البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

السيدة زهراء (عليها السلام) قراءة في ضوء المناهج المعاصرة

الباحث :  د.الشيخ حسن كريم ماجد الربيعي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  15
السنة :  شهر جمادى الثانية 1439هـ / 2018م
تاريخ إضافة البحث :  April / 12 / 2018
عدد زيارات البحث :  1175
تحميل  ( 304.194 KB )
المقدمة

 ان دراسة الشخصية دراسة تفصيلية من جوانب عدّة تكشف عن جملة من الكوامن غير الظاهرة في السرد الذاتي المتعارف عليه وذلك لأثارة حالة التأثر في النزعات الانسانية والانثربولوجية الثقافية والاجتماعية، ان النظر والتأمل في سيرة الزهراء (ع) نظرة إرجاعيه استهلاكية لا تكاد تنفع الناظر والمنظر ولا السامع والملتقي، وتبدو مملة غير ذات نفع جديد إلا السماع مرة بعد أخرى بلا تفاعل، في حين ان الابتكار والتأصيل يستوجب استنطاق المرويات السردية للخروج برؤية معاصرة متجددة تواكب الثقافة الجديدة والاليات المعرفية المتطورة، لذلك فكرنا بمنهج المعاصرة وادواتها المعرفية في دراسة تراث الزهراء (ع) وقد رجحنا في دراستنا هذه منهجين هما المنهج الانساني ونزعته بالمفهوم الإسلامي لا الغربي آثار هذه الشخصية وحركتها الفعلية في فضاءات وجودها، ثم النزعة الانثربولوجية في الثقافة والاجتماع ونتاجات نصية مدونة في الفكر الإسلامي، ما تريده هذه الدراسة هي فتح آفاق البحث العلمي الرصين حول الشخصيات المؤثرة في التراث الإسلامي لقراءة ذلك بمنهج فكري ومعرفي ذي تأثير واقعي تتبناه المؤسسة الفكرية والعلمية التربوية، ان النظرة الكلية غير المجزئة تعطي رؤية ابعد مما نتصور في تفكيك الحدث التاريخي ونقله كأحداث وقعت لا ينفع في الربط والاتصال مع ذلك الحدث ولا فعالية مؤثرة في ديمومته، والذي اريد قوله ان ندرس تراث الزهراء كظاهرة قد تقع في الازمنة والامكنة اللاحقة ولمعالجة الاهداف والاغراض والمقاصد من التصدي الحضاري كمفاهيم ليست هي وليدة عصرها وتنتهي بل هي أصول معرفية في حوزة الفكر الإسلامي النابع من منابع القيم التأسيسية الأولى بل طالما حرص الرسول (ص) ايصال تلك المفاهيم وتحديدها إلى سمع الزهراء (ع) مع معاناتها بعده، ان بيان العلاقة الرفيعة مع الرسالة وصاحبها لهي العلاقة بين الفكر ومصدره الوحياني .

قسمنا البحث إلى مبحثين الأول: تناول المنهج الانساني في ابعاده المختلفة على وفق المقاربة الاسلامية، والثاني: تناول المنهج الانثروبولوجي الثقافي والاجتماعي في النزعة التعليمية والارشادية لقيمة المنجز الحضاري والخوف من مصادرة تلك الجهود التأسيسية لصاحب الرسالة وصحابته فينتج الفرقة والاختلاف عن المسار المرسوم وتفاديا لظاهرة الانقلاب برفض الطاعة والانقياد لخط الرسالة المعصومية، هذا ما جاد به القلم من عونه ورحمته وسداده سبحانه وتعالى هو العلي العظيم والحمد لله رب العالمين.

المبحث الأول

الزهراء (ع) في ضوء المنهج الانساني

حاولت الحداثة بمفاهيمها ابعاد مفهوم الانسانية عن التعاليم الالهية واعطت تلك السمة للعقلانية وحدها وفيما يبدو ان طغيان الفعل المعاكس لتعاليم الكنيسة قد سبب القطيعة التراثية معها لامع التراث اليوناني والروماني، وقد انطلت على بعض المفكرين من دعاة المقاطعة مع التراث كعبد الله العروي والطيب تزيني وسلامة موسى ومحمد اركون وغيرهم الذين قرروا بان كل فكر يقدس التراث يقود إلى اخفاق في فهم الحداثة(1)، ويبدو ان التراث يقصد منه الديني، ثم ذكر العودات بان الحداثة الاوروبية لها معاييرها ومفاهيمها ومكوناتها وتطبيقها وعلى رأسها القطيعة مع التراث بمعنى تحييده جانبا ونزع صفة القدسية منه(2)، وهذا الكلام غير دقيق وبعيد عن الفهم العميق لمرامي السياسة الغربية في ابعاد آثار التصرف الكنسي آنذاك في نصب الاباطرة والملوك والتدخل الكبير في ذلك مع تنامي طبقة البرجوازية الصاعدة التي تقف الكنيسة حجر عثرة أمام هذا الصعود فظهرت مثل تلك المدارس والتيارات الفكرية التي انصبت على التراث الروحي لتفرغه من تفكير الإنسان الحداثي، فكانت القطيعة ومحاولة تصدير ذلك للشعوب المستعمرة مع أنها لم تقطع صلتها بالتراث اليوناني والروماني إذ بعثت الفكر القديم قبل المسيحية بقوة.

امتلكت الانسانوية اهميتها القصوى منذ القرن السادس عشر ومع تتبع المفهوم وتطوره لا يقل صعوبة عن تعريفه إلا انه يمكن القول ان المفردة تحيل من الناحية التاريخية والثقافية إلى النهضة الاوربية التي بدأت في ايطاليا وانتشرت فيما بعد إلى بقية مناطق القارة كإنجلترا، وكانت في بدايتها تركز على الآداب والفنون لكنها امتدت إلى حقول الدين والتربية والتعليم فكانت سببا رئيسا في حركة الإصلاح إذ كانت هذه الاهتمامات محرمة على المسيحيين منذ اعتناق قسطنطين للنصرانية، وهو مما اخاف الكنيسة من هذا المفهوم إذ ان هذه الحركة كشفت عن ميول طبقية ارستقراطية غالت في تأليه العقل لدرجة استبعدت معها ما سواه وفي تأليه الفردانية لدرجة استبعادها روح الجماعة وافرزت حقدا مغاليا على الموروث المسيحي بأكمله(3).

وهذا المفهوم هو ليس من اكتشاف الفكر الغربي كما يدعون إذ هم يرجعوه إلى الفكر اليوناني فهو أمر قد عرفه الناس وآمنوا به منذ آلاف السنين ويكشف ذلك علم التاريخ(4)، فإذا كان قد عرفه الناس وآمنوا به إذاً الحضارة الإسلامية قد آمنت به باعتباره أمراً عقلياً مجمعاً عليه، بل ركزته في مصادر معرفتها الرئيسة، القرآن والسنة، قال تعالى في اعلاء شأن الإنسان جملة من الآيات بل منحه ما في الكون بالتخويل والتسخير والتصريف اكراما لهذا الكائن الانساني لما يمتلك من قوى كامنة عقلية وروحية تتفجر بأعمال الوسائل العقلية، فد ورد لفظ الإنسان "59" مرة في القرآن الكريم بمفهوم هذا الكائن المعرفي الاخلاقي الذي يريد به خالقه الايمان والعمل الصالح والسير على الحق والدفاع عنه والصبر فإنها صفة هذا الكائن إن اراد المعرفة والأخلاق فعليه بالصبر لنيلها(5)، وقد علمه مالم يعلم(6)، وخلقه في احسن تقويم(7)، ثم أكرمه(8) وجعله سميعا بصيرا(9)، وبصره بنفسه(10)، وعلمه البيان(11)، وكان التكريم لهذا الكائن الانساني على أشده في نصوص القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (12)، وبهذا النص الموجود في المدونة الوحيدة في العالم والتي وصلت الينا كاملة بالتدوين لحظة انطلاق النص تعطي لهذا الكائن الانساني الكرامة واعلاء الشأن، ومن اوصل لنا هذا الكلام هو ابو الزهراء الرسول الاكرم (ص) فهو الواسطة بين المتكلم والمخاطب وبكل امانة وإخلاص يصف الإنسان بهذا الشكل المتميز ويشهد بذلك كل متتبع للتاريخ الإسلامي بالصبغـة الانسانيــة أو العمــق الانساني(13).

 ولابد من معرفة هذا الإنسان المطلق في النص القرآني بما يصدر منه أو يحصل له من يقيمه تقييماً حقيقيا أو ظاهريا، فالأول من المطلع اطلاعه حقيقة والثاني من الظاهر المعاملاتي الاخلاقي والاجتماعي يمكن ان يقوم هذا الكائن، وقد قومت فاطمة الزهراء من خالقها ورسوله فقد جاءت نصوص تؤيد الذات الفاطمية باجلى مراحل الانسانية وصورها، ذكر عبد الله السبيتي في كتابه (المباهلة) بقوله: (كانت فاطمة بنت محمد 8. . قد تجمع في نسويتها نواميس روحية وكمالات نفسية رفعتها في الانسانية إلى أسمى الدرجات. . )(14) وربما يرجع الباحث إلى آية المباهلة ليرى المعاني والمفردات التي تحتاج إلى وقفات وتأملات طويلة لمعرفة البعد الانساني لشخصية الزهراء وهي تقف مع اهل البيت- مصطلح قرآني – في الحوار الحضاري الخاضع للحجة والدليل والبرهان حتى لايكون الكلام ادعاء أو مغامرة فالرؤية الانسانية المتمثلة بتصرف شخص الرسول (ص) مع ان الغلبة معه والقوة والحكم بيده، لذا كانت الزهراء مع الجانب القيمي للإنسان سواء في آية المباهلة أو آية التطهير أو آية هل أتى وغيرهما.

 كانت الزهراء تتحرك في فضاء الاسرة بالروح الانسانية المساهمة في هذا البناء والعمل بيديها، ولما دمعت عينا الرسول (ص) وتكلم معها اجابته بكل ثقة: (يا رسول الله الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه)(15)، وهذا النص يؤيد الروح الانسانية بالرضا والصبر والعمل وهي صفات المؤمنين بدرجة عالية جدا في فهم هذا الوجود ومآله.

ويبدو ان التصرف السلوكي القولي والفعلي هو علامة وسمة من السمات المعبرة عن الشخصية الانسانية فلو تأملنا بخطبة الزهراء التي نقلها الثقات في مصنفاتهم التاريخية فقد عبرت عن النزعة الانسانية عندها بأجمل ما يكون لرد الحق إلى أهله بالحجة والدليل المقنعين لمن يريد ان يقتنع ويغلب العامل الانساني والحقوق فهي تربية ابيها فقد قدمت قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(16)، لقد طالبت بحقها من الارث والنحلة وامر الخلافة لأمير المؤمنين (ع)، ان تغليب العامل الانساني العاطفي يهيئ المسامع لتلقي الخطاب بشكل افضل لذلك قالت (ع): (فاسمعوا بأسماع واعية وقلوب راعية)(17)، ولما لم يُلبَّ طلبها غضبت على مثل هذه التصرفات وماتت وهي غضبى(18) تتألم من الوضع الاجتماعي بعد وفاة رسول الله (ص) إذ الخذلان والتخلي عن امير المؤمنين (ع) في ازمة السقيفة وقد صرحت في كلامها لنساء المهاجرين والانصار بقولها: (ما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا والله نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله) وفي موضع آخر اشارت إلى نتائج اختيار الإمام: ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾(19)، هذه النصوص الخطابية ذات الاشارات الواضحة هي بيان حقيقة الأمر آنذاك وما آلت اليه الأمور والاحداث بعد السقيفة وفدك فقد حذرت الزهراء من تردي الاحوال وزيادة الفتن على أمة الإسلام فقالت :(ويعرف التالون غب ما أسّس الاولون. . وابشروا بسيف صارم، وخرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيكم زهيدا وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم. .. )(20).

 يستشف الباحث جملة امور من خطابها الانساني الذي يؤكد على قضية جدا خطيرة في وضع الأمة في المستقبل الذي يتحول تدريجيا إلى غير أهله إذا فقد أهله اول مرة وهو ما آلت اليه الأمور إلى من هم استسلموا يوم فتح مكة سنة 8 هـ وكان جلهم من المنافقين إذ دفع اليهم رسول الله (ص) سهم المؤلفة قلوبهم لرد كيدهم للإسلام فكيف بهم إذا وصلوا الحكم على الأمة، وهو ما حذرت منه بقولها متحسرة: (وابشروا بسيف صارم وخرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيكم زهيدا وجمعكم حصيدا فيا حسرة عليكم).

 ولا يشك احد في ان الزهراء (ع) كانت تنطلق من منطلقات انسانية وهمها الفكر الانساني الإسلامي واثر ذلك عليه من الاتجاهات السياسية التي قد تصل بالفكر الإسلامي للأمة بثقافة السطحيات الشكلية وذوبان المحتوى والمضمون القرآنيين، وفعلا قد تكونت ثقافة جديدة بعد وصول الملك العضوض إلى السلطة فنشأت عند الأمة ثقافة الخوف والركون في أغلب الحقب التاريخية التي مر بها التاريخ الإسلامي ومجد هذا التاريخ السلطة في تدوينه وضاعت كثير من الحقوق وتراكم السخط من قبل الجماعات المسلمة مما كان يؤدي إلى كثرة الثورات ضد هذا التأسيس ولكنها لم تكن عدوانية وإنما كانت غالبا ذات أهداف اجتماعية وانسانية(21) .

 ذكر بعض الباحثين المعاصرين انتقال السلطة من الاخوانيات من المؤمنين إلى ايدي قريش التي حاربتهم في فكرة الدولة(22) وهذه الانتقالة قد حذرت منها الزهراء (ع) في خطبتها فان الدولة الاموية قد استولت على مقاليد الأمور السياسية بيد من حديد، شاع فيه الظلم والقسوة وانعدام الانسانية .

المبحث الثاني

الزهراء (ع) في ضوء المنهج الانثروبولوجي

نشطت الدراسات الانثربولوجية بشكل كبير في العصر الحديث وتطورت كثيرا في عصرنا واتخذت جوانب عدّة واتجاهات وأقسام منها الانثربولوجيا الثقافية والاجتماعية في دراسات فكرية انسانية وميدانية وحتى استعمارية لغرض السيطرة على شعوب بدائية في تطورها الحضاري، فقد درست شعوب العالم الثالث دراسات انثربولوجية اجتماعية لمعرفة العادات والتقاليد والسلوكيات لغرض التمييز بين الشعوب والمدن والثقافات ليسهل التعامل معهم عند الاحتكاك بهم، في حين ظلت الدراسات فقيرة في عالمنا ومحيطنا بشكل ملفت للنظر.

 إن كلمة Anthropology عرفها كنت kant بانها مذهب في معرفة الإنسان وقد ايد هيدجر كنت في نظرته بانها النظر في احوال الإنسان البدنية والبيولوجية والنفسية وهي اليوم تسعى إلى تحديد ماهية الحقيقة بوجه عام(23).

 إذا كانت الانثربولوجيا هي النظر في احوال الإنسان وتصرفاته وسلوكياته فالأولى في الدراسات الفكرية الإسلامية دراسة الإنسان المتكامل إذ نحن نحتاج ديمومة النماذج وانتاجها في كل جيل للمحافظة على السمات الانسانية في الاجيال اللاحقة، وهو بناء فلسفي للحياة تتبناها المؤسسات التعليمية في الدرجة الأولى لصياغة نظرية تعليمية على وفق نظرية الاسوة في القرآن الكريم أو نظرية النمذجة التي تقاربها في طرائق التدريس المعاصرة.

 ولابد من التخلص من الخطاب الانثربولوجي الغربي المتهاون مع الاستعمار في دراسته للإسلام لذلك عد الوريث الاساسي للاستشراق(24)، يرى بعض الباحثين التأكيد على البعد التاريخي في المجتمعات الإسلامية كدراسة الإسلام في صورته المثالية(25)، فقد عد عصر النبوة هو النموذج الذي يجب ان يحتذى(26) ولدراسة هذه الظاهرة أو التجربة لابد من دراسات للشخصيات التي صنعت الاحداث وأثرها في صناعة الاجيال وذلك لأصالتها وسيرتها وسلوكها ومنها السيدة الزهراء (ع) العنصر القريب والاقرب من نهج الرسالة وحضارتها بل ان كنيتها (أم ابيها) تدلّ على ذلك وهي كنية يفهمها العربي المنزلة السامية والرفيعة بمدى القرب من الاب ولها القاب أخرى ذات مضامين رفيعة جدا(27)، وقد أعطاها الله عز وجل كرامة العصمة والطهارة لمؤهلاتها الشخصية المتميزة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(28)، ولا خلاف في انّ الزهراء من أهل البيت ذاك المصطلح الخاص الشرعي وقد فسرته السنة الشريفة فلا حاجة للرجوع إلى اللغة أو العرف مثلاً.

ان لدراسة العلاقة الصميمية مع الرسول (ص) يكشف عن التفاعل الروحي مع البناء الحضاري لمجتمع الجزيرة في عصر التأسيس والبناء أي المشاركة الفعلية في الالام والآمال لتكوين امة الإسلام حاولت الدراسات الاستشراقية التقليل من شأن الزهراء كدراسة لا منس(29)، فله كتاب (فاطمة وبنات محمد) نشر في روما 1912 م باللغة الفرنسية، وهناك دراسة أخرى بعنوان (فاطمة بنت الرسول) كتبها لويس ماسنيون باللغة الفرنسية(30).

 ان اغلب الدراسات الاستشراقية تحتاج إلى اعادة قراءة وتقويم من ناحية الاحالات إلى المصادر فان الاعتماد على الروايات الصحيحة يفند جملة من اقوالهم المبنية على الروايات الضعيفة أو القدح بالشخصيات الإسلامية لهدف وغرض واضحين ولكن يتضح ذلك من معرفة احالاتهم وكشفها ثم نقدها نقدا موضوعيا لاكتشاف الحقيقة التاريخية واغراض واهداف الدراسات الغربية .

 اشارت الروايات التاريخية إلى العلاقة بين الزهراء والرسول (ص) وهي اسمى من ان تكون علاقة نسبية فالباحث المنصف يرى أنها اكبر من ذلك الاهتمام لوجود عناصر الامتداد الرسالي والمشاركة في بناء حضارة الإسلام واكتشاف البعد المستقبلي لهذه الحضارة، وكذلك يقرأ التاريخ كعلم نتجاوز به الماضي واحداثه للحاضر والمستقبل، وتشير دراسات معاصرة الآن إلى دراسات تاريخية ينظر فيها البعد التطوري لعلوم متداخلة مع التاريخ ذات علاقة به فالمعرفة التاريخية قد تداخلت فعلا مع مناهج العلوم الاجتماعية والانسانية من رصد منهج التطور وهو حقل للتواصل بين هذه العلوم(31)، ان تصرف الزهراء (ع) بعد وفاة الرسول (ص) يستكشف منه حرصها على الديمومة الحضارية لفكر الإسلام وخوفها من التحول الخطير فكانت خطبتها التي عبرت بها عن هذا التخوف وقد حصل، فقد اشارت إلى اهمية المنجز التحولي الذي قام به الرسول (ص) لأنه انار الظلماء آنذاك واقام الهداية وانقذ من الغواية وبصر من العماية(32)، قالت الزهراء (ع) حول هذا المنجز الحضاري الكبير الذي حول حياة المسلمين بانتقالة ثقافية إلى فكرة الدولة والنظام والتنظيم (الفكرة القانونية) بعدما كانوا ابعد منها واقرب إلى الفوضى في ابسط الأمور الحياتية: (فأنار الله بمحمد (ص) ظلمها، وفرج عن القلوب بهمها، وجلى عن الابصار عممها، وعن الانفس غممها )(33)، هذا المنجز الحضاري الذي انار الظلمات في قلب الجزيرة العربية وحول التخلف إلى حضارة كان من صنع النبي وسيرته وسلوكه فيكم فلا يضيع ولا يصادر وهي اشارة إلى التمسك بنور الرسالة الإسلامية والمنجز الحضاري بأسسه واصوله وقواعده.

 كان هذا النص الصادر من الزهراء (ع) يشير اشارة واضحة إلى الانارة بالشريعة التي بها يكمل الإنسان ويتكامل بها، يقول الوحيد الخراساني: (ان الشريعة التي يكمل بها الإنسان وتصان بها العقول والنفوس والاعراض والاموال وتضمن بها الحقوق وتحفظ بها المصلحة العامة وتدعو إلى الايمان والعدل والتنزيه والتزكية والعز والعفة، وتسوق المجتمع إلى احسن نظام بإمامة الافضل في العلم والأخلاق والاعمال انما هي شريعة الإسلام)(34) .

 ورد النص الفاطمي بتفاوت في بعض الكلمات بين المؤرخين ويمكن عقد مقارنة بين هذه النصوص، فقد ذكره الجوهري (ت 323هـ) بعبارة: (فأنار الله بأبي(ص) ظلمها. .)(35)، وذكره ابن طيفور (ت 380هـ) بعبارة: (فأنار الله عز وجل بمحمد (ص) ظلمها وفرج عن القلوب. .. )(36)، وذكره الطبرسي (ت 548 هـ) بعبارة: (كشف عن القلوب. . )(37)، ويمكن الجمع بين هذه الخطب في دراسة الالفاظ وموضع الاختلاف فيها في دراسة مستقلة، لأن كلامنا هو عن الفعل الانثربولوجي الاجتماعي والثقافي في هذه الخطبة وجملة حياتها الشريفة، إذ ان النقطة الاساسية في حياتها الفعل والافعال الصادرة بعد فقدان النبي (ص) وقد اشارت إلى خطورة المرحلة التاريخية اللاحقة بتأسيس ثقافة الإسلام الشكلي المنزوع والخاوي جوهريا، لذا قالت: (طاعتنـا نظاما للملـة وإمامتـنا لـمَّاً للفرقــة)(38).

 ومفهوم هذا الكلام الفوضى والاضطراب والفرقة والاختلاف في الصد عنهم وهو ما وقع في التاريخ الإسلامي اليوم فعنوان التوحد والاعتصام هو الطاعة والود والمودة مع الامامة لا مع المخالفة لهم وهو مشروع التوحد الإسلامي في ضوء التمسك بهذا المنهج الإسلامي وهو النظام في الطاعة والوحدة في الامامة ولكن الذي حصل ان الأمة افترقت، قال الإمام علي (ع): (إلا ان هذه الأمة لا بد متفرقة كما افترقت الامم قبلهم فنعوذ بالله من شر ما هو كائن)(39)، انما افترقت لعلة وسبب هو ظاهرة الانقلاب التي اشار اليها النص القرآني وقول الزهراء (ع) وخطبتها لأوائل المسلمين وقد بينت خطورة المرحلة آنذاك باعتبارها مرحلة تأسيس لما بعد النبوة ونص امير المؤمنين (ع) لما حدث في الواقع مع ان الاشارة القرآنية محذرة من الانقسام والفرقة وظاهرة الانقلاب لعدم الطاعة وترك النظام، وقد بين الرسول بنصه النازل والشارح آثار الانقسام وأوصى بل أمر في التمسك بالطريق من بعده وبينه حفظا للامة من الاختلاف ولكنهم مع هذا اختلفوا وتصارعوا بالأقوال والافعال وتأسست ثقافة الشكلية الطقوسية، لذا قال امير المؤمنين (ع): (إذا انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الامرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل..)(40) وقال الإمام الحسين (ع): (ونحن اهل البيت اولى بولاية هذا الأمر عليكم.. )(41).

 ان دراسة هذه الظواهر التاريخية المعبرة عن منهج في رسم الإسلام النظري والعلمي على وفق الانثربولوجيا الثقافية والحضارية والاجتماعية بما يلائم الاسس والخطوط القرآنية ينتج بالفعل الواقع الحقيقي للمجتمع الإسلامي الموحد وخاصة ونحن نحاول رسم الصورة التأسيسية الأولى من قلب النبوة فاطمة الزهراء (ع) من خلال احوالها واقوالها وافعالها وسلوكها واهدافها وغاياتها من دون التركيز على الجزئيات الحدثية بل غاية الزهراء (ع) تذكير وتحذير الأمة من أهوال الفرقة والانقسام عن الطاعة والقيادة لأئمة الهدى :، فقد اهتمت الزهراء في خطابها بالنزعة التعليمية التي تروم تقديم نموذج جدير بالاقتداء، وهذه الابعاد ممكن أخذها من السرد الذاتي للشخصية كما ذكر ذلك في معجم السرديات في دراسة الشخصيات دراسة ذاتية(42)، ولكن بتحليل واستنتاج .

الخلاصة

بعد هذه الجولة في المنهج الانساني والانثربولوجي كآليات معاصرة للكشف عن جملة امور عامة في احوال الزهراء (ع) توصلنا لما يأتي:

العامل الانساني هو المحرك للسيدة الزهراء (ع) في ارشاد الأمة لأصالة النظرية الإسلامية ووعي مرحلة ما بعد النبوة.

بينت الزهراء (ع) عمق المنجز الحضاري والثقافي الانثربولوجي محذرة من مصادرة الجهد النبوي وأئمته لصالح من كانوا يكيدون له.

والحمد لله رب العالمين..



* هوامش البحث *

(1) العودات، حسين، النهضة والحداثة بين الارتباك والاخفاق (بيروت: دار الساقي، 2001م) ص 154، ص 158.

(2) المرجع نفسه، ص 155 .

(3) معجم مصطلحات الحداثة ونقدها ،اعداد: قسم التراث والمعاصرة، موسوعة غير منشورة، مركز الفكر الإسلامي المعاصر، ص 90.

(4) جو تشلك، لويس، كيف نفهم التاريخ، تر: عائدة سليمان عارف واحمد مصطفى ابو حاكمة (بيروت: دار الكتاب العربي، بلا) ص 43 .

(5) قال تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ سورة العصر/ 2 – 3 .

(6) قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ سورة العلق / 5 .

(7) قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ سورة التين / 4 .

(8) قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ سورة الفجر/15.

(9) قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ سورة الإنسان/2.

(10) قال تعالى: ﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ سورة القيامة / 14.

(11) قال تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ سورة الرحمن / 3 – 4.

(12) سورة الاسراء / 70 .

(13) زكار، سهيل، ندوة نشرتها مجلة المنهاج في حقل منتدى المنهاج حول التاريخ، العدد 2/ السنة الأولى 1417هـ / 1996 م، يصدرها مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ص 304 .

(14) السبيتي، عبد الله، المباهلة (طهران: مكتبة النجاح، 1366 هـ) ص 75.

(15) الاسكافي، محمد بن همام، كتاب التمحيص، تحقق: مدرسة الإمام المهدي (قم: مدرسة الإمام المهدي، بلا) ص 6.

(16) سورة التوبة / 128.

(17) الجوهري، ابو بكر احمد بن عبد العزيز برواية عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي، السقيفة وفدك، تحقق: محمد هادي الاميني (بيروت: شركة الكتبي للطباعة والنشر، 1413 هـ) ص 101.

(18) المصدر نفسه، ص 118 .

(19) الجوهري، السقيفة وفدك، ص 120.

(20) المصدر نفسه، ص 121.

(21) شمس الدين، محمد مهدي، محاضرات في التاريخ الإسلامي(السيرة النبوية) تحقق: حسن كريم الربيعي، غي منشورة، ص 8 .

(22) اريك وولف، التنظيم الاجتماعي في مكة وأصول الإسلام، اعداد: ابو بكر احمد باقادر (بيروت: دار الهاوي، 1426 هـ) ص 227.

 (23) للمزيد ينظر: معجم مصطلحات الحداثة ونقدها، اعداد مركز الفكر الإسلامي المعاصر، قسم التراث والمعاصرة، غير منشورة، ص 258.

(24) باقادر، ابو بكر، الإسلام والانثروبولوجيا (بيروت: دار الهادي، ص 1425 هـ) ص127.

(25) المرجع نفسه، ص 130، دراسة عند اكبر احمد في ستة نماذج مثالية للمجتمع الإسلامي .

(26) المرجع نفسه، نفس الصفحة.

(27) الحكيم، حسن عيسى، فاطمة الزهراء شهاب النبوة الثاقب (قم: شريعة، 1430 هـ) ص 33.

(28) الاحزاب / 33.

(29) الحكيم، الزهراء، ص 28 .

(30) المرجع نفسه، ص 42.

(31) وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ اتجاهات مدارس مناهج، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012 م) ص 386.

(32) الحكيم، الزهراء، ص 242.

(33) ابن رستم، ابو جعفر محمد بن جرير الطبري الصغير، دلائل الامامة، تحقق: قسم الدراسات الإسلامية (قم: بعثة، 1413 هـ) ص 112 .

(34) الخراساني، وحيد، منهاج الصالحين، تعليقة الوحيد الخراساني على منهاج الصالحين للسيد الخوئي، ص 297.

(35) الجوهري، السقيفة وفدك، ص 141.

(36) ابن طيفور، ابو الفضل بن أبي طاهر، كتاب بلاغات النساء (قم: مكتبة بصيرتي، بلا) ص15.

(37) الطبرسي، ابو منصور احمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، تحقق: محمد باقر الخرسان، النجف الاشرف: مطبعة النعمان، 1386 هـ) ص 133 .

(38) الاربلي، ابو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الائمة (بيروت: دار الاضواء، بلا) ص 109 .

(39) صفوت، احمد زكي جمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة، مراجعة: محمد جاسم الحديثي (بغداد: بيت الحكمة، 1999م) ص168 .

(40) صفوت، جمهرة خطب العرب، ص 177.

(41) المرجع نفسه، ص 199.

(42) مجموعة باحثين، معجم السرديات، اشراف: محمد القاضي، (بيروت: الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، 2010 م) ص 258.

* المصادر والمراجع *

القران الكريم وهو القول الفصل.

الاربلي، ابو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح(ت693هـ) .

كشف الغمة في معرفة الائمة، (بيروت: دار الاضواء، بلا ).

اريك، وولف.

التنظيم الاجتماعي في مكة واصول الإسلام، اعداد: ابو بكر احمد باقادر، (بيروت: دار الهادي، 1426هـ ).

الاسكافي، محمد بن همام.

كتاب التمحيص، تحقق: مدرسة الإمام المهدي، (قم: مدرسة الإمام المهدي، بلا).

باقادر، ابو بكر .

الإسلام والانثروبولوجيا، (بيروت: دار الهادي، 1425 هـ).

جوتشلك، لويس.

كيف نفهم التاريخ، تر: عائدة سليمان عارف واحمد مصطفى ابو حاكمة (بيروت: دار الكتاب العربي، بلا ).

الجوهري، ابو بكر احمد بن عبد العزيز (ت 323 هـ).

السقيفة وفدك، تحقق: محمد هادي الاميني، (بيروت: شركة الكتبي للطباعة والنشر، 1413هـ) .

الحكيم، حسن عيسى.

فاطمة الزهراء شهاب النبوة الثاقب، (قم: شريعة، 1430 هـ).

الخراساني، الوحيد.

منهاج الصالحين، تعليقة على منهاج الصالحين للسيد الخوئي.

ابن رستم، ابو جعفر محمد بن جرير الطبري الصغير(ت 4 هـ).

دلائل الامامة، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية، (قم: بعثة، 1413 هـ ).

زكار، سهيل.

 10- ندوة نشرتها مجلة المنهاج في حقل منتدى المنهاج حول التاريخ، العدد 2/ السنة الأولى 1417 هـ / 1996 مم، يصدرها مركز الغدير للدراسات الإسلامية.

السبيتي، عبد الله .

 11- المباهلة (طهران: مكتبة النجاح، 1366 هـ).

شمس الدين، محمد مهدي.

 12- محاضرات في التاريخ الإسلامي(السيرة النبوية) تحقيق: حسن كريم الربيعي، غير منشور.

صفوت احمد زكي.

 13- جمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة) مراجعة: محمد جاسم الحديثي (بغداد: بيت الحكمة، 1999 م ).

الطبرسي، ابو منصور احمد بن علي بن أبي طالب (ت 548 هـ).

 14- الاحتجاج، تحقيق: محمد باقر الخرسان، (النجف الاشرف: مطبعة النعمان، 1386 هـ).

ابن طيفور، ابو الفضل بن أبي طاهر (ت 380 هـ).

 15- كتاب بلاغات النساء (قم: مكتبة بصيرتي، بلا ).

العودات، حسين.

 16- النهضة والحداثة بين الارتباك والاخفاق، (بيروت: دار الساقي، 2011 م ).

 17- معجم مصطلحات الحداثة ونقدها، اعداد: مركز الفكر الإسلامي المعاصر، قسم التراث والمعاصرة.

مجموعة باحثين.

 18- تاريخ التاريخ اتجاهات مدارس مناهج، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021 م) .