البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

دراسـة فـي النبــوّة

الباحث :  د. حاتم كريم الجياشي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  34
السنة :  ربيع 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 30 / 2025
عدد زيارات البحث :  136
تحميل  ( 488.332 KB )
الملخّص
النبوّة ليست رسالةً يحملها النبيّ للبشرية فقط، وإنَّما تمثّل لهم حاجةً وسندًا يتكأوون عليها، وهذه الحاجة متبلورةٌ بضرورة العقل، لكونها داخلةً في جميع جوانب حياتهم سواءً كانت عباديّة أم اجتماعيّة أم سياسيّة، أم علميّة، هذا من جانب، وكونها تمثّل الفرد الأكمل والأصلح بينهما الذي أختاره الله تعالى ليكون واسطةً بينهم وبينه سبحانه، ليقوم بإرجاعهم إليه بعدما زاغوا وابتعدوا عن صراطه تعالى، وهذا من جانب آخر؛ لهذا تُعدّ النبوّة المنجى الوحيد لهؤلاء البشر أمام الخطوب والفتن؛ لأنَّها تمثّل السفير من قبل الإله لهم. ومن ذلك يفهم حجم وقيمة المكانة التي يتمتع بها الشخص المختار من قبل الله تعالى ليكون نبيًّا نتيجة ما بلغوه من ذروة الكمال الروحي والسمو الإنساني المتحلين بجميع الفضائل من مكارم الأخلاق، فهم لهم قابلياتٌ خاصّةٌ وملكاتٌ نادرة خصوصًا في النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذه السفارة لخطورتها وأهميّة مكانتها في هداية البشريّة كان اختيارها بيد الله تعالى. لذلك جاءت هذه الدراسة لتغطي جميع ما يحيط هذا المصطلح من مرتكزاتٍ وأُسسٍ يقوم عليها، أو مفاهيم لا بدّ من توضيحها، ومؤاخذات لا بدّ من ردّها ورفع زيغها، وغيرها من أبحاثٍ التي سوف يجدها القارئ الكريم عند مطالعة هذه الرسالة.


الكلمات المفتاحيّة:
النبوّة، الوحي، التجربة الدينيّة، الوحي البشري، الرسالة النبويّة، الأنبياء.

المقـدّمـة
إنَّ النبوّة تعدّ الركيزة الثانية في كلّ الديانات التي يجب أنْ يدين به الموحِّد لله تعالى هذا على مستوى الديانات التي سبقت الإسلام، وأمّا في الإسلام لقد عمل حقل علم الكلام جاهدًا ليدافع بكلّ ما يملك من أفكار وآراء عن حياضه وركائزه من توحيدٍ ونبوةِ وغيرها، من تسرّب المؤاخذات والشكوك إلى التوحيد والوحي والإدراك الخارج عن ميدان الحسّ والعقل، وعصمة الأنبياء، فكان سببًا في إيمان من لم يؤمن، الذي هو برمجة عن القرآن والسنّة المليئين بالبراهين لدحض جميع ما يلوث الفطرة ويزرع الشكوك في نفوس المسلمين، ليدعم بذلك أصول الإسلام ودينه.

ومنها كانت النبوة التي تمثّل حاجةً بشريّةً ملحّة، بل ضرورة عقليّة؛ لكونها مقامًا ساميًا عظيمًا يُمثّل الواسطة بين الباري تعالى ومخلوقاته، أي أنّ النبي سفيرٌ إلهيّ، وهذه المكانة لا يتسنّمها إلّا الذين بلغوا ذروة الكمال الروحي والسمو الإنساني المتحلّين بجميع الفضائل من مكارم الأخلاق، فهم لهم قابلياتٌ خاصةٌ وملكاتٌ نادرةٌ خصوصًا النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذه السفارة لخطورتها وأهميّة مكانتها في هداية البشرية كان اختيارها بيد الله تعالى، وليس بيد البشر؛ لأنَّ النبيّ لا يختاره الناس أو ينتخبوه، كما ينتخبون رئيسهم أو زعيمهم، بوصفه موقعًا مغايرًا تمامًا لارتباطه بحياة الإنسان والإنسانية جمعاء، ولكون المهمة الملقاة على عاتقهم هي مهمةٌ استثنائية، فمن هذا المنطلق تحتاج إلى شخصيّةٍ استثنائيّةٍ تتحلّى بجميع صفات مكارم الأخلاق، وبصفاتٍ خاصّةٍ من أهمّها صفة العصمة، التي تحمي النبيّ أو الرسول من الوقوع في شباك الغرائز أو الأهواء، حتى يصل الوحي للناس كاملًا غير منقوص.
وهذه الإمكانيات والمؤهّلات لا يُعرفها على وجهها الأتم إلاّ الله تعالى لكونه هو الأعلم بعباده الذي خلقهم، وهذا ما يسمّى بالاصطفاء الإلهي كما عبّر القرآن الكريم عن النبوّة بقوله: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾[1]، وأيضًا يقول سبحانه: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾[2]، وقال سبحانه: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ﴾[3]؛ لذلك الله تعالى يختار هذا دون ذلك لموقع هذه السفارة، لعلمه أنَّه الأتّم والأنسب لهذا الموقع؛ لأنَّه ليس فقط ناقلًا لرسالة السماء للناس، بل يجسّد تعاليمها في خُلقه وهديه، وإنّ مهمته في هداية البشرية وتزكيتهم وتعليمهم مضامين الرسالة الإلهية، هي العنصر الأهم في حمله لهذه الرسالة التي اختاره الله سبحانه لأجلها، فهذا الذي يسمّى بالنبوة، وهذه النبوة جاءت لإثارة الفطرة لتظهر المعارف الكامنة وإبراز الاسرار الدفينة، وهذه مهمتهم لكونهم الإنسان الكامل، إذن دورهم التذكير والتنبيه، لا دور التعليم والتأسيس، لأنَّ كل ما يلقيه الأنبياء من أصول ومعارف هي بالأساس مختمرة ومنصهرة في وجود الإنسان بعلم فطري وقضاءٍ خلقي، وهذا الإنسان لا يلتفت إليها إلا بفضل هؤلاء الأنبياء (عليهم السلام)[4]، فدورهم هو دور التهيئة لهذه البشرية ليُبرزوا ما تعلّموه في ميدان الفطرة من أصول ومعارف، نعم الأنبياء لهم دور آخر وهو دور التعليم، لكن في التكاليف الفرعية-مجال العبادات والمعاملات-إذ لولاهم (عليهم السلام) لما وقفوا الناس على طرق عبدة الله تعالى، وكيفية سلوكهم فيما بينهم في مقام المعاملات[5]. ومما تقدم نفهم مقدار أهمية هذا المقام والمنصب الإلهي في الديانات التوحيدية التي سبقت الإسلام، بينما في الدين الإسلامية تبلورت أهميتها ومركزيتها لدرجة إنَّهم جعلوا منها الركيزة والركن الثاني من أصول الإسلام بعد توحيد الباري سبحانه، لهذا نرى إنَّ أسس الإسلام وقواعده ركيزته الأساسية هي شهادةُ أنْ لا إله إلا الله ، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله، وهما يُعتبران من مفاتيح الجنة الرئيسية، وباب كل خيرٍ، وهما أجلُّ ما يدين المسلم به لربه، وأشرف ما يحمله إلى العالمين .وهذه النبوة ليس فقط هي أمر ضروري بحكم العقل وإنَّها حاجة بشرية ملحة، مع هذا لم يتركها الله تعالى من غير دلائل تدل عليها وبراهين تثبتها وهذا ما تكفل به علم الكلام العقدي بنهله من منابعه القرآن والسنة وهدى العقل، تثبيتًا لإيمان المؤمنين، ودعوة للبشرية التائهة عن معرفة الأنبياء(عليهم السلام) لا سيما نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وجوانب العظمة في حياته، وخصائصه، وأهدافه وغايته في دعوته فيهم، ومعرفة افتراقها- نبوة النبي الخاتم - عن الإمامة، وفضلها وأفضليتها على الإمامة، والعمل على رد الشبهات حول نبوته، لِتعرفوا على هذا النبي الخاتم، والإيمان به نبيًا ورسولًا. إلى هنا نكتفي بهذا القدر من الكلام التمهيدي حول النبوة والآن نبدأ بتوضيح المفاهيم التصورية لهذه الدراسة:

النبوّة العامّة تعريفها:
النبوّة لغة:
النَبَأ: الخبر، أنبأه إيّاه به: أخبره... والنبيء: المخبر عن الله تعالى... ج: أنبياء... والاسم النبوءة...ونبأ كمنع نبًا ونبوًا: ارتفع[6]. وبهذا قال
فالمعنى المتصوّر من لفظ النبوة لغة يمكن تصوّره بعدة معانٍ، ولكن سنختصر الأمر على أهمها وهي:
الأوّل: إنَّ لفظ النبيّ مأخوذٌ من النبأ، بمعنى الخبر، والنبيّ هو: المخبر عن الله تعالى، وسمّي بذلك لأنّ عنده نبأ الغيب بوحي من الله تعالى، قال الجوهري: «النبأ: الخبر، تقول نبأ ونبأ، أي: أخبر، ومنه أخذ النبي؛ لأنَّه أنبأ عن الله تعالى»[7].
الثاني: إنَّ لفظ النبي مأخوذٌ من النبأ بمعنى الطريق، سمّي به لأنَّه الطريق إلى الله تعالى، قال الزبيدي عن الكسائي: النبيء: «الطريق، والأنبياء: طرق الهدى»[8]. إذًا النبيّ في الإطلاق اللغوي إمّا أنْ يكون مأخوذًا من النبأ بمعنى الخبر، وإمّا من النبأ بمعنى الطريق، وإمّا أنْ يكون قد أُخذ من النبوّة بمعنى الرفعة.

النبوة اصطلاحًا:
النبوّة: منزلةٌ خاصّة فُضّل الله تعالى بها من اصطفاه الله بما آتاه من العلم والمعرفة وقرب المنزلة من الله تعالى، وعليه فإنَّ النبيّ من أوتي تلك المنزلة.
وقال الشيخ المظفر: «نعتقد أنّ النبوة وظيفةٌ إلهيةٌ وسفارةٌ ربانيةٌ يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيّتهم. فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طرق السعادة والخير لتبليغ الإنسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة»[9].
بقي أمرٌ لا بدَّ من إيضاحه هو ما الفارق بين النبيّ والرسول؟ في مقام الجواب نقول إنَّ لفظة الرسول أوسع من لفظة النبيّ؛ لكون الأولى شاملة للملائكة زيادة على شمولها للأنبياء؛ فتكون لفظة النبيّ أخصّ من لفظة الرسول، فالرسول مكلّف برسالةٍ يوصلها للناس؛ لغرض هدايتهم بالشريعة التي يحملها معه إليهم، والنبي لا يشترط فيه ذلك، فيشتركان في التلقي عن الله ويفترقان بالتبليغ والرسالة.

وهذا هو ما بيّنه الإمام الصادق (عليه السلام)، بقوله: «النبيّ الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك»[10]. بمعنى أنَّ النبيّ يوحى إليه كالرسول، ولكن ليس كلّ نبيّ هو رسول، والعكس صحيح.

خصائص الأنبـياء:
1-الوَحْي:
وهو من أهمّ خصائص الأنبيّاء، وهو إعلام الله تعالى لهم بما يريد أنْ يبلغوه إلى الناس المرسلين إليهم، مِن شرعٍ أو كتابٍ، بوساطةٍ أمين الوحي المسمّى بجبرائيل (عليه السلام). وهذه المرتبة تُعدّ هي الأرقى والأفضل التي يمكن أنْ ينالها الشخص المختار من دون باقي طبقات البشر في البيئة المحيطة، لا ينالها أحدٌ إلاّ مَنِ اصطفاه الله مِنْ عبادِه ليبلغه ما أراد إطلاعَه عليه من أصنافِ الهِدايةِ والعِلْم.
فالوحي أعظم خصائص الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، قال الله تعالى: (إنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)[11]. فهذه الخاصيّة على قدر حساسيّتها وأهميّتها فإنَّها تبقى بقدر مَن تحملها لكونه مجتبًى من قبل من أرسل هذا الوحي ليبلغ ما أمر به من قبله سبحانه، وهذه الخاصية ليست لم تُعطَ جُزافًا، بل أُعطيت لمن يحمل من الخصائص والفضائل المؤهّلة لذلك؛ لهذا اختارهم الباري تعالى من دون باقي البشر[12]؛ لأنَّها ليست إدراكًا كباقي الإدراكات كما التي تحصل للشخص عن طريق أدوات المعرفة الحسّيّة والعقلية؛ التي تبقى أسيرة لأعمال الحواس، بل تبقى انتاجًا لها، بل خاصيّة الوحي إدراكٌ خاصٌّ لا ربط له بكلّ ما هو أسير للحواس وأدواته؛ لأنَّه يحدث نتيجة إيجاده من قبل الباري تعالى لمن يجتبيهم من الأشخاص؛ لتوقّف كمال البشريّة عليهم وإنقاذهم من براثم الشرك والانحراف عن جادة الهداية والطاعة، وكذا تزكيتهم ليصبحوا جاهزين للتحلّي بمكارم الأخلاق[13].

2 ـ عِصمة الأنبياء:
إنَّ هذه الخاصية جاءت لتصبح صمام أمانٍ لموقعٍ خطيرٍ بحجم ما يترتّب عليه من مهامٍّ ومسؤولياتٍ في تسنّم قيادة البشريّة وهدايتها والعمل على تزكيتها؛ من هذا المنطلق تطلب على من يتسنّم هذه الموقع جملةً من الخصائص والفضائل وعلى رأسها العصمة، حتى لا يقع في الذنوب والمعاصي، بل لا يقع بأيّ مخالفةٍ حتى على مستوى مخالفة الأَوْلى، وكذلك حتى مستوى الأخطاء والاشتباهات في تطبيق الشريعة وأحكامها في الفرد والمجتمع. و الأنبياء والرسل معصومين في جميع المستويات سواءً في تحمل الرسالة وأعبائها، أم في الأمور المذكورة آنفًا.

وليس هذا فحسب، بل لا بد لهم أنْ يتنزّهوا عن كلّ ما يوجب النفرة والابتعاد عنهم، ممّا يسبب عدم الانصياع لأوامرهم وتبليغاتهم. والأخطاء والاشتباهات لا تصح منهم حتى على مستوى النسيان، لكونهم معصومين في كلّ شيء،ٍ لا في التبليغ عن الباري تعالى فقط، ولا عن الذنوب الكبيرة، كما ذهب إليه ابن تيمية بقوله: «بأنَّ الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، بل لم يُنقل عن السلف والأئمّة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلاّ ما يوافق هذا القول، وأمّا صغائر الذنوب فذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ الأنبياء ليسوا معصومين منها، وإذا وقعت منهم فإنَّهم لا يُقَرُّون عليها، بل ينبههم اللهِ عليها، فيبادرون بالتوبة منها»[14]، فهذا الكلام يترتب عليه أمرٌ في غاية الخطورة ومتنافيًا مع الأجتباء لهم من قبل الله تعالى لغرض هداية الناس وتزكيتهم والعمل على تحليتهم بالأخلاق والقيم؛ لأنَّ جواز الذنب على النبيّ ولو كان صغيرًا، يكون مشجّعًا للبشرية والأمّة على الذنوب والمعاصي ولو كانت صغيرة، وهؤلاء معذورون لماذا؟ لأنَّهم ملزمين على متابعة الأنبياء كونهم رسل الله إليه، وهذا لا يقبل به أحدٌ حتى من الذين جوّزوا ارتكاب الذنوب الصغار على الأنبياء بحكم أنَّهم غير معصومين بها، فهم لم ينتبهوا لهذا الأمر المنفي بالدين المُنزل والعقل، فضلًا عن إنَّ هؤلاء الناس المبعوث إليهم النبيّ في حال عدم اتباعه من قبلهم ينتفي هدف البعثة والنبوة.

وهذه الخاصيّة لا تتأتى إلاّ نتيجة علمهم التام بعواقب عصيان هذا الإله والتعدّي على مملكته بارتكابهم المعاصي والذنوب، وهذه هي العصمة التي يراها أصحاب مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)[15].

3-الترفّع عن المنفِّرات:
كلامنا هنا يدور حول المنفِّرات التي تنفّر البشر عن اتباع الأنبياء (عليهم السلام)،، أو التي يُطعن بها عليهم، أو تتخذ وسيلةً لتأليب الناس عليهم، وهذه يمكن تصوّرها في النسب، أو الأصلاب، والمرتبة الأخرى سلامة خِلقتهم من العيوب، والخُلق الذي يحملهونها من حيث الكمال والنقص، وكذلك من حيث رجاحة العقل وكماله.
فلا بد أنْ يكون الأنبياء خالين من كلّ منفّرٍ على صعيد جميع المستويات التي تُعدّ من المنفِّرات، وعلى رأسها أنْ يكون النبيّ طاهر النسب والمنشأ إنْ صح التعبير؛ لأنَّ هذا له دخالةٌ جوهريّةٌ في اتباع الناس له والاستماع إليه، وعكس هذا يجعلهم لا يسمعون له، ولا ينصاعون لأوامره ونواهيه، فمن هذه المنطلقات نعرف أهميّة طهارة الآباء والأمهات للأنبياء (عليهم السلام). والأمر الآخر خلو خِلقتهم من جميع ما يجعله سببًا وباعثًا لتنفرّ الناس واستوحاشهم منهم، والأمر نفسه يجري في الخُلق وسلامة العقل وكماله والسيرة التي كان يجري عليها النبي، ويسير بها بين الناس، كلّ ذلك يجب أنْ يكون في أعلى الكمال والرقي عند الأنبياء (عليهم السلام).

4-العلم والمعرفة:
من خصائصهم المهمّة والمحوريّة في ميدان النبوّة هو علمهم بالمعارف، وبكلّ شيءٍ يخصّ هداية البشريّة والمعارف المرتبطة بكلّ صميم حياتهم الدنيوية والأخروية، أي ما يعبّر عنها بالمبدأ والمعاد؛ لكون البشرية عندما يعملون بهداية الأنبياء لهم، فإنَّهم يصلون إلى السعادة المنظورة في الدارين، وعمل الأنبياء في هذا المضمار لم يتأتَّ إلاّ لعلمهم ومعرفتهم بالأمور التي توصل البشريّة إلى الغايات من وجودهم على مستوى الدارين، وهذا العلم والمعرفة قد اختصّهم الله (عز وجل) بهما لإيصال البشريّة للسعادة المرجوة.

إذًا الأنبياء (عليهم السلام) مع عصمتهم وحملهم للخصائص والفضائل التي اختصهم الله (عزّ وجلّ) بها، لا بد أنْ يكونوا عالمين بالمعارف، وما يتعلّق بها من أحكامٍ لغرض هداية الناس لما يضمن لهم من سعادة في الدنيا والآخرة، بوصفهم مظاهر ارادة الله وتجليات صفاته.

5-القدرة والكفاءة على القيادة:
إنَّ القیادة في الأنبياء (عليهم السلام) لها أبعاد وجوانب عديدة، أهمّها وأصلها بُعدان: البعد المعنوي وهذا يتجلّى في هداية الناس والبشرية لعبادة خالقهم، وبالتالي يبتعدون عن عبادة غير الله سبحانه المتجلّية بالأصنام المتنوّعة بتنوّع المخلوقات، فيرجعون إلى
ما فطرهم الله تعالى عليه، ويذكرهم الأنبياء بوظائفهم تجاه خالقهم، ممّا يؤثر على قلوبهم وأرواحهم وعقولهم، فهنا يأتي دورهم فيُعملون قدرتهم وكفاءتهم في هدايتهم، وإرشادهم إلى الأخلاق الحميدة، وكذلك تهذيب قلوبهم وتزکية نفوسهيم.

والبعد الثاني لقيادة الأنبياء (عليهم السلام)، يتمثّل إدارة شؤون حياة الناس بجميع أطرافها وزواياها، والعمل فيها لسيادة العدالة الاجتماعيّة فيما بينهم، وبذلك تتجلّى القيادة وتتشعّب بقدر شؤون الحياة، الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية، وبذلك يتحقّق الهدف المقصود للأنبياء (عليهم السلام)، وهو تكميل الإنسانية في كلا الجانبين المتقدمين، وهذا لا يتحقّق إلاّ بتوفّر خاصيّة القيادة والكفاءة الكاملة في النبيّ، المتجلية في إدارة شؤون الناس بحزمٍ وتدبيرٍ ناجح کما هو مخطّط له في إيصال الناس للسعادة المطلوبة.
بكلمةٍ أخيرة النبي جاء ليُجسّد تعاليم السماء على الأرض، وهذا يتطلب أنْ يكون قائدًا محنّكًا ذا كفاءةٍ نادرةٍ لا يتحلّى بها أحد غيره من أبناء جلدتهِ، وهذا هو النبيّ. وهذه أهم ما خصَّ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أنبياءه ورسله من الخصائص والفضائل التي لم يخصَّ بها أيُّ فردٍ من باقي أبناء جلدتهم، نعم توجد خصائص أخرى ذكرها أبناء السنّة في كتبهم، لا يهم ذكرها لكونها لا دخالة لها مباشرة في الاستجابة والطاعة من قبل الناس[16]، أو ما يترتب على بعثتهم ونبوتهم.

إنَّ هذه الخصائص المتقدّمة هي خصائص الأنبياء(عليهم السلام) الذين بعثوا إلى الناس كافة، كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد بن عبد الله، (عليهم السلام جميعًا)[17].

أهداف بعثة الأنبياء:
مقارعة الظلم والعمل على إزالته:

إنَّ بعثة الأنبياء جاءت من أجل تعريف الناس على سبل وطرق مقارعة الظلم وجعلها بين أيديهم، والعمل على إزالته من بين الناس؛ لأجل إنقاذ أرواحهم ونفوسهم، وإخراجها من الظلمات إلى النور. وعند نبذ الظلم يحلّ مكانه العدالة التي هي نتيجة المقارعة المتقدمة، وهذا هو ما قام به الأنبياء، وليس هذا فقط وإنَّما قاموا بتحديد السبل والطرق لنشر العدالة والعمل بها بين أبناء جلدتهم. بالتالي يدرك الناس قيمة الأخوة، والسعي للتعاون فيما بينهم، ليكونوا جسدًا واحدًا، والعمل على نبذ الفرقة والتنافر الذي يزرعه الظالمون فيما بينهم.

تنزيه الناس وبثّ الروح المعنويّة فيهم:
الهدف الآخر هو تنزيه الناس وتزكيتهم ببثّ العفاف والتقوى فيما بينهم، بعدما كانوا مجتمعًا تحكمه شريعة الغاب المليئة بالتشوّه الأخلاقي والقيمي، وأمّةً فيها كثيرٌ من الأمراض الروحيّة، فهنا جاء الأنبياء (عليهم السلام) ليقوموا بتزكيتهم وتنزيههم من هذه الأمراض، وبعد ذلك بثّوا فيهم القيم والأخلاق؛ ليصبحوا شعوبًا صالحةً مستوجبين في ذلك الفيض الإلهي بالرحمة والسعادة والكمال في الدارين. فمن هذا المنطلق يعدّ هذا الهدف هو الأهم للأنبياء؛ لكونه يربط الناس بمبدأهم ويوصلهم إلى قمة سعادتهم في الآخرة فضلًا عن دنياهم[18].
إيصال الناس الى مقام العبوديّة والتعبّد:
إنّ جوهر ما نادت إليه الأديان والشرائع التي جاء بها الأنبياء هو حثّ الناسَ اتّجاه العبوديّة لله تعالى، والعمل على التقرّب إليه؛ لذلك جُعلت جميع النعم الموجودة في هذا الوجود من مخلوقاتٍ وجماداتٍ وسماواتٍ وأرض، في خدمة الإنسان في ميدان العبوديّة؛ ليصل بها إلى معبوده وخالقه، ويعدّ هذا كماله الموصل إلى السعادة المقصودة في وجوده؛ لهذا يلزم على العباد ألّا يقصدوا في مسيرهم الإنساني إلّا معبودهم، وأنْ يسخّروا جميع إمكاناتهم في ذلك.

4- بثّ العدل بين الناس وإقامته:
من الأهداف المهمّة والرئيسة لبعثة الأنبياء والرسل، هو إنهاء ما يُعكّر صفو حياة الناس واجتماعهم من خلافاتٍ وغيرها، الناشئة بالأساس عن جهلٍ، وغفلةٍ، وإتّباع الهوى والتعالي والتكبّر؛ لذا جاء الأنبياء ليقيموا العدل بين الناس في كلّ مفاصل حياتهم وشؤونهم، بل حثّوا الناس على إجرائه فيما بينهم وأعلموهم بفوائد تطبيقه في جميع مراحل حياتهم الخاصّة على مستوى الفرد نفسه ومتعلّقيه (العائلة)، وحياتهم العامّة على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع؛ فوجب عليهم أنْ يقيموا العدل إذا أرادوا حياةً يسودها الرحمة والسعادة، وهذا ما جاء لتحقيقه الأنبياء (عليهم السلام)، بينهم بل قاموا بتبيين الفرق لهم بين المجتمع الذي يطبّق العدالة، والمجتمع الذي لا يطبّقها.

5-هدایه الناس وإرجاعهم إلى ما عاهدوا الله تعالى عليه:
جاء الأنبياء لإرجاع الناس إلى ما قاموا به بين يدي خالقهم من عهدٍ في عالم الذر، بعد نسيانهم له وغفلتهم عنه بسبب قدم الزمان ووسواس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وبعبارةٍ أخرى إرجاع الناس إلى فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها، وهذا الأمر جاء في قائمة أولوياتهم زيادةً على باقي أعمالهم الأُخر التي بعُثوا من أجلها، إذًا فهدفهم إرجاع الناس لفطرتهم، لكي يفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله عليه.

إنَّ هذه الأهداف تُعدّ من أهم ما يقصد من وجود الأنبياء (عليهم السلام)، والأهداف الأخرى التي ذكرت للأنبياء هي ممّا وجدت في مضمون ما تقدّم، فلا نجد سببًا لذكرها أو التفصيل بها، نظير تعليم الناس وتربيتهم، أو تعليمهم الحكمة في تدبير شؤون حياتهم على مستوى الفرد والمجتمع، والعمل على إزاحة الشبهات والمعوّقات من أمام العقل والفطرة، والعمل على تفجير وتسخير كلّ الطاقات الإنسانيّة المبدعة في المجتمع لإيجاد الحياة الاجتماعيّة متجهة نحو الخالق سبحانه بالاستناد لما جاءوا به من تشريع.

ضرورة النبوّة ولزوم البعثة وحاجة الناس إليها:
إنَّنا إذا نظرنا إلى ما يقوم به الأنبياء من دورٍ مهمٍّ وجوهريّ، وهي هدية الناس والبشريّة في محيط بيئتهم، نجد من الضروري بعث هؤلاء ليقوموا بهذا الأمر الخطير، أي أنَّ ضرورة بعثتهم تنبع من هداية الناس وإرشادهم والأخذ بأيديهم لما هو صلاح وفلاح في طريق الكمال والتكامل، وبالتالي يصلون إلى السعادة الأخروية فضلًا عن الدنيوية. إذًا يُعدّ النبيّ القدوة للناس والمثل الأسمى لهم في مسيرتهم نحو الباري تعالى، بل والمُرجع لهم إلى جادة الصواب في إثارة مكامن الفطرة التي فطرهم عليها خالقهم، ليصبحوا على قدر عهدهم الذي أخذوا على عاتقهم.

فمن هذه المنطلقات جاءت ضرورة النبوّة؛ لأنَّ حاجة الناس في الأمور المتقدّمة متوقّفة عليها. وهذا الأمر نجده محلّ اتفاق الجميع في حقل الكلام والمتكلّمين في أنَّ من الضروري إرسال الأنبياء والرسل ليقوموا بكلّ ما يتوقّف على ضرورة بعثتهم من الأمور المتقدّمة، إضافةً لجريان حكمة الخالق على إرسال الرسل لهداية البشر وإرشادهم إلى مسالك السعادة، وتجنيبهم مهاوي الضلالة والشقاوة، واقتضت حكمته أنْ يكون من بينهم ومن بيئتهم نفسها؛ ليكون أكثر وقعًا في نفوسهم، وأكثر من يقوم بتأدية الدور المرجو من إرساله؛ لهذا منعت الحكمة الإلهيّة من إرسال مَلَكٍ أو جنٍّ إلى الناس؛ لأنَّه بهذا تسقط الحجّة من أيدي الناس في عدم الاقتداء بالأنبياء والرسل، واتّباع هداهم وإرشادهم، لتبرير تقاعسهم وعدم الالتزام بالأمور التي جاء بها الأنبياء من أحكامٍ شرعيّةٍ وتوجيهٍ نحو مسؤولياتهم؛ لأنَّ النبيّ واحدٌ منهم ومن أبناء جلدتهم، وليس مَلَكًا أو جنًّا، زيادةً على امتثال هذا النبيّ لجميع الأوامر والنواهي والتوجيهات التي أمر بها الناس، وأنَّه قد وصل إلى أعلى سلّم الكمال والسعادة، وبهذا أصبح الاقتداء به، والالتزام بتوجيهاته واجبًا. وفضلًا عن ضرورة بعثة الأنبياء المشار إليها سابقًا؛ فالأنبياء هم واسطة الفيض والرحمة للناس جمعاء.

هذا بخلاف البراهمة الذين أنكروا ضرورتها فضلًا عن حُسن البعثة، لأدلةٍ واهيةٍ قالوا بها، وأمّا الأشاعرة فإنّهم زيادة على إنكارهم الحسن والقبح العقليين أنكروا لزوم البعثة على الله، وأنَّهم جوّزوا أنْ يترك الخلق بلا رسل وأنبياء، وكذلك جوّزوا أنْ يترك الخلق بلا تكليف، مع إنَّ حاجة الناس لهم واضحة جدًا لكونهم ناقصين ولا يحملون ما يحمل الأنبياء من إمكاناتٍ وقدرات، ممّا يجعلهم محتاجين لمن يعرّفهم الغايات من خلقتهم ووجودهم، وبالتالي يجعلهم يدركونها، ويدركون حاجتهم لمن يعرّفهم على الحقائق والمغيّبات التي يجهلونها، بل ويعملون على تعليمهم إيّاها، وعندها يُؤمنون بها عن درايةٍ لا رواية. فالضرورة من بعثتهم جاءت بحجم المهمّة الملقاة على عاتقهم وحاجة البشريّة إليهم، على اختلاف ثقافاتهم وميولهم، وهذا ما أثبته التاريخ ودوّنه علماء الأديان فلا داعي للإطالة والإطناب فيه؛ لأنَّه ثابتٌ بحكم العقل، وليس فقط ثابت بالتاريخ وعلم الأديان، لذا نكتفي بذكر الأدلة التي ساقها علماء الكلام:

1-إيصال وتأسيس القانون وقواعده ودفع الناس نحو امتثاله:
إنَّ الإنسان بطبعة يميل نحو الحياة الاجتماعيّة؛ لكونه لا يرغب الحياة الانعزال والفرديّة، وهذا ما يُطلق عليه بالميل نحو الحياة المدنيّة، التي هي عبارة عن العيش والتأقلم مع أبناء نوعه في إطار الاجتماع والمجتمع، وهذا الأمر الذي جاء نتيجة ميلهِ إلى الحياة الاجتماعيّة والانصهار بها، يتطلّب قانونًا يعمل على تأطير هذا الميل والعمل على تنظيم تعامله مع الآخر بما هو فرد يميل إلى الاستجابة إلى مصالحه ومتطلِّباته الفطريّة؛ لذا عدّ بعض المتكلّمين هذا الميل ميلًا فطريًّا، فإذا كان الإنسان في حياته التي يميل إلى العيش فيها.

فلا بدّ له من قانونٍ ينظّم هذا الاجتماع الذي يجمع في طيّاته كثيرًا من أفراد نوعه، وكلّ فردٍ منهم يرغب بالاستجابة لغرائزه والعمل على إجراء مصالحه؛ لذا يحتاجون قانونًا يعمل على تنظيم وتأطير هذا الاختلافات في الغرائز والميولات والمصالح، وليس كلّ قانونٍ يستطيع أنْ ينظّم هذه الأمور، ما لم يكون مشرِّع هذا القانون عالمًا بكلّ هذه المتعلّقات، ويعرف القانون الذي ينظّمهم بلا تعدٍ أو ظلم، بل ليس هذا فحسب، وإنَّما هذا القانون هو الذي يعمل على إجراء العدالة فيما بينهم، على أتمّ وجهٍ بلا مساوماتٍ أو مصالح أو أغراضٍ أُخر تؤثّر على تنفيذه بنحوٍ عادلٍ وشفّافٍ بمعنى الكلمة، وهذا لا ينطبق إلاّ على من يرسله صاحب القانون المشرِّع، لينظمهم، ويبيّن لهم الحدود التي يقفون عندها ولا يتعدونها؛ لأنَّه أعلم بمن هو أهل لذلك، وهذا هو النبيّ الذي له القدرة بما يحمل من خصائص وفضائل تؤهّله في تنفيذ هذا القانون وتشريع ما هو أمثل في تنظيم وتأطير الحياة الإنسانيّة؛ لكونه أعلم بهم والأعرف بشؤونهم؛ وعليه تكون الحاجة إلى وجود الأنبياء (عليهم السلام) نابعةً من الحاجة إلى هذا القانون.

2-النبوة الوصلة الوحيدة لهداية البشريّة ونجاتهم:
فهم الموصلون البشرية إلى خالقهم بالهداية السماويّة، عن طريق تبليغهم وإرشادهم بأنَّ غاية وجودهم ونهاية سيرهم الحياتي هو الالتزام بأوامر ونواهي السماء المترجمة لطاعة الله تعالى ونهيه، ليصلوا إلى السعادة التامة في الأخرة فضلًا عن الدنيا، فهم زيادةً على هديهم للناس جاءوا لسدّ النقص وجبرانه لدى العقل؛ لأنَّ العقل وإنْ كان نورًا كما في الروايات إلّا إنَّه لا يمكن أنْ يُكتفى به ولا الاستغناء عن هدي الوحي بوساطة الأنبياء (عليهم السلام)، فيما يكتنفه من ظلماتٍ التي تحيط به، نتيجة الأهواء والظنون؛ لأنَّ العقل ليس في حلٍ منها؛ لكونها تمثّل الدواعي للفتن المزلّة له عن جادة الصواب، فيكون وسيلةً للإضلال في حين ينبغي له وسيلةً للهداية، إذًا فلا غنًى للعقل عن هداية الأنبياء بعطايا السماء المتمثّلة بالوحي، التي تكملهُ بعدما كان ناقصًا، فيتوسّع حينئذٍ بما مدّه من مددٍ ليكون سلاح هدايةٍ لا ضلال؛ لأنَّ النبوة بها يُهتدى العقل إلى ما يقع في طريق منفعته، ومعرفة ما هو ضارٌ له في كلّ الساحات، ساحة المعاش، وساحة آخرته أي المعاد.

من ذلك نفهم مقدار عظمة الخالق تعالى فيما أنعم على عباده بإيجاد النبوة بينهم متمثّلة بالنبيّ المرسل من قبله حاملًا لهم ما يجلب لهم السعادة في دنياهم وآخرتهم، ولولا وجودهم لبقوا في غفلتهم أسرى لأهوائهم، وعندها يصبحون بمنزلة الأنعام والبهائم، بل شرّ حالًا منها، إذًا الحاجة لوجودهم لا تُضاهيها حاجة، ولا تفوقها ضرورة أصلًا، فيكفي بهذا دليلٌ على الحاجة إلى النبوة ولزوم البعثة.

3-حاجة الناس إلى المنظومة المعرفيّة:
إنَّ العقل الإنساني ما دام ثبت قصره في الكلام أعلاه، فحينئذٍ لا يمكن له الوصول إلى السعادة المتوخاة من سيره التكاملي، إذًا بهذا النقص لا يستطيع الوصول إلى ما نُصب إليه من غاية، فيحتاج لأمرٍ آخر يوصله لتلك الغاية، وهو العلم والمعرفة الإلهيّة، لا العلم الإنساني؛ لأنَّه قاصر كقصور عقله الذي كان يشوبه الخطأ والاشتباه والزلل، فهو ليس في مأمنٍ من ذلك، وهذا ليس معناه أنَّ العقل الإنساني لا يعلم شيئًا، وإنَّما يعلم لكن ليس كلّ شيءٍ، وبالتالي فإنَّه يجهل كثيرًا من الحقائق.

إذًا العلم الإنساني والعقل الذي يحمله لا يفيان بما نريد أنْ نعلمه أو نعرف حقيقته ممّا يُحيط بنا، من هذا المنطلق نحتاج إلى علمٍ أو معرفةٍ غير قاصرة، بل تعرف كلّ شيءٍ، وهذا هو المعروف بالعلم والمعرفة الإلهيّين، فهو المخرج له من وحل المادّة والمادّيات، والانحراف عن الصراط المستقيم، فهنا تكون الحاجة للأنبياء بأوضح صورها؛ لأنَّ الأنبياء الوحيدون المخوّلون بنقل هذه العلوم والمعارف للناس والبشريّة نتيجة للأمور التي أوضحناها فيما تقدّم من أدلّة، ولكونهم الوجود الأكمل بين أبناء جنسهم، فكانوا هو من يُبلغ هذه العلوم والمعارف للبشرية، كما فيما قاموا به من تبليغ القوانين وتنفيذها بينهم. وهذه هي التي تسدّد الإنسان وتقوّم مسيرته، ليستكمل بها عقله، وبالتالي علمه، فالحاجة إلى ذلك ملحّةٌ للأنبياء (عليهم السلام)، وإلّا تصبح حياة الإنسان عبارةً عن براكين من الآلام والمآسي والاضطرابات في كلّ شيء؛ فتكون جحيمًا يُعاش بالدنيا قبل قطف ثمارها في الآخرة.

4-حاجة الناس إلى القدوة الحسنة:
فالناس لا يحتاجون فقط الهداية، والتعليم أو التربية، بل يحتاجون إلى نموذجٍ ومَثَلٍ أعلى من جنسهم البشري؛ لأنَّ البشر يتفاعلون مع من كان من أبناء نوعهم وجلدتهم، لا من جنس مخلوقات الله تعالى الأخرى، كالملائكة. فالأنبياء (عليهم السلام)، بشرٌ كمّلهم الله تعالى بجميع الخصائص والأخلاق الفاضلة، وعصمهم من كلّ الذنوب والمعاصي والوقوع في الشبهات والأخطاء وإعمال الشهوات بخلاف ما أراد الخالق تعالى لها، إذًا هم المثل والنبراس الهدى للناس، بل القدوة التي يقتدون بها في كلّ شؤون حياتهم، فهم المصابيح التي تُنير لهم طريق الكمال والتكامل في ظلامهم الحالك، لكي يصل الخلق في مسيرهم التكاملي إلى السعادة المتوخاة من هذا السير، على مستوى المعاش والمعاد.
فمن هذا المنطلق نرى حجم الحاجة لهذا القدوة، في جميع مراحل حياة الإنسان وشؤونه، سواء على مستوى الأوامر والنواهي، والمصالح والمفاسد إنْ كانت عبادات أو معاملات، أم على مستوى الأخلاق، والاستقامة على دين الذي جاء من خالقهم سبحانه على أيدي رُسله وأنبيائه (عليهم السلام)[19].

5-إلحاح الحاجة للنبوة بقاعدة اللطف الإلهيّ:
صال المتكلّمون وجالوا في هذا الميدان من حيث الاستدلال والتوضيح والقراءة الصحيحة في إطار علم الكلام؛ نتيجة قصور الإنسان عن إدراك المعارف والحقائق الإلهيّة والاهتداء لما عاهد الله تعالى عليه في ذلك العالم المسمّى بعالم الذر، ولنتيجة تلوّث الفطرة وزيادة الفترة بين العهد المأخوذ وبين فترة تواجده في الأرض، وإنْ كان مزوّدًا بأدواتٍ تساعده نوعًا ما، لكن لا توصله إلى السعادة في الدارين؛ لذا لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنَّها قاصرةٌ وناقصة، بل ولا تغني عن تعليم وتربية السماء كما أوضحنا ذلك في كلامنا حول نقص علم الإنسان وكونهِ لا يرقى لكلام السماء.

إذًا في هذا المضمار نحتاج لمن يسدّ هذه الأمور ويرفعها، وهذا متحقّقٌ بإرسال الأنبياء من قبل الخالق تعالى؛ وهذا الإرسال جاء نتيجة لطف الباري تعالى بعباده لينقذهم ويعلمهم ويزكّيهم، ويأخذ بأيديهم إلى طريق الكمال ونيل الغاية، وهي السعادة في الدارين، وهذا ما بيّنه العلاّمة المظفر بقوله: «إنّما كان اللطف من الله تعالى واجبًا؛ فلأنّ اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده والجواد الكريم، فإذا كان المحلّ قابلًا ومستعدًّا لفيض الوجود واللطف، فإنّه تعالى لا بدّ أنْ يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في وجوده وكرمه».[20]
فهي إذن جاءت لسدّ جميع الثغرات التي من الممكن أنْ يستخدمها الإنسان للتملّص من الطاعات والتكليف بها، وكذلك يسقط الحجج التي من الممكن أنْ تقام عليه سواء من الداخل، أم من الخارج، فهنا اقتضى كمال الباري تعالى المطلق وجوب أنْ يُجري لطفه بعباده بإرسال الأنبياء (عليهم السلام)، للعمل على هدايتهم وتعليمهم وتزكيتهم، وليقوموا بطاعته كما أمر؛ لأنَّه تعالى علم أنَّهم لا يعبدونه كما أمر، ولا يؤدّون ما هو واجب القيام به من قبلهم إلاّ بإرسال من يقوم بذلك معهم، وهذا ما قال به الإماميّة، مع الأخذ بالاعتبار أنَّ هذا الوجوب ليس معناه يوجد من يأمر الباري تعالى، وإنَّما اللطف يُعدّ من ضمن كماله المطلق الذي يُريد من خلقه الطاعة والعمل بالتكاليف، وبالتالي يكون قريبين منه تعالى، هذا جاء نتيجة حكمته، وإلاّ إذا لم يفعل بإرسال الأنبياء ليقوموا بما أراد سبحانه من عباده، فإنَّ يبطل الغرض من وجودهم وهو أداء التكاليف والقيام بالطاعة، وهذا ما ثبت بالدليل العقلي، وهذا الأمر ليس فيه تخلفًا؛ لاستحالة الانفكاك بين حكمته ولطفه وبين لوازم ذلك في حقّ عباده من حيث الهداية والتعليم والتزكية وأداء الرسالة فيهم.

النبي، صفاته (تلقيه الوحي، عصمته) وطرق معرفته، والفرق بينه وبين الإمام:

بعدما تقدّم بنا من أبحاث، سنشرع في بحث أمرٍ آخر حول صفات النبيّ من حيث تلقّيه الوحي، والعصمة الواجب التحلّي بها، إضافةً إلى الطرق التي يتم بها معرفته، وبعدها نبيّن الفارق بين النبيّ والإمام؛ لذا نقول زيادةً عمّا قلناه في البحوث السابقة حول إنَّ النبيّ أُختير من دون باقي أبناء جلدته من قبل الله تعالى نتيجة ما يحمل من خصائص وفضائل على أتمها وأكملها، فبهذه الإمكانات العالية من الخصائص والفضائل خُصَّ بالاجتباء الإلهي ليكون نبيًّا ورسولًا عن الباري تعالى، وتأسيسًا على ما ذكرناه في خصائص النبوّة العامة سوف لا نتكلّم عن صفتين مهمّتين وهما الوحي والعصمة، لكونهما يُشترطان في جميع الأنبياء (عليهم السلام)، فالأمر يقضي هنا ألّا نكرر الكلام عنهما؛ لهذا سوف نقتصر على ذكر طرق معرفة النبي وهي:

طـرق معـرفته:
توجد طرقٌ لمعرفة نبوّة كلّ نبيٍّ من الأنبياء (عليه السلام)، المعبّر عنها بطرق إثبات صدق دعواهم، وهذه الطرق تتبلور في عدَّة أمورٍ:
الأمر الأوّل/ المعجزة: وهنا يوجد منحيان للمعجزة منحى لغوي، وهو مأخوذٌ عن الجذر اللغويّ (عجز)، وعجزَ عن الشيء، ضعفَ عنه ولم يقدر عليه؛ إذًا فالمعجزة ما يعجز الإنسان عن عمله[21]، والمنحى الآخر هو المأخوذ عن معناه الاصطلاحي؛ فالمعجزة هي أمرٌ خارقٌ للعادة، مقترنٌ بالتحدّي، خالٍ من المعارضة، يُجريها الله تعالى على يد أنبيائه؛ ليكون بذلك دلالةً على مدَّعاهم وصدقهم أمام أقوامهم، ومعنى كونه خارقًا للعادة؛ هو أنّه مخالفٌ لما تقتضيه وتجري عليه عادات الأمور؛ كحرارة النار وبرودة الثلج، أي إنَّها لا توجد كما توجد الأشياء عن طريق الأسباب والعلل المُعتادة؛ لأنّ غرضها تحدّي القوم التي قامت المعجزة أمامهم بأنْ يأتوا بمثلها، لكي تُقام الحجّة عليهم. والمعجزة هذه لا يستطيع أحدٌ أنْ يأتي، بمثلها، أي إنَّها خاليةٌ من المعارضة، وهذا النوع هو الذي يُجريه الله تعالى بإرادتهِ على أيدي الأنبياء (عليهم السلام)؛ أي أنّ الله تعالى مكّنهم بها ليثبتوا مدّعاهم وصدقهم بكلّ ما جاءوا به للبشريّة والناس.

بيد أنَّ هذا المنصب الإلهي لا يمكن أنْ يُطال من قبل الضالين والعابثين؛ لأنَّه خاصٌّ بقومٍ مختارين بعنايةٍ عاليةٍ من قبل خالقهم سبحانه؛ لذلك أجرى معاجزه على أيدي هؤلاء (عليهم السلام) دون غيرهم من البشر بكلّ طبقاتهم خيّرهم ومسيئهم.
وهذا ما تحدّث عنه القرآن الكريم كثيرًا، كما في قوله تعالى: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ، فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ)[22]، فهنا جاءت هذه الآيات مبينةً لمعاجز جرت على يد موسى (عليه السلام)، لا على يد غيره من أبناء نوعه، والأمر نفسه يجري مع باقي الأنبياء (عليهم السلام)، لا سيّما النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جرى على يده من معجزة عجز أبناء نوعه من الآتيان بمثلها إطلاقًا سواء كان على مستوى الجزء أم الكُلّ، وهذا ما أكده الخالق تعالى بقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[23]، وما يؤيد هذا هو ما ذهب إليه العلاّمة الحِلّي بقوله: «إنما يُعلم كون النبيّ مبعوثًا من عند الله تعالى صادقًا لو أظهر الله تعالى المعجزة على يده لأجل التصديق، وكان كلّ من صدّقه الله تعالى صادقًا»[24]. فهذا الطريق يُعدّ أكثر الطرق سعةً وتأثيرًا في معرفتهم (عليهم السلام).

الأمر الثاني: مراحل حياتهم التي عاشوها: إنَّ هذه المحطّة تمثّل جوهر ما عاشوه من حياتهم من حيث سيرتهم العطرة التي اتّسمت بكلّ الصفات والقيم والمبادئ السامية التي تبلورت بالسيرة الخاصّة بالأنبياء التي حفلت بحياةٍ خاصّةٍ بهم يفترون بها عن حياةٍ ما عاشه الجميع من أبناء جلدتهم، وبهذه الحياة تكون علامةً فارقةً بينهم وبين من عاشوا بين ظهرانيهم من البشر، ممّا يجعلها مصدر اطمئنانٍ وركونٍ لهم من قبل الناس، لأنَّ ما تحلّوا به من صفاتٍ وقيمٍ ومبادئ وأخلاق- لا نظير لها بين الناس - صار دليلًا ومؤشّرًا على صدقهم وصدق ما جاءوا به من قبل الله تعالى.
ما تقدّم في هذا الطريق ليس له تحقّق إلاّ في الأنبياء المتلبّسين بالسيرة الخاصّة بهم بين أبناء جلدتهم المليئة بكلّ الصفات والقيم، من الصدق والأمانة، والاستقامة، وعدم الانحراف ولو بقد أنملة، فهم عبارةٌ عن صفحةٍ بيضاءٍ مرصّعةٍ بالعدل التام على طول مراحل حياتهم بين أبناء نوعهم من البشر. وبذلك يكونوا معروفين عندهم؛ لا أنَّهم مجهولين السيرة، أو قلة المعرفة بهم، بسبب قلّة تواجدهم بينهم. فمن هذا المنطلق لا بد أنْ يكونوا قد عاشوا فترةً طويلةً بين الناس، ليتسنّى لهم التعرّف عليهم جيدًا من خلال ملاحظة حياتهم السابقة التي عاشوها بينهم، وبذلك تكون طريقًا لهم ليتعرّفوا به على صدقهم وصدق عواهم، وعلى ما جاءوا به من قبل الله تعالى[25]. هذا هو الطريق الآخر، وفي حال لم يتعرّفوا عليهم جيدًا، ولم تتح لهم الفرصة بوجود هذه السيرة بكلّ ما تحمل من مقوماتٍ ومؤشّراتٍ على صدق الأنبياء وصدق دعواهم يصل الأمر إلى الطريق التالي، وهو:

الأمر الثالث: بشارة النبيّ السابق، الثابتة نبوته بالأدلّة والبراهين:

إذا كان ما تقدّم من معرِّفاتٍ محلّ نقاشٍ، فلا توجب الاطمئنان، فهنا سوف تتم الإشارة إلى معرِّفٍ لا يبقى معه شكٌّ لباحثٍ عن حقيقة كون مدّعي النبوة نبيًّا، وأنّ ما جاء به من أوامر ونواهٍ حقيقة من الله تعالى مأمور بتبليغها إلى الناس، وهذا المعرِّف هو بشارة أو تبشير النبيّ السابق بالنبيّ اللاحق، أو المعاصر له، وبهذا القيد يتّضح أمرٌ مهمٌّ، وهو أنَّ هذا المعرِّف ومدى تأثيره وقبوله منوطٌ بأبناء جلدته الذين عاشروه، أو اطّلعوا على بشارته ودعمه وتأييده، فضلًا عن ثبوت نبوّتُه بالأدلة والبراهين القاطع.
فبشارة نبيٍّ بنبيٍّ آخر تُعدّ من المعرِّفات التي تحتلّ المرتبة التالية بعد المعرِّف القاطع لكلّ شكٍّ وريبةٍ في صدق النبيّ وما جاء حاملًا له، وأهم مصداق لهذا المعرِّف هو ما قام به الأنبياء الذين كانوا معروفين جيدًا عند أقوامهم؛ بكلّ شيءٍ يجعلهم مصدّقين بأنفسهم وبكلّ ما جاءوا به، فإنَّهم بشّروا بالنبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس هذا فقط؛ بل أمروا أتباعهم بالإيمان به والتصديق بدعوته حينما يظهر، كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[26].

وأوضح مصداقٍ للبشارات من قبل الأنبياء (عليهم السلام) بالنبيّ الذي يأتي بعدهم هي بشارة النبيّ عيسى بالنبيّ محمّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)[27]، ولولا ما قام به الفاسدون من علماء السوء من النصارى واليهود من تحريف وتزييف للحقائق التي جاءت على لسان أنبيائهم بخصوص النبيّ الخاتم لما كان بوسع أحدٍ منهم التكذيب به، وليس هذا الأمر مخصوص فقط بأبناء جلدتهم هناك، بل هنا أيضًا في أبناء جلدته (صلى الله عليه وآله وسلم)، عملوا على الحطّ من مكانته على الرغم أنَّهم كانوا يعرفونه بكلّ الخصال والصفات التي لا يتحلّى بها أحد غيره، مع ذلك كذّبوه وطعنوه بدعوته ونبوته، لذا جاء معرِّف المعجزة ليبطل كلّ دعواهم ومدّعاهم في كونهم وجدوا المعرّفينِ السابقين عليها-المعجزة-لا يوجبان الاطمئنان عندهم أو كون البشارة لم تصلهم لكي يتثبّتوا من نبوة النبيّ أو دعواه التي جاء حاملًا لها ليبلغ القوم بها.

الفـرق بين النبيّ والإمـام:
يكفينا الأمر إذا نظرنا إلى ما يحمله الدين الإسلامي من أصول، بل جميع الأديان التوحيدية؛ لأنَّه يجمعها المشترك بينها من أصولٍ أساسيّة، كالتوحيد في الإله، والإيمان في وجود حياةٍ أخرى للإنسان، يحصد بها ما اقترفته يداه من خيرٍ وشر، والأصل الأخير هو التسليم بأمرٍ اسمه النبوّة عن الله تعالى جاءت بتكليفٍ من قبل لغرض هداية الناس وإصلاحهم، وتقويمهم. بعبارةٍ أخرى الإيمان بأشخاصٍ يحملون صفة النبوّة بأمرٍ من الله تعالى، جاءوا أو بعثوا لهداية الناس وإصلاحهم وتزكيتهم والأخذ بأيديهم بالسير في طريق الكمال والتكامل؛ لكي يصلوا إلى السعادة المرجوة في الدارين.

فهذه الأصول تمثّل الركيزة والأساس للأمور العَقَديّة[28]. فمن هذه الزاوية يتأتّى سؤالٌ مفاده: إذا كانت الْإمامة متفرعةً عن النبوّة أو لاحقةً لها إذًا ما هو الفرق بينهما؟ وإذا وجد الفارق بينهما فهل توجد نسبةٌ بينهما؟ في مقام الجواب لا بد أنْ نبيّن معنى الإمامة - كما بيّنا النبوّة في بداية هذه الدراسة - فالإمامة: لغةً: يُراد بها الرئاسة العامة، فكلّ من يتصدّى لرئاسة جماعةٍ يُسمّى الإمام[29]. بينما الإمامة: اصطلاحًا: فقد عُرفت برياسةٍ تامَّةٍ، وزَعامةٍ عامَّةٍ تَتَعَلَّقُ بالخاصَّةِ والعامَّةِ في مُهمَّاتِ الدِّين والدُّنيا[30]. وكذا عُرفت بالرئاسة والقيادة العامَّة الشاملة على الأُمّة الإسلاميَّة في كلِّ الابعاد والجوانب الدينيَّة والدنيويّة[31]. فهذه التعاريف جاءت لتبيّن مقدار ما يحتوي هذا اللفظ من شموليّةٍ وسعةٍ، وفي الوقت نفسه بيّنت من يُكمل ما جاءت الأنبياء من أجله، وهذا ما بيّنه الماوردي بقوله: «الإمامةُ مَوضوعةٌ لخِلافةِ النُّبُوَّةِ في حِراسةِ الدِّينِ وسياسةِ الدُّنيا»[32].

فيتضح أنَّ الإمامة التي عندنا غير التي عند القوم؛ لأنَّها عندنا من أصول الدين والمذهب، بينما عندهم فإنَّها من فروع الدين لا من أصوله. وتفسيرًا ذلك أنَّ الإمام جاء خليفةً عن النبيّ باختيارٍ إلهيّ وتنصيبٍ ربانيّ، ليقوم بالوظائف التي أُنيطت به[33]. وهذا المعنى نجده في الروايات، بل نجد كثيرًا منه في الآيات القرآنيّة، كما في قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا)[34]، وكذا قوله تعالى: (وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعلَ الخيرات وإقامَ الصلاة وإيتاءَ الزكاة وكانوا لنا عابدين)، فيتبيّن من ذلك أنَّ الإمام منصوبًا من الله للقيام بوظائف إلهيّة عيّنتها الآيات الكريمة، والإمامة عهد الله الذي لا يناله من اتسم بصفاتٍ خاصة جدًّا؛ لذا قال تعالى: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فالظالم مطلقًا غير مؤهّل لنيل هذا المنصب. فالإمام يجب أنْ يكون مصانًا من كلّ الذنوب والمعاصي حتى على مستوى الخطأ والسهو، وهذه الأمر يسمّى بالعصمة.

وأمّا علمه فيكون عالمًا بالعلم الإلهي عن طريق الإلهام، أو عن طريق تعليم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم). لهذه الأمور جاءت الإمامة متممةً لوظائف النبوة، لا أنّها ترقى لأنْ تكون متلقيةً للوحي كالنبوة؛ لأنَّ النبيّ هو المختصّ بالوحي وحمل الرسالة، ولا يمكن تعديهما ذلك إلى الإمام؛ لأنَّهما منفيّان عن الإمام بالقرآن والسنّة، بل الإمام نفسه يُنفي ذلك عنه إطلاقًا.
وبهذا يتّضح الفرق بين النبيّ والإمام، مع الإيمان بأنَّ مقامها عالٍ ورتبتها ساميّة لاتُنال إلاّ بالاصطفاء وبمواصفاتٍ خاصة؛ وهذا ما أثبته القرآن الكريم في مخاطبة الله تعالى لنبيّه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: (وَإِذِ اِبْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[35]. فالنبيّ إبراهيم (عليه السلام)، بعد أنْ أتم الاختبار والامتحان الإلهي في نهايات عمره المبارك التي كان فيها خليل الله سبحانه - رغم كونه نبيًّا مختارًا من قبل الله تعالى - عند ذلك أصبح مستحقًّا ليكون إمامًا للأمّة في قيادتها وإدارة شؤونها، وهذا ما أكّده الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: «إنَّ الإمامة أجلُّ قدرًا وأعظم شأنًا من أنْ يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إمامًا باختيارهم»[36]. وهذا أيضًا ما بُيّن بالنقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علَّمني ألف باب، وكلُّ بابٍ يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب»[37].

بالإضافة إلى أنَّ الرسالة كلّها لم تُبلّغ لو لم يُبلّغ النبي بالإمام، ممّا لا شك فيه أنَّ هذا الأمر لم يحصل بين الأنبياء (عليهم السلام) سواء كانوا أولي العزم، أم غيرهم من الأنبياء، فهذا إنْ دلّ على شيءٍ دلّ على المكانة والرفعة الخاصة بهذا الجعل الخاصّ المسمّى بالإمامة، فمع ذلك أنَّ النبوة تفترق بأمرٍ مهمٍّ لا يمكن الوصول إليه من قبل الإمامة، وهو الوحي والرسالة.

وتأسيسًا على ما تقدّم يكون الفرق بينهما فرقَ الوحي والرسالة فحسب، لإنَّهما من مختصّات النبيّ، لا الإمام. مع ذلك فالحري بنا أنْ نبيّن نُكتةً مهمةً من الضروري بمكانٍ أنْ نوضّحها للقارئ الكريم مع إيماننا بوجود هذه الفوارق بين المقامين إلاّ إنَّ الإمام له الأفضلية على كثيرٍ من الأنبياء، وبذلك تكون الإمامة كالنبوّة في الرفعة والمنزلة، بل تفوقها نظير ما حدث مع النبي إبراهيم (عليه السلام) في إعطائه الإمامة بعد ما أتمّ الامتحان والاختبار الإلهي في نبوّته، كما في الآية المتقدمة أعلاه. فهذه أهمّ الفروق التي يمكن تصوّرها بين النبي والإمام، وبذلك يتبين للقارئ الكريم النسبة المنطقيّة الجامعة والمفرقّة بينهما، فإنَّهما يجتمعان فيمن جمع بين النبوة والإمامة، ويفترقان فيمن تلبّس بأحدهما دون الأخرى، كما في الأنبياء غير أولي العزم منهم؛ لأنَّهم كانوا أنبياء يتمتعون بالنبوة دون الإمامة، أو الأئمة الذين كانوا يتمتعون بالإمامة دون النبوة، وهذه النسبة الموجودة هي التي تسمّى بالعموم والخصوص من وجه.

النبوّة الخاصّة
قد حاولنا بيان كثيرٍ من الأمور فيما تقدّم من أبحاثٍ بخصوص النبوّة بشكلها العام، على عكس ما سوف نتكلّم عنه هنا؛ فإنَّ الوجهة سوف تكون حول النبوة الخاصّة وما يحوطها من أمور، وتأسيسًا على ذلك فإنَّنا سوف لا نتكلّم عن مبادئ ومرتكزات النبوّة هنا؛ لاشتراكها بين جميع الأنبياء (عليهم السلام). هذا من جانب، وخوفًا من الإخلال بتكرار ما هو موجود في الأبحاث المتقدّمة، ممّا يوقعنا في مستنقع الإطالة والإسهاب من جانبٍ آخر.

بقي لنا أمرٌ لا بدَّ من التنويه عليه هنا، هو أنّ كلامنا سوف يدور حول نبوّة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأنَّ هذا هو قصدنا من لفظ النبوّة الخاصّة؛ لكونها تمّثل المصداق الأوضح والأجلى الموحى إليه من الله تعالى، بوساطة الوحي، بل تمثّلت بأخر قيادةٍ نبويّةٍ وخاتمةٍ للأنبياء والكتب والشرائع الإلهيَّة، فبالتالي تمثّل النموذج الأكمل والأبرز للنبوّة الخاصّة؛ لذا نقول إنَّ هذه النبوّة جاءت في ظروفٍ مليئةٍ بجميع المظالم والموبقات، بل جاءت في ظرفٍ انتكست به جميع القيم والمبادئ التي جاء بها الأنبياء السابقون، خصوصًا إبراهيم الخليل (عليه السلام)، نعم يوجد موحّدون بين هذه الناس، لكنّهم قلّةٌ قليلةٌ، ليس لها تأثيرٌ يذكر، خصوصًا مع وجود طبقةٍ حاكمةٍ من بيوتات كانت تتمتّع بالمال والجاه والقوة، ليس فقط على مستوى الجزيرة العربية والحجاز، بل حتى على مستوى التي ترى نفسها متحضرةً كالفرس والروم، فمع كلّ هذا الانحطاط والظلم والهزيمة التي كانت تعيشها البشرية، ظهر بين ظهرانيهم رجلٌ هاشميٌّ من رجالات التوحيد المتمثّلين بأهله وأعمامه- عدا أبي لهب - الذين كانوا يدينون بدين إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وهذا الرجل هو محمّدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم) بن عبد الله بن عبد المطلّب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَي بن كِلاب بن مُرةَ بن كعب بن لُؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك ابن النًّضْر بن كِنانة بن خُزَيمة بن مُدرِكة بن إلياس بن مُضر بن نِزار ابن مَعَدّ بن عدنان[38]، الذي جاء بدعوة النبوة، بعد إنْ كان بينهم معروفًا بالصفات والخصال والقيم الحميدة كلّها، التي لم يتحلَّ بها أحدٌ من أبناء جلدته، بل إنَّهم كانوا ينعتونه بالصادق الأمين، وهذا معناه كان معروفًا جيدًا بينهم، من حيث السيرة والمسيرة، وزيادةً على ما يحمله من خصائص وصفات، ونتيجة لذلك اطمأنّ أبناء قومه لصدق دعواه، وليس هذا فقط بل رافقه تعريف النبيّ عيسى (عليه السلام)، الذي كان يسبق النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالنبوة، وفضلًا عن ذلك جاء بمعجزةٍ تُخرس المتقوّلين والمشكّكين بنبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، من الذي استثقلوا مجيئه على مصالحهم ونفوذهم بين أبناء جلدتهم؛ لأنَّ النبي جاء محاربًا لكلّ إشكال الظلم والاستبداد، وباعثًا للأمل في نفوس المظلومين بعد الذي كانوا فيه من اليأس والإحباط، وهاديًا للتائهين في الضلال المبين، كما في قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ ٍفِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[39]، ليعيشوا قيم العدالة الإجرائية والاجتماعية كلّها بوجوده المبارك، وتفسيرًا لذلك أنَّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد أُرسل إليهم وهو محمّلٌ بكلا المقامين، أيّ مقام تبليغ الأحكام والأوامر منها والنواهي، ومقام القيادة والإدارة لهذه الأمّة، بل لكافّة البشرية سواء كان في الغرب أم الشرق، كما في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)[40]، لأنَّه يمثل خاتمة أنبياء أولي العزم (عليهم السلام) الذين بعثوا البشريّة كافة.

إضافة إلى ذلك أنَّه جاءهم حاملًا معه خاتمة الكتب الإلهيّة والشرائع السماويّة، ليأخذ بأيديهم في طريق الهداية، والكمال، والتكامل ليصل بهم إلى السعادة المنشودة، متّخذًا في ذلك من كتابه وشريعته سبلًا في هدايتهم وتعليمهم وتزكيتهم، استنادًا إلى الغاية العليا من بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا هو ما جعل علماء الكلام، يفردون عنوانًا خاصًّا في دراسة نبوة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، الموسوم بالنبوّة الخاصّة.

معاجز رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) :
إنَّ هذه الخاصيّة تُعدّ من الدلائل على نبوّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي جاءت ساندةً لباقي الحجج على صدق دعوى النبوة، وكونه مخبرًا عن الله تعالى، وعندها يُخرس التشكيك والمعارض له ولنبوتهِ، فإنَّها آيةٌ قاطعةٌ لكلّ ما يُثار حول نبوّة النبيّ؛ لذا عُرّفت المعجزة لغةً: بأنَّها إثبات العجز، وهو القصور عن فعل الشيء، فعندما يقال: أعجز فلانًا عن الأمر، إذا حاول تحقيقه فلم يحقّقه، والإعجاز ضدّ القدرة، وهو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عملٍ أو رأيّ أو تدبير[41]. وكذا عرفها الزبيدي: «بأنَّ أعجزه: أي صيّره عاجزًا، أي عن إدراكه واللحوق به»[42]. وأمَّا على المصطلح فقط عُرفت المعجزة: «بأنَّها عبارة عن القيام بأمورٍ خارقةٍ للعادة وخارجةٍ عن قدرة الإنسان والجن، مقترنة بالتحدّي أو بدونه»[43]. وكذا تم تعريفها: «بإنَّها الأمر الخارق للعادة، السالم من المعارضة يظهره الله تعالى على يد النبيّ، تصديقًا له في دعوى النبوة»[44]. وقد عرّف العلاّمة اليزدي المعجزة: بأنّها « أمرٌ خارقٌ للعادة، يأتي بها مدَّعي النبوَّة بإرادة الله، وتكون دليلًا على صدق دعواه»[45].

إنّ دعوة النبوة تُعدّ قيدًا هرميًّا لإجراء المعجزة، والقيد الآخر هو كونها خارقةً للعادة الجارية بنظام الأسباب والعلل؛ لأنَّها لا يمكن فيها معرفة الأسباب والعلل، كمعجزة القرآن الكريم الذي جاء دليلًا على نبوَّة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن القيود أيضًا قيد التحدّي بكونهِ أمرًا معجزًا للإنسان والجن، وليس هذا فقط، بل عجزهم أيضًا عن مواجهتهِ ومعارضتهِ، كما في قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)[46]، والقيد الأخير الذي يمكن تصوّره ليس فقط في معجزة القرآن الخالد، وإنَّما يمكن تصوّره في كلّ معاجز النبيّ الأخرى التي سوف نتطرق لها تباعًا، ألا وهي مطابقة ما يأتي به من معجزٍ مع ما يدّعيه، وفي خلاف ذلك لا تُعدّ معجزة؛ لأنَّها جاءت على خلاف ما ادّعاه. الآن سوف نتحدّث عن معاجز النبيّ الأكرم بحسب ما هو مشهور في علم الكلام:

الأولى: القرآن الكريم: فهذا الكتاب جاء حاملًا للمعاني والألفاظ الدالة عليها، فيه تبيان كلّ شيءٍ، وممثّلًا معجزةً في ميدانه سواء كان في زمن نزوله أم كلّ الأزمان؛ فإنَّه باقٍ على اعجازه ما بقي الدهر، ومطابق لدعوى التي جاء بها النبيّ الأكرم، لأنَّه كان حاملًا لكلّ المعاني التي جعلت من بلغاء العرب عاجزين إمامه، ولا يمكن لهم ردّه أو الإتيان بمثله، لكون إعجازه إعجازًا على جميع المستويات، من الفصاحة، والبلاغة، والنَّظم، والأسلوب، في زمن رواج فيه هذه العلوم العربية، التي امتازَ فيها العرب يومئذٍ.

فهذا الإعجاز الذي جاء مطابقًا لدعوى النبوّة، لم يخرج مقتضى الحكمة الإلهيّة في الإتيان بالمعجزة على يد النبيّ بحسب ما هو موجود من صنعةٍ في زمنه، نظير المعجزة التي أجراها الله تعالى على يد النبيّ عيسى (عليه السلام) من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص في زمن شاع فيه الطبّ، أو المعجزة الباطلة للسحر التي جاء بها موسى (عليه السلام) على صدق دعواه في زمن شاع فيه السحر، فمن هذا المنطلق إنَّ المعجزة تأتي مطابقةً لما هو شائعٌ من فنونٍ أو صنائع، ومعجزة النبيّ الأكرم J، لم تخرج عن هذا الإطار، فإنَّها جاءت في زمنٍ شاعت فيه العربيّة وفنونها، من شعرٍ وخطابة، ممتازة بالفصاحة الألفاظ وروعة عباراته، والبلاغة في المعاني وترفعها عمّا هو موجودٌ وسائدٌ بسموُّها، والنَّظم وروعته وجمالة ترابط الجمل والكلمات في التأليف والتناسق، والأسلوب، البديع الذي لا نظير له عند العرب، بل ليس له مثل لا في الخطب ولا الشعر ولا الكلام في كلّ فروعه وزواياه، لهذا كان فصحاء العرب وبُلغائهم يعرفون قيمة هذه الفنون، لكونهم كانوا يتمتعون بهذه الفنون بحسب مكاناتهم وقدراتهم الأرضية، فإذا جاء كلام خارج عن إطار كلامهم الرائج والموجود بالبيان والفصاحة والبلاغة والنظَّم والأسلوب؛ فما يكون منهم إلاّ أنْ يقفوا عاجزين صاغرين أمام ما جاء به النبيّ من إعجازٍ كلامي، وبالتالي يعرفون قيمة ما جاء به النبيّ الأعظم، من معجزة، وإنَّهم عاجزين عن الأتيان بمثلها، أو ردّها، وعندها يطمئنوا بإنَّها ليس من صنع البشر، وإنَّما من صنع الخالق تعالى جاء بها لتكون مؤيدةً وقاطعةً بصدق النبيّ ودعوته.

وممّا يؤيّد هذا الكلام هو ما رواه الكليني عن أبي يعقوب بقوله: قال ابن السكّيت، لأبي الحسن (عليه السلام): لماذا بعث محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إنَّ الله بعث محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) في وقتٍ كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام- وأظنّه قال: الشعر-فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجّة عليهم»[47]. إذًا هذه المعجزة تكون خالدةً، والدين المرتبط بها يكون خالدًا، فهي باقيةٌ وعصيّةٌ على أيّ أحدٍ، حتى على مستوى العلم والتعليّم، لكونها غير قابلةٍ لذلك، بل ولا يمكن تصوّر أيّ شيءٍ مهما كان يحمل من إمكاناتٍ وقوى إنْ يقف قاهرًا ومعارضًا لها، أو مبطلًا إيّاها، لسببٍ بسيطٍ وهو إنَّها من مختصّات النبيّ المختار التي جعلها الله تعالى، في متناول يده المباركة، لتكون مصدر إثبات لصدقه وصدق دعوته، فضلًا عن ذلك هو العهد بحفظها من قبل الله تعالى بنفسه، كما في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[48].

الثانية: انشقاق القمر: بعدما تكلّمنا عن المعجزة الجوهريّة والأساسيّة للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي جاءت في زمانٍ واستمرّت إلى يومنا هذا، وسوف تستمر إلى يوم القيامة؛ لأنَّ خلود الدين بخلودها؛ لهذا تكلّمنا عنها بما تستحقّ، بقليلٍ من التفصيل مع مراعاتنا لعنوان المعنون الذي نحن فيه؛ لأنَّ الموضوع يحتاج إلى دراسةٍ خاصّةٍ تستوفي جميع ما يدور عنها والإشكالات التي أثيرت حولها والشواهد على كونها صادرةً من الله وغيرها من بحوثٍ؛ لذلك استكفينا بما تم توضيحه. وأمَّا ما يدور عن المعجزات الأخرى التي جاءت زمنيًا بحسب حياة وسيرة النبيّ والمراحل التي أمره بها، نتيجة ما يُطلب من قبل أبناء جلدته، وهذا الأمر ثابت قرآنيًّا، ومحفوظًا في التاريخ والكتب الروائيّة، فكلّها نقلت الكثير من المعاجز للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبطبيعة الحال معجزة انشقاق القمر منها فهي أيضًا جاءت مثبتةً ومؤيّدةً لصدق النبيّ في دعوته، فما كان من النبيّ إلاّ أنْ يستجيب لهم، لكي يؤمنوا بما جاء به من الله تعالى، وهذه ما أثبتته التفاسير الإسلاميّة من المدرستين، وليس فقط مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، في تفسيرهم لقوله تعالى:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ* وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ* وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ*حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)[49]، حيث قالوا إنّ المشركين اجتمعوا إلى النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا: إنْ كُنتَ صادقًا فشُقَّ لنا القَمَر فَلقَتَين، فقال لهم رسول الله: «إنْ فَعلتُ تُؤمنون؟» قالوا: نعَم. وكان ليلة بدر، فسأل رسول الله رَبّه أنْ يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فَلقَتين، ورسول الله ينادي: «يا فلان، يا فلان، اشهدوا»[50]. فهذه معجزةٌ أخرى جاءت دليلًا على صدقه؛ لأنَّها لم تأتِ بحسب القوانين الجارية في العلوم التجريبيّة.

الثالثة: الإسراء والمعراج: إنَ هذه المعجزة جاءت نتيجة انطباقها على الأمور الخارقة للعادة الجارية في قطع المسافات الهائلة في وقتٍ وجيزٍ جدًا. وهذا ما قام به النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما أُسري فيه ليلًا كما في القصة المعروفة التي جاء ذكرها في المعجزة الخالدة - القرآن الكريم - التي جاءت على يده (صلى الله عليه وآله وسلم)، الموسومة بالإسراء والمعراج، فهي تحكي بإنَّ النبيّ أُسري به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[51]، فهذه الآية صريحةٌ ببعد المسافة التي قطعها النبيّ بليلةٍ واحدةٍ من مكانه إلى المكان المقصود الذي كان يمثّل أبعد مسجد بالنسبة له، لذا سمّته الآية (المسجد الأقصى)[52]، لكونه يمثّل يومئذٍ أبعد مسجدٍ على النبيّ بقياس مكانه الذي كان فيه، فهذا الإسراء تم بليلةٍ واحدة، فكان ذهابه وإيابه فيها قبل أنْ يطلع فجرها، وهذا القطع للمسافة لم يتسنَّ لأحدٍ قطعها مهما أُتي من قوةٍ أو أدوات للنقل، بل يُعدّ عاجزًا بحسب ما هو موجودٌ من علومٍ وقوانين تجريبية، لكون قطع النبيّ لهذه المسافة قطعًا خارقًا للعادة.

الرابعة: معجزة المباهلة: إنَّ معجزة المباهلة لم تخرج خارج ما ذكرته المعجزة التي أخرست جميع ما كان موجودًا حين نزولها على قلب النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، من علماء وخطباء ومستمعين لما يلقى عليهم من فنون وعلوم العربية، فإنَّها جاءت على ذكرها وذكر تفاصيلها، في دعاء النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان عبارةً عن التضرّع وتفويض الأمر إلى الله تعالى، على نصارى نجران بالعذاب والثبور نتيجة ما أحدثوه من انحرافاتٍ وشبهاتٍ حول الرسالة وصاحبها (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في قوله تعالى: (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ)[53].

إنَّ هؤلاء النصارى عندما رأى كبراؤهم قدوم النبيّ مع الثلّة الخاصّة به وأهم من كانوا يهمّه أمرهم ويسيء له من أساء لهم، فهم كانوا عليًّا الذي كان يمثّل أقرب شخصٍ له وقائدَ لوائه، وفاطمة بنته وبضعته، والحسن والحسين أبناءه وريحانتيه (عليهم السلام). هذا ما أجمع عليه أشهر علماء التاريخ والمفسّرون، وأصحاب الكتب الروائيّة، حيث قالوا: «إنّه لما جاء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، آخذًا بيدي علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام)، بين يديه يمشيان، وفاطمة $ تمشي خلفه، وخرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم. فلمّا رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد أقبل بمِن معه، فسأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه، وهذان ابنا بنته من عليّ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه، وتقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجثا على ركبتيه. قال أبو حارثة الأسقف جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة. فرجع ولم يقدم على المباهلة، فقال السيّد: اُدنُ يا أبا حارثة للمباهلة فقال: لا. إنّي لأرى رجلًا جريئًا على المباهلة وأنا أخاف أنْ يكون صادقًا، ولئن كان صادقًا لم يحلّ والله علينا حولٌ وفي الدنيا نصراني يطعم الماء».

وفي روايةٍ أخرى إنَّه قال لهم: «إنّي لأرى وجوهًا لو سألوا الله أنْ يزيل جبلًا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيٌّ إلى يوم القيامة، فقال الأسقف: يا أبا القاسم! إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به»[54].
على عكس ما كانوا يتصورون بأنَّ النبي سوف لا يأتي بخواصه خوفًا عليهم من العذاب، وإنَّما قالوا يأتي بالصحابة والشخصيّات الإسلاميّة الموجودة آنذاك، وعندها نباهله، فهنا ادركوا فناءهم، ونزول العذاب والغضب الإلهي بهم في حال إنْ استمرّوا بالتحدّي؛ لأنَّهم أدركوا صدقه وصدق دعوته، وخاصّة عندما جاء بمعيّة هؤلاء، وهنا تأكّدوا إنَّهم خاسرون لا محال؛ لذا اضطروا صاغرين للصلح والتنازل عن المباهلة، وبذلك يتّضح للملأ كذب نصارى نجران فيما ادّعوه وافتروه، على عكس ما أرادوه من تكذيب النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكذيب دعوته، فهذا هو المستفاد منها.

الخامسة: المعاجز التي بيّن ذكرها بالقرآن وإثباتها بالسنّة والتاريخ:
تقدم، إنَّ معجزة القرآن ليست مثبتة لنفسها فحسب، وإنَّما مثبتة لغيرها من المعاجز التي جرت على يد النبيّ الأكرم، لا إنَّها فقط جاءت لتثبت صدقه وصدق دعوته، بل إنَّها جاءت أيضًا استجابةً منه للطلبات التي قدّمت من قبل أبناء جلدته، بإنْ يأتي لهم بمعجزة، كما فعل من قبل بأتيانه بالمعاجز مع الذين سبقوهم، وهذا ما أكّده سبحانه في كتابه الكريم بقوله: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)[55]، وهذه المعاجز وإنْ كانت جاءت استجابةً لأبناء جلدته، فهي في عين الوقت تُعدّ كبيّناتٍ ودلائل مؤكّدة على جميع ما جاء به النبي، فضلًا عن صدقه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في قوله تعالى: (كيفَ يَهدي اللهُ قَوْمًا كَفَروا بَعْدَ إيمانِهِمْ وَشَهِدوا أَنَّ الرَّسول حَقٌّ وجاءَهُمُ البَيِّناتُ والله لا يَهْدي القَوْمَ الظّالمِين)[56]، وليس هذا فقط بل إنَّ أعداء النبيّ ودعوته، لا يكلّون عن الحطّ من النبيّ وقدره، لدرجةٍ أخذوا يصفون معاجزه التي يأتي بها بأنَّها سحرٌ، وهذا هو ما بينه القرآن الكريم بقول الله تعالى: (وإذا ذكروا لا يذكرون وإِذا رأَوا آيَةً يَسْتَسْخِرونَ* وقالوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبينٌ)[57].

إضافة لما تقدّم من المعاجز، معجزة النبيّ في الإخبارات عن الغيب والمغيّبات، ومعجزته الخالدة حافلة بذكر كثيرٍ من المغيّبات له ولغيره من الأنبياء، لا سيّما السيد المسيح (على نبينا وآله وعليه السلام والتحيّة)، كما في قوله تعالى: (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[58]، وأيضًا ما جاء في قوله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)[59]، فهذه نماذج عن الإخبارات الغيبيّة التي يحفل بها القرآن الكريم[60]، بل حتى في السُنّة الشريفة وكتب التاريخ فإنَّها حافلةٌ أيضًا بذكر كثيرٍ من المعاجز التي جرت على يد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في المعجزة التي تم ذكرها في مصادر التاريخ، فضلًا عن السُنّة، المحدّثة عن ردّ الشمس بأمر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأجل صلاة الإمام علي (عليه السلام)؛ لأنَّ الإمام كان مشغولًا بالحرب، والشمس قد غربت، ووقت الصلاة قد نفذ وقتها أداءً، فهنا أمر النبيّ الشمس لشروقها بعد إنْ غربت[61]. والمعجزة الأخرى التي تطرّقوا إليها أهل الحديث والرواية في مصادرهم، هي التي قام بها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما أراد الناس الصلاة خلفه، ولكنّهم لم يجدوا الماء لوضوئهم، فهنا وضع النبيّ يده المباركة في الإناء فجرى الماء من بين أصابع النبيّ فتوضأ به جميع من كانوا يرومون الصلاة خلفه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسمّيت هذه المعجزة بـجريان الماء من بين أصابع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)[62].

ومن هذه المعاجز أيضًا معجزة: حركة الشجرة نحو الرسول، وهذه أيضًا جاءت في ركاب الطلبات التي قُدمت من قبل الناس لغرض القبول والإيمان بنبوة النبيّ وصدقه فيها، فعندها جاءت هذه المعجزة ملبيةً لنداء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والناقل والمحدّث بها كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، في الخطبة المعروفة بالقاصعة، ومفاد هذه المعجزة أنَّ جماعةً من شيوخ قريش جاءوا ذات يومٍ إلى النبيّ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وطلبوا منه أنْ يدعو الشجرة لتأتي إليه وتقف بين يديه حتى يؤمنوا بنبوته، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الشجرة أنْ تنقلع من جذورها بإذن الله تعالى، وتقف بين يديه، فانقلعت الشجرة بجذورها وجاءت ووقفت بين يديه، ومع ذلك لم يؤمنوا بالنبيّ ووصفوه بالساحر[63]،[64].

وقد ذكروا أصحاب الكتب الكلاميّة والتاريخية فضلًا عن الحديثيّة معجزةً أخرى، وإنْ اختلفوا في بعض مضامين الروايات التي نقلت هذه المعجزة، التي سمّيت بـ (تسبيح الحصى في يدي الرسول صلّى الله عليه وآله)؛ فقد روى عن أنس في أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أخذ كفًّا من الحصى فسبّحن في يده، ثم صبّهن في يد علي (عليه السلام)، فسبّحن في يده، حتى سمعنا التسبيح في أيديهما، ثم صبّهن في أيدينا فما سبّحت في أيدينا[65]،[66].

ومن المعاجز إيضًا شفاء المرضى وإبرائهم من عللهم: وهذه المعجزة قد نُقلت في كتب المدرستين بلا خلافٍ بينهم في أنَّها حدثت مع الإمام أمير المؤمنين من قبل النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث نُقل بأنَّ النبيّ في يوم خيبر قال: «لأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسولَه، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، قالَ فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ)، كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ أَيْنَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَقالوا: هو يا رَسولَ اللهِ، يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ فأرْسِلُوا إلَيْهِ، فَأُتِيَ به، فَبَصَقَ رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وَآله وسَلَّمَ) في عَيْنَيْهِ، وَدَعَا له فَبَرَأَ، حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وَجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ».[67]

إلى هنا قد تكلّمنا عن المعاجز الرئيسة والخالدة بخلود ما جاءت به، ومعاجز قد تخلد ذكرها مع انتهاء وقت فعليتها، ومعاجز تم ذكرها مع عدم الاختلاف في وقوها أو مضمونها ومحتواها، وإنْ اختلفوا في متنها من حيث التفصيل، ونحن لسنا معنيين هنا بالاختلافات في بعض المعاجز من حيث تضعيفها أو ردها - لأنَّها ليس من مختصات علم الكلام - كما حصل مع أهل السنّة في معجزة تسبيح الحصى بيد النبيّ، علمًا أنَّ كبار علمائهم يذهبون إلى حيث ما ذهب إليه علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، في أنَّها ثابتةٌ وواقعة. وهذا يكشف عن أهميّة هذه النبوة، كونها تمثّل قمة التكامل لدى الأنبياء، وتمثّل الخاتميّة لهم، ولما تحمله من رسالة وشريعة، لهذا لم ينقل لنا لا كتب التاريخ ولا الحديث عن أنَّ نبيًّا من الأنبياء قد حصل معه هذا الكم الهائل من المعاجز إلّا النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

ممّا لا شك فيه أنَّ هذه المعاجز لم تقف عند هذا العدد الذي ذكر، بل قد نُقلت معاجز أخرى عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن نحن لم نفرد لها عنوانًا خاصًا؛ لأنّها لم تنفرد بعنوانٍ قائمٍ بنفسه، وإنَّما معنونها لم يخرج عمّا تقدمها من معاجز جوهريّة وأساسيّة في قيام النبوة، فضلًا عن ذلك فإنَّ مضمونها مندرجٌ في معنونات المعاجز الأساسيّة؛ لذا سوف نكتفي بذكرها فقط، فمثلًا كالكلام مع الحيوانات الوحشيّة والبهائم والطير، وإخبار الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، والبركة في الطعام، بحيث يحصل الشبع لناسٍ كُثر من طعامٍ قليل، وتكلّم الذراع المسموم معه، حينما وضع أمامه لأكله، ودعائه لعلي (عليه السلام) بإنْ يصرف عنه الحرّ والبرد، وعلى أثرها كان لباسه واحدًا في الصيف والشتاء، وأخباره بقتل الحسين (عليه السلام)، وحجر ابن عدي (رضوان الله عليه)، وأخباره ابن عباس بأنَّه سوف يُعمى في كبره، وأخباره بأنَّ الأرض أكلت ما كان في الصحيفة التي كتبتها قريش وعلقتها في بطن الكعبة ضدّ بني هاشم، وأخباره بشهادة شهداء غزوة مؤتة، وهم جعفر الطيّار، وزيد بن حارثة، وعبد اللّه بن رواحة (رضوان الله عليهم)، وأخباره بقتل حبيب بن عدي في مكة، وأخباره بالمال الذي أخفاه عمّه العباس في مكة. أخباره بعدد الأئمّة الاثني عشر، وذكرهم بأسمائهم، وأخباره بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يقاتل بعده الناكثين والقاسطين والمارقين، وأخباره بخروج عائشة على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصياح كلاب الحوأب عليها، وأخبار علي (عليه السلام) بمقتله، وأخباره بدفن بضعة منه في أرض طوس، وأخبار عمار ابن ياسر بمقتله على يد الفئة الباغية، وأخباره بانتصار العرب على الفرس، وليس هذا فقط بل إنَّه أخبر بجميع الفتن التي سوف تقع بعده، نظير ما حدث مع أبا ذر (رضوان الله عليه) في أنَّه يموت وحيدًا غريبًا، وكذا ما حدث مع عمار بن ياسر حينما أخبره النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّ آخر رزقه من الدنيا صاعٌ من لبن، وكإخباره (صلّى اللّه عليه وآله) بمُلك بني أميّة ومُلك بني العباس، وأخباره ببقاء ملك النصارى[68]، فهذا خلاصة ما ذُكر من معاجز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، في مصادر وكتب الفريقين.

-----------------------------------
[1] سورة الحج، الآية:75.
[2] سورة القصص، الآية:68.
[3] سورة طه، الآية:13.
[4] انظر، الإمام علي، نهج البلاغة، الخطبة الأولى، ص4.
[5] انظر: السبحاني، جعفر، الإلهيات، ج3، ص45.
[6] الجوهري، الصحاح، ج1، ص74، مادة (نبأ)، وابن منظور، لسان العرب، ج15، ص301، مادة (نبأ).
[7] الجوهري، الصحاح، ج1، ص74، مادة (نبأ).
[8] الزبيدي، تاج العروس، ج1، ص257، مادة (نبأ).
[9] العلاّمة المظفّر، عقائد الإماميّة، 56.
[10] الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي، ج1، ص176.
[11] سورة النساء، الآية:163.
[12] انظر: الطبري، ابن جرير، جامع البيان، ج6، ص37.
[13] الطبري، مصدر سابق. ج6، ص38.
[14] انظر: ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، ج4، 319.
[15] انظر: السبحاني، جعفر، الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، ج3، ص159.
[16] للاطلاع ينظر: الألباني، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، سلسة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، ج2، ص190-192.
[17] السبحاني، جعفر، مفاهيم القرآن، ج3، ص77-116.
[18] الخميني، روح الله، صحيفة الإمام، ج‏17، ص354.
[19] للاطلاع أكثر النظر إلى: السبحاني، مصدر سابق، ج3، ص44-49. والجوزي، ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ج1، ص69.
[20] المظفر، محمد رضا، عقائد الإماميّة، ص56.
[21] الرومي، فهد، دراسات في علوم القرآن، ص257-258.
[22] سورة الشعراء، الآية: 30-33.
[23] سورة البقرة، الآية: 23.
[24] العلاّمة الحلي، إيضاح مخالفة السنّة، ص56.
[25] اليزدي، مصباح، دروس في العقيدة الإسلاميّة، ج2، ص257.
[26] سورة الأعراف، الآية: 157.
[27] سورة الصف، الآية: 6.
[28] نحن هنا لا نفصّل القول في هذا التفصيل، ولماذا سمّي بالأصول، وهل تمثّل أصولًا مطلقةً أم مقيدة، أو هي عامة أو خاصة وهكذا، هذا نتركه لمحلّه فمن أراد المتابعة عليه المراجعة. انظر: السبحاني، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، ج1، ص6-21.
[29] اليزدي، مصباح، مصدر سابق، ج2، ص340.
[30] الجويني، أبو المعالي، غياث الأمم في التياث الظلم، ص22.
[31] السبحاني، محاضرات في الإلهيّات، ص343.
[32] الماوردي، الأحكام السلطانيّة، ص15.
[33] انظر: الإيجي، مصدر سابق، ج8، ص344.
[34] سورة البقرة، الآية: 124.
[35] سورة البقرة، الآية: 124.
[36] المازندراني، مولي محمد صالح، شرح أصول الكافي، ج5، ص193.
[37] الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي، ج1، ص296.
[38] انظر: المجلسي، بحار الأنوار، ج15، ص105.
[39] سورة آل عمران، الآية:164.
[40] سورة الأعراف، الآية: 158.
[41] الفيروزآبادي، بصائر ذوي التميز، ج1، ص65.
[42] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، مادة(عجز).
[43] العامري، سامي، براهين النبوة، ص46.
[44] الدواني، محمد بن أسعد الصديقي، شرح العقائد العضدية لجلال الدين، ج2، ص276.
[45] اليزدي، دروس في العقيدة الإسلاميّة، ج2، ص258.
[46] سورة البقرة، الآية: 23-24.
[47] الكليني، أصول الكافي، ج1، ص24-25؛ والمجلسي، بحار الأنوار، ج17، ص210؛ والطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص225.
[48] سورة الحجر، الآية: 9.
[49] سورة القمر، الآية: 1-5.
[50] ا لرازي، الفخر، تفسير القرآن، ج7، ص748؛ الطبرسي، مجمع البيان، ج5، ص186.
[51] سورة الإسراء، الآية: 1.
[52] المقصود به بيت المقدس، وإنَّما ذُكر بالأقصى رمزية عن البعد، بدليل الآية التي قالت الذي باركنا حوله. للاطلاع اكثر ينظر: العلاّمة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج13، ص7.
[53] سورة آل عمران، الآية: 61.
[54] الشيرازي، مكارم، التفسير الأمثل، ج1، ص289؛ الطبري، محمد بن جرير، تفسير = =الطبري، ج3، ص192؛ النيسابوري، أبو عبد الله محمد، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص150؛ الرازي، الفخر، تفسير الرازي، ج8، ص85؛ الأصفهاني، الحافظ أبو نعيم، دلائل النبوة، ص297.
[55] سورة الأنعام، الآية: 124.
[56] سورة آل عمران، الآية: 86.
[57] سورة الصافات، الآيات: 14-15.
[58] سورة آل عمران، الآية: 49.
[59] سورة هود، الآية: 49.
[60] من أراد الاطلاع على نماذج أخرى في القرآن الكريم فلينظر: سورة القمر، الآية: 45؛ وسورة الروم، الآية: 1-5؛ وسورة يونس، الآية: 92.
[61] الكاشاني، الفيض، الوافي، ج14، ص1392؛ والكليني، الكافي، ج9، ص279؛ والمسعودي، عليّ بن الحسين، إثبات الوصية، ص153؛ والأميني، عبد الحسين، الغدير، ج3، ص127.
[62] انظر: البخاري، صحيح البخاري، ج3، ص310؛ الراوندي، الخرائج والجوارح، ج1، ص47؛ الزهيري، حسن، شرح أصول اعتقاد أهل السنّة للالكائي، ج64، ص6؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج41، ص252؛ المسعودي، إثبات الوصيّة، ص119.
[63] الإمام علي(عليه السلام)، نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، الرقم، 192. البحراني، ميثم، شرح نهج البلاغة، ج4، ص234.
[64] انظر: البخاري، صحيح البخاري، رقم الحديث، 4152. والحكمي، حافظ، مرويات غزوة الحديبية جمع وتخريج ودراسة، ص258.
[65] المجلسي، بحار الأنوار، ج41، ص252؛ الرواندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح، ج1، ص47-61.
[66] الألوسي، محمود شهاب الدين الحسيني، روح المعاني في تفسير القرآن، ج22، ص4؛ الناجي، أحمد، صحيح معجزات النبي J، ص18-23؛ السقار، منقذ، دلائل النبوة، ص7.
[67] الناجي، مصدر سابق، ص18. ومسلم، صحيح مسلم، حديث رقم: 2406.
[68] الزهيري، حسن، مصدر سابق، ج6، ص64؛ الشعراوي، محمد، تفسير الشعراوي، ص701؛ الزُّرقاني، محمد، شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدي، ج6، ص513؛ الزنجاني، إبراهيم، عقائد الأمامية الاثني عشرية، ج2، ص184-187.