البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تبرير الشرور في الكون

الباحث :  د. عبد الحسين خسروبناه - ترجمة: محمد حسين الواسطي
اسم المجلة :  العقيدة
العدد :  7
السنة :  السنة الثالثة - ربيع الثاني 1437هـ / 2016م
تاريخ إضافة البحث :  February / 29 / 2016
عدد زيارات البحث :  2906
تحميل  ( 413.292 KB )
السؤال عن أسباب حدوث الشرور في العالم، وكيفية التخلّص منها هو أحد أعرق الأسئلة التي اعترضت طريق الإنسان منذ القدم؛ بغضّ النظر عن دينه أو معتقده. وهي قضيّة تناولها معظم المفكّرين بالبحث والدراسة، بل هي مسألة تستوقف كلّ إنسان في مسيرته التكاملية فكريّاً وعقليّاً.

لقد ارتبطت مشكلة الشرور هذه في الشرق والغرب بعدد من القضايا العقائدية الجادّة، وأسفرت عن تبلور فلسفات ونزعات مادّيّة، وثنوية، وتشاؤميّة، وما يُسمّى بلاهوت الصيرورة([1]). وما زالت هذه المشكلة تمثّل إحدى أبرز المسائل الأساسية في فلسفة الدين والكلام واللاهوت؛ حيث يُتساءل فيها عن كيفية التوفيق بين حدوث الشرور والآلام في العالم وصفات إلهية مثل: القدرة، والعلم، والخيريّة المطلقة، والعدل، والحكمة الإلهية.

من هنا، فإنّ فكّ رموز هذه المسألة وسبر أغوارها بما ينسجم مع القضايا الدينية المسلّمة أمر مهمّ وحيويّ، ولا يُستهان به، لا سيّما أنّ أيّ إخفاق تقع فيه المنظومات الفكريّة المنتمية للأديان الإلهية (الإسلام، والنصرانيّة، واليهوديّة) ضمن سعيها لتقديم عرض معقلن في هذا الصدد من شأنه أن يُلحق أضراراً جسيمةً  في إيمان الناس، وتعرّضهم لأخطار فادحة.

نطاق البحث في قضية الشرور :

ترتبط قضية الشرور والآلام بمجموعة من المعتقدات الأساسية من جهات متنوّعة، وقد أفضت نتائج البحث فيها إلى شبهات مختلفة. وهنا يمكن الإشارة إلى بعض المعتقدات المرتبطة بهذه المسألة:

1. وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ: فقد طرحت قضية العلاقة بين الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ ووجود الآلام والشرور على طاولة البحث بقوّة في دراسات فلسفة الدين والعلوم اللاهوتية المعاصرة في الغرب. وقد تشبّث بعضهم في محاولاته لإبطال المعتقدات الدينية وعلى رأسها الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا ساعياً إلى إنكار عقلانيّتها ببعض التقارير المنطقية عن هذه المسألة؛ منهم على سبيل المثال: جون ليزلي ماكي([2]) (1981م) الذي زعم بوجود مفارقة بين الإيمان بإله قادر مطلق، وعالم مطلق، وخيّر مطلق من جهة، وبين وجود الآلام والشرور في العالم من جهة أخرى([3]).

2. التوحيد الإلهيّ: والسؤال المطروح هنا هو: هل يتلاءم القول بوجود الشرور التي تقابل الخير مع القول بوحدانية المبدأ والخالق؟ وقد أدّى العجز عن حلّ هذه الإشكالية إلى ظهور الثنوية، والإيمان بإله الخير (يزدان) وإله الشرّ (أهريمن)، أو إله النور وإله الظلمة.

3. القدرة الإلهيّة المطلقة: لماذا لا يقوم الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ مع كلّ ما يملكه من قدرة مطلقة بدفع الشرور أو رفعها؟ وكيف التوفيق بين وجود هذه الشرور وصفة القدرة الإلهية المطلقة على تبديد أيّ مكروه؟ وقد أدّى العجز عن حلّ هذه المسألة عند أصحاب النزعة المسمّاة بلاهوت الصيرورة في الغرب إلى القول بأنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ يتكامل بنحو تدريجيّ على مرّ الزمن، وزعموا أنّ امتلاك مزيد من العلم والقدرة من شأنه التسبيب في التغلّب على النوائب والصعاب شيئاً فشيئاً، والحدّ من ازديادها، وتقليلها إلى مستويات متدنية جدّاً.

4. العدل الإلهيّ: والسؤال هنا: هل يمكن الإذعان بوجود شرور طبيعية، والبقاء على الإيمان بالعدل الإلهي؟ لقد أدّى إنكار الأشاعرة للحسن والقبح الذاتيين في الأفعال، ونفي قدرة العقل على تحديد الحسن والقبيح إلى إنكار صفة العدل في الله عَزَّ وَجَلَّ؛ بما يعني: عدم وجود معيار عقلانيّ توزن به الأفعال جميعاً؛ بما فيها: الفعل الإلهي، حتّى خلصوا إلى القول بأنّ «كلّ ما يصنعه الحبيب جميل». وفي المحصّلة: إذا انعدم الحسن والقبح الذاتيان والعقليان فكيف يمكن الحديث عن خير أو شر؟ فكلّ الأفعال مستند إلى الله جَلَّ وَعَلا، وكلّ ما يفعله الربّ خير؛ فلا وجود - إذن - للشرّ.

5. الرحمة والخير الإلهيّان: وهنا يتساءلون: كيف يصحّ في ربّ رحيم وخيّر مطلق أن يجوّز حدوث أو ظهور كلّ هذه الشرور؟!

6. الحكمة الإلهيّة: والسؤال فيها: ألا تتقاطع الشرور في الكون وتتنافى مع الحكمة الإلهية، والهدفية التي أثبتناها له تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ ؟!

7. القضاء الإلهيّ والعناية الربانيّة: وهنا يُقال: كيف يمكن للشرور أن تقتحم حريم القضاء الإلهي والعناية الربانية؟ أليسا يقتضيان تحقّق الخير في العالم؟ أم أنهما يقتضيان وقوع الشرّ فيه؟!

8. النظام الأحسن في الكون: والشبهة المطروحة هنا حول كيفية التوفيق بين وجود الشرور والآلام ووجود النظام الأحسن؛ فإذا كان عالم الطبيعة هذا هو أحسن عالم يمكن له أن يرى النور، فلِمَ - إذن - خُلق بنحو لا ينفكّ فيه عن الشرور؟! وقد أفضى العجز عن إيجاد حلّ لهذه المسألة لى نشوء فلسفات تشاؤميّة؛ مثل: فلسفة  شوبنهاور ([4]) (1860م).

وحصيلة البحث هنا أنّ خيوط مشكة الآلام والشرور قد تشابكت مع خيوط البحث عن أصل وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ تارةً، ومع التوحيد بصفته أهمّ الصفات الإلهية تارةً أخرى، ومع بعض الصفات الإلهية الأخرى ثالثةً، وقد فُتحت في كلّ ميدان منها جبهة يجب الخوض فيها بحثاً ودراسةً؛ لما تتحلّى به من ضرورة وأهمّيّة.

أنواع الشرور :

يمكن تصنيف الشرور بنحو عامّ إلى نوعين رئيسين:

1. الشرور الإرادية (الأخلاقية): وهي الشرور التي تنتج عن سوء اختيار الإنسان، وانحطاطه الأخلاقيّ؛ كما في ما يقترفه من قتل أو نهب أو ظلم أو سرقة أو ما سوى ذلك.

2. الشرور غير الإرادية (الطبيعيّة): وهي النوائب والصعاب التي تنجم عمّا تفرضه الطبيعة وتقلّباتها، أو التي تنشأ من تفاعل بعض أجزاء الطبيعة مع بعضها الآخر؛ مثل: السيول، والزلازل، والأوبئة، والأمراض، وما سوى ذلك.

وقد يحلو لبعضهم إضافة نوع ثالث لما ذكر باسم «الشرور العاطفية»، ومثالها: ما يصيب الإنسان من ألم، ونصب، وعوز، وهمّ، وغمّ، وانكسار، وما سوى ذلك([5]). لكن، يتحتّم الالتفات إلى أنّ الشرور العاطفية ليست نوعاً مستقلاً عمّا ذكر؛ فالحوادث والنوائب التي تلمّ بالإنسان - مثل: السيول والزلازل - لا تُعدّ شروراً إن لم تُسفر عن ألم أو نَصَب، والحوادث - بحدّ ذاتها - لا تشكّل شرّاً للإنسان، بل تُعدّ شروراً حينما تسبّب إصابةً أو ضرراً في حياة الناس، ويتقارن معها أيّ لون من ألوان الأذى والألم. كما أنّ الشرور الأخلاقية لا تتصف بالشرّ إلا حيث تتسبّب في إيجاد الشرور العاطفيّة. وعليه: فإنّ الشرور العاطفية نابعة من منشأ أخلاقيّ تارةً، ومن منشأ طبيعيّ تارةً أخرى.

ومن اللافت للأنظار هنا أنّ المتكلّمين المسلمين قد استخدموا في بحوثهم عن الشرور مفردة «الآلام» أيضاً؛ ليشيروا بذلك إلى أنّ حقيقة الشبهة في قضيّة الشرور تعود إلى حالة الأذى والألم التي تنتج عنها؛ وإن رجّح الفلاسفة الاكتفاء بمصطلح «الشرّ» نظراً إلى الواجب العلمي الذي تضطلع به الفلسفة بشأن كشف الواقع ومعرفة الوجود، وقد ذهبوا إلى أنّ الشرور أمور عدميّة. ومن ثَمَّ: اقتضت أبحاث الأنطولوجيا في الفلسفة إلى تناول عنوان «الشرور»، ومن ثمّ إثبات أنّ الشرّ أمر عدميّ؛ بخلاف المتكلمين الذين يُحتّم عليهم واجبهم العلميّ تبيين المعتقد الديني والدفاع عنه، وقد اقتضى البحث عندهم استخدام عنوان «الآلام»، ثمّ الحديث عن حكمة وجودها.

معقولية الإيمان بالله ومشكلة الشرور:

الإيمان بوجود الله عَزَّ وَجَلَّ - بصفته موجوداً كاملاً سامياً وفوق كلّ كمال أو جمال - أمر كامن ومستقرّ في فطرة كلّ إنسان. والفرصة متاحة لأيّ شخص في أن يرجع إلى ذاته، وينظر في باطنه، ليتعرّف على خالقه، ويؤمن به. كما أنّ شمولية الإيمان بالله جَلَّ وَعَلا واتّساع رقعة المؤمنين به بين الأغلبية الساحقة من البشر على طول التاريخ يشهد على فطريّة هذا المعتقد.

وفي الوقت ذاته، يمكن للعقل أن ينظّم ما يملكه من قضايا أوّليّة في نسق منطقيّ ليصل إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ عن طريق العلم الحصوليّ، ومن الممكن أيضاً أن تتعاضد البراهين العقلية مع المعلومات البديهية الواضحة للوصول في نهاية المطاف إلى إثبات وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ. وتتحلّى هذه البراهين التي تأتي بأجمعها لتعزيز المعطيات الفطريّة عند الإنسان بوظيفتين أساسيّتين؛ هما:

1. أنّها مؤهّلة لإقناع أولئك الذين علقوا في دوّامة الشبهات المتنوّعة، لكنّهم ما زالوا يحاولون الكشف عن وجه الحقيقة .

2. أنها تعرض المعتقد الديني والإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ في هيئة معقلنةٍ، وقابلةٍ للتبنّي عقلاً([6]).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا يبتني على الفطرة وعلى البراهين العقلية أيضاً. ومع ذلك، إذا غضضنا الطرف عن دليل الفطرة أو الأدلة العقلية، فلا يمكن لأحد أيضاً أن يحكم ببطلان الإيمان بوجوده تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ، أو بكونه منافياً للعقل. ولا يكفي مجرّد إنكار الفطرة أو ردّ أدلّة إثبات وجود الله لنفي وجوده من الأساس، أو الحكم بكون ذلك منافياً للعقل. ولتبرير إنكار وجود الله، ليس أمام المنكرين سوى أن يقيموا الدليل على نفي وجوده سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ، أو إثبات التعارض بين الإيمان به والعقل.

لقد حاول فلاسفة الدين الملحدون - الذين لم يألوا جهداً في إظهار المعتقدات الدينية على أنها أمور غير عقلانية - أن يثبتوا استحالة وجود الله، وأن يلمّعوا صورة ما يخالف ذلك، ليبدو عقلانياً، وعندما عجزوا عن ذلك اكتفوا بالإعلان عن عدم عقلانية الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ. هذا، علاوةً على محاولاتهم ومساعيهم الحثيثة في ردّ براهين إثبات وجود الله جَلَّ وَعَلا.

قضية الشرور وشبهة هيوم:

تمثّل قضية الشرور والآلام إحدى الذرائع التي تشبّث بها الفلاسفة الملحدون، بل لعلّها الأهمّ - أو الدليل الأوحد أحياناً - في مسعاهم لرفض وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ، والحكم بعدم عقلانيّة الإيمان به؛ حتّى وصف البعض هذه القضيّة بأنها الملجأ الذي يأوي إليه الإلحاد([7]).

هذا، ويسمّى الجهد المبذول في سبيل هذا الهدف في فلسفة الدين باسم «الإلحاد الطبيعيّ». ويُعدّ الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم (1776م) من زمرة أولئك الذين حاولوا التصدّي لردّ براهين إثبات وجود الله، وكذلك إقامة أيّ حجّة على نفي وجوده، وقد اعتمد في ذلك على قضيّة الشرور([8]).

ويرتكز استدلال هيوم على أنّ العالم حافل بالشرور الكثيرة، فكيف يجيز إله يُوصف بالقدرة المطلقة والخير العميم وقوع هذا الكمّ الهائل من الشرور العظيمة؛ مثل: السيول، والزلازل، والحروب الطاحنة، والمجازر بحقّ الأبرياء، وهلمّ جرّاً؟! لماذا لا ينظّم الكون بنحو لا يسمح فيه بوقوع هذه الشرور؟! ويقول في هذا أيضاً:

هل يروم الربّ إلى إيقاف الشرّ فلا يقدر على ذلك؟ إذن فهو عاجز! هل هو قادر لكنّه لا يريد؟ إذن هو مريد للشرّ! هل هو قادر ومريد؟ إذن من أين يأتي الشرّ؟! لماذا يوجد السوء والشؤم في العالم من الأساس؟ من الواضح أنّ هذا ليس تصادفيّاً، بل مسبَّب عن علّة؛ فهل هو مسبَّب عن قصد إلهيّ؟ لكنه مريد للخير المطلق! فهل أتى ذلك رغماً عن القصد الإلهيّ؟! لكنّه قادر مطلق! .. ([9]).

مناقشة شبهة هيوم:

قدّم المفكّرون المسلمون وغيرهم سبلاً مختلفة لحلّ مشكلة الشرور.

وهنا نكتفي بالإشارة إلى بعض منها فيما يأتي:

1. يبتني استدلال هيوم على فرضيّة أُخذت مأخذ الأصل الموضوع؛ وهي أنّ الموجود المريد للخير سوف يقضي على أيّ شيء تفوح منه رائحة الشرّ! في حين أنّ عموميّة هذه القضيّة مخدوشة من الأساس. نعم؛ يمكن للموجود المريد للخير الفاقد لصفة الحكمة وإتقان الصنع في أفعاله أن يكون على هذا الحال، وأن يقارع أيّ شيء متّصل بالشرّ، لكنّك إذا افترضت موجوداً مريداً للخير، ويتحلّى بالحكمة، ويزن أفعاله بها، فسوف تجد أنه لا يتنازل عن الخير الأسمى إذا توقّف عليه الرضا بشرّ ضئيل؛ لا سيّما إذا كان ذلك من لوازمه المنطقية؛ فالأب الحكيم الذي يروم الخير لولده يصبّ الدواء المرير في جوف ابنه؛ وإن عُدّ ذلك شرّاً بأيّ نحو من الأنحاء. وعليه: فإنّ زعم التلازم بين إرادة الخير والقدرة المطلقة من جهة، وإنكار أيّ لون من ألوان الشرّ - حتّى ما يقع مقدّمة للخيرات السامية - باطل، ولا أساس له من الصحّة، بل إنّ إرادة الخير هذه تقتضي منه الرضا ببعض الشرور والآلام طالما وقعت مقدّمةً لاكتساب خير أكبر وأسمى. ومن ثَمَّ: فإنّ شرّيّة هذه الشرور ليست مطلقة ولا دائميّة، بل تتّصف بنوع من الخيريّة؛ لأنّها وقت مقدّمةً لحلول خير أكبر وأسمى. هذا، ناهيك عن أنّ القادر المطلق إذا أراد أن يوجد عالماً يتحلّى بمواصفات معيّنة وتترتّب عليه بنحو التلازم المنطقي بعض الشرور التي إذا نظر للعالم بنحو كلّيّ ومآليّ لتبيّن أنّها ضئيلة قليلة، فإنّ هذا لن يتنافى أو يصطدم بقادريّته المطلقة، أو كونه مريداً للخير المحض، وهما أمران يجتمعان من دون أيّ مشكلة منطقيّة. نعم؛ لا ننكر أنّ القادر المطلق لا يعجز عن التصدّي لهذه الشرور القليلة من خلال الإحجام عن خلق مناشئها، فتزول بذلك من الأساس؛ وذلك لأنه قادر مطلق، لكن هذا الفعل بذاته مخالف لحكمته وفيّاضيّته وإرادته للخير؛ إذ يترتّب على ذلك ضياع خير وفير عميم لأجل شرّ ضئيل قليل، وهو بحدّ ذاته شرّ كبير! وبعبارة أخرى: العالم المادّيّ الجسمانيّ - بذاته - ملازم لبعض الشرور المترتّبة على وجود الحركة والزمان والتضادّ في الحركة - كما في حركة الغاز تحت الأرض الذي قد يبلغ مرحلة الانفجار أحياناً - لكن خير ذلك أكثر بكثير من الشرّ المترتّب عليه.

2. افترض أنّ أيّاً من الحلول المقدّمة لمشكلة الشرور لم تكن مقنعة، وافترض أنّ الموحِّد اعترف بجهله السبب الذي دعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ للسماح بحدوث الشرّ، فما النتيجة التي يمكن أن نخرج بها من ذلك؟ ما الذي يدعو إلى تخيّل أنّ الإنسان هو أوّل من يجب أن يقف على السبب المقنع والتبرير الصحيح لفعل الله عَزَّ وَجَلَّ؟! وفي المحصّلة: لماذا يجب أن يكون جهلنا بالتبرير المقنع دليلاً على عدم وجود تبرير مقنع؟! فلعلّ الله يملك تبريراً ودليلاً صحيحاً ومقنعاً للسماح بحدوث الشرور في العالم، لكنّه أعقد من أن تفقهه عقولنا مثلاً. والموحِّد يرى من خلال توظيفه لبرهان اللِّمّ (العلم بالمعلول عن طريق العلم بالعلّة) أنّ الله جَلَّ وَعَلا يمتلك التبرير الذي يسمح بحدوث الشرّ؛ وإن كان يجهله هو.

والتساؤل الأساس هنا: كيف يستنتج من ذلك أنّ الإيمان بوجود الله باطل أو غير عقلانيّ؟! وببيان آخر: قد يؤدّي الفشل في حلّ مشكلة الشرور إلى بروز إشكالية عند من يحصر إثبات وجود الله في دراسة ظواهر الخلق والنظام العامّ السائد على الكون، ومن لا يرى الله إلا في ظلّ النُظُم في هذه الخليقة، لكنّ المتكلّمين والفلاسفة توصّلوا في قضيّة إثبات وجد الله عن طريق برهان اللِّمّ إلى حلّ الإشكاليّة، وطريقهم إلى الله غير منحصر في النُظُم الحكيمة والمتقنة في هذا العالم. إذن، فلنفترض فرداً لم يتغلّب على مشكلة الشرور بنحو منطقيّ، لكنّ إيمانه واعتقاده لن يتصدّع عندئذٍ؛ لوجود طرق أخرى أثبتت له وجود الله وعدله وحكمته بعيداً عن نظام الخلق، بما يجعله عنده من اليقينيّات والمسلّمات؛ وإن كان غير قادر على عرض ذلك بنحو تفصيليّ([10]). وبناءً على ذلك، لا يحقّ للملحد من أجل إثبات موقفه أن يُطلق وابلاً من الأسئلة المحيّرة التي قد لا يهتدي الموحِّد إلى إجابات مفصّلة عليها، ثم يقف جانباً بكلّ هدوء وسكينة([11]).

قضيّة الشرور وشبهة ماكي:

استغلّ الفيلسوف الطبيعي الأستراليّ المعاصر جون ليزلي ماكي([12]) (1981م) مشكلة الشرور ليستخدمها بوصفها حربة في صراعه مع الإيمان بوجود الله جَلَّ وَعَلا، فهو يرى أنّ وجود الشرّ لا ينسجم مع بعض الصفات الإلهية الأساسية؛ مثل: العلم المطلق، القدرة المطلقة، وإرادة الخير المحض. ويؤكّد من جهة أخرى أنّ الإله الفاقد لهذه الصفات لا يمكن له أن يكون إلهاً حقيقيّاً في أعين المتألّهين. ويخلص بناءً على ما تقدّم إلى إنكار وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ على الأقلّ في المستى الذي تصوّره الأديان الإلهيّة([13]). ومن ثَمَّ: نحن أمام زعم مفاده المفارقة المنطقيّة، أو قل: اللاانسجام بين الإيمان بالله والإذعان بوجود الشرور([14]). يقول ماكي في مقال له بعنوان «الشر والقدرة المطلقة» ما نصّه:

إنّ تحليل قضيّة الشرّ يكشف لنا فقدان المعتقدات الدينية لأيّ مرتكز عقلانيّ، وانعدام قابليتها للإثبات العقليّ، بل يدلّنا أيضاً إلى أمر مسلّم به وهو كون تلك المعتقدات غير عقلانيّة؛ بما يعني أنّ بعض مقاطع هذه النظرية الكلامية العامة لا تنسجم مع مقاطع أخرى منها ([15]).

وقد أوضح استدلاله بقوله:

مسألة الشرور في أبسط صورها على النحو الآتي: «الله قادر مطلق» و«الله خيّر مطلق»، ومع ذلك «الشر موجود» ثلاث قضايا متناقضة؛ بحيث إذا صدقت اثنتان منها، فإنّ الثالثة كاذبة ([16]).

وهو يعترف أنّ التناقض المزعوم بين هذه القضايا الثلاثة ليس بتناقض صريح كما نجده بين القضيتين: «الإنسان فانٍ» و«ليس صحيحاً أنّ الإنسان فانٍ»، بل التناقض فيما نحن فيه ضمنيّ يتطلّب إظهاره اللجوء إلى قضيتين أُخريين؛ هما: «الخير يقابل الشرّ؛ بحيث أنّ الفرد الخيّر يطرد الشرّ ما استطاع»، و«لا حدود لقدرة القادر المطلق»، ثمّ يُقال: «لازم المقدمات المذكورة أنّ الخيّر المحض والقادر المطلق يطرد الشرّ ويبدّده بشكل كامل». ولهذا، فإنّ قضيّتي «القادر المطلق موجود»، و«الشرّ موجود» قضيّتان متناقضتان([17]). ويقول أصحاب هذا الرأي: إذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ يمتلك العلم والإرادة والقدرة المطلوبة لتبديد الشرّ، وإذا كان وجود الشرّ ليس بضرورة منطقية، فلا يجب إذن أن يكون هناك شرّ.

ومع ذلك فإنّ بعض الناقدين يرون أنّ صرف وجود الشرّ لا يتنافى مع وجود إله الأديان التوحيدية، بل الذي لا ينسجم مع وجود إله مثل هذا هو كثرة الشرّ في العالم. ويرى آخرون أنّ اللاانسجام يظهر بشكل أجلى بين الشرور الطبيعية ووجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ، وهذا الرأي يرتكز على تصوّر مفاده أنّ الله يُبيح صدور الشرور الأخلاقية من الإنسان المختار، لكنّه لا يسمح بحدوث الشرور الطبيعية التي تبدو عبثيّة وعمياء. والقاسم المشترك بين هذه الأدلّة هو مصيرهم إلى وجود نوع من عدم الانسجام بين وجود الشرور ومجموعة المعتقدات الدينية بشأن الله جَلَّ وَعَلا([18]).

مناقشة شبهة ماكي:

يمكن إبطال الاستدلال الذي جاء به ماكي بسلوك إحدى الطرق الآتية:

1. يكفينا في نقض هذا الاستدلال - كما يعترف ماكي نفسه - أن نُخرج أيّاً من القضايا المذكورة عن اليقين والقطعيّة.

2. أن نُثبت صدقيّة وجود الله القادر المتعال وإثبات وجود ذلك الإله الخيّر بالدليل القطعي؛ ذلك لأنّ جميع القضايا الصادقة منسجمة فيما بينها، وفي حالة إثبات صدق هاتين القضيتين فإنّ القضيّة الثالثة التي تتحدّث عن وجود الشرور في العالم ستكتسب معنى يؤهّلها للانسجام مع القضيتين السابقتين.

3. أن يبرهن على أنّ اللاانسجام المزعوم بين القضيتين الأوليتين من جهة، والثالثة من جهة أخرى لم يثبت بالدليل، وأنّ أصحاب هذا الزعم أخفقوا في البرهنة على ذلك.

وقبل الولوج في تفاصيل مناقشة الاستدلال، نرى ضرورة الالتفات إلى أنّ القدرة الإلهية - كما يراها السواد الأعظم من المؤمنين بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ - قدرة مطلقة لا يحدّها حدّ؛ لكنّ السؤال المطروح هنا هو: هل تتعلّق هذه القدرة بالمحالات المنطقية (العقلية) أيضاً؟ فمثلاً: هل تتسع دائرة القدرة الإلهية لتشمل خلق مربّع مدوّر؟ أو هل يقدر عَزَّ وَجَلَّ على أن يخلق شيئاً لا يكون مخلوقاً له؟!

الجواب على هذا عند غالبيّة المؤمنين بالقدرة الإلهية المطلقة وجميع المفكّرين المسلمين أنّ المحالات (الأمور الممتنعة عقلاً) لا يمكن لها أن تقع في دائرة القدرة الإلهية؛ لأنها - بذواتها - فاقدة لقابلية الوجود والتحقّق في الخارج، وهذا لا يعني أبداً الحدّ من القدرة. نعم؛ ذهب بعض المفكّرين إلى أنّ قيداً مثل هذا يُعدّ حدّاً وقيداً للقدرة الإلهية المطلقة، وأنّ هذه القدرة المطلقة لا تخضع حتّى للحدود المنطقية، فلا تُحدّ بها؛ وهو ما ذهب إليه ماكي([19]).

ومن هنا، جاءت القضيّة الخامسة التي تحدّثت عن نفي الحدّ والقيد عن القادر المطلق بوصفها تفسيراً لمفردة «ما استطاع» الواردة في القضية الرابعة؛ حتّى لا يُقال إنّ الشرّ لازم منطقيّ للخير، وهو غير قابل للانفكاك عنه.

وعلى هذا الأساس، يمكن الردّ على استدلال ماكي؛ لإمكانية الخدشة في ما ذهب إليه من تعلّق القدرة المطلقة بالمحالات، ولإمكانية إبطال استدلاله حتّى لو سلّمنا جدلاً بمذهبه ذاك؛ حيث نقول عندئذٍ: إذا صحّ تعلّق القدرة الإلهية المطلقة بما يشمل المحالات العقلية والمنطقيّة، فما المانع إذن من أن يخلق هذا القادرُ المطلقُ الشرَّ بما يمتلكه من صفات؛ حتّى إذا استلزم ذلك التناقض؛ لاشتماله أموراً ممتنعةً عقلاً؟! ([20]) ولهذا فإنّ الحجّة المذكورة لا تتحلّى بأيّ متانة عقليّة أو رصانة منطقيّة.

ولو افترضنا أنّ صاحب الاستدلال تراجع عن مقولته، وأذعن بعدم تعلّق القدرة بالمحالات المنطقية، فيمكن الردّ عليه أيضاً من خلال سلوك الطرق الثلاثة المذكورة آنفاً على النحو الآتي:

1. أن نُخرج أيّاً من القضايا الأربعة المذكورة عن دائرة اليقين والقطعيّة. وقد تبيّنا مما سبق أنّ القضية التي تحدّثت عن تعلّق القدرة بالمحالات ليست أنها فاقدة للقطعية وحسب، بل يمكن لنا القطع بأنها كاذبة؛ وقد ثبت ذلك في محلّه، وهو أمر بديهيّ لا يتطلّب منّا إلا تأمّلاً بسيطاً. وفي المحصّلة: إذا أثبت الإلهيّ امتناع انعدام الشرور، أو أثبت أنها من لوازم بعض الخيرات الكبرى التي لا تنفكّ عنها، أو أبدى احتمالاً في ذلك، فقد أبطل حجّة ماكي.

2. أن نُثبت قطعيّة صدق القضيتين الأوليتين؛ فإنّ القضايا القطعية لا تتناقض مع القضايا الصادقة. وكما نعلم فإنّ البراهين اليقينية التي لا تقبل النقاش قد قامت على ضرورة وجود الواجب، وإطلاق علمه وقدرته وسائر صفاته الكمالية، وقد بُحثت جميعاً في محلّها([21]).

3. أن نكشف وهن الدليل الذي تشبّث به ماكي؛ إذ لا وجود لأيّ حجّة تثبت ما زعم من عدم الانسجام بين القضيتين الأوليتين والقضية الثالثة؛ حتّى وإن أضفنا إليها القضية الرابعة والخامسة. وقد سلك ألفن بلانتينغا هذا الطريق([22]). وتوضيح ذلك أنّنا إذا أمعنّا النظر في القضية الرابعة لاتّضح أن هذه القضية ليست صادقة بالضرورة؛ إذ من الممكن أن يكون الموجود خيراً، وأن يكون حكيماً أيضاً، وأن يمتلك مبرّراً كافياً نابعاً من حكمته؛ لعدم وقوفه في وجه الشرّ، أو تبديده له؛ كما لو قرّر الأب الحنون المريد لخير ولده عدم دفع الشرّ عن ابنه؛ لأنه يرى في تجربة الأخطار التي تشكله بعض تلك الشرور كمالاً ضرورياً له. أمّا الأمر الذي يمكن أن يكون صادقاً بالضرورة فهو أمر جديد، وهو قضيّة سادسة يمكن أن نضعها كبديل عن القضية الثالثة؛ ومفادها: «لا يسمح الموجود القادر المطلق والعالم المطلق والخيّر المحض بوجود الشرّ إلا إذا امتلك مبرّراً كافياً لذلك». ومع الاستعاضة عن القضية الثالثة بهذه القضية السادسة لا يبقى مجالاً للتناقض من الأساس؛ لأنّ الموحِّد يزعم - بل يُثبت - أنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ مع أنه قادر على منع الشرّ من التحقّق، لكنّه نظراً لحكمته وفيّاضيّته وسائر صفاته الكمالية لم يشأ صنع ذلك؛ ورضي بوجود بعض الشرور؛ لأنّ في منعها زوالاً لخير أسمى وأعمّ. أمّا لو ادّعى أحدهم قضيّة سابعة؛ مفادها: «يستحيل على القادر المطلق والعالم المطلق والخيّر المحض أن يمتلك مبرّراً كافياً للسماح بوقوع أيّ لون من ألوان الشرّ» قاصداً بذلك ما يعمّ الشرّ النسبيّ، أو الشرّ الذي يأتي مقدّمةً ضروريّة لبعض الخيرات الكبرى، فالجواب على ذلك أن نقول: ليس أنّ هذه القضيّة فاقدة لوصف «الصدق بالضرورة» وحسب، بل هي كاذبة قطعاً؛ لوجود صفات إلهية مثل الحكمة والفياضية، وللضرورة المنطقية في وجود بعض الشرور المقدّمية، وعدم انفكاك بعضهم منها عن الخيرات.

معقولية الإيمان بالصفات الإلهية وقضية الشرور:

قدّم المفكّرون المسلمون وغيرهم في معرض ردّهم على شبهة الشرور، وإثبات انسجامها مع الصفات الإلهية مجموعةً من الإجابات المتعدّدة في هذا الصدد؛ منها ما هو كلّيّ عامّ يدور حول إثبات الحكمة الإلهية، ومنها ما هو جزئيّ خاصّ يستعرض بعض مصاديق الحكمة في ما نراه يحدث في هذا العالم من نوائب وآفات وبليّات، أو فقر وتمييز وزوالٍ للنِّعَم، أو غير ذلك من الشرور الطبيعية أو الأخلاقية.

وإنّ تناول جميع تلك الردود يتطلّب مجالاً واسعاً ومطوَّلاً يمكن الوقوف على تفصيلاته في كتاب «العدل الإلهي» للعلامة المطهّريّ 1. وفيما يأتي نشير إلى بعض تلك الردود مستفيدين من هذا المصدر وغيره مع تصنيفها إلى أربعة اتجاهات ومناحٍ؛ هي: المنحى الكلاميّ، والفلسفيّ، والعرفانيّ، والتربويّ.

المنحى الكلاميّ في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الأول الذي يلفّ ردّنا على هذه الشبهة هو ما ذهب إليه المتكلّمون في ردودهم ذات الطابع النقليّ أو العقليّ، المنبثقة من الداخل الدينيّ أو من  خارجه. وملخّصه ما يأتي:

1. إنّ الله جَلَّ وَعَلا عالم قادر حكيم منزّه عن جميع مناشئ الظلم ودوافعه - مثل: الجهل، والعجز، والحاجة، والنقص - ولهذا، فلا يوجد ما يدعوه للظلم، أو قل: ما يتسبَّب في ممارسته الظلم على أحد من خلقه. أمّا الحكمة من الشرور والآلام والصعاب التي قد نجدها هنا أو هناك فأمر خارج عن نطاق علمنا، لكنّنا لا نشكّ في وجود حكمة أو فلسفة تقف خلفها. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ وصف هذا المنحى بالدليل الفلسفيّ والعقليّ تابع لاعتماده على إثبات الحكمة الإلهية بمنهج عقليّ منبثق من خارج الأطر الدينية.

2. قدّم المتكلّمون في تبرير الشرور بالحكمة الإلهية - علاوةً على الردّ العامّ أعلاه - مجموعةً من الردود التفصيلية الأخرى؛ منها على سبيل المثال قولهم: إنّ بعض الشرور المذكورة كالظلم والفقر والجوع وعشرات المعضلات الاقتصادية والسياسية والصحية وغيرها ما هي إلا شرور أخلاقية نابعة من إرادة البشر. وهذا الردّ كسابقه صحيح أيضاً، لكنّه لا يحلّ إلا مشكلة الشرور الأخلاقية؛ من دون أن يتطرّق إلى الحكمة الفاعلية في الشرور الطبيعيّة.

المنحى الفلسفيّ في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الثاني الذي نتناوله هنا يعالج القضيّة من زاوية فلسفيّة خارجة عن الأطر الدينية؛ وهو ينطوي على الردود الآتية:

1. ماهيّة الشرور من سنخ العدم: فالتحليل يدلّنا إلى أنّ العمى والصمم والجهل والعجز والمرض وأيّ لون آخر من ألوان الشرّ ليس إلا انعدام للبصر والسمع والقدرة والصحة. والعدم لا يتطلّب في نظام الأسباب والمسبّبات علّة موجدة، حتّى نحتاج إلى إسناد شيء إلى إله الخير (يزدان)، أو إله الشرّ (أهريمن)، أو إلى النور والظلام. وهذا الردّ الأفلاطونيّ قد يتناسب مع السؤال الأنطولوجيّ والفلسفيّ على الشرور، فيكشف لنا عن كون الشرّ أمراً عدميّاً، لكنّه لا يوضح لنا حكمة تلك الأعدام المسمّاة بالشرور؛ فلقائل أن يقول: لماذا لم يعالج الإله القادر هذه الأعدام، ويدفعها من الأساس؟!

2. الشرور أمور نسبيّة: الجواب الآتي الذي قدّمه الفلاسفة في بحثنا أنّ هذا العالم ليس فيه شرّ مطلق؛ فالسيول الزلازل والوحوش والأمراض والأوبئة قد تكون شرّاً لبعض المخلوقات، بيد أنّها قد تكون خيراً لمخلوقات أخرى؛ فسمّ الحيّة الذي قد يفتك بالإنسان أحياناً، فيكون شرّاً لا محالة، هو خير إذا ما لاحظنا كونه الدواء الوحيد الذي ينقذ الإنسان من الهلاك أحياناً أخرى! وهذا الجواب صحيح أيضاً، لكنّه لا يجيب على السؤال المشار إليه آنفاً بنحو كامل؛ فالسؤال ما يزال باقياً: طالما أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ ذو قدرة غير محدودة، وهو خيّر محض، فلِمَ لا تُقلَع هذه الشرور من جذورها، ويستريح العالم منها؟!

3. اللاانفكاك بين الخير والشرّ: أجاب الفلاسفة من المدرسة المشّائيّة على السؤال بنحو مختلف؛ حيث قالوا: إنّ عالم الطبيعة هو عالم الحركة والتعارض والتصادم، وإنّ الموجودات المادية في تكامل وحراك مستمرّ يخرجه على الدوام من القوّة إلى الفعل، وقد ينجم عن هذه الحركة تضادّ، أو تزاحم بينها، وعندئذٍ لا يمكن الفصل والتفكيك بين الشرور والخيرات؛ فالخيرية المحضة في هذا العالم رهينة بإيقاف عجلة الحركة، وانتفاء مادية العالم؛ أي: يلزم السلب بانتفاء الموضوع (انتفاء الحركة يساوي انتفاء عالم الطبيعة)، وحينئذٍ يلزم انتفاء الخير الكثير؛ وهو - في حدّ ذاته - شرّ كثير. فبزوال عالم الطبيعة وتلاشيه ننجو من الشرّ القليل، لكنّنا في الوقت ذاته سوف نخسر خيراً كثيراً؛ هو عالم الطبيعة. ناهيك عن كون بعض الشرور - مثل: التفاضل والاختلاف بين الأشياء - ناشئ عن اختلاف المناطق والأقاليم الجغرافية المتفاوتة فيما بينها أصلاً، وهذا هو مقتضى الطبيعة؛ بمعنى أنّ هذا الاختلاف يُعدّ من اللوام الذاتية للطبيعة. وبعبارة أخرى: تتعلق الإرادة الإلهية بالخيرات أوّلاً وبالذات؛ وإن تعلقت بالشرور ثانياً وبالعرض.

وعليه: ليست الشرور متعلقة الإرادة الإلهية أوّلاً وبالذات؛ بل تبعاً وبالعرض. وإنّ هذه الإرادة العرضية التبعية لازم ذاتي للطبيعة، فنحن نُبتلى بالشرور إلى جانب تنعّمنا بالخيرات. ومع الإذعان بصحة هذا الردّ، لكنّه يعاني من أنّ شرّيّة الحوادث ليس بذاتيّ طبيعيّ لها؛ إذ توصف الحوادث بالشرّ من جهة إضرارها بالإنسان؛ فيرد السؤال هنا: لماذا لا تتكاتف القدرة والعدل والحكمة الإلهية لتنتج سيلاً أو زلزالاً أو حادثاً طبيعياً لا يلحق الضرر بالإنسان؛ كما لو حدث مثلاً في مناطق غير مأهولة؟! وطالما أنّ الحوادث الطبيعية ليست بشرور ذاتية، لم لا تتعلق الإرادة الإلهية بخيرات لا تستلزم شروراً عرضية؟!

4. الخيرات أكثر من الشرور: يردّ الفلاسفة أيضاً بأنّ الشرور وإن وُجدت في هذا في العالم، لكنّها ليست بأكثر من الخيرات فيه؛ وإلا لما بقيت لعالم الطبيعة باقية، ولتبدّد وفنى. وما بقاء العالم وثباته إلا دليل على غلبة الخيرات على الشرور. وبالنظر إلى ما تقدّم من نقاط، فإنّ هذا الردّ لا يُبدِّد الهواجس الكلامية، أو يحلّ مشكلاتها؛ فهو لا يفسّر لنا ما يبرّر وجود هذه الشرور القليلة في العالم، والسؤال القائل: لم لا ينطوي عالم الطبيعة مع وجود هذه الحوادث الطبيعية على خير مطلق؟ أو قل: لم لا تتحقّق هذه الحوادث في الطبيعة بنحو لا يطال الإنسان، ولا يجرّه إلى ويلاته؛ فيجري السيل أو يحلّ الزلزال مثلاً في موضع لا يؤثّر سلباً على الإنسان؟!

المنحى العرفانيّ في الردّ على شبهة الشرور:

الاتجاه الثالث في الردّ على شبهة الشرور هو المنحى العرفاني؛ فقد انبرى العرفاء بما يملكونه من رؤية شمولية لحل هذه المسألة، نعرض قولهم بإيجاز على النحو الآتي:

1. الرؤية الجزئيّة هي منشأ الشرور: وهذا يعني أنّ الشرور نابعة من نظرتنا للأمور؛ فلو نظر الإنسان إلى عالم الطبيعة برؤية شمولية واسعة الأفق لرأى أنّ وجود ما وصفه بالشرّ أمر مناسب وضروريّ، بل لما وَجَد فيه أيّ شرّ أو ألم أو نَصَب؛ فنحن بنو البشر نحسب المحن والصعاب التي تواجهنا شروراً وآلاماً لأفقنا الضيّق ونظرتنا الجزئيّة للأمور، فنعيش حالة الاستياء والسخط باستمرار، أمّا لو بسط الإنسان بصره على المشهد بأكمله برؤية شمولية؛ كما لو لاحظ داراً بعموميّتها، لوجد أنّ المجاري والمرافق الصحّيّة فيها ضروريّة، ولما وصمها بالشرّ، أمّا لو قصر نظره على ما تطلقه من روائح كريهة لما تردّد في وصفها بالشرّ والسوء. ومع أنّ هذا الردّ صحيح - في حدّ ذاته - وهو يضع بين أيدينا حلاً عرفانيّاً عمليّاً كي لا نتجاهل الشرور والصعاب، بيد أنه عاجز عن الأخذ بيد الذين لم يبلغوا هذا المستوى العرفانيّ.

2. النظرة إلى الشرّ: بعض الأمور الموصوفة بالشرّ إذا لوحظت بنظرة دنيوية بحتة فهي معدودة في زمرة الشرور، أمّا لو أخذنا عالم الآخرة بعين الاعتبار أيضاً، فلن يبقى مجال لعدّها من الشرور؛ فعلى سبيل المثال: الموت عند أصحاب النظرة الدنيوية شرّ وعذاب أليم، لكنّ المؤمن باليوم الآخر يراه انتقالاً من عالم إلى عالم آخر. وهذا الجواب صحيح أيضاً، وهو ناجع لحلّ عقد بعض الشرور، لكنّه لا يكفي لحلّها جميعاً. ولا يخفى أنّ حلّ المعضل النفسيّ والعاطفيّ للشرور لا يُلزمنا الوصول إلى ذلك من خلال طريق واحد؛ فمن الممكن سلوك طرق مختلفة لحلّ مشكلة الشرور في صوره ومصاديقه المختلفة.

المنحى التربويّ في الردّ على شبهة الشرور:

قدّم بعض العلماء حلولاً تربويّة للأخذ بيد العالقين في شبهة الشرور والآلام؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الشدائد والصعاب وما يلمّ بالإنسان من نوائب ومصائب لها دور مفصليّ في تكامل الإنسان علميّاً ومعنويّاً وصناعيّاً على مستوى الفرد والمجتمع. وعليه: فإنّ الشرور تفضي في نهاية المطاف إلى خير كثير، وهذا ما يكسبها لوناً من ألوان الخير. ومع أن هذا الردّ صحيح كذلك، غير أنه لا يجيب على المشكلة المشار إليها آنفاً؛ فالسؤال الملحّ هو: ألا يمكن الحصول على تلك الخيرات من دون الاضطرار إلى ركوب مقدّماتها الشرّيرة؟!

الرأي المختار في الردّ على شبهة الشرور:

لا نرفض أيّاً من الحلول الكلامية والفلسفية والعرفانية والتربوية التي تقدّمت، غير أنّنا سوف نسلك طريقاً مختلفاً نظراً إلى إلحاح السؤال على كشف الحكمة من وجود الشرور ونظراً إلى التساؤل الذي يقول: لماذا لم تُخلق الحوادث الطبيعية بنحو لا يُسفر عن مشكلة الشرّ، ولا ينتهي إلى تورّط الإنسان في دوّامةٍ من الآلام والصعاب؟!

وخلاصة الجواب على ذلك فيما يأتي:

ترتبط بعض الشرور بصلة تكوينية مع أعمال الإنسان كما في بعض ألوان العذاب الدنيوي، وجميع ألوانه الأخروية. ولهذا، يجب الالتفات إلى أن الصلة بين العمل من جهة، والجزاء في الآخرة أو بعض الجزاء في الدنيا من جهة أخرى ليست صلةً وضعيّةً جعليّةً؛ وإنّما هي صلة السبب والمسبَّب، وبعبارة أدقّ: الجزاء هو عين العمل في تجسّده الأخرويّ. والتدليل على هذا المدّعى متروك إلى حين الحديث عن الحياة في عالم ما بعد الموت عند التطرّق إلى بحث «تجسّد الأعمال».

وهذا الردّ في رأي كاتب هذه السطور أنجع في تفسير الحكمة عند الفاعل الإلهي بالنسبة إلى مسألة تحقق الشرور في هذا العالم. ولمزيد من تسليط الضوء على هذ الجواب نقول:

ترتهن شرّيّة الحوادث المؤلمة بنوعيّة تأثيرها وارتباطها بالإنسان؛ فوقوع الكوارث الطبيعية في الصحارى القِفار لا يُعدّ شرّاً لأيّ إنسان، كما أنّ حادثةً ما قد تكون شرّاً لقوم وخيراً لقوم آخرين، ويتوقّف اتّصاف الحوادث المريرة بالشرّ على اقترانها بالآلام والصعاب التي تتوجّه للإنسان. وقد أشرنا إلى مناسبة استخدام مفردة «الآلام» عند بعض المتكلّمين حين تطرّقهم لبحث الشرور. أمّا الفلاسفة فقد ركّزوا اهتمامهم بالحديث عن وجود الشرور أو عدم وجودها نظراً إلى هواجسهم الأنطولوجية عند تحليلهم لكلّ ظاهرة. ومن هنا، يستدعي البحث الفلسفيّ عن الشرّ القول بأنّ الحوادث التي تتسبّب في الشرور إنّما تُفضي إلى تحقق أمور عدميّة؛ فشرٌّ مثل: الموت أو الإصابة الجسدية أو فقدان المال أو ما شاكل ذلك هو أمر عدميّ بلا شكّ، لكنّ اللافت للانتباه أنّ جميع ما ذكر يتسبّب في إيلام الإنسان وإيجاعه، وهذا أمر وجوديّ، وهو من سنخ العلم الحضوريّ، ويؤدّي أيضاً إلى خلق معضلات نفسانيّة عديدة للإنسان. ولهذا، فإنّ السؤال الكلاميّ في ما يخصّ الحكمة الإلهية وراء حدوث الآلام ما يزال قائماً.

والجواب على ذلك في تقديرنا أنّ الشرور الطبيعية - كما هو حال الشرور الأخلاقية - وليدة إرادة الإنسان، وأفعاله الاختيارية، وأنّ الحكمة والقضاء الإلهيين يقتضيان أن تكون إرادة الإنسان في طول الإرادة الإلهية، وقد شاء الله عَزَّ وَجَلَّ أن يتحقّق الخير والشرّ بإرادة الإنسان نفسه. أضف إلى ذلك أنّ كشف هذه الحقيقة ليس من صلاحيّة العقل، ولا يجري من خلال الشهود والتجربة البشرية، أو الفلسفة والعرفان والعلوم التربوية، بل هو أمر يُستكشف من وحي التعاليم الدينية التي نصّ عليها الكتاب والسنة؛ فالدور المركزيّ الذي يضطلع به الدين الإلهي هو الكشف عن نقاب العلائق والصلات الخفية التي تربط بين فعل الإنسان وجزائه الدنيوي والأخرويّ.

ومع وجود هذا الردّ المشار إليه آنفاً يبقى سؤال آخر في المقام؛ ومفاده: صحيح أنّ جميع الشرور الطبيعية والأخلاقية وليدةٌ لإرادة الناس، لكنّ جميع هذه الشرور ليست وليدة ذلك الشخص المبتلى بالشرّ تحديداً؛ فقد يُبتلى الإنسان بشرّ ما، بيد أنّه ناتج عن إرادة إنسان آخر، ويمكن لمجموعة من الناس أن تورّط مجتمعاً بذنوب تقترفها، وتزجّ بها في أتون العذاب الإلهيّ، وفي ذلك المجتمع أناس أبرياء يقع عليهم الأذى والضرر، كما يمكن أن نشهد إضراراً أو إيذاءاً يوجّهه الإنسان المذنب أو المجرم إلى الأبرياء بما يقترفه من أفعال سيّئة؛ كالقتل أو السرقة أو الاغتصاب. والسؤال الملحّ هنا هو: لماذا يجب أن يُبتلى هكذا إنسان بريء بالشرّ؟! وما الحكمة في ذلك؟

والجواب: أنّ الأناس الأبرياء قد يلتزمون الصمت أحياناً على الذنب أو الجريمة التي تُقترف في المجتمع، أو قد تراهم يُعربون عن قبولهم بها، تاركين واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن ثَمَّ: يتغيّر وضع هؤلاء الأبرياء بتورّطهم في ذنب مختلف عنوانه: «السكوت على الجريمة والقبول بها»، وهذا - بحدّ ذاته - كافٍ في شمول العذاب الإلهيّ لهم، كما أنّ الأناس الذين نعدّهم أبرياء حسب الظاهر قد يتعرّضون إلى الأذى والضرر بسبب إرادة بشريّة أخرى عن قصد أو عن دون قصد فيُبتلون بحادث مروريّ، أو يفقدون أموالهم في عمليّة سطوٍ، وما إلى ذلك، وهذا كلّه معلول لبعض ما جنته أيديهم؛ فلعلّ بعض أفعالهم مثل: عقوق الوالدين، أو التعدّي على حقوق أرحامهم أو جيرانهم هو منشأ بعض تلك الأضرار والحوادث المفاجئة. وهذه الحقيقة قد نُصّ عليها بشكل جليّ وواضح في ما ورد من نصوص دينية.

نعم؛ قد نجد أحياناً بعض الأناس الأبرياء الذين ابتلوا بالشرور الإرادية رغم أنهم لم يرضوا بالجريمة، بل أنكروها وانبروا للتصدّي لها، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولاقوا في سبيل ذلك الأذى والمضض، وأبرز مثال على ذلك ما لاقاه الأولياء والصالحون في واقعة كربلاء الأليمة؛ فقد استبيحت حرماتهم على أيد جناة طغاة اختاروا لأنفسهم حياة السبعية والتوحّش، فقتلوهم وأبادوهم لأنهم أبوا ظلم الطاغوت وثاروا عليه، أو مثل إنسان بريء يفقد حياته على يد قاتله ظلماً وجوراً. ويجب العثور على الحكمة في وقوع ذلك في بحث عدم قابلية التفكيك بين إرادة الإنسان وعمله، وكذلك عدم قابلية التفكيك بين العمل الصالح أو الطالح وتداعياته أو آثاره التكوينية.

توضيح ذلك: أنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن يمارس الإنسان أفعاله الصالحة أو الطالحة بإرادته هو؛ فهل يمكن لنا أن نفترض إنساناً أراد القيام بفعل حسنٍ أو قبيح، ثمّ لا يتحقّق فعله، في حين أنّ نسبة إرادة الإنسان إلى فعله فلسفياً هي كونها الجزء الأخير من العلة التامة للمعلول؟! أو أن يتحقّق الفعل في الخارج من دون أن يوجد أثره التكوينيّ؛ كأن يرمي الإنسان بسهمه، فيصيب الهدف به من دون أن يُجرَح الهدف أو يُبتلى بأذى أو ضرر؟! الجواب سلبيّ طبعاً؛ لأنّ في ذلك اجتماعاً للنقيضين؛ وهو محال. نعم؛ يمكن للنار أن تتحوّل إلى جنّة غنّاء، فلا يحترق من بداخلها، أمّا طالما كانت النار ناراً فهي محرقة؛ لا محالة.

وهنا يطرح هذا السؤال: ما دام هذا حتميّ وضروريّ، فماذا نقول في الإنسان البريء؟ لقد قدّمت لنا النصوص الدينية في الإسلام بحثاً يرتبط بما سُمّي بـ «الأعواض»؛ ومفاده أنّ الله الحكيم العادل يعوّض الإنسان المتضرّر الذي حلّت به تلك المصائب والنوائب بما يجبر به ذلك؛ فيقال على سبيل المثال: إنّ المصيبة للإنسان المبتلى هي كفّارةٌ لذنوبه، أو أنه سوف يتنعّم بنِعم مادّيّة ومعنويّة دنيوية (مثل: حصوله على النفس الملهمة، أو المطمئنّة، أو على مرتبة علمية عالية)، أو يدفع عنه عذاب أخرويّ، أو يُخفَّف عنه ذلك العذاب؛ بما صبر عليه من هول المصيبة وأذاها.

الآيات المتعلّقة بالشرور:

يمكن استنباط أغلب ما ورد من ردود سابقة - لا سيّما الرأي المختار في الردّ على شبهة الشرور - من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي نستعرضها فيما يأتي بإيجاز:

1. الآيات التي تحدّثت عن وجود الشرور المتعدّدة؛ مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ ([23])، ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ ([24])، ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ([25]) فالشرور - نظراً إلى وجود الألم والنَّصَب فيها - أمور وجوديّة؛ لا عدميّة.

2. الطائفة الأخرى من الآيات هي التي أشارت إلى أنكم قد تعدّوا بعض الأشياء خيراً أو شرّاً لكنّ واقعها ليس كما تحسبون؛ أي: إنّ النظرة الشموليّة الجامعة تكشف لكم خلاف ذلك؛ منها قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾([26])، وقوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾ ([27]).

3. الآيات التي تطرّقت إلى اقتران الخير بالشرّ، وأفادت أنّ السعادة تأتي من رحم المصيبة، وأنّ الآلام والنوائب مقدّمات لوجود الراحة والسكينة، وهي التي تتسبّب في حدوثها. ومثالها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾([28]).

4. الآيات الدالّة على السنن التكوينيّة؛ مثل قوله تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾([29])، فقانون الجاذبية، واحتراق النار، والبراكين، والزلازل ، وعشرات القوانين الأخرى، ما هي إلا سنن طبيعيّة لا تنفكّ عن الطبيعة بحال.

5. الآيات التي أخبرت عن إسناد التطوّرات الاجتماعية، والصعاب، والآلام، والمصائب إلى إرادة الإنسان؛ مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾([30]). ويشير القرآن الكريم إلى أنّ بعض ما يُبتلى أو يُصاب به الإنسان ناتج عن أعماله هو: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾([31])، وقد قصّت لنا الآيات الكريمة ما مرّت به الأمم المختلفة في غابر الزمان من ويلات، وطوفانات، وغرق، وما شاكل ذلك، مبيّنةً أنّ هذا كان جزاءً وانعكاساً لأفاعيلهم السيّئة. يقول تعالى في قصّة قوم لوط (ع): ﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ ([32])، ثمّ يقول عقب ذلك: ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ([33])، ثمّ يستعرض ما جرى على قوم شعيب (ع) قائلاً: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ ([34])، ثمّ يتناول قصص عاد وثمود وفرعون وقارون وهامان بقوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾([35])، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ﴾([36])، ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ([37])، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾([38])، ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾([39])، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾([40])، ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ([41]).

6. رغم أنّ الشرور الطبيعية والأخلاقية ناتجة عن إرادة طائفة من الناس؛ حيث يشكّل بعضهم بإرادتهم منطلقاً للشرور والآلام، تذهب مجموعة أخرى من الناس - على خلاف إرادتهم - ضحيّةً لإرادات الآخرين.

والسؤال المطروح هنا هو: ما الحكمة في تبلور هذه الظاهرة؛ ظاهرة لم يكن لإرادة الشخص المتألّم أو المُبتلى بها أيّ دور في حدوثها، بل إنّ وقوعها كان وفقاً لإرادة الآخرين التي تقع في طول الإرادة الإلهية؟

والجواب أوّلاً: أنّ شرّاً مثل هذا غير قابل للانفكاك عن الطبيعة، وافتراض نفي الشرّ عن الطبيعة في هذه الحالة يستلزم اجتماع النقيضين؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾([42]).

وثانياً: أعدّ الحكيم العادل تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ للمتألّم المبتلى نعماً وجوائز؛ مثل: منحه مزيداً من الصبر والجلد في دار الدنيا، ومزيداً من الأجر والثواب والأعواض الدنيويّة والأخروية المترتبة على ما أبلاه في الامتحانات والاختبارات الإلهيّة. وقد تناولت الأحاديث الشريفة هذا الموضوع بتفصيل أكبر؛ حيث نجد قول الرسول الأعظم (ص): «إن الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها باللبن»([43])، وعن عليّ (ع) عن رسول الله (ص) قال: «ما كرم عبد على الله إلا ازداد عليه البلاء» ([44])، وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة» ([45])، ويروى عن الإمام الصادق (ع) قوله: «إنما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه»([46])، وعنه (ع): «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل» ([47])، ويقول أيضاً: «إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبداً غَتّه بالبلاء غتّاً»([48])، وكان قد قال النبيّ الأكرم (ص) عن نفسه: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»([49])، ولا شكّ في أنّ البلاء من عوامل الاختبار الإلهيّ، وكما يعبّر القرآن الكريم: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ ([50])، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ ([51])، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ ([52]). ومن الواضح أنّ الاختبار الإلهيّ يساهم في الكشف عن الواقع، والتعريف بالمحسنين والمسيئين من الناس، ويمهّد لتكامل الإنسان ورقيّه كما شاءت الإرادة الإلهيّة، كما أنّ الابتلاءات تطهّر القلوب من أدرانها، وكما هو مرويّ في الحديث الشريف: «ساعات الهموم ساعات الكفارات»([53])، «السقم يمحو الذنوب» ([54])، كما تمثّل النوائب والبليّات جرس إنذار مستمرّ للإنسان، والعامل الوحيد الذي يوقظه بين الفينة والأخرى من رقاده وانغماسه في لذائد الدنيا، فينتبه من غفلته، ويسلك طريق الهداية؛ يقول تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ ([55])، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ ([56])، ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ ([57]).

حصيلة بحث الشرور:

تقدّم أنّ بحث الشرور باب واسع يتضمّن في طيّاته أبعاداً عديدة، وأنّ الملحدين حاولوا قدر جهدهم أن يصوّروا القضيّة وكأنها لا تنسجم مع بعض المعتقدات الأساسية التي يؤمن بها المتألّهون، وأنّ الموحِّدين ردّوا عليهم بأنّ جهل الإنسان بحكمة بعض الشرور ليس من شأنه أن يزلزل الإيمان الديني.

وهنا، يمكن تلخيص ما تقدّم في النقاط الآتية:

1. الشرّ - الذي يعني: النقص في أيّ موجود ممكن - هو أمر متحقّق، وغير قابل للزوال. وإنّ إنكار جميع ألوان النقص والعدم في «الممكن» لا يعني سوى تبدّله إلى «واجب الوجود»؛ وهذا جمع للنقيضين؛ لأنّ لازم هذا القول أن يكون ممكنُ الوجود بالذات واجبَ الوجود بالذات في الوقت الذي هو ممكن الوجود بالذات! وعليه: لا محيص عندئذٍ من الوقوع في اجتماع النقيضين.

2. المراد من الشرّ وجود أمور توجّه الألم والضرر للإنسان؛ مثل: السيول والطوفانات والزلازل والسموم وما إلى ذلك. وطالما أنها لا تُلحق بالإنسان ألماً أو نَصَباً فهي لا تُعدّ من الشرور. وعليه فإنّ شرّيّة الشرور رهينة بما يعانيه أو يقاسيه الإنسان من أذاها.

3. الشرور الأخلاقية وليدة الإرادة البشرية، ورفعها سهل يسير على الله جَلَّ وَعَلا، لكنّ هذا منحصر فيما لو انتفت إرادة الإنسان، وسُلبت منه، وبات مجبَراً على أفعاله، وهذا ما يتعارض مع الحكمة الإلهية. وبناءً عليه نقول: لقد خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ الإنسان بنحو حكيم، وهداه النجدين؛ سبيل الهدى (الخير) وسبيل الضلال (الشرّ) بالعقل أو النقل. والإنسان - بعد ذلك - مخيّر بإرادته بين سلوك سبيل الهدى والصلاح، فيجنِّب بذلك مجتمعه ويلات الشرور الأخلاقية، ويتسبَّب في تنعّمهم بالخيرات، وبين سلوك سبيل الغيّ والفساد بسوء إرادته، وتعريض مجتمعه إلى الفناء والاضمحلال. وقد يُستشكل هنا بالقول: أليس الله عَزَّ وَجَلَّ بقادر على أن يريد إنساناً يقوم بالعمل الصالح بمحض إرادة هذا الإنسان، ويتجنّب السيّء من الأعمال، وما يؤدّي إلى الشرّ والأذى؟ والجواب: بلى؛ إنّه قادر على ذلك عندما يبلغ الإنسان درجة العصمة، ويحوز مَلَكتها، أو حينما يتّصف بالعدالة في أقلّ التقادير، وهما درجتان يمكن للإنسان الوصول إليهما باختياره. فإذا بلغ الناس جميعاً باختيارهم مرتبة العصمة أو العدالة، فسوف يريد الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ أن يفعل الناس جميعاً أفعالاً صالحة وعادلة بإرادتهم هم؛ من دون أن يتحقّق أيّ جبر أو إلجاء، وهو اليوم الذي تتبدّل فيه الدنيا إلى جنّة خالية من الشرور الطبيعية والأخلاقية إلا تلك الشرور التي تفرضها الضرورة المنطقية لعالم الطبيعة، واللوازم التي لا تنفكّ عنها عقليّاً؛ مثل: الموت. وإنّ العالم الذي يحتضن أيّام العدل الإلهيّ على يد المهديّ الموعود (ع) هو مصداق هذا الأمل والمبتغى الإنسانيّ؛ فعجّل الله لنا ظهوره، ونعّمنا بنمير خيره وعميم أمنه.

4. الشرور الطبيعية من حيث ذات الحوادث التي تنطوي عليها أمر ذاتيّ للطبيعة، ولا ينفكّ عنها؛ فطالما كانت الطبيعة طبيعةً ففيها الحركة والتضادّ والتزاحم والتعارض والكوارث الطبيعية، لكنّ أيّاً من هذه الحوادث لن تُعدّ شرّاً ما دامت لم تُلحق ضرراً أو أذى بالإنسان. والسؤال هنا: لماذا تحقّقت هذه الكوارث (مثل: السيول والزلازل والطوفانات والأمراض والأوبئة وهلمّ جرّاً) بنحو ألحق الأذى والضرر بالإنسان، فكانت شروراً؟ والجواب على هذا السؤال يرتبط بأعمال الإنسان الاختيارية؛ فالإنسان المعاصر نتيجةً إلى استخدامه المنفلت واللامسؤول لمصادر الطبيعة، وتصرّفاته وعبثه في الطبيعة قد أوغل في تلويث البيئة، وتسبّب في ظهور أمراض وأوبئة عصيّة على العلاج في عالمنا المعاصر. لقد تمادت بعض الشركات العالمية لتصنيع الأدوية في أفاعيلها، حتّى أجازت لنفسها إنتاج فيروسات، واختراع أمراض جديدة لا سابق لها؛ من أجل استقطاب مزيد من الأرباح والمكاسب المالية. فهل يجب بعد ذلك أن نعدّ هذه الشرور الطبيعية قادمة من الله جَلَّ وَعَلا، أو الحقّ أن ننسبها لإرادة الإنسان نفسه؟! نعم؛ كلّ ما يحدث في هذا العالم يعود في مآل أمره إلى الإرادة الإلهية القاهرة، لكنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ أراد أن يفعل الإنسان الخير أو الشرّ بإرادة هذا الإنسان، ليلقى جزاء أعماله. إنّ جانباً مهمّاً من الشرور الطبيعية ناتج عن أفعال الإنسان غير المشروعة؛ أفعالٍ ارتبطت بنتائجها وآثارها الدنيوية والأُخروية ارتباطاً تكوينياً وثيقاً؛ فلعلّ هذا السيل أو ذاك الزلزال أو التسونامي الذي ضرب داخل تلك المدينة دون حواليها وضواحيها مرتبط بما اقترفه أبناء هذه المدينة في حياتهم.

5. اتّضح مما تقدّم آنفاً أنّ قضيّة الشرور ليست معضلة مبهمةً عصيّةً على التبرير العقلانيّ كما يرى الأشاعرة، ولا هي أمر ينفي الوجود الإلهي، ويدعونا إلى إنكاره كما يحلو للملاحدة والطبيعيين أن يصوّروه، ولا هي مشكلة فكريّة عويصة يجب أن تنتهي بنا إلى الثنوية والإيمان بإلهٍ للخير، وإلهٍ للشرّ. إنّ الشرور بأسرها وليدة إرادة الإنسان، وإنّ الإرادة الإلهية تقع في طول إرادة الإنسان من الأعلى.


*  هوامش البحث  *

([1]) Process Theology. [م]

([2]) John Leslie Mackie. [م]

([3]) الكلام الجديد، عبدالحسين خسروبناه، ص 76. [بالفارسيّة]

([4]) آرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer  (1788-1860م): فيلسوف ألمانيّ عُرف بفلسفته التشاؤميّة. كان يرى في الحياة شرّاً مطلقاً. [م]

([5]) نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله، عسكري سليماني، ص 325. [بالفارسيّة]

([6])        لاحظ: الله والاختيار والشرّ (God, Freedom and Evil)، ألفن بلانتينغا، ص 32 [النسخة المترجمة للفارسيّة]. وقد ذهب بلانتينغا إلى أنّ الرسالة الكبرى التي تضطلع بها براهين إثبات وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ هي تقديم المعتقد الديني بشكل معقلن. ويقول في هذا الصدد: «الواقع أنّ قلّةً من الناس اكتسبوا إيمانهم بالله لأجل ما تتحلّى به هذه البراهين من قوّة إقناعية ... وإنّ الواجب الأبرز للكلام الطبيعيّ (العقلانيّ) هو عرض المعتقدات الدينية في حلّة معقلنة، وقابلة للتبنّي». هذا، ولكنّنا أسلفنا في النصّ أنّ براهين الإثبات العقليّ لوجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ في الفلسفة والكلام مؤهّلة لأداء دور إقناعيّ عقلائيّ بعد تعاضدها مع فطرة البحث عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ؛ ناهيك عن عدم الحاجة إلى كلّ تلك البراهين العامّة بعد وجود تلك الفطرة.

([7]) العقل والإيمان الدينيّ، مصدر سابق، ص 177.

([8]) نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله، مصدر سابق، ص 305.

([9]) الله والاختيار والشرّ، مصدر سابق، ص 40.

([10]) لاحظ: العدل الإلهيّ، مرتضى المطهّريّ، ص 53-54 [النسخة الفارسيّة]. وهنا، تجب الإشارة إلى أنّ هذا البيان ماضٍ فيما لو أردنا أن نماشي الخصم في النقاش، وإلا فإنّ الذي يحصر معرفة الله في سلوك طريق النظم الحكيمة في الخلق أيضاً لن يواجه مشكلة في قضية الشرور إذا ما جهل التبرير المذكور؛ لأنّ بإمكانه الاستناد إلى النظام المدهش السائد على العالم في مجالات أخرى من الخلق، وإلى علمه اليقيني بحكمة الخالق، ثمّ يحمل حدوث الشرور على جهله هو.

([11]) الله والاختيار والشرّ، مصدر سابق، ص 41-42؛ العدل الإلهيّ، مصدر سابق، ص 90.

 ([12]) John Leslie Mackie. [م]

([13]) الله والاختيار والشرّ، مصدر سابق، ص 196.

([14]) بطبيعة الحال، لا يؤمن كلّ الباحثين في هذا الحقل بوجود مفارقة منطقية، أو عدم انسجام بين ما ذكر أعلاه، بل الغالبية منهم أذعنوا بجود انسجام منطقي بين الإيمان بالله؛ لا من باب المفارقة المنطقية، بل ببيان آخر مختلف.

([15]) مقالة الشرّ والقدرة المطلقة، ماكي، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان، السنة الأولى، العدد 3.

([16]) المصدر السابق.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) العقل والإيمان الدينيّ، مصدر سابق، ص 180.

([19]) ذهب ماكي إلى أنّ منظومة علم اللاهوت (الإلهيات) المتداولة تستلزم عدم تقيّد القدرة الإلهية المطلقة حتّى بالمحالات المنطقية. ولهذا، عدّ الحلّ الذي سعى إلى تصوير «الخير الذي لا شرّ فيه» على أنه من المحالات المنطقية أمراً يُفضي إلى تقييد القدرة المطلقة. ولهذا فقد رفضه، ورأى أنه يُعدّ تراجعاً وانكفاءاً عن الإلهيات العرفية المتداولة. راجع: مقالة الشرّ والقدرة المطلقة، مصدر سابق.

([20]) مقالة: مواجهة مع ماكي في مقالته الشرّ والقدرة المطلقة، هادي الصادقي، مجلة كيان، السنة 3، العدد 17.

([21]) تجدر الإشارة إلى أنّ بعض البراهين التي أقامها الفلاسفة المسلمون تتحلّى بهذه الصفة؛ بخلاف الأدلة التي ساقها المتألهون في الغرب، فإنّ غالبيتها أو ربما جميعها لا يتمتع بهذه القطعية الفلسفية المشار إليها.

([22]) راجع مقالة: قضيّة الشر، ويليام وينرايت (William J. Wainwright)، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان، السنة 3، العدد 17، ص 34 .

([23]) سورة الفلق: 1-5.

([24])  سورة الأنبياء: 35.

([25])  سورة الفرقان: 34.

([26])  سورة البقرة: 216.

([27])  سورة الإسراء: 11.

([28])  سورة الشرح: 5-6.

([29])  سورة فاطر: 43.

([30]) سورة الرعد: 11.

([31]) سورة الشورى: 30.

([32]) سورة العنكبوت: 31.

([33]) سورة العنكبوت: 34.

([34]) سورة العنكبوت: 37.

([35]) سورة العنكبوت: 40.

([36]) سورة هود: 101-103.

([37]) سورة التوبة: 70.

([38]) سورة يونس: 13.

([39]) سورة القصص: 58-59.

([40]) سورة الكهف: 59.

([41]) سورة الروم: 9.

([42]) سورة البلد: 4.

([43]) بحار الأنوار، ج 78، ص 195، الباب 1، فضل العافية والمرض وثواب المرض وعلله وأنواعه.

([44])  بحار الأنوار، ج 93، ص 28، الباب 1، وجوب الزكاة وفضلها.

([45]) مستدرك الوسائل، ج 2، ص 437، باب استحباب احتساب البلاء.

([46]) وسائل الشيعة، ج 3، ص 263، الباب 77، باب استحباب احتساب البلاء.

([47]) المصدر السابق، ص 262.

([48])  الكافي، ج 2، ص 253، باب شدّة ابتلاء المؤمن؛ بحار الأنوار، ج 15، ص 55.

([49])  بحار الأنوار، ج 39، ص 55، في مساواته يعقوب ويوسف.

([50]) سورة الأنبياء: 35.

([51]) سورة محمّد: 31.

([52]) سورة البقرة: 155-156.

([53])  بحار الأنوار، ج 64، ص 244.

([54]) المصدر السابق.

([55]) سورة العلق: 6-7.

([56]) سورة الأعراف: 94.

([57]) سورة الأعراف: 130.