الباحث : الشيخ د. محمد السوداني
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 36
السنة : خريف 2025م / 1447هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 22 / 2025
عدد زيارات البحث : 145
الملخّص
اتّجه البحث في هذا الموضوع إلى دراسةٍ جديدةٍ في الفكر المعاصر، تناولت مسألة تنزيه الذات الإلهيّة عن التركيب، وذلك من خلال دراسة مقارنة بين المسيحيّة والإسلام. وقد عُرضت فيه مباحث توحيديّة تسعى إلى إثبات بساطة الذات الإلهيّة واتّحادها مع بعض أقسام التوحيد؛ كالتوحيد الذاتي وتعدّد الصفات الإلهية، وبيان الأدلّة العقليّة والنقليّة على وحدة واجب الوجود، خلافًا لما ذهبت إليه العقيدة المسيحيّة في القول بالتثليث، وما يترتّب عليه من تعدّد في الذات الإلهيّة. وقد جاءت هذه الدراسة في إطار مقارنةٍ تحليليّةٍ تقوم على البيان والنقد العلمي.
تضمّنت الدراسة أربعة مباحث وخاتمة:
تناول المبحث الأوّل بحوثًا تمهيديّة، عُرض فيها معنى التنزيه والتركيب والتثليث لغةً واصطلاحًا، مع بيانٍ لتاريخ مسألة التثليث.
أمّا المبحث الثاني فقد خُصّص لأدلّة تنزيه الذات الإلهية، وفيه ثلاثة مطالب: الأوّل حول التنزيه والتوحيد الذاتي، والثاني حول تعدّد الصفات وبساطة الذات، والثالث خُتم بأدلّةٍ عقليةٍّ ونقليّةٍ على تنزيه الذات.
وجاء المبحث الثالث ــ وهو العمدة في البحث ــ لدراسةٍ نقديّةٍ لأدلّة التثليث في الفكر المسيحي، بعد عرض أقوال النصارى فيه، ومناقشتها، ثم تفنيد ما تضمّنته من وجوهٍ غير تامّة، وذلك ضمن مطلبين: الأوّل في النقد على مستوى الحقيقة، والثاني في النقد على مستوى الأدلّة.
بينما خصّ المبحث الرابع بالدراسة المقارنة، لبيان أوجه الاشتراك والاختلاف بين الطرفين، والكشف عن المباني والمنطلقات التي اعتمدها كلٌّ منهما في استدلاله ونتائجه.
وانتهى البحث بخاتمةٍ تضمّنت أهمّ النتائج المتحصّلة من هذه الدراسة، مرفقة بملخّصٍ إجمالي يوجز ما تمّ التوصّل إليه.
الكلمات المفتاحيّة: تنزيه الذات، البساطة، التركيب، التثليث، المقارنة
المقدّمة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين أبي القاسم محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين.
تعدُّ مسألة التوحيد من أهمّ المسائل الكلاميّة في الفكر الإسلامي، بل في جميع الديانات والشرائع الإلهيّة التي نزلت على الأنبياء، فقد كان هدف الأنبياء الدعوة الى التوحيد ونفي تعدد الآلهة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [1].
إلّا أنّ هذه الدعوة قابلتها دعوة التثليث، وهي دعوةٌ مضلّةٌ وكافرةٌ بحسب التعبير القرآني: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ﴾ [2]، والتي ظهرت من قبل المنحرفين من المسيحيين الذي حرّفوا المنهج التوحيدي، والكتاب المقدّس الذي نزل على المسيح (عليه السلام)، وجعلوا من هذا الكتاب أناجيل متعدّدةً ومحرّفة.
ولهذا السبب حاولنا أن نبيّن حقيقة التثليث، ومنشأ بدايتها، وما هي المبتنيات التي اعتمدوا عليها في استدلالاتهم الضعيفة التي لم تصمد أمام القرائن والدلائل التي ساقها علماء المسلمين، والتي دعا إليها السيد المسيح (عليه السلام)، وأرسى قواعده التوحيديّة منذُ ولادته الى أنْ رفعه الله تعالى.
وهذا الأمر دعانا إلى كتابة هذا البحث الذي أقدّمه بين أيديكم بعنوان: تنزيه الذات الإلهيّة عن التركيب (دراسة مقارنة بين المسيحيّة والإسلام)، وسوف أناقش فيه مواضيع تهم جميع الشرائع الإلهيّة، ولقد قمت بتقديم جميع الأدلة العقليّة والنقليّة منها، سواء من القران الكريم أم السنّة الشريفة.
أهمية البحث:
تَتحدّد أهميّة البحث في بيان إشكاليّة التثليث التي تتعارضُ مع منهج التوحيد الذاتي، والذي يؤدّي بقولهم – التثليث - إلى تعدّد الذات الإلهيّة ممّا يصل بهم إلى الكفر والشرك بالله تعالى.
أهداف البحث:
1 – بيان معنى تنزيه الذات الإلهيّة في الفكر الإسلامي.
2 – أثبات أنّ تعدّد الصفات تساوق بساطة الذات، أي ذاته خالصة لا يعتريها التعدّد، ولا التكثّر في الخارج، بخلاف نظريّة التثليث.
3 – مناقشة أدلّة التثليث، والوقوف على أهمّ النتائج، ومنها:
ـ ذات اللّه منزّهةٌ عن التركيب الخارجي ـــ ذات اللّه منزّهةٌ عن التركيب الذهني ـ صفات اللّه عين ذاته.
المطلب الأول: بحوث تمهيديّة
في هذا المبحث سنتناول عدّة مطالب تمهيديّة الغرض منها، بيان معنى بساطة الذات لغةً واصطلاحًا، وفي المطلب الثاني نبيّن معنى التثليث لغةً واصطلاحًا، وبعدها سنوضح تاريخ مسألة بساطة الذات، وكذلك تاريخ مسألة التثليث.
أوّلًا: معنى التنزيه لغةً واصطلاحًا
التنزيه لغةً:
التَّنْزِيهُ: « التبرئة يقال: نزهت عرضهُ، أيْ: بَرَّأتُه مِن العَيْبِ» [3]. والتَّنَزُّهُ: « التَّباعُدُ والتَّرفُّع عن النَّقائصِ، يُقال: نَزُهَ الرَّجُلُ، نَزاهَةً: إذا تَباعَدَ عن كلِّ مَكْرُوهٍ، فهو نَزِيهٌ، ونزَّهَ نفسَهُ عن القَبِيحِ، أيْ: أبعدَها عنه ونَحّاها»[4]. وأصْلُ النَّزْهِ: البُعْدُ، وتَنزِيهُ اللهِ تعالى: تَبْعِيدُهُ وتَقْديسُهُ عن الأنْدادِ والأشْباهِ وعمّا لا يَجوزُ عليه مِن النَّقائِصِ. ومعنى تَنْزِيه الله من السُّوء: تَبْعِيدُه منه. إذًا التنزيه: التبرئة والتباعد، والترفع عن كلّ عيبٍ ونقصٍ، وأصله من النزه وهو البعد.
التنزيه اصطلاحًا
وأمّا التنزّه اصطلاحًا: فإنَّ حَقِيقَة مفهوم التَّنزِيهِ: أن يَنفِي العَبدُ عن اللهِ تعالى ما لا يَلِيقُ بالله شرعًا، وعَقلًا، كالوَالَدِ والولِد والشَّريكِ، والنِّدِّ والشَّبِيهِ وغيرهما، وأَن يُنزِّهَه عن الصفات والنّقائِص المُنافِية للكمالِ، فيُنزِّهَه عن المَوتِ والنَّومِ والعَجْز، والفقر والحاجة وغير ذلك ممّا نَزَّه عنه نَفسَه في الكِتابِ، أو السنّة على لِسانِ رسولِه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالتنزيه: هو تبرئَةُ اللهِ تعالى، وتَبْعِيدُه عن كُلِّ عَيبٍ ونَقصٍ، ونَفْيُ مُماثَلَةِ غيرِهِ لَهُ فيما يتصف من أوصاف الكَمالِ والجَمالِ.
ويمكن أن يقال: إنَّ التَّنزِيهَ الذي يَتصف به الباري تعالى يجمَعه نَوعانِ: أحدُهما: نَفْيُ النَّقْصِ والعَيب والشبيه عنه، كما في قوله تعالى: ﴿قُل هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ لَم يَلِد وَلَم يُولَد وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ﴾ [5]، وهذا يرتبط بالتوحيد الذاتي الواحدي. والثّاني: نَفْيُ مُماثَلَةِ شَيْءٍ مِن الأشياء فيما يَستحِقُّه تعالى مِن صِفات الكمال الثّابتَةِ له. قال تعالى: ﴿لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ﴾[6]، وهذا يرتبط بالتوحيد الذاتي الأحدي.
ثانيًا: معنى بساطة الذات لغةً واصطلاحًا
البساطة لغةً:
جاء في الصحاح: «بَسْطُ الشيء: نشره، وبالصاد أيضا. والبَسْطَةُ: السعة. وانبسط الشيء على وجه الأرض. والِانْبِسَاطُ: ترك الاحتشام، يقال بَسَطْتُ من فلان فانبسط. وتَبَسَّطَ في البلاد: سار فيها طولًا وعرضًا. والبِسَاطُ: ما يُبْسَط. والبساط: الأرض الواسعة «[7].
وفي مقاييس اللغة: «بَسْطٌ: أصل واحد، وهو امتداد الشيء في عرض أو غير عرض. فَالْبِسَاطُ: ما يبسط. والبساط: الأرض، وهي البّسطة. يقال مكان بسيط وبساط. ويد فلان بسط إذا كان منفاقًا. والْبَسْطَةُ في كلّ شيء: السعة. وهو بسيط الجسم والباع والعلم»[8].
وجاء في المصباح: «بسط الرجل الثوب بسطًا. وبسط يده: مدّها منشورة، وبسطها في الإنفاق: جاوز القصد. وبَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ: كثّرة ووسّعه. والْبِسَاطُ معروف، وهو فعال بمعنى مفعول، ومثله كتاب وفراش»[9].
إذًا من خلال ذكر هذه المعاني يُعلم أنّ البَسط بمعنى: الامتداد في توسّع، وهذا يقابل القبض، كما أنّ مفهوم الامتداد يختلف باختلاف الممتدّ، فَبَسْطُ المكان: اتّساعه، وبسط الفراش: نشره، وبسط اليد عطاءه وبذله، والبسط في الجسم: طوله وكماله وعظمه، والبسط في العلم: التوسّع والإحاطة فيه. وفي الوجه: بشره وفرحه، وفي اللسان: انطلاقه، وقد جاءت هذه المعاني في عدّة آياتٍ قرآنيّةٍ منها:
قوله تعالى: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[10]، أي مطلق الامتداد الواسع والشامل في المعنويّات والماديّات، العلم والجسم.
وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ﴾[11]، أي يوسّعه على ميزان العدل والتدبير.
وأمّا الْبَسِيطُ: هو ما قلّ حدّه ولم يتقيّد بحدود التركّب.
البساطة اصطلاحًا:
تعدّ مسألة (بساطة الذات) من فروع التوحيد الذاتي؛ ولهذا تعرّض لتعريفها بعض المتكلّمين:
فقال الطوسي: «البساطة تعني لا جنس له، بل هو بسيط فلا فصل له»[12]. وقال العلّامة الحلّي: «قد بيّنا أنّ الوجود عارضٌ لجميع المعقولات؛ فلا معقول أعمّ منه، فلا جنس له، فلا فصل له، لأنّ الفصل هو المميز لبعض أفراد الجنس عن البعض، فإذا انتفت الجنسية انتفت الفصلية، بل هو بسيط «[13]. وقال السبحاني في مفاهيمه، في معنى بساطة الذات: «أنّ ذاته تعالى بسيطةٌ ومنزّهةٌ عن أيّ نوعٍ من أنواع التركيب، والكثرة العقليّة، والخارجيّة «[14]. وهو تعريفٌ جامعٌ لما ذكره الطوسي والحلّي، إذ استوفى معنى البساطة من خلال تنزيهه لكلّ أنواع التركيب، وبما أنّ الطوسي نفى الجنس والفصل وهما جزء من التركيب، فنفيُ التركيب أعمّ منهما.
ثالثا: معنى التثليث لغةً واصطلاحًا
التثليث لغةً:
عند مراجعة المعاجم اللغويّة لم نجد ذكر التثليث بقولٍ صريح، ولكن يمكن أخذ معنى التثليث من الثُلث، والثلاث، والثلاثة؛ لذا قالوا النحويين، ومنهم: ابن فارس في مقاييس اللغة: «ثُلُثٌ: كلمةٌ واحدةٌ وهي في العدد، يقال: اثنان وثَلَاثَةٌ والثلاثاء (بالضمّ والفتح) من الأيّام»[15].
وأمّا في لسان العرب قال: «ثلثت الاثنين يثلثهما ثلثًا: صار لها ثالثًا، وثلثت القوم أثلثهم: إذا كنت ثالثهم. والثلاثاء من الأيّام كان حقّه الثالث، ولكنّه صيغ له هذا البناء لينفرد به»[16].
ويستفاد من أقوالهم أنّ التثليث مأخوذٌ من الأصل الواحد في هذه المادّة: وهو العدد المخصوص، ويأتي في صيغٍ متعدّدة، كالثُلث فهو جزءٌ من الثلاثة، بخلاف الثالث الواقع بعد الاثنين، وهذا ينطبق على ما ذهب إليه النصارى في جعل نبيّ الله عيسى أحد الثلاث، وسنبيّن ذلك لاحقًا.
التثليث اصطلاحًا:
لم نقف على تعريفٍ تامٍ للتثليث، لكن حاولنا بيان المعنى العام بملاحظة بعض لوازم اللفظ، ومنها:
ما قاله الطبرسي: التثليث يعني: « ثلاثة أقانيم جوهر واحد: آب، وابن، وروح القدس، إله واحد ».[17]
وذكر السبحاني في تعريف التثليث فقال: «التثليث بمعنى كون الإله ثلاثًا لا يخلو عن أحد حالين: إما أن يكون لكلّ واحدٍ من هذه الثلاثة وجودٌ مستقل، وشخصيةٌ مستقلّة، أي أن يكون كلّ واحدٍ منها واجدًا لكلّ حقيقة الألوهيّة، وفي هذه الصورة يتنافى هذا مع التوحيد الذاتي بمعناه الأول (أي كون الله لا نظير له).
وإما أن تكون هذه الآلهة الثلاثة ذات شخصيةٍّ واحدة، لا متعدّدة، ويكون كلّ إلهٍ جزءًا من تلك الحقيقة الواحدة، وفي هذه الصورة يكون التثليث كذلك مستلزمًا للتركب، ويخالف المعنى الثاني للتوحيد الإلهي (أي بساطة الذات الإلهيّة)»[18].
وأمّا المسيحيّون: «يعتقدون بأنّ الله الواحد قائمٌ في ثلاث أقانيم إلهيّة هي، الأب الأقنوم الأول، ويعبرون بالذات، والابن: يسوع المسيح هو الأقنوم الثاني، ويعبّرون عنه بالكلمة أو النطق، ويجعلونه صورة الله، والروح القدس، الأقنوم الثالث، ويعبّرون عنه بالحياة أو روح الله، والثلاثة الأقانيم علة واحد هكذا يتصورون»[19].
رابعًا: تاريخ نشأة التثليث
إنّ تاريخ نشأة التثليث وجدت بعد تدوين الأناجيل المتداولة التي كتبت بعد المسيح (عليه السلام) بسنين طويلة، وبأيدي بعض المسيحيين، وهذا ما أدّى إلى وجود كثيرٍ من التناقضات الصريحة فيها، ويبيّن لنا هذا - أيضًا - أنّ كتبة الأناجيل قد نسوا - بصورةٍ تامةٍ - أجزاءً غير قليلةٍ من الإنجيل الأصلي، ووجود خرافاتٍ في الأناجيل المتداولة من قبيل قصة صنع المسيح (عليه السلام) للخمرة الأمر الذي يرفضه العقل، ويتنافى حتى مع بعض آيات التوراة والإنجيل المتداولين، وكذلك قصة مريم المجدلية وغيرها من القصص، وهذه كلّها دليل على ذلك التناقض.
ويقول القديس غريغوريوس النياسي فيما يخصّ الثالوث: «إنّ الأقانيم الثلاثة الإلهيّة: الآب والابن والروح القدس، لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، كما لا يمكن فهمها عن بعضها البعض، كذلك لا يمكن استيعابها كحقائق بشرية، بل هي الطريقة التي عبّر فيها الله عن طبيعته التي لا يمكن تسميتها ولا التحدث عنها، ويتكيف مفهومنا عنها وفقًا لمحدودية عقولنا البشرية. إنّ لفظة (أقنوم) المشتقّة من اللغة الآرامية لا يوجد ما يقابها في لغاتنا اليوم، وهي تشير إلى وحدة الكيان، فالنفس أقنوم والجسد أقنوم، وهما يتّحدان سويةً لتكوين الإنسان فهل الإنسان اثنان؟ واستنادًا إلى ذلك لم يقل المسيح في خاتمة إنجيل متى عمدوهم بأسماء الآب والأبن والروح القدس، بل باسم الآب والابن والروح القدس»[20].
لذا يقولون: لم يرد مصطلح الثالوث مطلقًا في الكتاب المقدس، وأوّل مرةٍ استعمل بها كانت في مجمع نيقية، لكن الثالوث مجتمعًا يظهر عدّة مراتٍ في الأناجيل، في متى 4/ 16-17، وأوّل ظهورٍ للثالوث مجتمعًا خلال عماد يسوع [21].
وقبيل صعوده إلى السماء وفق المعتقدات المسيحيّة دعا يسوع تلاميذه صراحةً لتعليم الأمم وتعميدهم باسم الثالوث مجتمعًا [22]، وقد اشتهر في الكنسية حتى اليوم السلام البولسي، والذي ختمت فيه رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ويذكر فيه الثالوث مجتمعًا أيضًا، إضافةً إلى مواقع أخرى عديدةٍ يرجع بعضها إلى العهد القديم.
ومن جهةٍ أخرى لم يشر أيٍّ من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إِلى مسألة التثليث؛ لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أنّ مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير بارز، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس: «إِنّ قضية التثليث تعتبر في العهدين القديم والجديد خفيةً وغير واضحة»[23].
وذكر المؤرّخون أنّ مسألة التثليث قد برزت بعد القرن الثّالث الميلادي لدى المسيحيين، وأنّ منشأ هذه العقيدة كان الغلو من جانب، واختلاط المسيحيين بالأقوام الأخرى من جانبٍ آخر؛ إذ إنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح (عليه السلام) لم يكن له وجودٌ خلال القرون الأولى من المسيحيّة، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحيّة أدخلوا فيها شيئًا من دينهم السابق، كالتثليث والشرك. ويُذكر أنّ: «الثالوث الهندي (الإيمان بالآلهة الثلاثة: برهما، وفيشنو، وسيغا)، كان تاريخيًا أسبق من التثليث المسيحي الذي لا شكّ أنّه انعكاس لذلك»[24].
يُنقل فريد وجدي نقلًا عن دائرة معارف لاروس: «أنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه، وسمعوا قوله، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكوّنة لذات الخالق، وما كان بطرس أحد حوارييه، يعتبره إلاّ رجلًا موحى إليه من عند اللّه، أمّا بولس فإنّه خالف عقيدة التلامذة الأقربين لعيسى وقال: إنّ المسيح أرقى من إنسان، وهو نموذج إنسانٍ جديدٍ، أي عقل سام متولّد من اللّه»[25].
وقد أرانا التاريخ البشري أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية تحت تأثير المضلّين، وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساس والغاية القصوى لأنبياء اللّه ورسله.
فإنّ عبادة بني إسرائيل للعجل، وترك التوحيد الذي هداهم النبي العظيم موسى له، لمن أفضل النماذج لما ذكرناه وهو ما أثبته القرآن والتاريخ للأجيال القادمة، وعلى هذا فلا داعي للعجب إذا رأينا تسرّب خرافة التثليث إلى العقائد النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح8 وغيابه عن أتباعه.
وقد رُسخّت عقيدة التثليث في قلوب النصارى، وتعمّقت فيهم مع مرور الزمن حتى إنّه لم يستطع حتى أكبر مصلحٍ مسيحيّ ونعني (لوثر) الذي هذّب العقائد المسيحيّة من كثيرٍ من الأساطير والخرافات، وأسس المذهب البروتستانتي، لم يستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.
المطلب الثاني: بساطة الذات الإلهيّة في الإسلام
وفي هذا البحث الذي خُصّص لبيان أدلّة بساطة الذات، حيث نذكر فيه العلاقة القائمة بين بساطة الذات والتوحيد الذاتي، وسنثبت أنّ بساطة الذات متفرعةٌ من التوحيد الذاتي بعد بيان أقسامه، وفي المطلب الثاني سنبين تعدّد الصفات وبساطة الذات، ثم نختم البحث ببيان الأدلّة.
أوّلًا: بساطة الذات والتوحيد الذاتي
في بادئ ذي بدء تعدُّ مسألة بساطة الذات الإلهيّة واحدةً من فروع ومسائل التوحيد الذاتي، ولولا طرح عنوان التوحيد الذاتي لما قلنا ببساطة الذات، وعليه سنبين ما هو المقصود من التوحيد الذاتي، ثم نبيّن أقسامه، فإذا تمّ بيان ذلك سَنعرف الملازمة بينهما.
التوحيد الذاتي: ونعني به نفي التعدّد؛ أي: الاعتقاد بوحدانية الله تعالى، وعدم التكثّر في الخارج، باعتقاد وجود إلهين أو آلهة متعددة. وبمعنى آخر أيضًا هو نفي التركيب؛ وهو الإيمان بالأحديّة، وعدم تركيب الذات الإلهيّة من أجزاء سواء كان بالواقع الخارجي، أم الذهني بالفرض والإمكان العقلي.
وجاء في القرآن الكريم عدّة آيات تتعلّق بالتوحيد ومنها: قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[26]، حيث أشارث الآية إلى الأمر بتوحيده ونفي التركيب عن الله تعالى. وقال تعالى: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ﴾[27]، وفي الآية دلالةٌ على أنّ الله واحدٌ لا ثاني له ولا شريك له ولا شبيه.
أقسام التوحيد الذاتي
وقد قُسّم التوحيد الذاتي إلى قسمين: التوحيد الذاتي الواحدي، والتوحيد الذاتي الأحدي. فإذا نظرنا إلى الذات الإلهيّة من حيث إنّها واحدة لا ثاني لها فيسمّى التوحيد هنا واحديًّا، وأمّا إذا نظرنا إليها بأنّها أحديّة بسيطة، وليست مركبةً من أجزاء فيسمّى التوحيد الأحدي؛ ولأجل التفريق بين هذين القسمين عُبّر عن الأول بالتوحيد الذاتي الواحدي، وعن الثاني بالتوحيد الذاتي الأحدي.
التوحيد الذاتي الأحدي: «هو نفي التركيب عن الله تبارك وتعالى، عن مطلق أنواع التركيب سواء أكان هذا التركيب من الأجزاء الخارجيّة الماديّة، أم من الأجزاء الذهنيّة التحليليّة المعنويّة، وسواء أكان هذا التركيب بالفعل أم بالقوة. ونفي التركيب يعني أنّ الله تعالى بسيط. إنّه أحد لا جزء له»[28].
التوحيد الذاتي الواحدي: هو نفي النظير، يعني لا ثاني له، لا مثيل له، لا شبيه له، لا ندَّ له، لا شريك له.
والنتيجة: أنّ بين التوحيد الذاتي والبساطة وحدة اشتركٍ في (التوحيد الذاتي الأحدي) ففي هذا القسم نثبت التوحيد لله تعالى ذاتًا، أي ذاته خالصة لا يعتريها التعدّد ولا التكثّر في الخارج، باعتقاد وجود إلهين أو آلهةٍ متعدّدة. ومن جهةٍ أخرى ننفي أيّ تركيبٍ لله تعالى سواء خارجيّة أم ذهنيّة، وبهذا تثبت وحدة الارتباط ما بين بساطة الذات والتوحيد الذاتي.
ثانيًا: تعدّد الصفات وبساطة الذات
إنّ بحث الصفات هو بحثٌ مكمّلٌ لما تقدّم في بساطة الذات في التوحيد الذاتي، والتي قلنا عنها بخلوّها عن أيّ نوعٍ من أنواع التركيب العقلي والخارجي، فبعد أن بيّنا وجه التلازم والترابط بين البساطة والذات، يقع الكلام هنا في الصفات، فنقول هل أنّ صفات الله المتعدّدة تنتهي إلى ذاتٍ واحدةٍ أم أنّها متكثّرةٌ بتكثّر الصفات؟ أو قل كيف يتناسب تعدّد الصفات مع بساطة الذات؟ ألا يستلزم تعدّد الصفات تركّب الذات الإلهيّة من صفاتٍ متعدّدةٍ، وهذا ما يخالف بساطتها؟
إنّ ما دعانا إلى ذكر بحث تعدّد الصفات؛ هو أنّ بعضًا من الفرق الإسلاميّة ذهبت إلى تعدّد الصفات، وهذا ما عليه الأشاعرة[29]، فقالوا بزيادة الصفات على الذات؛ فإنّه يستلزم ذلك افتقاره سبحانه في علمه بالأشياء وخلقه إيّاها، إلى أُمورٍ خارجةٍ عن ذاته، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته، ويخلق بالقدرة التي هي خارجةٌ عن حقيقته، وهكذا سائر الصفات من السمع والبصر، والواجب سبحانه منزّهٌ عن احتياجه إلى غير ذاته، فهو غنيٌّ في ذاته وفعله عمّن سواه.
نعم الأشاعرة وإنْ كانت قائلةً بأزليّة الصفات مع زيادتها، ولكن ذلك لا يدفع الفقر والاحتياج عن ساحته تعالى؛ لأنّ الملازمة والترابط غير عينيّة، فكونه سبحانه مع صفاته متلازمين منذ الأزل غير كونه هذه الصفات عينها.
والنتيجة: أنّ كون الصفات لديهم غير الذات عين القول باحتياجه في العلم والقدرة والإيجاد إلى غيره. إذ نتيجة قولهم بفصل الذات عن الصفات هي أنّه يستعين في تحصيل العلم بذاته، بعلمٍ منفصلٍ كما يعني أيضًا أن يستعين في إيجاد شيءٍ بقدرةٍ خارجةٍ عن ذاته على أنّ دلائل (عينيّة الصفات للذات)، وبالعكس لا تقتصر على هذا الدليل الذي ذكرناه فقط، ولكنّنا نكتفي بذلك.
وأمّا جواب السؤال الذي طرحناه فيمكن أن نقول: إنّما يتوجه الكلام بالتعدّد إذا كان كلّ واحدٍ من هذه الصفات يكوّن جزءًا خاصًا، ويصبح له موضعًا معينًا من ذاته سبحانه، وهنا يمكن القول بأنّه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه. ولكن إذا قلنا بأنّ كلّ واحدٍ من هذه الصفات يكوّن تمام الذات، برّمتها وبأسرها فلا يبقى حينئذٍ أيّ مجالٍ لتصوّر التركيب في شأنه تعالى، إذ ماذا يمنع من أن يكون شيءٌ على درجةٍ من الكمال بحيث يكون ذاته علمًا كلّها، وذاته قدرة كلّها وذاته حياة كلّها، من دون أن تظهر أيّة كثرةٍ في ذاته، نعم لو كانت هناك كثرةٌ فإنّما هي في عالم الاعتبار والذهن دون الواقع الخارجي (المصداق)، إذ يكون في هذه الصورة مصداق العلم في اللّه هو مصداق القدرة نفسه، ويكون كلاهما مصداق الذات بلا مغايرة، ولا تعدّد.
يقول الشيخ السبحاني: « ولأجل تقريب هذا المعنى الدقيق نشير إلى مثالٍ يتعلّق في عالم الممكنات، ولنأخذ مثلًا الإنسان، فكلّ وجوده مخلوقٌ للّه، بينما هو أيضًا بكلّه معلومٌ له سبحانه دون أن يكون معنى ذلك أنّ جزءًا من ذات الإنسان معلومٌ للّه، والجزء الآخر مخلوقٌ له سبحانه، بل كلّه معلومٌ للّه في عين كونه مخلوقًا كلّه له، وليست جهة المعلوميّة في الخارج غير جهة المخلوقيّة. وللمزيد من التوضيح لاحظ النور؛ فإنّ الإضاءة والحرارة من خواصّ النور، ولكن ليست الكاشفيّة والإضاءة مرتبطةً بناحيةٍ خاصّةٍ من وجوده، بل الإضاءة والكاشفيّة خاصيّة تمامه دون تبعّض، كما أنّ الحرارة هي أيضًا خاصيّة تمامه دون أن يستلزم ذلك أيّ تعدّدٍ في ذات النور وحقيقته»[30].
وبالنتيجة يتبين لنا وبحسب التحليل العقلي مسائل ثلاث، هي:
1. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي.
2. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الذهني.
3. صفات اللّه عين ذاته.
وقد ذكرنا ــ في مقدّمة المطلب أنّ بيان هذه الحقائق وشرحها ــ أنّ الأمر لو كان على غير ما أثبتناه للزم أن يفتقر اللّه تعالى إلى غيره. فواجب الوجود غنّيٌ عن غيره، لا يفتقر إلى شيءٍ سبحانه.
ثالثا: أدلّة بساطة الذات
وأمّا الأدلّة التي يستدلّ فيها على بساطة الذات هي:
1 – أنّ ذاته تعالى غير مركّبة:
فلو كانت مركّبةً بأيّ نوعٍ من أنواع التركيب سواء الذهني أم الخارجي للزم تعدّد الذات وتركّبها من عدّة أجزاء، وهذا لا يليق بمقام الخالق العظيم؛ لأنّ شأن المركّب هو الفقر والحاجة والمحدودية؛ وإذا كان محدودًا، كان كما قال أمام الموحِّدين (عليه السلام): «فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار إليه. ومن أشار إليه فقد حدّه. ومن حدّه فقد عدّه»[31].
إذن ينتج من ذلك الوصف مقارنته بغيره، وهذا ممتنعٌ؛ لأنّه بخلاف ما قلنا في التوحيد الذاتي الأحدي، وإذا وصف بالتثنية فهو بخلاف ما قررناه في التوحيد الواحدي.
2 – أنّ ذاته منزهّةٌ عن التركيب الخارجي:
والمقصود من (التركيب الخارجي) هو أن يكون ذلك الشيء ذا أجزاءٍ خارجية، كالمعادن والمحاليل الكيمياوية، التي تتألّف من الأجزاء المختلفة.
إلّا أنّ مثل هذا (التركيب) يستحيل في شأن اللّه سبحانه؛ لأنّ الشيء المركّب من مجموعة الأجزاء سيكون (محتاجًا) في وجوده إلى تلك الأجزاء، وهذا لا شكّ فيه، والمحتاج إلى غيره معلولٌ لذلك الغير، ولا يصلح للألوهية حينئذٍ.
فضلًا عن ذلك أنّ الأجزاء المؤلّفة للذات الإلهيّة إمّا أن تكون (واجبةً الوجود)، فحينئذٍ سنقع في مشكلة (تعدّد الآلهة) التي يعبّر عنها في علم الكلام بتعدّد القدماء. وإمّا أن تكون (ممكنة الوجود)، وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها، فيكون معنى هذا أنّ ما فرضناه (إلهًا)، يكون معلولًا لأجزاء ذاته التي هي معلولةٌ لموجودٍ أعلى، وبالتالي لا يكون إلهًا.
3 - ذاته منزّهة عن الأجزاء العقليّة:
ودليل هذا النوع من البساطة فيه شقّان، وإثباته على النحو التالي:
أ - إنّ الشيء، يعرف من خلال جنسه وفصله أو شيءٍ آخر يقوم مقامهما التي تسمّى بالماهية؛ ولكن الماهية ليس لها أيّ دور، سوى تحديد وجود الأشياء، وبيان موقعها في عالم الوجود.
ب - إنّ كلّ موجودٍ ممكنٍ مركَّبٌ من شيئين: الماهيّة والوجود، وهذا التركيب إنّما يدركه الذهن تحليلًا، غير أنّ الخارج لا يخلو من هذين الأمرين. فأمّا الماهيّة فهي التي تعيّن رتبة الموجود، كأن يكون إنسانًا أو حيوانًا أو جمادًا، وأمّا الوجود فهو الذي يمنحها العينيّة الخارجيّة ويطرد العدم عن ساحتها.
غير أنّ هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهيّة؛ إذ لو فُرض أنّها مؤلَّفة من وجودٍ وماهيّةٍ، للزم السؤال: كيف يمكن لماهيّةٍ فاقدةٍ للوجود والعينيّة أن تكون واجبة الوجود؟ فمن كان شأنه الافتقار ــ بحسب قانون العلّية ــ يحتاج إلى علّةٍ خارجة تفيض عليه الوجود، وهذا هو حدّ الممكن لا حدّ الواجب. ومن المعلوم أنّ ما كان ممكنًا محتاجًا لا يصلح أن يكون إلهًا.
ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته، وأنّها منزّهةٌ عن الماهيّة، وهو عين الوجود وصرفه.
المطلب الثالث: التثليث في الفكر المسيحي
نسعى في هذا المطلب أن ننقد أدلة التثليث في الفكر المسيحي، ورغم أننا لم نجد عقيدةً في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها المسيحيّة، كما أنّه قلّما توجد مسألةٌ في غاية الإبهام واللامعقولية كما تكون عليه مسألة (التثليث) في تلك العقيدة.
أوّلًا: التثليث على مستوى الحقيقة
إذا أردنا أن نقف على الأدلة الحقيقيّة التي ادّعتها النصارى في أثبات عقيدة التثليث، فيجب أن نرجع إلى ما مسطور في كتبهم، ومن ذلك الآتي:
1 - ما جاء في (مجمع نيقيه) حيث قالوا: إنّ في أنجيل يوحنا ما يدلّ على التثليث فقد جاء قوله: «فإنّ الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الأب، والابن، والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح، والماء، والدم، وهم في الواحد»[32]، ويُروى عن المسيح أنّه قال: «أنا والأب واحد، ومن رآني فقد رأى أبي»[33]. وأمثال هذا الكلام كثير.
وزاد على دليلهم هذا ما استفاده بولس من العقيدة الهنديّة الوثنيّة، التي تسمي التثليث (ترى مورتي) أي الثلاث هيئات، أو الثلاث أقانيم، ويسمّونها عندهم (برهما وقشنو وسيقا)، ويقولون إنّ هذه الأقانيم إلهٌ واحدٌ، ويرمز إليها بالرمز (أوم)، وكذلك في العقائد الرومانية المقتبسة منها، بل حتى في القعيدة البوذيّة كما نقل موريس قال: «إنّ بوذا إلهٌ ذو ثلاث أقانيم، ويسمّونه (فو)، ويرمزون له كالهنود باللفظ (أوم)، ويقولون إنّه ولد من العذراء (مايا)، وإنّه ظهر في الأرض بالناسوت، لينقذ العالم من خطاياه»[34].
وذكر المسيحيّون «إنّ المسيح صُلب ومات على الصليب، وهو عين ما قاله البراهميّون من كون كرشنا مات وصلب على الصليب، ونحن إذ نقارن بين ما قاله البراهميّون الوثنيّون عن كرشا، وما يقوله المسيحيّون عن المسيح (عليه السلام)»[35].
2 – قولهم: إنّ المسيح وجد من غير نطفة أب، وكونه من غير أبٍ دليلٌ على ألوهيّته، وقد جاء في أناجيلهم ما يؤيّد ذلك، منها «بلا أب، بلا أم، بلا نسب، بلا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة»[36]، وقالوا أيضًا إنّ معجزاته في أحياء الموتى دليلُ ألوهيّته. وفي الكتاب المقدّس قالوا: إنّ عبارة (ابن الله) هي واحدةٌ من ألقاب منجي ومخلّص وفادي المسيحيين، وإنّ هذا اللقب لا يطلق على أيّ شخصٍ آخر إلّا إذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله [37].
3 - قالوا إنّ التثليث عين التوحيد، وإنّهما حقيقةٌ واحدةٌ؛ لأنّ عقيدة التثليث عقيدةٌ تعبديةٌ محضةٌ، ولا سبيل إلى نفيها وإثباتها إلّا الوحي، فإنّها فوق التجريبيّات الحسيّة، والإدراكات العقليّة المحدودة للإنسان. وإنّ اجتماع التوحيد والتثليث معًا يمكن تشبيهه بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص؛ حيث إنّها ثلاثة أشياء في شيءٍ واحد، أو تشبيههم بصورة أخرى كانعكاس صورة إنسانٍ في ثلاث مرايا في آنٍ واحد، فهذا الإنسان مع كونه واحدًا إلّا أنّه يظهر وكأنّه ثلاثة في المرايا الثلاث.
كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج، ويقولون بأنّ هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلّها إلى نقطةٍ واحدة! كما حاول بعض المسيحيين المستشرقين مطابقة قضيّة (التوحيد في التثليث) مع نظريّة (وحدة الوجود) التي يقول بها الصوفيّون[38].
ثانيًا: التثليث على مستوى الأدلّة
إنّ التاريخ البشري يحدثنا، أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ــ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ــ إلى الشرك والوثنية ــ تحت تأثير المضلّين ــ وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساس، والغاية القصوى لأنبياء اللّه ورسله؛ ومن هنا تظهر انحرافات الطائفة المسيحيّة وهو الاعتقاد بالتثليث، وهذا الانحراف الذي تعتقد به المسيحيّة ينحصر في التثليث ومعناه: وجود آلهةٍ ثلاثةٍ.
فبعد أنْ تطرّقنا إلى عدّة بحوثٍ كانت مقدّمةً وممهدةً إلى إظهار حقيقة التثليث، نقف هنا لكي نبيّن الأدلّة على نقد التثليث، الذي يُعدّ من أبرز اعتقادات المسيحيّة.
1 – الدعوة الأولى: جاء في النصّ الموجود في إنجيل لوقا وفيه إشارةٌ إلى قول أليصابات أمّ يوحنا ما يُشير إلى أنّ ما في بطن مريم هو الربّ، وأنّ مريم هي أمّ الرب كما يقول النص: «فقامت مريم وذهبت إلى مدينة يهوذا، ودخلت بيت زكريا، وسلّمت على أليصابات. فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت اليصابات من الروح القدس، وصرخت بصوتٍ عظيمٍ، وقالت: مباركة أنتِ في النساء، ومباركة هي ثمرةُ بطنك! فمن أين لي هذا أنْ تأتي أمُّ ربّي إليّ؟!»[39].
ويمكن أن يُجاب: بإنّ حصر بنوّة السيّد المسيح (عليه السلام) بمريم (عليها السلام) – كما ورد في الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ﴾ – إنّما هو تأكيدٌ على أنّ المسيح (عليه السلام) إنسانٌ كسائر الناس. فقد تكوّنَ في رحم أمّه، ومرّ بمراحل الجنين كبقيّة البشر، ثم خرج إلى الدنيا مولودًا من بطنها كما يولد سائر المواليد، ورضع من ثديها وتربّى في حجرها. وهذه الحقائق تبرهن بوضوح على أنّه كان ذا صفاتٍ بشريّةٍ محضة، يخضع لقوانين الطبيعة وظواهرها، ويتأثّر بتحوّلات عالم المادة. فكيف يُتصوّر بعد ذلك أن يكون المسيح (عليه السلام) إلهاً أزليًّا أبديًّا، مع أنّ حياته كانت محكومةً بقيود الزمان والمكان، ومرتهنةً بشروط الوجود المادي؟!
وعلاوةً على ذلك فإنّ عبارة الحصر التي هي (إنّما) الواردة في الآية تحصر بنوة المسيح(عليه السلام) بمريم(عليها السلام)، وتؤكّد على أنّه وإن لم يكن له والد، فليس معنى ذلك أنّ أباه هو الله، بل هو فقط ابن مريم(عليها السلام).
2 – جاء عن القديس غريغوريوس: «إنّ الأقانيم الثلاثة الإلهيّة: الآب والابن والروح القدس، لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، كما لا يمكن فهمها عن بعضها البعض، كذلك لا يمكن استيعابها كحقائق بشريّة، بل هي الطريقة التي عبّر فيها الله عن طبيعته التي لا يمكن تسميتها ولا التحدّث عنها، ويتكيف مفهومنا عنها وفقًا لمحدوديّة عقولنا البشريّة. إنّ لفظة (أقنوم) المشتقّة من اللغة الآراميّة لا يوجد ما يقابها في لغاتنا اليوم، وهي تشير إلى وحدة الكيان، فالنفس أقنوم والجسد أقنوم، وهما يتحّدان سويةً لتكوين الإنسان، فهل الإنسان اثنان؟ واستنادًا إلى ذلك لم يقل المسيح في خاتمة إنجيل متى عمدوهم بأسماء الآب والأبن والروح القدس، بل باسم الآب والابن والروح القدس» [40].
ويُجاب عنه: لقد أكّدت عدّة آياتٍ قرآنيّةٍ أنّ المسيح (عليه السلام) هو رسول الله ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى، وأنّ هذه الإرسال والمنزلة - أي منزلة النبوّة - لا تتناسب مع مقام الألوهيّة. علمًا أنّ معظم كلام المسيح (عليه السلام) الوارد منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر، أو في كتاب الله تعالى، أو ما يذكره الكتّاب والمفكّرون منهم إنّما يؤكّدون على نبوته وبعثته لهداية الناس، وليس فيه دلالةٌ على ادّعائه الألوهيّة والربوبيّة.
3 – استدلّ المسيحيّون فيما جاء في آخر إنجيل متي 28: 19 عن المسيح: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس»، وقول يوحنا في الرسالة الأولى 5: 7، 8 «فإنّ الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة واحد، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد ». وهذا جزءٌ من مدّعاهم.
ويرد عليهم: أنّ ما ذكر من كلماتٍ هي ليس من قول متى، ولا قول يوحنا. فأمّا بالنسبة لإنجيل متى فقد أسند هذا القول إلى المسيح بعد قتله الذي زعموه وقيًا من الموت، وأنّ المسيح لم يقله لتلاميذه أثناء حياته على الأرض قبل موته ليعلمه جميع الناس، وكأنّ متى هو الذي سمعه منه وحده دون سائر التلاميذ، وإلّا لماذا لم تذكره الأناجيل الثلاثة الباقية؟
يقول محمد أبو الغيط: «كذلك بالنسبة لدلالة النصّين على ثالوثيّة الإله فإنّهما لا يفيدان الدلالة على تثليث الإله مطلقًا؛ لأنّ النصوص المقرّرة للعقيدة لا بد أن تكون صريحةً وواضحةً لا تحتمل المجاز أو التأويل، ونحن نطالبهم بنص في الإنجيل يقول: الله ثلاثة: أي الأب والابن وروح القدس، كما أنّ الأناجيل الأربعة ليس لها من هذا الكلام شيء»[41].
ومع جهلهم بالثلاثة وعدّهم واحدًا إلّا أنّهم رجعوا وأعطوا كلّ أقنومٍ من الثلاثة صفة الألوهيّة والربوبيّة لكلّ واحدٍ منهما، وجعلوا لهذه الدعوة مبررات، يقول هاني رزق: «فالثلاثة أقانيم كلّ أقنومٍ منها على هذا الاعتبار قائم بذاته»[42]، ورغم أنّ هذا الكلام لا ينفع في توحّد الثلاث؛ لأنّ قيام كلّ واحدٍ بذاته يجعله مستقلًّا عن الباقين تمام الاستقلال.
ثالثا: نقد أدلّة التثليث
1 – إنّهم يدّعون أنّ المسيح متّحدٌّ مع الربّ في حقيقةٍ واحدة؛ لأنّهم قالوا: إنّ الله اتّحد بالمسيح اتّحاد الذات، فصارا شيئًا واحدًا، وصار الناسوت لاهوتًا، وما للربّ لعيسى وما لعيسى للربّ، فإذا كان كذلك، نقول: إنّ المسيح (عليه السلام) إنّما هو بشرٌ كأمّه، وكسائر أفراد البشر، وعلى هذا المدّعى فهو يعتبر - لكونه مخلوقًا - في صفّ المخلوقات الأخرى يشاركها في الفناء والعدم، ومن حاله كهذا كيف يمكنه أن يكون إلهًا أزليًّا أبديًّا؟!
وبمعنى آخر: لو كان المسيح (عليه السلام) إلهًا لاستحال على خالق الكون أن يهلكه، وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق مع قدرة الله تعالى، وهذا ممتنعُ، وأما إنْ كانت قدرته محدودة، فلا يمكن أن يكون إلهًا، لأنّ قدرة الله تعالى كذاته غير محدودة، أي لا تّحدها حدودٌ مطلقًا، فعلى كلا الفرضين لا يمكن أن ينعقد الاتحاد.
2 – لو كان ما يدعونه في التثليث مبنيٌّ على الحقيقة التي لا يرد عليها شبهةٌ أو إشكالٌ فكيف يجيبون على أصل ولادة المسيح من أمٍّ (مريم) ذكرتها كتبهم وسيرهم منذُ كان جنين في بطنها، وأصبح ينمو شيئًا فشيئًا؟
نقول: إنّ ذكر عبارة (المسيح بن مريم) بصورةٍ متكررةٍ في الآيات الكريمة في القرآن أو في غيره، إنّما هو لتأكيد حقيقة بنوة المسيح (عليه السلام) لمريم، بمعنى أنّه ولد من أمٍّ، وأنّه كان جنينًا في بطن أمّه قبل أن يولد، وحين ولد طفلًا احتاج إلى النمو ليصبح كبيرًا.
وهنا نسأل ونقول: هل يمكن أن يستقر الإله في محيطٍ صغيرٍ كرحم الأم، ويتعرّض لجميع تحولات الوجود والولادة، ويحتاج للأم حين كان جنينًا وحين الرضاعة؟!
كما أنّ الآيات تذكر بالإضافة إلى اسم المسيح (عليه السلام) اسم أمّه وتذكرها بكلمة (أمّه)، وفي هذه الحالة تميّزت أم المسيح (عليه السلام) عن سائر أفراد البشر، وكذلك يحتمل أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ المسيحيين أثناء ممارستهم للعبادة، يعبدون أمّ المسيح أيضًا، والآن نشاهد كثيرًا من الكنائس الموجودة اليوم تشتمل على تماثيل لأمّ المسيح، حيث يقف المسيحيّون أمامها تعظيمًا وتعبّدًا.
3 – قالوا إنّ الألوهيّة تنطبق على الأب والابن والروح، أي هو ينطبق على كلّ واحدٍ من الثلاثة.
ويرد عليهم بما قاله العلّامة في الميزان: «قوله تعالى: Nلقد كفرَ الذين قالوا إنّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍM، أي أحد الثلاثة: الأب والابن والروح، أي هو ينطبق على كلّ واحدٍ من الثلاثة، وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والابن إله، والروح إله، وهو ثلاثة، وهو واحدٌ، يضاهئون بذلك نظير قولنا: إنّ زيد بن عمرو إنسان، فهناك أمور ثلاثة هي: زيد، وابن عمرو، والإنسان، وهناك أمرٌ واحدٌ وهو المنعوت بهذه النعوت، وقد غفلوا عن أنّ هذه الكثرة إنْ كانت حقيقيةً غير اعتباريةٍ أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وأنّ المنعوت إنْ كان واحدًا حقيقةً أوجب ذلك أنْ تكون الكثرة اعتباريةً غير حقيقيّةٍ فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية في زيد المنعوت بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقّله» [43].
ولذا فإنّ الله تعالى قال: (وما من إلهٍ إلّا إله واحد)، وهذا ردّ منه تعالى لقولهم: (إنّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ) بأنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجهٍ من الوجوه، فهو تعالى في ذاته واحد، وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئًا، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرةً وتعدّدًا، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج، ولا في وهم، ولا في عقل.
والخلاصة: أنّ ما ذهب إليه النصارى من القول بكون الذات الإلهيّة واحدةً متعيّنةً بصفاتها الثلاث، بحيث تكون في عين وحدتها كثرةً حقيقيّة، ليس قولًا تامًّا، بل هو باطل عقلًا. والصحيح أنّه ليس في الوجود إلهٌ من جنسٍ أو نوعٍ آخر أصلًا، وإنّما الإله الحقّ واحدٌ بوحدةٍ حقيقيةٍ مطلقة، لا تقبل التعدّد بوجهٍ من الوجوه: لا بتعدّد الذات، ولا بتعدّد الصفات، لا في الخارج ولا في الفرض العقلي.
4 – ممّا استدلّوا به في النقطة (3) على مستوى الحقيقة أنّ عقيدة التثليث عقيدةٌ تعبديّةٌ محضةٌ، ولا طريق لنفيها وإثباتها إلّا بالوحي، فإنّها فوق التجريبيّات الحسيّة والإدراكات العقليّة المحدودة للإنسان.
ويرد عليهم: أولًا: أنّ إرجاع هذه النظرية إلى الوحي من طريق الكتب أي الأناجيل فهو مردود؛ لأنّها ليست كتبًا سماوية، وإنّما هي كتبٌ وضعت بأيدي بشريةٍ قابلةٍ للخطأ والتحريف، ووجدت بعد رفع المسيح إلى الله سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين، والشاهد أنّه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفيّة صلبه ودفنه، ثم عروجه إلى السماء.
وإذا دقّقنا في كلماتهم نجد التناقض الواضح؛ لأنّهم من جهةٍ يعرفون كلّ واحدٍ من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخصٌ ومتميّزٌ عن البقية، وفي الوقت نفسه يعدّون الجميع واحدًا حقيقةً لا مجازًا، فكيف يمكن الالتزام أو الاعتقاد بشيءٍ يضادّ بداهة العقل، ثم إسناده إلى ساحة الوحي الإلهي؟!
وثانيًا: نسأل ما هو المقصود من الأقانيم والآلهة الثلاث؟ إنْ قلتم كلّ واحدٍ من هذه الأقانيم إلهٌ مستقلٌّ عن الآخر، فحينها تتعدّد الإله بتعدّد المعنون، ويكون عددهم ثلاثةً، وليس بواحد؛ لأنّ كلّ واحدٍ أصبح له تشخّصٌ مستقلٌّ بذاته.
وأمّا إن قلتم: لا، لأنّ هذه الأقانيم موجودةٌ بوجودٍ واحدٍ وحقيقةٍ واحدة، فنقول: قولكم هذا يلزم منه التركيب وقد تقدّم الكلام في بساطة ذاته تعالى. وإن قلتم: لا وإنّما هذه الأقانيم هي مظاهر لله تعالى، نقول لكم: هذا لا يعدُ تثليثًا.
النتيجة: إنّ تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية وعبادة العجل وغيرها من الاعتقادات الفاسدة، لم تكن جديدةً في التاريخ البشري؛ فإنّ هذه الاعتقادات وأمثالها من السنن الإلهيّة التي ظهرت على المجتمعات البشريّة بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم؛ ولذا نجد الانحراف إلى الشرك والوثنية صار تحت تأثير المضلّين، وعلى هذا فلا عجب إذا رأينا تسرّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانيّة بعد ذهاب السيد المسيح (عليه السلام)، وغيابه عن أتباعه.
المطلب الرابع: دراسة مقارنة
هذا المبحث هو ثمرة ما تقدّم من المطالب والموضوعات التي تعرضنا إليها لكي نقارن بين بساطة الذات والتثليث، ونخرج بأوجه التشابه والافتراق بينهما مع ذكر أهمّ المباني التي أعتمد عليها كلٌّ من البساطة والتثليث.
أوّلًا: أوجه الاشتراك
1 – قد نلحظ الاشتراك بين التوحيد الإسلامي والتثليث النصراني من جهة مفهوم الوحدة لا الكثرة، فإنّنا أثبتنا من خلال بساطة الذات أنّ الله واحدٌ، وهذا المعنى يقترب منه النصارى بقولهم: بوحدة الله تعالى، أي إنّه لا إله إلّا الإله الوحيد السرمدي الحقيقي. ومن نصوص الكتاب على وحدانيّة الله «اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا ربٌّ واحد» (مرقس 12:29)، وفي موضعٍ آخر «لنا إله واحد الأب الذي منه جميع الأشياء ونحن له».
2 – إنّ تعدّد الصفات لا ينافي وحدة الذات الإلهيّة؛ لأنّنا نقول إنّ صفات الله عين ذاته، والنصارى كما جاء في كتاب اللاهوت يقولون: «ليست أسماء أقانيم الثالوث الأقدس (الآب والابن والروح القدس) أوصافًا لعلاقات مختلفة بين الله وخلائقه، على ما زعم البعض ككلمة (خالق، وحافظ، ومنعم). ومن إعلانات الكتاب التي تثبت ذلك: (أ) يقول كلٌّ من الآب والابن والروح القدس عن نفسه: أنا. (ب) يقول كلٌّ منهم للآخر: أنت. ويتحدث عنه بضمير الغائب هو. (ج) يحب الآب الابن، والابن يحب الآب، والروح القدس يشهد للابن. فيظهر من ذلك أنّ بين كلٍّ منهم والآخر من العلاقات ما يدلّ على تمييز الأقنومية، وأنّه يوجد إلهٌ واحدٌ فقط في ثلاثة أقانيم، وهم الآب والابن والروح القدس»[44].
ثانيًا: أوجه الافتراق
إذا أردنا أن نقف على الفروقات القائمة بين التوحيد الإسلامي والتثليث المسيحي فهي كثيرة؛ ولكن أهمّ ما يمكن أن يناقش فيه هو مسألة أثبات التوحيد لله تعالى، وما دونه كفرٌ وإلحاد:
1 – إنّ الفكر الإسلامي قد ناقش في الكبرى، وهي إثبات الأصول الأساسيّة للدين وأولها التوحيد، وقد بّينا بطريق الأدلة إثبات بساطة الذات الإلهيّة لله تعالى، وأنّه غير مركّبٍ بأيّ نحوٍ من الأنحاء. وأمّا الفكر المسيحي فهو مصرٌّ على أنّ الذات الإلهيّة مركّبةٌ من الأب والابن وروح القدس، وهذا يعني تعدّد الذات الإلهيّة.
2 – قد يقال بتعدّد الصفات إذا كانت كلّ واحدة من هذه الصفات تكوّن جزءًا خاصًّا، ويصبح لها موضعٌ معينٌ من ذاته سبحانه، وهذا يستلزم التركيب في ذاته سبحانه، ونحن لا نقول به. وأمّا في الفكر التثليثي، فإنّهم يقولون بتعدّد الصفات، وإنّها جزءٌ من الذات المتعدّدة.
3 - المسيحيون قالوا إنّ التثليث عين التوحيد، وإنّهما حقيقةٌ واحدة؛ لأنّ عقيدة التثليث عقيدةٌ تعبديّةٌ محضة، ولا سبيل إلى نفيها وإثباتها إلّا بالوحي؛ فإنّها فوق التجريبيّات الحسيّة والإدراكات العقليّة المحدودة للإنسان. وأمّا الإسلاميون فهم لا يتفقون مع المسيحيين من كون التثليث عين التوحيد، فهذه دعوى مردودةٌ فكريًّا وعمليًّا.
4 – عند مراجعة الآيات القرآنيّة وغيرها من الأدلّة النقلية، نجدها تبيّن أنّ المسيح (عليه السلام) هو رسول الله، المبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى، وأنّ هذا الإرسال والمنزلة - أي منزلة النبوة - لا تتناسب مع مقام الألوهيّة كما ادّعته النصارى.
ثالثًا: المباني والمنطلقات
عند التدقيق في مبنى القائلين ببساطة الذات الإلهيّة فإنّهم يستندون إلى:
1 – أثبات الوحدة الذاتيّة لله تعالى، بمراتبها التوحيديّة سواء على مستوى التوحيد الذاتي الواحدي أم الأحدي.
2 – نفي التركيب عن الله تبارك وتعالى، عن مطلق أنواع التركيب سواء أكان هذا التركيب من الأجزاء الخارجيّة الماديّة، أم من الأجزاء الذهنيّة التحليليّة المعنويّة، وسواء أكان هذا التركيب بالفعل أم بالقوة. ونفي التركيب يعني أنّ الله تعالى بسيط، أحد لا جزء له.
وأمّا مبنى القائلين بالتثليث، فيبتني على أنّ عقيدة التثليث عقيدةٌ تعبديةٌ محضةٌ، ولا طريق لنفيها وإثباتها إلّا بالوحي، فإنّهم يستندون الى الاتّحاد، وأنَّ المسيح متّحدٌ مع الرب في حقيقةٍ واحدة؛ لأنّهم قالوا: إنّ الله اتّحد بالمسيح اتّحاد الذات، فصارا شيئًا واحدًا، وصار الناسوت لاهوتًا، وما للربّ لعيسى، وما لعيسى للربّ.
الخاتمة والنتائج:
وفي ختام البحث يمكن بيان أبرز ما جاء فيه من نتائج على النحو الآتي:
1 - توضيح المعاني اللغويّة والاصطلاحيّة لبعض الكلمات المفتاحيّة، كالتنزيه، وبساطة الذات، والتثليث.
2 – إنّ مسألة التثليث لم يكن لها وجودٌ خلال القرون الأولى من المسيحيّة، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحيّة أدخلوا فيها شيئًا من دينهم السابق.
3 – الوقوف على العلاقة القائمة بين بساطة الذات والتوحيد الذاتي، وأثبتنا أنّ بساطة الذات متفرعةٌ من التوحيد الذاتي.
4 - إنّ بين التوحيد الذاتي والبساطة وحدة اشتركٍ في التوحيد الذاتي الأحدي.
5 – أثبتنا أنّ التوحيد لله تعالى ذاتًا، أي ذاته خالصة لا يعتريها التعدّد ولا التكثّر في الخارج، باعتقاد وجود إلهين أو آلهة متعددة.
6 - نفي أيّ تركيبٍ لله تعالى سواء أكان تركيبًا خارجيًّا أم ذهنيًّا، وبهذا تثبت وحدة الارتباط ما بين بساطة الذات والتوحيد الذاتي.
7 - تبيّن لنا وبحسب التحليل العقلي ثلاث مسائل مهمة، وهي أنّ ذات اللّه منزّهةٌ عن التركيب الخارجي، وأنّ ذات اللّه منزّهةٌ عن التركيب الذهني، وأنّ صفات اللّه عين ذاته.
8 – نقد آراء المسيحيين لأنّهم يدّعون أنّ المسيح متّحدٌ مع الربّ في حقيقةٍ واحدة، كاتّحاد الذات، فصارا شيئًا واحدًا، وصار الناسوت لاهوتًا، وما للرب لعيسى، وما لعيسى للرب، وأجيب عنه.
9 - بعد أن تطرّقنا إلى عدّة بحوثٍ كانت مقدمةً وممهدةً إلى إظهار حقيقة التثليث، وقفنا في آخر البحث؛ لكي نبيّن الأدلّة على نقد التثليث، الذي يُعدّ من أبرز اعتقادات المسيحيّة.
المصادر
القران الكريم
نهج البلاغة
ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، بيروت: نشر دار الفكر، 1399هج، 1979م.
ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ط3، بيروت: الناشر دار صادر، 1414هج.
الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حماد، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، ط4، بيروت: دار العلم للملايين، 1407ق.
الحلّي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، تحقيق: حسن زاده الآملي، ط7، قم: مؤسسة النشر الإسلامي، 1417.
السبحاني، الشيخ جعفر، الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، ط4، قم: مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام)، 1417هـ.
ـــــــــــ، العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ط1، قم: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، ١٤١٩ - ١٩٩٨ م.
ـــــــــــ مفاهيم القرآن، قم: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، المطبعة اعتماد، 1412هق.
الصدوق، أبو جعفر، الاعتقادات، ط2، قم: ناشر: كنگره شيخ مفيد، 1414 ق.
الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، قم: الناشر: منشورات اسماعيليان، المطبعة: اسماعيليان.
الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت: دار المعرفة.
الطوسي، أبو جعفر، تجريد الاعتقاد، ط1، طهران: مكتب الإعلام الإسلامي، 1407 ق.
الفيومي، أحمد بن محمد بن علي، المصباح المنير، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، ط2، المكتبة العصريّة، ١٤١٨ هـ ق.
مجمع الكنائس الشرقية، قاموس الكتاب المقدّس، ط6، بيروت: مكتبة المشعل، 1981.
أبو الغيط، محمد، عقيدة التثليث في المسيحيّة، ط1، القاهرة: دار الطباعة المحمدين، 1411هـ – 1991م.
محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، بيروت: دار المعرفة، 1971م.
الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، قم: مدرسه الإمام على بن أبي طالب(عليه السلام)، 1379 ه. ش.
التفسير التطبيقي للعهد الجديد، (نسخة مؤرشفة). Archived from the original on 26 أبريل 2020. اطلع عليه بتاريخ 14 ديسمبر 2011.
--------------------------------------------
[1] الأنبياء، الآية: 25.
[2] المائدة، الآية: 73.
[3] الزبيدي، مرتضى، تاج العروس، ج36، ص523.
[4] الأزهري، محمد بن أحمد، تهذيب اللغة، ج6، ص 92.
[5] التوحيد: 1 – 5.
[6] الشورى: 11.
[7] الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، مادة بسط.
[8] ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة بسط.
[9] الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير، بسط.
[10] البقرة، الآية: 247.
[11] الرعد، الآية: 26.
[12] الطوسي، محمد بن الحسن، تجريد الاعتقاد، ص61.
[13] الحلّي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص٦١.
[14] السبحاني، الشيخ جعفر، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، ص313.
[15] ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة ثلث.
[16] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، مادة ثلث.
[17] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ص392.
[18] السبحاني، الشيح جعفر، العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ص46.
[19] محمد أبو الغيط، عقيدة التثليث في المسيحية، ص13.
[20] التفسير التطبيقي للعهد الجديد، مرجع سابق، ص.553 (نسخة مؤرشفة). Archived from the original on 26 أبريل 2020. اطلع عليه بتاريخ 14 ديسمبر 2011.
[21] ظ: التفسير التطبيقي للعهد الجديد، مرجع سابق، ص.17 (نسخة مؤرشفة). Archived from the original on 26 أبريل 2020. اطّلع عليه بتاريخ 14 ديسمبر 2011.
[22] ظ: متى 19/28 (نسخة مؤرشفة). Archived from the original on 26 أبريل 2020. اطّلع عليه بتاريخ 14 ديسمبر 2011.
[23] القاموس المقدس، طبعة بيروت، ص 345
[24] مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج4, ص116.
[25] محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، مادة ثالوث.
[26] الإخلاص، الآية: 1.
[27] البقرة، الآية: 163.
[28] الصدوق، محمد بن علي، الاعتقادات، ص 119، والسبحاني، الإلهيات، ج 2، ص 29.
[29] الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد، ص 181.
[30] السبحاني، الشيخ جعفر، مفاهيم القران، ج1، ص320.
[31] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(عليه السلام)، ج ١، ص١٥.
[32] أنجيل يوحنا: (5: 7).
[33] أنجيل يوحنا: (10: 30).
[34] موريس، آثار الهند القديمة، فاير، أصل الوثنيّة.
[35] موريس ولمس، كتاب دين اليهود، ص492، وكذلك كتاب: العقائد الوثنية في الديانة النصرانيّة، الفصل 17، نقلًا عن كتاب ترقي التصوّرات الدينية، ج1، ص70.
[36] الرسالة إلى العبرانيين: (7 – 3)
[37] القاموس المقدس، طبعة بيروت، ص 345.
[38] المراد بوحدة الوجود عند الصوفيّة، هي وحدة الموجود، ويستدلّون بها على أنّ الوجود ليس أكثر من واحدٍ يظهر في صورٍ مختلفة، وأنّ هذا الواحد هو الله.
[39] إنجيل لوقا الإصحاح 1: 43.
[40] التفسير التطبيقي للعهد الجديد، مرجع سابق، ص.553 (نسخة مؤرشفة). Archived from the original on 26 أبريل 2020. اطلع عليه بتاريخ 14 ديسمبر 2011.
[41] محمد أبو الغيط، عقيدة التثليث في المسيحيّة، ص14.
[42] هاني رزق، يسوع المسيح في ناسوته ولاهوته، ص210.
[43] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، ج6، ص70.
[44] القس جمس أنس، علم اللاهوت النظامي، تحقيق: القس منيس عبد الغفور، القاهرة، نشر: الكنيسة الإنجليّة بقصر الدوبارة.