الباحث : الشيخ محمد الخالدي
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 36
السنة : خريف 2025م / 1447هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 22 / 2025
عدد زيارات البحث : 150
الملخّص
تعرض البحث لنوعٍ من البراهين العقليّة التي يستدلّ بها على إثبات الحقّ تعالى بنفسه، وهو المسمّى ببرهان الصديقين الذيش كان التفسير الأفضل والأقرب لجملة من الآيات والروايات وفقرات الأدعية كقول الإمام (عليه السلام) «يا من دل على ذاته بذاته»، وقد حاولنا أن نعرض تأريخ البحث عنه، وتقريراته المتنوعة، والإشارات القرآنية والروائية له مع بيان مقدماتٍ تنفع في بيان فطرية الاعتقاد بالإله، والمواقف الفعلية تجاهه، وتأريخ البحث عنه، وبيان أنواع الطرق الموصلة له، لننتهي إلى فطرية إثباته تعالى، ومحورية برهان الصديقين من بين البراهين المقامة لإثباته تبارك وتعالى، ليكون البرهان المذكور منبّهًا عقليًّا على فطرية الإيمان بالإله، وداعيًا الى معرفته وتوحيده من خلال النظر في حقيقة الوجود بدلًا من النظر في آثار الصنع والنظم.
الكلمات المفتاحية:
المواقف العَقَدية- فطريّة الإيمان - برهان الصديقين.
المقدّمة:
يعدّ البحث عن البراهين المثبتة لوجود الإله من المباحث الأساسيّة في علم الكلام القديم والجديد، وفي فلسفة الدين، لا سيّما مع دخول البحث حيز الإنكار من قبل المدرسة الإلحاديّة، وهذا لا يعني أنّنا نسلّم بفكرة إمكانيّة إنكار الإله إنكارًا علميًّا مستدّلًا؛ إذ مسألة الإيمان بخالقٍ لهذا الكون من المسائل الفطرية التي فطر الإنسان على الإيمان بها، وقد أكّدها الدليل العقلي والنصّ القرآني كما سيأتي توضيحه.
وقد أقيمت عدّة براهين لإثبات وجود الإله في مختلف المدارس الفكريّة منها ما يتعلّق بالعقل النظريّة، وما يتعلّق بالعقل العملي كالبرهان الأخلاقي لكانط، وتعدّ البراهين المعتمدة على العقل النظري من بين البراهين الأكثر رواجًا في البحوث الكلاميّة، وقد بدأ البحث فيها منذ زمن الفلسفة الفهلويّة واليونانيّة الى زماننا.
وقد اختلفت المدارس في المدخل الذي تصل من خلاله الى إثبات الحقّ تعالى، فمنها ما تثبته من خلال الآفاق كبراهين النظم، والحركة، والحدوث، وغيرها، ومنها ما يستدلّ من خلال النفس، وقد تميّز من بينها برهان الصديقين بعدم اعتمادها على الطريق الآفاقي، أو الطريق الأنفسي في إثبات الإله، بل جعل الحقّ تعالى دليلًا على نفسه من خلال المفاهيم المتلازمة كالفقر، والغنى، أو الوجود، والوجوب، والصرافة، أو الواقعية، ووجوبها وغيرها من التقريرات التي سنذكرها، وقد شرع البحث في هذا البرهان منذ زمان الفارابي، وتطوّر على يد الشيخ الرئيس، ثم العرفاء الى أن وصل الى زمان صدر المتألّهين وأتباعه الذين طوّروه، وفصّلوا في بيانه، حتى تم بناؤه مستغنيًا عن كلّ مقدمةٍ نظريّةٍ على يد العلّامة الطباطبائي كما سيأتي توضيحه.
ونحاول في المقام أن نبيّن تأريخ هذا البرهان مع بيان الطرق المتعّددة لتقريره، والإشارات إليه في الكتاب والسنّة بمنهجٍ تحليليّ نقديّ للوصول إلى التقرير الأتم له مع بيان مقدماتٍ نافعةٍ في مسألة إثبات الإله.
أولًا: تمهيدات وتعريفات
معرفة الله بين الفطريّة والإلحاد
أفرزت المدارس المعرفيّة في البحث عن الله تعالى وإثبات وجوده، مناهج مختلفة، وبداياتٍ متفاوتة، بلغت إلى حدّ التقابل في بعضها، فبين قائلٍ ببداهة الإيمان به تعالى وعدم الحاجة إلى إثباته، ونداء القرآن بذلك بقوله: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [سورة إبراهيم: 10]. وبين منكرٍ لوجوده، وأنّ هذا الوجود المسمّى بالإله صنيعة جهل الإنسان بأسباب الطبيعة وقوانينها.
وإذا كنّا نعيش اليوم حالةً من الدعوة - ولو نسبيًّا - إلى الإلحاد وإنكار الإله فما ذلك لأجل أزمةٍ معرفيّةٍ في إثباته، والإحساس بوجوده تعالى، بل الأزمة كلّ الأزمة في القراءات التي تقدّم لعرض هذا الإله وصفاته وتشريعاته، أو من البعد التطبيقي لذلك، والّذي يعدّ أكثر تأثيرًا في المقام هو انفعال الغرب من القراءة المسيحيّة أو اليهوديّة المحرَّفتين للإله، أو القراءة الإسلاميّة المتعصّبة والمتشدّدة له والمفرطة، التي هي من صنيعة العقل غير المعصوم وانحرافه.
ولعلّ بعض دعاة الإلحاد إنّما ينادي به لأجل التحلّل من القيود التي يقع فيها، ضريبةً للإيمان بهذا الإله وتطبيق شريعته، فيرى من الإنكار سبيلًا أسهل للهروب من ذلك، ومبررًا أقوى لأعماله، خصوصًا مع ما هو مشهود من التناحر والتقاتل الّذي يدعو إليه أتباع بعض الديانات، والمذابح والمجازر التي يتسبّبون بها بعض دعاة الإيمان به، ومن هنا وجد عدّةٌ من دعاة الإلحاد أداتهم الإقناعية القوية في التلاعب في مشاعر الناس، والضرب على الوتر الحسّاس في شهواتهم وابتعادهم عن الالتزامات الأخلاقية والدينية التي تدعوهم لكبح جماح شهواتهم وتهذيبها، فبدلًا من التفكير بالآخرة وبناء الحياة الدنيا على أسس النظم الأخلاقيّة والأسريّة القويمة التي توجب ترتّبُ جملةٍ من الالتزامات الأخلاقيّة والدينيّة تجاه الزوجة، والأطفال، والأم، والأب، وبقيّة الأقارب يدفع دعاة الإلحاد الى التحلّل الخلقي من هذه الالتزامات، والتقليل من شأنيّتها، وبدلًا من التفكير العميق بالغاية والحكمة التي من أجلها خلق الإنسان، والمقصد الذي يتحرّك إليه يدعو دعاة الإلحاد واللا إكتراثية إلى إهمال التفكير بالآخرة بالكلية، والتوجّه إلى الحياة الدنيا ولذّاتها، فتبدّلت الهدفيّة بالعبثيّة، والدنيا بالآخرة، واللذّات المعنويّة المترتّبة على الأخلاق والتدين والإيمان باللذّات الشهوانيّة والحيوانيّة التي تحوّل الإنسان إلى بهيمةٍ همّها علفها ولذّتها الحيوانيّة، كما وصفهم القرآن في كلامه، فقال: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [ الأعراف:179].
المواقف العَقَديّة في مسألة وجود الله
إنّ المراقب للوضع الإيماني القائم في المجتمعات يمكنه أن يرصد عدّة مواقف رئيسة تتأرجح بين الإله بحسب الاصطلاح الديني، وبين المادة والطاقة التي تشكّل أساسًا للمذهب الإلحادي، ويمكن تحديد أهمّ المواقف العَقَديّة للبشر على وجه الأرض تجاه الإله بالمواقف الآتية[1]:
المذهب الألوهي ( Thesim): ويمثّل هذا المذهب الموقف العام والرسمي القائم في الغرب والشرق، الذي يقوم على أساس الإيمان بذاتٍ كاملة الصفات يمتنع عقلًا ألّا تُوجد؛ لأنّ عدمها يلزم منه محالاتٌ عقليّة، وهذا الإله مفارقٌ بصورةٍ كليّةٍ عن العالم[2]، ويتواصل هذا الإله مع خلقه من خلال الوحي أو الإلهام لخواص الأفراد من الناس المعبّر عنهم بالأنبياء، فقد خلق الخلق، ولم يتركهم سدى، بل أرسل لهم الرسل لبيان غاية الخلق والقانون الموصل إلى تلك الغايات، وقد يقصد بالمذهب الألوهي في الجدل العقدي الأديان السماوية الثلاثة اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام، وإنْ كان هو أوسع من ذلك بكثيرٍ إذ يشمل طيفًا واسعًا من الأديان الأرضيّة أيضًا.
المذهب الربوبي( Deism): ويقوم هذا المذهب على أصل الإيمان بخالقٍ مصوّرٍ لهذا الكون واحدٍ أزليّ، نظّم الكون بقوانين آليةٍ مستغنيةٍ عن التوجيه والتعديل كحال الساعة التي يصنعها صاحبها، ثم يتركها إلى نظامٍ عملها الذاتي، والكون عند الربوبي المصدر الوحيد لمعرفة الله وصفاته ويسميه الوحي العام؛ ولذلك يستغني ـــ بحسب زعمه ـــ به عن الوحي الخاصّ المتمثّل بالأنبياء، وبذلك ينكر الربوبيّون الوحي ويعارضون الأديان، ويرون أنّ الإله الخالق لم يتواصل مع أحدٍ من البشر، وقد أزدهر المذهب الربوبي في القرن الثامن عشر الميلادي في أوربا حيث كانت أغلب الرموز الفكريّة الكبرى تنتمي إليه مثل فولتير[3] وتوماس باين[4]، وغيرهم ممّن دعوا الى الاستعاضة عن الوحي بالعقل البشري، والسخرية من الأديان ورموزها ومؤسّساتها خصوصًا الكنيسة، وينكرون المعاجز، وينكر الربوبيّون كمال رحمة الله؛ لاعتقادهم أنّ الشرّ الموجود في العالم يمنع من الاعتقاد بإلهٍ رحيمٍ يعتني بآلام الناس وأوجاعهم، وإنّما يؤمنون بالإله كمصممٍ للعالم لا غير نتيجة لما تدلّ عليه الكشوفات العلميّة من ضرورة الإيمان به.
المذهب الشيئي (Ietsism): وهو موقفٌ – وليس مذهبًا في واقع الأمر- قريبٌ من المذهب الربوبي، ولكنّه يعتقد بإلهٍ لا يعرف عنه إلّا أنّه شيءٌ غير مادي، وكونه قوةً عظيمةً تتجاوزنا بعظمتها، ولكن لا يعلمون أنّهم يتحدّثون عن خالقٍ مصممٍ، بل يترددون في كونه قوةً بمعنى الطاقة أو (روح أو قوة حياة). وأساس هذا المذهب هو الكسل المعرفي تجاه معرفة الغايات الكبرى من الحياة والخلق. ويقترب من هذا الموقف الموقف اللاإكتراثي (Apatheism) حيث يهمل النظر في قضيّة الإله وعواقبها السلوكيّة، ويدعو لمعايشة الحياة على الأرض كأنّه لا يوجد إله، ويعتمد على أساس مبدأ اللذّة والبراغماتيّة في التعامل مع الأشياء في هذا العالم، فينغمس في طلب الدنيا ولذّاته مع هجران التفكير في الآخرة وعواقبها.
المذهب الإلحادي (Atheism): الإلحاد في اللغة الميل جانبًا، وفي المصطلح القرآني إنكار الحقائق الواضحة أو الانحراف عنها، ولكنّه كمذهبٍ يعني إنكار الإله كربٍّ وخالقٍ لهذا الكون، فهم يرون أنّ هذا الكون مادةً وطاقةً وحركةً عمياء، أزليٌّ أو حادثٌ بلا سببٍ، وهو عالمٌ فاسدٌ بما فيه من الشر، ومن هنا ينكرون الإله وراء العالم، كما ينكرون الوحي والنبوات، ويبنون النظام القانوني على أساس الأخلاق النسبيّة المتغيّرة مع الإيمان بعبثية الحياة ونهايتها بالموت والتلاشي، فهم منذ المبدأ بلا غاية، والمنتهى بلا حكمة.
والإلحاد على نحوين: منه قوي يعتقد بعدم وجود الله، ولا وجود لأحدٍ يمثّله في الواقع إلّا ادّعاءً ولسانًا، بل الجميع في مؤلّفاتهم ينكرون انتسابهم إليه لعدم الدليل الموجب للاعتقاد بعدم الإله عندهم. والقسم الآخر هو الإلحاد الضعيف الذي لا يؤمن بوجود الإله، ويرى الأدلة غير كافيةٍ لإثباته، ومع أنّ جميع الملاحدة المعاصرين ينتمون إلى هذا الصنف من الإلحاد، ولكنّه – تضليلًا لقرائهم- يستعملون مقولات الصنف الأول، ودعاويه ونتائجه، ويدّعون موت الإله ـ كما قال نيتشه ـ مع التطوّر العلمي، وقد امتدّ هذا الإلحاد في المسيحيّة بسبب سيطرة الملاحدة من العلماء الأكاديميين على الأوساط العلمية والإعلامية أكثر من غيرهم، أمثال دوكنيز، وهاريس، ولورنس كراوس، وغيرهم ممّن تبلور فكرهم الإلحادي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م. وقد تميّز هذا الإلحاد بعدّة خصائص من أهمّها الاعتماد على البحوث العلميّة للاستغناء عن الإله بالعقل والعلم، وإقامة الحياة على أساس العلم الطبيعي، واختزال واقعية الإنسان بالبعد المادي، ومهاجمة الأديان على أنّها مصدر القتل والفوضى والدمار والجهل في العالم، واستعمال اللغة السطحيّة في بيان أفكارهم بعيدًا عن البحث الدقيق الفلسفي الذي لا يتلقّاه العامة، ولا يفهموه مع عدم اطلاعهم على الكتب الدينيّة، وكيفية برهنتها على الإله بصورةٍ دقيقةٍ حتى قال (إليستر ماكجراث)[5] فيهم: «إنّ انشغالهم بتأليف كتبٍ في نقد الدين ألهاهم عن قراءة الكتب الدينيّة»[6].
فطريّة الاعتقاد بالإله هو الموقف الحاكم على مرّ التأريخ
إنّ المطّلع في علم الأديان يلاحظ أنّ فكرة الإله لم تفارق البشريّة في تاريخها، منذ أن وجدت على وجه الأرض، فإنّ أقدم الحفريّات التي تحكي تأريخ الإنسان شاهدة على أنّ مسألة العبادة والتوجّه إلى المعبود حاجةٌ ضروريّةٌ في حياة الإنسان، منذ أوائل عصره البدائي إلى تمدّنه، وحتّى زماننا الحاضر الّذي وصل إلى أوج حضارته ومدنيّته، فلم تمنعه المدنيّة عن تلك الحاجة الملحّة التي يعيشها في داخله، وما دعاوى موت الإله وصمته، وكونه من صنع البشر، وأنّ الناس في يومنا الحاضر لا يحتاجون إليه بعد ما حصل لهم من تطوّرٍ رهيب، ما هي إلّا انعكاساتٌ لظروفٍ مرَّ بها هؤلاء، حوّلتهم إلى هذا المقام، وأمور شاهدوها من دعاة الآلهة في الغرب، ومن النماذج التي تُطرح لذلك الإله، وإلّا فإنّ ظاهرة الإيمان بالله ظاهرةٌ متجذّرةٌ في صميم البشريّة.
وقد يتحذلق بعضهم في تفسيرها ببعض الأسباب والعوامل التي يعيشها الإنسان، كالجهل، والعوز النفسي إلى الملجأ، أو الحاجة الأخلاقيّة إلى الدليل والمرشد، أو المحرّك إلى الأخلاق الفاضلة، وبين هذا وذاك من التفسيرات تبقى تلك الحاجة الملحّة تصرخ من أعماق الإنسان، وتبيّن ذلك العوز الروحي الّذي وصفه القرآن الكريم بأحسن وصفٍ وأكمل بيان، إذ قال:﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ ألا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد: 28]. فالإيمان بالله مهما كانت صوره وتجلّياته، ومهما كان توصيف البشر له ظلّ باعثًا على طمأنينته وعزمه، بل لم يوجد في عالم الوجود موجودٌ يكون الإيمان به ملهمًا للإنسان، هذا المقدار من التضحية والفداء التي تصل بالإنسان أن يضحّي بنفسه في سبيله، بل العاشقون والخائفون كلٌّ بين يديه، وملتجأ إليه، ينتظر عطفه وحنانه ونظرته إليه.
ثانيًا: برهان الصدّيقين: تاريخه، ماهيته، موقعيّته بين الطرق الأخرى، تقريراته
تاريخ برهان الصدّيقين ولميّته
يعدّ برهان الصدّيقين من البراهين المهمّة والمركزيّة من بين البراهين الأخرى التي ذكرت لإثبات وجود الله تعالى، وقد اتّضح من خلال عرض أنواع الطرق الموصلة إلى الله تعالى مدى تميّزها، ورفع النواقص الموجودة في غيره، وقد سمّي كذلك نسبةً إلى الصدّيق، والصدّيق: «مبالغة الصادق، وهو ملازم الصدق في الأقوال والأفعال والقصود والعهود مع الله ومع الخلق، وقد أومأ صدر المتألّهين إلى أنّ الطرق الأُخرى كأنّها لا تخلو عن كذب؛ لأنّ من لم يعلّق بحقيقة الوجود - التي هي بيّنة المائيّة والهليّة - وهي أظهر الظواهر وأوسع الواسعات، كما أنّ مفهومها وعنوانها أبده البديهيّات، وأعمّ العامّات، وهي أوّل الأوائل في الخارج، كما أنّ مفهومها أوّل الأوائل في الذهن، كما عبّر الشيخ في فصل عقده لبيان بعض أحكام مفهومها، بقوله في الذبّ عن أوّل الأوائل، وعلّق بغيرها من الحدوث والإمكان والحركة ونحوها من الأخفياء، ورأى الماهيّات التي شأنّها الاختفاء، وجعلها وأحكامها مفروغًا عنها، وأخذها موضوعةً مسلّمةً، ولم يرَ حقيقة الوجود التي يعرفها كلّ صبي وغبي وزكي وغيرهم، وهي ظاهرةٌ بالذّات، مظهرة لهذه الماهيّات ولأحكامها هذه وغيرها، لم تخلو فطرته عن إعوجاج، ونظره عن عماء، وكلامه اللّهجي والقلبي عن كذب، ولم يعدل حيث لم يضع الشيء موضعه، بخلاف من استدلّ بحقيقة الوجود على حقيقة الوجوب، فإنّ نظره وقع على ما هو حقّ الواقع، وحاق نفس الأمر، ووضع ما وافق الطبع، ولم يتمسّك بما يتطرّق إليها النوع، ولو أثبت المقدّمات الممنوعة، إلّا أنّه يطول المسافة»[7] .
وأوّل من طرح هذا البرهان على ما هو المنقول في الكتب الفلسفيّة هو الفارابي في فصوصه[8]، ثم طرحه الشيخ الرئيس في إلهيّات الشفاء وإشاراته، وفي كتابه المبدأ والمعاد وغيرها[9]، كما طرحه صدر المتألّهين في كثيرٍ من كتبه، بل اكتفى في بعض كتبه بهذا البرهان، ولم يذكر بقية البراهين؛ لابتلائها بما ذكرنا من التغاير بين الطريق والغاية المطلوبة فيه.
وقد اختلفوا في أنّ برهان الصدّيقين من أيّ أنحاء البرهان، فقد عدّه صدر المتألّهين وغيره من الحكماء برهانًا لميًّا، يُنتقلُ فيه من العلّة إلى المعلول، بينما عدّه السيّد العلّامة برهانًا إنيًّا يُسلك فيه من بعض اللّوازم إلى بعضها الآخر منها [10] ، والسبب في هذا الاختلاف يمكن أن يعود إلى أمرين:
الأمر الأوّل: إنّ العلّة التي أُخذت في برهان اللّم هل يراد منها العلّة الخارجيّة للشيء؟ أو الأعمّ منها ومن العلّة التحليليّة له؟
بيان ذلك: إنّ التلازم بين الأوسط والنتيجة تارةً يكون تلازمًا وجوديًّا خارجيًّا، وأُخرى يكون تحليليًّا نفس أمريٍ. والتلازم من النحو الأوّل يكون بين المفهومين الّذين لكلٍّ منهما وجوده الخاصّ به في الخارج، كالتلازم بين العلّة والمعلول الخارجيّين، والتلازم من النحو الثاني يحصل في موارد لا تعدّد وجودي فيها، بل لوحدة المصداق يكون هناك تلازمٌ واقعيّ نفس أمريّ بين عدّة من المفاهيم والحقائق، كما في الواجب تعالى وصفاته، فإنّ صفاته ملازمةٌ لذاته؛ ولكن لا بمعنى التعدّد الوجودي، بأيّ نحوٍ من أنحاء التعدّد والتلازم، من النحو الأوّل يمثّل العليّة الخارجيّة في برهان اللّم والتلازم، من النحو الثاني يمثّل العليّة التحليليّة فيه.
والظاهر أنّ السيّد العلّامة يرى أنّ النحو الثاني من التلازم لا يكون من قبيل برهان اللّم، بل من قبيل برهان الإن، الّذي يسلك فيه من أحد اللّوازم للشيء إلى لازمه الآخر، غايته أنّه يفيد اليقين دون برهان الإن، الّذي يُسلك فيه من المعلول الخارجي إلى علّته المباينة له في الوجود، فإنّه لا يفيد اليقين؛ لأنّ المعلول الخارجي المباين لعلّته في الوجود لا يكون معلومًا إلّا بعد معرفة العلّة؛ لأنّ ذوات الأسباب لا تعرف إلّا بأسبابها، فلو عرف المعلول بعلّته صار معرفة العلّة به بعد ذلك لغوًا لا فائدة فيه، وهذا بخلافه في برهان الإن من قبيل الملازمات - الذي يعبّر عنه بشبه اللّم أحيانًا - فإنّ السلوك فيه لمّا كان من أحد المتلازمين إلى الآخر أمكن أن يكون المتقدّم في الذهن معرِّفًا وحدًّا أوسطَ للتصديق اليقيني بثبوت الآخر.
إلّا أنّ الإنصاف هو تعميم اللّمي للعلّة الخارجيّة والتحليليّة، فإنّ المراد من كون الأوسط علّة للأكبر علّيته في نفس الأمر والواقع، وقد صرّح الحكماء بذلك في كتبهم المنطقيّة.
قال الشيخ الرئيس في كتابه (النجاة):«البرهان المطلق هو برهان اللّم. وهو الّذي ليس إنّما يعطيك علّة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن، والتصديق بها فقط - حتّى تكون فائدته - أن تعتقد أنّ القول لم يجب التصديق به، بل يعطيك أيضًا مع ذلك علّة اجتماع طرفي النتيجة في الوجود، فتعلم أنّ الأمر لم هو في نفسه كذا»[11]، فقد فسّر الوجود بمعرفة الشيء في نفسه ـ أيّ في نفس الأمر والواقع ـ وقال شارح حكمة الإشراق قطب الدين الشيرازي في شرح قول الحكيم السهروردي: «الحدّ الأوسط قد يكون علّة نسبة الطرفين ذهنًا وعينًا، أيّ علّة لتصديق العقل، بانتساب الأكبر إلى الأصغر نفيًا وإثباتًا في الذهن والوجود، أيّ لثبوت الأكبر للأصغر، أو انتفاءه عنه في العين، وهو الخارج المعبّر عنه بـ(نفس الأمر)»[12].
وكذلك قال صدر المتألّهين في تعليقته على شرح حكمة الإشراق: «القياس البرهاني على ضربين: أحدهما: ما يكون الأوسط علّة لوجود الأكبر في ذاته، وعلّة لاعتقاد أنّ الأكبر موجود للأصغر»[13].
فإنّ التعبير عن كون الأوسط علّةً لوجود الأكبر في ذاته إشارة إلى أنّ المُعتبر هو العليّة في نفس الأمر والواقع، المعبّر عنه بالخارج بالمعنى الأعمّ، فتكون العليّة أعمّ من العليّة الخارجيّة أو التحليليّة.
الأمر الثاني: ضابط المحمولات الذّاتيّة في العلم البرهاني: فقد أفاد السيّد العلّامة أنّ المحمولات لا تكون ذاتيّة – أيّ ذاتي باب البرهان - لموضوع العلم ما لم تكن مساويةً له، فلو كانت أخصّ منه لا يكون المحمول ذاتيًّا له، بل المحمول الأخصّ مع ما يقابله يكون ذاتيًّا لموضوع العلم حينئذٍ.
فإذا بنينا على ذلك لا يتصوّر للوجود الواجب - الّذي هو أعلى المراتب - علّة أصلًا، ولو تحليليّة؛ لأنّ الوجود الواجبي لن يكون من المحمولات الذّاتيّة لحقيقة الوجود حتّى يكون الاستدلال بها على الوجوب استدلالًا بالعلّة على المعلول، بل الوجود الواجبي وما يقابله من الوجود الإمكاني من المحمولات الذّاتيّة لحقيقة الوجود. إلّا أنّ هذا الكلام أيضًا لم يرتضِ به صدر المتألّهين، حيث لم يشترط في كون المحمول ذاتيًّا لموضوع العلم أن يكون مساويًا له، بل حتّى لو كان أخصّ يكون ذاتيًّا له.
نعم، اُشترط في المحمولات الذّاتيّة ألّا يحتاج الموضوع في لحوق المحمولات الذّاتيّة عليه إلى أمرٍ يجعله متخصّص الاستعداد للحوق هذا المحمول، بل إمّا أن يكون الموضوع تامّ الاستعداد في لحوق المحمولات به قبل عروضها، كما في لحوق الأصالة للوجود. وإمّا أن يكون الموضوع قد حصل له الاستعداد للحوق محمولات أُخرى، بنفس هذا المحمول لا قبله، كالإمكان للوجود في لحوق أحكامه، فيكون كلٌّ من الإمكان وأحكامه الذّاتيّة محمولات ذاتيّة للوجود، وإن كان أخصّ منه.
والخلاصة: أنّ صدر المتألّهين لم يشترط في المحمول الذّاتيّ المساواة، بل حتّى لو كان المحمول أخصّ يمكن أن يكون ذاتيًّا بحسب الضابطة التي ذكرناها [14] .
ويتفرّع على هذا تصوّر العلّة التحليليّة في المقام؛ لأنّ الوجوب وإن كان أخصّ من حقيقة الوجود؛ ولكنّه يمكن أن يلحقها بوصفه من محمولاتها الذّاتيّة، ولوازمها التحليليّة، فتكون حقيقة الوجود أو الموجوديّة العامّة علّةً تحليليّةً لإثباته فليتفطن.
فالمتحصّل من الأمرين: أنّ القول بأنّ برهان الصدّيقين - الّذي ينتقل فيه من الوجود إلى الوجوب - من البرهان اللّمي هو الصحيح.
أنواع الطرق في إثبات وجوده تعالى وأهميّة برهان الصدّيقين من بينها
لا بدّ أن يعلم أنّ الطرق إلى الله تعالى وإثباته وإنْ تعدّدت - حتّى أوصلها بعض الباحثين إلى سبعة عشر برهانًا على إثبات وجوده تعالى [15] - ولكنّها ترجع في الحقيقة إلى ثلاثة طرقٍ أساسيّةٍ ذكرها القرآن، وركّز عليها:
الطريق الأوّل: طريق الآفاق: وهو الانتقال من المعلولات الخارجيّة والتفكر فيها إلى علّتها، فإنّ المعلول وإن لم يكن حدًّا تامًّا، ومعرّفًا للعلّة بتمام خصوصيّاتها؛ ولكنّه يمثّل وجهًا من وجوهها، وهذا الطريق يدخل فيه عدّة براهين لإثبات وجوده، كبرهان النظم، والحدوث، والإمكان للماهيّة، والحركة والمحرّك وغيرها، وهذا الطريق بشتى أنحائه هو ما سلكه المتكلّمون والفلاسفة الأقدمون من اليونانيين إلى زمان الشيخ الرئيس، حيث إنّه شيّد أركان البرهان عليه بالطريق المسمّى ببرهان الصدّيقين، والذي سنذكره لاحقًا. ولهذا الطريق علل ونقائص لا يمكن رفعها كتصوّر العلّة، لا من حيث ذاتها، بل بلحاظ أفعالها وصفاتها المتأخّرة عن ذاتها، كالمحدثيّة والتنظيم والموجبيّة وغيرها، بل في بعضها لا تقوى على إثباته، بل إثبات علّة قديمة أعمّ من كونها الواجب تعالى، أو عقلًا مجرّدًا كبرهان الحركة أو الحدوث. ثمّ إنّ السالك والمبرهن في هذا الطريق يغاير الطريق والمسلوك إليه، فإنّ السالك والمبرهن هي النفس، بينما الطريق هي الآفاق عدا النفس، والمسلوك إليه هو الحقّ تعالى، وتغاير الثلاثة يضعف وثاقة الدليل.
الطريق الثاني: طريق النفس: وهو أوثق من الأوّل وأتمّ برهانيّة على إثبات وجود الحقّ والكشف عن صفاته وأفعاله؛ لأنّ النفس مثال الحقّ التي خلقت على أساس وحدته وصفاته وأفعاله؛ لذا ورد في الحديث: «إنّ من عرف نفسه فقد عرف ربه» [16] . وهذا الطريق وإن كان أفضل من الأوّل - من جهة أنّ السالك والطريق فيه متّحدان وهما النفس - وأقل نقائص منه من جهة أنّ الانتقال من وجود النفس إلى وجود الحقّ تعالى انتقالٌ ممّا له الوحدة الحقيقيّة الظليّة إلى ما له الوحدة الحقّة الحقيقيّة؛ ولكن يبقى انتقالًا من المعلول إلى العلّة أو من المظهر إلى الظاهر، ويبقى فيه السالك والطريق – وإن اتّحدا - غير المسلوك إليه، وهو الواجب تعالى، على أنّ فيه معرفة للعلّة والظاهر من حيث علّيّتها وظهورها لا من حيث ذاتها ومالها من الوصف في نفسها.
الطريق الثالث: طريق الصدّيقين: وهم الّذين يستشهدون به عليه ولا يوسّطون الأغيار للوصول إليه، فيكون الطريق إلى المقصود هو عين المقصود إليه. ويستدلّ في هذا الطريق بذاته على ذاته، ومن ذاته على صفاته، ومن صفاته على أفعاله، بعكس ما كان في الطرق السابقة، فقد استدلّ فيها من أفعاله وصفاته على ذاته، وكأنّما عند المستدلّ تكون الأفعال والصفات أوثق معرفةً وأشدّ حضورًا من ذاته تعالى، فهو غائبٌ يحتاج المستدلّ إلى إحضاره، بينما في هذا الطريق هو الشاهد الّذي ينتقل المستدلّ منه إلى إثبات صفاته ولوازم صفاته وأفعاله.
وقد أشير الى هذه الطرق في كلمات الفلاسفة كابن سينا وصدر المتألّهين وغيرهما، فقد أشار صدر المتألّهين إلى هذه الطرق الثلاثة في كتبه في أكثر من مورد:
المورد الأوّل: ما ذكره في أسفاره عند البحث عن إثبات وجود الواجب تعالى فقال: «واعلم أنّ الطرق إلى الله كثيرة؛ لأنّه ذو فضائل وجهات كثيرة ﴿ولِكُلٍّ وِجْهَة هُوَ مُوَلِّيها﴾ [سورة البقرة: 128]. لكن بعضها أوثق وأشرف وأنور من بعض، وأسدّ البراهين وأشرفها إليه هو الّذي لا يكون الوسط في البرهان غيره بالحقيقة، فيكون الطريق إلى المقصود هو عين المقصود، وهو سبيل الصدّيقين الّذين يستشهدون به تعالى عليه، ثمّ يستشهدون بذاته على صفاته، وبصفاته على أفعاله واحدًا بعد واحد، وغير هؤلاء - كالمتكلّمين والطبيعيّين وغيرهم - يتوسّلون إلى معرفته تعالى وصفاته بواسطة اعتبار أمرٍ آخر غيره، كالإمكان للماهيّة، والحدوث للخلق، والحركة للجسم، أو غير ذلك، وهي أيضًا دلائل على ذاته وشواهد على صفاته؛ لكن هذا المنهج أحكم وأشرف»[17] .
المورد الثاني: ما ذكره في الشواهد الربوبيّة في مقام إثبات وجوده وبيان البرهان على وحدانيّته وصفاته، فقال: «اعلم أنّ الطرق إلى الله وصفاته وأفعاله كثيرة، منها: طريق الماهيّات... ومنها: طريق الجسم وتركّبه من الهيولي والصورة... ومنها: طريق الحركة من جهة حدوثها وتجدّدها وافتقارها إلى فاعل حافظ للزمان... ومنها: طريق معرفة النفس... ومنها: طريق النظر إلى مجموع العالم.. والذي اخترناه أوّلًا من النظر في أصل الوجود وما يلزمه هو أوثقها وأشرفها وأسرعها في الوصول، وأغناها عن ملاحظة الأغيار، وهو طريقة الصدّيقين، الّذين يستشهدون بالحقّ على كلّ شيء لا بغيره عليه»[18].
المورد الثالث: ما ذكره في المبدأ والمعاد في مقام إثبات الواجب تعالى حيث قال: «فصل في التجرّد لإثبات الواجب الوجود وفيه طرق: الأولى: طريقة جمهور الحكماء من جهة الإمكان والتغيّر بحسب الماهيّة...» [19]، فقد ذكر عدّة طرق، وفصّل القول فيها كطريق الإمكان والتغيّر والحركة، ثمّ ذكر برهان الصدّيقين أيضًا.
كما أُشير إلى هذه الطرق الثلاث في الكتاب الإلهي، القرآن الكريم، بقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة فصلت: 53]. فالآفاق إشارة إلى الطريق الأوّل، والأنفس إشارة إلى الثاني، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيد) إشارة إلى الثالث، وكونه شهيدًا - أيّ مشهودًا على كلّ شيء، وظاهرًا على كلّ شيء - يدلّ على أنّ الاستدلال به تعالى عليه أوثق الطرق وأمتنها، فهو الكافي لعبده عن الانتقال من الأغيار إليه، فالآية وإنْ كانت في مقام تقرير أنّ القرآن أو ما جاء به من التوحيد حقّ - لذا عدّها العلّامة الطباطبائي دليلًا على حقيِّة القرآن من خلال إظهار الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة[20] ، ولم يستدلّ بها على توحيده تعالى، ولا على أصل وجوده، وذلك لما يعتقده من كون وجوده تعالى بلسان القرآن بديهيًا لا يحتاج إلى برهان، وفطري لا يفتقر إلى بيان- لكنّها (أي الآية) قابلةٌ للحمل أيضًا على أنّها في مقام الاستدلال على وجود الحقّ تعالى بالآيات الآفاقيّة والأنفسيّة أوّلًا، ثمّ بالحقّ على ذاته ثانيًا؛ وذلك أنّه لما كان الطريق الآفاقي والأنفسي الطريقَ فيه غير المقصود - وهو موجبٌ لنحوٍ من البعد - نبّهت الآية على أنّ الله تعالى لمّا كان مشهودًا على كلّ شيء، وظاهرًا في كلّ شيء، فلا يحتاج إلى الغير ليدلّ عليه، وقد ورد مثل هذا التنبيه في دعاء عرفة للإمام الحسين(عليه السلام) حيث قال: «كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر إليك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبًا» [21].
ثمّ إنّ هذه الطرق الثلاث تنطوي على جميع الطرق التي ذكرت في كلام الحكماء والمتكلّمين، فإنّ الاستدلال بالحركة أو النظم أو الإمكان الماهوي كلّها ترجع إلى الطريق الأوّل، والاستدلال بالوجود عليه تعالى - والمسمّى عندهم ببرهان الصدّيقين - يرجع إلى الطريق الثالث، وأمّا الطريق الثاني - وهو طريق معرفة النفس والتأمّل فيها - فقد ذكر في كلماتهم للاستدلال على وجوده تعالى، وقد أفردته الآية الكريمة كطريقٍ مستقلٍّ أيضًا.
والطريق الثالث لمّا كان أوثق الطرق وأتمّها وأقلّها مقدّمات وأوضحها؛ اهتمّ به الحكماء غاية الاهتمام، وحاولوا تقريره بعدّة تقريرات تختلف من حيث المباني والمقدّمات التي يفتقر إليها؛ لذا سنخصّه بالذكر دون بقية الطرق، وقد سُمّي في كلماتهم بطريق الصدّيقين، الذين يستدلّون به – تعالى - عليه، وبذاته على صفاته، وبصفاته على أفعاله دون العكس.
منطلق المتكلّمين والعرفاء والحكماء في البرهنة على إثبات وجود الله تعالى
ولابد من الإشارة إلى اختلاف المنطلق الذي تنطلق منه المدارس الثلاثة في إثبات وجوده تعالى، فالمتكلمون ينطلقون من الصنع لإثبات الصانع، أي إنّهم يرون المبدأ البرهاني الذي ينبغي إثباته هو الله تعالى بما هو خالق أو منظِّم أو مدبِّر وغيرها من الصفات، ويشاركهم المعلّم الأول في برهانه ليثبت المبدأ بما هو مبدأ للحركة والتحريك بالذات في برهان المحرِّك الأول، وهذا يعني انطلاق المتكلّمين من مقام فاعليته المتأخّرة عن مقام اسمه الجامع (الله)، ومقام أحدية ذاته النافية لجميع التكثرات في ذاته، ولكنّ المحقّق الطوسي في تجريده[22] خالفهم، وانطلق من المنطلق الذي انطلق منه الحكماء السابقون عليه كالفارابي والشيخ الرئيس؛ ليبرهن على الحقّ تعالى بما هو واجب الوجوب من خلال برهان الإمكان والوجوب.
بينما العرفاء والحكمة الصدرائية تنطلق من إثبات الحقّ بما هو حقّ أو وجود محض دون النظر إلى صفة الخالقيّة فيه، وهذا الفرق ليس مجرد فرقٍ شكلي في الاستدلالات، بل يرجع إلى اختلافٍ جوهريّ في المرتبة التي يقوى البرهان على إثباتها، والأحكام المترتّبة عليه، فالمتكلّم بعد إثبات الصنع ينطلق لإثبات القدرة من الصفات؛ لأنّها مرتبطةٌ بالصنع بصورةٍ مباشرةٍ، ثم بطريقة إنيّة يثبت العلم والحياة، بينما الحكيم يبدأ أولًا بإثبات الواجب تعالى، ثم من خلاله يثبت العلم والحياة والإرادة، ويتفرع عنها القدرة، ويختلف العارف عنهما في إثبات الله تعالى بعنوان الوجود الحقّ، ومن خلاله يثبت الوحدة والوجوب، ومن خلالهما يبدأ بتفريع العلم والحياة، وهكذا إلى أن نصل إلى القدرة.
تقريرات متنوّعة لبرهان الصديقين
ثمّ إنّهم ذكروا لبرهان الصدّيقين تقريرات متعدّدة تختلف في مقدّماتها، والمباني التي تعتمد عليها أوصلها بعضهم إلى تسعة عشر تقريرًا[23]، نحاول ذكر أهمّها، وبيان الفرق بينها:
التقرير الأوّل: تقرير الشيخ الرئيس:
وهو ما ذكره في كتاب (الإشارات)، و(الشفاء)، و(في المبدأ والمعاد) وغيرها من كتبه [24] ، وقد اعتمد في الاستدلال فيه على مفهوم الموجود، وأنّه منقسمٌ إلى الممّكن والواجب، والممّكن لا بدّ أن ينتهي إلى الواجب، فيثبت المطلوب دون حاجةٍ إلى النظر في الخلق أو النفس وغيرها من الآثار، بل النظر في الوجود كافٍ في إثبات ذلك، ويمكن بيانه من خلال المقدّمات التالية:
المقدّمة الأولى: كلّ موجودٍ إذا التفتنا إليه من حيث ذاته فإمّا أن يكون الوجود واجبًا لذاته، أو ممّكنًا لذاته.
المقدّمة الثانية: وكلّ ممّكنٍ وجوده من غيره؛ لاحتياجه إلى مرجّحٍ يخرجه عن حدّ الاستواء والإمكان إلى حدّ الوجوب والوجود.
المقدّمة الثالثة: وذلك الغير إمّا أن يكون ممّكنًا في ذاته فيتسلسل الإمكان فيه، أو يدور أو ينتهي إلى واجب بالذّات هو المطلوب.
المقدّمة الرابعة: فإنّ تسلسل الإمكان كانت تمام السلسلة معلولةً محتاجةً إلى مرّجحٍ لها، ولا يمكن أن تكون علّتها آحادها ولا جملتها؛ لاتّصاف الجميع بالإمكان واشتراكه في الاحتياج.
المقدّمة الخامسة: فإن دار الأمر لزم تقدّم الشيء على نفسه ووجوده قبل تحقّقه وهو محال.
فإذًا لابدّ من رجوع سلسلة الوجود إلى واجب بالذّات وهو المطلوب.
قال الشيخ الرئيس: «تأمّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأوّل ووحدانيته، وبراءته عن الصمات إلى تأمّل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله - وإنْ كان ذلك دليلًا عليه - لكن هذا الباب أوثق وأشرف أيّ: إذا اعتبرنا حال الوجود - فشهد به الوجود من حيث هو وجوده - وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الواجب، إلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاق وفِي أَنْفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ﴾ [سورة فصلت: 53]. أقول: إنّ هذا حكمٌ لقوم، ثمّ يقول: ﴿أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كلّ شيء شَهِيدٌ﴾ [سورة فصلت: 53]. أقول: إنّ هذا حكمٌ للصدّيقين، الذين يستشهدون به لا عليه».
وقال المحقّق الطّوسي في شرحه: «المتكلّمون يستدلّون بحدوث الأجسام والأعراض على وجود الخالق، وبالنظر في أحوال الخليقة على صفاته واحدة فواحدة، والحكماء الطبيعيون أيضًا يستدلّون بوجود الحركة على محرّك، وبامتناع اتّصال المحرّكات - لا إلى نهاية - على وجود محرّك أوّل غير متحرّك، ثمّ يستدلّون من ذلك على وجود مبدأ أوّل، وأمّا الإلهيون فيستدلّون بالنظر في الوجود - وأنّه واجب أو ممّكن - على إثبات واجبٍ، ثمّ بالنظر فيما يلزم الوجوب والإمكان على صفاته، ثمّ يستدلّون بصفاته على كيفيّة صدور أفعاله عنه واحدًا بعد واحد. فذكر الشيخ ترجيح هذه الطريقة على الطريقة الأولى، بأنّه أوثق وأشرف؛ وذلك لأنّ أولى البراهين بإعطاء اليقين هو الاستدلال بالعلّة على المعلول، وأمّا عكسه - الّذي هو الاستدلال بالمعلول على العلّة - فربّما لا يعطي اليقين، وهو إذا كان للمطلوب علّةٌ لم يُعرف إلّا بها، كما تبيّن في علم البرهان، ثمّ جعل المرتبتين المذكورتين في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاق وفِي أَنْفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، ﴿أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كلّ شيء شَهِيدٌ﴾، أعني: مرتبة الاستدلالات بآيات الآفاق والأنفس على وجود الحقّ، ومرتبة الاستشهاد بالحقّ على كلّ شيء بإزاء الطريقين، ولمّا كان طريقة قومه أصدق الوجهين، وسمهم بالصدّيقين، فإنّ الصدّيق هو ملازم الصدق»[25] .
ويمكن تقرير البرهان الّذي ذكره الشيخ بطرقٍ أُخرى نذكرها باختصار:
الموجود إمّا واجب لذاته وإمّا لغيره، إذ الشيء ما لم يجب لا يوجد، ولا بدّ أن ينتهي إليه؛ فيثبت المطلوب.
بيانه: إنّ الشيء إن لم يكن وجوده واجبًا بذاته فلا بُدّ من علّةٍ توجده وتوجبه بالغير؛ لأنّ الشيء ما لم يصر الوجود له ضروريًّا، وتسدّ جميع أبواب عدمه لا يوجد، فالشيء واجبٌ بغيره، وما بالغير لا بدّ أن يرجع إلى ما بالذّات، وإلّا لتسلسلَ أو دارَ، وكلاهما محال، فيرجع الواجب بالغير إلى واجب بالذّات وهو المطلوب.
إنّ هنا موجودًا ما، فإمّا أن يكون الوجود ضروريًّا لذاته أو لا، والأوّل هو المطلوب، والثاني يحتاج إلى مرجّحٍ وجوده ضروري بالذّات، أو يرجع إليه لبطلان الدور والتسلسل، فيثبت وجود موجودٍ واجبٍ، وهو المطلوب.
إنّ الوجود أمرٌ واقعي، فإمّا أن يكون موجودًا بذاته، وإمّا بوجودٍ يعرض على ذاته، وإمّا غير موجود، فعلى الأوّل يثبت المطلوب، وعلى الثاني ينتهي إلى موجودٍ بذاته وإلّا لزم التسلسل أو الدور المحال، وإمّا على الثالث فإنّه وإن لم يكن موجودًا بذاته ولا بوجودٍ عارضٍ على ذاته؛ ولكن لمكان واقعيّته لا بدّ أن يكون موجودًا بمنشأ انتزاعه، فننقل الكلام إلى منشأ انتزاعه فنقول: هذا المنشأ إمّا أن يكون كافيًا لانتزاع الوجود، دون احتياجٍ إلى انتسابه إلى شيءٍ آخر فيكون واجبًا. وإمّا أن يكون منشأً بانتسابه إلى الغير، فيرجع الكلام إلى ذلك الغير، فما لم ينتهِ إلى منشأ لانتزاع الوجود في ذاته لا ينقطع التسلسل المحال، فيثبت أن هناك موجودًا بذاته وهو المطلوب.
التقرير الثاني: المنسوب إلى الفارابي
ما ذكره الفارابي في الكتاب المنسوب إليه، (أي فصوص الحكم): وهو يعتمد النظر في حقيقة الوجود، لا في مفهوم الموجود، فإنّ حقيقة الوجود البحتة تثبت وجوب الوجود وهو الحقّ تعالى، فلا يحتاج في برهانه إلى إبطال الدور والتسلسل، بل البرهان على إثباته يكون دليلًا على بطلانهما، ويمكن تقريره بالمقدّمات التالية:
المقدّمة الأولى: لو لاحظنا الوجود المحض لوجدناه في ذاته متحقّقًا، بل علّة لتمام الأغيار التي هي غيره.
المقدّمة الثانية: وما كان في ذاته متحقّقًا فهو الواجب تعالى.
قال الفارابي في كتاب (الفصوص): «لك أن تلحظ عالم الخلق فترى فيه أمارات الصنعة، ولك أن تعرض عنه، وتلحظ عالم الوجود المحض، وتعلم أنّه لا بدّ من وجود بالذّات، وتعلم كيف ينبغي [أن يكون] عليه الوجود بالذّات. فإن اعتبرت عالم الخلق فأنت صاعد، وإن اعتبرت عالم الوجود المحض فأنت نازل، تعرف بالنزول أن ليس هذا ذاك، وتعرف بالصعود أنّ هذا هذا. ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاق وفِي أَنْفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كلّ شيء شَهِيدٌ﴾ [سورة فُصِّلت: 53]»[26].
ينبغي أن يُعلَم أنّ بين برهان الصدّيقين بتقرير الشيخ، وبرهان الصدّيقين بتقرير الفارابي فَرْقًا جوهريًّا هو أنّ الشيخ اعتمد في برهانه على مفهوم الموجود، ولمّا كان مفهوم الموجود لا يأبى عن فرض كون الموجوديّة له عارضة لا ذاتيّة؛ احتاج الشيخ إلى إبطال الدور والتسلسل في الموجوديّة؛ لإثبات الواجب. بينما الفارابي لمّا بدأ بحقيقة الوجود وأنّها عين التحقّق والموجوديّة والحقيّة، بل كلّ شيء يكتسب الموجوديّة والحقيّة منها لم يحتج إلى إبطال الدور والتسلسل.
ويمكن تقرير البرهان بطرقٍ أُخرى قريبةٍ ممّا ذكرناه، يمكن أن تكون مراد الفارابي:
إنَّ صرف الوجود، بما هو قائمٌ بذاته، لا بدّ أن يكون موجودًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لما وُجد أيّ موجود آخر، وبذلك يتعيَّن أن يكون هو واجب الوجود.
إنّنا نُدرك بالبداهة وجودًا حقيقيًّا قائماً بذاته، لا يتوقّف على غيره في تحقّقه؛ إذ لو كان له سبب لَزِم أن يتقدّم وجوده على ذاته، وهو محال. وبذلك يتعيّن أن يكون هذا الوجود واجبًا بالذات.
حقيقة الوجود إمّا واجبة، وإمّا تستلزم الحقيقة الواجبة، فالواجب بالذّات موجود، وهو المطلوب.
وهذا البرهان الّذي ذكره الفارابي ونقَّحه، ذكره أيضًا بعض العرفاء في كتبه وقرَّره لإثبات الوحدة الشخصيّة من خلاله، فقد ذكر صاحب كتاب (قواعد التوحيد) - أبو حامد الأصفهاني في كتابه هذا - برهانًا مشابها لإثبات أنّ الوجود واجب، حيث قال: «ومن البيّن أنّ حقيقته - أي حقيقة الوجود - من حيث هي هي لا تقبل العدم لذاتها؛ لامتناع اتّصاف أحد النقيضين بالآخر، وامتناع انقلاب طبيعته إلى طبيعة الآخر، ومتى امتنع العدم عليها لذاتها كانت واجبة لذاتها»[27] . وبيان مراده: أنّ حقيقة الوجود من حيث هي هي لا تقبل العدم لذاتها، وكلّ ما لا يقبل العدم لذاته فهو واجب، فحقيقة الوجود واجبة.
أما الكبرى، فواضحةٌ لا تحتاج إلى بيان، وبيِّنةٌ لا تحتاج إلى برهان.
وأمّا الصغرى، فقد ذكر المصنف دليلًا لإثباتها، بيانه: أنّ حقيقة الوجود لو كانت تقبل العدم لذاته وتتّصف به، لزم المحال. بيان الملازمة: أنّ حقيقة الوجود بعد اتّصافها بالعدم إمّا أن تبقى على حقيقتها فيلزم اتّصاف الوجود بالعدم، وهو اجتماع النقيضين المحال. وإمّا أن تنقلب عن حقيقتها إلى العدم فيلزم الانقلاب في الذّات وهو محال.
فإذًا لو أمكن اتّصاف حقيقة الوجود بما هي هي بالعدم لزم إمّا اجتماع النقيضين وإمّا الانقلاب، وكلاهما محال، فيثبت أنّ حقيقة الوجود لا تقبل الاتّصاف بالعدم لذاتها. وقد بأن أنّ كلّ ما لا يقبل العدم لذاته فهو واجب لذاته، فحقيقة الوجود واجبةٌ لذاتها.
ولكن بعض المحقّقين اعترض على هذا البرهان بدعوى: «أنّ الّذي تقدَّم - أيّ من الماتن والشارح لكتاب قواعد التوحيد - إنّما هو إثبات اشتراك مفهوم الوجود مع بيان أصالته ضمنًا، والّذي يلزم البحث هو أنّ ذلك الأصيل المتحقّق خارجًا هل هو كثرة محضة - كما هو رأي القائل بتباين الوجودات - أو هو كثرة راجعة إلى الوحدة السائرة فيها حقيقةً - كما هو رأي القائل بالتشكيك - أو هو وحدة محضة بلا كثرة فيها إلّا في مجاليها ومراياها - كما هو رأي القائل بالوحدة الشخصيّة - فحينئذٍ لا يمكن قبل إثبات شيء من ذلك أن يُقال حقيقة الوجود من حيث هي هي كذا؛ لأنّ الكلام بعدُ في وجودها كذلك. تدبّر» [28] .
إلّا أنّ هذا الإشكال إنّما نشأ من تصوّر حقيقة الوجود من حيث هي هي، كالكلّي الماهوي الذي يفتقر في تحقّقه إلى عروض الموجوديّة عليه، فيسأل عن أنّ عروض الموجوديّة له في الأعيان - وكونها قابلةً للتشخّص في الأعيان - هل هو من جهة الماهيّات؟ فيقال بالتباين، أو من جهة الشدّة والضعف؟ فيقال بالوحدة التشكيكيّة أو من جهة تطوراته؟ فيقال بالوحدة الشخصيّة مع المظاهر والتجلّيات، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ تصوّر هذه الحقيقة كافٍ للإذعان بأنّها لا تحتاج إلى عروض الموجوديّة عليها من خارج حتّى تكون في الأعيان؛ لأنّ حقيقة الوجود من حيث هي هي عين التحقّق في الأعيان، وما هذه حقيقته كيف لا يكون متحقّقًا في الأعيان؟! ولهذا تجد المصنّف لرسالة قواعد التوحيد لم يشر إلى البحث عن أصالة الوجود، وأنّ الوجود في الأعيان أم لا، لوضوح أنّ ما حقيقته التحقّق في الأعيان لا يعقل ألّا يكون فيها.
ثمّ إنّ الحكم على طبيعة الوجود من حيث هي هي بأنّها لا تقبل العدم لذاتها، من أحكام حقيقة الوجود العامّة غير التقسيميّة، أيّ التي تعرضها بلا توسّط تكثّرها، لا أنّها تكتسب ذلك من حيث مصاديقها المتباينة، أو مراتبها المشكّكة، أو أطوراها وتجليّاتها، فإنّ الوجود - بمعنى التحقّق - وصفٌ لها بالذّات، وللكثرات – كيفما فرضت - بتبعها أو بعرضها، فهي ليست كطبيعة الإنسانيّة التي تعرضها الموجوديّة الخارجيّة بوساطة أشخاصها، بل الأمر بالعكس في حقيقة الوجود.
ثمّ إنّ الفرق بين برهان الفارابي وما ذكره العارف الأصفهاني - أبو حامد تركة - هو أنّ الفارابي لا يعتقد بأنّ حقيقة الوجود واحدة شخصيّة، بل يعتقد أنّ الوجود متعدّد؛ ولكن التدبّر في الحقيقة الجامعة لهذه الوجودات يعطي البرهان على ضرورة وجود موجود واجب بالذّات، بخلاف العارف الأصفهاني - أبو حامد تركة - فإنّه استدلٌّ من خلال وجوب حقيقة الوجود على كون الوجود واحدًا شخصيًّا، وأنّه مطلق بالإطلاق الوجودي السعيّ الإحاطيّ ([29] .
التقرير الثالث: ما ذكره صدر المتألّهين:
ما ذكره صدر المتألّهين من بيانٍ لبرهان الصدّيقين، في سائر كتبه يمكن تقريره بوجوهٍ ثلاثة، تختلف في بعض مقدّماتها وإن اتفق الجميع في اعتماده على أصالة الوجود:
الوجه الأوّل: ما ذكره في كتاب (المشاعر)[30] :
ويعتمد على قاعدة الصَّرافة للوجود، وبيانه يعتمد على مقدّمات:
المقدّمة الأولى: لا شكّ بأنّ هناك واقعيّة في الخارج لا تُدفع، تنفعل بنا وننفعل بها.
المقدّمة الثانية: وقد ثبت سابقًا أنّ المصداق بالذّات لهذه الواقعيّة هو الوجود دون الماهيّة.
المقدّمة الثالثة: صرف الوجود - وهو ما لا يشوبه خلطٌ داخلي أو خارجي - لا يتثنّى ولا يتكرّر، إذ لو فرض ثانٍ له لزم من ذلك ألّا يكون صرفًا، بل مخلوطًا ممّا به الامتياز، وما به الاشتراك.
المقدّمة الرابعة: الموجود إمّا حقيقة الوجود وإمّا غيرها، ونعني بحقيقة الوجود ما لا يشوبه شيءٌ غير صرف الوجود، من حدٍّ، أو نهايةٍ، أو نقصٍ، أو عمومٍ، أو خصوصٍ، إذ كلّ هذه الأمور تعرضها بعد خروجها عن حدّ صرافتها.
المقدّمة الخامسة: حقيقة الوجود الصرفة واجبة الوجود لذاتها؛ لأنّها لا تقبل العدم لذاتها.
إذا تمّت هذه المقدّمات فيمكن صياغة البرهان بالصورة التالية: لو لم تكن حقيقة الوجود موجودةً لم يوجد شيءٌ من الأشياء، والتالي باطل؛ فالمقدّم مثله.
بيان الملازمة: إذ كلّ ماعدا حقيقة الوجود أو ماهيّة من الماهيّات، أو وجود خاصّ، مشوبٌ بعدم أو نقص، والماهيّات موجودةٌ بالوجود لا بنفسها؛ لمكان أصالته واعتباريّتها، والوجود الخاصّ لا بدّ أن يكون مركّبًا من حقيقة الوجود وذلك العدم أو النقص، لصحّة حملها عليه؛ ولأنّ المركّب والمقيّد لا يوجد إلّا بوجود أجزاءئه وقيوده، فلا بدّ من تحقّق حقيقة الوجود في مرحلةٍ سابقةٍ على تحقّق الوجود الخاصّ، فاتّضح من هذا أنّ حقيقة الوجود موجودةٌ، وقد ثبت أنّها واجبة.
الوجه الثاني: ما ذكره في كتاب (الشواهد الربوبيّة) [31] :
وهو يعتمد على الافتقار إلى الغير وعدمه، وبيانه يعتمد على المقدّمات الآتية:
المقدّمة الأولى: الموجود إمّا متعلّقٌ بغيره، مفتقرٌ إليه ومتقوّمٌ به بوجهٍ من الوجوه، وهو الممّكن الفقير. وإمّا غير متعلّقٍ بالغير أصلًا، ولا متقوّم به، بل قائمٌ بذاته، وهو الواجب الغني.
المقدّمة الثانية: الموجود المتعلّق بالغير والمفتقر إليه إمّا أن يكون منشأ افتقاره هو الحدوث - أي الوجود بعد العدم - وإمّا الإمكان الماهوي - وهو عدم ضرورة الوجود والعدم لذاته - أو الماهيّة.
المقدّمة الثالثة: فإنْ كان منشأ الفقر والتعلّق بالغير هو الحدوث فينحلّ إلى العدم السابق والوجود اللّاحق، وكون ذلك الوجود بعد العدم، وحيث إنّ العدم بما هو عدم نفيٌ محض، فلا يصلح للتعلّق بالغير، وكون الوجود بعد العدم من اللّوازم الضروريّة له، ولوازم الشيء لا تقبل الجعل بنفسها، فبقي ما يصلح للتعلّق بالغير، هو وجود الشيء.
المقدّمة الرابعة: ولا يمكن أن يكون منشأ التعلّق بالغير هو الإمكان الماهوي؛ لأنّه أمرٌ اعتباريّ سلبيّ، لا يصلح للتعلّق بالغير.
المقدّمة الخامسة: ولا يمكن أن يكون منشأ التعلّق بالغير والفقر إليه هو الماهيّة؛ لأنّها ليست سببًا للحاجة إلى الغير؛ ولكونها غير مجعولةٍ ولا موجودةٍ إلّا بعرض الوجود، كما تقدّم. فبقي أنّ المتعلّق بالغير هو وجوده لا ماهيّته، ولا إمكانه ولا شيء آخر.
المقدّمة السادسة: إنّ الوجود المتعلّق بالغير المتقوّم به، يستدعي أن يكون ذلك الغير الّذي يتقوّم به وجودًا أيضًا، إذ لا غير الوجود يعقل أن يكون مقوّمًا للوجود؛ لأنّ غيره إمّا عدم وإمّا عدمي، ولا يمكن تقوّم الوجود بالعدم والعدمي.
إذا اتّضحت هذه المقدّمات فيمكن صياغة البرهان على الشكل الآتي: إن لم يوجد في الوجود وجودٌ قائمٌ بذاته لم يوجد موجودٌ أصلًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
بيان الملازمة: إذ الوجود إمّا أن يكون قائمًا بذاته فيثبت المطلوب. وإما أن يكون متقوّمًا بغيره، فإن كان ذلك الغير الوجود – كما تبين في المقدّمة السادسة - يثبت المطلوب، وإلّا لدار أو تسلسل، وكلاهما باطل، فلابدّ أن ينتهي إلى موجودٍ متقوّمٍ بذاته.
ثمّ إنّ تمام السلسلة لمّا كانت مشتركةً - بكون جميع آحادها متقوّمةً بالغير – فلا بدّ من وجود ذلك الغير الّذي تتقوّم به، ولا بدّ أن يكون متقوّمًا بنفسه، وهو المطلوب.
الوجه الثالث: ما ذكره في كتابه (الأسفار):
وهو يعتمد على الفقر والتعلّق بالغير، وعلى التشكيك في حقيقة الوجود، ويمكن بيانه من خلال المقدّمات الآتية:
المقدّمة الأولى: الوجود حقيقةٌ عينيّةٌ لمكان أصالته – كما تقدّم - واعتباريّة الماهيّة.
المقدّمة الثانية: حقيقة الوجود واحدةٌ لا تقبل التثنّي ولا التكرّر، وبسيطةٌ لا تقبل التركيب لمكان صرافتها.
المقدّمة الثالثة: حقيقة الوجود مع بساطتها فإنّها حقيقةٌ مشكّكةٌ لا اختلاف بين أفرادها إلّا في الكمال والنقص، والشدّة والضعف، والأتميّة والأنقصيّة، أو بأمورٍ زائدةٍ على حقيقة الوجود هي الماهيّات الاعتباريّة.
المقدّمة الرابعة: الموجود الواجب صرف الوجود، وهو الفرد الأكمل والأتمّ لحقيقة الوجود، وهو الّذي لا يكون أتمّ منه أصلًا، ولا يكون متعلّقًا بالغير أصلًا، بينما الممّكنات هي بقية المراتب التي لها جهة نقص ومعلوليّة وتعلّق بالغير، الّذي هو أتمّ منها.
المقدّمة الخامسة: الناقص في الحقيقة المشكّكة، هو عبارة عن التامّ مع نقصٍ أو عدم ما، وحيث أنّ التمام قبل النقص، والفعل قبل القوّة، والوجود قبل العدم، فلا بدّ أن يكون التامّ - الّذي كلّ جهاته بالفعل - قبل الناقص، وأن يكون غير المتقوِّم بالغير قبل المتقوِّم به.
إذا اتّضحت هذه المقدّمات فيمكن إثبات المطلوب، بأن نقول: إنّ الموجود إمّا مفتقرٌ إلى الغير ومتقوّمٌ به وإمّا لا، والأوّل لا بدّ أن يرجع إلى الثاني، وإلّا لدار أو تسلسل، وكلاهما محال، فيثبت أنّ في الوجود مرتبةٌ غير متقوّمةٍ بالغير، بل قائمةٌ بنفسها غنيةٌ عن العالمين، هي الواجب بذاته، والمقوّم لغيره ممّا سواه، إذ الغير لما كان معلولًا - والمعلول ناقص الوجود عن مرتبة علّته، مفتقر الذّات إليها، متعلّق الوجود بها – فلا بدّ من وجود علّةٍ له واجبة الوجود، غنيةٍ غير مفتقرةٍ إلى الغير، ولا متقوّمة به.
توجيه الاعتراض على هذا الوجه من جهتين:
ابتناؤه على التشكيك الخاصّي في حقيقة الوجود، وهو ممّتنع، إذ كيف يعقل أن تكون حقيقة واحدة مختلفةً بالكمال والنقص بحسب أصل الحقيقة، بنحو يكون ما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك؟!
لو سلّم حصول التشكيك الخاصّي في الوجود فيمكن أن يعترض عليه من جهة اقتضاء الوجود للمتنافيين، أو عدم اقتضائه لشيءٍ منهما، وكلاهما فاسد.
بيان ذلك: إمّا أن يكون الوجود بذاته يقتضي الوجوب فيكون واجبًا في تمام مراتبه، ولا يعقل انقسامه إلى الواجب والممّكن. وإمّا أن يكون الوجود مقتضيًا للفقر والإمكان الفقري فيكون كذلك في جميع المراتب. وإمّا ألّا يكون مقتضيًا لا للوجوب ولا للإمكان؛ فيكون إمكانه ووجوبه معلّلًا بالغير وهو محال؛ لاستلزامه احتياج الوجودِ إلى الغير، ولا معنى لفرض كون الوجود تارةً يقتضي الوجوب، وتارةً يقتضي الإمكان؛ لأنّه يعني اقتضاءه للمتنافيين وهو محال.
ومبنى الاعتراض بجهتيه على تصوّر أنّ الوجود حقيقةٌ واحدة، كما أنّ الإنسان حقيقةٌ واحدة، بأنّ وحدة كلّ منهما وحدةٌ ذهنيّةٌ عارضةٌ على الطبيعة، زائدةٌ على ذاتها، لاحقةٌ لها بعد حذف العوارض المشخّصة الموجبة لتعدّدها وتكثّرها في العدد، فتكون كلّ من الكثرة والوحدة وحدةً وكثرةً عدديّةً عارضةً على الطبيعة، بينما الأمر ليس كذلك، فإنّ وحدة الوجود وحدةٌ إحاطيّةٌ لا يقبلها شيءٌ من الكثرات، بل تكون مقوّمةً للجميع، فباعتبار ذاتها تقتضي التحقّق والوجوب، وباعتبار مراتبها تارةً تكون مقتضيةً للوجوب، وذلك في المرتبة الواجبيّة، وتارةً تقتضي الإمكان، وذلك في المراتب الأُخرى، ودعوى لزوم اقتضاء الطبيعة للمتنافيين لا معنى لها، بعد إن كان التقابل المتصوّر بين الوصفين إنّما يكون باعتبار الوحدة العدديّة العارضة للطبيعة، والمانعة من كونها واجبةً وممّكنة، أمّا في الوحدة الإحاطيّة السارية - والموجبة لتحقّق الطبائع الإمكانيّة والوجوبيّة - فلا يرد الإشكال.
وهذا الوجه من تقرير البرهان يختلف عن سابقيه، ففرقه عن الوجه الأوّل بأنّ الأوّل يثبت وجوب الوجود لحقيقة الوجود الصرفة التي لا يقابلها شيء، وليس للمرتبة الأشدّ منه، فيبنى على أساس الوحدة الشخصيّة للوجود أو التشكيكيّة، بينما هذا الوجه - وكذلك الوجه الثاني - لمّا كان يبتني على تقسيم الموجود إلى المفتقر وغيره فهما يثبتان الوجوب للمرتبة الأشدّ من مراتب حقيقة الوجود الواحد الصرفة، وأمّا فرقه عن الوجه الثاني - بعد اشتراكهما في الاعتماد على فقر الوجود وتعلّقه بالغير في الإثبات - أنّ الثاني يعتمد على تحليل منشأ الفقر وارجاعه إلى وجود الفقير، دون ماهيّته وإمكانه الماهوي، بينما هذا الوجه فإنّه يعتمد على التشكيك المقتضي لكون المعلول أنقص من علّته، وأضعف منها، ومتقوّمًا بها، لإثبات الحاجة إلى موجود غاية في الشدّة والتماميّة، يتقوّم به الفقير، ويُكَّمل به نقصه، ويسدّ به فقره إلى التحقّق والوجود والغنى.
نعم، يمكن القول بأنّ الجميع يرتكز على ما حرَّره صدر المتألّهين من الوجود الرابط والمستقلّ، بتوجيه الأوّل إلى كون جميع التعيّنات والموجودات - عدا حقيقة الوجود الصرفة - وجودها وتحقّقها إنّما هو بوجود وتحقّق حقيقة الوجود المتحقّقة بذاتها.
التقرير الرابع: ما أشار إليه السبزواري في المنظومة:
وهو يعتمد أصالة الوجود والتشكيك، ويمكن تقريره بعدّة مقدمات:
إنّ حقيقة الوجود إمّا أن يكون لها مرتبةٌ واجبةٌ بالذات وإمّا لا، فعلى الأول ثبت المطلوب وعلى الثاني تكون ممكنة لانحصار الموجود في الواجب والممكن.
إنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تتصف بالإمكان الذاتي بمعنى تساوي النسبة الى الوجود والعدم ولا سلب الضرورتين؛ لبداهة عدم تساوي حقيقة الوجود بالنسبة إلى الوجود والعدم، بل تتصف بالإمكان الفقري، بمعنى كونه الوجود عين الربط والتعلّق.
إنّ الربط والحاجة يستدعي الغني بالذات، وإلّا لم يتحقّق الفقير بالذات، والغني بالذات هو الوجب فثبت المطلوب.
وهذا التقرير لا يحتاج الى إبطال الدور والتسلسل؛ لتقوّم الحقيقة الربطيّة بجميع مراتبها بالغني الأول مباشرةً وبلا واسطة.
التقرير الخامس: من طريق أصالة الماهيّة
وهو المبنى الذي اختاره المحقّق الداماد، ويمكن تقريب الدليل بالشكل الآتي:
الماهية بما هي هي ليست إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة، فلو لم يتحقّق فيها ما يكون بذاته ولذاته منشأ لانتزاع الموجودية لم يتحقّق شيءٌ من الماهيات، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
بيان الملازمة: أنّ الماهية من حيث هي لا تكون منشأً لانتزاع الماهية، فلا بد من ضمّ ما يصحّح ذلك فإن كان المنضمّ إليها أيضًا من حيث هو هو لا يصلح لانتزاع الموجودية لزم التسلسل أو الدور، وهو محالٌ فيثبت لزوم وجود ذاتٍ منشأ لانتزاع الموجودية بذاتها، وهو الواجب فثبت المطلوب.
وببيانٍ آخر: لو لم يتحقّق في الماهيات بذاتها منشأ لانتزاع الموجودية لم تتحقّق موجودية أصلًا؛ لأنّ حصول الموجودية إمّا بضمّ ما يماثل الماهيّة بما هي هي، وإمّا بضم غيرها، وإمّا بنفسها من غير ضمّ، والأول والثاني محال؛ لِلزوم الدور أو التسلسل؛ فيتعيّن الثالث وهو المطلوب؛ إذ يثبت فيه وجودٍ ما بنفسه يكون منشأً لانتزاع الموجودية، وهو الواجب تعالى.
التقرير السادس: عن طريق النقص والكمال
وهو يعتمد على التشكيك؛ إذ إنّ الموجودات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الناقص المحض وهو الهيولى (المادة الأولى)، والكامل المحض وهو الوجب، وما بينهما، فنقول: لو لم يوجد الكامل المحض لم يوجد القسمان الآخران؛ لأنّه الرافع لنقصهما المكمّل لهما، والتالي باطل بالبداهة لوجود الناقصات في عالم الإمكان، فالمقدم مثله.
التقرير السابع: عن طريق الاطلاق والتقييد
وهو مأخوذٌ من كلام العرفاء، ومبنيٌّ على وحدة الوجود الشخصية، وعلى أنّ الموجودات عبارةٌ عن الوجود المتقيّد بالماهيات، وهو يعتمد على مقدمةٍ مهمةٍ حاصلها: أنّ الموجود على ثلاثة أقسام: إمّا وجود الحق تعالى، وهو الموجود اللابشرط، والمطلق بالأطلاق الحقيقي بمعنى أنّ الاطلاق ليس قيدًا زائدًا على ذاته، بل مجرد عنوان مشير إلى سعته وأحديّة جمعه، وإمّا الموجود بشرط لا وهو المقيّد بالأطلاق، وهو فعل الحقّ الواحد، والمعبّر عنه بالنفس الرحماني والحقّ المخلوق به وغيرها من الأسماء، وإمّا الموجود المقيّد بالماهيات وهي المخلوقات التي تمثّل ماهياتها القصور والفتور عن مرتبة الإطلاق الحقيقي.
إذا اتضحت المقدّمة فنقول: إنّ الموجود إمّا مطلقٌ بالإطلاق الحقيقي وإمّا يستلزمه؛ لأنّ المقيّد – لو بقيد الإطلاق - إنّما هو المطلق الحقيقي مع تقييدٍ خاصّ، ولو كان القيد هو الإطلاق غير الحقيقي، والمطلق الحقيقي هو الحقّ تعالى؛ لصحة انتزاع الموجوديّة من ذاته بلا حيثيّة تقييديّة، ولا تعليليّة.
التقرير الثامن: عن طريق القوة والفعل
وبيانه: إنّ الموجود إمّا بالفعل من جميع الوجوه، وهو الواجب تعالى، وإمّا بالقوّة من جميع الوجوه وهو المادة، وإمّا بالقوة من وجهٍ - ولو من جهة تعلّقه بالغير وتوقّفه في كماله على الغير- وبالفعل من وجه، والثاني والثالث لا يوجدان بدون الأول؛ لتعلّقهما به في الوجود والكمال الوجودي؛ فيثبت المطلوب.
التقرير التاسع: عن طريق الظهور والخفاء
ويعتمد على مباني العرفاء في تفسير الوجوب والإمكان بمعنى الظهور بالذات وبالغير، وتقريره يحتاج إلى مقدّمتين:
الظهور والبطون تارةً بلحاظ ضعف المدارك فيكون منشأ البطون والاختفاء قصور المدارك عن الإدراك، وتارةً يكون بلحاظ الشيء في نفسه، وهو محل الكلام.
الموجود إمّا ظاهرٌ بنفسه لنفسه، فتنتزع الموجودية منه بلحاظ ذاته وبذاته، فهو الواجب، وإمّا ظاهرٌ بغيره لنفسه، أو لغيره، وهو جملة الممكنات.
إذا اتضحت هاتان المقدّمتان، نقول: الموجود إمّا ظاهرٌ لذاته مُظهِرٌ لغيره فهو المطلوب، وإمّا ظاهرٌ بغيره فيستلزم الظاهر بذاته المُظهِر لغيره، وهو المطلوب أيضًا.
التقرير العاشر: عن طريق قاعدة النور والظلمة للشيخ الإشراقي
وهي قريبة المأخذ من الطريقة السابقة، ولكنّها تختلف عنها في بعض المقّدمات، ونحتاج في بيانها إلى بيان تلك المقدّمات:
الأشياء إمّا ظاهرةٌ بنفسها مظهِرةٌ لغيرها فهي النور، وإما ليست كذلك فهي الظلمة، وهي ليست منشأً للآثار، إذ النور هو منشأ الآثار جميعًا.
أقسام النور: قسّم الشيخ الإشراقي النور إلى الغني وهو الذي لا يتوقّف ذاته وكماله على الغير، والفقير وهو ما يتوقف ذاته أو كماله على الغير، ثم حاول أنْ يقسّم الفقير باعتبار شيئيّته لا وجوده إلى ما هو نور وضياء في حقيقة نفسه، وليست النورية عارضة لذاته، وما هو ليس بنورٍ وضياءٍ في حقيقة نفسه، بل ظلمة وعدم نور، وإنّما يتنوّر بالنور العارض عليه. ثم النور ينقسم إلى ما هو هيأة لغيرهأ وماهو ليس بهيأة لغيره، فالأول هي الأنوار العرضية، حسيّةً كانت كنور الشمس، أم عقليةً كالعلم، والثاني هي الإنوار الجوهريّة، مدبرةً كانت ـ وهي النفوس الفلكية، والنفوس العنصرية ـ أم مجردة وهي العقول سواء أكانت العقول الطولية المُعبَّر عنها بالأنوار القاهرة أم العقول العرضية المُعبَّر عنها بأرباب الأنواع والمُثُل الإلهيّة[32].
إذا اتّضحت هذه المقّدمات نقول: لما كان النور القائم بذاته لا يمكن أن يكون مفتقرًا في ذاته إلى جوهرٍ جسمانيّ غاسقٍ؛ لأنّه فاقدٌ للنوريّة في ذاته، فكيف يفيدها؟ كما أنّه أخسّ من النور؛ لأنّ الظلمة أخسّ من النور فكيف يمكن أن يفيدها؟ فلا بدّ أن يكون النور القائم بذاته غير مفتقرٍ إلى أمرٍ نوري.
وذلك الأمر النوري إنْ كان نورًا عرضيًّا قائمًا بغيره صار مفتقرًا إلى ذلك الغير، فهو ليس بغني، بل فقير، ونور الأنوار لا بدّ أن يكون غنيًّا هذا خلف، فثبت أنّه لا بدّ أن يكون مفتقرًا إلى نورٍ قائمٍ بذاته، فلو هذا النور إلى نورٍ آخر لتسلسل أو دار، وكلاهما محال. فثبت أنّ في الأنوار نورًا قائمًا بنفسه، ترجع إليه جميع الأنوار غنيًّا عنها، وغير مفتقرٍ في ذاته أو هيأته إليها، بل هو منبع نوريّتها، وهو نور الأنوار؛ لأنّ جميع الأنوار منه، ونور المحيط بالأنوار لشدّة نوريّته وظهوره، وكمال إشراقه على الغير بمقتضى مبدئيته، كما أنّه النور المنزّه عن نقائص الإمكان، وإلّا لكان محتاجًا إلى الغير، وقد ثبت أنّه غني، وهو أعظم الأنوار، إذ لا أعظم منه، كما أنّه النور القهّار لجميع الأنوار لشدّة نوريّته.
ويمكن اختصار البرهان بالنحو الآتي: لما كانت الظلمة ليست منشأً للآثار، فلا بدّ أن يكون النور منشأها، والنور إنْ كان غنيًّا بذاته ثبت المطلوب، وإلّا استلزم الغني.
التقرير الحادي عشر: تقرير العلّامة الطباطبائي:
وهو يعتمد على الواقعيّة وعدم قابليتها للرفع [33] ، ويمكن بيانه من خلال المقدّمات التالية:
المقدّمة الأولى: لا شكّ في وجود واقعيّةٍ ندفع بها السفسطة، ونجد كلّ ذي شعورٍ مضطرًا لإثباتها والتصديق بها.
المقدّمة الثانية: هذه الواقعيّة لا تقبل العدم والرفع والبطلان لذاتها، بل إنّ فرض رفعها وبطلانها مستلزمٌ لثبوتها ووضعها؛ لأنّ فرض بطلان كلّ واقعيّةٍ ثابتة دائمًا أو في وقتٍ ما يعني أنّ كلّ واقعيّةٍ باطلةٌ واقعًا، فينتج أنّ الواقعيّة ثابتة، وهذا كما أنّ السوفسطي إذا اعتقد أنّ الأشياء موهومةٌ أو شكّ في واقعيتها، فإنّه لا يرى اعتقاده هذا لا واقع له، بل يراه أمرًا ثابتًا له واقعيّة بنفسه، فتكون الواقعيّة ثابتةً من حيث إنّها مرفوعةٌ أيضًا.
المقدّمة الثالثة: وكلّ أمرٍ لا يقبل العدم والرفع لذاته فهو واجب.
إذًا هناك واقعيّةٌ واجبةٌ بالذّات، والأشياء الأخرى التي لها واقعيّةٌ مفتقرةٌ إليها في واقعيّتها ووجودها.
وهذا التقرير يجعل برهان الصدّيقين لا يعتمد على أيّ مقدّمةٍ نظريّةٍ ولا بديهيّةٍ سوى الإيمان بالواقعيّة، والتي هي من أبده البديهيات، بينما تقرير الشيخ الرئيس يعتمد على استحالة الدور والتسلسل، والإيمان بأصل الواقعيّة أيضًا. وتقرير المعلّم الثاني الفارابي يعتمد على أصالة الوجود، وأنّ له حقيقةً واحدةً في الأعيان، وكذا برهان صدر المتألّهين فإنّه هو الآخر يعتمد على أصالة الوجود، والإيمان بأنّ حقيقة الوجود واحدةٌ في الخارج، وغيرها من المباني التي يتوقّف عليها كلّ وجهٍ من وجوه تقريره للدليل، كالتشكيك، وكون علّة الحاجة إلى العلّة هو الإمكان الفقري دون الحدوث أو الإمكان الماهوي، وكون حقيقة المعلول حقيقةً رابطةً وعين الفقر إلى العلّة، وأنّ الناقص هو التامّ مع نقصٍ وحدٍّ عدمي، وغيرها من الأمور التي أُشير إليها في التقريرات.
وعلى أساس هذا التقرير للعلّامة الطباطبائي تصبح المسألة الأولى في الفلسفة هي وجوده تعالى، ويكون أصل وجود الواجب بديهيًا عند الإنسان، وكلّ هذه الأدلّة التي ذُكرت في كتب الحكماء والمتكلّمين ما هي إلّا تنبيهات على وجوده لا غير. قال السيّد العلّامة في تعليقته على الأسفار: «ومن هنا يظهر للمتأمّل أنّ أصل وجود الواجب بالذّات ضروري عند الإنسان، والبراهين المثبتة له تنبيهات بالحقيقة» [34] .
إلّا أنّ هذا التقرير لبرهان الصدّيقين اعترض عليه بعض الأساتذة، بأنّ فيه خلطًا بين الواقعيّة بالمعنى الأعمّ، أيّ: الواقعيّة في نفس الأمر، والتي تشمل الوجود – أي التحقّق ومنشأ الآثار أعمّ من الوجود والماهيّة – والعدم، وبين الواقعيّة بالمعنى الأخصّ - التي تعني الموجوديّة والتحقّق، وتقابل العدم - وذلك من جهة أنّ الاستدلال الّذي ذكره العلّامة الطباطبائي من كون هذه الواقعيّة حتّى مع رفعها وفرض بطلانها يلزم واقعيّتها، لا يلزم منه الواقعيّة بالمعنى الأخصّ التي تقابل العدم، بل يلزم منه الواقعيّة بالمعنى الأعمّ، التي تشمل كلّ واقعيّةٍ حتّى العدم، وحيث إنّ واقعيّة كلّ شيءٍ بحسبه، وإنّ المصداق الواقعي لكلّ مفهومٍ لا بدّ أن ينسجم مع طبيعته، ومفهوم الواقعيّة بالمعنى الأعمّ لا يعطي أكثر من ضرورة واقعٍ، سواءٌ كان هو الوجود والتحقّق أم العدم والبطلان المحض؛ فلذا لا ينتج هذا التقرير المطلوب - وهو الواقعيّة بالمعنى الأخصّ - للواجب تعالى.
وبعبارة أخرى: إنّ الواقعيّة المأخوذة في مقدّمات هذا التقرير هي الواقعيّة بالمعنى الأعمّ، والمراد إثباته هو الواقعيّة بالمعنى الأخصّ، وإثبات الأعمّ لا يثبت الأخصّ، ثمّ استشهد المعترض على مطلبه – أي أن الواقعيّة على معنيين - بما ذكره المحقّق السبزواري في حاشيته على الأسفار، حيث قال: «كمفهوم اجتماع النقيضين والمثلين، ومفاهيم الدور والتسلسل، والخلاء وغيرها، وكمفهوم نفس العدم الصادق عليها وعلى أعدام الممّكنات. وبالمفهوم يتصحّح النفس الأمرية للعدم، ويتصحّح الإمكان المقتضي للطرفين، والنفس الأمرية في معنونه عدم المعنون الوجودي، فحقيقة الباطل ومعنونه ومصداقه - أو ما شئت فسمه - بنحو البطلان، فإنّ كلّ مصداق لا بدّ ألّا ينازع طبيعته، وإلّا ارتفع الموضوع من البين وظهر الخلف، ألا ترى أنّ مصداق الحركة لو كان أمرًا قارًّا لم يكن حركةً، هذا خلف، وعلى هذا القياس»[35] .
فإنّ قوله: «إنّ النفس الأمرية في معنون العدم هو عدم المعنون الوجودي» - لا ثبوت المعنون العدمي - بيانٌ للواقعيّة بالمعنى الأعمّ الشاملة للوجود والعدم، وكذلك قول السبزواري: «فإنّ كلّ مصداقٍ لا بدّ أن لا ينازع طبيعته»، أيضًا فيها إشارة إلى الواقعيّة بالمعنى الأعمّ، وكذلك في كلام العلّامة الطباطبائي حينما يقول: «وهذه هي الواقعيّة التي ندفع بها السفسطة، ونجد كلّ ذي شعورٍ مضطرًا إلى إثباتها، وهي لا تقبل البطلان والرفع لذاتها، حتّى أنّ فرض بطلانها ورفعها مستلزمٌ لثبوتها ووضعها، فلو فرضنا بطلان كلّ واقعيّةٍ في وقتٍ أو مطلقًا كانت حينئذٍ كلّ واقعيّةٍ باطلةً واقعًا، أيّ الواقعيّة ثابتة - وكذا السوفسطي لو رأى الأشياء موهومة أو شكّ في واقعيتها فعنده الأشياء موهومة واقعًا والواقعيّة مشكوكة واقعًا - أيّ هي ثابتة من حيث هي مرفوعة - وإذ كانت أصل الواقعيّة لا تقبل العدم والبطلان لذاتها فهي واجبة بالذّات، فهناك واقعيّة واجبة بالذّات، والأشياء التي لها واقعيّة مفتقرة إليها في واقعيتها قائمة الوجود بها»[36] ، إذ قوله: «وهذه الواقعيّة التي ندفع بها السفسطة، ونجد كلّ ذي شعور مضطرًا إلى إثباتها»، إشارة إلى الواقعيّة بالمعنى الأعمّ، فإنّ كلّ ذي شعورٍ يضطر إلى إثباتها حتّى منكر الواقعيّة بالمعنى الأخصّ، أيّ الحقّ تعالى[37] .
إلّا أنّ هذا الإشكال غير واردٍ على كلام العلّامة، بل فيه خلطٌ بين الواقعيّة بالمعنى الأعمّ والواقعيّة بالمعنى الأخصّ، فإنّه من الواضح جدًّا أنّ الواقعيّة التي يرفضها السوفسطي ويدّعي ارتفاعها هي الواقعيّة بمعنى الثبوت لا الواقعيّة الشاملة للرفع، وكلام العلّامة الطباطبائي حينما يقول: «يلزم من رفعها ثبوتها»، لا يعني الثبوت الشامل للرفع والبطلان، بل الثبوت المقابل له، إذ المراد أنّ السوفسطي حينما يعتقد الرفع يرى أنّ اعتقاده – لا متعلّق اعتقاده - له واقعيّة، وإلّا لم يكن معتقدًا بارتفاع الواقعيّة، وفرّقٌ بين اعتقاد الرفع للواقعيّة، وعدم اعتقاده، فتنبّه.
ثمّ إنّ الاستشهاد بكلام المحقّق السبزواري غريبٌ في بابه؛ فإنّ مفاد كلامه عدم وجود واقعيّةٍ أعمّ؛ وذلك لأنّه أفاد أنّ نفس الأمر لمفهوم العدم عدم المعنون الوجودي، ولو كان يؤمن بالواقعيّة بالمعنى الأعمّ لكان يلزمه أن يقول نفس الأمر لمفهوم العدم هو المعنون العدمي، لا عدم معنون مقابله.
والخلاصة: أنّ العلّامة لم يستند في برهانه على واقعيّة مطابق القضيّة التي يدّعيها السوفسطي حتّى يُقال بأنّه استدلالٌ بالواقعيّة بالمعنى الأعمّ على الواقعيّة بالمعنى الأخصّ، بل استدلال العلّامة باعتقاد السوفسطي بتلك القضيّة، فإنّ ذلك الإدراك كحالةٍ إدراكيّةٍ لا بدّ أن يكون لها ثبوتٌ في ذهنه حتّى يتكئ عليها في إنكاره، وهذه الواقعيّة الثابتة بثبوت اعتقاده لا تقبل الرفع لذاته، وكلّ ما لا يقبل الرفع لذاته فهو واجب.
ثالثًا: برهان الصديقين في الكتاب والسنّة
برهان الصديقين في الكتاب العزيز:
عدّ القرآن الكريم مسألة وجود خالقٍ لهذا العالم أمرًا ثابتًا في فطرة الإنسان لا يقبل الإنكار؛ ولهذا قال في كتابه الكريم مخاطبًا المشركين: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [سورة إبراهيم: 10]، كما قال تعالى مستنطقًا لفطرة المشركين: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [سورة العنكبوت: 61]، وقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [سورة الزخرف: 9]، وإنّما الإشكال كان عند المشركين بلحاظ العبادة الراجعة للربوبيّة، فإنّ المستحقّ للعبادة هو الربّ المدبّر، وحيث إنّ جهات التدبير متعدّدة - من الرزق، ودفع الأخطار، واستدرار النسل وغيرها - كانت لهم آلهة متعدّدة، لكلّ واحدٍ منها شأنٌ خاصٌّ من شؤون التدبير يقوم به وينجزه.
نعم قد يحتاجون وراء الأرباب إلى تجسيم الإله الّذي يدبّر هذه الآلهة؛ لأجل التوجّه إليه وعبادته لكونه أكبرهم وممّدهم؛ ولكن جميع ذلك مرتبطًا بالعبادة والربوبيّة، ولا ربط له بذات الحقّ تعالى من حيث هو أو من حيث هو خالق، ولأجل ذلك ما نذكره من شواهد على إثبات وجود الحقّ تعالى عن طريق برهان الصديقين إنّما هي منبّهاتٌ لتلك الفطرة الكامنة في داخل الإنسان لا غير.
قوله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[سورة فصلت: 53]. فإنّ الآية - كما ذكرنا سابقًا - تشير إلى طرقٍ ثلاثٍ لمعرفة الله تعالى، فالأوّل معرفته تعالى من خلال الآفاق، والثاني من خلال الأنفس - وهو أوثق من الأوّل -، والثالث معرفته تعالى بنفسه، إذ هو الشاهد على كلّ شيء والمشهود في كلّ شيء. وهذه الآية وإنْ فسّرت بتفسيراتٍ متعددةٍ ككونها في مقام بيان أحقيّة القرآن على مشركي مكة ومن تبعهم خاصة، أو في مقام إظهار دينه تعالى على الدين كله ولو كره المشركون من الأمّة عامّة لا خصوص مشركي، أو في مقام بيان حقّانية المعاد، وما يشاهده الإنسان في آخر لحظات حياته الدنيا حيث تبطل الأوهام، وتضلّ عنه الدعاوى، وتبطل الأسباب، ولايبقى إلّا الله (عزّ اسمه) [38]، أو أن الآيات مرتبطة بظهور الإمام الحجة القائم؛ فإنّ المراد من الآيات في الآفاق انتقاص الأطراف عليهم والمراد بالآيات في أنفسهم بالمسخ حتى يتبين أنّ خروج القائم حقٌّ لاريب فيه[39]، وغير ذلك مما ذكر في محله[40]، إلّا أنّها جميعها ممّا يحتاج إلى قرائن خاصّة ينفيها السياق، وحتى لو سلمت هذه الوجوه فيمكن حمل بعضها على أنّها من قبيل الجري والتطبيق، وبعضها على أنّها مورد النزول الذي لا يخصص الوارد، وبعضها الآخر على أنّها من البطون القرآن التي يبيّنها أهل البيت%. والحاصل أنّ ما ذكر من وجوهٍ لا يمنع من استفادة برهان الصديقين من الفقرة الأخيرة من الآيات المذكورة.
قوله تعالى ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَو شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنٗا ثُمَّ جَعَلنَا ٱلشَّمسَ عَلَيهِ دَلِيلًا﴾ [الفرقان: 45]. فقد استدلّ بها على برهان الصديقين بالبيان التالي: أنّ الآية بذيلها بينت أنّ الله تعالى جعل الشمس دليلًا على الظلّ، وكاشفا لميًّا عنه؛ لأنّ الظلّ إنّما هو عدم انعكاس نور الشمس، والشمس دليلٌ على نورها فضلًا عن الظلّ الحادث من انعكاس شعاعها، وهذا مثلٌ يُضرب لبيان أنّ شمس الحقيقية ومبدأ الوجود دليلٌ على وجود الكائنات وبرهانٌ لمّيٌّ لإثباتها ومن خلاله نفهم كما أنّ الشمس دليلٌ على نفسها ولا تحتاج إلى دليل، كذلك الحقّ دليل على نفسه، ولا يحتاج إلى دليلٍ يدلّ عليه.
قوله تعالى ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيد﴾ (فاطر: 15). فإنّ الآية تدلّ على الفقر الوجودي لجميع الناس إلى الحقّ تعالى، وغناه المطلق، وهذا هو أحد التقريرات المذكورة سابقًا لبرهان الصديقين بالاعتماد على الفقر الوجودي.
قوله تعالى ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾ [آل عمران:18]. فإنّ الآية وإنْ دلّت على شهادة ذاته لذاته بالوحدانية، ولكنّها تدلّ بالالتزام على شهادته بذاته على ثبوت ذاته إذ الوجود الحقّ كما يشهد على ضرورة تحقّقه يشهد على صرافته وعدم تعدّده.
قوله تعالى ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج:9]. فقد دلّت الآية على أنّ الله تعالى مالك ملكًا حقيقيًا للسماوات والأرض، وهو الملك الوجودي الموجب لتقزم الممكنات بوجوده الغني، ثم رتبت على ذلك أنّ الله على كلّ شيءٍ شهيد، والشهيد سواء كان بمعنى الشاهد أم المشهود في المقام فهو يلازم الحضور المتحقّق من قيام الممكنات به، وشهوده له شهودًا ذاتيًا، فإنّ الوجود النفسي هو المشهود الأول للوجود الإمكاني المتقوّم به، فتكون الآية بيانًا لبرهان الصدّيقين عن طريق الوجود الرابط والمستقل.
برهان الصدّيقين في الروايات الشريفة
كما دلّت الآيات على فطرية معرفته تعالى بما هو خالق دلّت الروايات على فطرية تلك المعرفة، ومن أهمّ وأوضح الروايات الدالة على فطريّة معرفته تعالى والرّوايات التي دلّتنا على وجوده ما نبَّه عليها إمام الطائفة ورئيسها الإمام الصادق(عليه السلام) حينما سأله شخصٌ عن معرفة الله بعد أن أكثر الناس عليه المذاهب فقال (عليه السلام) في جوابه: «يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ ولَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَالِكَ أَنَّ شيئًا مِنَ الأشياء قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام) فَذَلِكَ الشيء هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حَيْثُ لَا مُنْجِيَ، وعَلَى الْإِغَاثَةِ حَيْثُ لَا مُغِيثَ» [41] .
إنّ هذه الرّواية تدلّ على أنّ معرفة الحقّ تعالى فطريّة، وإنّما الغفلة الحاصلة من الأنس بالدنيا ومشاغلها توجب الغفلة عنه تعالى، كما أنّها تثبت أنّ التعلّق بمنجٍ إذ لا منجي محسوس، وبمخلِّصٍ إذ لا مخلِّص منظور، دالٌّ على أنّ الحقّ تعالى هو المنجّي والمخلّص، وهذا إنّما يكون فرع وجوده وواقعيّته؛ لأنّ صفة الإنجاء والتخليص لا تقوم إلّا بالموجود.
وغيرها من الروايات الدالة على أنّ معرفته تعالى فطريّة، ولكن غفلة الإنسان وابتعاده عن الله تعالى يولّد له الغفلة عن ربّه وإدراكه الفطرية. والمهم في المقام ذكر جملةٍ من الشواهد الروائية الدالة على برهان الصديقين في المقام ولو من باب التنبيه على تلك الفطرة الإنسانية لإدراك وجوده تعالى:
ما ورد في دعاء الصباح من قوله (عليه السلام): «يا منْ دلّ على ذاتهِ بذاته»[42]. فإنّ الدلالة هي الانتقال من العلم بشيءٍ إلى العلم بشيءٍ آخر، والدلالة قد تكون وضعيّةً أو طبعيّةً أو عقليةً، والمناسب للمقام هي الدلالة العقلية، ولكن قد يقال إنّ الدلالة متقومةٌ بتغاير الدال والمدلول مع أنّ الدال والمدلول في المقام هو ذات الحقّ تعالى. ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بما مرَّ من أنّ برهان الصديقين ينتقل فيه من حقيقة الوجود إلى التعيّن الواجبي، وهذا الانتقال من قبيل الانتقال بين المفاهيم المتلازمة أو العلة التحليليّة الى معلولها التحليلي الذي لا تغاير بينها وبينه في الخارج، على الخلاف في كون برهان الصديقين برهانًا لميّا أم برهانًا إنيًّا يسلك فيه من بعض اللوازم الى الأخرى. ودلالة ذات الحقّ على ذاته بذاته قد تكون دلالةً شهوديّةً بمعنى أنّ الحقّ تعالى يشهد ذاته بذاته، وقد تكون دلالةً فكريّةً بمعنى استغناء الحقّ تعالى عن الحاجة إلى الدليل وراء ذاته تبارك وتعالى، بل لكونه محض الوجود الذي يشهد على ضرورة وجوده تعالى يكون دليلًا على ذاته بذاته.
ماورد عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ(عليه السلام) : «اعْرِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ، والرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ، وأُولِي الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والْعَدْلِ والْإِحْسَانِ»[43]. وقد فُسِّرت الرواية بعدّة تفسيراتٍ، منها: ما ذكره الكليني بقوله: "مَعْنَى قَوْلِهِ (عليه السلام) اعْرِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ[44] يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْخَاصَ وَالْأَنْوَارَ وَالْجَوَاهِرَ وَالْأَعْيَانَ، فَالْأَعْيَانُ: الْأَبْدَانُ، وَالْجَوَاهِرُ: الْأَرْوَاحُ، وَهُوَ (جَلَّ وَعَزَّ)، لَا يُشْبِهُ جِسْمًا، وَلَا رُوحًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي خَلْقِ الرُّوحِ الْحَسَّاسِ الدَّرَّاكِ أَمْرٌ، وَلَا سَبَبٌ، هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، فَإِذَا نَفَى عَنْهُ الشَّبَهَيْنِ شَبَهَ الْأَبْدَانِ وَشَبَهَ الْأَرْوَاحِ؛ فَقَدْ عَرَفَ اللَّهَ بِاللَّهِ، وَإِذَا شَبَّهَهُ بِالرُّوحِ أَوِ الْبَدَنِ أَوِ النُّورِ، فَلَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ بِاللَّهِ» . فتكون الرواية ناظرةً إلى المعرفة التنزيهيّة للحقّ تعالى.
ومنها ما ذكره الصدوق تعقيبًا على كلام الكليني في كتابه التوحيد من أنّ «القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال: عرفنا الله بالله؛ لأنّا إنْ عرفناه بعقولنا فهو (عزّ وجلّ) واهبها، وإنْ عرفناه (عزّ وجلّ) بأنبيائه ورسله وحججه (عليه السلام)، فهو (عزّ وجلّ) باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججًا، وإن عرفناه بأنفسنا فهو (عز وجل) محدثها؛ فبه عرفناه»[45].
وقد اعترض الفيض في الوافي على كلا الوجهين قائلًا: «أقول أمّا تفسير الكليني (رحمه اللَّه) ففيه إجمال وإبهام، وهو لا يوضّح المطلوب حقّ الإيضاح، وأمّا تفسير الصدوق (طاب ثراه) فهو يعطي انحصار طريق معرفة اللَّه سبحانه في معرفته به (عز وجل)، و هو خلاف ظاهر الحديث؛ فإنّ ظاهر الحديث يعطي أنّ لها طريقًا آخر غير هذا، إلّا أنّ هذا هو الأولى والأرجح والأصوب»[46].
ومنها ماذكره المحقّق الداماد وصدر المتألّهين[47] من أنّ الرواية إشارة الى برهان الصدّيقين الذين يستدلون به عليه لا بمخلوقاته . قال المحقّق الداماد: «ولمعناه - أي الحديث - سبيلٌ آخر يستبين لي، ويعينه سائر الأخبار، وهو أنّه من عرف اللّه (عزَّ وجلَّ) لا بالاستشهاد من الخلق عليه، بل إنّما بالنظر في طباع الوجود بما هو هو، ثم عرف رسله، وأولي الأمر من أوليائه بأنّ إرسال الرسول ونصب من يأمر بالعدل والمعروف من بعده واجبٌ في حكمة اللّه ورحمته، فقد عرف اللّه باللّه، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والإحسان»[48].
وقال صدر المتألهين في شرحه للحديث: «وأمّا قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما رأيت شيئًا إلّا ورأيت اللّه قبله»، فذلك لظهور سلطان الآخرة على ذاته. وأنّى يتحقّق هذا المقام إلّا لمثله (عليه السلام) من الصدّيقين الذين يستشهدون به تعالى على الأشياء لا بالأشياء عليه، كما في قوله تعالى إشارة إلى الفريقين: سَنُرِيهِمْ آياتِنا ... الآية»[49].
ولكن الفيض الكاشاني إيضًا قام برده بقوله: «وأمّا قول الحكماء فهو راجعٌ إلى إثبات ذاته (عزّ وجلّ) بذاته لا معرفته بذاته، وفرق بين إثبات الشيء ومعرفته، وليس الكلام هاهنا في إثباته سبحانه، بل في معرفته، فإنّهم يعدّون ثبوته بديهيًّا فطريًّا كما أشير إليه بقوله (عزَّ وجلَّ) ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾. ونبّه على ذلك في غير موضعٍ من كتابه (عزَّ وجلَّ) مثل قوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾. وقوله حكايةً عن الخليل (عليه السلام) بقوله: ﴿هذا رَبِّي﴾. وبقوله حكايةً عن فرعون بقوله: ﴿وَما رَبُّ الْعالَمِينَ﴾. فإنّ في أمثال هذه الآيات دلالةً على أنّ وجود الربّ أمرٌ ثابت. وإنّما الكلام في تعيينه ونعته فهم لا يطلبون إلّا معرفته، لا يشكّون في وجوده، كما قال: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ﴾»[50].
ثم بيّن الفيض وجهًا آخر خاصًّا به، فقال: «فإنْ قيل فما معنى الحديث إذن؟ فنقول ومن اللَّه التأييد: كما أنّ لكلّ شيءٍ ماهيةً هو بها، هو وهي وجهه الذي إلى ذاته، كذلك لكلّ شيءٍ حقيقة محيطة به، بها قوام ذاته، وبها ظهور آثاره وصفاته. وبها حوله عمّا يرديه ويضره وقوته على ما ينفعه ويسره، وهي وجهه الذي إلى اللَّه سبحانه وإليهما أشير بقوله (عزّ وجلّ): ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾. وبقوله سبحانه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾. وبقوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾. وبقوله (عزَّ اسمُه): ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾. وبقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، فإنّ تلك الحقيقة هي التي تبقى بعد فناء الأشياء، فقوله (عليه السلام): «اعرفوا اللَّه بالله» معناه انظروا في الأشياء إلى وجوهها التي إلى اللَّه سبحانه بعد ما أثبتم أنّ لها ربًّا صانعًا. فاطلبوا معرفته بآثاره فيها من حيث تدبيره لها، وقيوميته إيّاها، وتسخيره لها، وإحاطته بها، وقهره عليها، حتى تعرفوا اللَّه بهذه الصفات القائمة به، ولا تنظروا إلى وجوهها التي إلى أنفسها، أعني من حيث إنّها أشياء لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذواتها، بل مفتقرة إلى موجد يوجدها، فإنّكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم اللَّه بالأشياء، فلن تعرفوه إذن حقّ المعرفة؛ فإنّ معرفة مجرد كون الشيء مفتقرًا إليه في وجود الأشياء ليست بمعرفةٍ في الحقيقة، على أنّ ذلك غير محتاجٍ إليه لما عرفت أنّها فطريةٌ بخلاف النظر الأول، فإنّكم تنظرون في الأشياء أولًا إلى اللَّه (عزَّ وجلَّ) وآثاره من حيث هي آثاره، ثم إلى الأشياء وافتقارها في أنفسها، فإنّا إذا عزمنا على أمرٍ مثلًا، وسعينا في إمضائه غاية السعي، فلم يكن علمنا أنّ في الوجود شيئًا غير مرئي الذات يمنعنا عن ذلك، ويحول بيننا وبين ذلك. وعلمنا أنّه غالبٌ على أمره، وأنّه مسخّرٌ للأشياء على حسب مشيته، ومدبرٌ لها بحسب إرادته، وأنّه منزّهٌ عن صفات أمثالنا، وهذه صفات بها يعرف صاحبها حق المعرفة، فإذا عرفنا اللَّه (عزّ وجلّ) بهذا النظر فقد عرفنا اللَّه بالله. وإلى مثل هذه المعرفة أُشير في غير موضعٍ من القرآن المجيد بالآيات حيث قيل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾، وأمثال ذلك من نظائره».
أقول: ما ذكره من كون الرواية ناظرةً إلى معرفة الله تعالى، لا لإثباته مبنيٌّ على تفسيره المعرفة بالتصديق التفصيلي بصفاته، ولكن يمكن المنع من هذا المعني بقرينة ما ورد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المشهورة: «أول الدين معرفته»[51]. فإنّ المراد بالمعرفة في المقام هو التصديق بالواجب تعالى. كما أنّ فطرية الاعتقاد بالله تعالى لا تمنع من التنبيه على هذا المعتقد بوساطة ما يُعبّر عنه ببرهان الصدّيقين كما أشرنا سابقًا.
ماورد في دعاء عرفة: من قول الإمام الحسين (عليه السلام): «كيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟! أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟! مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟! وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟! عَمِيَتْ عَيْنٌ لاَ تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيبًا، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبًا»[52]. فإنّ هذه الفقرات تدلّ على أنّ الحق تعالى أظهر وأوضح من مخلوقاته، بل كلّ ظهور ووجود لها إنّما هو قبس من نوره وظهوره، وهذا يعني أنّ الاستدلال عليه بمخلوقاته استدلالٌ بالأخفى على ما هو أجلى، فالصحيح أن يُستدلّ بذاته على ذاته، ثم بذاته على مخلوقاته.
قول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: «بِكَ عَرَفْتُكَ، وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ وَدَعَوْتَنِي إِلَيْكَ، وَلَوْ لاَ أَنْتَ لَمْ أَدْرِ مَا أَنْتَ»[53]. فإنّ هذه الفقرة من الدعاء تماثل الفقرة التي مرت من دعاء الصباح، فتدلّ على أنّ معرفة الله تعالى به، والدلالة منه على ذاته وأنّ معرفته منحصرة بتعريفه ذاته بذاته لذاته، وهذا هو مفاد برهان الصدّيقين الذي يستدلّ فيه بوجود الحق أو حقيقة الوجود على إثبات وجوب وجوده تعالى أو المرتبة الواجبية من الوجود. ونكتفي بهذا القدر من الروايات في الاستدلال على برهان الصدّيقين.
رابعًا: النتائج والتوصيات
النتائج
ونخرج من البحث بعدّة نتائج مهمّة:
إنّ معرفة الله تعالى بما هو خالق وإنْ كانت فطريةً، ولكن يمكن إقامة البرهان عليها.
إنّ الطرق إلى الله تعالى وإنْ كانت متعددةً ومتنوعةً، ولكنّها ترجع إلى الطريق الآفاقي والأنفسي والصدّيقي.
تختلف المناهج الإسلامية في المدخل الذي تدخل من خلاله لإثبات الحقّ تعالى، فالمتكلّمون يثبتونه من خلال الصنع والحكماء من خلال الوجوب والإمكان والعرفاء بما أنّه الحقّ. وهذا الاختلاف يؤثّر في فهم النظام الوجودي ومرتبة ارتباط الحقّ تعالى به.
برهان الصدّيقين بتقريراته المتنوّعة يعدّ أقصر الطرق وأحكمها في البرهنة على وجود الله تعالى.
يعدّ تقرير السيّد العلّامة الطباطبائي لبرهان الصدّيقين من أقصر التقريرات وأحكمها لبرهان الصديقين.
في القرآن والسنّة الشريفة أشارتٌ إلى برهان الصدّيقين كما أشارت إلى الطريق الآفاقي والأنفسي أيضًا.
التوصيات:
لا بدّ من دراسة النتائج التي ينتجها برهان الصدّيقين وبيان مدى إمكانيّة إثباته لصفات الحقّ تعالى بتقريراته المتنوّعة، فلا بدّ من عمل دراسةٍ تفصيليّةٍ في إثبات هذا البرهان للتوحيد والصفات الإلهيّة الأصليّة أو الذاتيّة.
المصادر والمراجع
*القرآن الكريم
ابن سينا، الشيخ الرئيس أبو علي، الإشارات والتنبيهات، تحقيق: مجتبى الزارعي، مؤسّسة بوستان كتاب (مركز الطباعة والنشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي)، قم إيران، ط1، 1434هـ. ق/1392هـ. ش.
__________، الشفاء (الإلهيات)، راجعه وقدّم له الدكتور إبراهيم مدكور، منشورات ذوي القربى، ط1، 1428هـ. ق.
__________، المبدأ والمعاد، تحقيق عبد الله نوراني، مؤسّسة المطالعات الإسلاميّة، طهران، إيران، ط1، 1363هـ. ش.
__________، النجاة من الغرق في بحر الضلالات، تنسيق وتقديم: محمد علي دانش بزوه، انتشارات جامعة طهران، ط3، 1387هـ. ش.
الآشتياني، ميرزا مهدي، تعليقة على منظومة حكمت السبزواري، باهتمام: عبد الجواد فلاطوري ومهدي محقق، تقديم: برفسور ايزوتسو، جامعة مك كيل – مونتريال- كاندا، مؤسسة مطالعات إسلامي- شعبة طهران/ بالتعاون مع جامعة طهران، طهران- إيران، ط1، لسنة 1352ش.
التميمي، الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم مجموعة من كلمات وحكم أمير المؤمنين(عليه السلام)، تحقيق سيّد مهدي الرجائي، دار الكتاب الإسلامي، قم، إيران، ط2، 1410هـ. ق.
الحِلّي، العلّامة أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهَّر، كشف المراد في تجريد الاعتقاد، صحّحه وعلّق عليه آية الله حسن حسن زادة الآملي، مؤسّسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، إيران، ط18، 1440هـ. ق.
الحيدري، كمال، معرفة الله، تقرير طلال الحسن، دار المرتضى، بيروت لبنان، ط1، 1431هـ. ق.
السبزواري ملّا هادي، شرح المنظومة، تعليق آية الله حسن زادة أملى، دفتر تبليغات إسلامي، قم، ط2، 1380هـ. ش.
السهروردي، شيخ الإشراق شهاب الدين، مجموعة مصنّفات شيخ الاشراق، تصحيح وتحقيق: هنري كوربن، وسيّد حسين نصر ونجفقلي حبيبي، مؤسّسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، طهران إيران، ط2، 1375هـ. ش.
الشيرازي، صدر الدين، محمد بن إبراهيم القوامي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، قم، منشورات طليعة النور، مطبعة سليمان زادة، ط2، 1428هـ. ق.
__________، المبدأ والمعاد، الجمعية الإسلاميّة للحكمة والفلسفة، طهران، إيران، ط1، 1395هـ. ش.
__________، شرح أصول الكافي، تحقيق: محمد خواجوي، مؤسّسة مطالعات وتحقيقات فرهنگ، طهران، إيران، ط1، لسنة 1383ش.
الشيرازي، قطب الدين، شرح حكمة الإشراق، تعليق صدر المتألّهين الشيرازي، تصحيح وتحقيق: دكتر حسين ضيائي تربتي، تحت إشراف آية الله سيد محمد خامنه اي، انتشارات بنياد حكمت إسلامي صدرا، طهران إيران، ط1، 1392هـ.ش.
صائن الدين، علي بن محمد التركة، تمهيد القواعد (التمهيد في شرح رسالة قواعد التوحيد)، مقدّمة وتصحيح وتعليق الاستاذ السيّد جلال الدين الآشتياني، انتشارات دفتر تبليغات اسلامي، بوستان كتاب قم، ط3، 1381هـ.ش.
صدر المتألهين، محمد بن إبراهيم، الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، تصحيح وتعليق: السيد جلال الدين الآشتياني، المركز الجامعي، مشهد، إيران، ط2، لسنة 1401ش.
الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، التوحيد، تحقيق: هاشم الحسيني، جامعة المدرسين، قم-إيران، ط1، لسنة 1398ش.
الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مكتب النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين بقم المقدسة، قم، إيران، ط5، لسنة 1417ق.
الطوسي، نصير الدين، شرح الإشارات والتنبيهات، نشر دار البلاغة، قم، إيران، ط1، لسنة 1417ق.
عامري، سامي، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، المملكة العربية السعودية، ط1، لسنة 2018م.
عماد الدولة، إمامقلي بن محمد على، المشاعر، طهوري، طهران، إيران، ط2، 1363 هـ. ش.
الفارابي، أبو نصر، محمد بن طرخان، فصوص الحكم، تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين، انتشارات بيدار، قم، ط2، 1405هـ. ق.
الفيض الكاشاني، محمد محسن، الوافي، كتابخانه أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، إصفهان، إيران، ط1، لسنة 1406ق.
القمي، الشيخ عبّاس، مفاتيح الجنان، تعريب السيّد محمد رضا النوري النجفي، معرض مكتبة العتبة العلوية المقدّسة.
الكفعمي، إبراهيم بن علي، المصباح، الشريف الرضي، قم، إيران، ط2، لسنة 1405ق.
الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق: علي أكبر الغفاري- محمد الآخوندي، دار الكتب الإسلامي، طهران، إيران، ط4، لسنة 1407ق.
المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث، بيروت -لبنان، ط2، لسنة 1403ق.
الميرداماد، محمد باقر، التعليقة على أصول الكافي، تحقيق: مهدي الرجائي، الخيام، قم، إيران، ط1، لسنة 1403ق.
-------------------------------------------------------------
[1] انظر في تفصيلاتها: العامري، سامي، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص57 وما بعدها. بتصرف.
[2] مع الاختلاف في كيفيّة المفارقة المذكورة، وأنّها بينونة صفة أم بينونة عزلة على حسب المباني في العلاقة بين الإله، وبين الخلق كما سنتعرض له.
[3] فولتير (1694- 1778م): اسمٌ مستعارٌ لمفكّرٍ فرنسيّ واسع التأليف، كان له تأثيرٌ واضحٌ في عصره، خاصّةً في خصومته مع الكنيسة وعقائدها ومؤسساتها.
[4] توماس باين (1737-1809م): فيلسوف، وسياسي بريطاني، وأحد المؤسّسين للولايات المتحدة الأمريكية.
[5] إليستر ماكجراث لاهوتي وعالم كيمياء بريطاني ولد سنة 1953م، من أوسع المفكرين تأليفًا في الرد على التيار الإلحادي الجديد.
[6] العامري، سامي، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص65.
[7] صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم، الحكمة المتعالية فى الأسفار العقليّة الأربعة: ج6، ص 13، التعليقة رقم (2) للمحقق السبزواري.
[8] أبو نصر الفارابي، محمّد بن طرخان، فصوص الحكم: ص62-63.
[9] أبو علي سينا، الحسين بن عبد الله، إلهيّات الشفاء: ص340-343. والإشارات والتنبيهات (النمط الرابع): ص266-269.
[10] يُنظر: صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة: ج6، ص14.
[11] أبو علي سينا، الحسين بن عبد الله، النجاة من الغرق في بحر الضلالات، ص126.
[12] الشيرازي، قطب الدين، شرح حكمة الإشراق (قسم المنطق): ج1ص189.
[13] صدر الدين الشيرازي، محمد بن إبراهيم، تعليقات على شرح حكمة الإشراق (قسم المنطق): ج2، ص164.
[14] ينظر: صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة: ج1، ص30، التعليقة رقم (1) للعلامة الطباطبائي، وكذلك ص30 -34 من المتن.
[15] انظر: الحيدري، السيّد كمال، معرفة الله: ج1، ص346.
[16] نُسبت الرواية تارةً إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض كتب الرّوايات بينما نسبت إلى النبي الخاتم J في بعضها الآخر. فراجع: التميمي، الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم= =ودرر الكلم: ص588. والعلّامة المجلسي، محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: ج2، ص32.
[17] صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية فى الأسفار العقليّة الأربعة: ج6، ص12-14.
[18] صدر الدين الشيرازي، الشواهد الربوبيّة فى المناهج السلوكية: ج1، ص44-46.
[19] صدر الدين الشيرازي، المبدا والمعاد: ص15.
[20] العلّامة الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج17، ص404.
[21]القمي، الشيخ عباس، مفاتيح الجنان: ص272.
[22] انظر: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 280
[23] انظر: الآشتياني، ميرزا مهدي، تعليقة على منظومة حكمت السبزواري، ص448-497.
[24] أبو على سينا، الحسين بن عبد الله، إلهيّات الشفاء: ص340-343. والإشارات و التنبيهات (النمط الرابع): ص266-269. صدر الدين الشيرازي، محمد بن إبراهيم، والمبدأ والمعاد، ص22-25.
[25] المحقّق الطّوسي، نصير الدين، شرح الإشارات والتنبيهات: ج3، ص66-67.
[26] أبو نصر الفارابي، محمّد بن طرخان، فصوص الحكم: ص62-63.
[27] صائن الدين، علي بن محمّد التركة، تمهيد القواعد: ص210.
[28] الآملي، عبد الله الجوادي، عين نضَّاخ (تحرير تمهيد القواعد): ج1، ص395.
[29] ينظر: صائن الدين، علي بن محمّد تركه، تمهيد القواعد: ص213.
[30] صدر الدين الشيرازي، محمد بن إبراهيم، رسالة المشاعر: ص45.
[31] صدر الدين الشيرازي، محمد بن إبراهيم، الشواهد الربوبيّة في المناهج السلوكية: ص35-36.
[32] السهروردي، شهاب الدين، حكمة الإشراق، ج3، ص34.
[33] راجع تعليقة العلّامة الطباطبائي على الأسفار: ج6، ص14، التعليقة رقم (3)، وكذلك في أصول الفلسفة والمذهب الواقعي: ج3، ص330.
[34] المصدر السابق: ج6، ص14، التعليقة رقم (14).
[35] صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم، الحكمة المتعالية فى الأسفار العقليّة: ج1، ص350، التعليقة رقم(2).
[36] صدر الدين الشيرازي،الحكمة المتعالية فى الأسفار العقليّة: ج6، ص14، التعليقة رقم(3).
[37] الحيدري، السيّد كمال، دروس صوتية في شرح الأسفار الأربعة الدرس (23).
[38] انظر: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج17 ص404.
[39] انظر: البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج4، ص795.
[40] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج9، ص30.
[41] الصدوق، محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، التوحيد: ص225.
[42] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج84، ص339.
[43] الكليني، الكافي، ج1ص85.
[44] هذا من كلام الكليني كما أورده الصدوق( ره) بإسناده عن الدقاق قال: سمعت محمّد بن يعقوب يقول: معنى قوله: اعرفوا اللّه باللّه يعنى ان اللّه خلق الاشخاص ... الخ.
[45] الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، ص290.
[46] الفيض الكاشاني، الوافي، ج1ص338.
[47] وإن استبعده صدر المتألّهين، وجعله للخواص أمثال أمير المؤمنين (عليه السلام). ولكن هذا الاستبعاد لأجل توهمه أنّ التفسير الوراد من قبل الكليني في ذيل الحديث من تتمة كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولهذا قام بشرحه وبيانه كأنّه من ضمن متن الحديث.
[48] الميرداماد، محمد باقر، التعليقة على أصول الكافي، ص203.
[49] صدر المتألهين، محمد بن إبراهيم، شرح أصول الكافي، ج3ص61.
[50] الفيض الكاشاني، الوافي، ج1ص339.
[51] انظر: نهج البلاغة، ص7.
[52] المجلسي، بحار الأنوار، ج95 ص225-226.
[53] الكفعمي، المصباح، ص588.