البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإمامة في التراث الحجاجي الاسلامي

الباحث :  أ.د.الشيخ محمد شقير
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  15
السنة :  شهر جمادى الثانية 1439هـ / 2018م
تاريخ إضافة البحث :  April / 12 / 2018
عدد زيارات البحث :  637
تحميل  ( 350.261 KB )
تعدّ قضيّة الإمامة إحدى أهمّ القضايا على الإطلاق، الّتي كانت مورداً للجدل والحجاج الكلامي بين مختلف الفرق في التّاريخ الإسلامي. وبغضّ النّظر عن الأسباب التي أدّت إلى تسعير هذا الحجاج على مدى قرون، فإن نتائج عدّة ترتّبت على ذلك الحجاج، منها إنتاج تراث حجاجي كبير، وتدوينه في موضوع الإمامة، ومختلف أبعادها ومسائلها.
من هنا، نجد من المجدي الإضاءة على جملة من أهمّ ذلك الحجاج، وتحديداً ذاك الذي عُني بأصل قضيّة الإمامة، وضرورتها، وفلسفتها على مستوى الاجتماع المعرفي الديني، وأيضاً الاجتماع السياسي، من حيث ضرورة وجود الإمام (الحجّة) في كلّ عصر، للقيام بجملة تلك الوظائف، التي ترتبط بالاجتماعين الدّيني والسياسي.
وتوضيح ذلك: إن الله تعالى قد أنزل الكتاب، وأرسل الرسل لبيان حقيقة الدّين، ولهدايتهم إلى المعاني الحقيقيّة للدّين ودلالاته. وبما أنّ الكتاب (القرآن الكريم) ليس لزمان الرّسول (ص) فقط، وإنّما هو لجميع الأزمنة بعده. وبما أنّ معاني القرآن الكريم لم تنفذ في زمن الرّسول (ص)، وإنّما هو (القرآن الكريم) دائماً يفيض بالمعاني، وهو لكلّ زمان. وبما أنّه في كلّ يوم هناك مستجدّات وقضايا جديدة نتيجة التّطوّر الاجتماعي، تحتاج إلى العودة إلى كتاب الله لمعرفة حكمه فيها؛ فالسّؤال الذي يطرح نفسه هو: من يبيّن تلك المعاني والمعارف بعد وفاة الرّسول (ص)، ومن هي تلك الجهة الدّينيّة التي على النّاس العودة إليها، للوصول إلى المعاني الحقيقيّة للدّين، وتجنّب المعاني الزّائفة، والتأويل الخاطئ للكتاب؟
وهذا المبيّن الذي على النّاس العودة إليه بعد وفاة النّبي (ص)، يجب أن يكون عالماً بحقائق الكتاب وحقيقة تأويله، وقادراً على الوصول إلى معانيه الحقيقيّة، وتمييزها عن المعاني الزّائفة، التي تُنسَب إلى الدّين وتُلقى عليه.
إنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كان الله تعالى يوفّر لنا في زمن الرّسول (ص) الوسيلة لتبيّن المعاني الحقيقيّة للكتاب، وتجنّب تأويله الخاطئ، وهي - أي تلك الوسيلة ـ الرّسول (ص) نفسه، الذي يبيّن للنّاس ما نزّل إليهم؛ فلماذا لا يفعل الله تعالى الأمر نفسه بعد وفاة الرّسول (ص)؟ مع أنّ جميع الأسباب التي تقتضي وجود المبيّن في زمن الرّسول (ص)، هي نفسها تقتضي وجود المبيّن بعد وفاته، إن لم نقل بوجود أسباب إضافيّة، تقتضي ذلك المبيّن بعد الوفاة. وهل يمكن القول إن الله تعالى يريدنا أن نصل إلى تلك المعاني الحقّة للدّين وتأويله الصحيح في زمن الرّسول (ص)، أمّا بعد وفاته، فإن الله تعالى لا يريد ذلك؟
وهل يمكن الادعاء بأن الله تعالى قد أنزل الكتاب، وأودع فيه جميع أسباب الهداية ومعانيها، لكنّه لم يوفّر للنّاس الوسيلة (المبيّن)، للوصول إلى تلك الأسباب ومعانيها، بطريقة لا خطأ فيها ولا شبهة، إلّا على مدى ما يقرب من عشرين عاماً. أمّا على مدى مئات السّنين بل وآلافها، فإنّه تركهم من دون تلك الوسيلة، التي توصلهم إلى تلك المعاني الصّحيحة؟
وهل يصحّ القول، إن الله تعالى قد جعل المبيّن لحقائق الكتاب وتأويله لجمع قليل من المسلمين (في زمن النّبي (ص))، لكنّه لم يفعل الأمر نفسه لمئات الملايين، بل لمليارات المسلمين، منذ وفاة النّبي (ص) إلى قيام السّاعة، وتركهم من دون هادٍ، يهديهم إلى حقائق الدّين، وصحيح التّأويل؟
إنّ من المنطقي جدّاً القول بأنّ الله تعالى عندما أنزل الكتاب، وأودع في بطونه جميع أسباب الهداية، وجعله تبياناً لكلّ شيء؛ أن يجعل لنا دائماً وأبداً، وفي كلّ عصر، من يبيّن حقيقة معانيه، وتأويله الحقّ، ويجنّب النّاس التّأويل الباطل، الذي يجافي حقيقته ومعانيه الحقّة.
أمّا القول بأنّ الرّسول (ص) قد بيّن كلّ شيء، وعليه لا حاجة إلى ذلك المبيّن بعد وفاة الرّسول (ص)؛ فهو قول ينطوي على أكثر من خلل.

أولاً: يترتّب على ذلك القول أنّ معاني القرآن الكريم قد استنفدت في زمن النّبي (ص)، وأنّه لا حاجة بعد وفاته إلى من يأوّله ويبيّن معانيه. وهذه النّتيجة غير صحيحة.
ثانياً: إنّ الواقع التّاريخي بعد وفاة النّبي (ص) إلى عصرنا، يُبطل هذا الرّأي، لأنه، نتيجة للمتغيّرات الاجتماعيّة، فإنّ آلاف المسائل المستجدّة بعد وفاة النّبي (ص) لم يبيّن حكمها فيما جاء عن النّبي (ص)، فضلاً عن القول: فيما صحّ عنه من حديث.
أمّا القول بأنّه توجد حاجة إلى المبيّن بعد وفاة النّبي (ص)، لكن هذا المبيّن هم عامّة العلماء، الذين يختلفون عن النبي (ص)، بأنّهم لا يملكون القدرة على الوصول إلى المعاني الحقّة للكتاب عن يقين، وإنّما آراؤهم قد تصيب وقد تخطئ؛ فهذا أيضاً يترتّب عليه كثير من النّتائج، عندما يُقَال بعدم وجود الوسيلة المعصومة لبيان الكتاب بعد النّبي (ص).

أولاً: إذا اختلف العلماء فيما بينهم - وما أكثر اختلافهم - فقول من نرجّح، نحن عامّة النّاس.
ثانياً: هل لدى عامّة النّاس القدرة على ترجيح قول عالم على آخر، في كثير كثير من المسائل، وأدقّها وجسيمها؟
ثالثاً: ألن تلعب عدد من العوامل السياسيّة والعصبيّات والأهواء... دورها في اتّباع رأي، والإعراض عن آخر؟
رابعاً: ألن يؤدّي هذا الأمر - ترك ذلك لعامّة العلماء على اختلافهم - إلى حصول الاختلاف والتّفرقة بين الناس، وتالياً النّزاعات والفتن والحروب بينهم، كما حصل في التّاريخ الإسلامي، إلى عصرنا هذا؟
خامساً: ألا يصحّ القول عندها، بأنّ الله تعالى قد أغرى أمّة محمّد (ص) - إذا سلّمنا بهذا القول - بالاختلاف والتّفرقة والتّنازع...، مع أنّه تعالى قد نهاهم عن ذلك في القرآن الكريم، وعلى لسان النّبي (ص)؟
سادساً: بناءً على هذا القول، يُطرح هذا السّؤال: لماذا يوفّر لنا الله تعالى هدايته كاملة زمن النّبي (ص)، ويحرمنا منها بعد وفاته؟ لماذا يجعل تلك الوسيلة إلى تلك الهداية الكاملة في حياة النّبي (ص)، ولا يجعلها بعد وفاته، مع أنّ الاجتماع الإسلامي بعدها، ليس أقلّ حاجة إلى تلك الوسيلة، إن لم نقل بأنّه أكثر حاجة؟ وما الذي اختلف بعد وفاة النبي، حتى تعدم الحاجة إلى وجود مبيّن، يبيّن حقائق الدين، وحقيقة الكتاب، والصحيح من تأويله؟
سابعاً: نطرح المضمون نفسه في النّقطة السّابقة، لكن من جهة كلاميّة، بأن نقول: بما أنّ الله تعالى قد أودع جميع أسباب الهداية في كتابه، والذي (أي ذلك الكتاب) يحتاج دائماً إلى من يبيّن تأويله الحقّ؛ فلماذا يفعل الله تعالى ذلك - جعل أسباب الهداية في كتابه - إن كان سينزل الكتاب، ويمتنع عن جعل الوسيلة التي تبيّن تأويله الحقّ، وتميّزه عن التّأويل الباطل، طيلة آلاف من السّنين، لمجمل المسلمين ومئات ملايينهم، بل لعامة الناس، إلّا لقلّة قليلة منهم في زمن النّبي (ص)، وفقط وفقط، لما يقرب من عشرين عاماً؟ ما الحكمة في ذلك؟ وهل يصحّ القول إنّ رحمة الله تعالى وحكمته، تقتضيان تلك الهداية، لقلّة قليلة من المسلمين، في برهة من الزّمن، ولا تقتضيانها لأكثر المسلمين، على مدى الزّمن ودوام الدّهر؟
ثامناً: بناءً على القول بأنّ سنّة النّبي (ص) هي فقط المبيّن للكتاب وتأويله؛ فإنّ السّؤال التّالي يطرح نفسه: عندما يحصل الوضع والدسّ والتّحريف... في سنّة النّبي (ص) نفسها، عندها ما العمل؟ وعندما تتعرّض سنّة النّبي (ص) إلى التّغييب لعقود متطاولة من الزّمن، وما ترتّب على ذلك من أضرار عميقة أصابتها بقوة، وعندما يحصل الاختلاف في سنّة النّبي (ص) نفسها، فكيف يمكن الوصول عندها إلى التّأويل الصّحيح للكتاب؟ ألم يحصل الكذب على رسول الله في حياته، وبعد وفاته؟ ألم تحرق أحاديث النّبي (ص)، ويمنع من تدوين سنّته بحجج مختلفة؟ ألم يمنع حفظة أحاديث النّبي (ص) من نشرها والتّحديث بها؟ وعليه هل يصحّ القول بأنّ سنّة النّبي (ص) هي المبيّن لجميع ما يحتاج إليه النّاس، في جميع مسائلهم وقضاياهم، دقيقها وجسيمها، في كلّ زمن وفي كلّ دهر؟ إنّ الواقع العلمي ينفي ذلك.
تاسعاً: عندما يحصل كلّ ذلك الاختلاف بين العلماء، فهذا قد يعني أنّ رأياً قد أصاب حقيقة الدّين وصحيح التّأويل، في حين أن بقيّة الآراء قد ضلّت طريقها عن تلك الحقيقة وذلك الصّحيح من التّأويل، في كلّ مسألة من مسائل الدّين. وهنا ألا يصحّ القول - بناء على هذه الدّعوى - إنّ الله تعالى قد ألجأ المسلمين إلى الانحراف عن حقائق الدّين وصحيح التّأويل، عندما أمرهم أن يعودوا إلى عامّة العلماء - الذين قد يخطئون ويضلّون في آرائهم - بعد وفاة النّبي (ص)، مع كثرة اختلافهم في جميع مسائل الدّين وقضاياه؟ فهل يمكن القول بأنّ الله تعالى قد تركهم بعد وفاة النّبي (ص) من دون تلك الوسيلة والمبيّن، مع علمه بأنّ أكثرهم سوف يخطئ حقيقة الدّين، ويضلّ عن تأويله الصّحيح، ويفارق معانيه الصّحيحة؟ ألا يشير حديث افتراق الأمّة (إلى ثلاث وسبعين فرقة) وغيره إلى هذا المعنى؟
عاشراً: إنّ الله تعالى قد أمرنا بسلوك الصّراط المستقيم، والالتزام بالمعاني الحقّة والصّحيحة للدّين وتأويله، وتجنّب ما سواها، في حياة النّبي (ص) وبعد وفاته. وهذا أمر لا نقاش فيه. والسّؤال هو: كيف يأمرنا الله تعالى بسلوك الصراط المستقيم، واتباع المعاني الحقّة للدين، وهو يعلم بأنّ عامّة النّاس، لا تستطيع أن تصل إلى تلك المعاني وصحيحها؟ وكيف يطلب الله تعالى أمراً من جميع النّاس، وهو يعلم بأنها لا تقوى عليه بعد وفاة النّبي (ص)؟ كيف يأمرهم بذلك، من دون أن يوفّر لهم الوسيلة، التي تمكنهم من الوصول إلى تلك المعاني وصحيح التّأويل؟

 إنّ هذا الأمر - أن الله تعالى قد تركهم من دون ذلك المبيّن وذلك الهادي - لا تصحّ نسبته إلى الله تعالى، الرّحيم، الحكيم في فعله وأمره.
إنّ ما نريد قوله في هذا المورد، هو الآتي:
 أنزل الله تعالى الكتاب للنّاس، ليكون كتاب هداية لهم في مختلف جوانب حياتهم.
هذا الكتاب يحتاج دائماً إلى المبيّن، الذي يبيّن حقيقة تأويله، ومعانيه الحقّة، ويحفظ الدّين، ويكون سبب عصمة من الاختلاف فيه، والضّلال عنه. ويحسن تطبيق معانيه وقيمه.
إنّ من يتولّى تلك المهام، ينبغي أن يكون معصوماً (لا خطأ في بيانه وتأويله، ولا في تطبيقه) على مستوى البيان والتّطبيق.
إنّ من يتحلّى بتلك المواصفات، والشّروط المعنويّة والعلميّة والعمليّة، هو شخص لا يتسنّى اختياره ومعرفته من النّاس، وإنّما يقع اختياره من الله تعالى([1]).
إنّ الله تعالى قد عرّف لنا هذا المبيّن ودلّنا عليه، وهو النّبي  (ص) نفسه في حياته. أمّا بعد النّبي  (ص)، فإن هذا المبين (ص) هو أهل بيت النّبي (ص) والأئمّة من ذريته. لكن ما ينبغي الإلفات إليه، هو أن الإمام الذي يتولّى دور ذلك البيان بعد النّبي (ص) ليس نبيّاً، ولكن بيانه في تأويل الكتاب وإظهار السنّة، هو في قوّة بيان النّبي  (ص)، من حيث مطلوبيّة الأخذ به، واتّباعه.
وعليه، سوف نعرض هنا لبعضٍ من ذلك الحجاج، الذي جرى في التّاريخ الإسلامي، والذي يرتبط بأصل الإمامة وضرورتها، بالمعنى الذي ذكرنا.
من أهمّ ذلك الحجاج ما جرى بين هشام بن الحكم، أحد تلامذة الإمام الصّادق (علیه السلام) وأصحابه، وبين عمرو بن عبيد، شيخ المعتزلة في عصره، والذي يبيّن فيه هشام بن الحكم ضرورة وجود إمام في كلّ عصر، ترجع إليه النّاس في شكّها وحيرتها، وعند اختلافها، لتتبيّن ما هو الصّحيح من دينها، وتأويل كتاب ربّها.
عن يونس بن يعقوب قال: "كان عند أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) جماعة من أصحابه، فيهم حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة من أصحابه، فيهم هشام بن الحكم، وهو شاب.
فقال أبوعبد الله (علیه السلام): يا هشام.
قال: لبيك يا ابن رسول الله.
قال: ألا تحدّثني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ وكيف سألته؟
قال هشام: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أجلّك وأستحييك، ولا يعمل لساني بين يديك.
فقال أبوعبد الله الصادق (علیه السلام): يا هشام إذا أمرتكم بشيء فافعلوه.
قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، وعظم ذلك عليّ، فخرجت إليه، ودخلت البصرة في يوم الجمعة، فأتيت مسجد البصرة، فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا أنا بعمرو بن عبيد، عليه شملة سوداء متزّر بها من صوف، وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فافرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت: أيّها العالم أنا رجل غريب، تأذن لي فأسألك عن مسألة؟

قال: فقال: نعم.
قال: قلت له: ألك عين؟
قال: يا بنيّ أي شيء هذا من السؤال؟
فقلت: هكذا مسألتي.
فقال: يا بني سل، وإن كانت مسألتك حمقاً.
قال: فقلت: أجبني فيها.
قال: فقال لي: سل.
فقلت: ألك عين؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما ترى بها؟
قال: الألوان والأشخاص.
قال: فقلت: ألك أنف؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع بها؟
قال: أتشمّم بها الرائحة.
قال: قلت: ألك فم؟
قال: نعم.
قلت: وما تصنع به؟
قال: أعرف به طعم الأشياء.
قال: قلت: ألك لسان؟
قال: نعم.
قلت: وما تصنع به؟
قال: أتكلم به.
قال: قلت: ألك اذن؟
قال: نعم.
قلت: وما تصنع بها؟
قال: أسمع بها الأصوات.
قال: قلت: ألك يد؟
قال: نعم.
قلت: وما تصنع بها؟
قال: أبطش بها، وأعرف بها اللين من الخشن.
قال: قلت: ألك رجلان؟
قال: نعم، قلت: ما تصنع بهما؟
قال: أنتقل بهما من مكان إلى مكان.
قال: قلت: ألك قلب؟
قال: نعم.
قلت: وما تصنع به؟
قال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح.
قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
قال: لا.
قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة.
قال : يا بني إن الجوارح إذا شكت في شيء شمّته، أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، أو لمسته، ردّته إلى القلب، فتقن اليقين ويبطل الشك.
قال: فقلت: إنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟
قال: نعم.
قال: قلت: فلا بدّ من القلب، وإلّا لم يستقم الجوارح؟
قال: نعم.
قال: فقلت: يا أبا مروان، إن الله تعالى ذكره لم يترك جوارحك، حتى جعل لها إماماً، يصحّح لها الصحيح، ويتقن ما شك فيه؛ ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً، يردون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟ فسكت ولم يقل شيئاً. ثم التفت إلي.
فقال: أنت هشام؟
فقلت: لا.
فقال لي: أجالسته؟
فقلت: لا.
فقال: فمن أين أنت؟
قلت: من أهل الكوفة.
قال: فأنت إذاً هو.
قال: ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه، وما نطق حتى قمت.
فضحك أبوعبد الله (علیه السلام)، ثم قال: يا هشام من علّمك هذا؟
قال: فقلت: يا ابن رسول الله جرى على لساني.
قال: يا هشام، هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى([2]).
من ذلك الحجاج، ما جرى أيضاً بين هشام بن الحكم وضرار في مجلس يحيى بن خالد، حيث يبيّن هشام في ذلك الحجاج ضرورة وجود علم يقيمه الرّسول (ص) بعده، لا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذّنوب، مبرأ من الخطايا، يُحتاج إليه ولا يَحتاج إلى أحد. ويكون لديه من الصّفات والنّعوت، ما يجعله صالحاً لذلك الدّور. حيث نقل العلامة المجلسي هذه الواقعة:
"كان ليحيى بن خالد مجلس في داره، يحضره المتكلّمون من كل فرقة وملّة، يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم، ويحتجّ بعضهم على بعض.
فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيى بن خالد: يا عباسي، ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلّمون؟
فقال: يا أمير المؤمنين ما شيء ممّا رفعني به أمير المؤمنين، وبلغ من الكرامة والرفعة، أحسن موقعاً عندي من هذا المجلس؛ فإنّه يحضره كلّ قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحّتج بعضهم على بعض، ويُعرَف المحقّ منهم، ويتبيّن لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.
قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس، وأسمع كلامهم، من غير أن يعلموا بحضوري، فيحتشمون، ولا يظهرون مذاهبهم.
قال: ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء.
قال: فضع يدك على رأسي، ولا تعلمهم بحضوري. ففعل.
وبلغ الخبر المعتزلة، فتشاوروا فيما بينهم، وعزموا أن لا يكلّموا هشاماً إلّا في الإمامة، لعلمهم بمذهب الرشيد، وإنكاره على من قال بالإمامة.
قال: فحضروا وحضر هشام....
قال ضرار [لهشام بن الحكم]: فسل.
قال هشام: أتقول إن الله عدل لا يجور؟
قال ضرار: نعم، هو عدل لا يجور، تبارك وتعالى.
قال هشام: فلو كلّف الله المقعد المشي إلى المساجد، والجهاد في سبيل الله، وكلّف الأعمى قراءة المصاحف والكتب، أتراه كان عادلاً أم جائراً؟
قال ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك.
قال هشام: قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك، ولكن على سبيل الجدل والخصومة، أن لو فعل ذلك، أليس كان في فعله جائراً؟ وكلّفه تكليفاً لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه.
قال ضرار: لو فعل ذلك لكان جائراً.
قال هشام: فأخبرني عن الله عزّ وجلّ، كلّف العباد ديناً واحداً لا اختلاف فيه، لا يقبل منهم إلّا أن يأتوا به كما كلّفهم؟
قال ضرار: بلى.
قال هشام: فجعل لهم دليلاً على وجود ذلك الدين؟ (أو) كلّفهم ما لا دليل على وجوده، فيكون بمنزلة من كلّف الأعمى قراءة الكتب، والمُقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟
قال: فسكت ضرار ساعة، ثم قال: لا بدّ من دليل، وليس بصاحبك.
قال: فضحك هشام، وقال: تشيع شطرك، وصرت إلى الحق ضرورة، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التّسمية.
قال ضرار: فإني أرجع إليك في هذا القول.
قال: هات.
قال ضرار: كيف تُعقد الإمامة؟
قال هشام: كما عقد الله النبوّة.
قال: فإذاً هو نبي؟
قال هشام: لا، لأن النبوّة يعقدها أهل السماء، والإمامة يعقدها أهل الأرض، فعقد النبوّة بالملائكة، وعقد الإمامة بالنبي، والعقدان جميعاً بإذن الله عزّ وجلّ.
قال: فما الدليل على ذلك؟
قال هشام: الاضطرار  في هذا.
قال ضرار: وكيف ذلك؟
قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه:
إمّا أن يكون الله عزّ وجلّ رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول (ص)، فلم يكلّفهم ولم يأمرهم، ولم ينههم، وصاروا بمنزلة السباع والبهائم، التي لا تكليف عليها. أفتقول هذا يا ضرار، أن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله (ص)؟

قال: لا أقول هذا.
قال هشام: فالوجه الثاني، ينبغي أن يكون الناس المكلّفون قد استحالوا بعد الرسول (ص) علماء، في مثل حد الرسول (ص) في العلم، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد، فيكونوا كلّهم قد استغنوا بأنفسهم، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه؛ أفتقول هذا، أن الناس قد استحالوا علماء، حتى صاروا في مثل حد الرسول (ص) في العلم، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟
قال: لا أقول هذا، ولكنّهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال: فبقي الوجه الثالث، لأنه لا بدّ لهم من عَلَم يقيمه الرسول لهم، لا يسهو  ولا يغلط، ولا يحيف، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا، يُحتاج إليه، ولا يَحتاج إلى أحد.

قال: فما الدليل عليه؟
قال هشام: ثمان دلالات. أربع في نعت نسبه، وأربع في نعت نفسه.
فأمّا الأربع التي في نعت نسبه: بأن يكون معروف الجنس، معروف القبيلة، معروف البيت. وأن يكون من صاحب الملّة والدعوة إليه إشارة. فلم يرَ جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب، الذين منهم صاحب الملّة والدعوة، الذي يُنادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فتصل دعوته إلى بِر وفاجر، وعالم وجاهل، ومقرّ ومنكر، في شرق الأرض وغربها. ولو جاز أن يكون الحجّة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس، لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده. ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم، لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحاً يكون فساداً. ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد. فلمّا لم يجزِ ذلك، لم يجزِ إلّا أن يكون في هذا الجنس، لاتصاله بصاحب الملّة والدعوة، ولم يجزِ أن يكون من هذا الجنس إلّا في هذه القبيلة، لقرب نسبها من صاحب الملّة وهي قريش. ولمّا لم يجزِ أن يكون من هذا الجنس إلّا في هذه القبيلة، لم يجزِ أن يكون من هذه القبيلة إلّا في هذا البيت، لقرب نسبه من صاحب الملّة والدعوة. ولمّا كثر أهل هذا البيت، وتشاجروا في الإمامة لعلوّها وشرفها، ادّعاها كل واحد منهم، فلم يجزِ إلّا أن يكون من صاحب المّلة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه، لئلّا يطمع فيها غيره.
وأمّا الأربع التي في نعت نفسه: أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه، وأحكامه، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون معصوماً من الذنوب كلّها، وأن يكون أشجع الناس، وأن يكون أسخى الناس.

قال: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟
قال: لأنه إن لم يكن عالماً بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه، لم يُؤمَن عليه أن يقلب الحدود، فمن وجب عليه القطع حدّه، ومن وجب عليه الحدّ قطعه، فلا يقيم لله حدّاً على ما أمر به، فيكون من حيث أراد الله صلاحاً يقع فساداً.
قال: فمن أين قلت: إنه معصوم من الذنوب؟
قال: لأنه إن لم يكن معصوماً من الذنوب، دخل في الخطأ، فلا يؤمن أن يكتم على نفسه، ويكتم على حميمه وقريبه، ولا يحّتج الله عزّ وجلّ بمثل هذا على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الناس؟
قال: لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب، وقال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾([3])، فإن لم يكن شجاعاً فرَّ، فيبوء بغضب من الله، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجّة لله على خلقه.

قال: فمن أين قلت: إنه أسخى الناس؟
قال: لأنه خازن المسلمين، فإن لم يكن سخياًّ، تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها، فكان خائناً. ولا يجوز أن يحّتج الله على خلقه بخائن.
فقال عند ذلك ضرار: فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟
فقال: صاحب العصر، أمير المؤمنين ـ وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله ـ.
فقال عند ذلك (هارون الرشيد): أعطانا والله من جراب النورة، ويحك يا جعفر - وكان جعفر بن يحيى جالساً معه في الستر - من يعني بهذا؟
قال: يا أمير المؤمنين، يعني موسى بن جعفر.
قال: ما عنى بها غير أهلها، ثم عضّ على شفّته، وقال: مثل هذا حي، ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟! فوالله، للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف"([4]).
ومن ذلك الحجاج، ما حصل بين هشام بن الحكم وعالم شامي، بمحضر الإمام الصّادق (علیه السلام)، حيث يبيّن هشام في ذاك الحجاج ضرورة وجود حجّة بعد النّبي (ص)، يرفع الاختلاف الحاصل بين النّاس في فهم الكتاب والسنّة.
عن يونس بن يعقوب، قال: "كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام، فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك.
فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): كلامك هذا من كلام رسول الله (ص) أو من عندك؟
فقال: من كلام رسول الله (ص) بعضه، ومن عندي بعضه.
فقال أبو عبد الله(علیه السلام): فأنت إذاً شريك رسول الله (ص)؟
قال: لا.

قال: فسمعت الوحي من الله تعالى؟
قال: لا.

قال: فتجب طاعتك، كما تجب طاعة رسول الله (ص)؟
قال: لا.
قال: فالتفت إليّ أبو عبد الله (علیه السلام) فقال: يا يونس، هذا خصم نفسه قبل أن يتكلّم.
(إلى أن قال يونس): وكنّا في خيمة لأبي عبد الله (علیه السلام) في طرف جبل في طريق الحرم، وذلك قبل الحج بأيام، فأخرج أبو عبد الله (علیه السلام) رأسه من الخيمة، فإذا هو ببعير يخب. قال: هشام وربّ الكعبة.
قال: وكان شديد المحبّة لأبي عبد الله (علیه السلام). فإذا هشام بن الحكم، وهو أول ما اختطت لحيته، وليس فينا إلّا من هو أكبر منه سنّاً. فوسع له أبو عبد الله (علیه السلام)، وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.
ثم قال للشامي: كلّم هذا الغلام؛ يعني: هشام بن الحكم.
فقال: نعم. ثم قال الشامي لهشام: يا غلام، سلني في إمامة هذا. يعني: أبا عبد الله (علیه السلام)؟
فغضب هشام حتى ارتعد، ثم قال له: أخبرني يا هذا، أربّك أنظر لخلقه، أم خلقه لأنفسهم؟
فقال الشامي: بل ربيّ أنظر لخلقه.
قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟
قال: كلّفهم، وأقام لهم حجّة ودليلاً على ما كلّفهم به، وأزاح في ذلك عللهم.
فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟
قال الشامي: هو رسول الله (ص).
قال هشام: فبعد رسول الله (ص) من؟
قال: الكتاب والسنّة.
فقال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة فيما اختلفنا فيه، حتى رفع عنّا الاختلاف، ومكّننا من الاتفاق؟
فقال الشامي: نعم.
قال هشام: فلم اختلفنا نحن وأنت، جئتنا من الشام تخالفنا، وتزعم أن الرأي طريق الدين، وأنت مقر بأن الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟
فسكت الشامي كالمفكّر.
فقال أبو عبد الله (علیه السلام): مالك لا تتكلم؟
قال: إن قلت إنّا ما اختلفنا كابرت. وإن قلت: إن الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف، أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه. ولكن لي عليه مثل ذلك.
فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): سله تجده مليّاً.
فقال الشامي لهشام: من أنظر للخلق ربّهم أم أنفسهم؟
فقال: بل ربّهم أنظر لهم.
فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم، ويرفع اختلافهم، ويبيّن لهم حقّهم من باطلهم؟
فقال هشام: نعم.
فقال الشامي: من هو؟
قال هشام: أمّا في ابتداء الشريعة، فرسول الله (ص) أمّا بعد النبي فعترته.
قال الشامي: من هو عترة النبي القائم مقامه قي حجّته؟
قال هشام: في وقتنا هذا، أم قبله؟
قال الشامي: بل في وقتنا هذا.
قال هشام: هذا الجالس، يعني: أبا عبد الله (علیه السلام)، الذي تشد إليه الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده.
قال الشامي: وكيف لي بعلم ذلك؟
فقال هشام: سله عما بدا لك.
قال الشامي: قطعت عذري، فعليّ السؤال.

فقال أبو عبد الله (علیه السلام): أنا أكفيك المسألة يا شامي، أخبرك عن مسيرك وسفرك، خرجت يوم كذا، وكان طريقك كذا، ومررت على كذا، ومرّ بك كذا. فأقبل الشامي كلما وصف شيئاً من أمره يقول: (صدقت والله).

فقال الشامي: أسلمت لله الساعة.
فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): بل آمنت بالله الساعة، إن الإسلام قبل الإيمان، وعليه يتوارثون، ويتناكحون. والإيمان عليه يثابون.

قال: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنّك وصيّ الأنبياء"([5]).
ولهشام بن الحكم كلام مع بعض المتكلّمين، يفسّر فيه معنى النّعمة التّامة على النّبي (ص)، بأن يجعل الله تعالى الخلافة والنّبوّة في أهل البيت(علیه السلام)، فكما جعل النّبوّة في النبي (ص)، فإن تمام تلك النّعمة يقتضي بأن يجعل الخلافة في الأئمّة من ذريّته وأهل بيته (علیه السلام)، كما حصل مع من كان قبله من الأنبياء، كموسى (علیه السلام).
"وسأل هشام بن الحكم جماعة من المتكلّمين فقال: أخبروني حين بعث الله محمّداً (ص) بعثه بنعمة تامّة، أو بنعمة ناقصة؟
قالوا: بنعمة تامّة.
قال: فأيّما أتمّ، أن يكون في أهل بيت واحد نبوّة وخلافة؟ أو يكون نبوّة بلا خلافة؟
قالوا: بل يكون نبوّة وخلافة.
قال: فلماذا جعلتموها في غيرها، فإذا صارت في بني هاشم ضربتم وجوههم بالسيوف..."([6]).
وفي حجاج وقع بين عبدالله بن جعفر ومعاوية بن أبي سفيان، يبيّن فيه عبدالله بن جعفر أن فعل النّبي (ص) في حياته، يثبت أنّه لم يكن ليترك أمر الخلافة للنّاس ليختاروا فيه، ولا يدعهم في شبهة وعمياء في ذلك. ويعتمد في ذلك على ما حصل في الإعداد لغزوة مؤتة، حيث أمّر النّبي (ص) عليهم جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبدالله بن رواحة.

فالسؤال الذي يطرح هو:
هل يُعقل أن يعنى الرسول (ص) بقضيّة الخلافة في جيش، ويهمل قضيّة الخلافة في عامّة النّاس؟
هل يُعقل أن يعنى النّبي (ص) بمسألة الخلافة على مستوى غزوة، ويهمل مسألة الخلافة على مستوى أمّة؟
بل إذا أردنا أن نتوسّع خارج هذا المورد الحجاجي، لوجدنا كثيراً من الشواهد في حياة النّبي (ص) وفعله، تظهر أنّه لم يكن يهمل قضيّة من يتولّى الأمر والقيادة في جميع المهام والمواطن، التي تطلبت أن ينوب عنه أحد ما فيها. فكيف يُعقل أن يفعل ذلك، فيما هو أخطر بكثير من تلك المواطن، وهو مستقبل أمّته في دينها ودنياها إلى يوم القيامة، وبما يترك أثره على مجمل المسلمين ومختلف شؤونهم، بل على مجمل البشرية، وكثير من أوضاعها. وفي لحظة لا يكون فيها النّبي (ص) بين ظهراني تلك الأمّة؟
وقد يقول قائل بأنّه صحيح أن النّبي (ص) في حياته لم يكن يهمل أمر من يخلفه على مدينة، أو يتولّى الأمر منه وعنه على جيش أو سريّة... لكن فرق في ذلك بين حياته ووفاته، ففي حياته يصحّ ذلك، أما بعد وفاته، فلا يصحّ ذلك، ولم يصدر منه!

والجواب هو الآتي:
إذا كان ما ذكر، من عدم إهماله أمر خلافته في حياته صحيحاً، فهو بعد وفاته أولى، وأشدّ ضرورة، وذلك لأمرين:
الأوّل: إن الرّسول (ص) كان يشكّل في حياته نوعاً من الضّمانة للاجتماع الإسلامي، تحول دون الانجرار إلى الفتنة والتّفرقة والتّنازع. أمّا بعد وفاته، فإن الاجتماع الإسلامي يفقد تلك الضّمانة، ويصبح أكثر عرضة للتّنازع والاختلاف والوقوع في الفتنة. ومن ثمّ، تصبح العناية بالخلافة بعد وفاته، أولى منها في حياته.
الثّاني: إن خلافته في حياته قد كانت في موارد جزئيّة - كأن يخلف على مدينة لفترة ما، أو ما شابه - أما بعد وفاته، فإن خلافته هي خلافة مطلقة، تشمل الأمّة بأسرها في مجمل شؤونها... وعليه، يصبح الأمر هنا أولى، بأن يقال، بأنّه إذا لم يكن النبي (ص) يهمل أمر خلافته في مواطن ذات حظ من الأهميّة، فكيف يهملها في مواطن ذات أهميّة أكبر. وإذا لم يكن يهمل شأن الخلافة في موارد لها حظ من الخطورة، فكيف يفعل في موارد هي أخطر بكثير من تلك التي في حياته؟
يقول عبدالله بن جعفر لمعاوية: "... يا معاوية، أما علمت أن رسول الله (ص) حين بعث إلى مؤتة، أمّر عليهم جعفر بن أبي طالب، ثم قال: إن هلك جعفر، فزيد بن حارثة. فإن هلك زيد، فعبد الله بن رواحة. ولم يرضَ لهم أن يختاروا لأنفسهم.
أفكان يترك أمّته، لا يبيّن لهم خليفته فيهم؟! بلى والله، ما تركهم في عمياء ولا شبهة، بل ركب القوم ما ركبوا بعد نبيّهم، وكذبوا على رسول الله (ص) فهلكوا، وهلك من شايعهم، وضلّوا، وضلّ من تابعهم، فبعداً للقوم الظالمين..."([7]).
وفي حجاج للشّيخ الصّدوق رحمه الله مع الملك ركن الدّولة بن بابويه، يناقش فيه قضيّة الاستخلاف بمنهج عقلاني، عندما يقدّم أمثلة من الحياة العامّة للنّاس، تثبت أنّهم لا يتهاونون في أمورهم المستقبليّة، حتّى لو لم تكن عظيمة الخطر، وهم من عامّة العقلاء؛ فكيف الحال بالنّبي (ص)، وهو سيّد العقلاء من البشر، وفي قضيّة هي من أخطر القضايا على مستقبل المسلمين ودينهم ودنياهم، وهي قضيّة خلافته، وما يترتّب عليها من تداعيات كبيرة جدّاً في مختلف الميادين، وشتّى المجالات، وإلى آخر الدهر؟
يقول الشّيخ الصّدوق رحمه الله: "... فكيف يجوز أن يخرج النبي (ص) من الدنيا، ولا يوصي بأمر الأمّة إلى أحد، ونحن لا نرضى من عقل أكار[8]* في قرية، إذا مات وخلف مسحاة وفأساً، لا يوصي به إلى أحد من بعده؟..."([9]).
وفي حجاج للمأمون مع عددٍ من العلماء، يلامس فيه قضيّة المشروعيّة، ومن لديه الحقّ في الاختيار في أمر الخلافة بعد وفاة النّبي (ص). يقول المأمون لأولئك العلماء: "... وخبّروني: هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبداً، فإذا ابتاعه صار مولاه، وصار المشتري عبده؟

قالوا: لا.
قال: فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهواكم، واستخلفتموه، صار خليفة عليكم، وأنتم ولّيتموه؟ ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه؟ بل تأتون خليفة، وتقولون إنه خليفة رسول الله (ص) ثم إذا سخطتم عليه قتلتموه، كما فعل بعثمان بن عفان؟
ثم قال: لمن المسلمون، والعباد، والبلاد؟

قالوا: لله تعالى.
قال: فوالله أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره، لأن من إجماع الأمة، أنه من أحدث حدثاً في ملك غيره فهو ضامن، وليس له أن يحدث. فإن فعل فآثم غارم"([10]).
إن ما يريد المأمون قوله في هذا الحجاج، هو أن الله تعالى لمّا كان هو المالك للعباد والبلاد، فهو الأولى أن يتصرف في ملكه، بأن يوكل على عباده من يختاره لذلك. وبما أن العباد مملوكون وليسوا مالكين - لأن الله تعالى هو مالك كل شيء - فليس لهم أن يوكلوا أحداً في شؤون البلاد والعباد.
وفي حجاج بين ابن أبي الحديد المعتزلي وأبي جعفر يحيى بن محمّد العلوي، يعتمد أبو جعفر على ما كان من فعل النّبي (ص) في حياته، وعلى الجانب العقلائي في سيرة العقلاء، ليثبت بأن النّبي (ص) ما كان ليهمل أمر الإمامة، لما يترتّب على ذاك الإهمال من مفاسد. فبعد أن يقول له ابن أبي الحديد بأن نفسه لا تسامحه في أن ينسب إلى الصحابة عصيان الرّسول (ص)؛ يجيب أبو جعفر: "...وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول (ص) إلى إهمال أمر الإمامة، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلّا ويؤمّر عليها أميراً، وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمّر وهو ميّت، لا يقدر على استدراك ما يحدث؟!..."([11]).
أي إنّه إذا دار الأمر بين نسبة العصيان إلى الصحابة، ونسبة الإهمال والتّصرّف خلاف الحكمة إلى الرّسول (ص)، فإنّه يختار الأوّل، ولا يقع في المحذور الثّاني. أي: يختار عصيان الصّحابة للنّبي (ص) في شأن الخلافة، ولا يختار أن يتّهم النّبي (ص) بما هو خلاف الحكمة والعقل، وبما يخالف حسن التّدبير، ويجافي حكمة السياسة.
والعجيب في الأمر، أن قوماً قد ارتضوا أن ينسبوا إلى الرسول أموراً لا تليق به، وتسيء إلى مكانته، وتنتقص من مقامه، حتى لا يراجعوا رأياً تمسّكوا به، أو قضية اعتقدوا بها، وحتى لا ينسبوا إلى بعض الصحابة ما صدر عنهم من فعل. فكيف يبلغ الرأي عندهم إلى هذا الحد، بأن ينسبوا إلى الرسول ما يخالف رجاحة عقله وسمو مقامه، ويقبلوا أن يعاب عليه، بما يجافي ما قاله الله تعالى فيه، ومع ما لديه من الكمالات، كل هذا فقط وفقط، حتى لا ينسب خطأ أو خطيئة إلى من لا يقارن أحد منهم به، ممن هم أدنى منه مقاماً وكمالاً، كما بين الثرى والثريا؟
وفي أكثر من حجاج لابن طاووس، يظهر فيه أن شأن الإمامة أخطر من أن تتقلّده النّاس، لما يترتّب عليه في مختلف أمور الدّين والدّنيا، وأنّ النّاس - كائناً من كان - ليست مهيّأة ولا تصلح لذاك الاختيار، سواءً في زمن النّبي (ص) أو بعده...
ويجري ابن طاووس تناظراً بين الملائكة في رفضهم اختيار آدم (علیه السلام)، وبين البشر في اختيارهم، فيقول: "... هل يقبل عقل عاقل فاضل، أن سلطان العالمين (الله تعالى)، ينفذ (أي يرسل) رسولاً أفضل من الأولين والآخرين إلى الخلائق في المشارق والمغارب، ويصدّقه بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، ثم يعكس هذا الاهتمام الهائل والتدبير الكامل، ويجعل عيار (أي معيار) اعتماد الإسلام والمسلمين على ظن ضعيف، يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين.

فقال: كيف هذا؟
فقلت: لأنكم إذا بنيتم أمر الإمامة، أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه، على الاختيار من الأمة للإمام، على ظاهر عدالته وشجاعته وأمانته وسيرته، وليس معكم في الاختيار له إلا غلبة الظن، الذي يمكن أن يظهر خلافه لكل من عمل عليه، كما جرى للملائكة، وهم أفضل اختياراً من بني آدم، لما عارضوا الله جلّ جلاله في أنّه جعل آدم خليفة، وقالوا: ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾([12])، فلمّا كشف لهم حال آدم (علیه السلام). رجعوا عن اختيارهم لعزل آدم، وقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾([13]). وكما جرى لآدم الأكل من الشجرة، وكما جرى لموسى في اختياره سبعين رجلاً من خيار قومه للميقات، ثم قال عنهم بعد ذلك: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا﴾([14]).  حيث قالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾([15])"([16]).
وبعد أن يتحدّث في بعض اختيارات الأنبياء، والتي منها اختيار موسى (علیه السلام) سبعين رجلاً من خيار قومه للميقات، ثم ليتبيّن لاحقاً مآل ذلك الاختيار؛ يقول ابن طاووس: "... فكيف يكون اختيار غيرهم [غير الأنبياء] ممن يَعرف من نفسه، أنه ما مارس أبداً خلافة ولا أمارة ولا رياسة، حتى يعرف شروطها وتفصيل مباشرتها، فيستصلح لها من يقوم لها، وما معه إلا ظنٌ ضعيف بصلاح ظاهر من يختاره.
وهل يقبل عقل عاقل، وفضل فاضل، أن قوماً ما يعرفون مباشرة ولا مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه، فيكون اختيارهم لأمرٍ لا يعرفونه، حجةً على من حضر، وعلى من لم يحضر، أما هذا من الغلط المستنكر؟
ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير الجيوش والعساكر، وتدبير البلاد وعمارة الأرضين، والإصلاح لاختلاف إرادات العالمين؛ حتى يختاروا واحداً يقوم بما يجهلونه، إنا لله وإنا إليه راجعون، ممن قلّدهم في ذلك، أو يقلّدونه؟
وممّا يقال لهم: إنّ هؤلاء الذين يختارون الإمام للمسلمين، من الذي يختارهم لهم لتعيين الإمام، ومن أي المذاهب يكونون، فإن مذاهب الذين يذهبون إلى اختيار الإمام مختلفة، وكم يكون مقدار ما بلغوا إليه من العلوم، حتى يختاروا عندها الإمام، وكم يكون عددهم، وهل يكونون من بلد واحد، أو من بلاد متفرّقة، وهل يحتاجون قبل اختيارهم للإمام أن يسافروا إلى البلاد، يستعلمون من فيها ممن يصلح للإمامة أو لا يصلح، أو هل يحتاجون أن يراسلوا من بَعُدَ عنهم من البلاد، ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الإمام للمسلمين؟ فإن كان في بلد غير بلدهم من يصلح، أو يرجح ممّن هو في بلادهم يعرّفونهم؛ أم يختارون من غير كشف لما في البلاد، ومن غير مراسلة لعلماء بلاد الإسلام. فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذّر قيام الحجّة على صحّته وعلى لزومه لله جلّ جلاله، ولزومه لرسوله (ص) ولزومه لمن لا يكون مختاراً لمن يختارونه من علماء الإسلام؛ أفلا ترى تعذّر ما ادعوه من اختيار الإمام؟!
ولقد سمع مني بعض هذا الكلام شخص من أهل العلم من علم الكلام.
فقال: إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على الظنون.
فقلت له: هب أنهم يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم، فكيف تجاوزوا ذلك إلى التحكم على تدبير الله جلّ جلاله في عباده وبلاده، والإقدام بظنونهم الضعيفة على هدم الاهتمام بثبوت أقدام النبوة الشريفة، ونقل تدبيرها عن اليقين الشريف إلى الظن الضعيف؟ ومن جعل لهم ولاية على كل من في الدنيا والدين، وما حضروا معهم في اختيار الإمام، ولا شاركوهم ولا أذنوا لهم من سائر بلاد الإسلام. ومن وليهم عليَّ، وأنا غافل بعيد عنهم، حتى يختاروا لي بظنّهم الضعيف إماماً ما وكلتهم فيه، ولا أرضى أبداً بالاختيار منهم. فهل هذا إلّا ظلم هائل، وجور شامل، من غير رضى من يدّعي وكالته، ونيابة ما استنابه فيها، من غير رضى من يدّعي نيابته؟!
ثم قلت لهم: أنتم ما كنتم تتفكرون فساده في أوّل مرّة، لما أظهر العدل واجتمعتم عليه. فلمّا تمكّن منكم قتلكم، وأخذ أموالكم. وقد رأيتم ورأينا، وسمعتم وسمعنا، من اختيار الملوك والخلفاء، والاطلاع على الغلط في الاختيار لهم، وقتلهم، وعزلهم، وفساد تلك الآراء...([17]).
ثم يكمل: "وقلت لهم: أنتم تعلمون أنه يمكن أن يكون عند وقت اختياركم لواحد... غير معصوم، ولا منصوص عليه، أن يكون في ذلك البلد وغيره من هو مثله أو أرجح منه، ولا تعرفونه، فكيف تبايعون رجلاً وتقتلون أنفسكم بين يديه، ولعلّ غيره أرجح منه، وأقوم بما تريدون..."([18]).

تحليل و نتائج
نخلص من خلال قراءتنا لتلك النماذج، التي اخترناها من ذلك الحجاج إلى اكثر من تحليل، وإلى جملة من النتائج، نوجزها فيما يأتي:
 مع أنه يوجد تراث كبير من النصوص الحجاجية التي عنت بموضوع الإمامة، لكن اختيارنا كان منحصراً بما له علاقة بأصل الإمامة وكبراها، وأدلّتها، وفلسفتها. حيث تبيّن لنا، أن هذه الموضوعات قد كانت محل بحث واهتمام، وأنها كانت قضايا مطروقة من قبل عدد من المتكلّمين في مجمل مراحل التاريخ الإسلامي.
يلحظ إلى حدٍ بعيد، أن تلك القضايا والموضوعات، لم تكن تبحث بشكل منفصل في ذلك الحجاج وتلك المناظرات، وإنما كانت – إجمالاً - تبحث ضمناً مع موضوعات أخرى، تتّصل بموضوع الإمامة، وخصوصاً ما يرتبط منها بأفضلية أهل البيت (علیه السلام) وأئمتهم، ومرجعيتهم الدينية والسياسية، وغيرها من الموضوعات الخلافية.
إن بحث تلك الموضوعات والقضايا، كان متّسماً باللغة والأسلوب اللذين كانا سائدين في ذلك الزمن. كما إن المفاهيم والمصطلحات التي تُستخدم في تلك النصوص - فضلاً عن أسلوب المقاربة من خلالها - قد تختلف عمّا هو سائد في عصرنا، وهو ما قد يتطلب إجراء أكثر من مقاربةٍ اصطلاحية بين تلك المفاهيم والمصطلحات، مع ما لدينا اليوم من قاموسٍ اصطلاحي في المجال نفسه، احترازا من أي التباس مفهومي أو فكري قد يحصل.
إن معاينة تلك النصوص الحجاجية، تظهر مدى العمق الفكري الذي تتسم به. وتشير إلى المدى الذي وصل إليه التطوّر الجدلي والفكري في موضوع الإمامة، وغيرها. وهو ما ينسجم مع واقع الحال في الاجتماع الاسلامي وتاريخه، حيث كان موضوع خلافة النبي (ص) والإمامة - بما تمثّل من سلطة دينية وسياسية - على رأس قائمة الاهتمام في المجال الفكري، كما في المجال الاجتماعي. ويشهد على ذلك حجم النتائج التي ترتبت عليها، ومدى خطورتها في الاجتماع الاسلامي، منذ وفاة النبي (ص) إلى يومنا هذا. وما نتج عن الخلاف فيها من تراث كبير على المستوى الفكري والكلامي.
تعتمد تلك النصوص المقتبسة من أكثر من حجاج، ومن التراث الحجاجي على المنهج العقلي. بمعنى أنها تستند إلى مقدمات حسيّة تجريبية – فعل الحواس -، أو مقدمات نصية دينية – التكليف بعدم الاختلاف، والنعمة التامة - أو مقدّمات من حياة النبي (ص) وسيرته - ما فعله  (ص) في أمر القيادة على الجيش المرسل إلى مؤتة، أو عند مغادرته المدينة - أو مقدّمات من الواقع العقلائي لعامة الناس – بأنهم يهتمون بمستقبل أمورهم، وخصوصاً الخطير منها - ثم ليتمّ الانتقال من تلك المقدّمات، إلى النتائج التي تترتّب عليها بالملازمة وبالأولوية. وموضوع هذه الملازمة أو الأولوية إمّا فعل الله تعالى، أو فعل النبي (ص). فمثلاً، عندما يجعل الله تعالى إماماً لمملكة البدن - وهو العقل - ،فمن باب أولى أن يجعل إماماً لمملكة الأمّة - وهو النبي (ص) وأوصياؤه من بعده –. وعندما يكلّفهم الله تعالى عدم الاختلاف، يلزم من ذلك، أن يجعل لهم علَماً دليلاً معصوماً من الله تعالى، يعصمهم من ذاك الاختلاف، وما يترتّب عليه من تداعيات على المستويين الديني والاجتماعي.
فضلاً عن تطبيق تلك الأولوية على فعل النبي (ص)، من خلال المقاربة بين فعله وما يترتّب عليه في حياته، وبين ما يترتّب على ذاك الفعل بعد وفاته. بأن يقال بأنه إذا كان النبي (ص) يستخلف على سرية أو جيش في حياته، فمن باب أولى أن يستخلف على أمته بعد وفاته. وإن كان يستخلف على المدينة في حياته، فمن باب أولى أن يستخلف على بلاد المسلمين بعد وفاته. لأنه لم يكن هناك أية آلية، أو صيغة أخرى لإنتاج السلطة، واختيار الخليفة، يمكن أن يركن إليها، لعلاج هذا الموقف الخطير. ولو كان هناك شيء من ذلك، لوجب أن يبيّنه النبي (ص) بجميع تفاصيله، وشروطه، وآلياته.. ولمّا لم يفعل، ولم يأتِ في سنّته شيء من ذلك، فإنّ ذلك يؤكّد على أنه لا يوجد سوى الاستخلاف من صيغة لاختيار الخليفة، إذ إنّ الذي يختار هو الله تعالى، وما النبي (ص) إلّا مبيّن لذاك الاختيار ومعبّر عنه.
فضلاً عن تطبيق تلك الأولوية استناداً إلى ما يقوم به عامّة العقلاء في شؤونهم، الذين يوصون في مجمل أمورهم، وخصوصاً في أمورهم الخطيرة، وخاصة عندما يكون عدم الإيصاء سبباً لكثير من المفاسد. لتكون النتيجة أن النبي (ص) هو سيد العقلاء، فمن باب أولى أن يصدر منه ما ينسجم مع الطبيعة العقلائية للبشر وسيرتهم. وخصوصاً عندما يكون الأمر مرتبطاً بشأن هو غاية في الأهمية، بل قد لا يدانيه شأن آخر في خطورته وأهميته، وهو مستقبل أمّته في دينها ودنياها، وجميع شؤونها. وخاصة أن إهمال هذا الأمر هنا، كان معلوماً أنه سوف يؤدي إلى إيقاع الأمّة في الاختلاف والتنازع والتقاتل والتفرقة، وكثير من المفاسد، التي وقعت منذ وفاة النبي (ص) وما زلنا نشاهدها، ونشاهد تداعياتها إلى يومنا هذا.
إذن، ما يميّز هذه النصوص المقتبسة، هو اعتمادها على الدليل العقلي، وعلى الملازمة، والأولوية، والسيرة العقلائية، للاستدلال، والوصول إلى النتائج، التي تتّصل بأصل الإمامة وكبراها، بالمفهوم الذي ذكرنا، وضرورتها، وفلسفتها في الاجتماع الديني والسياسي.
إنّ ما تقدّم من بحث وقراءة، يقود إلى جملة من التوصيات في هذا الإطار البحثي، والاجتماعي الديني، نوجزها فيما يأتي:
أهمية متابعة البحث في هذا النص الحجاجي، لتطوير هذا الميدان المعرفي بمزيد من البحث والتحليل، وعدم الاقتصار على جمع النصوص الحجاجية وعرضها.
توظيف مجمل المناهج العلمية وأدواتها ذات الصلة، في معاينة ذلك النص الحجاجي والبحث فيه وفي موضوعاته، لما يمكن أن يوفره ذلك التوظيف من نتائج ذات أهمية في هذا الميدان.
أخذ هذه البحوث من الإطار المذهبي – بمعناه العصبوي - إلى الإطار العلمي - بمعناه المنهجي والموضوعي-.
العمل على جعل هذا التراث والبحث فيه سبباً للتواصل والتعارف، وعدم جعله سبباً للتفرقة والتنازع والتناحر.
التأكيد على احترام كل طرف لرأي الطرف الآخر، حتى لو خالف ما لديه وما يعتقده. والسعي إلى تحصيل ثقافة الاختلاف، بناءً على القيم الدينية والإنسانية، حتى يكون الاختلاف سبباً للتجديد، والتطوير، والتصحيح، والمراجعة، والنقد المنهجي والمستديم.

* هوامش البحث  *
[1]- سوف تقتصر النصوص الحجاجية، التي سيتم اختيارها على هذه النقاط الأربع المذكورة، والتي تشكل كبرى قضية الإمامة. أمّا تطبيق هذه الكبرى على صغراها (ما ذُكر في النقطة الخامسة)، فلعلّه يحتاج إلى بحث مستأنف. وإن كانت الكبرى في موضوع الإمامة، يقود إثباتها إلى صغراها، لأنه لا أحد يدّعي صغرى تلك الكبرى ومضامينها إلا مدرسة أهل البيت(علیه السلام).
[2]- الشيخ الصدوق،الأمالي،مؤسسة البعثة ،قم،1417 ه.ق،ط1،ص686.
[3]- سورة الأنفال، الآية: 16.
[4]- بحار الأنوار، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1983م، ط 3، ج 48، صص: 198-302.
[5]- الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، قم،مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث، 1417ه.ق، ط1، ج1، صص:529-533.
[6]- المجلسي، بحار الأنوار، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1983 م، ط 3، ج 47، ص 401.
[7]- الشيخ عبدالله الحسن، مناظرات في الإمامة، الناشر: أنوار الهدى، ط1، ص102.
[8]- * الأكار هو: المزارع. يقال: أكرت الأرض، أي حفرتها. والمراد أن المزارع الاعتيادي لا يرتضي أن يترك بعض الأدوات لديه من دون وصية، فكيف بالنبي(ص) في أمر الخلافة.
[9]- م. ن، ص259.
[10]- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1984م، ج2، ص213.
[11]- ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة،مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، ج 9، ص248.
[12]- سورة البقرة، الآية: 30.
[13]- سورة البقرة، الآية: 32.
[14]- سورة الأعراف، الآية: 155.
[15]- سورة النساء، الآية: 153.
[16]- ابن طاووس، كشف المحجة لثمرة المهجة، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1950م، ص82-83.
[17]- م. ن، صص 83-85.
[18]- م. ن، ص 85.