الباحث : د. علي رضا قائمي نيا
اسم المجلة : العقيدة
العدد : 32
السنة : خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 23 / 2024
عدد زيارات البحث : 331
الملخّص[1]
يتناول هذا البحث مجموعةً من المفاهيم القرآنية ذات الدلالات الثقافية، التي يُطلق «عليها المفاهيم الثقافية». وهي ما سيتم تناول تعريفها في المطالب الأولى، بالإضافة الى إيضاح مفهوم الشاكلة الثقافية الذي ورد في طيات البحث، وهي التي تأخذ شكل الأثر الثقافي في الفعل والسلوك الفردي.
ويأتي البحث على تقسيم مختلف أبعاد أو طبقات الدين إلى اعتقاديّ وتخطيطيّ وثقافيّ، ويبحث عن القضايا الأنثروبولوجيّة والعضويّة والثقافيّة في الدين، والنماذج الدينيّة، وهي التي تشكّل بُنية الأبعاد الوجودية للإنسان: الماديّة والاجتماعيّة والشخصيّة والمعنويّة. وأخيرًا يوضح أساليب كشف النماذج الدينيّة، باحثًا ذلك كلّه في ضوء الرؤية الدينيّة القرآنيّة، وما تفيده دلالاتها، وتوجهه أغراضها.
الكلمات المفتاحيّة: الدين، المفاهيم الثقافيّة، الشاكلة الثقافيّة، القضايا،النماذج الدينيّة.
Abstracts
This research addresses a set of Quranic concepts with cultural connotations, referred to as “cultural concepts.” These will be defined in the initial sections, along with an explanation of the concept of “cultural pattern,” which manifests as cultural influence in individual actions and behaviors. The research divides the various dimensions or layers of religion into doctrinal, planning, and cultural aspects. It explores anthropological, organic, and cultural issues in religion, as well as religious models, which form the existential dimensions of humans: material, social, personal, and spiritual. Finally, it discusses methods for uncovering religious models, examining all of this in light of the Quranic religious perspective, its implications, and its objectives.
Keywords: religion, cultural concepts, cultural pattern, issues, religious models.
المفاهيم الثقافيّة
يمكن لنا أنْ نذكر في الحدّ الأدنى ثلاثة تعريفاتٍ عن المفاهيم الثقافية:
إنّ المفاهيم الثقافية هي المفاهيم التي يتمّ توظيفها في الحياة الاجتماعية، ويكون المجتمع ظرفًا لتحقّقها.
إنّ المفاهيم الثقافية هي المفاهيم التي تترتّب على تحقّقها تداعياتٌ اجتماعية.
إنّ المفاهيم الثقافية هي المفاهيم التي تحتوي على خططٍ ثقافيةٍ خاصّة.
التعريف الأول: في ضوء هذا التعريف يتم التعريف بالمفاهيم الثقافية مقرونةً بظرف تحقّقها؛ وإنّ ظرف تحقّقها هو المجتمع. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ مفهوم (الزواج) مفهومٌ ثقافي، وظرف تحقّقه هو المجتمع. وهكذا المفاهيم التي هي من قبيل: (المشاورة)، و(الأسرة)، و(التنافس)، و(المناظرة)، ونظائر ذلك.
التعريف الثاني: تطلق المفاهيم الثقافية تارةً على المفاهيم التي يترتب على تحقّقها تداعياتٌ اجتماعية.
التعريف الثالث: في ضوء هذا التعريف يتمّ تحديد المفاهيم الثقافية من خلال الخطط الثقافية. من ذلك ـ مثلًا ـ عندما نستعمل مفهوم (الزواج) في المجتمع، يتداعى إلى الذهن طرح مشروعٍ ثقافيّ خاصٍّ في ذلك المجتمع. إنّ كلّ مفهومٍ اجتماعيّ يشتمل في حدّ ذاته على خطّةٍ ومشروعٍ ثقافيّ خاصّين به.
إنّ من بين المفاهيم الثقافية في القرآن الكريم، مفهوم (الأمة)، إذ ورد استعماله في كثيرٍ من الموارد، كما في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
إنّ هذه الآية واحدةٌ من الآيات التي تكون دلالة (الأمة) الثقافية فيها واضحة. إنّ خيريّة الأُمّة تعود إلى هذه النقطة، وهي عبارةٌ عن تأسيس ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها. وبعبارةٍ أخرى: إنّ مجرّد اشتمال المجتمع على بعض الأفراد الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا ينهض دليلًا على أنّ هذه الأمة هي من خير الأمم. بل من خلال الالتفات إلى صدر الآية وذيلها، وأخذ مناسبات الموضوع والمحمول ـ كما يقول علماء الأصول ـ بنظر الاعتبار، نجد أنّ ارتبط خير الأُمّة بأمر أفرادها بالمعروف ونهيهم عن المنكر بوصف ذلك ثقافة.
وهناك في سورة آل عمران آياتٌ تدلّ بوضوحٍ على المعنى الثقافي للأمّة، كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
. فإنّ موقع مفردة (الأمّة) في هذا المورد مهمّة جدًا؛ لإنّ هذه الآية تقارن بين أمّة من أهل الكتاب وبين الآخرين؛ وهي الأمة القائمة، التي تتلو آيات الله في جوف الليل ... وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتسارع في فعل الخيرات. وهنا يجب أنْ نفصل بين نقطتين، وهما:
مجموعةٌ من أهل الكتاب يتصفون بهذه الخصائص.
الأُمّة التي تتصف بهذه الخصائص.
لقد تمّت الإشارة في هذه الآية إلى أُمّةٍ تتوفّر فيها هذه الخصائص. إنّ الأمة التي تحمل هذه الثقافة، هي الأمة التي توجد في جنباتها ومفاصلها هذه النماذج الثقافية الخاصة، وهنا ترد المقارنة بين هذه الأمة وغيرها، وليس مجرّد المقارنة بين أفراد من هذه الأمة وغيرهم. إنّ هذه الأمة تمتلك النموذج الثقافي المتمثّل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بمعنى أنّ هذين الأمرين قد صارا مشروعين ثقافيين لدى هذه الأمة. وكذلك فإنّ المسارعة إلى فعل الخير مشروع وخطّة تعمل على توجيه حياتهم وما إلى ذلك.
قد يستفيد بعضهم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذه الآيات، كما استفاد ذلك بعض الفقهاء، ولكن لا ينبغي النظر إلى هذه الآيات من زاوية الأحكام الفردية فقط، بل إنّها تشير إلى النماذج الثقافية.
قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وقد فسّر الفيض الكاشاني هذه الآية بمعنى الوجوب الكفائي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾. وعليه لو قامت مجموعةٌ من الناس بهذه المسؤولية، فإنّها سوف تسقط عن الآخرين، وإنّ هذه الآية لم تأمر جميع الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنّ المفلحين هم الذين يقومون بهذا الأمر فقط. إنّ هذا النوع من الآيات بصدد الإشارة إلى النماذج الثقافية للمجتمع الديني، وبهذا المعنى كان النبي إبراهيم (عليه السلام) أُمّة؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. لقد كان النبي إبراهيم (عليه السلام) وحده أمّة؛ إذ كان النموذج الثقافي الخاصّ بالأسلام متجسّدًا فيه على نحوٍ تامٍّ وكامل، ولم يكن من المشركين أبدًا. لذا فإنّ الأمّة في هذا الاستعمال ترتبط بالنموذج الثقافي الخاصّ.
الشاكلة الثقافيّة
لا بدّ أولًا من الالتفات إلى مثالٍ من الآيات؛ إذ يقول تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾.
إنّ الشاكلة بنحوٍ عامٍ تعني تلك التعيّنات الوجودية؛ بمعنى التعيّنات الكامن والماثلة في وجود كلّ شخص. بيد أنّ التعيّنات الموجودة في كلّ شخصٍ تشتمل على أقسامٍ متعدّدة. فهل يمكن لهذه الآية أنْ تشملها بأجمعها؟ أم هي تشتمل على قسمٍ خاصٍّ منها فقط؟
الشاكلة الحياتية / النفسية: إنّ الشرائط والظروف الحياتية والنفسية للشخص توفّر له تعيّنات خاصّة.
الشاكلة الميتافيزيقية: إنّ كلمة الشاكلة لغةً تعني النية والسجية والعزم والإرادة. ومعنى هذه الآية هو أنّ كلّ شخصٍ يعمل على طِبق خلقه وسجيته ونيّته. وهذا بطبيعة الحال لا يعني الإكراه والإجبار على ذلك، بل المراد هو أنّ كلّ عملٍ يقوم به أيّ شخص، إنّما يعكس طبيعته وسجيته على ذلك العمل.
قال العلامة الطباطبائي في شرح هذه الآية في تفسير الميزان: «كلٌّ يعمل على شاكلته، أي إنّ أعمالكم تصدر على طِبق ما عندكم من الشاكلة والفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلةٌ عادلةٌ سهل اهتداؤه إلى كلمة الحق والعمل الصالح، وانتفع بالدعوة الحقة، ومن كانت عنده شاكلةٌ ظالمةٌ صعب عليه التلبّس بالقول الحق والعمل الصالح، ولم يزدْ من استماع الدعوة الحقّة إلا خسارًا».
وقد استعان العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية بالبحث الفلسفي القائل بوجود (سنخية بين العلة والمعلول)، وأشار إلى هذه النقطة قائلًا: «ذكر الحكماء أنّ بين الفعل وفاعله ـ ويعنون به المعلول وعلته الفاعلة ـ سنخيةً وجوديةً ورابطةً ذاتيةً يصير بها وجود الفعل كأنّه مرتبةٌ نازلةٌ من وجود فاعله». ثم استند إلى رأي صدر المتألّهين القائل بأنّ المعلول محتاجٌ في وجوده إلى علّة، وأنّه متعلّق بعلّته على نحوٍ ذاتي. وإنّ هذا التعلّق ليس متأخرًا عن ذات المعلول، بل هو عين ذاته.
يسعى العلامة إلى تعيين دلالة (الشاكلة) على أساس بحثٍ فلسفيّ؛ فعلى الرغم من وضوح معنى الآية، فإنّها تشتمل على دلالةٍ أخرى لا تتضح إلّا في ضوء فضاء النصّ الفلسفي. يتبيّن من تحليل الآيات أنّ الإنسان يمتلك نوعين من الشاكلة، وهما أولًا: الشاكلة الخَلْقية، والأخرى: الشاكلة الخُلُقية. والشاكلة الأولى ترتبط بكيفية خَلْق الإنسان وبنائه الجسدي ومزاجه. والشاكلة الثانية هي شاكلة بعد شاكلة؛ حيث ترتبط بشخصيته الأخلاقية. وفي هذه الشاكلة هناك تأثير للعوامل الخارجية. مهما كانت شاكلة الإنسان، فإنّ عمله وسلوكه سوف يحكي عنها. والشاكلة في الآية أقرب إلى المعنى الثاني؛ وذلك لأنّ سياق الآية يتحدّث عن فوز المؤمنين وشفائهم بالقرآن، ويتحدّث عن خسران الظالمين.
وقد اتجه صدر المتألّهين في (مفاتيح الغيب) إلى تفسير ميتافيزيقي للشاكلة، حيث قال: «قال الله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾، أي: لا يعمل إلا ما يُشابهه؛ بمعنى أن الذي يظهر منه يدلّ على ما هو في نفسه عليه، ولا شك في أنّ العالَم عمل الله وصنعته، فعمله على شاكلته، فما في العالَم شيء إلّا وله في الله أصله ...»
. إنّ صدر المتألّهين من خلال استناده إلى هذه الآية قد ذهب إلى القول بأنّ العمل والصنع الإلهي مشابهٌ لذات الحق تعالى؛ وعلى هذا الأساس ليس هناك من شيءٍ في العالم، إلّا ويوجد أصلٌ له في الحقّ تعالى.
الشاكلة الثقافية: إنّ كلّ شخصٍ يحصل على تعيّناتٍ داخل ثقافته، وإنّ أفعاله تتعيّن على أساس نماذج وأشكال تلك الثقافة، وإنّ هذه التعيّنات هي الشاكلات الثقافية؛ لإنّ الشاكلات الثقافية نتائج للنماذج الثقافية. إنّ كلّ نموذج يقتضي تعيّنًا لنفسه، وإنّ النماذج الثقافية تعمل في الواقع على إنتاج تلك التعيّنات الثقافية وتعدّ شاكلةً ثقافية.
إنّ الإنسان من وجهة النظر الإسلامية يكتسب نوعين من التعيّن الثقافي، وهما: التعيّن الإيماني، والتعيّن الكفري. وإنّ كلّ واحدةٍ من ثقافتي الإيمان والكفر تستوجب تعيّناتٍ خاصّةٍ للأفعال والسلوكيات.
ولكن أيّ الشاكلتين كانت هي المرادة في الآية أعلاه؟ إنّ الآية لم ترد في فضاء بيان الشاكلة الحياتية / النفسية وارتباطها بالأفعال. إنّ الشاكلة الحياتية والنفسية تؤثّر في أفعال الناس، والشاكلة الميتافيزيقية بدورها تعود إلى أصلٍ ميتافيزيقيّ أيضًا، بمعنى أنّها تعود إلى السنخيّة بين العلة والمعلول، ولا تدلّ على شيءٍ أكثر من وجود سنخيةٍ وتناسبٍ بين كلّ علةٍ ومعلولها. ولكنّها لا تدلّ على حقل وموضع تلك العلّية أو على خصوص السلوكيات الأخلاقية أو تناسب وجود العلّة مع وجود المعلول أو غير ذلك. وما إذا تجاوزنا ذلك، فما هي صلة القبول بالشاكلة الميتافيزيقية بهذه الآية، وما إذا كانت هذه الآية بصدد بيان أصلٍ ميتافيزيقيّ؟
من الواضح أنّ هناك نوعًا من الاقتضاء والعلّية بين الشاكلة الثقافية وبين الأفعال والسلوكيات الصادرة عن الأفراد في تلك الثقافة، بيد أنّ هذا الكلام ليس تأييدًا لهذه النقطة القائلة بأنّ المراد من الشاكلة في هذه الآية هي الشاكلة الميتافيزيقية. إذ المراد هو أنّ الثقافة تصبح على شكل خططٍ ومشاريع داخلية لدى الأشخاص، وتعمل على توجيه أفعالهم وتضفي عليها معنى خاصًّا. إنّ هذه الآية تعدّ من هذه الناحية مثل هذه الرواية الشهيرة القائلة: «إنّما الأعمال بالنيات». وذلك لأنّ المراد هو أنّ النية عبارةٌ عن شاكلة العمل وتعمل على بلورته.
وبذلك يتضح الفرق بين الشاكلة الثقافية وبين الشاكلة الميتافيزيقية؛ ففي الشاكلة الميتافيزيقية يقع الكلام في أنّ هناك سنخيةً بين الفرد بوصفه فاعلًا، وبين علّة عمله وفعله. وأمّا في الشاكلة الثقافية فالكلام يدور حول توجيه الإيمان والكفر ـ بوصفهما شاكلتين ثقافيتين ـ لسلوك وحياة الفرد. وهذه النقطة هي غير القول بوجود السنخية بين كلّ معلولٍ وعلّته. إذ يتمّ التأكيد في هذا المورد على دور عناصر الثقافة في العمل، وليس مجرّد الفاعلية والعلية. وبعبارةٍ أخرى: نشاهد بعض الاختلافات بين هذين الأمرين:
إنّ الشاكلة الميتافيزيقية إنّما تؤكّد على مجرّد السنخية بين المعلول وعلّته، ولا ترتبط بحقلٍ خاصّ. وأما الشاكلة الثقافية فهي ليست بصدد بيان أصل السنخية بشكلٍ مطلق، وإنّما تؤكد على دور الثقافة في الأفعال فقط.
قد يكون الشخص من القائلين بالشاكلة الثقافية، ولكنّه لا يقبل بالشاكلة الميتافيزيقية، بمعنى أنّه يقول بأنّ الشاكلة الثقافية تعمل على توجيه السلوكيات وأنماط الحياة وما إلى ذلك، ولكنّه في الوقت نفسه يرفض أصل السنخية بالمعنى الفلسفي. وفي هذا المورد إنّما يقبل بهذه السنخية في حقلٍ خاصٍّ فقط، ولا يعتقد بذلك في مطلق العلية.
ألا يعني القبول بالتعيّنات الثقافية قولًا بـ (الجبر الثقافي)؟ ثم ألا يعني القبول بوجود نماذج ثقافيةٍ اعتقادًا بـ (الجبر الثقافي)؟
ليس المراد من التعينات الثقافية أنّ الإنسان حبيس للثقافة، وأنّ للثقافة والنماذج الثقافية تأثيرًا جبريًا على أفكاره وسلوكياته، بل إنّ الثقافة تشكّل أرضيةً مشتركةً بين أفراد المجتمع كي يعملوا فيها على تفسير تجاربهم، ويعملون على توفير توجيهٍ عامٍّ لأفكارهم وسلوكياتهم. إنّ الثقافة تعمل في الأفراد في حدود التوجيه والإرشاد، بل وفي حدود الاقتضاء أيضًا.
هناك مسألتان ترتبطان ببحثنا، ونراهما حاليًا ماثلتين في الدراسات الثقافية، وهما عبارة عن:
مسألة البنية والفاعلية.
مسألة الثقافة والفاعلية.
وفي العادة نشاهد ثلاثة آراءٍ عامّةٍ في حقل الثقافة والفاعلية:
النظريات التي تعطي الأولوية للفاعل، من قبيل نظرية الفعل النموذجي المتبادل، ومعرفة الأساليب القومية.
النظريات التي تعطي الأولوية للأنظمة المفهومية؛ بمعنى النظريات التي تؤكّد على قدرة الأنظمة المفهومية في السيطرة على العوامل الإنسانية. من قبيل: الماركسية والعملانية عند بارسونز والبنيوية.
النظريات التي تختار سلوك الطريق الوسط؛ بمعنى النظريات التي تعيّن سهمًا للأنظمة والأبنية، وتعيّن سهمًا آخر للفاعل؛ ولهذا السبب تندرج نظريات متعدّدة في هذا المجال. وفي العادة يتمّ إدراج نظرية بيير بورديف، وأنطوني غيدنز، ونوربرت إلياس ضمن هذه الطائفة.
من الجدير ذكره أنّ من بين الأبحاث المهمّة المطروحة بعد اكتشاف النماذج الثقافية على نحوٍ جادٍّ بين علماء الأنثروبولوجيا، هو بحث ارتباط الدوافع البشرية بالثقافة. يرد هذا السؤال القائل: ما هو السبب الذي يدفع الأشخاص إلى القيام بالأفعال؟ بمعنى: ما هي الدوافع التي تحفّز الناس على القيام بنشاطاتهم؟
إنّ الآراء الموجودة في هذا الشأن، على قسمين، وهما:
الآراء النفسية: إنّ النظريات النفسية للدافع إنّما تهتم بنحوٍ رئيسٍ بدور الاحتياجات الحياتية والدوافع النفسية في السلوكيات.
الآراء الاجتماعية / الثقافية: يرى داندراد أنّ الدوافع ترتبط بالنماذج الثقافية. إنّ النماذج الثقافية قد تمتلك طاقةً تحفيزية، إذ ليس لها دور في توصيف العالم فحسب، بل تشكّل دوافع وحوافز لسلوكنا أيضًا. إنّ بحث ودراسة كلّ واحدٍ من هذين الرأيين يحتاج إلى مجالٍ آخر.
مستويات الدين
بالنظر إلى النقاط أعلاه، نضع فروقًا بين ثلاثة مستوياتٍ مختلفةٍ من الدين، وهي:
الدين الاعتقادي: وهو الدين بوصفه مجموعةً من العقائد التي تنطوي على تداعياتٍ سلوكيةٍ خاصّة. ويتمّ استعمال الدين في الأبحاث الكلامية بهذا المعنى عادة.
الدين التخطيطي: وهو الدين بوصفه مجموعةً منسجمةً ومترابطةً من النماذج الثقافية. إنّ لهذا الدين أبعادًا واسعة جدًا، ويترك آثاره في السلوكيات وفي طريقة التفكير وفي نمط الحياة وما إلى ذلك. إنّ الدين يحتوي على هذا المعنى والمفهوم من الناحية المعرفية.
الدين الثقافي: وهو الدين بوصفه مجموعةً من العناصر التي تؤلّف ثقافةً ما. ونشاهد في هذه المجموعة عناصر اعتقاديةً وقيَميّةً بالإضافة إلى المناسك وغيرها.
هناك علاقةٌ طوليةٌ بين هذه المستويات الثلاثة؛ بمعنى أنّ الدين الاعتقادي موجودٌ في الدين التخطيطي والدين الثقافي، وأنّ الدين التخطيطي يشكل أصلًا وأساسًا للدين الثقافي.
1. الدين الاعتقادي
إنّ المستوى الأكثر وضوحًا من الدين هو مستواه الاعتقادي، وإنّ الدين يُطلق على مجموعةٍ من المعتقدات، وإنّ المتدينين إنّما يتمّ تعريفهم في هذا المستوى من خلال عقائدهم ومن خلال الأمور الخاصّة التي يؤمنون بها.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. إنّ المراد من الإيمان في هذه الآية هو الاعتقاد؛ فهذه الآية تأمر الأشخاص الذين آمنوا بأنْ ينفقوا، دون الأشخاص الذين يحملون الإيمان على شكل تخطيطٍ ومشروع.
2. الدين التخطيطي (النموذج الثقافي)
يتمّ طرح الدين في بعض الأحيان بوصفه خطّةً ومشروعًا أو نموذجًا ثقافيًا (أو برنامجًا مفهوميًا خاصًا)، وفيما يلي نرجو التدقيق في هذه الآية: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
إنّ المراد من الدين في هذه الآية ليس مجرّد العقائد فحسب؛ بمعنى أنّه ليس المراد أنّ العقائد الصحيحة وحدها هي ذات الإسلام عند الله سبحانه وتعالى، بل يشمل الدين بوصفه نموذجًا ثقافيًا أيضًا؛ فإنّ الدين بوصفه نموذجًا ثقافيًا عند الله هو النموذج الثقافي للإسلام. بمعنى أنّ الدين الإسلامي الذي يقدّم إطارًا لجميع التفكير والحياة البشرية على شكل مخططٍ ومشروعٍ هو المنشود لله سبحانه وتعالى. إنّ هذا النموذج هو المطلوب لله سبحانه وتعالى؛ إذ إنّ المهم عند الله هو الاعتقاد الذي يمنح إطارًا وتوجيهًا لحياة الإنسان بأجمعها. وعلى هذا الأساس فإنّ المراد من الدين هو (الدين التخطيطي).
قال الله تعالى:﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾. إنّ المراد من (إسلام الوجه) هو توجيه مركز الاهتمام نحو الحقّ تعالى؛ بمعنى وضع الحقّ تعالى في مركز الاهتمام، والانقياد له، وإنّما سُمي الإسلام بالإسلام؛ لأنّه يضع الله سبحانه وتعالى في مركز الاهتمام، مع التسليم المطلق له.
إنّ إسلام الوجه، والإحسان ليس من مقولة العقائد البحتة فحسب، بل هو بمنزلة المخطط والمشروع أو النموذج الثقافي للدين.
كما يمكن أخذ مفهوم الإيمان بنظر الاعتبار على ثلاثة مستويات، وهي:
الإيمان الاعتقادي: بمعنى الاعتقاد بأمور خاصّة.
الإيمان التخطيطي: بمعنى الإيمان الذي بلغ مرحلة التخطيط وصار يمنح إطارًا لجميع أفكار الإنسان وحياته، أو أنّه يعمل بوصفه برنامجًا مفهوميًا.
الإيمان الثقافي: بمعنى عنصر من الثقافة.
إنّ المراد من الإيمان في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، هو الإيمان الاعتقادي وليس الإيمان التخطيطي؛ وذلك لأنّ الإيمان بمعناه التخطيطي يستدعي العبادة بنحوٍ قطعي؛ بمعنى أنّ الشخص المؤمن إنّما يعبد الله فقط. وإنّ عبارة: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ في نهاية الآية أعلاه تشكّل قرينةً على أنّ المراد من الإيمان هو الإيمان الاعتقادي.
قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾. إنّ المطروح في هذه الآية هو الإيمان التخطيطي؛ وذلك لأنّ الإيمان الاعتقادي البحت بالله سبحانه وتعالى لا يستتبع الحبّ الشديد لله بالضرورة. بل إنّ الأشخاص الذين لديهم إيمانٌ تخطيطيّ يمنح إطارًا لجميع أبعادهم الوجودية، هم الذين يمتلكون حبًّا شديدًا لله سبحانه وتعالى.
من خلال التفكيك والفصل بين الإيمان الذي له مجرّد شكلٍ ذهنيّ وغير باطنيّ (الإيمان الظاهري)، وبين الإيمان الذي له شكلٌ داخليّ، وأصبح على شكل نموذجٍ ثقافيّ (الإيمان التخطيطي / النموذجي)، يكتسب الأمر بالإيمان معنًى ثانيًا. إنّ الإيمان لا ينبغي أنْ يبقى أمرًا ذهنيًّا وغير باطني، بل يجب أنْ يدخل إلى باطن الأشخاص. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ...﴾.
إنّ الذي يعمل على بلورة المجتمع الديني، هو الإيمان والعقائد التي تجذّرت في الداخل، بمعنى الإيمان والعقائد التي تحوّلت إلى النموذج الثقافي. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. إنّ الإيمان الظاهري يجب أنْ يصبح إيمانًا داخليًا. وحتى الإيمان برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يجب أنْ يغدو باطنيًا أيضًا. إنّ النصوص الدينية تستدعي في بعض الأحيان حلولًا لجعل الإيمان داخليًا، من قبيل انتهاج التقوى، وهذا ممّا ينبغي بحثه في فرصةٍ مناسبةٍ أخرى.
كما يمكن تحليل آية عدم الإكراه أيضًا بوصفها نموذجًا في هذا الشأن؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[2].
إنّ الالتفات إلى بعض التحليلات في هذا الشأن، لا يخلو من فائدة. لقد ذكر العلّامة الطباطبائي عددًا من النقاط في تحليل هذه الآية[3]:
إنّ نفي الدين الاعتقادي الإجباري: في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ينفي الدين الإجباري، لما أنّ الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى، عملية يجمعها أنّها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنّ الإكراه إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأمّا الاعتقاد القلبي فله عللٌ وأسبابٌ أخرى قلبيّةٌ من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أنْ ينتج الجهل علمًا، أو تولّد المقدمات غير العلمية تصديقًا علميًا.
نفي الإكراه بوصفه حكمًا شرعيًا: فإنّ قوله: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ لايخلو من احتمالين، أحدهما : أنْ يكون المراد هو الإخبار عن نفي الإكراه، بمعنى أنْ تكون هذه العبارة قضيةً إخباريةً حاكيةً عن حال التكوين . وبطبيعة الحال فإنّ هذا الحكم التكويني يستتبع حكمًا دينيًا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد . والاحتمال الآخر: أنْ يكون يكون المراد حكمًا إنشائيًّا تشريعيًّا؛ بمعنى النهي عن الإكراه على الاعتقاد والإيمان، وهذا هو الذي يشهد به ما عقب عليه الله سبحانه وتعالى من قوله: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، كان هذا نهيًا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهيٌ مستندٌ على حقيقةٍ تكوينيةٍ .
إنّ عبارة: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ واردةٌ في مقام تعليل نفي الإكراه والإجبار؛ وذلك لأنّ الشخص الحكيم والمربي العاقل إنّما يلجأ إلى الإجبار والإكراه في الأمور المهمّة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها، وأمّا الأمور المهمّة التي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقُرِّر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أنْ يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضّحة بالسُنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشدٌ، والرشد في اتباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه؛ وعلى هذا لا موجب لأنْ يُكره أحدٌ أحدًا على الدين.
في مورد البيان أعلاه من قبل العلّامة الطباطبائي، هناك بعض النقاط:
بناءً على هذا البيان، يكون قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ـ على حدّ قول المناطقة ـ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع. فإنّ الدين حيث يكون من الأمور القلبية؛ فإنّه لا يقبل الإكراه. وأمّا ظاهر عبارة: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ فهي من قبيل السالبة بانتفاء المحمول؛ بمعنى أنّه في حالة عدم تبيّن الرشد يكون هناك موضع للإكراه، ولكن حيث تحقّق التبيين حاليًا، لا تكون هناك حاجةٌ إلى الإكراه.
إنّ عبارة: ﴿لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ تدلّ على الثبات والاستحكام؛ بمعنى أنّ الشخص قد وصل إلى مرحلة الإمساك بالعروة الوثقى، ولم يبقَ هناك من وجودٍ لشرخٍ بينه وبين الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.
إنّ الطغيان مفهومٌ اجتماعي؛ بمعنى أنّ الشخص الطاغي يطغى في المجتمع والعلاقات الاجتماعية.
بالنظر إلى النقاط أعلاه، يكون المراد من الدين في الآية هو (الدين التخطيطي)؛ بمعنى أنّ الدين إذا وصل إلى مرحلة التخطيط، لن يكون هناك إكراهٌ فيه. وإنْ عمل الدين في الفرد على شكل تخطيطي، يمنحه إطارًا لجميع أبعاده الوجودية، فلن يكون هناك إكراه.
وإليك مثالًا آخر من القرآن الكريم؛ إذ يقول تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾[4]. يبدو من ظاهر هذه الآية أنّ أكل الربا قد أصبح عادةً وسجيةً اجتماعيةً لدى اليهود؛ ولذلك كانوا يأكلون أموال بعضهم بالباطل، ومن هذه الناحية تشير هذه الآية إلى مادّةٍ ثقافيةٍ لدى اليهود، فصار أكل المال بالباطل مهارةً وذوقًا، بل نموذجًا ثقافيًا عندهم.
3. الدين الثقافي
إنّ الدين على المستوى الثقافي يتحوّل إلى ثقافة. قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[5]. إنّ الغاية من النفر لطلب العلم هي تعلّم ثقافة الإسلام بجميع تفاصيلها؛ وعلى هذا الأساس فإنّ المراد من (الدين) هو الدين بوصفه ثقافة.
بالنظر إلى النقطة أعلاه نقول بوجود فرقٍ بين الدين الثقافي ـ بمعنى الدين الذي يتمّ تعريفه في ضوء نوعٍ من الثقافة أو يكون ثقافةً في حدّ ذاته ـ وبين الدين الاعتقادي؛ بمعنى الدين الذي هو مجرّد هوية اعتقادية وإنْ كان يستوجب بعض الأفعال والسلوكيات. إنّ المراد من الدين الثقافي هو الدين الذي يتمّ تعريفه على مستوى الثقافة، ويتألّف ـ مثل الثقافة ـ من عناصر خاصّة؛ من قبيل: المعتقدات والمناسك والتقاليد والعادات وما إلى ذلك. وبعبارةٍ أخرى: كما أنّ الثقافة تتألّف من بعض العناصر ـ في ضوء تعريف تايلور ـ كذلك الدين بدوره يتألّف في هذا المستوى من تلك العناصر ذاتها.
إنّ كثيرًا من الأشخاص الذين بحثوا في العلاقة بين الدين والثقافة أو الذين اهتموا بالبُعد الثقافي من الدين، قد اهتموا بـ (الدين الثقافي) بهذا المعنى. من ذلك أنّ العلّامة الشيخ محمد تقي الجعفري ـ على سبيل المثال ـ قد تحدّث عن ثقافة الإسلام بهذا المعنى، وأدرج جميع عناصر هذه الثقافة ضمن مفهوم (الحكمة):
«إنّ الثقافة التي أقامها الإسلام عبارةٌ عن الحياة الهادفة التي عملت على تفعيل جميع الأبعاد الجمالية والعلمية والمنطقية والغائية لدى الأفراد بشدّة، وتعمل على بلورة جميع العناصر الثقافية، ولا تفصل عنصر الثقافة العلمية عن عنصر الأخلاق الإنسانية العالية، ولا تفصل العنصر الثقافي الفني عن العنصر الثقافي للترشيد الاقتصادي. وتجعل وحدة الثقافة تابعةً لوحدة روح الإنسان، وتحول دون تجزئتها وانهيارها. إنّ عناصر الثقافة الإسلامية التي تسمّى في المصادر المعتبرة بالآداب والخصال والأخلاق بمفهومها العام ومحاسن الأمور، تندرج بأجمعها ضمن مفهومٍ عالٍ باسم الحكمة. إنّ هذه الحكمة تشمل جميع المظاهر والنشاطات التي يمكن لها أنْ تمدّ الحياة الهادفة لكلّ شخصٍ ومجتمعٍ بالقوّة والطاقة. إنّ المؤسس الأول والداعم الرئيس لهذه الثقافة هو الله سبحانه وتعالى الذي زوّد الإنسان بالقلم والبيان والقريحة والذوق وحبّ الكمال والتطلّع إلى كشف الأصول الثابتة في مجرى الأحداث المتدفّقة على الدوام، وجعله يُحلّق في أجواء السماء بجناحي الإحساس والتفكير»[6].
إنّ وحدة الثقافة بالمعنى المراد أعلاه، ترتبط بالشمولية (معرفة الوجود) الثقافية، فإنّ جميع أجزاء الثقافة الدينية يجب أنْ تتصل ببعضها لتشكّل كُلًّا منسجمًا من أجل تحقيق الهدف المنشود للدين؛ لإنّ الوحدة الثقافية وهدفيتها تقوم على أساس كُليّة الثقافة.
من الواضح جليًا أنّه لو تحققت بعض العناصر الثقافية الدينية في مجتمعٍ دينيّ ولم يتحقّق بعضها الآخر؛ فإنّ ذلك المجتمع سوف يعاني من تناقضٍ داخلي، وسوف يؤدّي هذا التناقض في نهاية المطاف إلى نفي الدين في مقام التحقق. إذا كانت الثقافة الدينية تؤلّف كُلًّا منسجمًا ومترابطًا، فإنّ فقدان بعض عناصرها في هذه الحالة سوف يؤدّي إلى إخراجها عن الصفة الدينية. وإنّ المجتمع الديني يحتوي على خصوصية (كلّ شيءٍ أو لا شيء)؛ بمعنى أنّه إمّا أنْ تتحقق جميع الأجزاء الثقاقية في هذا المجتمع أو جزء منها أو لا شيء منها على الإطلاق. في الصورة الأولى يكون المجتمع متدينًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وفي الصورة الثانية لا يكون المجتمع قد اكتسب عنوان (التديّن) بعد. وهذا ما تقتضيه الشمولية في الثقافة الدينية. فإمّا أنْ يكون هذا الكلّ (مجموع الثقافة الدينية) متحققًا ويصبح المجتمع متدينًا، وإمّا ألّا يكون هذا الكلّ والمجموع متحقّقًا، فلا يكون المجتمع متديّنًا. وإنّما هذا الكلّ وحده هو الذي يستطيع تحقيق الهدف من الدين؛ فلا يجب على المؤمنين الاعتقاد بجميع أجزاء الدين فحسب، بل يجب عليهم بالإضافة إلى ذلك أنْ يعملوا على تحقيق الأجزاء الأخرى من الثقافة الدينية أيضًا.
من الجدير ذكره أنّ هناك فرقًا واختلافًا بين الانسجام والشمول وبين هدفية الثقافة؛ فإنّ الشمول يتضمّن انسجام وتناغم الأجزاء الداخلية للثقافة وعناصرها؛ لأنّ كلّ ثقافةٍ ـ سواء أكانت دينيةً أم غير دينية ـ تؤلّف مجموعًا وكُلًّا منسجم الأجزاء والعناصر. لكنّ الاختلاف بين الثقافة الدينية والثقافة غير الدينية في هذا المورد يكمن في الهدفية؛ فالثقافة الدينية ثقافةٌ هادفة، بمعنى أنّ هذا الكلّ ينظر إلى غاية، غير النظم الاجتماعي والترابط الثقافي، وأمّا الثقافات الأخرى فهي تؤلّف كُلًّا منسجمًا قد لا ينطوي على هدفٍ خاصٍّ غير النظم الاجتماعي والتلاحم والارتباط الثقافي.
هناك من المنظّرين في عصر المعلومات من أشار إلى هذه النقطة، وهي أنّ تسلل وسائل الإعلام الحديثة إلى مختلف المجتمعات والثقافات، عرّض انسجامها وتماهيها الثقافي إلى الخطر، ولم يعد بمقدورنا الحديث عن الانسجام الثقافي كما كان عليه الأمر في المراحل السابقة؛ لإنّ الانسجام تحوّل إلى حالةٍ من الاستثناء. وقد أشار كاستلز إلى هذه النقطة وهي أنّ مجموع تداعيات الثورة المعلوماتية والتحوّلات الثقافية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، قد أدّت إلى حالةٍ تحوّلت فيها (التعددية الثقافية) في الأصل، والانسجام والتماهي الثقافي إلى (استثناء)[7].
نشاهد اليوم أنّ البلدان النامية في الوقت الراهن تشتمل على ما لا يُحصى من الثقافات المتعددة، وتسعى على الدوام إلى إدارة هذه الاختلافات والفوارق، وقد تكرّر وضع البلدان المتطوّرة في بعض البلدان النامية أيضًا، سواء بشكل تاريخي (مثل إيران على سبيل المثال)، أم في الموقعيات المعاصرة (كما في دول البلقان وأوربا الشرقية مثلًا). وعلى كلّ حالٍ لا يمكن في جميع هذه الموارد في الأفق المنظور تصوّر التخلّي عن عنصر (النظم)، والتمكّن تبعًا لذلك من الاختزال الثقافي في تنظيم المجتمعات الراهنة.
والسؤال الرئيس الذي يتمّ طرحه هنا هو كيف يمكن إقامة الانسجام الضروري من أجل بقاء المجتمعات بالنظر إلى تعدّدية الحقائق في داخلها؟ إنّ البحث في هذا المورد يذهب من وجهة نظرنا إلى ما هو أبعد بكثير من مجرّد (الإدارة الثقافية للاختلاف) ممّا يتمّ طرحه في البلدان المتقدّمة، ويحتاج إلى التأمّل والتفكير حول جذور وأسباب ظهور هذه التعددية ولا سيّما التعددية الناشئة عن الهجرة، التي أدّت في العالم المعاصر إلى أوضاعٍ قاسيةٍ جدًا، وقد لا يمكن تحمّلها في بعض الأحيان.
يذهب بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية ـ في ظلّ العالم القائم على أساس الثورة المعلوماتية ـ إلى الاعتقاد بأنّه بسبب امتلاكنا للإمكانات التقنية والصناعية الكبيرة، نظن أنّ بمقدورنا الذهاب نحو الآفاق البعيدة جدًا في الاختلاف الثقافي، من دون أنْ يتعرّض الانسجام الثقافي لإشكالية، بل على العكس تذهب هذه المجموعة إلى الاعتقاد بأنّنا بعد تجاوز الموجة الأولى وهذه الحماسة والإثارة التي أحدثتها هذه التقنيات الجديدة، في طريقنا إلى الدخول في موجةٍ ثانية، حيث يتعيّن علينا دراستها من زاوية الآفات بشكل أكبر. إنّ الذهاب إلى ما هو أبعد من الحدّ في العثور على الاختلافات وغير المتماهيات الثقافية، من شأنه الإضرار بالخلايا والأنسجة الاجتماعية بشدّة، وفتح الطريق أمام أنواع وأقسام من اللامعياريات. إنّ هذه هي الموقعية التي يجب علينا التفكير حولها من الآن، وأنْ نسعى إلى العثور على حلولٍ عمليةٍ لها.
القضايا الأنثروبولوجية
نطلق مصطلح (القضايا الأنثروبولوجية) على القضايا التي تعمل بنحوٍ من الأنحاء على الإحالة إلى الإنسان اللاحق (الإنسان الذي يعيش في صلب الثقافة). وبالنظر إلى آيات القرآن الكريم، يمكن لنا أنْ نفصل بين ثلاثة مستويات:
الأعضاء المنتسبين إلى ثقافةٍ واحدة.
الثقافة.
النماذج الثقافية.
في المستوى الثاني تكون القضايا القرآنية إمّا قضايا أنطولوجية (وجودية)، وإمّا قضايا أبستمولوجية (معرفية).
القضايا العضوية
نذكر فيما يأتي آية واردة في هذه الخصوص:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[8]
إنّ هذه الآية تذكر حكمًا بشأن الكفار؛ بمعنى الأشخاص الذين تأصّلت في داخلهم ثقافة الكفر، وبعبارةٍ أخرى: إنّ هذه الآية تشير إلى الأشخاص الذين أثّرت فيهم النماذج الثقافية الخاصّة بالكفر، وتحوّل الكفر لديهم إلى محتوى داخلي. وهناك آليات خاصّة تتبعها ثقافة الكفر كي تترسخ في داخل الأشخاص وتترسب في وجودهم. إنّ هذا النوع من القضايا يرد من الناحية المنطقية على شكل قضيةٍ خارجية؛ بمعنى أنهّا تظهر حكمًا بالنسبة إلى أفراد ثقافةٍ ما.
القضايا الثقافية
نذكر هنا آيةً أخرى، وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[9].
إنّ هذه الآية تعمل على بيان قضيةٍ ثقافية؛ بمعنى أنّها تشير إلى عنصرٍ من ثقافة الكفر، كما تشير ـ بشكل ضمني ـ إلى عنصرٍ من ثقافة الإيمان. وبطبيعة الحال فإنّنا هنا نريد بالثقافة ذلك المفهوم الذي صرّح به تايلر في تعريفه إذ قال: «مجموعة معقّدة من العقائد والمعارف والفنون والأخلاقيات والحقوق والمناسك وغير ذلك من القدرات والعادات التي يكتسبها الناس بوصفهم أعضاء في المجتمع». على الرغم من وجود الاختلاف في أوجه النظر حول تعريف الثقافة، ولكننا في هذا المورد نأخذ هذه المجموعة أو عناصرها بنظر الاعتبار.
إنّ القضايا الثقافية على عدّة أقسام:
القضايا الاعتقادية (الثقافية / الاعتقادية): القضايا التي تشير إلى عنصر الاعتقاد الجمعي من الثقافة.
القضايا السلوكية (الثقافية / السلوكية): القضايا التي تشير إلى عنصر السلوك الجمعي من الثقافة.
القضايا الرمزية (الثقافية / الرمزية): القضايا التي تشير إلى الرموز الجمعية والمشتركة في ثقافةٍ ما.
القضايا القيَميّة (الثقافية / القيَميّة): القضايا التي تشير إلى القيَم الجمعية والمشتركة في ثقافةٍ ما.
القضايا الحقوقية (الثقافية / الحقوقية): القضايا التي تشير إلى العنصر الحقوقي في الثقافة.
القضايا المناسكية (الثقافية / المناسكية): القضايا التي تشير إلى مناسك الثقافة.
ولقد تمّت الإشارة في سورة الرحمن إلى أحد العناصر القيَميّة من ثقافة الإيمان بقوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾[10]. وأشارت آيةٌ أخرى إلى عنصر سلوكي من ثقافة الكفر: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾[11]. فإنّ من بين عناصر ثقافة الكفر، عبادة الإنسان لما يصنعه بيده. وفي المقابل لا يُعبد في ثقافة الإيمان سوى الله سبحانه وتعالى.
وأُشير إلى مجموعةٍ من العناصر الأخرى في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[12]. إنّ هذه الآية على الرغم من اشتمالها على الأمر والنهي بحسب الظاهر، ولكنّها في الحقيقة تشير إلى عناصر ثقافة الإسلام: الإنفاق في سبيل الله، والإحسان، وتجنب السقوط في الهلكة.
القضايا التخطيطية (النماذج الثقافية)
إنّ النماذج الثقافية في ثقافةٍ ما، تُشكّل (القلب النابض) فيها. إنّ ثقافة الحياة والموت واتساعها مدينةٌ لهذه الأمور، وبوساطتها تدخل في وجدان الأفراد وتصبح من متبنياتهم الداخلية. وفيما يلي سوف نشير إلى بعض النقاط المهمّة بشأن النماذج. كما سبق أنْ أشرنا فإنّ علماء الأنثروبولوجيا المعرفية قد ذكروا المدّعيات أدناه بصورٍ مختلفةٍ بشأن النماذج:
إنّ النماذج الثقافية تعمل بوصفها إطارًا؛ بمعنى أنّها تعمل على بلورة الأفعال، وكيفية السلوك والفكر لدى الأفراد.
إنّ النماذج الثقافية تؤدّي دور الاستعراض في ذهن أفراد ثقافةٍ ما. بمعنى أنّ النماذج تستعرض المعلومات الموجودة في ذهن الأفراد.
إنّ النماذج الثقافية تعمل على بلورة رؤية الأفراد للآخرين.
إنّ النماذج الثقافية تعمل على بلورة رؤيةٍ إلى العالَم وإلى الوجود.
إنّ النماذج الثقافية تعمل على بلورة فهمنا نحن الأشخاص للظواهر الاجتماعية.
إنّ النماذج الثقافية تشكّل ركيزةً لاستدلال وأحكام الأشخاص.
إنّ النماذج الثقافية تؤثّر في عواطف ومدركات الأشخاص.
لقد سبق لنا أنْ ذكرنا نقاطًا في هذا الشأن؛ حيث يجب اجتناب التفسير النسبي لهذه الادعاءات.
لقد قام بعض الكتّاب بتبويب مراتب تأثير ونفوذ الإسلام في ثقافة المجتمع ضمن عشر مراتب، وفي هذا التبويب يصل نفوذ وتأثير المعارف والمباني والقيَم الإسلامية في الثقافة من المراتب في الحدّ الأدنى وصولًا إلى المراتب والأكثر تجذّرًا[13]:
عدم التعارض التام بين ثقافة المجتمع، وبين المباني والقيَم الإسلامية.
نفوذ ودخول المضامين الإسلامية في المنتوجات والآثار والنشاطات الثقافية للمجتمع، ومشاهدة المعارف والمباني والقيَم الإسلامية في المصنوعات الفنية والثقافية.
نفوذ وتأثير المباني والقيَم الإسلامية في النماذج الثقافية للمجتمع وتبلورها في الشعائر والأعراف.
تأثير ونفوذ القيَم والمعايير والقواعد الفقهية والحقوقية للإسلام في الآداب ونماذج الحياة الاجتماعية، وتبديل نمط الحياة إلى أسلوب الحياة الإسلامية، حيث لا يعني ذلك اجتناب توظيف أدوات وأساليب الثقافة العصرية، وغضّ الطرف عن التحوّلات التقنية المعاصرة.
تأثير ونفوذ الرؤية والقيَم الأصيلة والإلهية في القيّم الثقافية للمجتمع، وتحويل النظام القيَمي في المجتمع إلى نظام الإسلام القيَمي. يمكن فهم تحقّق هذه المرتبة من خلال آثارها وعلاماتها. إنّ المستوى الأعمق لهذه المرتبة هو أنْ يتم تطهير النظام القيَمي الحاكم على المجتمع في عينيّته من القيَم التقليدية والقيَم العصرية بشكلٍ كامل، وأنْ يؤخذ نموذجه الخالص من القيَم الأساسية للإسلام.
نفوذ وتأثير المباني والعقائد التوحيدية الأصيلة والعميقة في المعتقدات والمسلّمات الأساسية لثقافة المجتمع وسيادة العقائد الإسلامية الخالصة في أعمق طبقات ثقافة المجتمع؛ بمعنى أنّ الثقافة حيث تحظى في هذه المرتبة بهداية الإسلام، تكون قد حظيت بدعامةٍ عقلانيةٍ ومنطقية، ولا يبقى هناك أيّ جذورٍ للآراء التقليدية والعصرية فيها.
إنّ من مراتب نفوذ وتأثير الإسلام في الثقافة، التنمية والتربية الفكرية والعلمية والعملية والأخلاقية والإيمانية لـ (أصحاب الثقافة). إنّ أصحاب الثقافة هم: الساسة، والمخطّطون والمديرون، والخبراء، والمختصّون، والعناصر التنفيذية للثقافة بمعناها العام. إنّ موقع الإنسان ودوره في النشاط الاجتماعي والثقافي يعدّ أصلًا أساسيًا، وإنّ نشاط الإنسان يُعدّ عنصرًا فريدًا لا بديل عنه، ومن دونه لايحدث أيّ ارتقاءٍ أو انحطاطٍ في الحياة الاجتماعية للإنسان.
إنّ دراسة وبيان الطرق في الهداية الثقافية، والأبنية ومنظومات إشاعة الثقافة في المجتمع تقوم على فرضياتٍ ومعطياتٍ ذات دعامةٍ رؤيويةٍ وفلسفية، وما لم تقع تحت ظلّ الهداية الإسلامية، لن تتحوّل ثقافة المجتمع إلى ثقافةٍ إسلاميةٍ خالصة. وعلى هذا الأساس فإنّ الثقافة في هذه المرتبة من مراتب تأثير الإسلام تحتاج إلى الهداية الإلهية وسطوع شعاع المعارف والمصادر الدينية.
يمكن للثقافة من جهة أن تتحوّل وأنْ تنمو وتزدهر بوساطة العلوم الإنسانية. إنّ تأسيس النظرية التي تنتج الفرضيات المسبقة ومسائل ازدهار المجتمع، على أساس أصول التفكير الإسلامي الخالص ، تعدّ من أعمق مراتب تأثير الإسلام ونفوذه في الثقافة.
إنّ أعلى مرتبة من مراتب تأثير الإسلام في الثقافة ونفوذه فيها، وصول الثقافة إلى مرتبة (الفناء). بمعنى اتّحاد العناصر المركزية للثقافة مع الإسلام، وليس انحلال الإسلام وذوبانه في الثقافة. إنّ هذه المرتبة من مراتب الهداية الإسلامية للثقافة تحظى في ضوء نظرية أصالة المجتمع بالإضافة إلى أصالة الفرد بتفسيرٍ فلسفيّ واضح، وتعمل على شرح (الحياة الطيّبة) في أبرز مصاديقها الاجتماعية. إنّ طريقة حلّ هذا التحدّي لا تكون الإلغاء والحذف الحقيقي للثقافة من الحياة البشرية، بل إنّ سبيل النجاة يكمن في هداية الثقافة نحو الثقافة التوحيدية والإسلام الخالص.
من الواضح أنّه لا يمكن تغيير الثقافة بوساطة هذا النوع من الخوارزميات العامة والكلية. إنّ النماذج الثقافية في المجتمع من الرسوخ بنحوٍ لا يمكن تغييرها بسهولةٍ من خلال خوارزميةٍ خارجة عن ثقافتها، بل يجب التعرّف على النماذج الثقافية للمجتمع المنشود، والتخطيط من أجل تغييرها على أساس الدراسات الثقافية الدقيقة.
إنّ الدراسات الثقافية يمكن لها أنْ تساعد الدراسات الدينية على ثلاثة مستويات، حيث يشير إليها الرسم البياني أدناه:
من الضروري بيان بعض النقاط بشأن هذا الرسم البياني:
إنّ الرسم البياني أعلاه يُظهر مسارًا دوريًا؛ بمعنى أنّه يجب في الشرائط المختلفة مواصلة الطريق من الدراسات الثقافية في الكتاب والسُنّة (والتراث الفكري الإسلامي بشكل عام) إلى الدراسات الثقافية في المجتمع والثقافة، والعكس صحيح أيضًا. إنّ هذا النشاط يمثّل نوعًا من إعادة قراءة النصّ الديني في ضوء الشرائط الاجتماعية والثقافية، وإنّ القراءة الثقافية للنصّ يجب أنْ تتمّ بالنظر إلى الشرائط والظروف الثقافية للمجتمع. في المجتمعات العلمانية يتم التخطيط الثقافي بالنظر إلى الأهداف والقيَم العلمانية. وأمّا في المجتمع الإسلامي فإنّ التخطيط الثقافي يجب أنْ يتمّ على أساس الأهداف والقيَم الإسلامية التي يتمّ الحصول عليها من سُنّة التفكير الإسلامي بشكل عام. وفي هذا التخطيط يجب العمل باستمرارٍ ومن دون توقّفٍ على إعادة قراءة النماذج الثقافية السائدة في المجتمع والنماذج الثقافية للدين.
إنّ الدراسات الثقافية بالمعنى العام تمسّ الحاجة إليها في جميع المراحل الثلاثة؛ المرحلة الأولى: في مرحلة اكتشاف النماذج الثقافية الموجودة في الكتاب والسُنّة ومختلف فروع التفكير الإسلامي (من قبيل: الفلسفة والعرفان والفقه وما إلى ذلك). والمرحلة الثانية: في التخطيط الثقافي من أجل العمل على تحققها. والمرحلة الثالثة: في اكتشاف النماذج الثقافية الشائعة في المجتمع. يجب اكتشاف النماذج الثقافية الشائعة في المجتمع بمساعدة الدراسات الثقافية، والعمل على دراسة وبحث مشاكلها.
و من ثَمّ لا بدّ من التأكيد على هذه النقطة، وهي أنّه يجب الاستفادة من القرآن الكريم ومن جميع أرضيات التفكير الإسلامي من أجل اكتشاف المعرفة الثقافية المنهجية وكذلك اكتشاف المفاهيم الثقافية المنتظمة.
العوالم الأربعة
هناك من علماء النفس من يقسّم العالم بناءً على ملاكات يمكن لها أنْ ترتبط بشكلٍ خاصّ بالبحث عن النماذج الثقافية، ومن شأنها أن تقدّم لنا رؤيةً مفيدةً ونافعةً في هذا الشأن. إنّ هذا التقسيم في حدّ ذاته يمثل نموذجًا لتوجيه آرائنا حول وجود الإنسان وعلاقته بالوجود، وبعبارة أخرى: إنّ هذا التقسيم يمثل أسلوبًا لرسم موقع الفرد في العالم. وبعبارة أوضح: إنّ هذا التقسيم يشير إلى الأبعاد الوجودية للإنسان، ويُشير إلى نوع ارتباطه في كلّ بُعدٍ من هذه الأبعاد؛ ومن هنا فإنّ النظرة النموذجية والتخطيطية إلى هذه الأبعاد يمكن أن تكون نافعةً ومفيدةً إلى حدّ ما.
إنّ الأبعاد الوجودية للإنسان تنقسم إلى أربعة عوالم، وهي عبارة عن:
في / العالم (أو العالم المحيط / العالم الفيزيقي).
مع / العالم (أو العالم الاجتماعي).
الذات / العالم (أو العالم الشخصي).
فوق / العالم (أو ما بعد العالم / العالم المعنوي).
وفيما يأتي سوف نعمل على إيضاح كلّ واحدٍ من هذه العوالم[14]:
1. العالم المحيط (أو Umwelt): إنّ المراد من العالم المحيط، عبارةٌ عن ارتباط الإنسان بالعالم المحيط به، حيث تكتسب الحالة الجسدية والمادية مفهومها في هذا الارتباط:
«إنّ العالم الأوّل هو العالم المحيط أو العالم الفيزيقي. في هذا البُعد نواجه جميع خصائصنا الجسدية مع العالم، وإنّ هذا البُعد يُشير إلى جميع تلك الخصائص الجسدية. إنّ التحدّي الأصلي الماثل هنا يدور حول هذا الموضوع (من قبيل ما هو موجود في التكنولوجيا والرياضة)، وهو بحاجة إلى أنْ نقبل بالقيود المرتبطة بالحدود الطبيعية (ومن بينها القيود المرتبطة بالإنسان والبيئة).
إنّ الأقطاب الحاسمة والمصيرية في الحياة هي: الحياة والموت، والصحة والسقم، واللذة والعذاب. نحن نقوم بوساطة الجسم تجاه المحيط وجميع العناصر الموجودة فيها، بما في ذلك الأشخاص الآخرين، ببعض النشاطات والنشاط المتقابل وبعض الأفعال وردود الأفعال. إنّ حواسنا تزوّد مدركاتنا بما يمكّنها من التحليق بأجنحة المعرفة، ونحن نسعى إلى توظيف تلك الأشياء التي ندركها بوصفها أدواتٍ للحفاظ على رفاهنا وأمننا. قد يعمل البحث والتحقيق في العالم الفيزيقي على مساعدة المراجعين في إيضاح صراعهم من أجل إيجاد وحفظ الأمن الفيزيقي لأنفسهم، والشعور بالسيطرة أو عدم السيطرة على أجسادهم، والخوف من الشيخوخة أو النزوع إلى إنكار الاحتياجات الجسدية»[15].
2. العالم الاجتماعي (أو Mitwelt): إنّ العالم الاجتماعي هو عالم ارتباطنا بالآخرين وشعورنا تجاههم وما إلى ذلك:
«نحن كموجوداتٍ لنا علاقةٌ وارتباطٌ وثيقٌ بالموجودات الأخرى، وإنّ هذه الارتباطات تعمل على بلورة بُعد العالم الاجتماعي. إنّ العلاقات الوثيقة لا تندرج ضمن هذا التصنيف فقط، بل إنّ مساحة هذه العلاقات تتسع لتشمل حتى الأبعاد الشخصية أيضًا. إنّ هذا البُعد يرتبط بـ (المواجهات اليومية) التي تشكل جزءًا من العالم العام والكلي، وإنّ بعض الأقطاب في هذه المقولة عبارة عن: الشعور بالتعلّق والعزلة، والحبّ والبغض، والقبول والطرد. ونحن في هذا الحقل بصدد بيان قيَمنا وتحققها من خلال مشاركة مساعي الآخرين؛ ولو حصل أنْ واجهنا مانعًا في هذا الشأن فسوف نتعرّض إلى التناقض مع الآخرين.
إنّ الارتباط إنّما يتحقق في هذا الحقل ليكون وسيلةً لنا في الوصول إلى العالم وتزويد التكافل بالقوّة والطاقة. إنّ جهات العالم الاجتماعي التي يُحتمل أن يكون لها دورٌ أصلي في العلاج، عبارة عن: شعور المراجعين تجاه الأشخاص الآخرين ودوافعهم ونواياهم، والشعور بالانفصال والامتزاج الذي يحمله المراجعون تجاه الآخرين الذين تربطهم بهم علاقاتٌ وثيقة، وأساليب إقامة الارتباط من قبل الآخرين (على سبيل المثال: من طريق الاقتصاد أو الانصياع للسلطة)، وإلى أيّ حدٍّ يشعر في عالمه الاجتماعي بالوحدة أو بالكينونة مع الجماعة»[16].
3. العالم الشخصي (أو Eigenwelt): إنّ هذا البُعد يرتبط بتجاربنا الشخصية وآرائنا ومشاعرنا وتطلعاتنا وأهدافنا وغاياتنا:
«إنّ هذا البُعد يرتبط بالحقل الشخصي والخصوصي، وهو يمثّل جانبًا يشتمل على العثور على الذات والشخصية والتجارب الماضية وإمكاناتنا الفيزيقية بالقوة، بالإضافة إلى مشاعرنا وصفاتنا الشخصية وآرائنا وتطلعاتنا. وإنّ بعض التلقائيات في هذا المجال عبارةٌ عن الهوية والضياع، والكمال والنقص، والإيمان والشك. إنّ هذا البُعد يُشكّل مساحة للتعلق والارتباط الوثيق والشعور بالانتماء والمالكية: على الرغم من أننا على علاقة وصلة وثيقة ببعضنا، فإنّ هذا البُعد حيث نعيش تجربة حياةٍ خاصّةٍ ومفهومة عمّا هو معروف بالنسبة لنا ويقع موردًا لتأييدنا. وفي هذا الحقل ندرك نقاط قوتنا وضعفنا والقيود والقابليات الكامنة فينا بالقوّة.
إنّ أقرب الأشخاص إلينا ينضوون ضمن هذه الدائرة، حيث نعيش تجربة الإحساس بالحميمية والأمن أثناء تواجدنا بالقرب من هؤلاء الأشخاص. وإنّ الأبحاث المرتبطة بهذا العالم تدور حول محور هذه الموضوعات: شعور المُراجع بذاته، وإدراكه لنقاط قوّته وضعفه، ومستوى ثقته واعتماده، وشعوره بالمسؤولية تجاه الآخرين، وأسلوب المُراجع تجاه التعاطي مع الأمور الشاملة والحرية وحق الاختيار، وشعور المُراجع تجاه التعلّق أو الاختلاف وتعرّضه للآفات والأضرار بوصفه فردًا»[17].
4. العالم المعنوي (أو Uberwelt): إنّ هذا العالم يرتبط بدائرة المعنى والمفهوم ويندرج ضمن هذا البُعد أيضًا:
«إنّ هذا البعد هو بعد المعنى والقصد، ويرتبط بمجهولاتنا وأفهامنا لبنية الوجود وعلاقتنا بمعتقداتنا أو قيَمنا. وإنّ هذا البُعد يرتبط لدى بعض الأشخاص بالدين، وعند بعض الأشخاص الآخرين يرتبط بالمعنويات أو القيَم. إنّ نماذج من الأقطاب في هذا البُعد تشمل المفهومية وعدم المفهومية، والغائية والعبثية. وإنّ هذا العالم يندرج ضمن طبقة القيَم والتطلعات الغائية. إنّ هذا العالم هو في الغالب عالم يقع خارج وعي وإدراك المراجعين لنا، وإنّ قيَمنا وتطلعاتنا تميل إلى الإندراج في فلسفتنا، وهو أمرٌ قلّما نخرجه عن التغطية أو نهتم به بشكل صريح. إنّ إعادة التعرّف على معنوياتنا منسوخةٌ إلى حدّ ما، بل تبدو عجيبة وغريبة، لذا فإنّ كثيرين منا قد تخلّوا عن تطلعاتنا وغاياتنا بالإضافة إلى مذهبنا، وأصبحت قيَمنا في الغالب مغشوشةً وباعثةً على الدُوار والذهول»[18].
من الضروري الالتفات إلى النقاط أدناه بشأن علاقات وروابط هذه العوالم[19]:
لا ينبغي أخذ هذه العوالم بوصفها منفصلةً عن بعضها، فإنّ كلّ إنسانٍ يعيش في وقتٍ واحدٍ في جميع هذه العوالم، وفي الوقت نفسه فإنّ جميع هذه العوالم في حالةٍ من التغيّر المستمر والمتواصل؛ ونتيجة لذلك فإنّ كلّ عالمٍ يمثّل طبقةً من وجودنا.
نحن في كلّ عالمٍ نواجه سؤالًا أساسيًا، وفي العالم المادي يطرح هذا السؤال نفسه: كيف يمكن أنْ تكون لنا حياةٌ كاملةٌ، في حين نعلم أنّنا سوف نموت في أيّ لحظة؟
النماذج الناظرة إلى العوالم
يمكن مشاهدة النماذج الثقافية في جميع الأبعاد الوجودية الأربعة؛ حيث إنّ لكلّ عالمٍ نماذجه الثقافية الخاصّة. وبعبارةٍ أخرى: إنّ النماذج الثقافية في الدين لا تعمل على إعطاء البنية إلى العالم الاجتماعي وظواهر تلك البنية فقط، وإنّما تعطي البنية إلى جميع الأبعاد الوجودية للإنسان.
وعليه يمكن تقسيم نماذج القرآن الكريم من هذه الناحية إلى أربع طوائف:
النماذج الناظرة إلى العالم المحيط: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج المادية).
النماذج الناظرة إلى العالم الاجتماعي: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج الاجتماعية).
النماذج الناظرة إلى العالم الشخصي: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج الشخصية).
النماذج الناظرة إلى العالم المعنوي: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج المعنوية).
وفيما يأتي سوف نعمل على توضيح كلّ واحدٍ من هذه النماذج الأربعة:
النماذج المادّيّة
سبق أنْ ذكرنا أنّ العالم الأوّل هو العالم المحيط أو العالم الفيزيقي، وفي هذا البُعد نواجه العالم بجميع خصائصنا الجسمانية، وإنّ هذا البُعد يُشير إلى جميع تلك الخصائص الجسمانية. والألم والعنت إنّما يكتسب معناه ضمن هذه المساحة. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[20].
النماذج الاجتماعيّة
انظر إلى هذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾[21].
تشتمل هذه الآية على العديد من النقاط حول النماذج الثقافية، نشير فيما يأتي إلى بعضها على النحو الآتي:
إنّ هذه الآية عبارةٌ عن إخبارٍ يتحدّث عن النبي وأصحابه، بمعنى أنّها تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الذين تكون قلوبهم معه يكونون أشداءَ على الكفّار، رحماءَ بينهم، كما يتّصفون بخصائص أخرى، ومن هذه الناحية تكون هذه الآية قضيةً تتحدّث عن الماضي. بيد أنّ هذه الآية لا تختصّ بعصر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل تشمل كلّ عصرٍ يكون فيه أشخاصٌ يتّصفون بهذه الخصائص، بأنْ تكون قلوبهم مع النبيّ، ويكونون أشداء على الكفار، رحماء بينهم ، وما إلى ذلك من الأوصاف والخصائص المذكور في الآية أعلاه.
بالنظر إلى الفقرة أعلاه، يتضح أنّ المراد من المعيّة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ ليست هي المعية المكانية والزمانية، بل المراد معيّةٌ حقيقية، بمعنى المعية القلبية، أي الأشخاص الذين تكون لديهم معيّةٌ حقيقيةٌ مع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يتّصفون بهذه الصفة في كلّ عصرٍ وزمان. وبعبارةٍ أخرى: إنّ هذه الآية ـ على حدّ قول علماء المنطق ـ لا تشير إلى قضيةٍ خارجيةٍ حدثت في الماضي، وإنّما تبيّن قضيةً حقيقيةً يمكن لها أنْ تتحقّق في كلّ عصرٍ من العصور.
هل يدلّ قوله تعالى: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ ـ مثلًا ـ على مجرّد صفةٍ من صفات المؤمنين الحقيقيين فقط؟ أم هي تشير إلى إطارٍ ونموذجٍ ثقافي مهم؟ لا شكّ في أنّ هذا الوصف يُشير إلى نموذجٍ ثقافيّ بين المؤمنين؛ فإنّ العلاقات والروابط بينهم تنتظم على نحوٍ خاصٍّ حيث يكونون بأجمعهم متراحمين ومتعاطفين فيما بينهم.
3. النماذج الشخصية
إنّ بعض النماذج إنّما ترتبط بالحقل الشخصي والخاص، وتتعلّق ببُعدٍ من أبعاد العثور على الذات، والشخصية، والتجارب الماضية، وقابلياتنا الفيزيقية الكامنة فينا بالقوة، بالإضافة إلى المشاعر والأحاسيس والصفات الشخصية، وآرائنا وتطلعاتنا أيضًا.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾[22]. يرى العلامة الطباطبائي (ره) أنّ هذه الآية ناظرةٌ إلى مقام إثبات المعاد. إذ يقول: «أوّل الآيات يوجّه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة، وأنّ الله لم يلهُ بإيجاد السماء والأرض وما بينهما؛ حتى يكونوا مخلّين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون ويلعبون كيفما أرادوا من غير أنْ يحاسبوا على أعمالهم، بل إنمّا خُلقوا ليرجعوا إلى ربّهم فيحاسبوا فيجازوا على حسب أعمالهم، فهم عبادٌ مسؤولون إنْ تَعَدوا عن طور العبودية، أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية، وإنّ الله لبالمرصاد. وإذ كان هذا البيان بعينه حجّةً على المعاد انتقل الكلام إليه، وأقيمت الحجة عليه؛ فيثبت بها المعاد، وفي ضوئه النبوة؛ لأنّ النبوة من لوازم وجوب العبودية، وهو من لوازم ثبوت المعاد"[23].
إنّ هذه الآية على الرغم من ارتباطها بمسألة خلق العالم والمعاد، وهي قضية (العالم / الأعلى)، ولكنّها في الوقت نفسه ترتبط بسائر الأبعاد الوجودية للإنسان أيضًا. وعليه يجب العمل على بيان وتفسير التجارب الشخصية للإنسان في حياته على هذا الأساس والإطار، وهو أنّ العالم وظواهره ليست لعبًا.
4. النماذج المعنوية
قلنا إنّ المراد هو النماذج المعنوية من مساحة المعنى، وهي ترتبط بمجهولاتنا وأفهامنا لبنية الوجود وعلاقنا بمعتقداتنا أو قيَمنا. إنّ هذا البُعد يرتبط لدى بعض الأشخاص بالدين، ويرتبط لدى بعضهم الآخر بالمعنويات أو القيَم. قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[24].
أنْ يُنعم على الإنسان تارةً، وتُسلب منه النعمة تارةً أخرى، أمرٌ قابل للإدراك بالنسبة إلى الناس طوال الحياة. وفي هذا فتنةٌ وابتلاءٌ للإنسان، وفي الرؤية الدينية تمثل (الفتنة) إطارًا معنويًا يمنح بنيةً لظواهر الحياة، ويربطها بقيَمٍ خاصّة.
بعض الأساليب
هناك كثيرٌ من الأساليب المتنوّعة للكشف عن النماذج الثقافية، وسوف نقتصر في بحثنا على بعض أساليب كشف النماذج الثقافية في القرآن الكريم:
الالتفات إلى الدور المحوري للكلمة
إنّ أكثر أنواع تحليل النصوص تحدث عادةً على مستوى المفردات والكلمات، وفي هذا المستوى يتمّ تحليل الكلمات المفتاحية في النصّ؛ ومن هنا يُسمّى هذا النوع من التحليل بـ (تحليل الكلمات المفتاحية). في هذا الأسلوب يركّز الباحث على المفردات والألفاظ التي تستعمل بنحوٍ متعارفٍ في الموضوع مورد البحث في النصّ (أو في الحوارات). وقد ذهب إلى توظيف هذا الأسلوب كلٌّ من دوإندارد وكوئين.
وفيما يأتي نشير إلى بعض الأمثلة في علم الأنثروبولوجيا:
لقد تحدّث شتراوس عن حواراتٍ أجريت حول النظام الرفاهي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد أدرك أنّ لكلمة (العمل) أهميةً خاصّة، وقد عمد في النصوص التي قام بتحليلها إلى عدّ هذه الكلمة كلمةً مفتاحية. وقد التفت في تحليلاته اللاحقة إلى الاستعمالات المختلفة لهذه الكلمة في النصوص المتنوّعة، وتنبّه إلى دلالاتها، وإنّ المدلولات المختلفة التي حصل عليها في مختلف الاستعمالات عبارة عن: العمل بأجرة، والنشاط الإنتاجي . فقد تنبّه إلى ارتباط هذه المداليل بالرأسمالية والمسؤولية، كما أدرك وجود أسسٍ خاصّة (أخلاقيات العمل) في مورد هذه المفردة. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ مدلولها يتداعى مع (المشقة)، ويدلّ على الجهد والسعي، ويقع إلى الضدّ مع البطالة والكسل. وفي نهاية المطاف فقد استفاد شتراوس من جميع هذه المعلومات؛ ليحصل على (النموذج الأمريكي للعمل).
إنّ الرسم البياني أدناه يُشير إلى هذا الأسلوب:
لقد أجرى بلونت حواراتٍ مع ثلاث مجموعاتٍ من السكان المحليين حول أزمة البيئة والمصادر الطبيعية. ثم قام بتحليل نصوص الحوارات، وحصل على عددٍ من الكلمات المفتاحية التي ورد استعمالها في الإشارة إلى البيئة. وقد نظّم هذه الكلمات الثلاث من خلال ثلاثة رسومٍ بيانيةٍ متطابقةٍ مع الحوارات التي ظهرت فيها، وصنع في نهاية المطاف ثلاثة نماذجٍ من خلال الاستفادة من هذه الكلمات الثلاث.
لقد استعمل كرونينفيلد أسلوبًا مختلفًا في مستوى الكلمات والألفاظ. فقد عمد إلى تنظيم بحثين مختلفين، وطلب فيهما من الأشخاص المطلعين أنْ يقوموا بتوصيف مجموعةٍ من الكلمات والمفردات، وكانت هذه الكلمات تستعمل بين أصحاب المراعي وغيرهم، وكانت تؤدّي إلى وقوع التعارض فيما بينهم.
إنّ مفردة (الوجه) التي سبق أنْ أشرنا إليها، تحتوي على هذا الموقع في الخطاب والحوار التوحيدي.
النماذج التحليلية والنماذج الاكتشافية
من الضروري الالتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ بالإمكان الحصول على النماذج الثقافية في القرآن الكريم من طريقين، الطريق الأول: من خلال العثور على القضايا التي تحتوي على وظائف نموذجيةٍ في الآيات القرآنيّة. والطريق الآخر: من خلال تأسيس النماذج بالنظر إلى المفاهيم والعبارات والخطابات الموجودة في القرآن الكريم. ونحن نُسمّي النماذج من النوع الأول بـ (النماذج الاكتشافية)، والنماذج من النوع الثاني بـ (النماذج التحليلية).
من ذلك ـ على سبيل المثال ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. إنّ هذه الآية تدلّ على نموذجٍ ثقافيّ اكتشافي، مفاده يجب جعل التآخي بين المؤمنين في المجتمع الإسلامي نموذجًا ثقافيًا، وليس هذا الأصلُ أصلًا اجتماعيًّا فحسب؛ بمعنى أنّه ليس مجرد توصيةٍ اجتماعيةٍ في الإسلام، بل التآخي في المجتمع الإسلامي يعمل على شكل نموذجٍ ومخطّطٍ ثقافي، يقوم بتوجيه أفعال وأفكار الأفراد وطريقة حياتهم، وإنّ هذا المخطّط الذي يعمل على توجيه العلاقات بين أفراد المجتمع، ليس توصيفًا ودعوة بسيطة فقط، بل هو توطينٌ واستبطانٌ لعلاقةٍ خاصّةٍ تؤثّر في سائر أبعاد الحياة الاجتماعية والفكرية الأخرى؛ ولهذا السبب تمّ طرح نقطتين تبعًا لهذين النموذجين، وهما:
وجوب إقامة الصلح والوئام بين الإخوة ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾.
انتهاج التقوى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.
تبعًا للنماذج الثقافية التحليلية نسعى للبحث عن بنية المفاهيم الثقافية التي تعمل على بيان مخطط، ومن الواضح أنّ هذه الغاية تستدعي نقطة دخولٍ مناسبةٍ إلى النصّ القرآني، وأنّ النقطة المهمّة في اكتشاف هذا النوع من النماذج تكمن في العثور على نقطة الدخول المناسبة. وبعد ذلك يجب علينا اتّباع المسار الذي تمّ الحصول عليه من خلال العثور على المفهوم المناسب داخل النص، لنصل بالتدريج إلى بنية المفاهيم ذات الصلة.
وبعبارةٍ أدق: من أجل العثور على النماذج الثقافية التحليلية في القرآن الكريم، يجب العمل بالأسلوب الآتي:
العثور على المفاهيم الثقافية المحورية في الآيات.
العثور على المفاهيم الثقافية المرتبطة بالمفاهيم المحورية في بيان مفاهيم الآيات.
اكتشاف بنية العلاقات الموجودة بين هذه المفاهيم.
إنّ هذا الأسلوب ليس هو الأسلوب الوحيد في اكتشاف النماذج الثقافية التحليلية فقط، فيمكن بيان أساليب أخرى في هذا الشأن أيضًا.
نماذج الكفر والإيمان
إنّ مسألة تعدّدية الثقافات واحدةٌ من المسائل الجوهرية في علم الأنثروبولوجيا؛ فإنّ علم الأنثروبولوجيا يبدأ من تعدّدية الثقافات، وإنّ الأصل البديهي الأول الذي يقوم عليه علم الأنثروبولوجيا هو هذه المسألة. إنّ علم الأنثروبولوجيا لمّا كان يحقّق بشأن المجتمعات والثقافات الأخرى، يضع التفكير حول (الآخر) بوصفه مسألةً أصلية[25].
إنّ الثقافات في مواجهتها المتبادلة تصل إلى وعي بذاتها، وتتعرّف على قابلياتها بشكلٍ جيد، كما أنّها في مواجهتها لبعضها تعمل على تحقّق قابلياتها. إنّ من بين الأصول الأساسية للبنيويين أنهم يعدّون الثقافة نصًا يحتاج إلى تفسير، ويعدّون المواجهات الثنائية المتبادلة بمنزلة الأداة الأصلية والمركزية لها[26].
إنّ هذين الادّعاءين يختلفان عن بعضهما؛ فالادّعاء الأوّل ادّعاءٌ معرفيّ أبستمولوجي، والادّعاء الثاني ادّعاءٌ وجوديّ أنطولوجي. إنّ الثقافات إنّما تحصل على معرفةٍ مناسبةٍ عن نفسها في حالة التقابل فيما بينها؛ ومن هنا فإنّ المعرفة بالثقافات إنّما تحصل على الدوام في (منطق التقابل والمقارنة)، وإنّ أبستمولوجية الثقافات تابعةٌ لمنطق التقابل والمقارنة.
إنّ الثقافات لا تظهر جميع قابلياتها مرّةً واحدة، وإنّ نوع وجود الثقافات بنحو لا تظهر جميع قابلياتها في موضعٍ واحد، بل تصل إلى مرحلة الفعلية في التقابل مع سائر الثقافات الأخرى. وهذا الكلام لا يعني عدم إمكان التعرّف على ثقافةٍ من داخلها، بل المراد هو أنّ كثيرًا من قابليات الثقافة وإمكاناتها إنّما تظهر في تقابلها ومواجهتها مع الثقافات الأخرى.
هناك محوريةٌ لتقابل ثقافة الكفر والإيمان في القرآن الكريم، وفي كثيرٍ من النماذج الثقافية لهذين الأمرين تتضح في التقابل والمواجهة مع بعضها، بل إنّ القرآن الكريم يرى أنّ هذا التقابل من أكثر المواجهات الثقافية جوهريةً طوال التاريخ.
إنّ طائفةً من الآيات القرآنية تشير إلى نماذج ثقافية، وفيما يأتي نشير إلى بعض الأمثلة من آيات القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[27].
في هذه الآية عددٌ من النقاط التي يمكن الوقوف عندها:
الدعوة إلى الصبر مع الذين يدعون الله في الليل والنهار، يريدون وجه الله، وعدم صرف الأعين عنهم.
عدم إرادة زينة الدنيا.
عدم إطاعة الذين أغفل الله قلوبهم.
النقطة الثانية هي أنّ عبارة ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تشير إلى نموذجٍ أساسيّ في ثقافة الكفر، وهي إرادة زينة الدنيا، وإنّ إرادة زينة الدنيا في ثقافة الكفر، وفي المقابل إرادة وجه الله ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ في ثقافة الإيمان، تُظهران نموذجين أساسيين، وتفعيل مفهوم (الزينة) يحظى في هذا الإطار بأهميّةٍ خاصّة. إنّ الحياة الدنيا تمثّل مرحلةً من حياة البشر، وقوام هذه المرحلة بزينتها وجمالياتها؛ ومن هنا فإنّ إرادة هذه الزينات تتنافى مع إرادة وجه الله، وإنّ الإعراض عن وجه الله يستلزم بدوره إرادة هذه الزينات. إنّ هاتين العبارتين تؤلّفان (عبارتين محوريتين)، يمكن من خلالهما تشخيص النموذج الثقافي الأساسي للإيمان والكفر.
إنّ إرادة زينة الدنيا في ثقافة الكفر، وعدم إرادتها في ثقافة الإيمان، يعملان بوصفهما من النماذج الثقافية الأساسية التي تؤثّر في طريقة تفكير الكافرين والمؤمنين وسلوكهم وحياتهم.
وإليك هذه الآية الأخرى التي تعمل على تكميل معلوماتنا حول هذين النموذجين، إذ يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[28].
يمكن لنا أنْ نفصل في هذه الآية بين ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يقدّم معلوماتٍ بشأن الحياة في الدنيا، وذلك على النحو الآتي: أ ـ الحياة الدنيا لهوٌ ولعب. ب ـ الزينة. ج ـ سبب التفاخر بينكم. د ـ التكاثر في الأموال والأولاد.
القسم الثاني يُشير إلى مَثَلٍ يصف إعجاب الكفار بالأمور المذكورة أعلاه، ومفاده أنّ الكفّار ينبهرون بهذه الأمور التي مَثَلها كمَثَل المطر الذي ينزل فيخضرّ به نبات الأرض، فيُعجب به المزارعون. ولكنّه يصفرّ بعد ذلك ويذبل.
في القسم الثالث تمّت الإشارة إلى شدّة العذاب الإلهي، كما تمّت الإشارة إلى الرضوان والمغفرة في الآخرة، وكذلك إلى هذه النقطة، وهي أنّ الحياة الدنيا ليست سوى بضاعةٍ خادعة: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾. وفي هذا القسم الأخير تمّت الإشارة إلى آليتين لتغيير النموذج الثقافي للكفر، إحداهما: الإشارة إلى مصير الكفر، والأخرى: بيان ماهية الحياة الدنيا التي هي مجرّد بضاعة خادعة.
إنّ ثقافة الكفر هي ثقافة التزيين، وإنّ كلّ شيءٍ فيه يتمّ تزيينه، ففي الخطوة الأولى يتمّ في هذه الثقافة تزيين الحياة الدنيا، إذ يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[29]. إنّ كلمة (زُيّن) في هذه الآية كلمةٌ محوريةٌ ومفتاحية، توصلنا إلى بيان النموذج الثقافي للكفر. وفي هذه الآية هناك مفهومٌ آخر يرتبط بهذه الكلمة المحورية والمفتاحية، وهو المفهوم المُعبّر عنه بكلمة (يسخرون)، فإنّ تزيين الحياة الدنيا مقرونٌ بالسخرية من المؤمنين.
وفي الخطوة الثانية، تمّ تزيين حبّ الشهوات للناس، إذ يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾[30].من الواضح أنّ متاع الدنيا يتمّ تزيينه للكافرين؛ وهم الذين لا يبالون بعاقبة الأمور عند الله سبحانه وتعالى.
وفي الخطوة الثالثة، تمّ تزيين أعمال الكفار القبيحة لهم؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[31].
إنّ الرسم البياني أدناه يُشير إلى نموذجَي الكفر والإيمان على نحوٍ مقارن:
محاور المقارنة
نموذج الكفر
نموذج الإيمان
الاتجاه في الحياة
إرادة الدنيا .. الغفلة .. اتباع الهوى
إرادة وجه الله .. الذكر .. عدم اتباع الهوى
الاتجاه بالنسبة إلى التكاثر
الإعجاب بالتكاثر ...
عدم الإعجاب بالتكاثر
التزيين
تزيين الحياة الدنيا .. تزيين الشهوات .. تزيين الأعمال القبيحة
متاع الحياة الدنيا .. عدم تزيين الأعمال القبيحة
لا ينبغي تجاهل هذه النقطة، وهي أنّه يجب أخذ كلّ واحدٍ من المحاور أعلاه بوصفه بُعدًا من الأبعاد الثقافية بنظر الاعتبار. إنّ إرادة الدنيا لا يمكن عدّها مجرّد حالةٍ فردية، بل يجب عدّها بمعنى الاتجاه القائم في ثقافةٍ ما؛ أي بوصفها نموذجًا موجودًا في ثقافة الكفر.
وهكذا نلاحظ أنّ النموذج الثقافي للكفر يختلف عن الكفر بوصفه ثقافةً (مجموعة من العناصر)؛ إنّ الكفر بوصفه مؤسسًا لثقافةٍ يعمل على توظيف آلياتٍ وأدواتٍ خاصّةٍ لكي يؤمن بها الأفراد في دخائلهم ووجدانهم، وإنّ هذه النقطة إنّما تنشأ من النموذج الثقافي من الكفر.
إنّ الاهتمام بأسلوب الحصول على النموذجين أعلاه مفيدٌ أيضًا. في الآية الأولى حصلنا على الكلمة المحورية والمفتاحية، وبحثنا تقابلها مع الكلمة الأخرى، وفي الآية الأخرى وصلنا من خلال بيان نسبة الكفار إلى زينة الدنيا وإعجابهم بها في قبال تكاثر الأموال والأولاد. ومن خلال بحث ثلاث آياتٍ أخرى التي هي صورةٌ متغيّرةٌ لكلمة (تزيين) المحورية والمفتاحية، توصلنا إلى نسبٍ أخرى بين الكفار والحياة الدنيا والشهوات والأعمال القبيحة. إنّ أهمّ نقطةٍ في هذا المورد اكتشاف الكلمة المحورية والمفتاحية، وتتبع مساراتها في مختلف آيات القرآن الكريم.
خلاصات وإطلالات
لقد تحدّثنا في هذا البحث حول المفاهيم والمستويات الثقافية للقرآن الكريم، وذكرنا أنّ هناك في الحدّ الأدنى ثلاثة تعريفاتٍ للمفاهيم الثقافية:
إنّ المفاهيم الثقافية هي المفاهيم التي تستعمل في الحياة الاجتماعية، ويكون ظرف تحققها هو المجتمع.
إنّ المفاهيم الثقافية هي المفاهيم التي تترتب عليها تداعيات اجتماعية.
إنّ المفاهيم الثقافية هي المفاهيم التي تشتمل على خططٍ ثقافيةٍ خاصّة.
وقد فرّقنا بين ثلاثة مستوياتٍ مختلفة من الدين، تقوم بينها علاقات طولية:
الدين الاعتقادي: وهو الدين بوصفه مجموعةً من العقائد التي تنطوي على تداعياتٍ سلوكيةٍ خاصّة. ويتمّ استعمال الدين في الأبحاث الكلامية بهذا المعنى عادة.
الدين التخطيطي: وهو الدين بوصفه مجموعةً منسجمةً ومترابطةً من النماذج الثقافية.
الدين الثقافي: وهو الدين بوصفه مجموعةً من العناصر التي تؤلّف ثقافةً ما.
ولقد أطلقنا مصطلح (القضايا الأنثروبولوجية) على القضايا التي تعمل بنحوٍ من الأنحاء على الإحالة إلى الإنسان اللاحق (الإنسان الذي يعيش في صلب الثقافة). وبالنظر إلى آيات القرآن الكريم، يمكن لنا أنْ نفصل بين ثلاثة مستويات:
الأعضاء المنتسبين إلى ثقافةٍ واحدة: إنّ هذا النوع من القضايا يرد من الناحية المنطقية على شكل قضيّةٍ خارجية. بمعنى أنّها تظهر حكمًا لأفراد ثقافةٍ ما؛ ومن هنا فقد أطلقنا عليها تسمية (القضايا العضوية).
القضايا الثقافية: إنّ هذه القضايا تعمل على بيان أجزاء الثقافة؛ ومن هنا فقد أطلقنا عليها عنوان (القضايا الثقافية).
النماذج الثقافية: إنّ هذه الطائفة من القضايا تعمل على بيان النماذج الثقافية؛ ومن هنا فقد أطلقنا عليها تسمية (القضايا النموذجية أو التخطيطية).
يمكن تقسيم نماذج القرآن الكريم من هذه الناحية إلى أربع طوائف:
النماذج الناظرة إلى العالم المحيط: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج المادية).
النماذج الناظرة إلى العالم الاجتماعي: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج الاجتماعية).
النماذج الناظرة إلى العالم الشخصي: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج الشخصية).
النماذج الناظرة إلى العالم المعنوي: ونُسمّي هذا النوع من النماذج بـ (النماذج المعنوية).
إنّ أكثر أنواع تحليل النصوص تحدث عادةً على مستوى المفردات والكلمات، وفي هذا المستوى يتمّ تحليل الكلمات المفتاحية في النص. ومن هنا يُسمّى هذا النوع من التحليل بـ (تحليل الكلمات المفتاحية)، وفي هذا الأسلوب يركّز الباحث على المفردات والألفاظ التي تستعمل بشكلٍ متعارفٍ في الموضوع مورد البحث في النص (أو في الحوارات).
يمكن الحصول على النماذج الثقافية في القرآن الكريم من طريقين، الطريق الأول: من خلال العثور على القضايا التي تحتوي على وظائف نموذجية في الآيات القرآنيّة. والطريق الآخر: من خلال تأسيس النماذج بالنظر إلى المفاهيم والعبارات والخطابات الموجودة في القرآن الكريم. ونحن نُسمّي النماذج من النوع الأول بـ (النماذج الاكتشافية)، ونسمّي النماذج من النوع الثاني بـ (النماذج التحليلية).
في النماذج الثقافية التحليلية نسعى إلى البحث عن بنية المفاهيم الثقافية التي تعمل على بيان مخطط. ومن الواضح أنّ هذه الغاية تستدعي نقطة دخولٍ مناسبةٍ إلى النصّ القرآني، وأنّ النقطة المهمّة في اكتشاف هذا النوع من النماذج تكمن في العثور على نقطة الدخول المناسبة. وبعد ذلك يجب علينا اتّباع المسار الذي تمّ الحصول عليه من خلال العثور على المفهوم المناسب داخل النص؛ لنصل بالتدريج إلى بنية المفاهيم ذات الصلة. ومن أجل العثور على النماذج الثقافية التحليلية في القرآن الكريم، يجب العمل بالأسلوب الآتي:
العثور على المفاهيم الثقافية المحورية في الآيات.
العثور على المفاهيم الثقافية المرتبطة بالمفاهيم المحورية في بيان مفاهيم الآيات.
اكتشاف بنية العلاقات الموجودة بين هذه المفاهيم.
إنّ الثقافات لا تظهر جميع قابلياتها مرّةً واحدة، وإنّ نوع وجود الثقافات بنحو لا تظهر جميع قابلياتها في موضعٍ واحد، بل تصل إلى مرحلة الفعلية في التقابل مع سائر الثقافات الأخرى. إنّ كثيرًا من قابليات الثقافة وإمكاناتها إنّما تظهر في تقابلها ومواجهتها مع الثقافات الأخرى، ومعرفة الثقافات إنّما تحصل على الدوام في (منطق التقابل والمقارنة). وإنّ أبستمولوجية الثقافات تابعةٌ لمنطق التقابل والمقارنة.
هناك محوريةٌ لتقابل ثقافة الكفر والإيمان في القرآن الكريم، وكثيرٌ من النماذج الثقافية لهذين الأمرين تتضح في التقابل والمواجهة مع بعضها. بل إنّ القرآن الكريم يرى أنّ هذا التقابل يُعدّ من أكثر المواجهات الثقافية جوهرية طوال التاريخ.
إنّ الدراسات الثقافية بالمعنى العام تمسّ الحاجة إليها في المجتمع الديني في ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: في مرحلة اكتشاف النماذج الثقافية الموجودة في الكتاب والسُنّة ومختلف فروع التفكير الإسلامي (من قبيل: الفلسفة والعرفان والفقه وما إلى ذلك). والمرحلة الثانية: في التخطيط الثقافي من أجل العمل على تحققها. والمرحلة الثالثة: في اكتشاف النماذج الثقافية الشائعة في المجتمع. ويجب اكتشاف النماذج الثقافية الشائعة في المجتمع بمساعدة من الدراسات الثقافية، والعمل على دراسة وبحث مشاكلها.
المصادر
القرآن الكريم.
أ ـ المصادر الفارسية:
2 ـ آدمز، مارتين، مقدمه اي بر مشاوره وجودي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: السيد محسن حجّت خواه و پيمان ولد بيگي، (تحقيق: د. محمد مهدي نوروزي)، انتشارات ارجمند، طهران، 1396 هـ ش.
3 ـ ذو علم، علي، فرهنگ ناب اسلامي، انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و انديشه اسلامي، طهران، 1397 هـ ش.
4 ـ ريوير، كلود، درآمدي بر انسان شناسي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: ناصر فكوهي.
5 ـ سميث، فيليب، درآمدي بر نظريه فرهنگي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسن پويان، دفتر پژوهش هاي فرهنگي، طهران، 1383 هـ ش.
6 ـ الشعراني، الميرزا أبو الحسن، نثر طوبى أو دائرة المعارف لغات قرآن مجيد، انتشارات إسلامية، ط 2، طهران، 1352 هـ ش / 1398 هـ.
7 ـ الجعفري، محمد تقي، فرهنگ پيرو و فرهنگ پيشرو، انتشارات علمي و فرهنگي، طهران، 1392 هـ ش.
8 ـ فكوهي، ناصر، صد و يك پرسش از فرهنگ، انتشارات تيسا، طهران، 1393 هـ ش.
9 ـ مجموعة من المؤلفين، أوياكوو، سوزان و ويكسل / ديكسون، كارن، درمان وجودي 100 نكته، 100 تكنيك، تحقيق مجموعة: ويندي دراين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: شهناز إيزدي اينلو، انتشارات كتاب أرجمند، طهران، 1398 هـ ش.
ب ـ المصادر العربية:
10 ـ الكاشاني، الفيض المولى محسن، المسؤوليات الاجتماعية، ذوي القربى، قم، 1426 هـ.
11 ـ الطباطبائي، السيد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، 1393 هـ / 1973 م.
12 ـ صدر المتألّهين الشيرازي، صدر الدين محمد بن إبراهيم، مفاتيح الغيب، تصحيح: محمد الخواجوي، مؤسسة مطالعات و تحقيقات فرهنگي، طهران، 1363 هـ ش.
ج ـ المصادر اللاتينية:
13 - D’ Andrad, Roy and Strauss, Claudia (eds.). (1992). Human Motives and cultural models, New York: Cambridge University Press.
-------------------------------------------------------
[1] إدارة التحرير.
[2] سورة البقرة: 256.
[3] العلامة الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 343.
[4] سورة النساء: 160 ـ 161.
[5] سورة التوبة: 122.
[6] العلامة الجعفري، محمد تقي، فرهنگ پيرو و فرهنگ پيشرو، ص 102، (مصدر فارسي).
[7] فكوهي، ناصر، صد و يك پرسش از فرهنگ، ص 38 ـ 39،(مصدر فارسي).
[8] سورة البقرة: 39.
[9] سورة آل عمران: 156.
[10] سورة الرحمن: 60.
[11] سورة الصافات: 95.
[12] سورة البقرة: 195.
[13] ذو علم، علي، فرهنگ ناب اسلامي، ص 180 ـ 187، (مصدر فارسي).
[14] آدمز، مارتين، مقدمه اي بر مشاوره وجودي، ص 39 ـ 41.
[15] مجموعة من المؤلفين، أوياكوو، سوزان و ويكسل / ديكسون، كارن، درمان وجودي 100 نكته، 100 تكنيك، ص 119.
[16] م.ن، ص 119 ـ 120.
[17] مجموعة من المؤلفين، أوياكوو، سوزان و ويكسل / ديكسون، كارن، درمان وجودي 100 نكته، 100 تكنيك، ص 120.
[18] مجموعة من المؤلفين، أوياكوو، سوزان و ويكسل / ديكسون، كارن، درمان وجودي 100 نكته، 100 تكنيك، ص 120 ـ 121.
[19] آدمز، مارتين، مقدمه اي بر مشاوره وجودي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: السيد محسن حجّت خواه و پيمان ولد بيگي، ص 39 ـ 41.
[20] سورة لقمان: 23.
[21] سورة الفتح: 29.
[22] سورة الأنبياء: 16 ـ 17.
[23] العلامة الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 14، ص 258.
[24] سورة الزمر: 49.
[25]. ريوير، كلود، درآمدي بر انسان شناسي، ص 20.
[26]. سميث، فيليب، درآمدي بر نظريه فرهنگي، ص 291 ـ 292.
[27]. سورة الكهف: 28.
[28]. سورة الحديد: 20.
[29]. سورة البقرة: 212.
[30]. سورة آل عمران: 14.
[31]. سورة الأنعام: 122.