الباحث : د. غيضان السيد علي
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 36
السنة : خريف 2025م / 1447هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 22 / 2025
عدد زيارات البحث : 141
الملخّص
يقدّم هذا البحث مقاربةً نقديّةً لمحاولات تأليه الإنسان في الفكر الغربي في القرن التاسع عشر، تلك المحاولات التي استغنت عن الإله بدعوى إعادة السمو والعظمة للإنسان، ممّا يعكس سيادة موجةٍ إلحاديّةٍ في هذا القرن، ويعد الفيلسوف الألماني (لودفيج فويرباخ) من أشهر المعبّرين عن تلك الموجة الإلحاديَّة التي اجتاحت أوروبا الغربيَّة، والتي تمثّلت في الدعوة إلى (أنسنة الإله)، أو (تأليه الإنسان).
وقد زعمت هذه النزعة أنّها تسعى إلى استعادة جوهر الإنسان وتعمل على إنقاذ كرامته من دائرة الاسقاط الإلهي، حيث يستعيد الإنسان ما سُلب منه، ونُسِبَ للإله المتعالي! وقد أثرت هذه النزعة الإلحاديَّة في كثيرٍ من الفلاسفة الملحدين الذين أتوا بعد فويرباخ، من أمثال: ماركس، وفرويد، وشترنر، ونيتشه، وسارتر. كما وُجِدَ صدى راهن لفلسفة (فويرباخ) في الفكر العربي المعاصر ممّا يجعل نقدها أمرًا في غاية الأهميّة. ويتمحور الإلحاد الأنثروبولوجي في معناه العام حول إرجاع كلّ الصفات الإلهيَّة إلى الإنسان؛ ليبرهن على أنَّ المقدّس نتاجٌ وهميٌّ خياليّ بالنسبة للحقيقي الإنساني؛ فيمكننا القول إنّ الدين قد تحوّل عند (فويرباخ) إلى قضيّةٍ أنثروبولوجيّة. فقد حاول (فويرباخ) بكلّ قوةٍ نبذ الإله الغيبي المتعالي وتأليه الإنسان، كما حاول عبثًا رفض الدين لصالح الإنسان، وهو الأمر المضاد للطبيعة البشريَّة التي تتوق دومًا إلى التدين.
الكلمات المفتاحية: الإلحاد- الأنثروبولوجيا- الثيولوجيا- فويرباخ- تأليه الإنسان- أنسنة الإله.
مقدّمة:
يعدّ «لودفيج فويرباخ Ludwig Feuerbach (1804-1872)» من أشهر الفلاسفة المعبّرين عن الموجة الإلحاديَّة التي اجتاحت أوروبا الغربيَّة في القرن التاسع عشر، التي تمثّلت في تيار الإنسانيّة الملحدة، ذلك التيار الذي ذهب إلى (أنسنة الإله)، وجعله إلهًا واقعيًّا أرضيًّا شهوديًّا في مقابل الإله المتعالي السماوي الغيبي. أي إنَّها جعلت من الإنسان كائنًا مطلقًا، وبالغت في تمجيد القيم الإنسانية، ولم تعترف بأيّ كائنٍ فوق الإنسان. فالإنسان –عندهم– هو وحده الذات الممثّلة للوجود الحقيقي.
وفي هذا الإطار دارت فلسفة (فويرباخ) التي قامت برد (الثيولوجي/ الإلهي)، وتحويله إلى (أنثروبولوجي/ إنساني). وقد أثّرت نزعة (فويرباخ) الإلحاديَّة في كثيرٍ من الفلاسفة الملحدين الذين أتوا بعده من أمثال: ماركس، وفرويد، ونيتشه، وسارتر، ورسل. حتى قال أنجلز: «لقد كان الحماس عامًا، وصار الجميع فويرباخيين دفعة واحدة». كما تأثّر به العديد من علماء اللاهوت المسيحيين الذين عملوا على تجديد الخطاب الديني اللاهوتي القديم الذي يتمحور حول مفهوم الإله ليتمحور حول مفهوم الإنسان.
والأمر اللافت للنظر هو أنّ أفكار (فويرباخ) النقديَّة للدين قد وجدت لها صدى راهنًا في الفكر العربي المعاصر، والتي يمكن أن نجدها عند كثيرٍ من المفكّرين والأكاديميين العرب، أمثال: حسن حنفي، ومحمد أركون، وأحمد عبدالحليم عطية، وغيرهم من الذين رأوا أنَّ الدين ليس مجموعةً من العقائد النظريّة الجامدة والحقائق الدائمة التي لا تتغير، وإنّما هو تعبيرٌ عن موقفٍ تاريخيّ محددٍ، وعن تصوّرٍ معيّنٍ يخدم الإنسان وواقعه العملي في ظروفٍ محدّدة، فإذا ما تغيّرت الظروف والأزمان وجب تغييره وتطويره، وإنّ الدين واقعة إنسانيّة لولا الإنسان ما وجدت، ولذلك يحتلّ البعد الإنساني الواقعي الأهمية القصوى عندهم في مقابل البعد الإلهي الغيبي. وهم (المفكّرون والأكاديميّون العرب) تحت تأثير (فويرباخ) يرون أنّ القرآن الكريم نزل على مدار ثلاثة وعشرين عامًا ليعالج مجموعةً من المشكلات الواقعيّة التي تخدم وجود الإنسان في الواقع المعيش.
وإذا كان الإلحاد في تعريفه العام هو إنكار وجود الله، فإنّ إلحاد (فويرباخ) قام على العديد من التخرّصات؛ إذ ارتكز على نفي فكرة وجود الله، وذهب إلى أنّ هذه الفكرة ما هي إلّا ابتكار المُخيّلة الإنسانيّة. أمّا وصف هذا الإلحاد بالأنثروبولوجي دون غيره من الأوصاف المميزة لنوع الإلحاد فإنّه يعود إلى فلسفة (فويرباخ) ذاتها التي تمحورت حول (أنسنة الله)، وتحويل الخطاب اللاهوتي إلى خطابٍ إنساني. أو بعبارةٍ أخرى تحويل (الثيولوجي) إلى (أنثروبولوجي).
ومن ثمَّ تكمن أهميّة هذه الدراسة التي تقدّم مجموعةً من المقاربات النقديَّة حول تخرّصات تلك النزعة الإلحاديَّة عند (فويرباخ) التي باتت ترتدي بالفعل قناعًا براقًا ينطلي زيفه على العوام، بل وعلى كثيرٍ من القرّاء الذين ينخدعون بالكلمات البرّاقة والشعارات الحماسيّة التي تزعم أنّها تضع الإنسان في المركز بينما يقبع ما عداه في الهامش. ومن ثم يرى أنصار تلك النزعة الإلحاديَّة أنّها نزعةٌ تسعى إلى استعادة جوهر الإنسان وتعمل على إنقاذ كرامته من دائرة الاسقاط الإلهي، فيستعيد الإنسان – بذلك- ما سُلب منه، ونُسِبَ للإله المتعالي! ومن ثم عمدنا هنا إلى عرض وتقييم رؤى (فويرباخ) الإلحاديَّة لنبين تهافتها وعدم اتساقها.
ولأجل التحليل الجيد لهذا الموضوع عمد الباحث إلى تقسيم بحثه إلى مقدمةٍ وخمسة محاور وخاتمة، جاءت على النحو التالي: تناولت المقدّمة موضوع البحث وأهميّته ومناهجه. في حين تناول المحور الأول (مفهوم الإلحاد الأنثروبولوجي عند فويرباخ) عبر ثلاث نقاطٍ فرعيّة، هي: الإله مرآةٌ عاكسةٌ للصفات البشريَّة، الأنثروبولوجي هو سرّ اللاهوت وحقيقته، منبع التأليه عند البشر. بينما تناول المحور الثاني (التصوّر الخيالي للإله عند فويرباخ). في حين جاء المحور الثالث بعنوان (الأخلاق بعيدًا عن الدين). بينما عالج المحور الرابع موضوع (تهافت المعجزات عند فويرباخ). أمّا المحور الخامس فجاء تحت عنوان (موقف فويرباخ من الموت والخلود). في حين رصدت الخاتمة لأبرز نتائج البحث.
وقد اعتمد هذا البحث على مجموعةٍ من المناهج البحثيّة كالمنهج التحليليّ؛ بغية تحليل النصوص للوقوف على حقيقتها. وكذلك المنهج المقارن لمقارنة آراء (فويرباخ) بآراء غيره من السابقين واللاحقين، وبيان تمايز إلحاده الأنثروبولوجيّ عن صور الإلحاد الأخرى. كما أنَّ المنهج النقدي يبقى ضروريًا وأساسيًا هنا للوقوف النقدي من تخرصات فويرباخ وافتراءاته حول القضايا الدينيّة.
أوّلًا- مفهوم الإلحاد الأنثروبولوجي وتصوّراته عند فويرباخ
الإلحاد الأنثروبولوجي هو إلحادٌ ملفّقٌ من حالاتٍ نفسيّةٍ وعقليّةٍ واجتماعيّةٍ تجعل صاحبها يُلحد مبررًا إلحاده بما آل إليه حال الإنسان المؤلِّه من شقاءٍ وعناء، معلنًا أنَّ الإنسان هو الغاية المبتغاة من هذا العالم، وهو المتربّع على عرش الموجودات جميعًا. وأنّ الإله المزعوم ما هو إلّا صورة للكمال الإنساني المتخيّل، أي هو تصوّرٌ خياليٌّ لوجود الإنسان الكامل نفسه. فالإله في الإلحاد الأنثروبولوجي ليس إلّا الإنسان المثالي، أو الإنسان على نحو ما ينبغي أن يكون. وبذلك يقوم الإلحاد الأنثروبولوجي على قاعدةٍ إيديولوجيّةٍ فحواها: البحث عن جوهر الإنسان الذي سلبته إيّاه هيمنة السمو الإلهي على حياته. ليتم بذلك انتفاء الدين من حياة الإنسان جملةً ليستغني بنفسه عن كلّ شيءٍ ويعيش بلا دين في كلّ شؤون حياته العامّة والخاصّة.
ومن ثمَّ يقوم الملحد الأنثروبولوجي بالتركيز على الصفات التي ينسبها المؤمن للإله؛ ليبين لنا أنَّها صفاتٌ بشريَّةٌ تعذر تحقّقها كاملةً في كائناتٍ بشريَّةٍ واقعيةٍ محدّدة. ولمَّا كان الإنسان يحلم بأن يحوز صفات الكمال جميعها، وعندما فشل في ذلك تصوّر الإله الذي رغب أن يمثّل ويجسّد كلّ صفات الكمال، ومن ثمَّ، كان الإله- في الإلحاد الأنثروبولوجي- خلقًا إنسانيًّا بامتياز.
ولذلك كان إلحاد فويرباخ منطلقًا من أنَّ التأليه فكرةٌ نشأت نتيجة الخوف الإنساني من المجهول، ورغبة الإنسان العاجز أمام الأحداث الكبرى التي تهدد وجوده في الاستئناس بكائنٍ آخر متعالٍ تَصَوّرَهُ كامل الأوصاف. أو بعبارةٍ أخرى إنَّ التأليه عند فويرباخ ليس سوى فكرةٍ خرافيّةٍ اخترعها الإنسان؛ ليسوّغ بها عجزه في مقاومة مصاعب الطبيعة. وبناءً على ذلك رأى فويرباخ أنَّ هذه الفكرة لم يعد لها وجودٌ أو حاجةٌ من ناحية الجوهر، فالذهنيّة البدائيّة التي كانت مسيطرةً على الإنسان القديم انتهت اليوم، وأتى الإنسان الجديد، الإنسان العلمي والعملي الذي يحقّق ما يريد بإرادته الحرة، والذي يرى أنّ تصوّر الألوهيّة عائقٌ وقيد أمامه لابد أن يتخلّص منه.
وهكذا يكون التأليه عند فويرباخ مُضّرٌ بالإنسان؛ لأنَّ العقل الذي يعطي الإنسان السيطرة على العالم ينمحي أمام الوهم الديني. فلماذا يسعى الإنسان إلى السعادة على الأرض، ما دامت السعادة الحقيقية هي تلك التي وُعِد بها الإنسان في الآخرة؟! وفيمَ السعي للتقدم المادي ما دامت العناية الإلهيَّة هي الكفيلة بكلّ شيء [1].
ومن نقد الدين إلى رفض اللاهوت؛ إذ يرى فويرباخ أنَّ اللاهوت هو في الأساس تصوّرٌ أنثروبولوجي، ممّا يعني أنّ مضمون التصوّرات الدينيّة مستخرجةٌ من كيان الإنسان تتماهى تماهيًا كليًّا هي وما ينعقد عليه هذا الكيان من قوام وجوهر ومحتوى. ومن ثم، ينبغي أن يقرّ الفكر الفلسفي بأنّ في الله اسقاطًا لما هو عليه الإنسان من كيان، أي إنّ الله هو ما يسقطه الإنسان من جوهر كيانه الإنساني؛ ولذلك ينبغي للنقد الفلسفي أن يعيد للإنسان الحقيقة الكيانية التي سلبه إيّاها الدين ونسبها إلى الله. ومن هذا المنظور ينقد فويرباخ الفلسفة الحديثة، ويرى أنّها تخلّت عن مهمتها الحقيقية، وأنّ ما هي عليه اليوم ما هو إلّا اللاهوت محلولًا ومحوّلًا إلى فلسفة. ولذلك يرى فويرباخ أنّ اللاهوت والأنثروبولوجيا لا فرق بينهما في المحتوى، بل يختلفان في اللغة، وهذا الاختلاف اللغوي ينبغي استئصاله حتى يصبح اللاهوت خطابًا في الإنسان [2]. وبذلك يصبح جوهر الإلحاد الأنثروبولوجي عند فويرباخ هو أنسنة المقدّس، وتحويل ما هو إلهي إلى ما هو إنساني.
هذا هو التصوّر العام الذي ينطلق منه فويرباخ في تصويره للإله، والذي جعل الباحث يطلق على إلحاده اسم (الإلحاد الأنثروبولوجي) مفنّدًا تلك الآراء التي رأت أنّ (فويرباخ) لم يكن يهدف إلى محو الدين، وإنَّما يهدف إلى الوصول به إلى حالة الكمال، أو أنَّه (الملحد التقي) كما وصفه شترنر. وقد قام إلحاد (فويرباخ) على مجموعةٍ من التصوّرات نقف عليها وقفةً نقديّةً فيما يأتي:
الإله مرآةٌ عاكسةٌ للصفات البشريَّة:
يرى فويرباخ أنَّ الله مرآةٌ تنعكس فيها صفات النوع البشري. أو أنّه ليس سوى انعكاس لصورة الإنسان، ممّا يتيح للإنسان أن يرى ذاته في مرآة الله، إذ إنّ الله مرآة الإنسان. ومعنى هذا أنّ الله موئل الأحاسيس البشريَّة السامية ومحطّ الأفكار الإنسانيّة الرفيعة. فالله عند فويرباخ كالسطح الأملس الذي يعكس دعم الإنسان لنفسه [3]. وعن طريق عملية تحويل صفات الإنسان إلى صفاتٍ إلهيّةٍ يخلق بها الإنسان إلهًا لنفسه على صورته. ومن ثمَّ، يرى فويرباخ أنَّ الكائن الإلهي ليس سوى الكائن الإنساني، أو بالأحرى، هو الطبيعة الإنسانية وهي خالصةٌ ومتحرّرةٌ من كلّ قيود الإنسان الفرد، بوصفها وجودًا منفصلًا، تم تأملها وتقديسها بطريقةٍ ما، ومن ثم، يكون الإله هو الطبيعة الإنسانيّة [4].
وبناءً عليه، تبقى الصفات الإلهيَّة عند فويرباخ هي مجرد صفاتٍ بشريَّةٍ قد صاغها الإنسان صياغةً مطلقةً، تنفض عن كاهلها كلّ تناهٍ يمكن أن يلتصق بالكائن البشري المحدود لتتحول إلى صفاتٍ غير متناهيةٍ تعبّر عن الموجود اللامتناهي الذي تصوّره الإنسان وتخيّله، وهذا يعد إلحادًا صريحًا مهما حاول بعض الباحثين الدفاع عنه، أمثال: أنجلز في كتابه (فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية)، وبرديائيف في كتابه (الإلهي والإنساني)، وأحمد عبد الحليم عطية في كتابه (فلسفة فيورباخ)، فقد حاولوا الدفاع عن (فويرباخ)، والزعمُ أنّه لا يُنكر وجودَ الله، إذ يذهب أصحابُ هذا الرأي إلى أنّ فكرة فويرباخ ــ القائلة بأنّ الإنسان يُسقِط على الله طبيعته السامية ــ ليست جدلًا يرمي إلى إنكار الله، بل على العكس من ذلك، فهي تهدف إلى بيان التوافق والاكتمال بين الله والإنسان ذي الروح الحرّة [5]!
ونرى من جانبنا نرى أنّ هذا تبريرٌ لا تدعمه نصوص فويرباخ في جلّ أعماله، فالمفردات والتراكيب والعبارات تصرّح بعكس ما أراد المدافعون، والتي تعلن أنّ الإنسان قد خَلَقَ الله على صورته الجوهريّة، متفاديًا كلّ صفات النقص التي تشوب الإنسان، مقرًّا بنقيضها كصفاتٍ إلهية. وهذا يتّضح من ما ذهب إليه فويرباخ في كتابه (ماهيّة المسيحيّة)، الذي يُعد الكتاب المقدّس للنزعة الإنسانيّة الملحدة أو للإلحاد الأنثروبولوجي، حين قال: «فلما كان الإنسان متناهيًا فإنّه تصوّر إلهًا لا متناهيًا، ولما كان الإنسان ناقصًا فإنّه تصوّر إلهًا كاملًا، ولأنّ الإنسان يرى نفسه خطّاء وشريرًا فإنّه يتصوّر إلهًا خيرًّا لا يُخطئ أبدًا، ولأنّه يرى نفسه حاصل مجموع الصفات السلبيّة، فإنّه يرى الله حاصل مجموع الصفات الإيجابيّة، فالإله هو مصدر كلّ خيرٍ وبركةٍ وقداسة، وليس هو سوى النقيض لكلّ نقصٍ وضعفٍ وشرٍّ ممكنٍ أن يعتري الذات الإنسانيّة»[6].
ومن ثم يصبح الإله عند فويرباخ خلقًا بشريًّا خالصًا تصوّره الإنسان على نقيضه، فالإله ليس كلّ ما عليه الإنسان؛ فهو اللامتناهي في مقابل المتناهي، هو الكامل في مقابل الناقص، هو الخالد في مقابل الفاني، هو كامل القدرة في مقابل ضعيف القدرة ومحدودها، هو المقدّس في مقابل المدنس، هو جامع الصفات الكاملة في مقابل جامع الصفات الناقصة. ولذلك فالإله عند فويرباخ هو تخيّلٌ بشريٌّ خالصٌ لا وجود له في الواقع. وتلك هي النقطة الأولى التي ننتهي منها إلى القول بإلحاد فويرباخ الأنثروبولوجي. فالله في نظره ليس إلّا تصوّرًا للإنسان الكامل، ولا وجود له إلا بالإضافة إلى الإنسان وبالإنسان فقط. منتهيًا من ذلك إلى أنّ الإنسان إله الإنسان.
وتلك نقطةٌ واهيةٌ يمكن بيان تهافتها، مهما حاول فويرباخ تجميل ألفاظه في صياغتها، والردّ عليها من الثقافة الغربيَّة ذاتها، وعلى وجه التحديد من الفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت Descartes (1596-1650) الذي تساءل عن فكرة اللامتناهي من أين جاءت؟ حيث يقول: «وأقصد بكلمة (الله) جوهرًا لا متناهٍ خالدًا ثابتًا قائمًا بذاته واسع القدرة. وهذه الصفات قد بلغت من العلو قدرًا يجعل من المستحيل أن أكون قد اكتسبت من نفسي الفكرة التي لدي عنها؛ ولذلك فإنّ هذه الفكرة لا يمكن أن يكون قد وضعها فيّ إلّا جوهر لامتناهٍ حقًّا، وإذن فالله موجود... ثم إنّ فكرة (المتناهي) نفسها تفترض وجود فكرة (اللامتناهي)؛ لأنّي ما كان يمكنني أن أعرف مثلا أنّي متناهٍ، وأنّ شيئًا ينقصني، إذا لم يكن لديَّ فكرةٌ عن موجودٍ لا متناهٍ لا ينقصه شيء. وإذن فليس من الممكن أن نكون قد حصلنا على فكرة اللامتناهي عن طريق سلب المتناهي»[7].
كما يمكننا الاستمرار مع كلام ديكارت الذي يمكن استخدامه كردٍّ قويّ على فكرة فويرباخ؛ حيث يقول ديكارت: «لو كنت خالقًا وجوديًّا لكنت منحت نفسي جميع الكمالات التي تنقصني والتي لدي فكرة عنها؛ لأنّ خلق هذه الكمالات التي ليست إلّا أحوالًا للجوهر أسهل من خلق الجوهر نفسه»[8]. وهكذا يرد الفكر الغربي نفسه على تخرّصات فويرباخ الإلحاديَّة فيبيّن تهافتها وسقوطها.
الأنثروبولوجي هو سر اللاهوت وحقيقته:
ميَّزَ فويرباخ بين الدين واللاهوت وأعلن أنّه قَبِلَ الأول ورفض الثاني وعدّه سفسطةً وضلالاتٍ لا يمكن تعقّلها. ولكن هذا لا يعني القول بأنّه قد قَبِلَ الدين بمعناه العام، ولكنّه فهمه فهمًا خاصًّا يتلخّص في أنّ الأنثروبولوجي هو سرّ اللاهوت؛ أي إنّ جوهر وحقيقة الدين ومعناه الباطني العميق هو الجوهر الإنساني. وهذا مضمون ما يطلق عليه (لوفيت) البديهيّة الكليّة Universal axiom عند فويرباخ. «فالدين له مضمونٌ خاصٌّ في ذاته، فمعرفة الله هي معرفة الإنسان في ذاته، وهي المعرفة التي لم تعِ ذاتها بعد، فالدين هو الوعي الأول وغير المباشر للإنسان، أي الوسيلة التي يتّخذها الموجود البشري في البحث عن نفسه، بحيث يحول الإنسان جوهره منذ البداية إلى نقطة خارجة عنه قبل أن يعثر على هذا الجوهر داخل ذاته. إنّ الدين – أو على الأقل المسيحيّة - هو سلوك الإنسان تجاه ذاته (تجاه جوهره)، هذا السلوك يبدو وكأنّه مُوجّهٌ صوب جوهرٍ آخر خارجه»[9].
ومن ثم تصبح صفات الجوهر الإلهي هي صفات جوهر الإنسان في أقصى درجات كمالها. ونعود بذلك إلى النقطة الأولى التي ترى أنّ الكائنات العلوية – حسب عبارة أنجلز- التي ولدت من مخيّلتنا الدينيّة ليست سوى انعكاسٍ خياليّ لوجودنا نحن [10]. وبذلك يعود اللاهوت إلى الإنسان بوصفه اختراعًا بشريًّا خالصًا. أو هو الاعتقاد في الأشباح، واللاهوت الشائع أشباحه في الخيال الحسي، واللاهوت التأملي أشباحه في التجريد اللاحسي[11]. أمّا الدين فهو «نقل الإنسان آماله وأمانيه إلى كائنٍ ذي درجةٍ عليا سماه الله»[12]. وهذا يعني أنّه قَبِل الدين كما سبق أن قلنا بمعنى خاصّ يمكن التعبير عنه بعبارةٍ أخرى أكثر وضوحًا، أي بوصفه علاقةً قلبيّةً بين الإنسان والإنسان، قائمةً على العاطفة؛ علاقة كانت حتى الآن تبحث عن حقيقتها في الانعكاس الخيالي للواقع – بوساطة إلهٍ واحدٍ أو عدّة آلهة، هذه الانعكاسات الخياليّة للصفات الإنسانيّة - وتجدها الآن وبدون أيّ وسيطٍ في الحبّ بين (أنا)، و(أنت) [13]. فكلّ صلةٍ بين شخصين هي دين؛ لأنّ كلمة Rdligion (الدين) تنحدر من فعل Religare، والتي كانت تعني في البدء الصلة. ومن ثم، يوحّد فويرباخ بين الدين والحب، ويرى أنّ الحبّ يصنع المعجزات في كلّ زمانٍ ومكان، وأنّ الإنسان لا يكون متدينًا إلّا بمقدار ما يراعي فيه مصلحة الآخر المشارك له في الإنسانية تلك الفكرة التي نجد صداها يتردّد بقوةٍ عند كلٍّ من (مارتن بوبر)، و(إيمانويل ليفيناس).
ولا شك في أنّ هذه الرؤية الفويرباخية ينتابها خلطٌ شديد، إذ فَهَمَ فويرباخ الدين على أنّه سلوك الإنسان تجاه ذاته أو تجاه الآخرين؛ فالدين وحيٌ من السماء ومن مقتضياته سلوك الإنسان الخيّر تجاه الآخرين؛ فالدين- كما يقول مصطفى محمود- ليس له إلّا معنى واحد هو معرفة الإله... أن تعرف إلهك حقّ المعرفة، ويكون بينك وبين هذا الإله سلوكٌ ومعاملة... أن تعرف إلهك عظيمًا جليلًا قريبًا مجيبًا يسمع ويرى فتدعوه راكعًا ساجدًا خاشعًا خشوع العبد للرب ... هذه المعاملة الخاصّة بينك وبين الرب هي الدين، أمّا حسن معاملتك لإخوانك فهي من مقتضيات هذا التدين وهي في حقيقة الأمر معاملة للرب أيضًا ... فمن أحبّ الله أحبّ مخلوقاته وأحسن إليها .. أمَّا إذا اقتصرت معاملاتك على الناس لا تعترف إلّا بهم، ولا ترى غيرهم – كما يرى فويرباخ - فأنت كافر تمامًا، وإنْ أحسنت السير والسلوك مع هؤلاء الناس ... وإنَّما يدلّ حسن سيرك وسلوكك على الفطانة والسياسة والكياسة والطبع اللبيب وليس على الدين، فأنت تريد أن تكسب الناس لتنجح في حياتك، وحسن سيرك وسلوكك ذريعة إلى كسب الدنيا فحسب [14].
منبع التأليه عند البشر:
يعمد فويرباخ إلى التحرّي عن الأسباب التي حدت بالإنسان إلى (اختراع) فكرة الله، ويرى أنّ التحليل النهائي لوجود هذه الفكرة يعود لمصدرٍ سيكولوجيّ هو ما يطلق عليه فويرباخ مصطلح (الشعور بالتبعيّة)، ويعني به فويرباخ إدراك الإنسان أنّه لا يستطيع الوجود بدون كائنٍ آخر مختلفٍ عنه كان علة وجوده، حيث يكون هذا الكائن ضروريًّا بالنسبة للإنسان كضرورة النور للعين والهواء للرئتين أو الطعام للمعدة. ومن ثم يفتتح فويرباخ كتابه أصل الدين بمقولة «الشعور بالتبعية عند الإنسان هي مصدر الدين»[15].
ولكنّه يرى أنَّ موضوع هذه التبعيّة أي التي يشعر الإنسان بتبعيته لها هي في الأصل ليست إلّا الطبيعة، فالطبيعة هي الموضوع الأصلي الأول للدين، وهي أساس الفكر وأصله، بل هي أصل الوجود وهي الكائن الأسمى والأساسي، وهي الكائن الأول والآخر، وهي الفكرة المحوريّة في فلسفته. علما بأنّ الطبيعة عند فويرباخ كلمةٌ عامةٌ تشير إلى الكائنات والأشياء والموضوعات التي يميزها الإنسان عن نفسه وعن نتاجاته وهو يدركها تحت اسم الطبيعة العام، ولكنّها ليست بأيّ حالٍ من الأحوال كائنًا عامًا مفردًا مجردًا أو منفصلًا عن الأشياء الحقيقية أو شخصًا من وجودٍ ميتافيزيقي[16]. ووجود الطبيعة ليس مبنيًّا على وجود الله كما يتصوّر التأليه Theism، ولكن العكس هو الصحيح، فإنّ وجود الله أو بالأحرى الاعتقاد في وجوده ليس مبنيًّا إلّا على وجود الطبيعة، فإنّك مضطرٌ إلى أن تتخيّل الله ككائنٍ موجودٍ، وذلك فقط لأن الطبيعة بذاتها تضطرك إلى أن تفترض مسبقًا وجود الطبيعة ليس على أنها السبب والشرط لوجودك ووعيك، والفكرة الأولى المتعلقة بفكرة الله ليست إلّا الفكرة بعينها، بأنّه الوجود السابق لوجودك والمفترض قبله. ولم يقتصر فويرباخ - في الحقيقة - على تقديس الطبيعة فحسب، وإنّما بالغ في تقديس الوجود الإنساني، وجعل الإنسان أشرف الموجودات وأعلاها قدرًا، وسعى إلى قصر مهمة الفلسفة على البحث في الإنسان ووجوده. فالمشكلة اليوم ليست وجود الله أو عدم وجوده، وإنّما وجود الإنسان أو عدم وجوده.
أي إنّ فويرباخ يرفض الاعتقاد القائل بأنّ الله موجودٌ متعالٍ على الطبيعة، وخارج عنها، ويؤكد مرارًا على أنّ الله ليس إلّا الطبيعة فحسب؛ إذ يقول: «حتى تجد إلهًا في الطبيعة، لابد وأن تضعه فيها، وليس أدلة وجود الله بالظاهرات الطبيعية سوى أدلة الجهل والصلف اللذين يجعل بهما الإنسان من حدود ذكائه حدود الطبيعة الإنسانية»[17]. ويؤكّد في آخر كتبه المهمة وهو كتاب (نسب الآلهة تبعًا للمصادر القديمة الكلاسيكيّة والعبرانيّة والمسيحيّة) أنّ الإله الذي في الأديان إنمّا هو عبارةٌ عن تجسيد ما يتمناه الإنسان لنفسه، ولم يستطع تحقيقه. وكلّ الأوصاف التي أطلقت على الله في الأديان، في نظره، ما هي إلّا أوصاف جردت من الطبيعة، ونسبت إلى الله، فحقيقة الإله راجعةٌ إلى تقديس الطبيعة وإلباسها بصفاتٍ متفوقةٍ على الإنسان [18].
كذلك يرى فويرباخ أنَّ الخوف هو مصدر الدين، والخوف هو الفكرة السيكولوجيّة التي تفترض وجودًا لكائنٍ عِلْويٍّ مفارق؛ ولذلك يشير فويرباخ إلى أنّ الخوف في مبدأ الأمر هو الذي خلق الآلهة في العالم القديم، وعند الرومان كانت كلمة الخوف تحمل معنى الدين، وما زال في بعض الأديان الكتابية يتردد معنى (يوم الدين) بيوم الخوف والرهبة. وأنّ قبائل الهوتينتوت Hattentates تعتقد في المخلوق ذي القدرة الخالقة، لكنّهم لا يعبدونه، وإنّما يعبدون الروح الشريرة التي يعدّونها مصدر كلّ شرورٍ تحيط بالإنسان في العالم. وبعض القبائل الأمريكيّة تعبد الأرواح الشريرة فقط التي يعزي إليها الشرور والمتاعب والألم، وذلك بدافع الخوف. كما أنّنا نجد في الهند لكلّ روحٍ شريرةٍ اسمًا خاصًّا بها، وكلما اعتقد أنّ هذه الروح أكثر قوةً وجبروت زادت عبادتها. ومن الواضح أنّ مثل هذه العبادات- كما يقول فويرباخ - ليس لها أساسٌ أو دافعٌ سوى الخوف، ولا غرض لها سوى تجريد الآلهة المعادية من أسلحتها ووقف إيذائها. فقد كان للخوف معبدًا عند الرومان ومعبدًا في اسبرطة[19].
كذلك يرى فويرباخ أنّ مصدر التأليه عند البشر يعود بنحوٍ أساس إلى الخوف من الموت، وأنّ وقوف الإنسان عاجزًا أمام الموت هو من جعله يفكّر في الخلود في عالمٍ آخر، ولم يكن تصوّر العالم الآخر إلّا بتصوّر وجود إلهٍ هو ربّ هذا العالم، ومن ثم يقول: «إنَّ المقبرة التي تمثّل نهاية الفرد تمثّل موضع ميلاد الآلهة... فلولا الموت لما كان هناك وجود لفكرة الله، إنّ المقبرة التي تمثل نهاية الإنسان تمثل ميلاد الخالق، فلو كان الإنسان أبديًّا لا يفكر في الموت ما كان هناك تفكير في الإله»[20].
ثم يعود فويرباخ، ويرى أنَّ الخوف وحده لا يعطي تفسيرًا كاملًا للدين، وللبحث عن الإله؛ لأنّه بزوال الخوف يستبدل هذا الشعور بعاطفةٍ عكسيّةٍ هي الامتنان والحب، فبعد البرق والرعد والسيل ينزل المطر فيعمّ الخير الأرض ويشعر الإنسان بالحبّ والامتنان لمصدر هذا الخير. وهنا يتساءل فويرباخ: لماذا لا يجمع الإنسان بين الضدّين اللذين ينبعان في الطبيعة من أصلٍ واحد. حيث إنّ الذي ينبعث منه الشرّ يعد محطّ تبجيلٍ وحبٍّ وامتنانٍ من جانب البشر؟
وبذلك يرجع فويرباخ الدين أو التأليه إلى مجرد تحقيق الرغبات السيكولوجيّة للإنسان المتعلّق بالخوف والحب، والآمال المرتبطة بمظاهر الطبيعة المحيطة بحياة البشر.
لا شكّ في أنّ فويرباخ يشعر بعدم اقتناعٍ ذاتي، ولذا فهو – كما بدا لنا أعلاه – كلما اقترح اقتراحًا ليجعله أصلًا للدين أو منبعًا للتأليه، شعر بعدم جدواه، الأمر الذي يجعله ينتقل إلى غيره، لعلّه يجد ما يقنعه هو شخصيًّا. ولكن رغم ذلك، يبقى عنده الخوف منبعًا رئيسًا وأصيلًا للتأليه، فهو صاحب المكانة الكبرى لديه، وهو بذلك يحطم كلّ أملٍ للمؤلّه في وجود الله إذا انتفى الخوف. لكن لمَّا كان وجود الله كشعورٍ راسخٍ لا يزول بزوال الخوف، ردّه فويرباخ إلى نقيض الخوف، وهو الحبّ أو الامتنان، ولكنّه لم يسأل نفسه كيف يكون النقيضان مصدرًا لشيءٍ واحد؟!
إنّ الزعم بأنّ الخوف هو منبع التأليه كما رأى فويرباخ، فهذا – من جانبنا – مجرّد تخرّصٍ كبيرٍ، وزعم زائف إلى حدٍ بعيد؛ حيث كان تفكّر الإنسان في خلق السماوات والأرض ورغبته الجارفة في التعرّف على سرّ الكون هو ما دفعه إلى فكرة الخالق، كما أنّ وجود فكرة العليّة في التفكير الإنساني هي التي تدفع الإنسان دائماً إلى الاعتقاد بأنّ لكلّ صنعةٍ صانع، وأنّ هذا الكون لا بدّ له من صانعٍ له قدراتٌ أكبر من القدرات الإنسانيّة، ولا تقارن بها لسموّها وتعاليها.
ثانيًا- التصوّر الخيالي للإله:
في هذا المحور من محاور البحث يتجلّى إلحاد فويرباخ بصورةٍ واضحةٍ، وتبدو فيه أيضًا نقاط الضعف التي يمكن توجيه سهام النقد الثاقبة فلسفة فويرباخ في الدين؛ إذ يرى (قناة النار) أنَّ التأليه محض خيالٍ إنسانيّ كبير، فيقول: «فالله [تعالى الله عمّا يتخرصون علوًّا كبيرًا] هو بئر الخيال العميق أو الجميل الذي يحوي كلّ الوقائع والكمالات والقوى»[21]. والإله المسيحي ليس سوى الانعكاس الخيالي للإنسان [22]. وإنّ الدين قد ولد في عصورٍ بدائية، من تخيّلات الناس الجاهلة، الغامضة البدائية عن طبيعتهم ذاتها، وعن الطبيعة الخارجية المحيطة بهم [23]. ولكن مادام وجود الله مجرد خيالاتٍ وأوهامٍ من أوهام البشريَّة عند فويرباخ فمن أين جاءت الحياة؟
يرى فويرباخ «أنّ أصل الحياة غير قابلٍ للتفسير أو الإدراك»[24]؛ ولذلك يعيب فويرباخ على اللاهوتيين الذين يستعيضون عن عدم الفهم وقصور المعرفة البشريَّة بالاستنتاجات الخرافيّة التي تضع الإله كمصدرٍ لهذه الحياة؛ ولذلك يقول فويرباخ: «لأنّنا نستطيع فقط أن نقول: (إنّنا لا نستطيع أن نفسّر الحياة على أساس هذه الظواهر والأسباب الطبيعية المعروفة لنا، أو إلى المدى التي تكون فيه معروفة لنا). ولكنّنا نستطيع أن نقول إنّ الحياة لا يمكن تفسيرها على الإطلاق من الطبيعة دون أن نزعم أنّنا قد استنفدنا بالفعل محيط الطبيعة إلى آخر قطرة. وعدم الفهم هذا لا يسوّغ لنا أن نفسّر ما يصعب تفسيره بافتراضنا كائنات متخيلة، أو أن نخدع أنفسنا والآخرين بتفسير لا يفسّر شيئًا. ولا يبرر لنا أن نغيّر جهلنا بالأسباب المادية الطبيعية إلى عدم وجود لهذه الأسباب، وأن نؤلّه ونشخّص ونمثّل جهلنا في كائنٍ يحطّم مثل هذا الجهل ومع هذا لا يعبّر عن شيءٍ إلّا عن طبيعة هذا الجهل، وقصور أسباب التفسير المادية الوضعيّة» [25].
وبناءً على هذا نستطيع فهم تخرّص فويرباخ الذي ينكر فيه وجود الله جملةً وتفصيلًا، بل يعدّ وجوده عند المؤمنين به مجرد خيالٍ لا أكثر؛ إذ يقول «كان الله هو فكرتي الأولى، والعقل الثانية، والإنسان الثالثة والأخيرة، وموضوعي الآن هو العقل، ولكن موضوع العقل هو الإنسان»[26]. وهو بذلك يبدو متأثرًا بـ(أوجيست كونت- A. Comte) في نظرية (الأدوار الثلاثة) التي تتلخّص في أنّ العقل الإنساني قد مرّ بمراحل أو أدوار ثلاثة، هي: الدور اللاهوتي أو الديني، والدور الميتافيزيقي أو التجريدي، والدور الواقعي أو الوضعي – وهو الدور العلمي– وهذا هو ما يسمّى (قانون الدورة الثلاثية).
في الدور الأول كان العقل يبحث في كنه الموجودات وأصلها ومصيرها معتمدًا على الخيال، فالظواهر تحدث بفعل كائناتٍ غير منظورةٍ تختفي وراء الطبيعة المنظورة، كالآلهة والشياطين. وفي الدور الميتافيزيقي ارتقى العقل، فتخلّى عن الكائنات غير المرئيّة، ليرد الظواهر إلى عللٍ مجرّدةٍ خفيّة، يتوهّمها في باطن الأشياء، وهي معانٍ مجردة، وبذلك أحلّ المجرّد محل المشخّص، ووضع الاستدلال موضع الخيال. أما الملاحظة والمشاهدة فتحتلّ فيه مكانًا ثانويًا.
وفي الدور الثالث – الواقعي – يتجنب العقل البحث عن أصل الكون ومصيره، وعلله الخفية رأسًا، ولا يهتم إلّا بمعرفة الظواهر واكتشاف قوانينها، والعلاقات المطرّدة بينها، ويقيمها على أساس من الملاحظة والتجربة، لا من الخيال ولا من الاستدلال. وفي هذه المرحلة التي يتمثّلها فويرباخ بالفعل تشير إلى أنّ عهد الغيبيات قد طويت معالمه، بعد أن قامت دولة العلم، وسقطت فيه كلّ قضيةٍ لا يمكن اختبارها في المعمل! [27]. وقد سقطت هذه النظرية ولم تصمد أمام النقد؛ إذ إنّ كونت وأنصاره جعلوا من نظريته قانونًا يستوعب التاريخ كلّه في شوطٍ واحد، قطعت الإنسانيّة ثلثيه بالفعل، ونفضت - أو كادت تنفض - يدها منهما إلى غير رجعة، فلن تعود إليهما إلّا أن يعود الكهل إلى شبابه وطفولته. ولو أنّهم جعلوا منه سلسلةً دوريةً، كلما ختمت البشريَّة شوطًا، رجعت عَودًا، لكان الخطأ في هذه النظرية أقلّ شناعة. ولكنها بعد ذلك تظلّ دعوى غير مسلمة، لا لأنّها مجردةٌ عن البرهان فحسب، بل لأنّها تحرّف التاريخ، وتصادم العيان. فنحن ما زلنا نسمع ونرى في كلّ عصرٍ تقديسًا للروحانيّات وشغفًا بالمعنويّات والمعقولات الكليّة، عند فريقٍ من الناس، إلى جانب الكلف بالحوادث والحقائق الجزئيّة، عند فريقٍ آخر [28].
وهكذا ينكر فويرباخ وجود الله كحقيقةٍ مهما تعلّل بأنّه ليس ملحدًا. فماذا يكون الإلحاد إن لم يكن هو إنكار حقيقة وجود الله، ووصف من يؤمنون به أنّهم يؤمنون بخيالاتٍ أو كائناتٍ خرافية. ولا شكّ في أنّ هذا تمرّدٌ على الدين، وثورة على التدين من قِبل فويرباخ رغم أنّ الدين جزءٌ أصيلٌ من فطرة الإنسان، وحاجةٌ بشريَّةٌ لا غنى عنها. وربما أمكن الإنسان أن يستغني عن العلم، كالبدائيين من البشر، ولكن لم نرَ جماعةً في مكانٍ ما أو زمانٍ ما، استغنت عن الدين. أي إنّ موقف فويرباخ الإلحادي يبدو مناهضًا ومعارضًا للعقل والأخلاق والطبيعة.
ثالثًا- الأخلاق بعيدًا عن الدين:
استبعدت الأخلاق الفويرباخية كلّ ما هو ديني كإلزامٍ أخلاقي، واشتقّت تكوينها من الإنسان ذاته، فالإنسان هو مصدر الأخلاق، حيث يمكن استنباط المبادئ الأخلاقيّة من كدح الإنسان لنيل السعادة، التي يمكن الحصول عليها بالفعل عن طريق تحديد العقل لمطالب الإنسان وحبّه للآخرين. وهي مبادئ عامةٌ وشاملةٌ لكلّ الشعوب [29]. ويبدو إلحاد فويرباخ الأنثروبولوجي في هذا المحور في انتقاد فويرباخ للأخلاق الدينية المسيحية بكونها لا تهتم بعلاقة الإنسان بالإنسان، بل تصبّ اهتمامها الأول على علاقة الإنسان بالله، ولا تشغل لديها الأخلاق الإنسانية إلّا مكانة ثانوية. فيقول فويرباخ: والاعتقاد في المسيح يعني ألّا ننصرف عن الاعتقاد في الإنسان وخيريته الجوهرية، بالرغم من الأخطاء التي يقوم بها الإنسان الفرد والتجارب المحزنة التي لدينا من الأفراد الإنسانيين المفردين. والمسيح بوصفه فردًا بشريًّا كان إنسانًا بهذا المعنى، والاعتقاد في المسيح هو اعتقاد في الإنسان»[30].
كما يرى فويرباخ أنّ الإيمان الديني يفرّق بين البشر، ويبعد بينهم، في حين أنّ الحبّ البشري يتجاوز ذلك، ويشفي الجروح التي يصنعها الإيمان بقلب الإنسان [31]. أي إنَّ الدين عند فويرباخ - بحسب أشهر تخرّصاته - يفسد الحبّ بين الناس؛ فبدلًا من أن يكون مشاركةً بين الإنسان وسائر بني الإنسان يقوم الحبّ الديني باستعباد الإنسان، واضعًا كلّ قواه البشريَّة في خدمة إيمان يقيم النزاع والكراهية ضدّ سائر صنوف الإيمان: أتباع دينٍ ضدّ أتباع دينٍ آخر، وأتباع مذهبٍ ضدّ أتباع مذهبٍ آخر داخل الدين الواحد [32].
وهكذا يضع فويرباخ الإنسان فوق الأخلاق عمومًا، والأخلاق الدينية بصفةٍ خاصّة؛ إذ إنّه لا يجعل من الأخلاق مقياسًا لأفعال الإنسان، بل على العكس يجعل الإنسان هو مقياس الأخلاق، فالخير هو ما يتناسب مع الإنسان، والشرّ ما يتعارض معه. وهكذا، فإنّ فويرباخ إذا كان يرى أنّ العلاقات الأخلاقية مقدّسة، فهي ليست مقدسةً في ذاتها، بل مقدّسة من أجل الإنسان [33].
ومن هذا المنطلق يدين فويرباخ الأخلاق المسيحية وينتقدها؛ لأنّها لا تنبع – في رأيه - من أهواءٍ فاضلةٍ داخل الإنسان، أو من أجل الحب، أو من أيّ دافعٍ للعمل الخير. فالإنسان يعمل الخير ليس من أجل الخير ذاته، وليس من أجل الإنسان، وإنّما ابتغاء مرضاة الله. بدافع العرفان بالجميل لله الذي صنع كلّ شيءٍ من أجله، إنّ فكرة الفضيلة هنا هي فكرة التضحية، فلقد ضحّى الله بنفسه – حسب الاعتقاد المسيحي- من أجل الإنسان، ومن ثم فإنَّ الإنسان يجب عليه أن يضحّي بنفسه لله، وكلّما عظمت التضحية عظم الأجر، وتزداد الفضيلة كلّما ازداد التناقض بين الإنسان وطبيعته وازداد انكار الإنسان لذاته [34].
وهنا يؤكد فويرباخ - كما يقول حسن حنفي- أنّنا لسنا في حاجةٍ إلى شريعة الدولة المسيحيّة، بل في حاجةٍ إلى شريعة الدولة العقليّة العادلة الإنسانية. فالعادل والخير الحقيقي يحتوي على أساسه في ذاته، وهو القادر على هدم الزيف والخداع الذي يفسد الإنسانية، والذي يقتل في الإنسان قواه الحيوية. يجب علينا قلب العلاقات الدينيّة، وتفسير الوسائل على أنّها غايات: فالماء ليس هو الماء المقدّس في العماد، بل في الطبيعة. والخبز ليس هو الخبز المقدّس، بل هو خبز الجوعى. والجسد ليس الجسد المقدّس، بل جسد الإنسان العادي. والدم ليس هو الدم المقدس، بل هو دم الشهداء والضحايا. إنّ الطبيعة في حاجةٍ إلى الإنسان كما أنّ الإنسان في حاجةٍ إلى الطبيعة، هذا هو سرّ المشاركة! [35].
إذًا مع فويرباخ يعود الإنسان مقياس كلّ ما هو أخلاقي، وما هو غير أخلاقي من خلال الخبرة الشخصية، واللذة والألم، الرضا وعدم الرضا. فسعادة الفرد هي المبتغى الأخلاقي الأول عند فويرباخ، وغاية الأخلاق تحقيق سعادة الآخرين من خلال سعادة الفرد. والدافع للسعادة كامنٌ في الإنسان؛ لذا يجب أن يكون أساس جميع الأخلاقيات، ومن ثم تتحقّق السعادة الفردية بسعادة الآخرين عند تحقيق متطلبات الذات، والتصرّف وفقًا لطبيعة الإنسان البشريَّة، التي تبحث عن اللذة، وتتجنّب الألم وتتعاطف مع آلام الآخرين.
وهكذا تصبح الأحكام الأخلاقية مع فويرباخ مجرد رغبات wishes؛ أي إنّ منع السرقة – على سبيل المثال - يعبّر عن رغبةٍ في محوها من المجتمع، وذلك بسنّ قانونٍ يعاقب السارق، وكون هذه الرغبة أمرًا لا يعني إلّا وجود شيءٍ مرغوبٍ فيه. أي إنّ الإنسان له بعض الاحتياجات، وإنّ اشباع هذه الاحتياجات هو السعادة، وعدم اشباعها هو البؤس والشر، ومن ثم تصبح أخطاء الإنسان هي خطط الفضيلة المنحرفة فقط، هي وخزات الضمير نحو الفضيلة [36]؛ ولذلك فإنّه يناشد الإنسان ألّا يحزن على أخطائه، فالأخطاء فضائل غير سعيدة، هي فقط تعوزها الفرصة لكي تظهر نفسها على أنّها فضائل. ولذا لم يكن غريبًا على فويرباخ أن يعبّر عن مذهبه الأخلاقي بقوله: «هل قلت إنّ الواجب يطلب النبذ؟ يالك من غبي! الواجب يقود للمتعة، وعلينا أن نهب أنفسنا اللذة. النبذ هو مجرد استثناء محزن للقاعدة، يحدث فقط عندما تمليه الضرورة ... اتبع عن جراءة غرائزك وميولك وسر معها جميعًا! حينئذٍ لن تسقط ضحيةً لأيٍّ منها»[37].
لا شك في أنّ دعوة فويرباخ هذه دعوةٌ إلى الانحلال والتحرّر من كافة القيم الأخلاقية التي تعارفت عليها الأمم والمجتمعات. هذا فضلًا عن أنّه لم يبيّن لنا موقفه من السؤال الأخلاقي المحوري: ماذا لو تعارضت لذّتي مع لذّات الآخرين؟ لأنّه لو تعرّض لهذه النقطة لبدت غيريته أنانيّةً مُقنَّعةً متنكرة! وخاصّة أنّ التجربة تشهد بأنّ الإنسان لا يُقْدِم على فعلٍ فيه خيرٌ للآخرين إلّا متى ناله من وراء هذا الفعل نفع! لكن الإنسان لا يجرؤ على الاعتراف بعبوديته لمبدأ اللذة والمنفعة، إنّه يستحي أن يوصف بالأنانيّة أو يتهم بالنفعيّة. كما أنّ رد القيم إلى الإنسان أمرٌ يجعلها متغيّرةً نسبيّةً لا حدود لها ولا ضوابط، وهو الأمر الذي يمهّد الطريق لهدمها تمامًا. ويبقى النقد الأكبر لموقف فويرباخ الذي رد الإلزام الخلقي للإنسان وحده بعيدًا عن الدين وإغفال القيم الدينية السامية التي تحمل الأخلاق الرفيعة، فقد تغاضى تمامًا عن دور الدين وضوابطه التي تحوز التقدير عند كلّ البشر.
رابعًا: تهافت المعجزات عند فويرباخ:
تستمر تخرصات فويرباخ في تناوله للمعجزات؛ حيث إنّه يرى أنّ المعجزة تعني خرق القانون الطبيعي الضروري، أو هي حوادث الطبيعة الخارقة للعادات، وأنّ العامة يظنون أنّ قدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صورةٍ ممكنةٍ إذا حدث في الطبيعة – على ما يبدو – شيءٌ خارقٌ للعادة، مناقضٌ لما اعتاد الناس أن يتصوّروه، وهم يعتقدون أنّ أوضح برهان على وجود الله أن يتمّ خرق القانون الطبيعي المعتاد لتظهر معجزةٌ تثبت قدرة الخالق القادرة التي تقهر قوة الطبيعة الغاشمة. وهنا تصبح المعجزة الدليل الأكبر على وجود الإله. في حين أنّ من يسعى لتفسير هذه الخوارق للطبيعة تفسيرًا عقليًّا طبيعيًا فهو يبدو وكأنّه ألغى وجود الله. ويشيرفويرباخ إلى أنّ هذا من عمل اللاهوتيين الذين يمعنون في الخيال فيتخيّلون قدرتين متمايزتين: قدرة الله، وقدرة الأشياء الطبيعية. تبدو الأخيرة كقوةٍ غاشمةٍ ثابتةٍ لا تتغيّر إلّا بقوّة الله التي تتدخل فتقهر نظامها، وتغيّر اتّجاهها، فتظهر تلك الأفعال الشاذة التي يسميها الناس معجزات.
وهنا يرفض فويرباخ هذا الزعم وينكر القول بالمعجزات كليًّا، ويرى أنّ نظام الطبيعة ثابتٌ لا يتغيّر، ولا يحدث شيءٌ مخالفٌ له، وكأنّه يسير على خطى سبينوزا Spinoza، ولكن الفارق بينهما أنّ سبينوزا يؤمن بوجود إلهٍ بنحوٍ ما، أمّا فويرباخ فمن الصعب أن نجد لديه تصوّرًا واضحًا لإلهٍ مفترض. ويرى فويرباخ أنّ المعجزات التي يتحدّث عنها الناس في كلّ زمانٍ ومكانٍ ربما قد تكون قد وقعت بالفعل لكنّها ليست معجزاتٍ كما يراها العامة، بل يرجعها إلى الجهل بقوانين الطبيعة التي كثيرًا ما يتّخذ منها اللاهوتيّون موقفًا عدائيًا، فالقديس أوغسطين – كما يقول فويرباخ - مثله مثل جميع القدماء كان يحيا في حقبةٍ لم يتقدّم فيها العلم الطبيعي؛ ومن هنا كان يخلط بين الطبيعة والمعجزة، كما ترى في كتابه (مدينة الله)، حيث صارت المعجزة طبيعيّة، والطبيعة إعجازيّة [38].
كما يرى فويرباخ أنّ المعجزات تحول بين اللاهوتي والعقلانية؛ إذ إنَّه يصدّقها ويؤمن بها، ويجعلها دليلًا قاطعًا وبرهانًا ساطعًا على وجود الإله كما يتخيّله بقدراته الهائلة التي ليست هي في الحقيقة سوى قدراتٍ إنسانيّةٍ متضخمةٍ جدًا؛ ولذا يتساءل فويرباخ مستنكرًا: كيف يتأتّى للاهوتي الحصول على فكرةٍ تكون عقلانيةً عن الطبيعة؟ ومن ثم يرى أنَّه إذا توصل إلى تلك الفكرة فلن يكون في هذه الحالة لاهوتيًّا، فالمعجزة المكتملة حقيقة لن تكون أبدًا برهانًا على القدرة الكليّة التي تعزى إلى الله. ولما كان إنكار فويرباخ للمعجزة قد ارتبط بنفي العناية الإلهيَّة عن العالم فقد لزم عن هذا غضب كثيرين على فويرباخ؛ ممّا سبّب له كثيرًا من المتاعب، وخاصّة أنّ ذلك وضع جنبًا إلى جنبٍ مع تلك الأفكار الإلحاديَّة التي ضمّنها كتابه (أفكار حول الموت والأزلية)، الذي كان سببًا رئيسًا في حرمانه من أيّ وظيفةٍ جامعيّة. وكان من أشهر ما وُجِّه إليه من نقدٍ هو ما وجّهه إليه (موللر)؛ إذ وجّه إليه أقذع أنواع السباب، ونعته بصفاتٍ سيئةٍ منها: المجدّف، والماكر، والعابث، والوقح، والجاهل، واللاخلاقي، والمادي [39].
وفي الحقيقة أنّ نفي المعجزات قد نال قسطًا ليس بالقليل من اهتمامات فويرباخ، وخاصّة في ربطه بين نفي المعجزات ونفي العناية الإلهيَّة؛ إذ إنّه فرَّق بين نوعين من العناية: العناية الطبيعية، وقصد بها تلك العناية التي تهتم بكلّ المخلوقات مثل: الزهور، والطيور، والأسماك، العناية التي تمثّل الطبيعة المشخصة، إنّها حركة المد والجزر التي تكوّن الطبيعة: إذ إنّ زهرة اليوم تذبل غدًا، والعصفور الذي يغرد الآن يصمت غدًا. بينما العناية الإلهيَّة التي تستحوذ على الإنسان ترتفع به فوق المد والجزر، معطيةً له الأولوية، فإنّها أبدًا لن تصنع معجزاتٍ من أجل الحيوانات [40].
وهكذا يرفض فويرباخ الاعتقاد القائل بأنّ هناك كائنًا آخر في الطبيعة ظاهرٌ أو متميّزٌ عن الطبيعة ذاتها، أو أنّ الطبيعة يملؤها ويحكمها كائنٌ مختلفٌ عنها، وهو الأمر الذي أكّده مرارًا وتكرارًا في معظم كتاباته، ولعلّ أوضحها ما قاله في (جوهر المسيحيّة): إنّ الإله الذي تصوّره الإنسان كائنًا مجاوزًا للطبيعة ليس هو إلّا طبيعة الإنسان في تصوّرها منفصلة عن العالم، وقائمة بذاتها مستقلة عن كلّ علاقاتها الدنيويّة، ناقلة ذاتها فوق العالم [41]. ومن هنا فإنّ الاعتقاد بأنّ الله وجودٌ خارقٌ للطبيعة، ومختلفٌ عنها، ويوجد خارجها ككيان موضوعي، هو اعتقادٌ لا يهم فويرباخ ولا يشغله، إنّ مهمته الفلسفيّة كما حدّدها في مقدّمة المجلد الأول من أعماله الكاملة الذي نشر عام 1846 بقوله: «إنّ المشكلة اليوم ليست وجود أو عدم وجود الله، ليست المشكلة ما إذا كانت طبيعة الله مشابهةً لطبيعتنا ولكن ما إذا كنّا نحن البشر متساوين فيما بين أنفسنا. وليس ما إذا كنّا نشترك في جسد المسيح باعتبار أنّنا نأكل الخبز، ونشارك في عقيدة (التناول)، ولكن ما إذا كان لدينا خبزٌ يكفينا، ليس ما إذا كنّا نعطي ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ولكن ما إذا كنا نعطي للإنسان ما للإنسان، ليس إذا كنّا مسيحيين أو وثنيين مؤلّهين أو ملحدين، ولكن ما إذا كنا آدميين أو نصبح كآدميين نتمتع بصحّة الروح، والبدن، والحرية، والنشاط، والحيوية. إنّ مشكلة وجود أو عدم وجود الله مشكلة تخصّ القرنين السادس عشر والسابع عشر، وليس القرن التاسع عشر، ليست مهمة إنكار وجود الله هي ما يعنيني، ولكن ما يعنيني هو مشكلة عدم وجود الإنسان»[42].
ولكن كيف يهتم فويرباخ بوجود الإنسان، وهو يعزله عن خالقه؟! وماذا يبقى للإنسان إذا قطع علاقته بربه وخالقه؟! وكيف يؤمن فويرباخ بالسببية وربط الأسباب بالمسببات في الطبيعة والفكر ولا يتسلسل مع العلل حتى العلّة الأولى ليصل إلى الموجود الأول الذي سبق وجوده كلّ وجود؟! وكيف ينكر فويرباخ أنّ الكون محكومٌ بالغائية، والعلم يثبت كلّ يومٍ تلك الغائية فيرى أنّ كلّ الظواهر تحدث من أجل غاية، وأنْ لا شيء في الكون يحدث عبثًا؟! وإذا كان فويرباخ يرى أنّه فيلسوف الإنسان والإنسانية فكيف يتغاضى عن تلك النزعة الإنسانيّة الموجودة في الأديان السماويّة التي تنظر إلى الإنسان بوصفه كائنًا مكرّمً، وأنّه بأفعاله يظلّ جديرًا بالكرامة؟!
ويظلّ الأمر الجدير بالتوقّف عنده في هذه النقطة الخاصّة بالمعجزات بأنّه نظر إليه من منظورٍ ضيّقٍ حصرها في الحوادث الحسيّة الخارقة لقوانين الطبيعة التي جاءت على أيدي الأنبياء والرسل الكرام مثل: عدم إغراق الطوفان لمن آمن مع نوحٍ (عليه السلام)، وأغرق ما سواهم، وعدم إحراق النار لإبراهيم (عليه السلام)، رغم مكوثه فيها مدّةً كافيةً لإحراقه، وتحويل العصا إلى ثعبان، وشقّ البحر لموسى (عليه السلام)، وشفاء الأمراض المستعصية، وإحياء الموتى مع عيسى(عليه السلام). وتجاهل فويرباخ تمامًا للمعجزة في الإسلام التي تمثّلت معجزته الكبرى في القرآن الكريم الذي تواترت الأخبار إطلاع فويرباخ عليه واستشهاده بما جاء في سورة الشعراء أو(السورة 26) حسب ما أشار إليه أحمد عبدالحليم عطية في كتابه (فلسفة فيورباخ)[43]. إذ إنَّ معجزة القرآن قد تجاوزت هذا المنزع الحسي، ومثل هذا المنطق في الاستدلال، فتحوّلت من منطق الحدث الأسطوري الذي حدث مرةً واحدةً إلى منطق الواقع المتجدد، ومن منطق الحسّ إلى منطق البرهان العقلي، ومن الاستدلال بخوارق الطبيعة إلى الاستدلال بنظام الطبيعة، ومن المعجزات الحسيّة الآنيّة المؤقّتة إلى المعجزة البيانيّة المستمرة، ومن الكتاب الذي يلتمس دليلًا من خارجه إلى الكتاب الذي يلتمس دليلًا من داخله. ومن الواضح أنّ تجاهل فويرباخ للمعجزة في الإسلام يعكس ضيق أفق فويرباخ وإصراره على الوقوف فقط عند ما يقوّي ويدعم موقفه، وغض الطرف تمامًا عمّا يضعفه أو يظهر ضعفه وتهافته.
خامسًا- موقف فويرباخ من الموت والخلود:
كان من الطبيعي أن تمتدّ تخرّصات فويرباخ إلى الموت والخلود كمحصلةٍ منطقيةٍ لازمةٍ لتخرّصاته السابقة؛ فيعرّف فويرباخ الموت بأنَّه «الانحلال الكامل والشامل لكينونتك بمجملها؛ ليس ثمّة غير موتٍ واحدٍ فحسب، والذي هو كلّيّ، الموت لا يقضم شيئًا من الإنسان ولا يترك بقية... وحين تموت فأنت تموت كليًّا؛ كلّ ما فيك ميت»[44].
والموت عند فويرباخ كامنٌ داخل النفس البشريَّة، ولا يأتيها من الخارج، يكمن في دمنا، وفي أعصابنا، ومخنا، وفي كلّ أعضاء جسمنا، في كلّ خليةٍ من خلايا الجسد الإنساني. ومن ثم يكون الموت ليس شيئًا خارجيًّا تمامًا عن الحياة، وإنّما هو معانقٌ لها، متداخلٌ معها ممتزجٌ بها. كما يرى فويرباخ أنّ الموت مرتبطٌ بالخلود في تفكيرنا، فنحن لا نريد أن نموت، نريد أن نوسّع وجودنا إلى ما وراء مقبرتنا الأرضيّة، نمدّها إلى اللانهائي. فإذا كان الموت هو النهاية فإنّ في الخلود التعويض عن مثل هذه النهاية التي ينفر منها الإنسان؛ ولذلك كان الخوف من التلاشي بعد الموت هو أحد مصادر التأليه عند فويرباخ – كما سبق أن أشرنا - عبر عبارة فويرباخ بالغة الأهمية: «إنَّ المقبرة التي تمثّل نهاية الفرد تمثّل موضع ميلاد الآلهة».
ومن ثم يكون مضمون العلاقة بين الموت والخلود عند فويرباخ هي أنّ الموت حقيقة، والخلود تصوّر؛ ولذلك لا ينبغي الخلط بين الحقيقة والتصوّر. ومن حقيقة الموت يناقش فويرباخ تصوّر الخلود والأزليّة فيرى أنّ الروح الأوروبيَّة قد مرت بمراحل ثلاثٍ في تصوّرها للعالم الآخر، هي: المرحلة اليونانّية الرومانية، ومرحلة العصور الوسطى، والمرحلة الحديثة. في المرحلة الأولى (اليونانية الرومانية) لم يعرف أصحابها الخلود بمعناه الحالي كما نفهمه نحن اليوم، إنّما كلّ ما كان يهم الروماني هو تمجيد روما، وتوسيع قوّتها وراء كلّ الحدود، كان اليوناني والروماني يختزل نفسه في الإنسان الجمعي؛ فلم يفكر في الخلود الفردي في عالم آخر، وإنّما كانوا يتحدّثون عنه كافتراضٍ ساذجٍ بريء كغيره لا يميّزه سوى اقتناعهم أنّ الموت ليس سوءًا أو ألمًا، فالسماء ليست سوى الصورة الحسيّة للخير والنعيم المتّحد به، في حين أنّ الجحيم ما هو إلّا التمثيل الحسي للشرّ، والعدوان، والبؤس الذين هم جزءٌ منه [45].
أما في المرحلة الثانية (مرحلة العصور الوسطى) فقد ظهر الاعتقاد في الخلود كإيمان جماعي، حيث كان الإنسان بوصفه عضوًا في الكنيسة مالكًا للحياة الأبدية والخلود الشخصي، نظرًا لأنّ الكنيسة كشراكةٍ للمؤمنين كانت المملكة الفعلية لله، لم يسمح لأيّ مجالٍ للفصل بين هذا العالم والعالم القادم؛ لذلك كان الاعتقاد بالخلود فقط أحد بنود الاعتقاد ضمن بنودٍ أخرى. والموضع الوحيد الذي من الممكن أن نجده يتّحدث عن الخلود في المسيحيّة بمعنى الاستمراريّة الفرديّة بعد الموت هو الاعتقاد بقيامة الجسد، وإنْ كان هذا الأمر لا يعود إلى المسيحيّة – كما يرى فويرباخ - وإنّما يعود إلى الديانة الفارسية التي هي صورة قديمة للمسيحيّة [46].
بينما تمثّل المرحلة الثالثة المرحلة الأوروبيَّة الحديثة التي يبدو فيها الإيمان بالخلود الإنساني نقيًّا، فالفرد يشعر بشخصيته الفردية ككائن إلهي. والشخص النقي عند فويرباخ هو الشخص غير الآثم غير الملطخ بالذنوب والمعاصي، الشخص الذي هو خير بالكامل، والذي يصطدم بمعوقاتٍ دنيويّةٍ تعوقه عن تطوير شخصيّته النقيّة البسيطة، فيشعر بالضيق في الزمان والمكان والأشياء المحيطة به، فعندئذٍ تصبح لديه القوة لاختراع وجودٍ آخر أصلح من الأول، حياة لا تقابلها عقبات، وبالتالي سيعتقد أنّ الوجود في العالم الآخر سيتحقّق فيه شخصيّته المثاليّة. هذه الشخصية الفرديّة التي تتطلّع للنقاء والفضيلة وتتوق للكمال الذي ينبع من الشخصية المنتقاة كالله، أو النقاء العقلي لكيانٍ غير مشخّصٍ كالخير والفضيلة، ومن هنا على الأفراد أن يمتدوا إلى زمنٍ غير محدودٍ حتى يصلوا إلى الكمال المطلق، أي إنّ الأنا زهدت واحتقرت العمل في هذا العالم، ولم يعد لديها إلّا ظلّ ذلك العالم، الظلّ الذي يبدو عالمًا [47].
وهكذا يصرّ فويرباخ على أنّ الموت حقيقة، ولكن الخلود والأزلية مجرد تصوّرٍ يصفه بأنّه ظلّ العالم، أو الظلّ الذي يبدو عالمًا؛ ولذلك يرفض الحياة الأخروية صراحةً؛ لأنّه لا يرى حيوات أخرى غير هذه الحياة المتجسدة هنا في الزمان والمكان؛ لأنّ النفس لا يمكنها أن توجد بلا جسد[48]، ومن ثم فحياة الما وراء ليس لها وجود إلّا في هذه الحياة المشهودة التي لا توجد حياة غيرها. وطالما لا يوجد حياةٌ أخرويةٌ، ولا خلود، فلا وجود للإله عند فويرباخ.
وهكذا بدا فويرباخ سطحيًّا جًّدا في رفض الخلود والأزلية؛ لأنّه اختصر قضيّة الإنسان كلّها في (أرحام تدفع، وأرض تبلع)، ولا شيء بعد ذلك. فكيف تستوي نهاية الأخيار الطاهرين الأنقياء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الحق والخير ونهاية الأشرار الملوثين الملطخين بالآثام والمعاصي والشرور الذين ضحّوا بغيرهم في سبيل الهوى والشهرة؟! وهل يمكن الاكتفاء بخلود الذكر للعظماء والعباقرة كما يشير فويرباخ أحيانًا؟ أليس يخلد ذكر الأشرار أيضًا؟! أي إنّه ما زالت البشريَّة تذكر قابيل، ونيرون، وجنكيز خان، ومكسميليان روبسبير، وإبفان الرابع، وأودلف هتلر، وجوزيف ستالين وغيرهم من القتلة والمجرمين. فكيف تختتم الحياة بالموت؟! أم أنّ هناك وراء الموت حياةً يجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا، والذين أحسنوا الحسنى؟ وأيّ كرامة للإنسان الذي يعيش في نظر نفسه كمخلوقٍ حيوانيّ لا يفترق عن الأنعام والدواب التي تعيش وتتمتع، ثم تموت وتنفق، بدون أن تعرف لها هدفًا، أو تدرك لحياتها سرًّا؟
خاتمة:
وهكذا نخلص ممّا تقدّم أن تخرّصات (الإلحاد الأنثروبولوجي) انعكست بشكلٍ واضحٍ من خلال تساؤل فويرباخ عن الغاية التي من أجلها وُجد الإنسان. فالإنسان عند فويرباخ وُجِد ليعرف، وليحب، وليريد. وتلك هي القوى العليا في الإنسان: العقل، والحب، والإرادة. ولما أدرك الإنسان- وفقا لفويرباخ- أنّه لا يستطيع بقواه الخاصة أن يحقّق الحق، والحب، والخير، فإنّه أسقط هذه الصفات على إلهٍ وصفه بهذه الصفات. لقد نقل الإنسان آماله إلى كائنٍ ذي درجةٍ عليا سماه الله. فإله الأديان إنّما هو عبارةٌ عن تجسيد ما يتمنّاه الإنسان لنفسه ولم يستطع تحقيقه. وإنّ كلّ الصفات التي أطلقت على الله في الأديان، في نظره، ما هي إلّا أوصاف جُرّدت من الطبيعة ونسبت إلى الإله، فحقيقة الإله راجعة إلى تقديس الطبيعة وإلباسها بصفاتٍ متفوقةٍ على الإنسان. وهو ما أسهبنا في نقده وبيان تهافته على طول صفحات هذا البحث.
كما تبيّن لنا بما لا يدع مجالًا للشكّ مدى إلحاد فويرباخ، الذي حاول بكلّ قوةٍ نبذ الإله المتعالي اللإنساني وتأليه الإنسان، مهما حاول هو نفسه أو غيره أن ينفي تهمة الإلحاد عنه [49]. فحين يكون الإله إنسانًا، وكلّ صفات الإله صفات بشريَّةً متضخمةً فلا مجال إذًا للحديث عن الإله بالمعنى المعياري للمصطلح.
وإذا كان فويرباخ يعترف بإلحاده من منظور أنّه لا تهمّه السماء بقدر ما يهمّه الإنسان، وأنّ كلّ ما يهمّه هو الارتقاء بالجنس البشري، واختزال كلّ ما هو إلهي في آمال الجنس البشري وطموحاته. فإنّ هذا المذهب الإنساني الإلحادي ينقلنا من مركزيّة الإله إلى مركزيّة الإنسان التي يستولي فيها (عدم الاعتقاد) على مكان الاعتقاد، ويحلّ العقل مكان الكتب المقدّسة، والسياسة محلّ الدين، والقانون البشري محلّ الشرائع الدينيّة، والعمل محلّ الصلاة، والمطالب الماديّة محلّ الجحيم، وماهيّة الإنسان محلّ المقدس. وما هذا إلّا الإلحاد في أوضح معانيه.
والجدير بالذكر هنا أنّ فويرباخ إذا كان قد بدأ بنفي الأزلية في كتابه الأول (أفكار حول الموت والأزلية) فإنّه في مؤلفاته التالية انتهى إلى نفي الإله، ولم يُبقِ إلّا على الإنسان الدنيوي الواقعي، وقطع صلاته بخالقه في الدنيا، كما نفى وجوده وخلوده في دارٍ أخرويةٍ بعد الموت ممّا يجعل الحياة عبثيةً لا رقيب فيها على الإنسان إلّا الإنسان الذي بدا عند فويرباخ ككائنٍ مطلقٍ لا نهائي. أي إنّ فويرباخ حاول عبثًا رفض الدين لصالح الموقف الإنساني، وهو الأمر المضاد للطبيعة البشريَّة التي لم تستطع يومًا أن تحيا بلا دين، وتنبّأ – مثل ماركس- بلا دينيّة المستقبل، وهو الأمر الذي ثبت خطأه اليوم، بل إنّ استقراء الواقع الغربي اليوم يشهد تحوّلًا ملحوظًا ناحية العودة إلى الدين بعكس الموقف العام في القرون الثلاثة السابقة، وبذلك تبدو تخرّصات فويرباخ تخرّصاتٍ واهيةً للغاية؛ إذ زعم أنّه يحاول إعادة ملكوت السماء إلى ملكوت الأرض لإسعاد الإنسان وتحريره من أهوائه ومخاوفه. حتى أنّنا نرى رجلًا مثل (توينبي) أكبر مؤرّخي القرن العشرين، وأحد أقطاب الفكر العالمي يقول: «الدين إحدى الملكات الضروريّة الطبيعيّة البشريَّة. وحسبنا القول بأنّ افتقار المرء إلى الدين يدفعه إلى حالةٍ من اليأس الروحي، تضطرّه إلى التماس فتات العزاء الديني على موائد لا تملك منها شيئًا»[50].
أي إنّ محاولة فويرباخ لإنكار وجود الإله الخالق لصالح تأليه الإنسان تضعه في مآزق شتّى، لعلّ أهمّها تلك الأسئلة التي تؤرق الإنسان نفسه، وتقضّ مضجعه، ولا سبيل إلى الجواب الشافي عنها إلّا باللجوء إلى الدين. من قبيل الأسئلة الوجودية التي لا يستطيع إنسانٌ أن يتجاهلها، كأن يتساءل الإنسان من أين جئت وجاء هذا الكون الواسع من حولي؟ وما هو مآلي ومصيري؟ وما هو الدور المنوط بي في هذه الحياة؟ ثم ماذا بعد الحياة وبعد الموت؟ ولماذا أعطي الإنسان العقل والإرادة، وتميّز عن سائر الحيوان؟ لماذا سُخّر له ما في السماوات وما في الأرض؟ الخ. وأمام حيرة الإنسان اللامتناهية يأتي الدين ليجيب على أسئلته المؤرقة فيعرف الإنسان أنّه لم يخرج من العدم إلى الوجود صدفة، ولا قام في هذا الكون وحده، وإنّما هو مخلوقٌ لربٍّ عظيمٍ خلقه فسواه فعدله، وفي أحسن صورةٍ ركّبه، وفي هذا الكون الفسيح ألقاه لكنه لم يهمله، وجعل كلّ شيءٍ في الكون المحيط به يسير بقدر، وكلّ أمرٍ فيه بحسابٍ وميزان.
هذا كلّه ليرتبط الإنسان بالوجود الكوني الكبير، وبخالقه، وبغيره من البشر، ولا يعيش منطويًا على ذاته يشعر بالوحدة والاغتراب معزولًا عمّا حوله، خائفًا من أخيه الإنسان؛ ولذلك أقول في الختام إنّ (فويرباخ) أو (قناة النار) ــ كما يعني اسمه بالألمانية ــ ليس قناة يتطهّر فيها كلّ فيلسوفٍ يريد الانتقال من المثاليّة إلى الواقعيّة كما قال بعضهم، وإنّما هو اسمٌ على مسمّى، فـهو (قناة النار) التي يتعذّب فيها كلّ من نقص إيمانه، وتزعزعت عقيدته، وارتضى الإنسان إلهًا له بدلًا من ربّ العالمين الواحد الأحد.
المصادر والمراجع
أولاً - المصادر والمراجع الأجنبيّة
Berdyaeve، The Divine and the Human، Geoffeny Bles، London 1949.
Feuerbach، The Essence of Christianity، Translated by George Eliot، New York: Harper & Brothers 1957.
Feuerbach، Lectures on the Essence of Religion، trans. Translated by Ralph Mannheim، Harper & Row Publishers، New York 1967.
ثانيًا - المصادر والمراجع العربيّة:
أنجلس، لودفيج فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، كراسات ماركسية (6)، تقديم سلامة كيلة، دار روافد للنشر والتوزيع،2014.
بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، المجلد الثاني (ش-ي)، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984.
برهييه، إميل، تاريخ الفلسفة- القرن التاسع عشر، الجزء السادس (1800-1850)، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1985.
توينبي، مختصر دراسة التاريخ، الجزء الثالث، ترجمة فؤاد محمد شبل، تقديم عبادة كحيلة، القاهرة، المجلس القومي للترجمة، 2011.
حنفي، حسن، الاغتراب الديني عند فيورباخ، دراسة منشورة بكتاب دراسات فلسفية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1978.
________، مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة، الدار الفنية للنشر والتوزيع، 1991.
دراز، محمد عبد الله، الدين- بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، الكويت، دار القلم، د.ت.
ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة وتقديم عثمان أمين، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة، 1968.
عطية، أحمد عبد الحليم، فلسفة فيورباخ، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1989.
________، المقدمة العربية لكتاب فيورباخ، أصل الدين، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1991.
العميرى، سلطان عبد الرحمن، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، تكوين للدراسات والأبحاث، الطبعة الثانية، 2018.
عون، مشير باسيل، بين الفلسفة والدين- نظرات في الفكر الإلحادي الحديث، بيروت، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، معهد الدراسات الإسلامي للمعارف الحكمية، 2003.
فيورباخ، أصل الدين، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1991.
________، قضايا أولية لإصلاح الفلسفة، منشورة ضمن كتاب ماهية الدين وقضايا أولية لإصلاح الفلسفة ونصوص أخرى، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، القاهرة، دار الثقافة العربية للطباعة والنشر، 2007.
________، شذرات من تطوّري الفلسفي، منشورة ضمن كتاب ماهية الدين وقضايا أولية لإصلاح الفلسفة ونصوص أخرى، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، القاهرة، دار الثقافة العربية للطباعة والنشر، 2007.
________، أفكار حول الموت والأزلية، ترجمة وشرح وتعليق وتقديم نبيل فياض وجورج برشين، بيروت، دار الرافدين، الطبعة الأولى، 2017.
القرضاوي، يوسف، الدين في عصر العلم، عمان- الأردن، دار الفرقان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1996.
________، أفكار حول الموت والأزلية، ترجمة وشرح وتعليق وتقديم نبيل فياض وجورج برشين، بيروت، دار الرافدين، 2017.
محمود، مصطفى، حوار مع صديقي الملحد، دراسة وتقديم وتعليق محمد عمارة، نشر مجمع البحوث الإسلامية، هدية مجلة الأزهر، جمادى الأولى 1436هـ- مارس 2015.
---------------------------------------------
[1] بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، المجلد الثاني، ص213.
[2] عون، مشير باسيل، بين الفلسفة والدين- نظرات في الفكر الإلحادي الحديث، ص8.
[3] فويرباخ، أفكار حول الموت والأزلية، ص 76.
[4] Feuerbach, The Essence of Christianity, p.14.
[5] عطية، أحمد عبد الحليم، فلسفة فيورباخ، ص 200. وانظر أيضًا:
Berdyaeve, The Divine and the Human, p.44.
[6] Feuerbach, The Essence of Christianity, p.33.
[7] ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ص123-124.
[8] المرجع السابق، ص126.
[9] نقلًا عن عطية، أحمد عبد الحليم، المقدمة العربية لكتاب فيورباخ، أصل الدين، ص 10.
[10] أنجلس، لودفيج فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، كراسات ماركسية (6)، ص 25.
[11] فويرباخ، قضايا أولية لإصلاح الفلسفة، منشورة ضمن كتاب ماهيّة الدين وقضايا أولية لإصلاح الفلسفة ونصوص أخرى، ص 346.
[12] بدوي، موسوعة الفلسفة، المجلد الثاني، ص213-214.
[13] أنجلس، لودفيج فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ص 25.
[14] انظر، محمود، مصطفى، حوار مع صديقي الملحد، ص 189-190.
[15] فيورباخ، أصل الدين، ص41.
[16] انظر، المصدر السابق، ص 41.
[17] انظر، برهييه، إميل، تاريخ الفلسفة- القرن التاسع عشر، (1800-1850)، ج6، ص 254.
[18] انظر، العميري، سلطان عبد الرحمن، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص 189.
[19] عطية، أحمد عبد الحليم عطية، فلسفة فيورباخ، ص 215-216.
[20] المرجع السابق، ص217.
[21] فيورباخ، أصل الدين، ص 63.
[22] See, Ludwig Feuerbach, The Essence of Christianity, pp.33-34.
[23] أنجلس، فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ص 87.
[24] فيورباخ، أصل الدين، ص 64.
[25] المصدر السابق، ص 64.
[26] فويرباخ، شذرات من تطوري الفلسفي، منشورة ضمن كتاب ماهية الدين وقضايا أولية لإصلاح الفلسفة ونصوص أخرى، ص 401.
[27] انظر، يوسف القرضاوي، الدين في عصر العلم، ج1، ص43-45.
[28] دراز، محمد عبد الله، الدين- بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص 85
[29] انظر، حنفي، حسن، مقدمة في علم الاستغراب، ص 360.
[30] فويرباخ، شذرات من تطوري الفلسفي، ص 386-387.
[31] Feuerbach, The Essence of Christianity, Ch. XXVI, p.247.
[32] بدوي، موسوعة الفلسفة، المجلد الثاني، ص213.
[33] نقلًا عن: عطية، فلسفة فيورباخ، ص229.
[34] المرجع السابق، ص232.
[35] حنفي، حسن، الاغتراب الديني عند فيورباخ، دراسة منشورة بكتاب دراسات فلسفية، ص445.
[36] فويرباخ، شذرات من تطوري الفلسفي، ص 387.
[37] المصدر السابق، ص 388-389.
[38] انظر، عطية، فلسفة فيورباخ، ص93.
[39] انظر، المرجع السابق، ص 203.
[40] انظر، المرجع السابق، ص93- 94.
[41] Feuerbach, The Essence of Christianity, p.66.
[42] نقلًا عن: عطية، فلسفة فيورباخ، ص13.
[43] المرجع السابق، ص219.
[44] فويرباخ، أفكار حول الموت والأزلية، ص 75.
[45] فويرباخ، أفكار حول الموت والأزلية، ص 61
[46] المصدر السابق،ص 62.
[47] عطية، فلسفة فيورباخ، ص185.
[48] فويرباخ، أفكار حول الموت والأزلية، ص 117.
[49] فقد حاول فويرباخ أن ينفي تهمة الإلحاد عنه في كتابه (محاضرات في جوهر الدين) حيث حاول أن يؤكّد أنّه ليس هجوم ملحدٍ على الدين، بل هو محاولةٌ جادةٌ للحفاظ على مضمونه الأخلاقي، وتجاوز النظرة الضيقة إليه، وتوضيح لمعانيه حتى لا يستخدمه أعداء البشريَّة لقهر الجنس البشري (See, Feuerbach, Lectures on the Essence of Religion, trans. Translated by Ralph Mannheim, Harper & Row Publishers, New York, 1967, p.5) كما حاول أنجلز على طول كتابه (فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية) وغيره أن يدفعوا تهمة الإلحاد عن فويرباخ مؤكدين على أنه لم يكن يهدف إلى محو الدين وإنما يهدف الوصول به إلى حالة الكمال ودافع عن تلك الرؤية من الباحثين العرب أحمد عبد الحليم عطية في كتابه (فلسفة فيورباخ، ص 190) الأمر الذي يرفضه الباحث قلبا وقالبا طبقا لنصوص فويرباخ التي يراها صحيحة ولا تحتمل التأويل أو التبرير.
[50] توينبي، مختصر دراسة التاريخ، الجزء الثالث، ترجمة فؤاد محمد شبل، تقديم عبادة كحيلة، القاهرة، المجلس القومي للترجمة، 2011، ص179.