البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عاشوراء مرآة القرآن

الباحث :  د.نجم الفحام
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  15
السنة :  شهر جمادى الثانية 1439هـ / 2018م
تاريخ إضافة البحث :  April / 12 / 2018
عدد زيارات البحث :  586
تحميل  ( 261.948 KB )
لاشكّ في أنّ عاشوراء مرآة للقرآن الكريم ويوم من أيام الفرقان الإلهي الذي ربط الانسان بالله وحرّره من عبوديّة سواه وأخرجه من الظلمات إلى النور وهذا التحرّر والاستقطاب العاشورائي لم يكن عفويّاً ولم يأت بمحض المصادفة وإنّما كان وعداً إلهيّاً وقياما نبويّا وأداء علويّاً واستحقاقاً سلوكيّاً وعمليّاً نهض به عدل القرآن تحت ظلال القرآن: « إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(1).

ومثله ما روي عن زيد بن ارقم: « قال رسول الله (ص) اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، احدهما اعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض، وعترتي اهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2) .

 وعدل الشيء لابدّ من أن يكون مساوياً له، وهذا الامر باق لهم في كل عصر ومصر وانهما لن يفترقا حتى يرث الله تعالى الارض ومن عليها .

 فعاشوراء كانت تجسيدا للقرآن من خلال سيد الشهداء وفي سيد الشهداء ومع سيد الشهداء، وثورة الحسين سلام الله عليه كانت ثأراً لله تعالى لتكون كلمته هي العليا وكلمة الجاهلية هي السفلى، الجاهلية التي أراد معاوية وابنه يزيد وآل أميّة المنحرفون، أنْ تكون هي البديل عن الاسلام المحمدي الحنيف، فهبّت الثلّة الطاهرة من آل الرسول (ص) (الحسين صلوات الله عليه وأهل بيته ومعهم أصحابه) بعد أن خدّرت أيام حكم معاوية وابنه يزيد الامة الاسلامية وشخصيّتها بالترغيب والترهيب حتى أصبح جسد الامة جثّة هامدة لا حراك بها . وقد استطاع الدم العلوي أن يهزّ كيان الامة ويسقط ما بناه الامويّون من قلاع الزيف والتزوير وما أسبغوه على أنفسهم من صور وألقاب لخداع الامة وعرّاهم ـ هذا الدم الطاهر ـ مثلما عرّى رسول الله (ص) آباءهم وأجدادهم من قبل، فكان الفتح الثاني بعد الفتح الاول على يدي رسول الله (ص) على يدي سبطه ولحمته على يدي ابي الشهداء و( لن تشذّ عن رسول الله (ص) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس) فكان لأبي الشهداء ما أراد من الفتح الذي وعد به أهله وأصحابه ومن التحق به (من لحق بنا استشهد ومن تخلّف لم يدرك الفتح) فكان مثلما قال صلوات الله وسلامه عليه .

 وقد رسمت خطابات أبي الشهداء (ع) طريقه وطريق من يريد أن يمضي معه الى الله تعالى بكل وضوح وهدى لا لبس فيه ﴿ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾(3) . يقول ابو الشهداء صلوات الله وسلامه عليه في خطاب من خطاباته: «خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة... وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف... لا محيص عن يوم خطّ بالقلم . رضا الله رضانا أهل البيت... لن تشذّ عن رسول الله (ص) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس... ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته، موطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إنْ شاء الله » .

 حدّد ابو الشهداء في خطابه هذا مثلما هي الحال في خطاباته الاخر ملامح نهضته وخصائص ثورته على الطاغوت والطغيان إذ إنّ ثورته إنّما هي صراع بين الشرك والجاهلية التي يقودها يزيد وأبو يزيد وجده من قبل، والهدى والتوحيد الذي يمثّله الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه وأبوه عليّ صلوات الله وسلامه عليه وجدّه محمد (ص) من قبل . وقد ذكّرهم الحسين (ع) ذلك يوم عاشوراء إذ يقول مخاطبا من جاء يريد قتاله: « ايها الناس أنبئوني من أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي ؟ أوليس جعفر الطيّار عمّي ؟ أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق . فو الله ما تعمّدت الكذب منذ علمت إنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه . وأنْ كذّبتموني فإنّ فيكم من أنْ سألتموه عن ذلك أخبركم . سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد السّاعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي . أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي » .

 ومن هنا فنهضته (ع) صراع عقائديّ بين عقيدة يحملها قوم أولهم رسول الله (ص) في دعوته ضدّ الشرك ـ دعوة ورثها رسول الله (ص) منذ آدم (ع) ونوح وابراهيم وموسى وعيسى وكل النبيّين والمرسلين والصديقين والصالحين ـ إلى أن انتهت إلى وارث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص) الامام الحسين (ع). وعقيدة الشرك والطاغوت من إبليس وقابيل ونمرود وفرعون وهامان وأبي سفيان ومعاوية ويزيد ومن يأتي بعدهم إلى أنْ يرث الله تعالى الارض ومن عليها .

 فنهضة أبي الشهداء إنّما يحتمها عليه الثّقل الأكبر القرآن الكريم عقائديّاً لأنّه الثقل الأصغر الذي تركه الرسول الأكرم (ص) ولا ينهض بالكتاب إلا عدلُ الكتاب مثلما نصّ على ذلك الحديث الشّريف المذكور آنفاً . وليس للناس إمام إلا عدل الكتاب وعدل الكتاب في عاشوراء سيد الشهداء فهو القدوة التي على الامة أن تقتدي بها . بل على الانسانية جمعاء أنْ تتّخذه قدوة ليقودها إلى الله تعالى ويقدمها إلى الخير . لقد أيقظت عاشوراء الشعور الفطري في أعماق النفس الانسانية الذي حاول آل أميّة تعويقه وتكبيله بل تحطيمه في نفوس الامة ليضيع عليها طريقها المرسوم وكادت أمية أنْ تفلح في ذلك لولا نهضة أبي الشهداء صلوات الله وسلامه عليه الذي أدرك أنّ هذه المهمة لا يمكن أنْ ينهض بها إلا الامتداد الطبيعي للنبوة بكل ما لها من التقوى لله حقّ تقاته وتمام رضاه والوفاء بالالتزام والاداء على النحو الذي يرضى الله تعالى عنه وهو المقام الذي لم يبلغه إلا الانبياء والمرسلون والاوصياء وكان أبو الشهداء منهم صلوات الله وسلامه عليه، فهو الامتداد الحقيقي ـ لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ ليكمل اللاحق ما بدأه السّابق: «إنّما خرجت لطلب للإصلاح في أمّة جدي» . فعاشوراء إمامة الاستحقاق على أساس العمل والشّعور والصلاح والإصلاح والإيمان . وعاشوراء ردّ على من صوّرها صراعاً على نزوة أو حيازة امرأة أو صراعاً بين هاشم وأمية، إنّما هي صراع بين الامامة الحقّة وإمامة الجاهلية التي ترى الوراثة وراثة الاصلاب والانساب ليس غير . فكانت صرخة أبي الشهداء (ع): إنّما القربى وشيجة دين وعقيدة وليست وشيجة لحم ودم وقوم ؛ لأنّ دعوى القرابة والنسب والدم والجنس أو العرق دعوى الجاهليّة، وهذا ما لا يتّفق وروح الاسلام من لدن إبراهيم (ع) وحتى خاتم الانبياء والمرسلين أبي القاسم محمد (ص) .

 ولعلّ سائلاً يسأل أليس في أمّة محمد (ص) من ينهض بهذا العبء سوى الحسين (ع) ؟ ! ولا نتكلّف جواباً على هذا السؤال ولا اجتهاداً ؛ لأنّ الجواب هو القرآن وعاشوراء، والقرآن نصّ، ولا اجتهاد في مقابل النّصّ ـ مثلما يقول العلماء ـ وعاشوراء صورة حيّة ناطقة . أمّا جواب القرآن فقوله تعالى :{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }(4) . وأمّا جواب عاشوراء: فمن ذا الذي وقف بعرصات الطّفّ، من ذا الذي لم يظلم أبداً، من ذا الذي يستطيع أنْ يدّعيها غير أبي الشهداء، من ذا الذي لم يظلم نفسه بالشّرك، أو لم يظلم الناس ويبغي عليهم، بل وصلت الحال بالامة أنْ تركت العمل بالحق . يقول الحافظ أبو نعيم احمد بن عبد الله الاصفهاني في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) ـ وهو ليس من الشيعة قطعاً ـ: «... حكي عن الحسين بن علي من التبرّم بالعيش مع من يخالف سيرتهم: وهو ما حدّثناه سليمان بن أحمد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الزبير بن بكار حدّثني محمد بن الحسن . قال: لما نزل القوم بالحسين وأيقن أنّهم قاتلوه، قام في أصحابه خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثُمّ قال: قد نزل من الأمر ما ترون ؛ وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها... حتى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء . إلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله وإنّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما »(5) .

 فالنهوض لا يستطيع أنْ يقوم به من لديه أدنى ظلم أو أي لون من ألوان الظلم من المهد إلى اللحد . والإمامة بكل أنواعها ـ إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصّلاة ـ محرّمة على الظالمين .

 ومن هنا « فالإمام يجب أن يكون إنساناً ذا يقين مكشوفاً له عالم الملكوت ـ متحقّقاً بكلمات من الله سبحانه ـ والملكوت هو الأمر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى: (يهدون بأمرنا) يدلّ دلالة واضحة على أنّ كل ما يتعلّق به أمر الهداية ـ وهو القلوب والأعمال ـ فالإمام باطنه وحقيقته، ووجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أنّ القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فالإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرّها، وهو المهيمن على السبيلين جميعاً، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة . وقال تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ )(6)... تفسيره بالإمام الحقّ دون كتاب الأعمال، على ما يظنّ من ظاهرها، فالإمام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السّرائر، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا وباطنها، والآية تفيد مع ذلك أنّ الإمام لا يخلو عنه زمان من الأزمنة، وعصر من الأعصار، لمكان قوله تعالى: (كلّ أناس )... ثُمّ إنّ هذا المعنى أعني الإمامة، على شرفه وعظمته، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الذي ربّما تلبّس ذاته بالظلم والشّقاء، فإنّما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾(7) وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحقّ وبين غير المهتدي إلا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أنْ يكون الهادي إلى الحقّ مهتدياً بنفسه، وأنّ المهتدي بغيره لا يكون هادياً إلى الحقّ البتّة . ويستنتج من هنا أمران أحدهما: أنّ الإمام يجب أنْ يكون معصوماً عن الضلال والمعصية، وإلا كان غير مهتدياً بنفسه... كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾(8)، فأفعال الإمام خيرات يهتدي إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي، وتسديد ربّاني والدليل عليه قوله تعالى: (فعل الخيرات) بناء على أنّ المصدر المضاف يدلّ على الوقوع، ففرق بين مثل قولنا: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدلّ على التّحقّق والوقوع، بخلاف قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ فهو يدلّ على أنّ ما فعلوه من الخيرات إنّما هو بوحي باطني وتأييد سماوي.

 الثاني: عكس الأمر الأوّل وهو أنّ من ليس بمعصوم فلا يكون إماماً هادياً إلى الحق البتّة . وبهذا البيان يظهر: أنّ المراد بالظالمين في قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ مطلق من صدر عنه ظلم ما، من شرك أو معصية، وإنْ كان منه في برهة من عمره، ثمّ تاب وصلح »(9) .

 لقد قطعت عاشوراء كلّ الوشائج والصّلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل الصّالح، فلا رحم ولا قربى في عاشوراء إذا انبتّت هذا الرحم أو تلك القربى عن العقيدة والعمل الصالح .

 ثُمّ عرضت عاشوراء هذا الشعار ـ شعار العقيدة والعمل الصالح ـ واقعاً وسلوكاً وأعطت مصداقاً له لم يتحقّق إلا في الأسرة الحقيقيّة ـ أسرة الإيمان أسرة التوحيد ـ فقد ضمّت أسرة عاشوراء مجموعة من المؤمنين اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم، مؤكّدة في ذلك أنّها مرآة القرآن العظيم الذي يرى أنّ الأسرة ليست آباء وأبناء وبنات وأحفاد وأنّ الأمّة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس أو عرق واحد، وإنّما هي هؤلاء ـ جون وعابس وحبيب، وروميّ ونصرانيّ، وصفوة من آل محمد (ص) ـ حين تجمعهم عقيدة واحدة هي عقيدة التوحيد منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه . فسلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، وسلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله، وسلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، وسلام عليك يا وارث موسى كليم الله، وسلام عليك يا وارث عيسى روح الله، وسلام عليك يا وارث محمد (ص) حبيب الله، وسلام عليك يا وارث عليّ أمير المؤمنين (ع).

 وهذه الإمامة الموهوبة لإبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام إذا كانت: « بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه إلا أنواع البلاء التي ابتلي (ع) بها في حياته، وقد نصّ القرآن على أنّ من أوضحها بلاء قضيّة ذبح إسماعيل، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) إلى أنْ قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ﴾(10) . والقضيّة إنّما وقعت في كبر إبراهيم... »(11).

فسلام عليك أبا الشهداء إذا كان أبوك إبراهيم (ع) قد ابتلي بذبح واحد من أولاده فنال هذه الإمامة العظيمة فأنت قد ابتليت بذبح ابنائك وإخوتك وأطفالك من الذّرّيّة الطّاهرة لسيد الأنبياء والمرسلين (ص) وأصحابك المنتجبين. وقد أدّيت ما عليك وما أراده منك ربّك عزّ وجلّ وكان أغلى العطاء وأعظمه أنْ جدّت بنفسك قرباناً لوجه ربّك الأعلى فكانت إمامتك على قدر عطائك امتداداً لنبوّة جدك المصطفى (ص).  وعاشوراء كانت تأكيداً لولاية الله تعالى ورسوله (ص) والمعصومين من أهل بيته، وإلقاء للحجّة، وإنقاذاً للأمّة من الوقوع في الفساد الذي حذّر منه القرآن العظيم ؛ لأنّ ولاية غير الله تعالى ليس من الله في شيء . لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة ولا رابطة ولا ولاية.

وقد أبان أبو الشهداء هذا المعنى القرآنيّ يوم عاشوراء قائلاً: «أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ، وحتى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإنْ قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لي عليكم سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم . ﴿فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ﴾(12)، ﴿إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾(13)... » .

 ثُمّ قال: «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الرّبّ ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرّسول محمّد (ص)، ثُمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم، وقد استحوذ عليكم الشّيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين » .

وهذا المعنى هو عين ما أراده الله تعالى وحذّر منه في قوله عزّ من قائل: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ﴾(14).

فالقرآن الكريم يأمر ويريد أنْ يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة والعقيدة وحدها ليس غير . والذي « يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنّه خروج عن زيّ العبوديّة، ورفض لولاية الله سبحانه، ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين، وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الذي هو أشدّ وأضرّ بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإنّ العدوّ الظاهر عداوته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء والحذر، وأمّا الصّديق الحميم إذا استأنس مع الأعداء ودبّ فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلا أنْ يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون، وهو الهلاك الذي لا رجاء للحياة والبقاء معه . وبالجملة هو طغيان، وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾(15)، فالطغيان يسلك بأهله مسلكاً يورده المرصاد الذي ليس فيه إلا الله جلّت عظمته فيصبّ عليه سوط عذاب ولا مانع »(16).

وهذا المعنى هو الذي جعل أباالشهداء حريصاً على أن لاتقع فيه أمّة جده (ص) من ركون إلى الظالمين ؛ لأنّ: « الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مسّ النار استتباعاً لا ناصر معه، وهو الانتقام الإلهي لا عاصم منه ولا دافع له...»(17).

 يقول أبو الشهداء في منزل البيضة وقد خطب في أصحاب الحرّ: «أيّها الناس إنّ رسول الله (ص) وسلّم قال: (من رأى سلطاناً جائراً، ناكثاً عهده مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله » .

* هوامش البحث *

(1) جامع الاصول من احاديث الرسول، ابو السعادات، مبارك بن محمد بن الاثير الجزري (ت: 606 هـ )، اشراف وتصحيح: عبد المجيد سليم، ومحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م، ج 1 ص 187 .

(2) المصدر نفسه: 1 / 187 .

(3) الانفال: 42 .

(4) البقرة: 124 .

(5) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم احمد بن عبد الله الأصفهاني (ت: 430 هـ )، ط 1، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1409 هـ ـ 1988 م، ج 2، ص 39

(6) يونس: 35 .

(7) الأنبياء: 3 .

(8) الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1427 هـ ـ 2006 م، ج 1 / ص 229 .

(9) الصّافات: 106 .

(10) الصّافات: 106 .

(11) الميزان: 1 / 224 .

(12) يونس :71 .

(13) الأعراف: 196 .

(14) آل عمران: 28 .

(15) الفجر: 6 ـ 14 .

(16) الميزان: 3 / 135 .

(17) م . ن: 3 / 136 .

* المصادر والمراجع *

خير ما نبدأ به كتاب الله العظيم (القرآن الكريم) .

ـ جامع الاصول من احاديث الرسول، ابو السعادات، مبارك بن محمد بن الاثير الجزري (ت: 606 هـ )، اشراف وتصحيح: عبد المجيد سليم، ومحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م .

ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم احمد بن عبد الله الأصفهاني (ت: 430 هـ )، ط 1، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1409 هـ ـ 1988 م .

ـ الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1427 هـ ـ 2006 م .