمّة مَنْ ينتسب إليه اسمًا.
وعلى الثالثة بأنَّها تستبطن تناقضًا واضحًا، إذ كيف يمكن للدين أنْ يوجد قبل وجود الأفراد، والحال أنَّه يُعبر عن ظاهرةٍ اجتماعيةٍ من وجهة نظره، ومن المسلَّم أنَّ الظاهرة الاجتماعيّة لا توجد إلّا بوجود المجتمع الذي يتألف من مجموعةٍ من الأفراد، وبالتالي فوجود الفرد سابقٌ على وجود الظواهر الاجتماعيّة، ومنها الدين.

وعلى الرابعة بأنَّها تقتضي نفي الاختيار عن سلوك الإنسان، وتستلزم عجز الفرد عن الخروج من دائرة تأثير الدين، مع أنَّ المشاهدة الخارجية تثبت قدرة الفرد على ذلك، فهناك كثيرٌ من الأفراد الذين لا يجسدون الدين في جزئيات سلوكهم.

ثانيًا: المجتمع لغة واصطلاحًا
(المجتمع) في اللغة مصدرٌ ميمي يفيد الدلالة على حدثٍ غير مقيدٍ بزمانٍ معيَّنٍ [8] مشتقٌ من الفعل الخماسي (اجتمع) الذي يرجع إلى الجذر (جمع)، وهو «أصلٌ واحدٌ يدلُّ على تضامّ الشَّيء. يقال: جمعتُ الشيء جَمْعًا»[9]، و(الجَمْع) «تأليف المتفرق ... وجماعة الناس ... واجتمع: ضد تفرّق»[10].

فالمعنى اللغوي للمجتمع يتحدّد في تآلف عددٍ من الأفراد مع بعضهم بعضًا في جماعة معيَّنة.
وأّما المجتمع في اصطلاح علماء الاجتماع فيُعرَّف بتعريفاتٍ عديدةٍ متقاربةٍ المعنى، منها: أنَّه «نسقٌ مكوّنٌ من العرف المنوّع، والإجراءات المرسومة، ومن السلطة والمعونة المتبادلة، ومن كثيرٍ من التجمّعات والأقسام، وشتّى وجوه ضبط السلوك الإنساني والحريات»[11].
والمجتمع - بحسب دوركهايم - يشبه الكائن الحي العضوي، فهو «كلٌّ معقدٌ للغاية، مكوَّنٌ من عناصر مركبة مثل الكائن العضوي. وفي الكائن العضوي، فإنَّ هذه العناصر هي الأعضاء، وعناصرها المكونة هي الخلايا»[12]، فهو ينظر إلى «المجتمع بوصفه كائنًا عضويًا مكونًا من نظمٍ يشبهها بالأعضاء، وأفراد يشبههم بالخلايا»[13]، وكما ينتج هذا الكائن الحي (المجتمع) ثقافته المتميزة، ويوجِد حضارته الخاصة، فإنَّه يصنع آلهةً يعبدها، ويمارس الشعائر والطقوس المختلفة التي تقدسها.

المطلب الأول: نظريّة دوركهايم في نشأة الدين (عرض ونقد)
أولًا: نظريّة دوركهايم في النشأة الاجتماعيّة للدين
يُعدُّ دوركهايم واحدًا من علماء الاجتماع الذين أولوا أهميةً كبيرةً لدراسة الدين من الناحية الاجتماعيّة على وفق المنهج الوضعي، وذلك بصرفه «جانبًا كبيرًا من جهده البحثي في دراسة الدين، مع التركیز بصورةٍ خاصّةٍ على الاعتقاد الديني في المجتمعات التقليدية الصغيرة. ويمكن عدّ مؤلَّفه المسمّى (الأشكال الأولية للحياة الدينيّة) الذي نُشِر عام ١٩١٣م أبرز الأعمال المؤثرّة في علم اجتماع الدين»[14]، وقد توصّل فيه إلى أنَّ الدين أحد أبرز آثار الحياة الاجتماعيّة للإنسان.

وحاصل نظريّة دوركهايم أنَّه بملاحظة الطقوس والشعائر الدينيّة للقبائل البدائية في وسط أستراليا - بوصفها أقدم أشكال الحياة الاجتماعيّة للإنسان - نجد أنَّ المجتمع يتوفّر على كلِّ ما يلزم لوجود الاعتقاد بالإله في أذهان أفراده، لما يمتلكه من سلطةٍ عليهم، فهو بذلك يماثل الرب بالنسبة إلى المؤمنين به في أنّه كائنٌ يتصوّره الإنسان أكثر سموًّا منه، ويعتقد أنَّه يخضع له [15]. فالضغط الاجتماعي الذي يؤثّر على الإنسان بطرائق ذهنية، يمنحه فكرة وجود قوةٍ أو قوى معنويةٍ وفعّالةٍ يمكنه الاعتماد عليها، والتي لا بدّ أنْ يتصور أنَّها خارجةٌ عنه نظرًا إلى مخاطبتها له بصيغة الأمر، فضلًا عن ممارسة الإكراه تجاه میوله الطبيعية[16]، وينصّ دوركهايم على «أنَّنا لنرى المؤمن يخضع لله؛ لأنَّه إلى الله - فيما يعتقد - ترجع الأمور، فهو الذي وطّأ له سبيل الوجود، وهو الذي يبرأ الروح، ويهب العقل والتفكير. ونحن بالمثل نمارس هذه العاطفة نفسها نحو المجتمع، بل ولمثل هذه الأسباب عينها»[17].

إنَّ قدرة المجتمع على توليد آلهته المحفوفة بالقداسة لا تقتصر على المجتمعات البدائيّة، بل تمتلك المجتمعات الحديثة تلك القدرة أيضًا، وهذا ما أكسب هذه الفكرة وضوحًا شديدًا جعلها لا تغيب عن الملاحظة، «فما إنْ يتشارك شعبٌ ما إيمانًا بالإجماع حتى يصبح المسُّ به أمرًا محرمًا»[18]، وهذا يكشف عن استعداد المجتمع لتبوّء مكانة الإله في أذهان الأفراد، وقد اكتسب هذا الاستعداد لدى المجتمع لتنصيب نفسه إلهًا، أو لخلق آلهة غاية الوضوح في أولى سنوات الثورة الفرنسية [19].

إنَّ هذا التطابق بين المجتمع القبلي البدائي والمجتمع المتحضر الحديث في حيازة القدرة على صنع الإله يُعبر عن «حقيقةٍ سرمديةٍ مفادها: أنَّه يوجد خارجنا شيءٌ أكبر منّا، نتواصل معه»[20]، وهذا الشيء الذي يدين له المجتمع بالقداسة هو الإله الذي يعبده، والمؤمن الذي يشكّل فردًا من المجتمع «لا يخدع نفسه، إذ يؤمن بوجود قدرةٍ معنويةٍ يعتمد عليها، ويستمد منها أفضل ما في ذاته: هذه القدرة موجودةٌ، إنَّها المجتمع»[21].

إذًا، فالمجتمع إنَّما يعبد نفسه، وإنَّ الطقوس البدائية العنيفة وُضِعت لتحقيق هذه الفكرة، فبعد مزاولة البدائي لتلك الطقوس ينشأ في نفسه إحساسٌ بسيطرةٍ قويةٍ للجماعة يتمثّل في الفكرة الدينيّة لتلك الاجتماعات، وهذا يولِّد لديه الإحساس بالإله، ولا يمكن أنَّ يكون للمقدس منشأٌ إنسانيٌ فردي. إنَّ له أصلًا اجتماعيًا يتجاوز الإنسان [22].

ويمكن تلخيص الدليل الذي بنى دوركهايم نظريّته عليه في الآتي [23]:
١- «التجانس المطلق والاطراد الدائم في الظواهر الدينيّة عامةً، لا دين - حتى ما كان يظنّ فرديته - إلّا وقد أخذ عن سلفه من الأديان، واطّرد عنها».
۲ - «الحقائق الدينيّة مستقلةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ عن الأفراد، قائمةٌ بذاتها، هي موضوعيةٌ بكلّ ما في الموضوعيّة من معنى».
٣- «جبرية الحقائق الدينيّة، هي حقائق آمرةٌ مسيطرةٌ تضع التكاليف، وتأمر بها أمرًا جازمًا ... وقد اتصلت تلك الحقائق أحيانًا بالقانون، وضَمِن القانون تنفيذها، ثم أصبحت بعد متصلةً بالأخلاق والعرف العام، وهي في جميع صورها عاليةٌ آمرةٌ؛ لأنَّها تنبثق من المجموع، وتعود إليه».

ثانيًا: الاعتراضات على نظريّة دوركهايم
تعرّضت النظريّة الاجتماعيّة التي طرحها دوركهايم لتفسير نشاءة الدين لدى الإنسان لكثيرٍ من الاعتراضات، سواء على مستوى أصل هذه النظريّة، أم على مستوى المنهج الذي اتبعه دوركهايم فيها، أو على مستوى الأدلّة التي استند عليها، وكالآتي:

أ- الاعتراضات على أصل نظريّة دوركهايم
١- إنَّ هذه النظريّة تقوم على مصادرةٍ [24]؛ إذ تبتني على أصلٍ موضوعيّ، وهو أنّ للمجتمع وجودًا أصيلًا منفصلًا عن وجود الإنسان، وهذا ما لم يبرهن دوركهايم عليه في جميع المؤلّفات التي عرض فيها لنظريته، وإنَّما استنتج من ملاحظة الطقوس الدينيّة للمجتمعات القبلية البدائية أنَّ الدين إفراز لحياتها الاجتماعية، مع أنّ كون الدين وليد المجتمع يقتضي وجودًا للمجتمع مغايرًا لوجود أفراده، إذ كتب قائلًا: «يُكرِّس المجتمع أمورًا، ولا سيّما أفكارًا، فضلًا عن تكریسه البشر. فما إنْ يتشارك شعب ما إيمانًا بالإجماع حتى يصبح المسّ به أمرًا محرمًا ... والحال أنَّ تحريم الانتقاد هو تحریمٌ كغيره، يُثبت أنَّنا في مواجهة شيء مقدس»[25]، ومثل هذا الوجود المستقل للمجتمع لا يعدو عن كونه مجرد افتراض لا يتوفّر دليلٌ لإثباته، بل الدليل على خلافه؛ لأنَّ كون المجتمع موجودًا مستقلًّا عن أفراده يقتضي استمرار وجوده حتى بعد زوال الأفراد، رغم انتفاء المجتمع بانتفاء أفراده.

٢- عدم ابتناء هذه النظريّة على الدراسة المباشرة من قِبل دوركهايم لعقائد القبائل البدائية التي جعلها مادّةً لبحثه، وهو يعني أنَّ عينات الدراسة غير محددةٍ بنحوٍ يحول دون اختلاطها بما لا يمتّ إلى موضوع البحث بصلة، الأمر الذي يجعلها تفتقر للشروط العلميّة للبحث، وهو ما يؤثّر بنحوٍ مباشرٍ في دقة الاستنتاجات التي يتمّ التوصّل إليها من ملاحظة تلك العينات وتحليلها، فقد استقى دوركهايم المعلومات التي بنى عليها نظريّته من مصادر نقلت مشاهدات وملاحظات عن الطقوس الدينيّة للقبائل البدائية في وسط أستراليا، مع أنَّ هذا النحو من المصادر غير موثوقٍ من الناحية العلمية؛ ذلك أنَّ نظريته تعتمد بشكلٍ أساس على ما دوَّنه الرحّالة والمستكشفون عن عقائد وعادات القبائل البدائية، ولا يملك جميع هؤلاء الخلفية العلميّة التي تتيح لهم استبطان واقع العقائد الدينيّة لتلك القبائل، ووضع الأسئلة الدقيقة المحدّدة في هذا الشأن، كما أنَّهم غير مزوّدين بالأخلاقيّات اللازمة للبحث العلمي[26] بما يمكنهم من البحث العميق في مثل هذه القضايا، وتدوين ملاحظاتٍ دقيقةٍ بخصوصها.

وممّا يعزّز افتقاد مادّة البحث للدقة، ويزيد من التشكيك في صحّة استنتاجات دوركهايم أنَّ هذه المعلومات غير مستقاةٍ من آثارٍ مكتوبةٍ لتلك القبائل؛ لأنَّها قبائل بدائية لا تعرف الكتابة، بل أُخذت مشافهةً من جماعةٍ لا يمتلكون القدرة على تحليل أفكارهم، وتحديد شعورهم في هذه المسائل، والراجح – عندئذً - أنَّهم يتسرعون في الإجابة دون تدقيق، هذا فضلًا عن عقبة عدم نضج هذه اللغات البدائية، وعدم استكمالها وسائل التعبير عن المعاني الدقيقة الغامضة التي يصعب أداؤها حتى في اللغات المتقدّمة. مضافًا إلى أنَّه ليس كلّ فردٍ من القبيلة يمثّل الفكرة العامّة للقبيلة، فقد تختلف التفسيرات من شخصٍ لآخر، بل إنَّ الشخص الواحد قد يجمع تصوراتٍ متناقضة، ويدلّ على ذلك تناقض الكتّاب أنفسهم في وصف عقيدة تلك القبائل [27].

٣- إنَّ دوركهايم عدَّ الطقوس والشعائر الدينيّة الشكل الوحيد للنشاط الاجتماعي للقبائل البدائية، وأهمل حقيقةً مسلَّمة، وهي أنَّ الناس لا يفتقرون إلى النشاط الاجتماعي غير المرتبط بالطقوس الدينيّة، مع أنَّ مثل هذه الطقوس تدفعهم إلى التواصل فيما بينهم، وممّا يدخل في نطاق نشاطهم الاجتماعي تحديد نوع تلك الطقوس، والقيم الرمزية للنشاط الاجتماعي الذي يمارسونه، إذ يستخدم الناس ذاكرتهم وحوادث الموت لتحديد متى ينبغي عقد الطقوس الدينيّة التي يمكن أنْ تسهم في تقوية الحسّ الاجتماعي لديهم، دون أنْ يعني ذلك أنَّ النشاط الاجتماعي البحت غير موجودٍ في الأيام العادية[28].

٤- إنَّ ما ذكره دوركهايم مجرد استنتاجٍ مبني على دراسة حالةٍ أو حالاتٍ محدودةٍ في نطاقٍ جغرافيّ معيَّن، إذ قد تكون سائر الحالات مغايرةً لموضوع الدراسة في خصوصياتها الدينيّة، وهذا ممّا يضرّ بصحّة تلك الاستنتاجات، فعلى فرض صحّة النتيجة التي تم التوصّل إليها بملاحظة الطقوس الدينيّة للقبائل البدائية فإنَّ ذلك يكشف عن ثبوت الحكم لتلك الجزئيات المحدّدة، ومثل هذا الاستقراء لا يصلح لتعميم الحكم إلى سائر الجزئيات، فقد «لاحظ إ. إ. إيفانس بريتشارد Evans - Pritchard أنَّ تفسیر دورکهایم للدين يصلح بشكلٍ أفضل لما يسميه إيفانس بريتشارد بالمجتمعات المغلقة Closed communities، مثل: جوالي سكان أستراليا الأصليين ... تتميز الجماعات أو المجتمعات المنغلقة بشكلٍ نموذجي بالوحدة الدينيّة، والغياب الطبقي، على الرغم من أنَّه يمكن أنْ يكون هناك فوارق طبقيّة ترتكز على دور المرء، كأنْ يكون مختصًّا في الدين، وأيضًا على أساس جندره[29]، وسِنِّه، والمركز الاجتماعي لنسبه»[30].

٥- إنَّ عبارات دوركهايم في صياغة نظريته متهافتة؛ فتارة يرى أنَّ المُثل العليا إحدى عوامل تكوّن المجتمع، وأن «المجتمع - في الحقيقة - لا يمكن أنْ يتكوَّن دون نشوء المثل الأعلى، فالمُثل العليا هي بالإجمال، الأفكار التي تنطوي على صورة الحياة الاجتماعيّة، وتتضمّن خلاصةً وجيزةً لها، فهي تحمل في تجازيعها الخطوط الأساسيّة لهذه الحياة وتطوّرها كذلك. ومن ثم فمن التهوين من شأن المجتمع - والأمر هكذا - النظر إليه باعتباره مجرد جسم عضوي، يخدم بضع وظائف حيوية. فلا يخفی أنَّه في هذا الجسم: تحيا روحٌ هي هذه المجموعة من المُثل العليا الجمعيّة، وهذه المُثل ليست أمورًا مجردةً لتصوّراتٍ فكرية»[31].

وتارةً ثانية يرى أنَّ المجتمع يماثل الرب بالنسبة للمؤمنين به [32]، وقد كان هذا الاستعداد في غاية الوضوح في السنوات الأولى للثورة الفرنسيّة [33].

وتارةً ثالثةً يرى أنَّ الضغط الاجتماعي يمنح الإنسان فكرة وجود قوةٍ أو قوى معنوية وفعالة خارجة عنه [34] يحرم المسُّ بها [35]، وهذا يعني أنَّ المجتمع هو الذي يخلق الإله الذي يقدسه.
وهذا تناقض واضح، فإنَّ كون المجتمع ناشئًا عن المثل العليا التي لها - بحسب دوركهايم - وجودٌ واقعي، وليست مجرد تصوراتٍ فكريةٍ محضةٍ، لا يمكن أنْ تجتمع مع كون المجتمع هو الإله، ولا مع كون المجتمع خالقًا للإله، فعلى الأول يكون المجتمع مخلوقًا، وعلى الثاني يكون هناك اتّحادٌ بين المجتمع والإله، في حين أنَّه على الثالث يكون خالقًا.

٦- إذا سلمنا بالتفسير الذي قدمه دوركهايم لنشأة الدين، وافترضنا صحّة نظريته، فثمّة إشكالٌ يرد على هذا التفسير، وهو أنَّه يقتضي أن يكون الإله الذي يخلقه المجتمع لنفسه متوافقًا مع التوجّهات العَقَديّة السائدة في ذلك المجتمع، ومن غير المتصور أن يخلق إلهًا يتغاير معها، إلَّا إذا قلنا بأنَّ المصباح المنير ينشر الظلمة، في حين أنَّنا عندما ندرس تاريخ الأديان نجد أنَّها جاءت بما يتنافر مع كثيرٍ من الاعتقادات والسلوكيات والأخلاق السائدة في أوساط المجتمع؛ ذلك «أنَّ العشيرة البدائية أو العقل الجمعي البدائي يرتكب أشنع الجرائم، ويوغل في أحط الفساد ... ولا يمكن أن يكون الدين تعبيرًا عن هذا إطلاقًا. إنَّ الدین رد فعلٍ لكلِّ هذا، هو محاولةٌ للعدالة، ولإيقاف البشر عند حدود معيَّنة من الإغراق في غرائزٍ حيوانيةٍ لا تحدّ، ومن الخطأ البيِّن أنْ يجعل دورکهايم الدين من عمل الجماعة، ووقفًا عليها»[36]. فاليهودية التي أرسل بها موسى(عليه السلام) جاءت بتصوراتٍ تنزيهيةٍ عن الله تعالى تختلف مع العقلية التجسيمية الغالبة بين اليهود آنئذٍ، والنصرانية التي أرسل بها عيسى(عليه السلام) تغاير في تصويرها لله فكرة اليهود عن إلهٍ عنصري قاسٍ يفضل بعض خلقه على بعض، ويرغب في إبادة أكثرهم، والإسلام الذي بُعث به محمد (صلى الله عليه وآله) يختلف في عقيدته التوحيدية التنزيهية لله عن عقيدة الشرك والوثنية والتشبيه السائدة في مكة وسائر مناطق شبه جزيرة العرب وقتذاك.

٧- إنَّ المجتمع يتكون من مجموعة أفرادٍ، وليس له وجودٌ مستقلٌ (أصيلٌ) بدون وجود أفراده، وإنْ كان له بعد وجودهم حقيقةٌ واقعيةٌ ثابتة في الخارج، فإذا نقلنا الكلام إلى كلِّ واحدٍ من الأفراد قبل تكوّن المجتمع فسيأتي السؤال حول النشأة الأولى لميله الخاصّ نحو الإيمان عندما كان المجتمع في طور التكوُّن؟ وهذا ما يمتنع تفسيره تفسيرًا اجتماعيًا، إذ المفروض عدم تمامية تكوَّن المجتمع بعد.

ومن هنا يظهر «أنَّ سلب الناحية الفردية عن الدين فيه مغالاة لا شك، ونحن لا نستطيع أنْ نجحد إطلاقًا شعورًا خفيًا ينبثق في أعماقنا، وتنقدح معانيه في نفوسنا انقداحًا، هي نزعة نحو التدين بصورة خاصة»[37]؛ وذلك يرجع إلى «أنَّ الدين لصيقٌ بكلِّ تجذُّرٍ بالذهنية الإنسانية»[38] بقطع النظر عن وجود المجتمع.

ب- الاعتراضات على منهج دوركهايم
١- إنَّ من غير المعقول أنْ تُعزى نشأة الدين - هذا النظام الديني النبيل - إلى تلك القوة الميكانيكيّة الآلية المسماة بروح الجماعة، أو العقل الجماعي، كما لا يُعقل لجوء الجماعة البشريّة للتعبير عن ذاتها إلى طرقٍ ملتويةٍ معقدةٍ تتمثّل في حفلاتٍ تشتمل على طقوسٍ وعباداتٍ تتجه نحو الرمز الذي يُعبِّر عن مبدأين: مبدأٍ عامٍ بين الأفراد هو المانا[39]، ومبدأٍ جماعي هو العشيرة. هذا، رغم أنَّ العشيرة تعمل على ربط أعضائها بمصالحهم الماديّة، وتحديد كيفيّة تعاملهم مع الطبيعة بما فيها من مهدداتٍ وجوديّةٍ لهم[40].

٢- أثبتت أبحاث الأنثربولوجيين «أنَّ الطوطم الفردي أسبق بكثيرٍ من الطوطم الجمعي، ويحاول البدائي اكتساب هذا الطوطم قبل اكتسابه لطوطم العشيرة أو الاتحاد أو القبيلة، ودورکهایم نفسه يقرُّ بهذا. يكتسب الفرد طوطمه الفردي في ساعات التوحد والاعتزال التي تسبق الدخول في حياة الجماعة الدينيّة، فالطوطم الفردي أسبق بالتأكيد من الطوطم الجمعي ... ويذهب عدد من الأنثروبولوجيين ... إلى أنَّ الطوطمية الدينيّة هي الفردية، أما الطوطمية الجمعية فهي متصلةٌ بالنظام الأسري فقط، لا بالنظام الديني»[41]، فليس هناك دليلٌ ملموسٌ على كون الطوطمية - التي بنى دوركهايم نظريته على تحليلها - تمثل عقيدةً دينيةً لدى القبائل البدائية؛ ‏فإنَّنا إذا اعتمدنا نفس المناهج والأبحاث التي استند عليها، وطبقنا المنهج المقارن، ودرسنا الأجناس المتأخرة المعاصرة لا يمكننا إطلاقًا الجزم بأنَّ تلك الأجناس المتأخرة تمثّل بداية وجود الجنس البشري. وعليه فمن الغريب أن يدّعي دوركهايم أنَّ الطوطمية أقدم دينٍ عرفته البشرية، وأنَّها منشأ الأديان جميعها، في حين أنَّ المشكلة الأصلية تكمن في كون الطوطمية نفسها دينًا، مع أنَّها ليست أكثر من نظامٍ اجتماعيّ عرفته الإنسانية في فتراتها الأولى، فالاستقراء الدقيق للعشائر الأسترالية لا يثبت فكرة دورکهایم؛ وقد أثبت علماء أجناس كثيرون لا دينية الطوطمية، وأنَّها اتصلت اتصالًا وثيقًا بحياة الجماعة والعشيرة، ثم بحياة الفرد، وإنَّ الغموض يحيط بالصلة الرابطة بين عقيدة تلك النظم الاجتماعية أو الأفراد، بل تكاد تكون معدومةً[42]. ومن ذلك تتأكد فكرة أنَّ تحليلات دوركهايم للطوطمية كانت خاطئةً بشكلٍ عميقٍ أثنوغرافيًا [عرقيًا]، بحسب ما أدرك علماء معاصرون له [43].

٣- استنتج دوركهايم من اتفاق أو تشابه الأسماء بين ألقاب العشائر المكوِّنة للقبائل البدائية التي درَّسها وبين الطواطم التي تعبدها أنَّ الطقوس الدينيّة والشعائر التي تقوم بها تلك القبائل هي تعبيرٌ عن عبادة الجماعة (المجتمع)؛ لأنَّ اسم الطوطم يُعبِر بنظره عن اسم الجدّ المشترك للقبيلة، وهو افتراضٌ محضٌ غير مدعمٍ بأيِّ دليلٍ يثبت صحته، ولماذا لا يُطرح استنتاج معاكس، فيقال: إنَّ أسماء العشائر قد أُخذت من أسماء الطواطم في القبيلة، بأن يكون لها - أي الطواطم - وفي ظرفٍ زمني معيَّن وجودٌ حقيقيٌّ مستقلٌّ عن وجود مجتمع القبيلة، ثم نشأت عبادتها بين الأفراد، لظروفٍ وملابساتٍ قد تختلف من مجتمعٍ إلى آخر، وهذا ما نشاهده لدى عددٍ من الأمم في تأليه بعض الزعماء الدينيين أو السياسيين أو الاجتماعيين، أو يقال: إنَّ تقديس الطوطمية كانت مظهرًا لعبادة الأسلاف.

٤- نُقِل عن عالم الأنثربولوجيا النمساوي وليم شميدت Schmidt (ت ١٩٥٤) اعتراضه على ما طرحه دورکهایم بأنَّه «قصر أبحاثه على الطوطميّة الأستراليّة المتوسطة، ولم يُشِر إلى أنواع الطوطميّة في شمال أمريكا إلّا قليلًا. إنَّ المنهج المقارن كان يوجب عليه أنْ يقوم بدراسةٍ مقارنةٍ مفصّلةٍ للطوطميّة في جميع صورها، لا أنْ يتوقف عند صورةٍ واحدةٍ للطوطميّة. نادی دوركهايم في مقدمة كتابه [الأشكال الأوليّة للحياة الدينيّة] بأنَّه سيرجع إلى الطوطميّة الأمريكية، لكي يری تطوّر الطوطميّة في صورتها هذه، غير أنَّه لم يفعل هذا ... مع أنْ هذه المقارنة كانت ستوضح له كثيرًا من المسائل التي خفیت عليه، أو ضاق عليه فهمها، فانتهى إلى كثيرٍ من الاستنتاجات الخاطئة»[44].


ج- الاعتراضات على أدلة دوركهايم
١- إنَّ تجانس المعتقدات الدينيّة بين المجتمعات مبنيٌّ على فرضية أنَّ «الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنَّها لم تمر بها أدوار متقلبة. وهو افتراض لم يقم عليه دليلٌ، بل الذي أثبته التاريخ، واتّفق عليه المنقبون عن آثار القرون الماضية، هو أنَّ فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنیاتنا الحاضرة كانت مسبوقةً بمدنياتٍ مزدهرةٍ، وأنَّ هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنياتٍ بائدةٍ، قريبة أو بعيدة، في أدوار تتعاقب على البشرية»[45]. هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى «من الممكن أنْ تكون الخرافات القديمة بداية دیاناتٍ، كما يمكن أنْ تكون نتيجة تحللٍ وتحريفٍ لديانةٍ صحيحةٍ سابقةٍ مزقت أهلها الحروب، أو أفسدتهم الآفات الاجتماعية، فقلَّت عنايتهم بأصول دينهم، وتلقوا بالتسليم والقبول كلّ ما سمعوه من أفواه الأدعياء والدجالين، وشاعت بينهم هذه الروایات وتوارثوها حتى أصبحت سننًا مقدسةً»[46].
إذًا فلا دليل ملموس يثبت أنَّ القبائل البدائيّة في وسط أستراليا التي درس دوركهايم عقيدتها الدينيّة أكثر قدمًا من الناحية التاريخيّة من مجتمعاتٍ أخرى لم تتم دراستها؛ لأنَّها غير مكتشفةٍ بعد، أو بائدةٍ، قد تملك عقائد مغايرةً للمجتمع الذي درسه دوركهايم، وخاصة أنَّه «قد أثبت الباحثون - بما لا يدع مجالًا للشك - أنَّ قبائل أستراليا الوسطی والآرونتا[47] بالذات - وهي التي درسها دورکهايم - لم تكن أقدم جماعةٍ إنسانيّةٍ، إنَّما هي الطور السادس الذي انتهت إليه العقلية الوطنيّة لأهل أستراليا، بل هي أكثرها تقدّمًا وأحدثها»[48].

٢- إنَّ الاستنتاجات التي توصّل إليها دوركهايم معارضةٌ بنتائج دراساتٍ كثيرةٍ أخرى لباحثين في تاريخ الأديان لمجتمعاتٍ أكثر عددًا، وأزيد تنوعًا تفيد أنَّ عقيدة التوحيد على اختلاف أوجهها تمثّل التوجّه العَقَدي العام لدى تلك القبائل، فهناك كثيرٌ من الدلائل والمشاهدات المباشرة التي تثبت أنَّ أقدم عقيدةٍ دينيّةٍ عرَّفها البشر هي الإيمان بوجود إلهٍ واحدٍ أكبر، وقد اختار هذا الرأي مشاهير علماء الأجناس، وعلماء الأنثربولوجيا، وعلماء النفس، أمثال: «لانج Lang الذي أثبت وجود عقيدة (الإله الأعلى) عند القبائل الهمجية في أوستراليا وإفريقيا وأمريكا. ومنهم شریدر Sheroeder الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة. وبروكلمان Brockelman الذي وجدها عند الساميين قبل الإسلام. ولرواه La Roy وكاترفاج Quatrefages عند أقزام أواسط إفريقيا. وشميدت Schmidt عند الأقزام وعند سكان أستراليا الجنوبية الشرقية. وقد انتهى بحث شميدت هذا إلى [أنَّ] فكرة (الإله الأعظم) توجد عند جميع الشعوب»[49]، بل إنَّ دوركهايم نفسه - كما سيأتي - يقرُّ بانتشار هذه العقيدة لدى كثيرٍ من القبائل الأسترالية، وحتى تلك التي قام بدراسة طقوسها وشعائرها.

٣- إنَّ نظريّة دوركهايم تنطوي على خلطٍ جسيمٍ بين الإله وبين القيمة الاجتماعيّة أو الإنسانيّة [50]، فلو سلمنا أنَّ القبائل البدائيّة خلقت لنفسها إلهًا تقدّسه في طقوسها وشعائرها فإنَّ الثورة الفرنسيّة لم تجعل من الحرية إلهًا تعبده، فالمسيحيّة هي الديانة السائدة في فرنسا قبل الثورة وبعدها، وليست الحرية أكثر من قيمةٍ إنسانيةٍ عليا تدافع عنها، وتهدف إلى نشرها في سائر البلدان، على اختلاف عقائدها الدينيّة. وهذا ما يقودنا إلى فارقٍ آخر بين النموذجين، فالقبائل البدائيّة - حسب دوركهايم - لم تكن بالأصل تملك دينًا، ولكنّها ألهت وجودها كجماعةٍ بعد ذلك، في حين أنَّ المجتمع الفرنسي كان يمتلك عقيدةً دينيّةً مسيحيّةً عند قيامه بالثورة والإطاحة بالملكيّة وبعدها، وبذلك يتجلّى عدم تجانس المجتمعات البدائيّة والمجتمعات الحديثة؛ ولذلك فما يصدق على أحدهما لا يصدق بالضرورة على الآخر.

٤- إنَّ الحقائق الدينيّة ليست جبريةً دائمًا كما يعتقد دوركهايم، فالطقوس والشعائر الدينيّة تنطوي على أحكامٍ غير إلزاميةٍ لأتباعها فضلًا عن الأحكام الإلزاميّة، وهذا واضحٌ في جميع الأديان، بل إنَّ بعض الأديان قد تخلو تمامًا من الأحكام الإلزامية، فالبوذيّة - مثلًا - تشتمل فقط على توجيهاتٍ أخلاقيّةٍ (سلوكيّة) وتأملاتٍ نفسيّة لا إلزام فيها لأتباعها. مضافًا إلى أنَّ الأحكام الإلزاميّة في أيّ دينٍ ليست جبريةً أو إكراهيةً بصورةٍ يفقد الفرد معها إرادته، أو تضغط عليه بحيث يصبح سلوكه بسببها غير اختياري، بل إنَّ التزام الأفراد المؤمنين بها يكون نابعًا من إرادةٍ واختيارٍ واعيين من دون إكراهٍ أو جبرٍ بأيِّ نحوٍ من الأنحاء.

المطلب الثاني: دوركهايم وعقيدة التوحيد عند البدائيين
أولًا: رأي دوركهايم في التوحيد عند البدائيين
يعترف دوركهايم بوجود اعتقادٍ لدى عددٍ غير قليلٍ من القبائل البدائيّة بوجود إلهٍ واحدٍ متعالٍ، فقد كتب في سياق حديثه عن كبار الآلهة لدى القبائل البدائيّة: «إنَّ هذا التكوين الميثولوجي [المتمثّل في الآلهة المحليّة] ليس أرفع ما نعثر عليه عند الأستراليين، فهناك - في الأقل - عددٌ من القبائل توصّلت إلى تصوّر إلهٍ أعلى، إنْ لم يكن وحيدًا، تُنسب إليه مكانةٌ متفوقةٌ على مكانة الكينونات الدينيّة الأخرى. أشار مراقبون كُثُرٌ إلى هذا الاعتقاد منذ زمنٍ بعيد، لكن هويت Howitt هو أكثر من ساهم في إثبات عموميّته النسبية؛ إذ لاحظها في مساحةٍ جغرافيّةٍ واسعةٍ جدًا تتضمّن ولاية فيکتوريا ونيو ويلز الجنوبية، بل تمتدّ حتى کوینزلاند، إذ يؤمن عددٌ معتبرٌ من القبائل في كلّ هذه المنطقة بوجود إلهٍ قبلي حقيقي يحمل أسماء تختلف باختلاف المناطق. أكثر تلك الأسماء شيوعًا هي: (بونجيل Bunjil أو Pungil)، و(دارامولون Daramulun)، و(بایام Baiame)»[51].

ويؤكّد دوركهايم على وحدة صفات الإله الواحد الذي تعبده القبائل البدائيّة بقوله: إنَّ «السمات الأساس لهذه الشخصية متماثلةٌ في كل مكان، إنَّها كائنٌ خالدٌ، بل أزلي، فلا يشتق من أيِّ كائنٍ آخر»[52]، ويبيَّن اعتقاد هذه القبائل بامتلاك هذا الإله الواحد للقدرة المطلقة، فهي «تنسب إليه قدرةً على النجوم. إنَّه هو الذي نظَّم مسیر الشمس والقمر، وهو يأمرها. وهو الذي يجعل البرق ينبثق من الغيم، ويطلق الصاعقة. ولأنَّه الرعد، فهو يقيم أيضًا صلة مع المطر، إليه يتوجه مَنْ تنقصهم المياه، أو حين تهطل عليهم کمیاتٌ مفرطةٌ منه. يتحدث عنه الناس كأنَّه نوعٌ من الخالق، فيسمونه أبا البشر، ويقال: إنَّه هو الذي خلقهم. وفق أسطورةٍ كانت سائدةً في ملبورن، يقال: إنَّ (بونجيل) هو الذي خلق الإنسان الأول بالطريقة الآتية: صنع تمثالًا من الصلصال، ثم رقص حوله مرات عدَّة، ونفخ في منخاريه فتحرّك التمثال، وأخذ يمشي. وتقول أسطورة أخرى: إنَّه أشعل الشمس، فأصبحت الأرض دافئةً، وخرج البشر منها»[53].

ويُقرِر دوركهايم انتشار عقيدة الإيمان بإلهٍ واحدٍ لدى كثيرٍ من القبائل البدائيّة على اختلاف جغرافيّة وجودها، بقوله: «لا تقتصر سلطة كلٍّ من هذه الآلهة العليا على قبيلةٍ واحدةٍ، بل يعترف بها عددٌ كبيرٌ من القبائل المجاورة. (بونجيل) معبودٌ في أرجاء ولاية فيکتوريا كلها تقريبًا، و(بايام) في جزءٍ معتبرٍ من نيو ويلز الجنوبية، وهلم جرًا، وهذا يفسر قلّة عدد تلك الآلهة في هذا المجال الجغرافي الواسع نسبيًا. إذًا تتمتع العبادات التي تكون موضوعًا لها بطابع عابر للأقوام. بل يحدث أنْ تختلط تلك الميثولوجيات المختلف ... لا بد إذًا من أنْ يكون الطابع الديني العابر للأقوام خاصيةً للأديان»[54].

ثانيًا: تفسير دوركهايم لعقيدة التوحيد عند البدائيين
رغم إقرار دوركهايم الصريح بانتشار وجود التوحيد لدى القبائل البدائية في أستراليا، ولكنه يُفسِّر ذلك تفسيرًا يخرجها عن حقيقة كونها عقيدةً توحيديةً، إذ يقول: «إنَّ هناك أفكارًا متعلقةً بإله القبيلة الكبير محلية المنشأ ... لكن ذلك لا يعني وجوب نسبـ[ـتـ]ـها إلى کشفٍ غامضٍ؛ لأنَّها لا يمكن أنْ تكون مشتقةً من مصدرٍ آخر سوى المعتقدات الطوطمية المحض، بل هي على عكس ذلك حصیلتها المنطقية، وشكلها الأسمى»[55]، بل يذهب أكثر من ذلك بقوله: «إنَّ مفهوم الأسلاف الأسطوريين منخرطٌ في المبادئ عينها التي تستند إليها الطوطمية؛ لأنَّ كُلًّا من هذه المبادئ هو کائنٌ طوطمي. لكن إذا كانت کبری الآلهة تتفوق عليهم بالتأكيد، إلّا أنَّه لا توجد بينها وبين أولئك الأسلاف فوارق إلّا في الدرجات؛ ويحدث الانتقال من الأوائل إلى الأخيرين من دون انقطاع. فالإله الكبير هو نفسه سلفٌ ذو أهميةٍ خاصةٍ»[56]، ومع ذلك نجد أنَّه قد بذل جهده لإثبات أنَّ تقارب الأسماء المتعددة لذلك الإله الواحد وتسميات الطواطم المتعددة لدى مختلف القبائل، يدلّ على أنَّ الإله الواحد هو الشكل الأسمى للطوطميّة [57].

ثالثًا: الملاحظات على تفسير دوركهايم للتوحيد عند البدائيين
إنَّ التفسير الذي يطرحه دوركهايم لعقيدة التوحيد جاء متأثرًا باستنتاجاته الخاصّة في كيفيّة نشأة الدين لدى القبائل البدائيّة، من غير أنْ يقدّم دليلًا ملموسًا يدعم وجاهة مثل هذا التفسير الذي أقلّ ما يقال عنه أنَّه هروب من الإقرار بأصالة عقيدة التوحيد لدى هذه القبائل، وهذا ما يجعل تفسيره عرضةً لملاحظاتٍ عدَّة، أهمها:

١- حاول دوركهايم أنْ يعتمد على تشابه التسميات التي تطلقها القبائل البدائيّة المتعدّدة على هذا الإله الواحد مع تسميات الطواطم القبلية ليماهي بين العقيدتين، بحيث استحالت عقيدة التوحيد على يديه عقيدةً طوطميةً تعدديةً بدائيةً، وهو بذلك يخرج عن القاعدة الفرعيّة التي قرّرها في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع)، والتي تنص على أنَّه «يجب على عالم الاجتماع أنْ يتحرّر بصفةٍ مطردةٍ من كلِّ فكرةٍ سابقةٍ»[58]، بل عدَّها من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى إقامة برهانٍ خاصٍ على صدقها[59]، وبناءً على هذه القاعدة تبدو محاولة المقاربة بين التوحيد والطوطمية مجافيةً لواقع أنَّ عقيدة التوحيد تستبطن رفض جميع أشكال الشرك، سواء كانت وثنيّةً أم طوطميّةً أم غيرها، فيما إذا قبلنا بتفسير الطوطميّة على أنَّها عقيدةٌ دينيّة، مع أنَّه قد ثبت فيما سبق أنَّها لونٌ ألوان العلاقات الاجتماعيّة في القبيلة، وهذا يكشف عن كون موقف دوركهايم من عقيدة الإله الواحد لدى هذه القبائل ناتجًا عن وقوعه تحت تأثير ما تبناه من فكرةٍ مسبقةٍ تتعلق بتفسير نشوء الدين تفسيرًا اجتماعيًا يقوم على ادّعاء أنَّ تلك القبائل تؤمن بتعدد الآلهة، وبالتالي فلا يمكن طرح تفسير يوفّق بين عقيدة التوحيد وعقيدة التعدّد.

٢- رغم ادّعاء دوركهايم منطقيّة النتيجة التي توصّل إليها، ولكنّها في الحقيقة مجافيةٌ للمنطق، إذ لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال فهم كيف يمكن للطواطم المتعددة أنْ ينتج إلهًا واحدًا بسيطًا غير مركبٍ، على ما بين التركّب والبساطة والتعّدد والوحدة من تناقض، ولماذا لا يمكن ادّعاء العكس؟! بأن تكون (المعتقدات الطوطميّة) انحرافًا عفويًا أو مقصودًا عن عقيدة التوحيد. فضلًا عن أنَّه لم يقدِّم تفسيرًا مستندًا إلى أدلةٍ مقنعةٍ لانتفاء الفرق بين الآلهة الكبرى والأسلاف المتقدمين للقبيلة، ومجرد وجود تصوراتٍ لدى البعض في تلك القبائل عن كون الإله الكبير صيّادًا عظيمًا، وساحرًا قويًّا، ومؤسس القبيلة، وأوّل البشر، وعجوزًا متعبًا[60]، لا يصلح لتفسير ذلك، بسبب احتمال أنْ تكون هذه التصوّرات قد تولَّدت لديهم نتيجة اختلاط أفكارٍ غريبةٍ عن عقيدة التوحيد بها، أو تأثّرهم بشخصيّاتٍ مؤثّرةٍ في القبيلة أو المنطقة التي يستوطنونها كانوا دعاةً إلى التوحيد اتّصفوا ببعض تلك الصفات، وهذا ما لا يمكن دفعه، وخاصّةً مع عدم إمكان الجزم بدقّة الملاحظات المدوَّنة عن عقائدهم التي استند إليها في دراساته.

٣- إنَّ ادعاء دوركهايم أنَّ الإله الكبير المتعال (الواحد) يمثّل سلفًا للقبيلة يتناقض مع ما ذكره صريحًا من عدم إمكان استخلاص أنَّ هذا الإلهَ الكبيرَ بطلٌ ممدنٌ[61] للقبيلة؛ وذلك لأنَّ سلف القبيلة ليس أكثر من بطلٍ محلّي (ممدن) لدى أفرادها يمتلك صفةً دينيّةً لها نفوذٌ واسعٌ عليهم على الأفراد[62]، وإذا امتنع استخلاص أنَّ الإلهَ الكبيرَ بطلٌ ممدنٌ للقبيلة فكيف تأتى لدوركهايم أنْ يعود ويفسره بأنَّه بطلٌ من هذا النوع؟!

النتائج
توصّل البحث إلى عددٍ من النتائج، أهمّها الآتي:
١- أنَّ تعريف دوركهايم للدين بأنَّه منظومةٌ موحدةٌ من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأشياءٍ مقدسةٍ توحِّد أتباعها في جماعةٍ معنويةٍ غير مُطردٍ في الجماعات الدينيّة الصغيرة التي تنشقّ من جماعةٍ أكبر؛ لعدم توحّدهم معها في الاعتقادات والطقوس.
٢- أنَّ نظريّة دوركهايم في النشأة الاجتماعيّة للدين تبتني على مصادرةٍ تتمثّل في أنَّ للمجتمع وجودًا أصيلًا منفصلًا عن وجود الإنسان، وهذا ما لم يقم بالبرهنة عليه في جميع مؤلّفاته، وإنَّما استنتج ذلك من ملاحظة الطقوس الدينيّة للمجتمعات القبلية البدائيّة.
٣- ‏أنَّ عبارات دوركهايم في صياغة نظريّته متهافتة، فتارةً يرى أنَّ المُثل العليا إحدى عوامل تكوّن المجتمع، وتارةً يرى أنَّ المجتمع يماثل الربّ بالنسبة للمؤمنين به، وتارةً يرى أنَّ الضغط الاجتماعي يمنح الإنسان فكرة وجود قوةٍ أو قوى معنويةٍ وفعالةٍ خارجةٍ عنه، وهذا تناقضٌ واضح.
٤- أنَّ تفسير دوركهايم لنشأة الدين يقتضي أنْ يكون الإله الذي يخلقه المجتمع لنفسه متوافقًا مع التوجهات العقائدية السائدة في ذلك المجتمع، في حين أنَّنا عندما ندرس تاريخ الأديان نجد أنَّها جاءت بما يتنافر مع كثيرٍ ممّا هو سائدٌ في أوساط المجتمع.
٥- ‏أنَّ اتّفاق أو تشابه الأسماء بين ألقاب العشائر المكوِّنة للقبائل البدائيّة وبين طواطمها قد يكون نتيجة أخذ أسماء العشائر من أسماء الطواطم في القبيلة، بأنْ يكون للطواطم وجودٌ حقيقي، ثم نشأت عبادتها بين الأفراد، كما في تأليه بعض الشعوب للزعماء الدينيين أو السياسيين أو الاجتماعيين.
٦- أنَّ الحقائق الدينيّة ليست جبريةً دائمًا كما يعتقد دوركهايم، فالطقوس والشعائر الدينيّة تنطوي على أحكامٍ غير إلزاميةٍ لأتباعها فضلًا عن الأحكام الإلزامية. مضافًا إلى أنَّ الأحكام الإلزامية ليست جبريةً بنحوٍ يفقد الفرد معها إرادته، أو اختياره، بل ينبع التزام المؤمنين بها من إرادتهم واختيارهم دون إكراهٍ أو جبرٍ.
٧- ‏ادّعاء دوركهايم أنَّ الإله الكبير المتعال هو سلفٌ للقبيلة يتناقض مع تصريحه بعدم إمكان استخلاص أنَّ هذا الإلهَ الكبيرَ بطلٌ محلّيٌّ للقبيلة، وإذ لم يمكن استخلاص أنَّ الإلهَ الكبيرَ بطلٌ محلّيٌّ فكيف فسّره دوركهايم بذلك؟!

المصادر والمراجع
ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، تح: عبد السلام محمد هارون، بيروت: دار الفكر، ١٩٧٩.
بارث، فريدريك وآخرون، الأنثروبولوجيا حقل علمي واحد وأربع مدارس، تر: أبو بكر أحمد باقادر، ط١، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٧.
بودون، ر. - ف. بوريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، تر: د. سليم حداد، ط١، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، ١٩٨٦.
الخطيب، د. محمد عبد اللطيف، المستقصى في علم التصريف، ط٣، الكويت: مكتبة دار المعرفة، ٢٠٠٣.
درّاز، محمد عبد الله، الدين (بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان)، الكويت: دار القلم، د. ت.
دوركهايم، إميل، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة (المنظومة الطوطمية في أستراليا)، تر: رندة بعث، ط١، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٩.
‏----------، علم اجتماع وفلسفة، تر: د. حسن أنيس، ط١، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٦٦.
‏----------، قواعد المنهج في ال علم الاجتماع، تر: محمود قاسم، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، ٢٠١١.
سليم، د. شاكر مصطفى، قاموس الأنثروبولوجيا، ط١، الكويت: جامعة الكويت، ١٩٨١.
غدنز، أنتوني، علم الاجتماع (مع مدخلات عربية)، تر: د. فايز الصياغ، ط١، بيروت – عمّان: المنظمة العربية للترجمة - مؤسسة ترجمان، ٢٠٠٥.
الفيروزآبادي، القاموس المحيط، تح بإشراف: محمد نعيم العرقسوسي، ط٨، بيروت: مؤسسة الرسالة، ٢٠٠٨.
ليمان، جينيفر م، تشريح دوركهايم (نقد ما بعد بعد بنيوي)، تر: محمود أحمد عبد الله، ط١، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٣.
‏ماكيڤر، ر. م - شارلز هـ. پدچ، المجتمع، تر: د. علي أحمد عيسى، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية - مؤسسة فرانكلين، د. ت.
مسلان، ميشال، علم الأديان (مساهمة في التأسيس)، تر: عز الدين عناية، ط١، أبو ظبي - بيروت - الدار البيضاء: كلمة - المركز الثقافي العربي، ٢٠٠٩.
النشار، د. علي سامي، نشأة الدين (النظريات التطورية والمؤلهة)، ط١، القاهرة: دار السلام، ٢٠٠٩.


---------------------------------------
[1] الطوطم أو التوتم Totem: وهو موجود يمثل رمزية عشيرة أو قبيلة بنحوٍ يميزها عن غيرها، ويتسمى أفرادها كافة باسمه؛ لاعتقادهم بأنَّه حبرهم المقدس وحاميهم، ويشعرون أنَّهم يرتبطون به برباطٍ خاصٍ غامضٍ. وتقوم عقائد العشيرة أو القبيلة وطقوسها الدينيّة جميعها على تقديسه. وحين يكون الطوطم حيوانًا فإنَّه لا يصطاد ولا يؤكل، بل إنَّ أتباعه يقدمون له الغذاء، وقد يدفنون من يموت منه. وقد يكون للجماعة الواحدة أكثر من طوطمٍ واحدٍ، کما قد تتخذ أكثر من جماعةٍ الطوطم عينه، وتصنع له التماثيل، وتقام له أعمدة، ويوشم أو ينقش رسمه على الجسم أو الملابس والأسلحة. (انظر: سليم، د. شاكر مصطفى، قاموس الأنثروبولوجيا، ص٩٧٩-٩٨٠).
[2] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، ج٢، ص٣١٩.
[3] الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ص١١٩٨.
[4] بودون، ر. – ف. بوريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ص٣٢٤.
[5] غدنز، أنتوني، علم الاجتماع، ص٥٦٩-٥٧٠.
[6] دوركهايم، إميل، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة، ص٧٢-٧٣.
[7] انظر: بارث، فريدريك وآخرون، الأنثروبولوجيا حقل علمي واحد وأربع مدارس، ص٢٦١.
[8] انظر: الخطيب، د. محمد عبد اللطيف، المستقصى في علم التصريف، ص٤٢٤.
[9] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، ج١، ص٤٣٩.
[10] الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ص٧١٠-٧١١.
[11] ماكيڤر، ر. م – شارلز هـ. پدچ، المجتمع، ص١٦-١٧.
[12] ليمان، جينيفر م، تشريح دوركهايم، ص٥٩.
[13] المصدر نفسه، ص٥٩.
[14] غدنز، أنتوني، علم الاجتماع، ص٥٨٠.
[15] انظر: إميل، دوركهايم، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة، ص٢٨١.
[16] انظر: المصدر نفسه، ص٢٨٣.
[17] دوركهايم، إميل، علم اجتماع وفلسفة، ص١٣٠.
[18] دوركهايم، إميل، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة، ص٢٨٩.
[19] المصدر نفسه.
[20] المصدر نفسه، ص٣٠٢.
[21] المصدر نفسه.
[22] انظر: النشار، د. علي سامي، نشأة الدين، ص١٦٥-١٦٦.
[23] المصدر نفسه، ص١٧-١٨.
[24] المصادرة: عبارة عن أخذ الدعوى أو جزئها دليلًا أو جزء دليلٍ لإثبات تلك الدعوى نفسها.
[25] دوركهايم، إميل، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة، ص٢٨٩.
[26] دراز، محمد عبد الله، الدين، ص١٥٣.
[27] انظر: المصدر نفسه، ص١٥٣-١٥٤.
[28] بارث، فريدريك وآخرون، الأنثروبولوجيا حقل علمي واحد وأربع مدارس، ص٣٦٢.
[29] الظاهر أنَّ المقصود - هنا - من الجندر هو: جنس الفرد من الناحية البيولوجية، أي كونه ذكرًا أو أنثى.
[30] بارث، فريدريك وآخرون، الأنثروبولوجيا حقل علمي واحد وأربع مدارس، ص٣٦٦.
[31] دوركهايم، إميل، علم اجتماع وفلسفة، ص١٦٢.
[32] انظر: إميل، دوركهايم، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة، ص٢٨١.
[33] انظر: المصدر نفسه، ص٢٨١.
[34] انظر: المصدر نفسه، ص٢٨٣.
[35] انظر: المصدر نفسه، ص٢٨٩.
[36] النشار، د. علي سامي، نشأة الدين، ص١٧١-١٧٢.
[37] انظر: المصدر نفسه، ص١٨.
[38] مسلان، ميشال، علم الأديان، ص٨٦.
[39] مانا Mana: قوةٌ فوق طبيعيةٍ غامضةٍ، تخلق فيمن تحل فيه قدرةً خارقةً خيِّرةً أو شريرةً، وتمنحه قوةً سحريةً. و(المانا) مزيةً عظمى للشخص الذي يملكها ويسيطر عليها، تُفصِح عن وجودها فيه بالقوة والسمو اللذين يتصف بهما مالكها. وتنتقل (المانا) بالتماس من شخصٍ أو شيءٍ أو مكانٍ لآخر. وينتشر الاعتقاد بها بين (الميولينزيين)، كما أنَّ لعددٍ من الشعوب البدائية مفاهيمَ مماثلةً بأسماءٍ مختلفةٍ. (سليم، د. شاكر مصطفى، قاموس الانثروبولوجيا، ص٥٩٣)
[40] انظر: النشار، د. علي سامي، نشأة الدين، ص١٧١-١٧٢.
[41] المصدر نفسه، ص١٧٠-١٧١.
[42] انظر: المصدر نفسه، ص١٧٥-١٧٦.
[43] انظر: بارث، فريدريك وآخرون، الأنثروبولوجيا حقل علمي واحد وأربع مدارس، ص٣٦٢.
[44] النشار، د. علي سامي، نشأة الدين، ص١٧٦.
[45] دراز، محمد عبد الله، الدين، ص١٠٨-١٠٩.
[46] المصدر نفسه، ص١٠٨-١٠٩.
[47] الآرونتا أو الأراندا Arunta, Aranda: إحدی قبائل أستراليا الأصلية تعيش في المنطقة الوسطى من القارة. قُدِرت نفوسها حين دُرِست عام ۱۹۰۰ بـ (۲٫۰۰۰) نسمة. كان أکثر من نصف اقتصادها، عامئذٍ، يقوم على جمع الغذاء، والباقي على الصيد البري. (سليم، د. شاكر مصطفى، قاموس الأنثروبولوجيا، ص٦٩)
[48] النشا، د. علي سامي، نشأة الدين، ص١٧٦-١٧٧.
[49] دراز، محمد عبد الله، الدين، ص١٠٧-١٠٨.
[50] القيم: وهي عبارة عن أفضلياتٍ جماعيةٍ تظهر في وضع مؤسساتي، وتسهم بطريقة تكوينها في تنظيم هذا الوضع. (بودون، ر. – ف. بوريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ص٤٥١)
[51] دوركهايم، إميل، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة، ص٣٧٦-٣٧٧.
[52] المصدر نفسه، ص٣٧٧.
[53] المصدر نفسه، ص٣٧٨.
[54] المصدر نفسه، ص٣٨٠.
[55] المصدر نفسه، ص٣٨٢.
[56] المصدر نفسه.
[57] انظر: المصدر نفسه، ص٣٨٤-٣٨٨.
[58] دوركهايم، إميل، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ص٨٢.
[59] المصدر نفسه.
[60] دوركهايم، إميل، الأشكال الأولية للحياة الدينيّة، ص٣٨٢.
[61] البطل الممدن: مصطلح أطلقه دوركهايم يريد به: شخصيات أسطورية ذات مرتبةٍ أعلى في الحياة الدينيّة، يظهر نفوذها في دوائر قبليةٍ محدودةٍ، وتمثل موضوعًا لشعائرٍ خاصةٍ ومحليةٍ. (انظر: دوركهايم، إميل، الأشكال البدائية للحياة الدينيّة، ص٣٧٣)
[62] انظر: دوركهايم، إميل، الأشكال البدائية للحياة الدينيّة، ص٣٨٤.